لقد سُطِّرَت الآن الكلمات الأخيرة في فصل لا يُنسى من تاريخ الأمر المبارك، والصّفحةُ طُويت. إنّ هذا الرّضوان إيذانٌ بختام عامٍ استثنائيٍّ لخطّة خمسيّة وسلسلة كاملة من الخطط التي بدأت في عام 1996. إنّ سلسلةً جديدةً من الخطط تلوح في الأفق بدءًا بخطّة مدّتها اثني عشر شهرًا غاية في الأهمّيّة وهي مقدّمةٌ لجهدٍ مدّته تسع سنوات سيتمّ تدشينه في الرّضوان القادم. إنّ أمام ناظرينا جامعة اكتسبت القوّة سريعًا وعلى استعداد لاتّخاذ خطواتٍ كبيرةٍ للمضيّ قُدمًا. إلّا أنّه ينبغي ألّا تساورنا ريبةٌ حول مقدار ما تطلّب الوصول إلى هذه النّقطة من سعي وجهد، ومدى تعسّر الحصول على البصائر المكتسبة على امتداد الطّريق: إنّ الدّروس المُستقاة ستشكّل مستقبل الجامعة، كما أنّ سردَ كيفيّة تعلُّمها يُلقي الضّوء على ما هو آتٍ.
إنّ العقود السّابقة لعام 1996 والغنيّة بالتّطوّرات والبصائر الخاصّة بها، لم تدع أدنى مجالٍ للشّكّ في أنّ أعدادًا كبيرةً من النّاس في شتّى المجتمعات على استعدادٍ للدّخول تحت لواء الأمر البديع. ومع ذلك، وبقدر ما كانت حالات الانضمام إلى الأمر على نطاقٍ واسعٍ مشجّعة، إلّا أنّها لم تؤدِّ إلى عمليّة نموٍّ مستدامة يمكن تعهّدها بالرّعاية في بيئات متنوّعة. أسئلةٌ عميقةٌ واجهت الجامعة التي لم تكن تتمتّع بالخبرة الكافية للإجابة عليها بشكلٍ وافٍ حينذاك: كيف يمكن للجهود الرّامية إلى توسعة الجامعة أن تسير جنبًا إلى جنب مع عمليّة الاستحكام وتفضي إلى حلٍّ لتحدي النّموّ المستدام الذي لطالما بدا مُستعصيًا؟ كيف يكون بالإمكان النّهوض بالأفراد والمؤسّسات والجامعات بحيث تصبح قادرةً على ترجمة تعاليم حضرة بهاء الله إلى أفعال؟ وكيف يمكن لأولئك الذين انجذبوا إلى تعاليمه أن يصبحوا أنصارًا فاعلين في المشروع الرّوحانيّ العالميّ؟
وهكذا فقبل ربع قرنٍ من الزّمان شرَعت جامعةٌ لا تزال تتمتّع بوجود ثلاثة من أيادي أمر الله يتصدّرون صفوفها الأماميّة خطّة السّنوات الأربع التي امتازت عن سابقاتها بالتّركيز على هدفٍ واحدٍ هو: تقدّمٌ ملحوظ في عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا. لقد صاغ هذا الهدف سلسلة الخطط التي تلت. فقد كانت الجامعة قد أدركت بالفعل أنّ هذه العمليّة لم تكن مجرّد دخول مجموعات كبيرة في ظلّ الأمر المبارك، وأنّها لن تنبثق بصورةٍ تلقائيّة، بل تتضمّن توسّعًا واستحكامًا هادفًا ومنهجيًّا ومتسارعًا، وأنّ هذا العمل يتطلّب مشاركةً واعيةً لأعداد كبيرة من النّفوس. ومن ثمّ تمّت دعوة العالم البهائي عام 1996 لمواجهة التّحدّي التّعليميّ الهائل الذي ينطوي عليه هذا العمل، وإنشاء شبكةٍ من معاهدَ تدريبيّةٍ تركّز على توليد دفقٍ متزايدٍ من الأفراد ينعمون بالقدرات اللّازمة لاستدامة عمليّة النّموّ.
