Announcing: BahaiPrayers.net


كتب أكثر من قبل دراسات بهائيه

(مطالع الانوار (ملخص
الدين البهائي بحث ودراسة
القاموس المبسط لكتاب الإيقان
بهاءالله والعصر الجديد
ظهور حضرة بهاءالله - المجلد الأول
ظهور حضرة بهاءالله - المجلد الثاني
مَطَالِعُ الأَنوَار تاريخ النبيل
Free Interfaith Software

Web - Windows - iPhone








دراسات بهائيه : مَطَالِعُ الأَنوَار تاريخ النبيل
مَطَالِعُ الأَنوَار
تاريخ النبيل عن وقائع الأيام الأولى للأمر البهائي
مَطَالِعُ الأَنوَار
ضريح حضرة الباب من الداخل
مَطَالِعُ الأَنوَار

تاريخ النبيل عَن وَقائِع الأيَّام الأولى لِلأمر البَهَائي

٭٭٭٭٭٭٭٭

أقِفُ وَرُوحي في يَدي مُسْتَعدّاً لعَلَّ بفَضل الله وَكرمِهِ يضحّي

هذَا الحَرفُ المُنزَل الظاهِر حَيَاته فدَاءً في سَبيل

النقطَة الأولى الكَلمَة العُليَا
بَهَاءالله
(مُترجمًا)
٭٭٭٭٭٭٭٭

هَذّبَهُ وتَرجَمهُ مِنَ اللّغة الفَارسيَّة إلى اللّغة الإنگليزيّة

شَوْقي أفنْدي رَبَّاني
٭٭٭٭٭٭٭٭
عَرَّبَهُ مِنَ اللّغة الإنگليزيَّة
عَبد الجليل سَعْد
إعادة طبع وتنقيح: سيفي سيفي
تدقيق: عبد المجيد دلشاد وفرزانه جابري
دار البديع للطباعة والنشر
ص ب 1484-90
بيروت – لبنان
آذار 2008م
إلى
الوَرقَة العُليَا
آخر الأحيَاء مِنْ عَصر البُطولة المجَيد
أُقَدّم هَذا الكِتَاب
تذْكَارًا

لما أنَا مدين بِهِ لهَا مِنْ عَظيمِ المَحَبَّة والفَضْل

صفحة خالية
المحتوى
كلمة الناشر
IX
فهرس الوقائع التاريخية
XI
- الجزء الأول: الأيام التي سبقت الدعوة
XI
- الجزء الثاني: ظهور حضرة الباب
XII
فهرس الصور
XXXIII

صور خط يد حضرة الباب في ألواحه لحروف الحي وحضرة بهاءالله

XLIII
مقدمة
XLV
اعتراف
LXXXVII
ديباجة
LXXXIX
استدراك لمترجم السفر إلى اللغة العربية
XCI
الجزء الأول (الفصل الأول والثاني)
1-40
الجزء الثاني (الفصل الثالث حتى السادس والثلاثين)
41-604
خاتمة
605
ملحق
623
فهرس الأعلام
633
صفحة خالية
كلمة الناشر

يسر دار البديع أن تقدم طبعة جديدة للترجمة العربية لكتاب "مطالع الأنوار" والذي يعتبر المصدر الأهم لدراسة تاريخ الدعوة البابية والاطلاع على التفاصيل المتعلقة بالسنوات التسع الأولى من نشأتها. نشر الكتاب للمرة الأولى في مصر عام 1940، وسرعان ما نفدت نسخه. على الرغم من ذلك، لم تتم إعادة طبع "مطالع الأنوار" بعد ذلك إلى أن قام، قبل عدة سنوات، عدد من الأشخاص المهتمين بتاريخ البابية بمراجعة الطبعة الأولى وتنقيحها لجهة بعض الأخطاء التقنية التي كانت موجودة في الطبعة الأولى المصرية. بدورها، تفخر دار البديع ان تقدم "مطالع الأنوار"، الذي طال انتظاره، في حلة جديدة سعينا، قدر المستطاع، أن تكون لائقة لهذا الكتاب الذي يسرد تاريخًا دينيًا تلازمت فيه المآسي والانتصارات، وتآلف عبرها حبر العلماء مع دم الشهداء. واليوم، وبالتحديد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحولت النواة التي تمثلها شخصيات هذا الكتاب وأحداثها إلى جامعة بهائية عالمية منتشرة في شتى أصقاع المعمورة وتساهم مساهمة فعالة في نشر القيم الروحية التي ضحى مطالع الأنوار بأرواحهم وبكل ما يملكون في سبيلها. تتلخص تلك القيم في مبدأ تحقيق وحدة العالم الإنساني ونشر السلام والاتحاد بين الأنام.

تود دار البديع أن تعبر عن شكرها العميق لكل الذين ساهموا في إخراج هذه الطبعة الجديدة لكتاب "مطالع الأنوار" إلى النور، وتخص بالذكر السيد سيفي سيفي والسيدة فرزانه جابري والسيد عبد المجيد دلشاد. كما تأمل أن يكون في نشر هذا الكتاب فوائد معنوية وعلمية للمؤمنين بالرسالة التي يعرض الكتاب تاريخ انبعاثها، وكذلك للباحثين المهتمين بدراسة الأديان وتاريخ الشرق الأوسط في بدايات العصر الحديث.

صفحة خالية
فهرس الوقائع التاريخية
يشمل أهم مواضيع التاريخ
الجزء الأول: الأيام التي سبقت الدعوة
الفصل الأول: رسالة الشيخ أحمد الأحسائي
الصفحة

مغادرته البحرين إلى العراق....................................................................................

2

زيارته للنجف وكربلاء ........................................................................................

2

رحلته إلى شيراز ..............................................................................................

3

إقامته في يزد ..................................................................................................

4

أ) مراسلاته مع فتح علي شاه ........................................................................

4

ب) علاقاته بالحاج عبد الوهاب ......................................................................

5

ج) رواية ميرزا محمود القمصري ...................................................................

6

د) وصول السيد كاظم الرشتي .......................................................................

9

حجه إلى مشهد ................................................................................................

9

دخوله المظفر إلى طهران .....................................................................................

11

مغادرته إلى كرمانشاه .........................................................................................

11

عودته إلى كربلاء .............................................................................................

13

رحلته إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ووفاته ...............................................................

14
الصفحة
الفصل الثاني: رسالة السيد كاظم الرشتي

علاقاته بالحاج السيد محمد باقر الرشتي ........................................................................

17

إشاراته إلى الموعود ...........................................................................................

22

حكاية الشيخ حسن الزنوزي ....................................................................................

23

أ) زيارة السيد كاظم لحضرة الباب ..................................................................

23

ب) حضور حضرة الباب في درس السيد كاظم ......................................................

26

ج) زيارة حضرة الباب لمقام الإمام الحسين ..........................................................

26

د) زيارة الشيخ حسن إلى شيراز وماه كو ............................................................

27

ﻫ) لقاؤه مع حضرة بهاءالله في كربلاء ..............................................................

28

الإشارات إلى الموعود في كتابات السيد كاظم ..................................................................

29

حصار كربلاء .................................................................................................

31

تلميح السيد كاظم إلى تلاميذه غير المخلصين ...................................................................

33

رواية الشيخ أبو تراب .........................................................................................

34

نصائح السيد كاظم لتلاميذه .....................................................................................

36

لقاء السيد كاظم مع راعي الأغنام العربي ......................................................................

38

وفاة السيد كاظم ................................................................................................

40
الصفحة
الجزء الثاني: ظهور حضرة الباب
الفصل الثالث: إعلان دعوة حضرة الباب

وصول الملاّ حسين إلى كربلاء ................................................................................

41

دلالة سنة الستين ..............................................................................................

42

مغادرة الملاّ حسين إلى النجف وبوشهر .......................................................................

44

مقابلة الملاّ حسين مع حضرة الباب في شيراز .................................................................

46

وصول الملاّ علي البسطامي ورفاقه إلى شيراز ................................................................

59

وصول القدوس إلى شيراز ....................................................................................

64

الأيام الأولى لحضرة الباب ....................................................................................

64

أ) مولده ............................................................................................

64

ب) أيام المدرسة ....................................................................................

64

ج) زواجه ..........................................................................................

68

د) إقامته في بوشهر ................................................................................

69

حروف الحي ..................................................................................................

71

الإشارة إلى الطاهرة ...........................................................................................

73

تفسير معنى مصطلح بالاسري .................................................................................

76

توديع الملاّ حسين .............................................................................................

76

مغادرة الملاّ علي البسطامي شيراز ............................................................................

78

قصة عبد الوهاب ..............................................................................................

78

معاناة الملاّ علي البسطامي ....................................................................................

80

خطابة حضرة الباب في توديع حروف الحي ...................................................................

82

كلمات حضرة الباب للملاّ حسين حين وداعه ...................................................................

86
الصفحة
الفصل الرابع: رحلة الملاّ حسين إلى طهران

زيارة الملاّ حسين إلى إصفهان ................................................................................

87

أ) علاقاته بتلاميذ الحاج السيد محمد باقر ............................................................

87

ب) قصة مغربل القمح ..............................................................................

88

ج) إيمان الملاّ صادق الخراساني ....................................................................

90

إقامته في كاشان وقم ...........................................................................................

91

مشاهداته في طهران ...........................................................................................

91

أ) علاقاته بالحاج ميرزا محمد الخراساني ............................................................

91

ب) لقاؤه بالملاّ محمد النوري ورسالته لحضرة بهاءالله ...............................................

92
الفصل الخامس: رحلة حضرة بهاءالله إلى مازندران

إشارته لميرزا بزرگ ..........................................................................................

97

زيارته لنور قبل وصول الملاّ حسين إلى طهران ...............................................................

98

أ) لقاؤه بميرزا محمد تقي النوري ...................................................................

98

ب) الرؤيتان اللتان رآهما ميرزا محمد تقي النوري في المنام ........................................

99

زيارته لنور بعد وصول الملاّ حسين إلى طهران ...............................................................

100

أ) علاقاته بعمه عزيز ...............................................................................

101

ب) لقاؤه بالملاّ محمد ...............................................................................

105

ج) محادثته مع الدرويش ............................................................................

105

د) نتائج زيارة حضرة بهاءالله لنور ..................................................................

106

رؤيا الوزير الخاصة بحضرة بهاءالله ..........................................................................

106

علاقات حضرة بهاءالله بالحاج ميرزا آقاسي ...................................................................

107
الصفحة
الفصل السادس: رحلة الملاّ حسين إلى خراسان

تعليمات حضرة الباب لحروف الحي ............................................................................

111

أوائل المؤمنين في خراسان ....................................................................................

113

رسالة الملاّ حسين لحضرة الباب ...............................................................................

115

الفصل السابع: حج حضرة الباب إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة

الحادثة التي رواها الحاج أبو الحسن الشيرازي .................................................................

118

الإشارة إلى رحلة الحج في "البيان" الفارسي ....................................................................

119

الوصول إلى جدة والحادثة في الطريق إلى مكة المكرمة .......................................................

120

طواف حضرة الباب حول الكعبة المشرفة ......................................................................

121

إعلان دعوته لميرزا محيط الكرماني ...........................................................................

122

رسالته لشريف مكة ورواية الحاج نياز البغدادي ................................................................

125

زيارته للمدينة المنورة .........................................................................................

126
الفصل الثامن: إقامة حضرة الباب في شيراز بعد الحج

عودة حضرة الباب إلى بوشهر ووداعه للقدوس ................................................................

129

زيارة القدوس لخال حضرة الباب في شيراز ...................................................................

130

لقاء القدوس بالملاّ صادق الخراساني ...........................................................................

130

البلايا التي حلت بالقدوس والملاّ صادق ........................................................................

133

أ) استجواب حسين خان للملاّ صادق ................................................................

133

ب) رواية شاهد عيان عن الاضطهاد ................................................................

134

عودة حضرة الباب إلى شيراز .................................................................................

135
الصفحة

أ) رواية رئيس حرس حضرة الباب .................................................................

135

ب) لقاء حضرة الباب بحسين خان ...................................................................

136

ج) إعلان حضرة الباب في مسجد الوكيل ............................................................

138

الإشارة إلى الذين اعتنقوا الأمر في شيراز .....................................................................

141

رسالة حضرة الباب إلى المؤمنين في كربلاء ...................................................................

144

وصول المؤمنين إلى كنگاور، واجتماعهم بالملاّ حسين .........................................................

144

مغادرتهم مع الملاّ حسين إلى إصفهان .........................................................................

145

مغادرة الملاّ حسين إلى شيراز .................................................................................

146

وصول ستة من الأحباء إلى شيراز ............................................................................

146

رواية الملاّ عبد الكريم القزويني ...............................................................................

147

لقاء النبيل بالملاّ عبد الكريم القزويني ..........................................................................

150

الفصل التاسع: إقامة حضرة الباب في شيراز بعد الحج (تكملة)

مغادرة الملاّ حسين إلى خراسان ...............................................................................

155

مقابلات السيد يحيى بحضرة الباب .............................................................................

157

إيمان الملاّ محمد علي الزنجاني ................................................................................

163

زيارة القدوس لكرمان وطهران ومازندران .....................................................................

164

أ) علاقاته بالحاج السيد جواد الكربلائي ..............................................................

164

ب) زيارته لطهران .................................................................................

167

ج) إقامته في بارفروش .............................................................................

167

زيارة الملاّ صادق ليزد ........................................................................................

167

أ) علاقاته بميرزا أحمد الأزغندي ...................................................................

168
الصفحة

ب) تجربته في مسجد يزد ...........................................................................

169

معاناة الملاّ يوسف الأردبيلي وآخرين ..........................................................................

170

الإشارة إلى الحاج السيد جواد الكربلائي .......................................................................

171

رواية الشيخ سلطان الكربلائي .................................................................................

173

حلول النوروز الثاني ..........................................................................................

173

الإشارة إلى والدة حضرة الباب وزوجته .......................................................................

174

نشاطات حسين خان ...........................................................................................

175

أ) تقرير رئيس جواسيسه ............................................................................

175

ب) تعليمات حسين خان لعبد الحميد خان ............................................................

177

اعتقال حضرة الباب، وانتشار الوباء ...........................................................................

178

أ) فرار حسين خان ..................................................................................

179

ب) شفاء ابن عبد الحميد خان .......................................................................

179

ج) الإفراج عن حضرة الباب ........................................................................

179

وداع حضرة الباب لأقربائه، ومغادرته شيراز ..................................................................

179
الفصل العاشر: إقامة حضرة الباب في إصفهان

رسالته إلى منوچهر خان ......................................................................................

181

ترحيب إمام الجمعة به .........................................................................................

183

أ) تكريم السكان لحضرة الباب .......................................................................

183

ب) احترام إمام الجمعة لحضرة الباب ...............................................................

183

ج) تفسير حضرة الباب لسورة "والعصر" ............................................................

183

د) مقابلة حضرة الباب لمنوچهر خان ................................................................

184
الصفحة

مخاوف الحاج ميرزا آقاسي ...................................................................................

187

زيارة حضرة الباب لمنوچهر خان .............................................................................

187

الإشارة إلى الملاّ محمد تقي الهراتي .........................................................................

189

مأدبة ميرزا إبراهيم لحضرة الباب .............................................................................

190

الحكم الصادر على حضرة الباب بالإعدام من علماء إصفهان ..................................................