بدأ الأحبّاء في تنفيذ هذه المهمّة مدركين أنّه وعلى الرّغم من انتصاراتهم السّابقة في مجال التّبليغ، فمن الواضح أنّ هناك الكثير ممّا كان عليهم تعلّمه حول القدرات التي يجب اكتسابها، والأهمّ من ذلك كيفيّة اكتساب تلك القدرات. فمن نواحٍ عديدة تتعلّم الجامعة من خلال العمل، وبمرور الوقت يجري استخلاص الدّروس المُستقاة وصقلها عن طريق تطبيقها في بيئات مختلفة، ويتمّ دمجها في المواد التّعليميّة في نهاية المطاف. لقد تبيّن أنّ بعض الأنشطة جاءت استجابةً طبيعيّةً لاحتياجات السّكّان الرّوحيّة. برزت الحلقات الدّراسيّة، وصفوف الأطفال، وجلسات الدّعاء، ثمّ مجموعات الشّباب النّاشئ لاحقًا باعتبارها ذات أهمّيّة محوريّة في هذا الصّدد. إنّ هذه الأنشطة عندما تنسجم معًا وتترابط مع الأنشطة ذات الصّلة فإنّ الدّيناميكيّات المتولّدة باستطاعتها أن تؤدّي إلى ظهور نمطٍ حيويٍّ من حياة الجامعة. ومع تنامي أعداد المشاركين في هذه الأنشطة الأساسيّة أُضيف بُعدٌ جديد إلى هدفها الأصليّ: وهو أنّها صارت أبوابًا مشرّعةً يمكن للشّباب والكبار والعائلات من المجتمع الأوسع أن يتعرّفوا من خلالها على ظهور حضرة بهاء الله. كما أصبح من الواضح أيضًا كيف أنّه من العمليّ النّظر في استراتيجيّات عمل بناء الجامعة ضمن سياق "المجموعة الجغرافيّة": وهي منطقة جغرافيّة ذات مساحة تسهل إدارتها وتتمتّع بسماتٍ اجتماعيّة واقتصاديّة تميّزها. بدأت المقدرة على إعداد خططٍ بسيطةٍ على مستوى المجموعة الجغرافيّة تتعزّز، ومن خلال هذه الخطط نشأت برامج لنموّ الأمر المبارك نُظّمت في صورة دورات نشاطٍ مدّتها ثلاثة أشهر. نقطةٌ هامّةٌ برزت بشكلٍ واضحٍ وفي وقتٍ مبكّر: إنّ حركة الأفراد عَبر سلسلة من الدّورات تعطي زخمًا وتدوم من خلال حركة المجموعات الجغرافيّة على امتداد سلسلة متّصلة من التّطوّر. ساعدت هذه العلاقة التّكامليّة الأحبّاء في كلّ مكان على تقييم ديناميكيّات النّموّ في محيطهم ورسم طريقٍ نحو مزيدٍ من القوّة. مع مرور الوقت ثبت أنّه من المثمر فهم ما كان يحدث في مجموعةٍ جغرافيّةٍ ما من منظور الضّرورات التّعليميّة الثّلاث – والتي تخدم الأطفال، والشّباب النّاشئ، والشّباب والكبار – وكذلك من منظور دورات النّشاط الضّرورية لإيقاع النّموّ. إنّ العديد من السّمات الأكثر تميّزًا لعمليّة النّموّ اليوم كانت قد ترسّخت بشكلٍ جيّدٍ في النّصف الأوّل من السّنوات الخمس والعشرين لهذا المسعى.
مع تكثيف جهود الأحبّاء، بدأ العديد من المبادئ والمفاهيم والاستراتيجيّات العالميّة ذات الصّلة بعمليّة النّموّ تتبلور في إطار عمل يمكن أن يتطوّر لاستيعاب عناصر جديدة. لقد ثبت أنّ إطار العمل هذا أساسيٌّ لإطلاق حيويّةٍ هائلةٍ، فقد ساعد الأحبّاء على توجيه طاقاتهم بطرقٍ أظهرت التّجربة أنّها كانت مواتية لنموّ جامعات صحّيّة؛ إلّا أنّ إطار العمل ليس صيغةً ثابتةً. مع أخذ العناصر المختلفة لإطار العمل بالاعتبار عند تقييم واقع مجموعةٍ جغرافيّةٍ أو جامعةٍ محلّيّةٍ أو مجرّد حيٍّ، أمكن تطوير نمطٍ من النّشاط اعتمد على ما كان يتعلّمه بقيّة العالم البهائيّ بينما يستجيب لخصوصيّات ذلك المكان. إنّ الثّنائيّة المتمثّلة في المتطلّبات الصّارمة من ناحية والأولويّات الشّخصيّة اللّامحدودة من ناحية أخرى تبدّدت لتفسح المجال لفهمٍ أدقّ لمجموعةٍ متنوّعةٍ من الوسائل التي يمكن للأفراد من خلالها دعم عمليّة تمتاز في جوهرها بالاتّساق ويتمّ صقلها باستمرار مع تراكم الخبرة. ينبغي ألّا يكون هناك شكّ في التّقدّم الذي مثّله تبلور هذا الإطار: إنّ الآثار المترتّبة على تنسيق وتوحيد مساعي العالم البهائيّ بأسره ودفع مسيرته إلى الأمام أسفرت عن نتائج عظيمة.
ومع تعاقب الخطط واتّساع نطاق الانخراط في أعمال بناء الجامعة، أصبح التّقدّم على مستوى الثّقافة أكثر وضوحًا. على سبيل المثال، حظيت أهمّيّة تعليم الأجيال الأصغر سنًّا بتقديرٍ واهتمامٍ أكبر، وكذلك الإمكانيّات الهائلة التي أظهرها الشّباب النّاشئ على وجه الخصوص. إنّ المساعدة فيما بين النّفوس ومرافقة بعضها البعض على امتداد مسارٍ مشتركٍ وتوسيع دائرة الدّعم المتبادل باستمرار أصبح النّمط الذي تطمح إليه كافّة الجهود الرّامية إلى تطوير القدرة على الخدمة. حتّى تفاعلات الأحبّاء فيما بينهم ومع من حولهم خضعت للتّغيير نتيجة ارتقاء مستوى الوعي بقوّة المحادثات الهادفة لإيقاد القابليّات الرّوحانيّة. هذا وتبنّت الجامعات البهائيّة توجّهًا متزايدًا للانفتاح نحو المجتمع من حولهم بشكلٍ ملحوظٍ. فبإمكان أيّ نفسٍ مستجيبةٍ لرؤية الأمر البديع أن تصبح مشاركًا فاعلاً في الأنشطة التّعليميّة وجلسات الدّعاء وسائر عناصر عمليّة بناء الجامعة، بل وحتّى مروّجًا وميسّرًا لها. ومن بين هذه النّفوس يعلن الكثيرون أيضًا إيمانهم بحضرة بهاء الله. وهكذا، انبثق مفهومٌ لعمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا أقلّ استنادًا إلى النّظريّات والفرضيّات وأكثر اعتمادًا على التّجربة الفعليّة عن كيفيّة تمكّن أعداد كبيرة من النّاس من الوصول إلى الأمر المبارك، والتّعرّف عليه، والتّوافق مع مقاصده، والانضمام إلى أنشطته ومداولاته، وفي كثير من الحالات الإيمان به. في الواقع، ومع تعزيز عمليّة المعهد في منطقةٍ تلو أخرى، نما عدد الأفراد الذين يشاركون في عمل الخطّة بسرعةٍ فائقةٍ ليشمل أيضًا أولئك الذين تعرّفوا على الأمر المبارك مؤخّرًا. إلّا أنّ الدّافع وراء كلّ هذا لم يكن مجرّد الاهتمام بالأرقام. إنّ رؤية التّحوّل الشّخصيّ والجماعيّ اللّذيْن يحدثان في الوقت ذاته، والمستندة على دراسة الكلمة الإلهيّة وتثمين مقدرة كلّ شخص لأن يصبح بطلًا من أبطال دراما روحيّة ذات أبعادٍ عميقة، قد أدّى إلى ظهور حسٍّ بمسعىً مشترك.
إنّ إحدى أهمّ السّمات الملهمة والبارزة لفترة الخمسة والعشرين عامًا هذه هي الخدمات التي قدّمها الشّباب البهائيّ بشجاعةٍ وإيمان ليحتلّوا مكانهم الصّحيح في طليعة جهود الجامعة. لقد قام الشّباب في القارّات الخمس بروحٍ من التّفاني والتّضحية على خدمة جامعاتهم كمبلّغين للأمر ومربّين للنّشء، كمرشدين متنقّلين ومهاجرين داخليّين، كمنسّقين للمجموعات الجغرافيّة وأعضاء في الوكالات البهائيّة. إنّ النّضج الذي أبدَوه، في أداء الواجبات التي يعتمد عليها تقدّم الخطّة الإلهيّة، يعبّر عن حيويّتهم ونشاطهم الرّوحانيّ والتزامهم بحماية مستقبل البشريّة. تقديرًا لهذا النّضج الجليّ بشكلٍ متزايدٍ قرّرنا تخفيض سنّ التّصويت في الانتخابات البهائيّة بعد هذا الرّضوان مباشرةً ليصبح ثمانية عشر عامًا بينما يبقى سنّ الخدمة في المحافل الرّوحانيّة واحدًا وعشرين عامًا. ولا يساورنا شكّ في أنّ الشّباب البهائيّ الذين بلغوا هذه السّنّ في كلّ مكان سوف يكونون أهلًا لثقتنا في مقدرتهم على أداء "واجبهم المقدّس" هذا الذي يُدعى إليه كلّ ناخبٍ بهائيّ، وبكلّ "إخلاص ويقظة ضمير".
*نحن ندرك بطبيعة الحال أنّ واقع الجامعات يتفاوت تفاوتاً كبيرًا. لقد استهلّت مختلف الجامعات المركزيّة ومختلف الأماكن داخلها هذه السّلسلة من الخطط عند مراحل مختلفة من التّطوّر؛ ومنذ ذلك الحين تطوّرت بسرعات مختلفة وحقّقت مستويات مختلفة من التّقدّم. وهذا في حدّ ذاته ليس بجديد. فالظّروف في الأماكن المختلفة تتباين وكذلك درجة تقبّل النّاس. إلّا أنّنا نلاحظ أيضًا موجةً متصاعدةً من المقدرة والثّقة والخبرة المتراكمة في معظم الجامعات، يدعمها النّجاح المتحقّق في الجامعات الشّقيقة القريبة منها والبعيدة. على سبيل المثال، في حين أنّ النّفوس التي نهضت لتفتح بخدماتها منطقةًجديدةً في عام 1996 ما كانت لتفتقر إلى الشّجاعة والإيمان والتّفاني، فإنّ نظرائهم اليوم وفي كلّ مكان تجتمع فيهم الصّفات نفسها إضافةً إلى المعرفة والبصائر والمهارات التي تراكمت على مدى خمس وعشرين سنة من الجهد المبذول من قِبَل العالم البهائيّ بأسره من أجل منهجة وصقل أعمال التّوسّع والاستحكام.
بغض النّظر عن نقطة البداية، فإنّ الجامعة تدفع بعمليّة النّموّ قُدمًا عندما تجتمع فيها صفات الإيمان والمثابرة والالتزام مع الرّغبة في التّعلّم. ففي الحقيقة إنّ الإرث النّفيس لهذه السّلسلة من الخطط هو الإدراك واسع النّطاق بأنّ أيّ جهد للتّقدّم يبدأ بالتّوجّه نحو التّعلّم. إنّ هذا المبدأ ورغم بساطته تترتّب عليه تداعيات غاية في الأهمّيّة. ولا شكّ لدينا أنّ كلّ مجموعةٍ جغرافيّةٍ سوف تتقدّم مع مرور الوقت عبر السّلسلة المتّصلة من التّطوّر. إنّ الجامعات التي تقدّمت بسرعةٍ أكبر مقارنةً بتلك المشابهة لها في ظروفها وإمكانيّاتها أظهرت مقدرةً على تعزيز وحدة الفكر وتعلُّم العمل المؤثّر الفعّال، وقد فعلت ذلك دون تردّد في العمل.