190

خطة منوچهر خان لمغادرة حضرة الباب وعودته إلى إصفهان .................................................

191

لقاء الأحباء بحضرة الباب .....................................................................................

193

تنبؤ حضرة الباب بقرب وفاة منوچهر خان ....................................................................

194

أواخر أيام منوچهر خان .......................................................................................

194

الأمر الصادر للأحباء بالتفرق .................................................................................

195

رسالة گرگين خان إلى محمد شاه ..............................................................................

195

مغادرة حضرة الباب إلى كاشان ...............................................................................

196
الفصل الحادي عشر: إقامة حضرة الباب في كاشان

رؤيا الحاج ميرزا جاني .......................................................................................

197

إقامة حضرة الباب ثلاثة أيام في منزل الحاج ميرزا جاني ......................................................

199

أ) الإشارة إلى السيد عبد الباقي ......................................................................

199

ب) لقاء مهدي بحضرة الباب ........................................................................

201

الفصل الثاني عشر: رحلة حضرة الباب من كاشان إلى تبريز

اقترابه من قم ..................................................................................................

204

إقامته في قرية قمرود ..........................................................................................

204

وصوله إلى قلعة كنارگرد ......................................................................................

205
الصفحة

إقامته في قرية كلين ...........................................................................................

205

أ) وصول عدد من الأحباء ...........................................................................

208

ب) سرور حضرة الباب بهدية حضرة بهاءالله .......................................................

208

ج) حادثة أثناء الرحلة ...............................................................................

209

د) رسالة محمد شاه إلى حضرة الباب ...............................................................

210

ﻫ) مخاوف الحاج ميرزا آقاسي وخططه ودوافعه ....................................................

212

آخر مراحل رحلة حضرة الباب إلى تبريز .....................................................................

215

أ) وصول الأحباء إلى قرية سياه دهان ...............................................................

215

ب) تدخل الحجة الزنجاني ...........................................................................

216

ج) وداع حضرة الباب لحراسه ......................................................................

217

د) ترحيب بحضرة الباب من قبل تلميذه الشاب ......................................................

218

وصول حضرة الباب إلى تبريز ................................................................................

219

أ) الترحيب الحماسي من أهالي تبريز ................................................................

219

ب) لقاء حضرة الباب بالحاج محمد تقي الميلاني والحاج علي عسكر ...............................

219

ج) رواية الحاج علي عسكر .........................................................................

220
الفصل الثالث عشر: حبس حضرة الباب في قلعة ماه كو

رواية السيد حسين اليزدي .....................................................................................

223

موقع ماه كو، ووصف سكانها .................................................................................

223

تعلق سكان ماه كو بحضرة الباب ..............................................................................

224

وصول الشيخ حسن الزنوزي، ورسالة حضرة الباب له ........................................................

226

رؤيا علي خان الماه كوئي .....................................................................................

226
الصفحة

تغير مسلك علي خان ..........................................................................................

227

الإشارة إلى "البيان" الفارسي ...................................................................................

228

زيارة تلاميذ حضرة الباب إلى ماه كو .........................................................................

231

أحداث في حياة حضرة الباب في ماه كو .......................................................................

232

رؤيا حضرة الباب قبل إعلانه الدعوة ..........................................................................

232

المصائب التي حلت بمحمد شاه وحكومته .......................................................................

233

مغادرة الملاّ حسين من مشهد للحج إلى ماه كو .................................................................

234

أ) الهدف من مغادرته ...............................................................................

234

ب) زيارته إلى طهران ..............................................................................

235

ج) وصوله إلى ماه كو ورؤيا علي خان ............................................................

235

كلمات حضرة الباب إلى الملاّ حسين ...........................................................................

238

اتهام علي خان، وبالتالي نقل حضرة الباب إلى چهريق .........................................................

239

وداع حضرة الباب للملاّ حسين ................................................................................

239
الفصل الرابع عشر: رحلة الملاّ حسين إلى مازندران

مغادرة الملاّ حسين إلى طهران ................................................................................

241

إقامته في منزل القدوس في بارفروش ..........................................................................

241

ملاحظات بخصوص الحاج ميرزا آقاسي والملاّ حسين .........................................................

243

تعليمات القدوس للملاّ حسين ...................................................................................

244

مقابلة الملاّ حسين مع سعيد العلماء .............................................................................

245

مغادرة الملاّ حسين، ووصوله إلى مشهد .......................................................................

246
الصفحة

الفصل الخامس عشر: رحلة الطاهرة من كربلاء إلى خراسان

الإشارة إلى حضرة بهاءالله ....................................................................................

248

رسالة حضرة الباب إلى الأحباء ................................................................................

248

استجابة الطاهرة لنداء حضرة الباب ............................................................................

248

أ) نشاطاتها في كربلاء ..............................................................................

249

ب) نشاطاتها في بغداد ..............................................................................

251

ج) إقامتها في كرمانشاه وهمدان .....................................................................

251

د) حبسها في قزوين .................................................................................

254

1- إجابتها للملاّ محمد .........................................................................

254

2- وصول الملاّ عبد الله واغتيال الملاّ تقي ....................................................

255

3- سجن المتهم في طهران، وتوسط حضرة بهاءالله وحبسه ....................................

256

4- تقديم الطلب إلى محمد شاه .................................................................

257

5- إعدام أول شهيد بهائي في إيران ...........................................................

258

6- موقف الحاج ميرزا آقاسي وتدخل الصدر الأردبيلي ........................................

258

7- مذبحة قزوين ..............................................................................

259

8- تأثير المذبحة في طهران ...................................................................

260

ﻫ) خلاصها على يد حضرة بهاءالله ..................................................................

261

1- نقلها إلى طهران ...........................................................................

261

2- نتائج مغادرتها قزوين ......................................................................

262

3- موقفها من حضرة الباب وحضرة بهاءالله ...................................................

262

و) مغادرتها إلى خراسان ............................................................................

264
الصفحة

1- تعليمات حضرة بهاءالله إلى آقا كليم ........................................................

264

2- مغادرتها طهران ...........................................................................

264
الفصل السادس عشر: مؤتمر بدشت

مغادرة حضرة بهاءالله طهران .................................................................................

265

مغادرة القدوس إلى مازندران ..................................................................................

265

لقاء حضرة بهاءالله بالقدوس في شاهرود .......................................................................

268

وصولهم إلى بدشت ............................................................................................

269

أ) أهمية الاجتماع في بدشت .........................................................................

269

ب) رواية الشيخ أبو تراب ...........................................................................

269

ج) الاختلافات بين الأحباء ..........................................................................

271

د) التوافق الذي حققه حضرة بهاءالله .................................................................

273

ﻫ) مغادرة بدشت ....................................................................................

274

حادثة نيالا كما رواها حضرة بهاءالله ..........................................................................

275

نتائج تلك الحادثة ..............................................................................................

276
الفصل السابع عشر: حبس حضرة الباب في قلعة چهريق

موقف سكان چهريق من حضرة الباب .........................................................................

278

تعليمات حضرة الباب إلى الخادم ...............................................................................

279

قبول العلماء وموظفي الحكومة للدعوة الإلهية ..................................................................

280

أ) ميرزا محمد علي وأخوه ..........................................................................

280

ب) ميرزا أسد الله ...................................................................................

281

ج) درويش من الهند ................................................................................

281
الصفحة

الطلب من الأحباء مغادرة چهريق ..............................................................................

282

الحادثة الخاصة بميرزا محمد علي .............................................................................

283
الفصل الثامن عشر: التحقيق مع حضرة الباب في تبريز

زيارته إلى أروميه .............................................................................................

285

وصوله إلى تبريز .............................................................................................

288

التحقيق معه من قبل العلماء ....................................................................................

291

الإهانة الموجهة إليه ...........................................................................................

295

عودته إلى چهريق، ورسالته إلى الحاج ميرزا آقاسي ...........................................................

297
الفصل التاسع عشر: ملحمة مازندران

مغادرة الملاّ حسين مشهد ......................................................................................

300

وفاة محمد شاه .................................................................................................

301

نداء سعيد العلماء إلى سكان بارفروش .........................................................................

302

هجوم سكان بارفروش على الملاّ حسين وأصحابه ..............................................................

304

صد الملاّ حسين للهجوم .......................................................................................

305

رواية ميرزا محمد الفروغي ...................................................................................

306

استسلام سكان بارفروش .......................................................................................

309

إعادة المحاولة من أصحاب الملاّ حسين لرفع الأذان ...........................................................

312

غارة من خان سبزه ميدان .....................................................................................

312

توسط أعيان بارفروش .........................................................................................

312

التعليمات الموجهة إلى خسرو القاديكلائي ......................................................................

314

حادثة في غابة مازندران ......................................................................................

315
الصفحة

الوصول إلى مرقد الشيخ الطبرسي .............................................................................

316

رؤيا حارس مرقد الشيخ الطبرسي .............................................................................

317

هجوم خيالة قاديكلا وصدّه .....................................................................................

318

زيارة حضرة بهاءالله إلى قلعة الشيخ الطبرسي .................................................................

321

تحرير القدوس .................................................................................................

322

الإشارة إلى الرايات السود .....................................................................................

323

حبس القدوس في منزل ميرزا محمد تقي .......................................................................

323

وصول القدوس إلى قلعة الشيخ الطبرسي .......................................................................

324

رواية ميرزا محمد الفروغي ...................................................................................

325

أحداث في قلعة الشيخ الطبرسي بخصوص االقدوس ............................................................

326

رسالة سعيد العلماء إلى ناصر الدين شاه .......................................................................

330

حشد جيش عبد الله خان التركماني قرب قلعة الشيخ الطبرسي ..................................................

332

الغارة الأولى من قلعة الشيخ الطبرسي .........................................................................

334

رسالة الأمير مهدي قلي ميرزا إلى الملاّ حسين ................................................................

335

الغارة الثانية من قلعة الشيخ الطبرسي ..........................................................................

337

جرح القدوس ..................................................................................................

339

اجتهاد حضرة بهاءالله للانضمام إلى المدافعين عن قلعة الشيخ الطبرسي .......................................

341

الإشارة إلى نشاطات حضرة بهاءالله قبل إعلانه دعوته .........................................................

347
الفصل العشرون: ملحمة مازندران (تكملة)

الغارة الثالثة، وسقوط الملاّ حسين ..............................................................................

350

اللحظات الأخيرة من حياة الملاّ حسين .........................................................................

352
الصفحة

الإشارة إلى دفنه وإنجازاته .....................................................................................

352

تحذير القدوس لأصحابه .......................................................................................

355

خيانة السيد حسين المتولي .....................................................................................

355

هجوم عباس قلي خان اللاريجاني ..............................................................................

356

الغارة الرابعة، والهزيمة الساحقة للأعداء ......................................................................

357

إرسال المدفعية من طهران ....................................................................................

359

كرب المحاصرين .............................................................................................

359

نصائح القدوس إلى أصحابه ....................................................................................

360

الغارة الخامسة، ومقتل جعفر قلي خان .........................................................................

363

تفاقم كرب الأصحاب ..........................................................................................

364

إعلان القدوس .................................................................................................

365

الغارة السادسة والأخيرة .......................................................................................

366

تشاور الأمير مع رؤساء أركانه ................................................................................

366

حادثة رواها آقا كليم ...........................................................................................

366

انسحاب عدد من الأصحاب ووقوعهم في الأسر ................................................................

368

قسم الأمير بضمان سلامة المحاصرين .........................................................................

368

ترك القلعة .....................................................................................................

370

أسر عدد من الأصحاب ........................................................................................

372

المذبحة العامة .................................................................................................

372

مصير ثلاثة من الأصحاب .....................................................................................

373

استشهاد القدوس ...............................................................................................

378

قائمة بأسماء الشهداء ...........................................................................................

383
الصفحة
الفصل الحادي والعشرون: شهداء طهران السبعة

آثار كارثة مازندران على حضرة الباب ........................................................................

399

إرسال السياح إلى مرقد الطبرسي ..............................................................................

400

زيارة السياح إلى طهران، ولقاؤه مع حضرة بهاءالله ............................................................

401

نبذة عن أوائل أيام حياة النبيل ..................................................................................

403

إعدام الشهداء السبعة ...........................................................................................

414

أ) الحاج ميرزا سيد علي ............................................................................

414

ب) ميرزا قربان علي ...............................................................................

417

ج) الحاج الملاّ إسماعيل القمي ......................................................................

420

د) السيد حسين الترشيزي ...........................................................................

422

ﻫ) الحاج محمد تقي الكرماني .......................................................................

423

و) السيد مرتضى ...................................................................................

424

ز) محمد حسين المراغي ............................................................................

424

أحداث رواها حضرة بهاءالله ...................................................................................

428

دفن الشهداء السبعة ............................................................................................

429
الفصل الثاني والعشرون: ملحمة نيريز

رحلة وحيد إلى طهران ويزد ..................................................................................

431

الاحتفال بعيد النوروز في يزد .................................................................................

432

نشاطات نواب رضوي ........................................................................................

434

هيجان العدو وهزيمته ..........................................................................................

436

إعلان وحيد إلى أهالي يزد ....................................................................................

437
الصفحة

صد قوات العدو قرب قلعة نارين ..............................................................................

438

بلاغ وحيد إلى سكان يزد ......................................................................................

438

الغارة التي أمر بها وحيد ......................................................................................

438

مغادرة زوجة وحيد إلى منزل والدها ...........................................................................

439

تعليمات وحيد إلى خادمه حسن .................................................................................

439

مغادرة وحيد إلى نيريز .......................................................................................

440

نداء وحيد إلى أهالي نيريز .....................................................................................

443

الغارة الأولى من قلعة خواجه ..................................................................................

447

الغارة الثانية من قلعة خواجه ..................................................................................

447

توزيع المهام في القلعة .........................................................................................

448

اعتراض رسالة زين العابدين خان .............................................................................

448

تجديد النداء إلى الأمير فيروز ميرزا ...........................................................................

449

الغارة الثالثة من قلعة خواجه ...................................................................................

450

أسماء الشهداء .................................................................................................

451

قسم الأعداء بالتوصل إلى السلم ................................................................................

453

استجابة وحيد لدعوة الأعداء ...................................................................................

453

رسالة وحيد إلى أصحابه، وخيانة الحاج السيد عابد .............................................................

455

أسر الأصحاب ................................................................................................

456

استشهاد وحيد .................................................................................................

457

مصير أصحاب وحيد ..........................................................................................

459
الصفحة
الفصل الثالث والعشرون: استشهاد حضرة الباب

دوافع أمير النظام لإعدام حضرة الباب .........................................................................

464

أوامر أمير النظام إلى نواب حمزة ميرزا ......................................................................

467

تخلص حضرة الباب من وثائقه ................................................................................

468

وصول حضرة الباب إلى تبريز ................................................................................

469

الأمر الصادر من أمير النظام ..................................................................................

469

حبس حضرة الباب في الثكنات ................................................................................

470

الحادثة التي رواها السيد حسين ................................................................................

470

تحذير حضرة الباب للفراش باشي ..............................................................................

471

رفض ميرزا محمد علي إنكار عقيدته ..........................................................................

471

إصدار فتوى قتل حضرة الباب ................................................................................

472

طلب سام خان من حضرة الباب ...............................................................................

473

معجزة نجاة حضرة الباب ......................................................................................

474

استعفاء الفراش باشي ..........................................................................................

476

استعفاء سام خان ..............................................................................................

476

المحاولة الثانية والأخيرة للقضاء على حضرة الباب ............................................................

477

رواية الحاج علي عسكر .......................................................................................

481

نقل رفات حضرة الباب إلى طهران ............................................................................

484

الإشارة إلى ميرزا آقا خان النوري .............................................................................

484

نتائج استشهاد حضرة الباب ....................................................................................

486
الصفحة
الفصل الرابع والعشرون: ملحمة زنجان

الإشارة إلى بلايا حضرة الباب .................................................................................

490

نشاطات الحجة قبل إيمانه ......................................................................................

492

قبول الحجة لدعوة حضرة الباب ...............................................................................

493

اتهام الحجة واستدعاؤه إلى طهران .............................................................................

494

رسالة حضرة الباب إلى الحجة .................................................................................

495

تجدد الشكاوى ضد الحجة، ونقله إلى طهران ...................................................................

496

وصول حضرة الباب إلى زنجان ومغادرته إلى تبريز ..........................................................

497

حبس الحجة في طهران ........................................................................................

500

نجاة الحجة من الحبس ومغادرته إلى زنجان ...................................................................

501

ظروف هجوم الأعداء على الحجة وأصحابه ...................................................................

503

تهيؤ الأعداء لمواصلة الهجوم ..................................................................................

504

دخول الحجة إلى قلعة علي مردان خان ........................................................................

507

محاولة هجوم من قبل سيد .....................................................................................

507

إرشادات الحجة لأصحابه ......................................................................................

508

تكليف أمير النظام لصدر الدولة بحصار القلعة .................................................................

508

معاناة المحاصرين وجهودهم والإغراءات التي تعرضوا لها ....................................................

510

بطولة زينب، الفتاة القروية ....................................................................................

511

تأثير الإجهار بالدعاء من قبل الأصحاب .......................................................................

514

عريضة الحجة إلى ناصر الدين شاه ............................................................................

515

اعتقال حامل العريضة وإرسال التعزيزات .....................................................................

516

تأثير خبر استشهاد حضرة الباب على الأصحاب ...............................................................

516
الصفحة

إرسال الأمير تومان للمزيد من التعزيزات .....................................................................

517

لقاء عزيز خان المكري بالحجة ................................................................................

517

الانقضاض على القلعة .........................................................................................

518

تحذير أمير النظام إلى الأمير تومان ............................................................................

518

صد الهجوم المشترك للأعداء ..................................................................................

519

وفاة محسن ....................................................................................................

520

حفلات زفاف في القلعة ........................................................................................

520

وفاة خمسة من أبناء الكربلائي عبد الباقي ......................................................................

521

بطولة أم أشرف ...............................................................................................

522

العون المقدم من النسوة ........................................................................................

522

محاولة الأمير تومان خداع الأصحاب ..........................................................................

523

نصيحة الحجة لأصحابه .......................................................................................

526

استئناف هجوم الأعداء .........................................................................................

527

إصابة الحجة ..................................................................................................

528

الاستيلاء على القلعة، وتأثيره على المحاصرين ................................................................

529

صد الهجمات اللاحقة على الأصحاب ..........................................................................

530

مشورة الأمير تومان مع مساعديه ..............................................................................

530

حفر سراديب تحت الأرض ....................................................................................

530

وفاة زوجة الحجة وطفله .......................................................................................

531

وفاة الحجة ودفنه ..............................................................................................

531

المعركة الأخيرة ...............................................................................................

532

المعاملة التي لقيها الناجون .....................................................................................

532
الصفحة

الإساءة لجثمان الحجة، ومصير عائلته .........................................................................

537

عدد الشهداء ...................................................................................................

538

مصادر المعلومات .............................................................................................

538

الفصل الخامس والعشرون: رحلة حضرة بهاءالله إلى كربلاء ونتائجها

أحداث رواها حضرة بهاءالله ...................................................................................

540

لقاء النبيل بميرزا أحمد وحضرة بهاءالله في كرمانشاه ..........................................................

543

الإشارة إلى السيد بصير الهندي ................................................................................

545

دوافع مغادرة حضرة بهاءالله إلى كربلاء .......................................................................

547

مغادرة النبيل مع ميرزا أحمد إلى طهران ......................................................................

547

نشاطات حضرة بهاءالله في كربلاء ............................................................................

548

الفصل السادس والعشرون: الشروع في قتل الشاه ونتائجه

وفاة أمير النظام ...............................................................................................

551

عودة حضرة بهاءالله إلى طهران ...............................................................................

553

مقابلة حضرة بهاءالله مع "عظيم" ...............................................................................

553

محاولة اغتيال الشاه ...........................................................................................

553

سجن حضرة بهاءالله في سياه چال .............................................................................

557

مصير الذين حاولوا قتل الشاه ..................................................................................

565

عهد الرعب ...................................................................................................

567

الإشارة إلى الحاج سليمان خان ................................................................................

570

الإشارة إلى توبة أمير النظام ...................................................................................

571

حادثة رواها حضرة الغصن الأعظم ...........................................................................

571
الصفحة

استشهاد الحاج سليمان خان ....................................................................................

572

استشهاد الطاهرة ...............................................................................................

577

استشهاد السيد حسين ...........................................................................................

585

أحداث في سياه چال، كما رواها حضرة بهاءالله ................................................................

586

محاولات لإدانة حضرة بهاءالله ................................................................................

588

اعتراف "عظيم" ومقتله .........................................................................................

591

نهب ممتلكات حضرة بهاءالله في مازندران ....................................................................

591

نتائج الاضطرابات في يزد ونيريز .............................................................................

596

إطلاق سراح حضرة بهاءالله ونفيه إلى بغداد ...................................................................

604
***
فهرس الصور
الصورة الافتتاحية وهي ضريح حضرة الباب من الداخل
صور ألواح حضرة الباب لحروف الحي وحضرة بهاءالله:
صورة لوح أول حروف الحي الملاّ حسين البشروئي
صورة لوح ثاني حروف الحي محمد حسين (أخوه)
صورة لوح ثالث حروف الحي محمد باقر (ابن عمه)
صورة لوح رابع حروف الحي الملاّ علي البسطامي

صورة لوح خامس حروف الحي الملاّ خدا بخش القوچاني (تسمى فيما بعد بالملاّ علي)

صورة لوح سادس حروف الحي الملاّ حسن البجستاني
صورة لوح سابع حروف الحي السيد حسين اليزدي

صورة لوح ثامن حروف الحي ميرزا محمد روضة خان اليزدي

صورة لوح تاسع حروف الحي سعيد الهندي
صورة لوح عاشر حروف الحي الملاّ محمود الخوئي

صورة لوح الحادي عشر من حروف الحي الملاّ جليل الأرومي

صورة لوح الثاني عشر من حروف الحي الملاّ أحمد إبدال المراغي

صورة لوح الثالث عشر من حروف الحي الملاّ باقر التبريزي

صورة لوح الرابع عشر من حروف الحي الملاّ يوسف الأردبيلي

صورة لوح الخامس عشر من حروف الحي ميرزا هادي (ابن الملاّ عبد الوهاب القزويني)

صورة لوح السادس عشر من حروف الحي ميرزا محمد علي القزويني

صورة لوح السابع عشر من حروف الحي الطاهرة
صورة لوح الثامن عشر من حروف الحي القدوس
صورة اللوح التاسع عشر لحضرة الباب نفسه
صورة اللوح العشرين لحضرة بهاءالله "من يظهره الله"
الصفحة

محمد الزرندي، الملقب ﺑ"النبيل الأعظم" ..................................................................

LXXXVIII

الشيخ أحمد الأحسائي ....................................................................................

XCII

منظر عام للنجف ........................................................................................

5

فتح علي شاه وأنجاله ....................................................................................

7

رسم ميرزا بزرگ (والد حضرة بهاءالله) ................................................................

9

منظر كربلاء ............................................................................................

23

مدخل ضريح الإمام الحسين في كربلاء ..................................................................

24

ضريح الإمام الحسين في كربلاء ........................................................................

25

منظر الكاظمين ..........................................................................................

37

جانب من مسجد براثة ...................................................................................

38

موقع مرقد السيد كاظم (وأزيل الآن الشاهد) .............................................................

39

منزل الملاّ حسين في بشرويه ...........................................................................

43

مناظر مسجد إيلخاني في شيراز .........................................................................

45

منظر عام لشيراز .......................................................................................

46

الغرفة التي تقابل فيها حضرة الباب مع الملاّ حسين في مسجد إيلخاني ....................................

47

شجرة البرتقال التي غرسها حضرة الباب في فناء منزله في شيراز .......................................

48

موقد حضرة الباب وسماوره .............................................................................

49

الغرفة (في الجهة اليسرى) التي ولد فيها حضرة الباب في شيراز ........................................

50

ضواحي شيراز حيث كان يتنزه حضرة الباب ............................................................

50

مناظر الغرفة العليا في منزل حضرة الباب في شيراز حيث أعلن دعوته .................................

52

مناظر منزل حضرة الباب في شيراز تظهر غرفة نومه وغرفة والدته وغرفة جلوسه .....................

55
الصفحة

مناظر منزل حضرة الباب في شيراز حيث أعلن دعوته، ويبدو الباب والشباك

الأصليين، والدرجات المؤدية إلى غرفة إعلان الدعوة، والمدخل ....................................

57

مناظر الحمّام العمومي في شيراز، الذي ذهب إليه حضرة الباب في صباه ................................

61

أطلال ومدخل مقهى الأولياء في شيراز، المدرسة التي ذهب إليها حضرة الباب ..........................

65

الشجرة المدلة على مرقد نجل حضرة الباب الطفل في باب دختران، شيراز ..............................

67

مرقد زوجة حضرة الباب في شاه چراغ، شيراز .........................................................

67

صورة خط يد الطاهرة ..................................................................................

69

موقع بوابة كازران، شيراز ..............................................................................

77

سوق الوكيل، شيراز ....................................................................................

77

مدرسة نيم آورد، إصفهان ...............................................................................

85

مناظر طهران ...........................................................................................

92

آقا كليم، أخو حضرة بهاءالله .............................................................................

93

مناظر منزل حضرة بهاءالله في طهران ..................................................................

94

الطريق المؤدي إلى أطلال منزل حضرة بهاءالله الأصلي في تاكر، مازندران ............................

98

أطلال منزل حضرة بهاءالله في تاكر، مازندران .........................................................

99

الكتابة التي نقشها الوزير، ميرزا بزرگ، فوق باب منزله في تاكر، مازندران ............................

100

مناظر المنزل الذي كان حضرة بهاءالله يقطنه في تاكر، مازندران .......................................

102

مناظر غرفة حضرة عبدالبهاء في تاكر ..................................................................

103

مناظر مسجد گوهر شاد في مشهد، تظهر المنبر الذي كان الملاّ حسين يبلّغ منه ..........................

112

منظر "البابية" في مشهد ..................................................................................

113

منظر "البابية" في مشهد ..................................................................................

114

رسم مكة المكرمة .......................................................................................

117
الصفحة

القفطان الذي كان حضرة الباب يرتديه تحت الجبة .......................................................

121

القلنسوة التي كان حضرة الباب يلف العمامة حولها .......................................................

122

لباس الإحرام الذي ارتداه حضرة الباب في طوافه حول الكعبة المشرفة ..................................

123

رسم المدينة المنورة .....................................................................................

125

مناظر مسجد نوّ .........................................................................................

131

مناظر مسجد الوكيل، شيراز، تظهر قسمًا من الداخل، والمنبر الذي اعتلاه

حضرة الباب مخاطبًا المصلين، والمدخل ...........................................................

139

مناظر منزل والد القدوس في بارفروش ..................................................................

166

السيد جواد الكربلائي ....................................................................................

171

داخل منزل الحاج ميرزا سيد علي في شيراز (خال حضرة الباب) .......................................

174

منزل الحاج ميرزا سيد علي (خال حضرة الباب) ........................................................

176

منظر إصفهان ...........................................................................................

181

مناظر منزل إمام الجمعة في إصفهان، تظهر المدخل والفِناء .............................................

182

مناظر مسجد الجمعة في إصفهان، تظهر المنبر الذي صلى حضرة الباب أمامه ...........................

185

مناظر منزل معتمد الدولة في إصفهان ...................................................................

188

منظر عمارة خورشيد في إصفهان، وأطلال القسم الذي شغله حضرة الباب ...............................

192

منوچهر خان، معتمد الدولة ..............................................................................

193

منظر كاشان ............................................................................................

197

بوابة العطار، كاشان ....................................................................................

199

مناظر منزل الحاج ميرزا جاني في كاشان، تظهر الغرفة التي شغلها حضرة الباب .......................

200

مناظر قم، تظهر حرم المعصومة ........................................................................

203

قرية قمرود .............................................................................................

205
الصفحة

أطلال قلعة كنارگرد .....................................................................................

206

مناظر قرية كلين ........................................................................................

207

محمد شاه ...............................................................................................

209

الحاج ميرزا آقاسي ......................................................................................

214

منظر عام لتبريز ........................................................................................

216

قلعة تبريز حيث سجن حضرة الباب ويظهر داخل وخارج (x) غرفة حبسه ..............................

218

قلعة ماه كو .............................................................................................

221

منظر ميلان في آذربيجان ...............................................................................

236

المنازل التي عاشت فيها الطاهرة في قزوين .............................................................

252

مكتبة الطاهرة في منزل والدها في قزوين ويظهر أحد اقاربها ............................................

253

قرية شاهرود ............................................................................................

268

قرية بدشت ..............................................................................................

270

الهودج الفارسي .........................................................................................

273

قلعة چهريق .............................................................................................

277

المنزل الذي شغله حضرة الباب في أروميه وتظهر الغرفة العليا (بالاخانه) (x)

التي سكنها .........................................................................................

287

ناصر الدين شاه طفلاً وميرزا أبو القاسم القائم مقام على يمينه والحاج ميرزا

آقاسي على يساره، وفي أقصى اليسار (x) منوچهر خان، معتمد الدولة .............................

289

ناصر الدين شاه .........................................................................................

290

ناصر الدين شاه .........................................................................................

291

مشاهير المجتهدين في إيران .............................................................................

293

نمازخانه شيخ الإسلام في تبريز .........................................................................

294
الصفحة

الركن (x) الذي جلد فيه حضرة الباب على قدميه ........................................................

295

قرية نيشاپور ............................................................................................

301

مناظر قرية ميامى، تظهر خارج وداخل المسجد الذي صلى فيه الملاّ حسين

وأصحابه ..........................................................................................

303

منزل سعيد العلماء في بارفروش، مازندران .............................................................

310

مناظر خان سبزه ميدان في مازندران ....................................................................

311

ضريح الشيخ الطبرسي ..................................................................................

318

مناظر قلعة الطبرسي، تظهر قبر الشيخ وموقع الحصن الذي ضم الضريح ...............................

320

مدخل ضريح الشيخ الطبرسي في مازندران .............................................................

322

مخططات ورسوم قلعة الشيخ الطبرسي ..................................................................

323

منزل ميرزا تقي، المجتهد، في ساري، مازندران ........................................................

325

قرية أفرا ................................................................................................

333

قرية شيرگاه .............................................................................................

334

قرية ريزآب ............................................................................................

336

قرية فيروزكوه ..........................................................................................

336

قرية وسكس .............................................................................................