إنّ الالتزام بالتّعلّم يتضمّن أيضًا الاستعداد لارتكاب الأخطاء، وبطبيعة الحال فإنّ الأخطاء تتسبّب أحيانًا بعدم الارتياح. ولا غرابة أنّ النُهُج والمقاربات الجديدة تمّ التّعامل معها بغير تمرّس في البداية بسبب نقص الخبرة، ففي بعض الأحيان ضاعت قدرةٌ جديدةٌ مكتسبة مع انشغال تلك الجامعة بتطوير قدرةٍ أخرى. إنّ النّوايا الحسنة لا تضمن عدم تعثّر الخطوات، وتخطّي الأخطاء يتطلّب التّواضع والانقطاع. فعندما تظلّ الجامعة عازمةً على التّحلّي بالصّبر والتّعلّم من الأخطاء التي تحدث بصورةٍ طبيعيّةٍ فإنّ التقدّم لن يكون بعيد المنال أبدًا.
في منتصف سلسلة الخطط أصبحت مشاركة الجامعة في حياة المجتمع محطّ اهتمامٍ مباشرٍ بشكلٍ أكبر. فقد تمّ تشجيع المؤمنين على التّفكير في ذلك من منظور مجاليْن مترابطيْن من المساعي هما العمل الاجتماعيّ والمشاركة في الحوارات السّائدة في المجتمع. هذان المجالان بالطّبع لم يكونا بديليْن لعمل التّوسّع والاستحكام، ناهيك عن تشتيت الأذهان عنه، بل كانا متأصّليْن فيه. كلّما زادت الموارد البشريّة التي يمكن للجامعة أن تستعين بها، زادت قدرتها على الاستمداد من كنوز الحكمة المكنونة في آثار حضرة بهاء الله لمواجهة تحدّيات اليوم – أي ترجمة تعاليم حضرته إلى واقعٍ ملموس. ويبدو أنّ الشّؤون المضطربة للبشريّة خلال هذه الفترة تؤكّد إلى أيّ مدىً مؤسفٍ بلغت حاجتها إلى العلاج الذي وصفه الطّبيب الإلهيّ. كلّ ذلك انطوى ضمنًا على مفهومٍ للدّين يختلف تمامًا عن المفهوم المهيمن على العالم بوجهٍ عامّ: مفهومٌ يعترف بالدّين باعتباره القوّة الفعّالة التي تدفع بحضارةٍ دائمة التّقدّم إلى الأمام. كان جليًّا أنّ حضارةً كهذه لن تظهر بشكلٍ عفويّ وبصورةٍ تلقائيّةٍ – لقد كانت مهمّة أتباع حضرة بهاء الله أن يعملوا من أجل ظهورها. مهمّةٌ كهذه استلزمت تطبيق عمليّة التّعلّم المنهجيّ ذاتها على العمل الاجتماعيّ والمشاركة في الحوارات العامّة.
نظرةٌ شاملةٌ إلى العقديْن والنّصف الماضيين تُبيّن أنّ القدرة على القيام بالعمل الاجتماعيّ قد ارتفعت بشكلٍ ملحوظٍ ممّا أدى إلى ازدهارٍ مبهرٍ للنّشاط. مقارنةً بعام 1996 عندما كان يتمّ استدامة حوالي 250 مشروعًا للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة من سنةٍ إلى أخرى يوجد الآن 1,500 مشروع، كما تضاعف عدد المنظّمات التي تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة أربع مرّات ليتجاوز 160 منظّمة. أكثر من 70,000 مبادرة عمل اجتماعيّ قصيرة المدّة على مستوى القاعدة يتمّ الاضطلاع بها كلّ عام أي بزيادة خمسين ضعفًا. ونتطلّع إلى استمرار الارتفاع في كلّ هذه المساعي النّاتجة عن الدّعم والتّحفيز المتفانييْن اللّذَيْن تقدّمهما الآن المنظّمة البهائيّة العالميّة للتّنمية. في غضون ذلك نمت المشاركة البهائيّة في الحوارات السّائدة في المجتمع بشكلٍ هائلٍ. إلى جانب المناسبات العديدة التي يجد فيها الأحبّاء أنّ باستطاعتهم تقديم وجهة نظرٍ بهائيّة في المحادثات التي تَجري في سياق العمل أو السّياق الشّخصيّ، فإنّ المشاركة الأكثر رسميّة في الحوارات حقّقت تقدّمًا مُلفتًا للنّظر. إنّنا لا نشير فقط إلى الجهود الموسّعة بشكلٍ كبيرٍ والمساهمات رفيعة المستوى للجامعة البهائيّة العالميّة –التي أضافت في هذه الفترة مكاتب في إفريقيا وآسيا وأوروبا – بل أيضًا إلى العمل الذي تقدّمه شبكة وثيقة الاستحكام متزايدة الاتّساع من المكاتب المركزيّة للشّؤون الخارجيّة والتي أصبح العمل في هذا المجال محور تركيزها الرّئيس، بالإضافة إلى ذلك هناك مساهماتٌ ثاقبةٌ وجديرةٌ بالملاحظة قدّمها أفراد المؤمنين في مجالات محدّدة. كلّ ذلك يفسّر جانبًا من الاحترام والتّقدير والإعجاب الذي عبّر عنه قادة الفكر وغيرهم من الشّخصيّات البارزة على جميع مستويات المجتمع لهذا الأمر البديع وأتباعه وأنشطتهم مرارًا وتكرارًا.