336

منظر آمل ...............................................................................................

340

منزل حاكم آمل .........................................................................................

340

المكان (x) الذي فتحت فيه ثغرة في حائط المسجد .......................................................

344

مسجد آمل ..............................................................................................

345

الشجرة التي أصيب منها الملاّ حسين بمقذوف ............................................................

351

قرية ديزوا ..............................................................................................

369
الصفحة

مناظر مدرسة ميرزا زكي في بارفروش وهي مرقد القدوس .............................................

379

محمد رضا (أحد أصحاب القدوس، الذي نجا من ملحمة الشيخ الطبرسي) .................................

394

ميرزا أبو طالب (أحد أصحاب القدوس الذي نجا من ملحمة الشيخ الطبرسي) .............................

396

مناظر مسجد الشاه في طهران ...........................................................................

406

مدرسة ميرزا صالح في طهران .........................................................................

409

مدرسة الصدر في طهران، تظهر الغرفة (x) التي شغلها حضرة بهاءالله .................................

410

مدرسة دار الشفاء بمسجد الشاه في طهران ..............................................................

412

سبزه ميدان في طهران حيث استشهد العديد من الأحباء ..................................................

423

بوابة نوّ، طهران ........................................................................................

424

منظر عام ليزد ..........................................................................................

428

منزل وحيد في يزد ......................................................................................

432

مناظر قلعة نارين، يزد ..................................................................................

435

منظر عام لنيريز ........................................................................................

442

منزل وحيد في نيريز ....................................................................................

444

قلعة خواجه .............................................................................................

445

غرفة وحيد في القلعة ....................................................................................

445

المسجد الجامع في نيريز ................................................................................

454

موقع استشهاد الأصحاب في نيريز ......................................................................

458

قبور الشهداء في نيريز ..................................................................................

458

مرقد وحيد في نيريز ....................................................................................

461

ميرزا تقي خان، أمير النظام .............................................................................

463

سبحة حضرة الباب وخاتمه ..............................................................................

466
الصفحة

مصحف حضرة الباب ...................................................................................

466

أطلال منزل الملاّ محمد الممقاني، مجتهد تبريز ..........................................................

472

ساحة ثكنة تبريز حيث استشهد حضرة الباب والمكان (x) الذي علّق فيه

وأطلق عليه الرصاص .............................................................................

475

موقع الخندق الذي أحاط بتبريز، حيث طرح جثمان حضرة الباب ........................................

480

مناظر إمام زاده حسن في طهران، حيث حفظت رفات حضرة الباب .....................................

482

منظر زنجان ............................................................................................

489

مناظر المسجد الذي بناه أصحاب الحجة له ...............................................................

491

خان ميرزا معصوم الطبيب في زنجان، والغرفة (x) التي شغلها حضرة الباب ...........................

498

قبر أشرف (1) وقبر والدته (2) .........................................................................

521

مدخل منزل الحجة المتهدم في زنجان ....................................................................

528

الميدان في زنجان الذي ترك فيه جثمان الحجة معروضًا ثلاثة أيام .......................................

535

الحاج إيمان (x) أحد الناجين من ملحمة زنجان ..........................................................

536

قرية أفچه، قرب طهران (ويظهر منزل حضرة بهاءالله بين الأشجار) ....................................

554

منزل حضرة بهاءالله في أفچه، قرب طهران .............................................................

554

مرغ محله، مصيف حضرة بهاءالله في شميران ..........................................................

555

منظر نياوران قرب طهران .............................................................................

557

المفوضية الروسية في قرية زركنده ......................................................................

558

الجزء الجنوبي من طهران حيث كان يعدم المجرمون والذي قتل فيه العديد

من الشهداء البهائيين، وموقع سياه چال (x) .........................................................

563

عائلة بهائية استشهدت في إيران .........................................................................

566

اجتماع الأحباء حول جثمان شهيد ........................................................................

567
الصفحة

منزل الكلانتر في طهران حيث حبست الطاهرة (الغرفة العلوية خلف الشجرة

هي الغرفة التي سكنتها) ............................................................................

576

أزياء سيدات إيران في أواسط القرن التاسع عشر (المنزلي والخارجي) ...................................

579

موقع حديقة إيلخاني حيث استشهدت الطاهرة .............................................................

580

منظر عام لتاكر في مازندران ...........................................................................

592

أطلال منزل حضرة بهاءالله وكان ملكًا لوالده الوزير، في تاكر، مازندران ................................

593

منظر آباده ..............................................................................................

597

حديقة الرحمن، مدفن رؤوس شهداء نيريز ...............................................................

598

مناظر بغداد .............................................................................................

603

منزل حضرة بهاءالله في بغداد ...........................................................................

615

مناظر ضريح حضرة الباب مزينًا بالأنوار على جبل الكرمل .............................................

620

خريطة إيران ...........................................................................................

631
صفحة خالية
صور خط يد حضرة الباب في ألواحه
لحروف الحيّ وحضرة بهاءالله
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب لأول حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى ثاني حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى ثالث حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى رابع حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى خامس حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى سادس حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى سابع حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى ثامن حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب إلى تاسع حرف من حروف الحيّ
صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف العاشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف الحادي عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف الثاني عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف الثالث عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف الرابع عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف الخامس عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف السادس عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف السابع عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف الثامن عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية

صورة لوح حضرة الباب إلى الحرف التاسع عشر من حروف الحيّ

صفحة خالية
صورة لوح حضرة الباب لمن يظهره الله (بهاءالله)
صفحة خالية
مقدمة

اشتهرت الحركة البهائية الآن في جميع أنحاء العالم وجاء الوقت الذي فيه يهتم القراء بتصفح تاريخ النبيل الفريد عن أوائل حوادث هذه الحركة التي وقعت في أظلم عهود إيران. فهذا التاريخ الذي دُوّن برعاية وتكريس عظيمين مدهش من جهات متعددة. ففيه فقرات مثيرة للمشاعر، ويكتسب الكتاب قيمة تاريخية كبيرة وقوة معنوية فائقة نظرًا لبهاء مواضيعه الرئيسة وسنائها. فأنواره لامعة ذات أثر بليغ لأنها تبدو كالشمس الطالعة وسط ديجور الليل الحالك. والرواية عبارة عن ملاحم واستشهادات، وعديدة هي مناظرها المؤثرة وحوادثها المفجعة. ونجد كيف تكاتف الفساد والتعصب والقسوة ضد الحركة الإصلاحية للقضاء عليها، وينتهي هذا المجلد من التاريخ إلى حيث تكون سورة البغض والعدوان قد أتمت هدفها وانتهت في إيران بنفي وقتل كل رجل وامرأة وطفل يجرؤ على إظهار تعاطف مع تعاليم الباب.

وكان النبيل الذي شارك في بعض الأدوار التي يقصها قد أمسك بقلمه الفريد ليكتب الحقيقة عن رجال ونساء اضطُهدوا بلا رحمة ولا شفقة، وعن حركة انتُهكت بنحو خطير.

ويكتب تاريخه بسلاسة ويسر، وعندما تهيج مشاعره بقوة ينشط أسلوبه ويتفعّل. ولا يعرض دعاوى بهاءالله ومبشره وتعاليمهما بنظام معين. بل كان هدفه بسيطًا يتلخص في استرجاع بدايات الظهور البهائي وتخليد ذكرى مناقب أبطاله الأوائل. فيسرد سلسلة

من الأحداث ويتحرى مصدر كل خبر يرويه ويذكره بالدقة ويذكر اسم راويه. لذلك فإن لأثره الأدبي قيمة كبيرة كرواية حرفية متطابقة لما يعرفه أو يمكنه أن يكتشفه من مصادر موثوقة عن بدايات تاريخ الأمر، وإن كان ذلك الأثر الأدبي لا يعتمد كثيرًا على المهارة والفلسفة.

ومن أهم معالم تاريخه، التي تتحدث بلغة واضحة يمكن لأي قارئ أن يفهمها، نجد شخص الباب البطل القدسي الرئيس الوديع الهادئ الراسخ، ونجد إخلاص أتباعه في وجه الظلم بشجاعة وإقدام وأحيانًا بشغف ولذة، ونجد حنق المؤسسة الدينية المتعصبة أي العلماء الذين أشعلوا لمصالحهم الشخصية نيران التعصبات في قلوب العوام المتعطشين لسفك الدماء. وليس من السهل متابعة ذلك التاريخ بكل تفاصيله أو تقدير ذلك العمل المذهل الذي اضطلع به بهاءالله ومبشره دون الإطلاع ولو قليلاً على حالة النظام الديني والحكومي في إيران وعلى عقلية الشعب وعقلية رؤسائه. وقد اعتبر النبيل الحالة المذكورة بأنها معروفة للقارئ، لهذا كله رأينا أن نبسط للقارئ الغربي بعض المعلومات عن الموضوع، ذلك لأن النبيل لم يسافر خارج حدود بلاد الشاه والسلطان إلا نادرًا إن لم يكن قطعًا فلم يخطر بباله عمل مقارنة بين مدنية بلاده والمدنيات الأجنبية. ولم يكن يخاطب القارئ الغربي. ومع أنه كان يعلم أن المعلومات التي جمّعها سوف لا تقتصر في ذيوعها على أهل وطنه أو على البلاد الإسلامية وأنها لا بد أن تذاع في القريب العاجل شرقًا وغربًا حتى تعم العالم، ومع ذلك فهو شرقي يكتب بلغة شرقية لأولئك الذين يستخدمون تلك اللغة، وكان العمل الأدبي الذي أنجزه فريدًا عظيمًا شاقًا.

وهناك كتابات أدبية بالإنگليزية عن إيران في القرن التاسع عشر تعطي القارئ الغربي معلومات وافية حول الموضوع. كما يمكنه أن يجد في بعض الكتابات الفارسية التي ترجمت إلى اللغات الأجنبية، وفي كتب السائحين من الأورپيين أمثال اللورد كرزون والسير ج. مالكولم وكثير غيرهما، صور واقعية واضحة، وإن كانت غير جميلة، عن الأحوال الفاسدة التي كان على الباب أن يواجهها عندما أسس الحركة في أواسط القرن التاسع عشر.

ويتفق المراقبون جميعهم على أن إيران مملكة ضعيفة متأخرة منقسمة على نفسها بما دبّ فيها من عوامل الرشوة والتعصبات الوحشية. وامتلأت البلاد بالبؤس والتعاسة وعدم الفاعلية نتيجة الانحلال الخلقي. فمن أعلى درجات المجتمع إلى أدناها لم تبدُ هناك قدرة على خلق وسائل للإصلاح أو حتى الإرادة الجادة لتأسيس الإصلاحات. فالغرور القومي جعل الناس راضين بعظمة موهومة. فلبست جميع الأشياء رداء الجمود وأصبح التقدم مستحيلاً من تأثير الشلل العقلي العام.

ومما يؤسف له ما يظهر لدارس التاريخ من عوامل الفساد التي دبت في أمة كان لها نفوذ وعظمة في الماضي. وكان عبدالبهاء، رغم المظالم التي وقعت على بهاءالله والباب وعليه شخصيًا، يحب أمّته، ويسمي ذلك الانحطاط في كتابه "أسرار المدنية الإلهية" بمأساة الأمة، وفي كتاب "قوى الحضارة الخفية" سعى لتحريك قلوب مواطنيه للعمل على إصلاحات جذرية، وكان ينوح على ما آل إليه حال ذلك الشعب بعد أن كان في الأزمان القديمة يمد فتوحاته شرقًا وغربًا ويقود المدنية الإنسانية. وكتب يقول: "إن إيران كانت في الأزمان الخالية قلب العالم وأضاءت بين جميع الأمم كالسراج الوهاج وأخذ مجدها ورخاؤها يظهران في أفق الإنسانية كالفجر الصادق الناشر لأنوار المعرفة وأضاءت أمم الشرق والغرب. وكانت شهرة ملوكها الظافرين قد وصلت أسماع سكان قطبَي الأرض. وكانت عظمة ملك الملوك فيها قد أخضعت وأذلّت ملوك اليونان وروما وامتلأ جميع الحكماء رهبة من حكمتهم في الحكم واحتذى ملوك العالم حذوها في صياغة القوانين مقتفين آثارها ومتتبعين سياستها. وامتاز الفرس من بين ملل الأرض بأنهم أمة الفتوحات، وكانت جديرة بالإعجاب لحضارتها وعلومها. وأصبحت بلادهم مركزًا للعلوم والمعارف والصنائع ومعدنًا للتربية والثقافة ومنبعًا للفضائل والكمالات... والآن انظر كيف أظلمت أشعة السعادة والرخاء في هذه المملكة الفائقة وأشرفت على الزوال بسبب ما دبّ فيها من عوامل الكسل والغرور وعدم المبالاة وانعدام التعليم وفقد التنظيم وزوال الحماس والطموح!"

كما وصف هذه الأحوال التعيسة التي تكلم عنها عبدالبهاء كتّاب آخرون.

ففي الوقت الذي أعلن فيه الباب دعوته كانت حكومة البلاد، حسب ما قاله اللورد كرزون، "عبارة عن حكومة دينية مرتشية قاسية فاسقة. وكان الإسلام المتشدد هو الأساس الذي استولى على شئون الحكومة وحياة الأهالي الاجتماعية. وليس سواها من قوانين ولا أحكام ولا مواثيق يسترشد بها في العلاقات العامة. ولم يكن لديهم مجلس أعيان ولا مجلس نواب ولا مجمع ديني ولا مجلس لوزراء الدولة بل كان الشاه هو الحاكم المطلق المستبد وأمره نافذ على جميع الموظفين من وزير أو حاكم إلى أحقر كاتب أو أقصى زعيم. ولا توجد محكمة مدنية لتوقف أو تعدل أحكامه أو تحد من السلطة التي يعطيها لأي مرؤوس. وإذا كان هناك قانون فهو كلمته، فله أن يفعل ما يشاء ويعين أو يطرد الوزراء أو الموظفين والضباط والقضاة. وله وحده السلطة على حياة أو موت أي فرد من أفراد أسرته أو حاشيته سواء كانوا مدنيين أو حربيين فهو وحده يملك حكم الإعدام وبيده جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية فلا حد لامتيازه ولا رادع من قانون مكتوب.

وكان أنجال الشاه يوظفون في الحكومة ويحشرون في الوظائف التي تدر عليهم بالخيرات في طول البلاد وعرضها وبمرور الأجيال ملأوا أيضًا الوظائف الصغيرة مما لا يعد ولا يحصى حتى أثقلوا كاهل البلاد بهذا الجيش الجرار من الزنابير الملكية الذين لا سبب لتوليتهم المناصب الحكومية إلا مجرد دمهم الملكي حتى اشتهر بسبب ذلك مثل قائل ’إن الجِمال والقمل والأمراء موجودون في كل مكان.‘

وحتى إذا أراد الشاه أن يحكم في مسألة أو يتخذ قرارًا بالعدل والصواب في أية قضية ترفع إليه فلا يستطيع ذلك لأن المعلومات التي تصله لا يمكن التعويل عليها إذ يعمل الوزراء الفاسدون وغيرهم من ذوي المصالح على إخفاء الحقائق عنه أو تقديمها إليه مشوهة. أما نظام الرشوة فأصبح في إيران نافذًا ومن الأنظمة المعترف بها ووصفها اللورد كرزون بما يأتي:

﴿والآن آتي على وصف نظام الإدارة الإيرانية الأساسي الفريد. فإن الحكومة بل الحياة نفسها في تلك المملكة يمكن أن يقال عنها أنها عبارة عن تبادل الهدايا. وقد يظن

من الوجهة الاجتماعية أن هذه العادة إنما تعبر عن إحساس شعب ودود ولو أن لها هنا وجهًا مظلمًا غير عاطفي عندما يهنئ المهدى له نفسه على استلام هدية ثم يجد أن عليه أن يعيد مثلها للواهب، فضلاً عن إلزامه أيضًا بأن يهدي لحامل الهدية جزءًا نسبيًا لقيمتها وأحيانًا يكون ذلك هو كل ما يملكه المهدى له بل وربما ما يقتات به. أما من الوجهة السياسية فإن عادة الإهداء ولو أنها متعلقة بقواعد وتقاليد الشرق الجامدة إلا أنها تنطبق كل الانطباق على ذلك النظام غير المشرف. وهو الذي اتبعته حكومة إيران من قرون عديدة وهو الذي يقف حجر عثرة في سبيل الإصلاح الحقيقي. فمن الشاه إلى أصغر موظف لا يوجد مسؤول لا يقبل الهدايا ولا تكاد توجد وظيفة لا يكون التعيين فيها بغير الهدايا ولا يوجد إيراد مكدس إلا من الهدايا وكل موظف يشتري وظيفته بمبلغ يقدمه إما إلى الشاه مباشرة أو للوزير أو الحاكم الأعلى الذي يعينه. وإذا كان لوظيفة واحدة جملة طلاب فالذي تكون هديته أكبر هو الذي يكون مقبولاً فيها.

... إن نظام "المداخل" من الأنظمة القومية المحبوبة في إيران، ويعتبر تحصيلها بآلاف الطرق والأشكال التي تتعدد تدابير تحصيلها بتعداد أنواعها، قمة مصالح ومباهج المواطن الإيراني ويقول السيد واطسون أنه لا توجد أي كلمة في اللغة الإنگليزية يمكن أن تعبر بدقة عن هذا النظام. فيمكن ترجمة كلمة "مداخل" بكلمات العمولة والمنحة والرشوة والمكافأة والغنيمة والنشل والمربح، وذلك تبعًا للسياق الحاضر التي استعملت فيها. وتعني بوجه عام ذلك التوازن في المنفعة الشخصية التي يعبر عنها بمبلغ من النقود مما يُدفع لقاء كل معاملة. فيصح وجودها أثناء مفاوضة بين فريقين يعتبر أحدهما متبرعًا والآخر مستلمًا أو بين رئيس ومرؤوس وفيما بين اثنين من المتعاملين المتعاقدين المتكافئين في إيران ولا بد أن يكون أحد الفريقين هو الدافع للهدية لغرض الحصول على منفعة والآخر هو الذي يستلم مبلغًا معينًا من النقود في مقابل الخدمة التي يؤديها له. ويمكن الاعتراض طبعًا بأن الطبيعة البشرية هي واحدة في كل مكان في العالم وأن مثل هذا النظام موجود في مملكتنا كما هو في الممالك الأخرى تحت اسم آخر، وأن الناقد الفيلسوف سيرحب في الإيراني رجلاً وأخًا. ورغمًا من أن هذا الاعتراض وجيه إلى حد ما، إلا أنني لم أشاهد أو أسمع

بأي دولة في العالم يوجد فيها نظام مكشوف إلى هذا الحد ومنتشر بشكل عام ولا حياء فيه كما هو الحال في إيران. وفضلاً عن أنه لم يكن قاصرًا على دائرة الاقتصاد المحلي أو المعاملات التجارية فإنه يتغلغل في كل عمل ويقترن بجميع المرافق الحياتية. وبمزاولته محيت صفة الكرم أو الخدمة المجانية من قائمة الفضائل الاجتماعية في إيران ورُفع الجشع إلى منزلة المبدأ الرئيس في السلوك الإنساني... وقد تأسست بسبب ذلك سلسلة من الهيئات المتوالية الحسابية للسلب والنهب من الملك إلى أفراد الرعية، وكل وحدة في السلم التنازلي تنتفع من الوحدة التالية الأدنى في الرتبة، وأصبح الفلاح المسكين هو الضحية الأخيرة. فلا عجب أن تكون الوظائف بمقتضى هذا النظام هي السبيل العادي للحصول على الثروة. خصوصًا وقد شوهد في كثير من الأحوال أن الموظفين أصبحوا بعد الفقر المدقع من ذوي الثروات العظيمة ويقطنون في منازل فخمة تحوطهم حاشية كبيرة من الخدم والحشم يعيشون في رغد من العيش كالأمراء. وكانت القاعدة المتبعة عند أغلب الناس عند دخولهم في الحياة العامة هي "اجمع من المال كل ما تستطيع طالما كنت تستطيع." ولم تكن هذه الأعمال ممقوتة من الوجهة الاجتماعية قط وكان الناس يعتبرون من تهيأت له الفرصة ولم يملأ جيوبه من هذه (المداخل) أنه شخص لا يحترم نفسه ولم يفكر أحد من الرؤساء في هؤلاء البؤساء غير المشتكين ممن تسلب من عرق جبينهم هذه المداخل المتلاحقة لتصرف على بناء وتهيئة المنازل الريفية الفخمة وعلى البضائع الأوروپية وعلى الحاشية الكبيرة.﴾

ومن قراءة ما تقدم من السطور يمكن أن يفهم مقدار الصعوبة التي عاناها حضرة الباب في رسالته وكذلك سيفهم من السطور الآتية مما قاله اللورد مقدار الخطر الذي كان يتهدد حياة حضرة الباب وتجعل القارئ يستعد لأن يسمع رواية القسوة الوحشية الممقوتة التي عومل بها:

﴿وقبل أن أترك موضوع القانون الإيراني والإدارة الإيرانية دعني أضيف بعض الكلمات في موضوع العقوبات والسجون. فلا شيء يدهش القارئ الأوروپي أكثر من وصف العقوبات الوحشية والتعذيب المفجع أثناء قراءته صفحات تاريخ إيران الملطخة

بالدماء والإجرام في القرن المنصرم -وفي القرن الحالي بدرجة أخف نوعًا ما- وكلها تشهد بالقسوة الوحشية والخبث الشيطاني. وكانت غرائز أهل إيران تميل إلى استنباط الحيل في اختراع أنواع العقوبات ولم يكن عندهم اكتراث بالآلام الناتجة عنها. ويظهر ذلك بجلاء في ميدان التنفيذات القضائية التي هي محل ظهور كلتي الطبيعتين. وكان من عهد قريب وفي حدود الحكم الحالي يصلب المجرمون أو يقذفون من المدافع أو يدفنون أحياء أو يعدمون بإجلاسهم على الخازوق أو ينعلون بحوافر كالخيول أو يشطرون شطرين بواسطة ربطهم في رأس شجرتين تضمان على بعضهما بقوة ثم يفك ربطهما حتى تعودان إلى مكانهما الطبيعي وتكون الجثة في هذه الأثناء قد انفسخت شطرين أو تعمل منهم مشاعل إنسانية أو تسلخ جلودهم وهم أحياء.

... وكان من جراء وجود نظام حكم مزدوج -كالذي وصفته بأن يكون العامل في إدارته شخصان أحدهما راشي والآخر مرتشي ويكون الإجراء القضائي بلا قانون ولا محاكم– عدم وجود أي ثقة في الحكومة ولا في أي شعور بالواجب ولا في الفخر بالشرف ولا في الثقة المتبادلة ولا في التعاون (إلا على الضرر) ولا خجل في الفضيحة ولا فائدة في الفضائل وفوق ذلك لا روح وطنية.﴾

ومن أول يوم قام فيه حضرة الباب على الدعوة تنبأ بالاستقبال الذي سيبديه مواطنوه لتعاليمه وبالمصير الذي سوف يلاقيه على أيدي الملاّوات (العلماء). ولكنه لم يسمح للاعتبارات الشخصية أن تمنعه من إعلان دعوته بكل صراحة ولا عن إظهار أمره جليًا. وكانت التجديدات التي أعلنها شديدة الوقع ولو أنها كانت دينية محضة. وكان إعلان مقامه مدهشًا خطيرًا. فإنه أظهر نفسه بأنه القائم الموعود والرسول الجليل أو المسيح المنتظر الذي كان العالم الإسلامي يترقب ظهوره بفروغ صبر. وأضاف إلى ذلك إعلانه أنه الباب الذي يعبر منه مظهر آخر أعظم منه إلى عالم الإنسان.

وإذ طبق الأحاديث الإسلامية على شخصه وأظهر أنه هو المقصود من النبوات وقع بينه وبين أصحاب الأفكار الجامدة العتيقة نزاع لأنهم يفسرون هذه الأحاديث على خلاف ما يدعيه. ومع أن كلتي الفرقتين العظيمتين من الفرق الإسلامية وهما

الشيعة وأهل السنة علّقتا أهمية كبيرة على وديعة دينهم المقدسة إلا أنهما لم يتفقا على تفسيرها ودلالتها. فتقول الشيعة التي منها ظهرت الحركة البابية بظهور اثني عشر إمامًا خلفاء للرسول وهم يعتقدون أن كلاً منهم ملهم بمواهب وقوى روحية. وأن واجب المؤمنين إطاعته وأن تعيينه لا يكون بالانتخاب بل أن كل سلف منهم يعين كل خلف. وكان آخر هؤلاء الأئمة الملهمين يدعى محمد ويسمونه بالإمام المهدي حجة الله وبقية الله وقائم آل محمد، وتولى منصب الإمامة سنة 260 هجرية ولكنه اختفى فجأة عن الأنظار وكان يتصل مع أتباعه بواسطة وسيط مختار اسمه الباب. وظهر من هؤلاء الأبواب أربعة وتتابعوا بموافقة الإمام. ولما حضرت منية الباب الرابع أبي الحسن عليّ لم يوصهم بآخر بعده بل قال لهم إن لله شأنًا آخر. وبوفاته انقطعت الصلة بين الإمام وهيئته الدينية. ويعتقد الشيعة أيضًا أن الباب حيّ ومنتظر في مكان مجهول ومحاط بفئة من الأتباع وأنه لا يعود لمعاشرة قومه إلا عند مجيئه مقتدرًا لتأسيس العصر الألفي السعيد في أنحاء العالم.

أما أهل السنة فلا ينظرون إلى خلفاء الرسول الكريم بهذا النظر السامي فهم يعتبرون خلافته مسألة مادية لا علاقة لها بالروحانية. والخليفة في نظرهم هو حامي الدين ويرتبط تعيينه بانتخاب الناس وقبولهم.

ورغم أهمية تلك الفروق، فإن كلا الفريقين ينتظر ظهورين. فالشيعة تنتظر ظهور القائم الذي يظهر في أواخر الأيام، وتنتظر كذلك رجعة الإمام الحسين. أما أهل السنة فينتظرون ظهور المهدي ورجعة يسوع المسيح. ولما ابتدأ حضرة الباب بإظهار دعوته تلقب أولاً بالقائم ثم بالباب فلم يفهم بعض المسلمين مقصده من اللقب الثاني، وظنوه الباب الخامس الذي خلف أبا الحسن عليّ. ولكن الذي قصده الباب كان مخالفًا لهذا الظن كما قرر ذلك بنفسه. فهو القائم الموعود، ومع أنه نبي عظيم، إلا أنه بالنسبة للظهور الذي يتلوه كان كيوحنا المعمدان بالنسبة للمسيح مبشرًا بظهور أعظم منه. وكان أمره ينقص وأمر من جاء بعده يعلو ويزيد. وكما كان يوحنا المعمدان مناديًا وبابًا للمسيح كذلك كان حضرة الباب مناديًا وبابًا لحضرة بهاءالله.

هناك العديد من الأحاديث الصحيحة التي تدل أن القائم عند ظهوره يأتي بأحكام جديدة تنسخ الأحكام القديمة. ولكن هذا المفهوم لم يكن مقبولاً عند العلماء الذين كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الأمر الجديد لا يمكن أن يؤسس دينًا أقوى من القديم، بل يروج النظام القديم الذي يقومون هم على تنفيذه، وأن الأمر الجديد سيزيد في احترامهم وتبجيلهم إلى حد كبير، وينشر سلطتهم شرقًا وغربًا بين الأمم ويلزم الشعوب بالخضوع التام لهم والامتثال لأوامرهم. فلما أظهر حضرة الباب كتابه "البيان" وأتى بشريعة جديدة وأسس إصلاحًا أدبيًا واجتماعيًا متينًا ليكون مقتداهم ونبراسًا لهم شعر هؤلاء بالخطر الداهم. ووجدوا أن امتيازهم قد تقوض وأن أطماعهم قد تبددت وأن حياتهم وثروتهم قد انحطت في درجات الاحتقار. فقاموا لذلك ضده قومة رجل مندهش متذرع بالديانة وقرروا أمام الشاه والرعية أن هذا المدّعي عدو للعلم السليم، وموهن للإسلام، وخائن لدين محمد، وخطر لا على الدين المقدس فحسب بل على الهيئة الاجتماعية وعلى الدولة نفسها.

فكان إنكار حضرة الباب وأمره واضطهاده شبيهًا في جوهره بإنكار المسيح واضطهاده ولو كان المسيح لم يأت بكتاب جديد ولم يردد سوى الأصول الروحية التي علّمها موسى بل لو كان أمر باستمرار قوانين موسى لكان يعتبر مصلحًا أدبيًا وينجو من انتقام الكتبة والفريسيين. ولكن مجرد الادعاء بأن أي جزء من قوانين أو شريعة موسى حتى الأوامر المتعلقة بالأمور المادية كالطلاق وحفظ السبت يمكن تغييرها بمعرفة شاب من قرية الناصرة يعتبر خطرًا على مصالح الكتبة والفريسيين أنفسهم، لأنهم كانوا وكلاء موسى ووكلاء الله، وإن ذلك التغيير عبارة عن تجديف على الحق. وما كاد مقام المسيح يُعرف حتى ابتدأ اضطهاده، فلما امتنع عن الرجوع عن دعوته قتلوه.

لمثل هذه الأسباب اتهم الباب من أول أمره من رؤساء الديانة بأنه هادم لأساس الدين. ومع ذلك، وحتى في تلك المملكة المظلمة المتعصبة، لم يجد الملاّوات (مثل الكتبة في فلسطين قبل ثمانية عشر قرنًا) ذريعة سهلة يقدمونها لإهلاك ذلك الشخص الذي اعتقدوه عدوهم.