لدى استعراض فترة الخمسة والعشرين عامًا بأكملها تأخذنا المهابة والإعجاب إزاء أشكال التّقدّم العديدة التي حقّقها العالم البهائيّ بشكلٍ متزامن. إنّ حياته الفكريّة قد ازدهرت كما يتجلّى ليس فقط من خلال التّقدّم الذي أحرزته في جميع مجالات المساعي التي تمّت مناقشتها، ولكن أيضًا من خلال حجم المؤلّفات عالية الجودة التي نشرها الكتّاب البهائيّون، ومن خلال تطوير فضاءات لاستكشاف بعض فروع المعرفة في ضوء التّعاليم المباركة، وتأثير ندوات الطلّاب الجامعيّين وخرّيجي الجامعات التي يقدّمها بشكلٍ منهجيّ "معهد دراسات الرّخاء العالميّ"، والذي يخدم حاليًّا الشّباب البهائيّ من أكثر من 100 دولة بالتّعاون مع مؤسّسات الأمر المبارك. لقد تسارعت بشكلٍ واضحٍ الجهود المبذولة لتشييد مشارق الأذكار. فقد تمّ إقامة آخر معبدٍ من أمّهات المعابد القارّيّة في سانتياغو – تشيلي والبدء في مشاريع لبناء مشرقَي أذكار مركزيّيْن وخمسة مشارق أذكارٍ محلّيّة؛ إن داريّ العبادة في باتامبانغ – كمبوديا، ونورتي ديل كاوكا – كولومبيا، قد فتحتا أبوابهما بالفعل. المعابد البهائيّة سواء ما شيّد منها حديثًا لذكر الله أو قديمًا، تحتلّ مكانةً في قلب حياة الجامعة بشكلٍ متزايد. إنّ الدّعم المادّيّ الذي قدّمه آحاد المؤمنين لعددٍ لا يُحصى من المساعي التي باشرها أحبّاء الله كان متواصلًا وغايةً في السّخاء. إنّ روح الكرم والتّضحية في تقديم التّبرعات والتي لم يستمرّ تدفّقها فحسب بل ازداد إبّان فترة شهدت أزمةً اقتصاديّةً كبرى تُعتبر مقياسًا غايةً في الوضوح للحيويّة الرّوحانيّة الجماعيّة. في الشّأن الإداريّ البهائيّ، تعزّزت قدرة المحافل الرّوحانيّة المركزيّة على إدارة شؤون جامعاتهم بكلّ تعقيداتها المتزايدة بشكلٍ ملحوظ. لقد غَنِموا بصورةٍ خاصّةٍ من مستويات أعلى وجديدة من التّعاون مع المشاورين الذين لعبوا دورًا فعّالًا في تنظيم عمليّة جمع الرّؤى والبصائر من مستوى القاعدة في جميع أنحاء العالم وضمان نشرها على نطاق واسع. إنّها أيضًا الفترة التي ظهر فيها المجلس الإقليميّ البهائيّ كمؤسّسة مكتملة الأركان للأمر البديع، لقد اثبتت المجالس البالغ عددها الآن 230 مجلسًا والمعاهد التّدريبيّة التّابعة لها أنْ لا غنى عنها لدفع عمليّة النّموّ قُدُمًا. في عام 2005 تمّ إنشاء هيئة أمناء حقوق الله العالميّة من أجل ديمومة مهامّ كبير أمناء حقوق الله – أيادي أمر الله علي محمّد ورقاء، وهي تقوم اليوم بتنسيق جهود ما لا يقلّ عن 33 هيئة مركزيّة وإقليميّة للأمناء المنتشرين الآن حول العالم، والتي بدورها تُوجّه عملَ أكثر من 1,000 ممثّل. كثيرةٌ هي التّطوّرات التي حدثت في المركز البهائيّ العالميّ خلال الفترة نفسها والشّاهدة على: الانتهاء من مدرّجات المقام الأعلى وإنشاء مبنيَيْن على القوس، وبدء تشييد مقام حضرة عبد البهاء، ناهيك عن مشاريع عديدةٍ أخرى لتعزيز الأماكن المقدّسة البهائيّة التي لا تقدّر بثمن والحفاظ عليها. ولقد تمّ إدراج الرّوضة المباركة والمقام الأعلى ضمن مواقع التّراث العالميّ اعترافًا بكونهما أماكن ذات أهمّيّةٍ بالغةٍ للبشريّة. توافَد مئات الآلاف من الجمهور على تلك الأماكن المقدّسة، وقاربت الأعداد مليون ونصف المليون في بعض السّنوات، واستقبل المركز العالميّ بانتظام مئات الحجّاج في آنٍ واحد، وأحيانًا أكثر من 5,000 حاجّ في السّنة إلى جانب عددٍ مماثل من الزوّار البهائيّين، إنّ سعادتنا بارتفاع هذه الأرقام لا تقلّ عن ابتهاجنا بعشرات الأمم والشّعوب المتنوّعة الذين حظي ممثّلوهم بشرف الحجّ. تمّ تسريع ترجمة ونشر وتوزيع الآثار المقدّسة بشكلٍ كبيرٍ أيضًا وذلك بالموازاة مع تطوير مكتبة المراجع البهائيّة، وهي واحدة من أبرز أعضاء الأسرة المتنامية لمواقع الشّبكة الالكترونيّة المرتبطة بـ Bahai.org المتاحة الآن بعشر لغات. تمّ إنشاء مجموعة متنوّعة من المكاتب والوكالات في المركز العالميّ وفي أماكن أخرى وهي مكلَّفة بدعم عملية التّعلّم الآخذة بالتّكشّف وتشمل مجالات متعدّدة من المساعي في شتّى أنحاء العالم البهائيّ. كلّ هذا أخواتنا وإخوتنا المؤمنين ليس سوى نبذة يسيرة من الحكاية التي تروي ثمرات إخلاصكم لمن هو "مظلوم العالمين". إنّه لا يسعنا إلّا أن نردّد الكلمات المؤثّرة التي نطق بها حضرة المولى المحبوب ذات مرّة إذ غلبته المشاعر الجيّاشة فهتف عاليًا: "يا بهاء الله! ماذا فعلت؟"
*من استعراض مشهدٍ شاملٍ لربع قرنٍ محوريٍّ حاسمٍ نوجّه تركيزنا الآن إلى خطّة السّنوات الخمس الأخيرة، وهي خطّةٌ تختلف تمامًا عن أيّة خطّة سبقتها من نواحٍ عديدة. في هذه الخطّة قمنا بِحثّ واستنهاض البهائيّين في العالم على الاستفادة من كلّ ما تعلّموه في السّنوات العشرين الماضية ووضعه موضع التّنفيذ الكامل. ويسعدنا أنّ ما تحقّق تعدّى سقف آمالنا، فبينما نتوقّع أمورًا عظيمةً من أتباع الجمال المبارك بطبيعة الحال، إلّا أنّ سمةَ وطابعَ ما تمّ تحقيقه من خلال جهودهم الجبّارة كان مدهشًا حقًّا. لقد جاء تتويجًا لإنجازٍ مدّته خمسة وعشرين عامًا.