لم يدوّن في الصحائف ذكر مشاهدة أي أوروپي للباب إلا أثناء الفترة التي كان مضطهدًا فيها، فإن طبيبًا إنگليزيًا مقيمًا في تبريز اسمه الدكتور كورمِك دعي من السلطات الإيرانية لفحص قوى الباب العقلية. وكان خطاب الطبيب الذي أرسله إلى زميل في الإرسالية الأمريكية إلى إيران قد أورده الپروفسور براون في كتابه المسمى "مواد لدراسة الدين البابي". وكتب الدكتور: ’وإنك تسألني عن تفاصيل مقابلتي لمؤسس هذه الفرقة المعروفة بالبابية. لم يحصل في هذه المقابلة أمر مهم لأن الباب كان يعلم أني أرسلت مع اثنين من الأطباء الإيرانيين لفحص قواه العقلية حتى يمكن الفصل في إمكان إعدامه من عدمه، ولذلك كان يكره الإجابة عن أسئلتنا. وردًا على كافة الأسئلة كان ينظر إلينا نظرة هادئة وهو يتلو، على ما أعتقد، مناجاة بصوت منخفض موسيقي. وكان يوجد معه سيّدان من الأشراف من أعز أصحابه، وأعدما أيضًا فيما بعد، وكان عنده أيضًا اثنان من موظفي الحكومة. ولم يجبني سوى مرة واحدة عندما قلت له إنني لست مسلمًا وأريد أن أعلم شيئًا عن ديانته لأني ربما اعتنقتها. فدقق النظر فيّ إذ ذاك وأجاب إنه لاشك عنده أن جميع الأوروپيين سوف يؤمنون بدينه. فقدمنا تقريرنا إلى الشاه وقتئذ يوصي بعدم إعدامه. ولكنه أعدم فيما بعد بأمر أمير النظام، ميرزا تقي خان. وأما بعد تقديم تقريرنا مباشرة فقد أوقعوا عليه فقط عقوبة الجلد على قدميه، وفي أثناء ذلك ضربه الفرّاش على وجهه، سواء قصدًا أو دون قصد، فأحدث كدمًا كبيرًا في الوجه. ولما سُئل هل يرغب في حضور طبيب إيراني فأبدى إنه يرغب حضوري أنا لمعالجته. فعالجته بضعة أيام ولكنه في هذه المقابلات لم يمكن التكلم معه سرًا لأن بعض موظفي الحكومة كانوا دائمًا حاضرين للمراقبة لأنه كان سجينًا. وكان شاكرًا جدًا لعنايتي به. كان لطيفًا جدًا ورقيق الملامح ذا جسم نحيف أبيض البشرة بالنسبة لإيراني، وله صوت ناعم موسيقي أثّر فيّ كثيرًا. ولما كان سيدًا كان يرتدي ملابس الأشراف كعادة هذه الفئة، وكذلك كان صاحباه. وعلى وجه العموم كانت هيئته وتصرفه على شأن يجعل المرء يميل إليه. ولم أسمع منه شيئًا خاصًا بديانته ولو أنه شاع أن في دينه شبهًا كبيرًا بالمسيحية. وقد رآه كثير من النجارين الأرمن، الذين أرسلوا لإجراء صيانة في السجن، وكان يقرأ الكتاب المقدس ولم يجتهد

في إخفائه بل بالعكس كان يتكلم معهم بخصوصه. وبكل تأكيد لا يوجد في دينه ذلك التعصب الإسلامي بالنسبة للديانة المسيحية ولا فيه ذلك التقييد المفرط للمرأة.‘

على هذا النحو كانت آراء رجل إنگليزي مهذب فيما يختص بشخصية حضرة الباب. ومنذ أن انتشرت تعاليمه وآدابه في الغرب لم يعلم أن شاهده أحد آخر من الأوروپيين خلاف من ذكر.

ويندر أن تجد مثل أخلاقه في النبل والحسن. وشخصيته وديعة ولكنها قوية ومؤثرة، ويمتزج لطفه بالحكمة واللباقة حتى إنه بعد إعلان دعوته عرف بسرعة في جميع أنحاء إيران بشخصيته المحببة. وكان حلو الحديث جذابًا لكل من يقابله أو يتصل به وكثيرًا ما كان سجّانوه يعتقدون في دينه وكان يتمكن من قلب أخلاق المفسدين إلى محاسن الأخلاق فيصبحون من أصحابه المعجبين به.

لم يكن من السهل في إيران في أواسط القرن الماضي إرغام مثل هذا الشخص على السكوت بسهولة دون إثارة سخط الأهالي ولو بدرجة محدودة، أما بالنسبة لأتباع حضرة الباب فكان الأمر على خلاف ذلك.

ولم يجد الملاّوات (بخصوص أتباع الباب) داعيًا للتعويق ولم يكونوا في احتياج إلى التدبير أو الاحتيال لأن التعصب الموجود في نفوس الجميع من الشاه إلى أحقر شخص يمكن إثارته بسهولة ضد أي إصلاح ديني كما أنه يسهل اتهام البابيين بعدم الطاعة أو الولاء للشاه ويمكن بذلك إسناد الأغراض السياسية الشنيعة إلى أنشطتهم. وفضلاً عن ذلك فإن أتباع حضرة الباب كانوا عديدين وكان كثير منهم ميسوري الحال وبعضهم أغنياء ذوي ثروات طائلة وكان القليل منهم يمتلك عقارات يحسدهم عليها الجيران ويودّون من صميم أفئدتهم تملّكها وإذ تذرع الملاّوات بتخويف السلطات وبأهواء التعصبات القومية والجشع العام أثاروا حربًا شعواء للتخريب والتدمير نفّذا بوحشية وبلا رحمة حتى قضوا مآربهم للنهاية.

قص النبيل كثيرًا من حوادث هذه الرواية المحزنة في تاريخه وخاصة في ذكر وقائع مازندران ونيريز وزنجان التي اقترنت بمآثر الشجاعة الصادرة من البابيين إلى أن

انتهت هذه الحوادث الثلاث التي اضطر البابيون فيها أن ينسحبوا من منازلهم ويلتجئوا إلى المعاقل التي اتفقوا عليها بينهم حيث رأوا أنهم في حالة يأس تام واشتغلوا بتحصين مراكزهم حتى أمنوا من الهجوم عليهم. ويظهر لكل مراقب منصف أن ادعاء الملاّوات عليهم بأنهم قاموا بدافع سياسي كان كاذبًا، فكثيرًا ما أعلن البابيون استعدادهم للعودة إلى منازلهم إذا تأكدوا أن العامة لا تهاجمهم أو تتعدى عليهم بسبب معتقداتهم. ويؤكد النبيل حرصهم على عدم التعدي. فكانوا لا يقاتلون إلا للدفاع عن النفس فقط بمهارة وقوة، وما كانوا يهاجمون. حتى في معمعان القتال كانوا لا يضربون ضربة غير لازمة ولا يستغلون موقف القوة.

وقال عنهم حضرة عبدالبهاء في "مقالة سائح" (الصفحتان 23-24، الطبعة العربية، وجرى هنا بعض التعديل على الترجمة) ذاكرًا موقفهم الخلقي بما يأتي:

’أجل، أصدر الوزير (ميرزا تقي خان) بالاستقلال التام دون استشارة ولا استئذان الأمر إلى أطراف إيران بتأديب البابيين وتعذيبهم فألْفَت الحكام وولاة الأمور سبيلاً إلى الاكتساب ووجد المأجورون وسيلة لاغتنام المنافع. وقام العلماء المعروفون على رؤوس المنابر يحضّون ويحرّضون الناس عمومًا على القيام بهجوم عام. فتحاضنت قوتا التشريع والتنفيذ واصطلحا على مقاومة وقمع تلك الطائفة التي لم تكن بعد واقفة على قواعد وأسرار مبادئ الباب وتعاليمه كما يليق وينبغي وما كان لها إلمام بالتكاليف نفسها، وكانت تصوراتها وأفكارها حسب العوائد الماضية وسيرها وسلوكها طبق التقاليد القديمة. وطريق الوصول إلى الباب والاقتباس منه مسدود ونار الفتنة مشتعلة مشهودة من كل الجهات. وبفتوى مشاهير العلماء شرع الحكام والولاة بل الغوغاء والعامة في جميع الأنحاء بكل البطش والقهر تشن الغارات عليهم وتغتصب أموالهم وتنكل بهم وتستبيح دماءهم ظنًا أن ذلك يطفئ من لهيب هذه النار ويخمد أنفاسهم. وفي المدن التي كان تعدادهم فيها قليلاً غُلّت أيديهم جميعًا وصاروا برمتهم طعمة السيف. أما في المدن التي كان عددهم فيها كثيرًا دافعوا عن أنفسهم حسب العقائد السابقة إذ كان السؤال عما يجب فعله غير ميسور أمامهم وجميع أبواب النجاة مسدودة.‘

أما حضرة بهاءالله، فعند إعلان دعوته بعد ذلك ببضع سنين، لم يترك مجالاً للشك بخصوص الحكم الوارد في دورته عند حصول تلك المصائب حيث يؤكد: "خير لكم أن تُقتلوا من أن تَقتلوا."

ومهما يكن من أمر المقاومة التي حصلت من البابيين هنا وهناك، فلم تكن ذات نفع. وتغلبت عليهم كثرة الجموع. وأخذوا الباب نفسه من زنزانته وأعدموه. أما كبار تلاميذه الذين أعلنوا إيمانهم به، فلم يتركوا أحدًا منهم حيًّا سوى بهاءالله، الذي نفي هو وأسرته وبعض المخلصين من الأتباع وسجن في بلاد أجنبية.

ومع أن النار أطفئت فإنها لم تخمد. بل كانت تشتعل في قلوب المنفيين الذين انتقلوا بها من قطر إلى آخر بينما هم يرتحلون. وحتى في موطنهم في إيران كانت قد تأسست وتأصلت تأصلاً عميقًا بحيث يصعب إطفاؤها بالقوة الغاشمة بل بقي وميض النار في القلوب منتظرًا هبوب أنفاس من الروح ليضطرم إلى لهب نار مشتعلة لا تبقي ولا تذر.

أما الظهور الإلهي الثاني الأعظم فقد أعلن طبقًا للنبوءة الصادرة من الباب في الوقت والسنة التي أنبأ عنها. ففي السنة التاسعة من ظهور الباب، أي في سنة 1853م، أعلن بهاءالله في بعض أشعاره أنه هو المقصود من تلك النبوءات وبعد مرور عشر سنوات بينما كان مقيمًا في بغداد أعلن نفسه لأصحابه أنه هو الموعود.

والآن ظهر الأمر العظيم الذي كان الباب يهيئ الطريق إليه وابتدأ في دور عظمته بكل قوة، ومع أن بهاءالله عاش وتوفي وهو منفي سجين ولم يكن معروفًا للأوروپيين إلا قليلاً فإن ألواحه التي أعلن فيها الظهور الجديد قد أرسلها لعظماء الملوك في نصفَي الكرة الأرضية من شاه إيران إلى البابا ورئيس الولايات المتحدة. وبعد صعوده قام نجله عبدالبهاء وسافر بنفسه لإعلان الأمر في مصر وفي العالم الغربي. وزار عبدالبهاء إنگلترا وفرنسا وسويسرا وألمانيا وأمريكا معلنًا في كل مكان أن السماء قد فتحت وأن دورة جديدة قد بدأت ومعها البركات الإلهية لتحل على أبناء الإنسان. وتوفي في نوڤمبر /تشرين الثاني سنة 1921م. واليوم عادت هذه النار لتضطرم مرة أخرى في جميع أنحاء إيران بعد أن بدت أنها أطفئت إلى الأبد. وترسخت في القارة الأمريكية وفي كل قطر في العالم. والآن

قد تناولت الأيدي كتابات بهاءالله وعبدالبهاء وشرحوا تعاليمها حتى نتجت عن ذلك مؤلفات جسيمة في شرحها وشواهدها وفي الأصول والمبادئ الإنسانية والروحية التي جاء بها منذ عشرات السنين في أظلم بقاع الأرض والتي تأسست بمعرفته في نظام ملائم، ويقتفي العالم الآن أثرها واحدة تلو الأخرى دون أن يشعر بالمصدر الذي انبثقت منه هذه المدنية الراقية فامتلأ جميع المفكرين شعورًا بأن العالم قد انقطعت صلته بالماضي القديم وأن الآراء والهداية القديمة لا تصلح في نجاة العالم طبقًا لمستلزمات ومقتضيات الأحوال الحاضرة وأضحت شكوكهم كبيرة من هذه الوجهة وخابت منهم الآمال إلا الذين تمكنوا من أن يتعلموا، من تاريخ بهاءالله، معنى كل هذه المخاوف والإنذارات في هذا العصر.

والآن قد تعاقبت ثلاثة أجيال تقريبًا من ابتداء الحركة. فالذين كانوا من أتباعها الأولين ونجوا من السيف ومنصة الإعدام، قضوا نحبهم منذ زمن طويل. وأغلق إلى الأبد الباب الذي يمكن الوصول منه إلى معرفة شيء عن الرئيسين العظيمين وعن تلاميذهما الأبطال ممن عاصروا أيامهما وحياتهما. أما تاريخ النبيل فهو مجموعة من الحقائق التي دونت بالصدق والدقة وتم في زمان حياة بهاءالله وله قيمته الفريدة. وكان المؤلف يبلغ من العمر 13 عامًا عندما أعلن الباب دعوته، وولد في قرية زرند في إيران في اليوم الثامن عشر من شهر صفر سنة 1247ﻫ. وكان في كل أدوار حياته معاشرًا لرؤساء الأمر. ولم يكن إلا طفلاً وقت أن كان على أهبة الالتحاق بجماعة الملاّ حسين في قلعة الشيخ الطبرسي إذ علم بالمذبحة التي وقعت على البابيين بطريق الخيانة والغدر، وبذلك تبددت آماله. ويذكر في تاريخه أنه قابل في طهران الحاج ميرزا سيد علي خال الباب وكان في ذلك الوقت عائدًا من زيارة الباب في قلعة چهريق، وكان لمدة سنتين مصاحبًا ملازمًا لميرزا أحمد كاتب الباب.

تشرف بمحضر بهاءالله في كرمانشاه وطهران قبل النفي إلى العراق وكان فيما بعد في خدمته ببغداد وأدرنة كما كان في مدينة السجن عكاء. وأرسله مرارًا للتبليغ في إيران ولتشجيع جماعة المؤمنين المضطهدين. وفي وقت صعود بهاءالله سنة 1892م كان قاطنًا في عكاء وتوفي بطريقة مؤثرة ومحزنة لأنه تملكه الأسى من وفاة محبوبه العظيم حتى

إنه ألقى بنفسه في البحر وغرق وعُثر على جسده بعد ذلك على الشاطئ قريبًا من مدينة عكاء.

ابتدأ في تدوين تاريخه سنة 1888م بمساعدة ميرزا موسى أخو بهاءالله. وأتم التدوين في مدة سنة ونصف وتمت مراجعة بعض فصوله ووافق عليها بهاءالله وفصول أخرى بمعرفة عبدالبهاء.

يشمل الكتاب بأكمله تاريخ الحركة إلى حين وفاة بهاءالله سنة 1892م.

والجزء الأول منه ينتهي بنفي بهاءالله من إيران وهو ما تدون بالجزء الحالي هنا. وله أهميته الواضحة وستستمر قراءته على توالي الأزمان بما حواه من صور الشهامة والشجاعة والإيمان الثابت الذي لا يتزعزع وخاصة تلك القطع المؤثرة التي حواها فضلاً عن الأهمية الدائمة لتلك الحوادث التي وصفها ببيان بديع وتدوين فريد منقطع النظير.