إنّها خطةٌ ستبقى في الذّاكرة على وجه الخصوص لأنّها انقسمت إلى ثلاث فتراتٍ بفضل حلول مناسبتيْن مقدّستيْن هما الاحتفال بذكرى المئويّتيْن اللّتيْن حفّزتا الجامعات المحلّيّة في جميع أنحاء العالم. لقد أظهر معشر المؤمنين المخلصين الأوفياء، وعلى مستوى لم يسبق له مثيل وبسهولةٍ نسبيّةٍ، القدرة على إشراك النّاس من جميع شرائح المجتمع في تكريم حياة مظهرين إلهيّين. كان ذلك مؤشّرًا قويًّا لأمرٍ أعمَّ وأوسع هو: القدرة على توجيه الطّاقات الرّوحية الهائلة المُنطلقة من أجل تقدّم الأمر الأعظم. بلغت روعة الاستجابة في العديد من الأماكن مبلغًا أسفر عن خروج الأمر المبارك من المجهوليّة على مستوى البلاد. في الأماكن التي كان تَقبُّل الأمر فيها غير متوقَّع أو ربّما مفاجئًا غدا التّقبّل الملحوظ للأمر واضحًا. آلافٌ وآلافٌ وآلاف انتعشت أرواحهم بتلمّسهم روح التّعبّد التي هي اليوم سمة مميّزة للجامعات البهائيّة في كلّ مكان. لقد اتّسعت رؤية الجامعة لما يمكن تحقيقه من خلال إحياء الأعياد والأيّام المحرّمة البهائيّة بشكلٍ يفوق التّصوّر.
إنّ إنجازاتِ الخطّة من النّاحية العدديّة سرعان ما فاقت إنجازاتِ جميع الخطط التي سبقتها منذ عام 1996. في مستهلّ هذه الخطّة سمحت المقدرة الموجودة لعقد ما يزيد قليلًا عن 100,000 نشاطٍ أساسيّ في وقتٍ واحد، مقدرةٌ هي ثمرة عشرين عامًا من الجهد المشترك. الآن يجري استدامة 300,000 نشاطٍ أساسيّ في آنٍ واحد. وقد زاد عدد المشاركين في هذه الأنشطة ليتجاوز مليوني شخص، زيادة تقارب الثّلاثة أضعاف. هناك 329 معهدًا تدريبيًّا مركزيًّا وإقليميًّا قيد العمل، ومن الشّواهد على قدرتها أنّ ثلاثة أرباع مليون شخص تمكّنوا من إكمال كتابٍ واحدٍ على الأقلّ من سلسلة الدّورات، وإجمالًا فقد بلغ عدد الدّورات التي أكملها الأفراد الآن مليوني دورة أيضًا – وهو ارتفاع يفوق الثّلث خلال فترة خمس سنوات.