***
حالة انحطاط إيران
في أواسط القرن التاسع عشر
أولاً - سلاطين القاجار

’إن النظام الذي كان المُلك قائمًا عليه في إيران هو الملكية المطلقة وإن كلمة الملك هي القانون. والمثل القائل ’إن شريعة الميديين والفرس لا تتغير‘ هو مجرد مواربة قديمة لتبرير استبداد الملك. فهو الذي يعين ويقيل الوزراء والضباط والموظفين والقضاة. وله السلطة العامة التامة على أفراد أسرته وخدمه وعلى الموظفين المدنيين والعسكريين في خدمته، فله حق الحياة والموت عليهم دون الرجوع إلى أية محكمة. وكذلك أملاك كل شخص يعدم أو يعزل فهو المسيطر عليها وتعود إليه حتى إن حق الإعدام امتياز خاص له ويمكنه أن ينيب

عنه فيه من يشاء من ولاته وجميع الأملاك التي لم تكن قد وهبها لأحد أو اشتراها منه أحد وجميع العقارات التي لا صاحب لها تكون ملكه وله أن يتصرف فيها كيف يشاء ولا يمكن التسليم بأي شيء من الحقوق والامتيازات الخاصة بالمرافق العامة أو موارد البلاد الطبيعية إلا بأمره وذلك كالأشغال العامة وأعمال التعدين والتلغراف والطرق العمومية والسكك الحديدية والترام، إذ يجب شراؤها منه قبل التمكن من استغلالها ففي شخصه تجتمع القوى الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وليس عليه أي واجب خلاف المواظبة على مراسيم الدين الخارجية، وبالاختصار هو المحور الذي تدور حوله حركة الحياة العامة.

’وهذا هو نظام الملكية الذي كان متبعًا نظريًا إلى عهد قريب في إيران فلم يتنازل الملك عن أي من هذه الامتيازات تنازلاً صريحًا. وكانت اللغة التي يخاطب بها الشاه أتباعه هي لغة التكبر والغطرسة ولا يزالون يخاطبونه بها كما كان أرتحشستا أو داريوس يخاطب الملايين من الأتباع كما هو منقوش في آثار قصورهم وقبورهم. فهو يدعى شاهنشاه وقبلة العالم وظل الله وكوكب زحل المتعالي ومنبع العلم وموطئ أقدام العلويات والمليك الأعلى الذي صورت الشمس فوق أعلامه والذي يوجد بهاؤه في السموات وهو ملك الجيوش التي لا تعد ولا تحصى. وللآن يستشهد الإيرانيون بقول سعدي: ’إن الرذيلة إذا وافق عليها السلطان تنقلب فضيلة وإن الذي يخالف أمره في ذلك يغمس يديه في دمه.‘ ومع تقدم الأزمان لم يكن عليه رقيب لا من مجلس ديني ولا مجلس ملّي ولا مجلس علماء أو شيوخ ولم تدخل في سياستهم الأنظمة الانتخابية ولا البرلمانية التي دأبها المعارضة ولا يوجد أي رادع كتابي يمكن أن يقاوم الامتياز الملكي.

’... وهكذا كان تأله الذي ارتقى العرش في إيران لدرجة أن الشاه لا يأكل مع أحد على مائدة عامة إلا في عيد النوروز مع كبار أفراد أسرته الذكور. وكانت اللغة التي يخاطبه بها أقرب الوزراء لغة الطاعة والانقياد والتملق. فكانت عبارة: ’جعلت فداك يا ملجأ العالمين‘ هي صيغة الخطاب الدارج حتى من أعلى موظفي الشاه مرتبة. ففي حاشيته لا يوجد أحد يقول له الحق أو ينصحه بنصيحة خالية عن الغرض. ولا يقدر أن يعلم حقائق

الأمور إلا من وزراء الدول الأجنبية الذين هم المنبع الوحيد لإسداء النصح الخالي عن الغرض أو التملق. أما بالنسبة لإجراء الإصلاحات وعمل التدابير اللازمة لتحسين حالة المملكة فهو عاجز عن تنفيذ أي مشروع لأنه بمجرد أن يخرج أي مشروع من يده للتنفيذ يقع في أيدي الموظفين المرتشين الذين يبحثون عن المنافع ولا يصل إلى مقره النهائي نصف المبالغ التي يتقرر صرفها على المشروع بل تدخل في جيوب الموظفين الذين بمهارتهم الفنية يعملون على اقتناصها وبذلك لا يتحقق نصف المشاريع التي يأمر بها ويتكل الوزير المأمور بالتنفيذ على نسيان الملك وعلى اشتغاله في أهوائه وأخيرًا يحصل التجاوز عنه ويهمل أو يترك كلية.

’... وكان هذا النظام الممقوت متبعًا إلى ما قبل قرن، فكانت تسمل أعين كل طامح في الملك وكان من المسموح به في العقوبات تقطيع الأجسام إربًا أو الحكم بالأسر وبالحبس الأبدي أو بالذبح القاسي أو سفك الدماء المنظم ولم يكن العزل من الوظائف بأقل مفاجأة من الترقية وفي كثير من الأحيان يكون القتل رفيقًا للعزل.

’... وكان فتح علي شاه... ولودًا هو وخلفاؤه وأغلب أولادهم من الذكور وبذلك ضمن استمرار تغلب هذه الدولة فلم توجد في العالم أسرة حاكمة تكاثر عدد أفرادها إلى درجة تكاثر أسرة فتح علي شاه لا في عدد الزوجات أو في عدد الذرية... وما هو معروف عنه على العموم من القوة والاقتدار في الأحوال المنزلية يمكن أن يفهم من عدد المحظيات والذرية، كما تدل على ذلك القوائم العديدة المختلفة الموجودة في الكتب المدونة عن إيران. وقد أحصى العقيد دروفيل في سنة 1813م عدد زوجاته وذريته فبلغن 700 زوجة و 64 ابنًا و 125 بنتًا. وعدّ له العقيد ستيوارت، الذي كان في إيران، ألف زوجة و 105 أولاد. وعددت له المدام دولافوي أسماء 5000 شخص من الذراري وذلك بعد مضي 50 سنة من تاريخه، وهو ما يتراءى قريب الاحتمال، وأما التقدير الذي قدره صاحب ناسخ التواريخ، وهو كتاب تاريخ إيراني حديث، فهو أزيد من ألف زوجة و 260 من الذرية عاش منهم 110 بعد وفاة والدهم. ومن ذلك نتج المثل الإيراني الشائع القائل ’إن الإبل والقمل والأمراء موجودون في كل مكان.‘ ... ولم تكن الآية الموجودة

في الكتاب المقدس(1) "عوضًا عن آبائك يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض"، أكثر انطباقًا على أي أسرة ملكية في العالم كأسرة الشاه. فإنه لا تكاد تكون وظيفة أو عمل حكومي في إيران إلا وهو مشغول بأحد هؤلاء الأمراء. والآن أصبح هذا النسل من أولاد الشاه عظيمًا ومعدودًا بالآلاف وصار لعنة على المملكة رغمًا عن أن بعض هؤلاء العاطلين الملكيين الذين يلتهمون أغلب إيراد المملكة بالمهايا والمعاشات يشغلون فعلاً أصغر الوظائف الحكومية ابتداءً من كتبة التلغراف والسكرتاريين وغيرهم. ورسم فريزر صورة واضحة عما عمّ البلاد من البلاء في سنة 1842م أي منذ خمسين سنة من جراء وجود هذه "السلالة من الدبابير الملكية" الذين ملأوا وظائف الحكومة ليس فقط في سائر المقاطعات بل في كل إقليم أو مدينة أو بلدة أيضًا. ويوجد لكل منهم حاشية وحريم كبير، ويستنزفون دماء الأهالي كسرب من الجراد... وكان فريزر قد مرّ في آذربيجان سنة 1834م ولاحظ النتائج المفجعة لهذا النظام الذي وزع بمقتضاه فتح علي شاه جيشه الجرار من الذراري الذكور على كل وظيفة حكومية في طول البلاد وعرضها، وكتب يقول: ’’إن أظهر نتيجة لهذه الحالة هو إنزال اللعنة العامة على جنس القاجار وهو إحساس عام في كل قلب وهو ما تلوكه الألسنة جميعها.‘‘

’... وكما جمع (ناصر الدين شاه) أثناء أسفاره الأوروپية، أشياء كثيرة مما يعد غريبًا في نظر العقل الشرقي حتى تكدست بها غرف القصر المتنوعة أو وضعت في المخازن ونسيت، فكذلك كان حال السياسة والإدارة العامة التي فيها مشاريع متعددة تلعب بها الأهواء وتهمل وتترك لتموت وتنقرض. ففي أسبوع يهتمون بمشروع للغاز ثم بمشروع للأنوار الكهربائية ثم بمشروع إنشاء كلية أركان عسكرية أو مستشفى حربي ثم بالأزياء العسكرية الروسية ثم بمشروع شراء باخرة حربية ألمانية للخليج الفارسي. وصدر أمر جديد للجيش هذا العام، ثم صدر وعد بسن قانون جديد في العام القادم. ولا ينفذ شيء من هذه المشاريع الرائعة، وقد ملئت عنابر القصر بالعدد والآلات المتكسرة والأدوات المتروكة وكذلك الحال فيما يتعلق بجهات الحكومة بما فيها من المشاريع الخائبة والميتة.

________________________
(1) مزامير، الأصحاح 45، الآية 16.

’... وفي إحدى الغرف العلوية في القصر نفسه أمر محمد شاه (والد الشاه الحالي) أن يُقتل القائم مقام، الوزير الكبير، ميرزا أبو القاسم خنقًا سنة 1835م، متبعًا في ذلك عادة سلفه ومدليًا بها لخلفه الذي اتبع هذا العمل نفسه. ومن النادر في التاريخ أن يجد الإنسان ثلاثة ملوك متوالين يقتلون رؤساء وزاراتهم الشاغلين لأكبر المناصب بداعي الحسد وحده مع أنهم هم الذين أجلسوهم على العرش، أو كانوا في قمة السلطة عندما فقدوا حظوتهم. وبهذه الصورة امتاز حكم كل من فتح علي شاه ومحمد شاه وناصر الدين شاه.‘

ثانيًا- الحكومة

’إن العامل الشخصي هو المتصاعد في مملكة متأخرة كإيران خالية من النظام البرلماني والقوانين واللوائح ومختوم عليها بطابع التقاليد العتيقة الشرقية وما كانت حكومة إيران إلا عبارة عن سلطة استبدادية ووحدات متسلسلة متنازلة من الملك إلى رئيس القرية، ولم يكن عند صغار الموظفين من رادع سوى خوف الرؤساء الذين يسهل إسكاتهم، ولا رادع للموظفين سوى الخوف من الملك وهذا أيضًا يمكن إرضاؤه. وأما الملك فهو لا يخاف من أهل مملكته وإنما خوفه من الانتقادات المعادية ومن الآراء الأوروپية التي تظهر عندهم في الجرائد... ويعتبر الشاه في هذه اللحظة أحسن مثال لملك مستبد معتدل لأنه داخل الحدود السابق ذكرها غير مسؤول عن شيء وله السلطة التامة على حياة وأملاك أي شخص من رعيته. وليس لأنجاله قوة مستقلة إذ يمكنه إذلالهم وإفقارهم في أقل من لمح البصر. أما الوزراء فيعينون ويعزلون تبعًا للإرادة الملكية. فالملك وحده هو القوة المنفذة وجميع الموظفين مساعدون له. ولا يوجد في المملكة محاكم نظامية تحد من سلطته.

’... وأما بالنسبة لشخصيات الوزراء في البلاط الملكي وأعمالهم، فقد كتب السير ج. مالكولم في تاريخه في ابتداء القرن الحالي (التاسع عشر) ما يأتي: ’’إن الوزراء وكبار رجال البلاط هم من الرجال المثقفين والماهرين في الأعمال كل في دائرته، وهم ذوو ملاحظات دقيقة ومحادثات شيقة وأخلاق خاشعة وهذه الصفات هي كل ما يملكون ولم يكن ينتظر من أشخاص يهتمون بالأشكال والصور أن يكون عندهم اطلاعات علمية

أو فضائل لأنهم يستقون معيشتهم من أحط الموارد وكل همهم منصرف إلى الفتن بقصد حفظ أنفسهم وإهلاك غيرهم، واتقاءً للخطر لا يقدرون أن ينطقوا أو يتكلموا بغير التملق والخداع وهم متبعون سبل الشهوات والباطل وقد توالى على إيران جملة من الوزراء ممن لا يصح بحال وضعهم في صف غيرهم من ذوي السيرة الرديئة ولكنهم كانوا، بمن فيهم من كبار المثقفين، مضطرين لمجاراة الأحوال نوعًا لحفظ مراكزهم ولولا ثقة الملك فيهم بكيفية تمنع عنهم كيد أعدائهم لألجأتهم الضرورة إلى تتبع المنافع والمواربة والمهادنة التي تخالف طريق الحق والصدق، ذلك الطريق الذي يجلب الاحترام لعظماء الرجال.‘‘ وهذه الملحوظات إنما تمليها العدالة والتأمل الشديد ويظهر أنها تنطبق على الجيل الحاضر كما كانت تنطبق على الأجيال السالفة.‘

ثالثًا – الرعية

’... والآن أذكر العامل الرئيس المعول به في الإدارة الإيرانية. فإن الحكومة بل الحياة نفسها في تلك المملكة عبارة عن تبادل الهدايا. وقد يظن من الوجهة الاجتماعية أن هذه العادة إنما تعبر عن إحساس كريم من شعب ودود ولو أن لها هنا وجهًا كئيبًا بعيدًا عن العواطف، كأن تجد نفسك سعيدًا بتلقي هدية، ثم تكتشف أن عليك أن تقدم مثلها للواهب. فضلاً عن إلتزامك أيضًا بأن تهب حامل الهدية جزءًا نسبيًا من قيمتها (وأحيانًا يكون ذلك هو كل ما تملكه بل وربما ما تقتات به). أما من الوجهة السياسية فإن عادة الإهداء، ولو أنها متعلقة بقواعد وتقاليد الشرق الجامدة، إلا أنها تنطبق كل الانطباق على ذلك النظام في كل مكان والموصوفة بأسماء أقل قبولاً. وهذا هو النظام الذي اتبعته حكومة إيران قرونًا عديدة وهو الذي يقف حجر عثرة في سبيل الإصلاح الحقيقي. فمن الشاه إلى أصغر موظف لا يوجد أحد لا يقبل الهدايا ولا تكاد توجد وظيفة لا يكون التعيين فيها بغير الهدايا ولا يوجد إيراد مكدس إلا من الهدايا وكل موظف يشتري وظيفته بمبلغ يقدمه إما إلى الشاه مباشرة أو للوزير أو الحاكم الأعلى الذي يعينه. وإذا كان لوظيفة واحدة جملة طلاب فالذي تكون هديته أكبر هو الذي يكون مقبولاً فيها.