إنّ الكثافة المتزايدة للعمل في برامج النّموّ حول العالم تروي قصّةً رائعةً خاصّةً بها. في فترة السّنوات الخمس هذه كنّا قد دعونا إلى تسريع النّموّ في كلّ مجموعة جغرافيّة من المجموعات الـ5,000 التي بدأ فيها. هذه الضّرورة الملحّة أصبحت دافعًا لبذل جهود جادّة في جميع أنحاء العالم. ونتيجة لذلك، تجاوز عدد البرامج المكثّفة للنّموّ الضّعف حتى الآن ليناهز 4,000 برنامج. الصّعوبات التي واجهت شروع العمل في قُرى وأحياء جديدة في خِضَمِّ أزمةٍ صحّيّة عالميّة، أو توسيع الأنشطة التي كانت في مرحلةٍ مبكّرة عند بدء الجائحة حالت دون الوصول إلى عددٍ أعلى خلال العام الأخير من الخطّة. إلّا أنّ هناك المزيد ممّا يجدر قوله. لقد أعربنا في بداية الخطّة عن الأمل في أن يزداد عدد المجموعات الجغرافية التي اجتاز فيها الأحبّاء المعلم الثّالث على طول سلسلة متّصلة من النّمو بعدّة مئات أخرى كنتيجة لتعلّم كيفيّة التّرحيب بأعداد كبيرة واحتضانهم في الأنشطة. كان المجموع آنذاك حوالي 200 مجموعة جغرافيّة موزّعة على قرابة 40 بلدًا. بعد خمس سنوات ارتفع هذا الرّقم بنحوٍ مذهل إلى 1,000 مجموعة جغرافيّة في نحو 100 بلد – أي ربع البرامج المكثّفة للنّموّ في العالم وهو إنجاز فاق توقّعاتنا بكثير. ومع ذلك فحتّى هذه الأرقام لا تعكس حقيقة الذّرى التي بلغتها الجامعة. هناك أكثر من 30 مجموعة جغرافيّة يتجاوز فيها عدد الأنشطة الأساسيّة التي يتمّ استدامتها 1,000 نشاط؛ في بعض الأماكن يصل المجموع إلى عدّة آلاف يشارك فيها أكثر من 20,000 شخصٍ في مجموعة جغرافيّة واحدة. عدد متزايد من المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة تشرف الآن على تنفيذ البرامج التّعليميّة التي تلبّي احتياجات جميع الأطفال والشّباب النّاشئ في القرية تقريبًا، والواقع نفسه بدأ يبرز في عددٍ من الأحياء الحضريّة. إنّ الارتباط والتّفاعل مع أمر حضرة بهاء الله في حالات جديرة بالذّكر تجاوز الأفراد والعائلات والأسر الممتدّة – إنّ ما يُشاهَد هو حركة السّكّان نحو مركزٍ مشترك. في ثَمّة أحيان يتمّ تجاوز العداوات القديمة بين الفئات المتخاصمة، وتتغيّر بعض الهياكل والقوى الاجتماعية في ضوء التّعاليم الإلهيّة.
لا يسعنا إلّا الشّعور ببهجةٍ غامرة لما تمّ إحرازه من تقدّم مثير للإعجاب. إنّ قوّة بناء المجتمع الكامنة في أمر حضرة بهاء الله تتجلّى بمزيد من الوضوح، وهذا أساسٌ راسخٌ ستُبنى عليه خطّة السّنوات التّسع القادمة. لقد أثبتت المجموعات الجغرافيّة التي تتّسم بالقوّة، كما كان مأمولًا، أنّها مستودعات من المعرفة والموارد لجيرانها، والمناطق التي يوجد بها أكثر من مجموعة جغرافيّة كهذه قامت بتطوير الوسائل لتسريع النّموّ في مجموعةٍ تلو أخرى بسهولةٍ أكبر. وبناءً عليه فإنّ من الضّروري أن نؤكّد مرّة أخرى بأنّ التّقدّم يكاد يكون عموميًّا، والفرق بين مكانٍ وآخر هو في درجة التّقدّم. لقد ارتقى إدراك الجامعة الجمعيّ لعمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا وازدادت ثقتها في قدرتها على تحفيز هذه العمليّة في ظلّ أيّة مجموعة من الظّروف إلى مستوياتٍ لم يكن من الممكن تصوّرها في العقود الماضية. الأسئلة العميقة التي كانت تلوح لفترة طويلة، والتي تمّ التّركيز عليها بشدّة في عام 1996، تمّت الإجابة عليها بشكلٍ مقنع من قِبَل العالم البهائي. هنالك جيلٌ من المؤمنين تحمل حياتهم بِرُمّتها بصمةَ تقدّم الجامعة ورقيّها، إلّا أنّ مدى ما تمّ إحرازه في تلك المجموعات الجغرافيّة العديدة التي تدفع آفاق التّعلّم قُدمًا قد حوّل التّقدّم الهائل في عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا إلى واقعة عظيمة ذات أبعاد تاريخيّة.
لا شكّ بأنّ الكثيرين منكم على درايةٍ بكيفيّة تقسيم حضرة وليّ أمر الله عصورَ الأمر الإلهيّ إلى عهودٍ متتالية. لقد بدأ العهد الخامس من عصر التّكوين في عام 2001. أمّا ما لا يُعرف كثيرًا هو أنّ حضرته أشار بوجهٍ خاصّ إلى وجود عهود للخطّة الإلهيّة أيضًا، ووجود مراحلَ لتلك العهود. هذه الخطّة التي وضع حضرة عبد البهاء تصوّرها الأساسيّ ظلّت معلّقةً لمدّة عقدين من الزّمان إلى حين تأسيس وتقوية الهيئات المحلّيّة والمركزيّة للنّظم الإداريّ وتمّ تدشينها رسميًّا في عام 1937 مع بدء المرحلة الأولى من عهدها الأول: وهي خطّة السّنوات السّبع التي أسندها حضرة وليّ أمر الله إلى الجامعة البهائيّة في أمريكا الشّمالية. وقد اختُتم العهد الأوّل ذاك بختام خطة السّنوات العشر في عام 1963، والذي أسفر عن إعلاء راية الأمر المبارك على امتداد المعمورة. المرحلة الافتتاحيّة للعهد الثّاني تمّت بتدشين خطّة السّنوات التّسع الأولى، تبعها ما لا يقلّ عن عشر خطط تراوحت مدّتها بين اثني عشر شهرًا وسبع سنوات. في فجر هذا العهد الثّاني، كان العالم البهائيّ يشهد بالفعل باكورة البدايات لعمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا والتي تنبّأ بها مُبدع الخطّة الإلهيّة. في العقود التّالية سعت أجيالٌ من المؤمنين المخلصين داخل جامعة الاسم الأعظم جاهدةً بالعمل في الكرْم الإلهيّ من أجل تهيئة الظّروف المطلوبة لنموٍّ مستدامٍ واسع النّطاق. كم هي جمّةٌ وجنيّةٌ ثمار تلك الجهود المُضنية في هذا الرّضوان البهيّ! إنّ ظاهرة مشاركة أعداد كبيرة في نشاطات الجامعة المتزايدة، واتّقاد جذوة الإيمان في قلوبهم، وسرعة قيامهم على الخدمة في طليعة الخطّة قد تحوّلت من كونها توقّعًا نابعًا من الإيمان، إلى واقع يستجدّ ويتكرّر. مثل هذا التّقدّم الواضح المشهود ينبغي أن يُسطَّر في سجل تاريخ الأمر البديع. بقلوبٍ تغمرها البهجة نعلن استهلال العهد الثّالث من الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء. مرحلةً تلو مرحلة، عهدًا بعد عهد، تتكشّف خطّته المباركة، إلى أن تستضيء كلّ القلوب بأنوار الملكوت.
*أحبّتنا الأعزّاء، لن يكتمل استعراض مشروع السّنوات الخمس الذي ختم العهد الثّاني من الخطّة الإلهيّة بدون إشارةٍ خاصّةٍ إلى الاضطرابات التي رافقت سنتها الأخيرة والمستمرّة حتى الآن. كان بإمكان القيود المفروضة على التّفاعل الشّخصيّ خلال هذه الفترة والتي تأرجحت بين تشديدٍ وتخفيفٍ في معظم البلدان أن تكون بمثابة ضربةٍ قاسيةٍ للجهود الجماعيّة للجامعة قد يستغرق التّعافي منها سنوات، ولكن هناك سببان حالا دون ذلك. أحدهما كان وعي البهائيّين على نطاقٍ واسعٍ بواجبهم تجاه خدمة البشر، ولا وقت أدعى لذلك من أوقات المصائب والآفات. والآخر كان الارتفاع الهائل في مقدرة العالم البهائيّ على التّعبير عن هذا الوعي. على مدى سنوات عديدة اعتاد الأحبّاء على تبنّي أنماط من العمل المنهجيّ، وقد وظّفوا إبداعهم وحسّهم بالهدف للتّعامل مع أزمةٍ طارئةٍ، فيما ضمِنوا اتّساقَ وتوافقِ المقاربات الجديدة التي طوّروها مع إطار العمل الذي جاهدوا على مدى الخطط المتعاقبة لإتقانه. هذا لا يعني تجاهل المصاعب الخطيرة التي يعاني منها البهائيّون شأنهم شأن سائر مواطنيهم في كلّ بلد، إلّا أنّ المؤمنين ظلّوا محافظين على التّركيز خلال الصّعوبات الشّديدة. لقد تمّ توجيه الموارد إلى الجامعات المحتاجة، وجرت الانتخابات حيثما أمكن، وفي جميع الظّروف والأحوال واصلت مؤسّسات الأمر أداء واجباتها. بل تمّ اتّخاذ خطوات جريئة للمضيّ قُدمًا. سوف يُعاد تأسيس المحفل الرّوحانيّ المركزيّ لساو تومي وپرينسيپي في هذا الرّضوان، وسوف يرتفع ركنان جديدان من أركان بيت العدل الأعظم هما: المحفل الرّوحانيّ المركزيّ لكرواتيا ومقرّه في زغرب، والمحفل الرّوحانيّ المركزيّ لتيمور الشّرقيّة ومقرّه في ديلي.
وهكذا تبدأ خطّة السّنة الواحدة. وقد تمّ بالفعل تحديد هدفها ومتطلّباتها في رسالتنا التي وجّهناها إليكم في يوم الميثاق؛ هذه الخطّة رغم كونها موجزة تكفي لإعداد العالم البهائيّ لخطّة السّنوات التّسع التي ستتبعها. تلك الفترةَ الزّاخرةَ بقوى استثنائيّة والتي افتُتحت بعد مائة عام من نزول ألواح الخطّة الإلهيّة، ستُختتَم قريبًا مع الذّكرى المئويّة لصعود حضرة عبد البهاء إيذانًا بنهاية القرن الأوّل من عصر التّكوين وبداية القرن الثّاني. يدخل مَعاشر المؤمنين الخطّةَ الجديدة هذه في وقتٍ تبدو فيه البشريّةُ التي تنبّهت لضعفها وهشاشتها أكثر وعيًا بالحاجة إلى التّعاون لمواجهة التّحدّيات العالميّة. وعلى الرّغم من ازدياد أعداد أفراد المجتمع الذين يُبدون بأقوالهم وأفعالهم مدى توقهم إلى قبولٍ أكبرٍ للوحدة المتأصّلة في الإنسانيّة، فإنّ العادات البالية من قبيل التّنافس والتّعصّب وتغليب المصلحة الذّاتيّة والانغلاق الفكريّ ما زالت تعيق الحركة نحو الوحدة والاتّحاد. نسأل الله أن تتوفّق الأمم والشّعوب في تنحية خلافاتها جانبًا من أجل الصّالح العام. وعلى الرّغم من الغموض الذي يكتنف الأشهر القادمة فإنّنا نتضرّع إلى جمال القدم راجين مزيد تأييداته المستمرّة التي لطالما شملت أتباعه، حتى تستطيعوا المضيّ قُدمًا لأداء مهمّتكم، ولا يختلّ اتّزانكم ورباطة جأشكم باضطراب عالمٍ تشتدّ حاجته إلى درياقه الأعظم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
الخطّة الإلهيّة تدخل عهدًا جديدًا ومرحلةً جديدةً. الصّفحةُ طُويَت.
بيت العدل الاعظم