’... وكان نظام "المداخل" من الأنظمة القومية المحبوبة في إيران وتحصيلها بآلاف الطرق والأشكال وتتعدد تدابير تحصيلها بتعدد أنواعها. وإن شئت قلت أنها هي الحياة الإيرانية نفسها ومصالحها الرئيسة. ويقول المستر واطسون إنه لا توجد أي كلمة في اللغة الإنگليزية يمكن أن تعبر بدقة عن هذا النظام. فيمكن ترجمة كلمة "مداخل" بكلمات النهب والنشل والإكرام والمنافع والرشوة والهدية والحلوان والراتب وذلك تبعًا للكيفية التي استعملت فيها. وهي على وجه العموم ميزان المنافع الشخصية التي يمكن تشخيصها في مبلغ من النقود مما يستخرج أو يطلب في أي معاملة. فيصح وجودها أثناء مفاوضة بين رئيس ومرؤوس وفيما بين اثنين من المتعاملين المتعاقدين في إيران ولا بد أن يكون أحد الفريقين هو الدافع للهدية لغرض الحصول على منفعة والآخر هو الذي يستلم مبلغًا معينًا من النقود في مقابل الخدمة التي يؤديها له. ويمكن الاعتراض بأن الطبيعة البشرية هي واحدة في كل مكان في العالم، وأن مثل هذا النظام موجود في مملكتنا كما هو في الممالك الأخرى تحت اسم آخر وأن الناقد الفيلسوف يرحب بالرجل الإيراني كأخ له في هذا السبيل. ورغمًا عن أن هذا الاعتراض وجيه إلى حد ما، إلا أني لم أشاهد أو أسمع بأي مملكة يوجد فيها نظام مكشوف إلى هذا الحد وهو عام في جميع بلاد إيران ولا حياء فيه. وفضلاً عن أنه لم يكن مقصورًا على دائرة الاقتصاد السياسي أو المعاملات التجارية فإنه يشمل كل المرافق الحيوية ويلهم معظم الأعمال الحياتية. وبه محيت صفة الكرم من قائمة الفضائل الاجتماعية في إيران وأصبح الجشع هو العامل القوي في الحياة الاجتماعية الإنسانية... وقد تأسست بسبب ذلك سلسلة من المتواليات الحسابية للسلب والنهب ابتداءً من الملك إلى أفراد الرعايا، وكل وحدة في السلم الحسابي تنتفع من الوحدة المجاورة الأدنى منها. وأصبح الفلاح المسكين هو الفريسة الأخيرة. فلا عجب في هذه الظروف أن تكون الوظائف هي السبيل العادي للحصول على الثروة، وهناك شواهد كثيرة لموظفين أصبحوا بعد الفقر المدقع من ذوي الثروات الطائلة ويقطنون في منازل فخمة تحوطهم حاشية كبيرة من الخدم والحشم يعيشون في رغد من العيش كالأمراء. وكانت القاعدة المتبعة عند أغلب الناس قبل دخولهم الحياة العامة هي: ’’اجمع من المال كل ما تستطيع وبقدر ما تستطيع.‘‘ ولم

تكن هذه الأعمال ممقوتة من الوجهة الاجتماعية قط وكان الناس يعتبرون من تهيأت له الفرصة ولم يملأ جيوبه من هذه "المداخل" أنه شخص لا يحترم نفسه. ولم يفكر أحد من الرؤساء في هؤلاء البؤساء الذين تسلب من عرق جبينهم هذه "المداخل" لتصرف على بناء وتهيئة المباني الفخمة وعلى البضائع الأوروپية وعلى الحاشية الكبيرة.

’... ومن بين مظاهر الحياة العامة في إيران التي هي غريبة في نظر الأجنبي ومن نتائج هذا النظام هو زيادة عدد الأتباع والحاشية الذين يلتفون حول الوزير أو الموظف من أي نوع كان. ففي حالة الموظفين من ذوي المراتب العالية يختلف عددهم من 50 إلى 500. ويقول بنيامين أن لرئيس الوزراء حاشية تبلغ 3000 نفر. إذًا يفهم من ذلك أن نظرية المراسيم التقليدية الاجتماعية المتبعة في إيران، وحتى في أنحاء الشرق، هي المسؤولة عن تلك الظاهرة، وأن أهمية الشخص تتوقف على عدد الحاشية والخدم الذين يصطفون حوله في الاحتفالات وفي المناسبات المتنوعة. وأساس كل هذه المفاسد والشرور هو نظام "المداخل" والتلصص الحاصل فيه. فإذا كان الحاكم أو الوزير مضطرًا لدفع مرتبات للذين حوله فإن عدد الحاشية ينقص نقصًا بينًا سريعًا. فإن أغلبهم لا يتقاضى مرتبًا وفقط يحومون حول أسيادهم انتهازًا للفرص التي تدر عليهم بالأموال فيعيشون بذلك على السلب والنهب. ومن ذلك يعلم فداحة المصيبة القومية الناتجة عن وجود هذا الجيش الجرار من الذين يشتغلون في استنزاف أموال المساكين. فهم المثال الحقيقي للعامل غير المنتِج، يمتصون الثروة دون إنتاجها، وهم بوجودهم أقل قليلاً من كارثة وطنية... ومن آداب الفرس أن الإنسان عندما يزور آخر يأخذ معه عددًا من الحاشية على قدر طاقته وبأكبر عدد يمكنه ويسير إما ماشيًا أو راكبًا وتعلم أهمية الزائر من عدد أفراد حاشيته.‘

رابعًا – النظام الديني

’لقد جعلوا تطبيق الدين الإسلامي يوافق مناخ الدول التي دخلت في ظله ومع عاداتها ووظائف سكانها، ويخضع له الأهالي خضوعًا تامًا من المهد إلى اللحد. وبالنسبة

للمسلم فإن الإسلام ليس دينًا فقط بل كان هو الحكومة والفلسفة والعلم أيضًا. فالفكرة الإسلامية لا ترمي إلى إيجاد دين حكومي فحسب بل إلى إيجاد حكومة دينية. فجميع الروابط في الهيئة الاجتماعية عندهم لم تكن مدنية بل هي دينية. فأساس نظام المجتمع عندهم ليس مدنيًا بل هو ديني من تشكيل الفقهاء الذي أحاط بهذا الدين السامي. وعلى هذا النحو يعيش المسلم برضاء وقناعة وهو خاضع لجميع أحكام ذلك النظام ويعتبر عبادة الله أعلى الفرائض محتقرًا كل من لا يتعبده بالروح ولا يتوفى إلا وهو آمل في دخول الجنة.

’... وأما الأشراف (الأسياد) أو نسل الرسول، فهم مصدر إزعاج للدولة، وبسبب نسبهم المزعوم، وامتيازهم بلبس العمامة الخضراء، يدّعون الحق في الاستقلال وغطرسة التصرف مما يشكل معاناة لمواطنيهم الذين يُعتبرون مجرد أجانب.

’... وأما الطائفة اليهودية في إيران فقد انحطت في الفقر والجهل... وهؤلاء التعساء في العالم الإسلامي في الشرق قد وطدوا أنفسهم على أن يعتبروا الاضطهاد نصيبًا لهم كما عرف العالم ذلك. فكانوا عادة يجبرون على أن يعيشوا منعزلين في حي خاص بهم (گيتو) في المدن، ومنذ قديم الزمان عانوا العجز في الوظائف والملبس والعادات، بحيث أصبحوا منبوذين اجتماعيًا من قبل أقرانهم من العباد... وفي إصفهان، حيث يبلغ عددهم نحو 3700 شخص، ويتمتعون فيها بقدر أكبر من المكانة الاجتماعية من أي مكان آخر في إيران، فإنهم لا يسمح لهم فيها بلبس الكلاه، وهو لباس الرأس في البلاد، أو مزاولة أعمالهم داخل حوانيت الأسواق، أو أن يرفعوا أسوار منازلهم بارتفاع مساو لأسوار جيرانهم المسلمين، أو أن يركبوا الدواب في الشوارع... وكلما قامت ضجة في إيران كانوا هم أول ضحاياها فتمتد إليهم كل يد، والويل لليهودي التعس الذي يجابه طائفة من غوغاء شوارع إيران.

’... ولعل من أغرب مظاهر الحياة في مدينة مشهد، قبل أن أنتهي من الكلام في موضوع الضريح والحجاج الذين يؤمونه، مسألة إباحة اللهو فيها طيلة مدة إقامة الزائرين في المدينة. فتماشيًا مع طول الرحلات التي يقوم بها الحجاج والمعاناة التي يتحملونها

والمسافة الطويلة التي تفصلهم عن عائلاتهم ومنازلهم، يباح لهم أن يعقدوا زواجًا مؤقتًا، بتواطؤ القانون الشرعي والرؤساء الدينيين، خلال مدة إقامتهم في المدينة. ويوجد جمهور دائم من الزوجات المعدات لهذه الأغراض. ويعقد الملاّ العقد ويختمه من كلا الطرفين بعد دفع الرسوم وبذلك يصبح الاقتران قانونيًا. وينتهي عقد الزواج بمضي المدة المعينة في العقد سواء حددت بأسبوعين أو شهر أو أي مدة أخرى، فيعود الزوج المؤقت إلى أسرته في بلاد بعيدة ويترك الزوجة حتى تنقضي عدتها وهي أربعة عشر يومًا فتعود بعد ذلك وتتزوج بآخر. وبعبارة أخرى، يزدهر في مشهد نظام ضخم للدعارة برعاية المؤسسة الدينية، وإني آسف لأقول كم من الزائرين الصامتين الذين يعبرون البحار والفيافي لأجل التوصل لتقبيل شباك الضريح، يتشجعون ويتسلون في أداء هذه المهمة بما يلاقونه من التسلية التي نسميها نحن الإنگليز بالمجون.‘

الخاتمة

’وقبل أن أترك موضوع القانون الإيراني وتطبيقه، دعوني أذكر بضعة كلمات في موضوع القصاص والسجون. فلا يوجد شيء أدهش للقارئ الأوروپي من وصف العقوبات الوحشية والتعذيب المفجع المثبوت في صحائف تاريخ إيران الملوثة بسفك الدماء والإجرام في القرن الفارط وهي في القرن الحالي أخف نوعًا ما، وكلها تشهد بالقسوة الوحشية والخبث الشيطاني. وكانت غرائز أهل إيران تميل إلى استنباط الحيل في اختراع أنواع العقوبات ولم يكن عندهم اكتراث بالآلام الناتجة عنها. ويظهر ذلك بجلاء في ميدان التنفيذات القضائية التي هي محل ظهور كلتا الطبيعتين. وحتى عهد قريب، وفي حدود الحكم الحالي، كان المجرمون يصلبون، أو يقذفون من المدافع، أو يدفنون أحياء، أو يعدمون بإجلاسهم على الخازوق، أو توضع لهم حدوات كالخيول، أو يشطرون شطرين بواسطة ربطهم في رأس شجرتين تضمان على بعضهما بقوة ثم يفك ربطهما حتى تعودان إلى مكانهما الأصلي وتكون الجثة في هذه الأثناء قد انفسخت شطرين، أو تعمل منهم مشاعل إنسانية، أو تسلخ جلودهم وهم أحياء.

’... وكان من جراء وجود نظامين للحكم، كاللذين وصفتهما -يعني أن يكون العامل في إدارتها شخصان أحدهما راشي والآخر مرتشي ويكون الإجراء القضائي بلا قانون ولا محاكم- أن انعدمت الثقة في الحكومة والشعور بالواجب والفخر بالشرف والثقة بالتعاون (إلا على الضرر) ولا حياء عند الافتضاح ولا فائدة في الفضائل وفوق ذلك لا روح للأمة ولا وطنية. ويصدق الفلاسفة إذ يقولون أن الإصلاح الخلقي يجب أن يسبق المادي، والداخلي يسبق الظاهري، في إيران. فلا فائدة ترجى من تطعيم شجرة قديمة بفروع شجرة جديدة بعد أن استهلكت أو تسممت. نعم يمكن أن نمد في إيران طرق وسكك حديدية وأن نستغل معادنها ومرافقها الطبيعية وأن ندرب جيشها ونكسي صانعيها وحرفييها، ولكنها لا تقترب بهذه الأعمال من مصاف الأمم المتمدنة إلا إذا وصلنا إلى صميم قلوب الرعية وأحدثنا انقلابًا كليًا جديدًا في الأنظمة والأخلاق القومية. وقد رسمتُ هذه الصورة للإدارة الإيرانية كما أعتقد صحتها حتى يطلع القراء الإنگليز على النظام الذي يواجه كل من أراد الإصلاح في تلك البلاد سواء من الأهالي أم من الأجانب لأنه لا بد وأن يرى ذلك الجدار الحديدي المنيع المبني على الأطماع والطبائع الغريزية المعادية لأفكار التقدم والترقي. والشاه نفسه، مهما كانت رغبته صادقة في التحديث، فإنه إلى حد ما، يقف في صف هذا النظام الخبيث، لأنه يدين له بثروته الخاصة، بينما أولئك الذين يدينون النظام بأعلى أصواتهم في الخفاء، ليسوا واقفين خلف أقرانهم خاشعي الرؤوس في معبد رِمون.(1) وفي كل منصب بعد الشاه، هناك افتقار شديد إلى روح المبادرة في الثورة ضد الطغيان السائد في العادات القديمة، وإذا كان رجل بقوة الشاه الحالي يقدر فقط على تجربة تلك الثورة، فمن ينهض ليدعو إلى تلك المبادرة؟‘

(من كتاب اللورد كرزون "إيران والمسألة الإيرانية")
________________________

(1) انظر الكتاب المقدس، الملوك 2، الأصحاح 5، الآية 18.

إجلال حضرة بهاءالله لمقام حضرة الباب
وكبار تلاميذه
(مقتطفات من "كتاب الإيقان")(1)

’فإنه مع كونه كان في سن الشباب فإنه قد قام مع هذا بأمر مخالف لكل أهل الأرض من الوضيع والشريف، والغني والفقير، والعزيز والذليل، والسلطان والرعية، كما سمع بذلك الكل، ولم يخَفْ من أحد، ولم يعتَنِ بأي نفس. فهل يكون هذا بغير أمر إلهي، ومشيئة مثبتة ربانية؟ قسمًا بالله لو يتطرق في فكر أحد أمر كهذا، ويتخيله في نفسه لينعدم في الحين، ولو يجتمع في قلبه كل القلوب، فإنه لا يتجاسر أيضًا على مثل هذا الأمر المهم، إلا بإذن من الله، وأن يكون قلبه متصلاً بالفيوضات الرحمانية، ونفسه مطمئنة بالعنايات الربانية. فيا هل تُرى عَلامَ يحملون هذا! أينسبونه للجنون كما نسبوه للأنبياء من قبل؟ أم يقولون بأنه تعرّض لهذه الأمور من أجل الرياسة الظاهرة، وجمع زخارف الدنيا الفانية؟

’سبحان الله إنه في أول كتاب من كتبه الذي سماه قيوم الأسماء، وهو أول جميع كتبه، وأعظمها وأكبرها، قد أخبر عن شهادته. وفي مقام منه ذكر هذه الآية قائلاً: "يا بقية الله قد فديت بكلي لك، ورضيتُ السبّ في سبيلك، وما تمنيت إلا القتل في محبتك وكفى بالله العلي معتصمًا قديمًا."

’... فهل يمكن أن يُنسب إلى صاحب هذا البيان بأنّه يمشي على غير الصراط الإلهي أو أنه طلب أمرًا بغير رضائه؟ إن في هذه الآية لمكنون نسيم انقطاع، بحيث إذا هبّ لينفق جميع هياكل الوجود أرواحهم، وينقطعون عن أنفسهم.

________________________
(1) الصفحات 195-196، 197، 198-200.

’... فانظر الآن كيف قد بلَّغت هذه السدرة الرضوانيّة السبحانيّة أمر الله في أول شبابها، وكم ظهر من الاستقامة من ذاك الجمال، جمال الأحدية، بحيث إنه قام كل من على الأرض على منعه، ولم يأتِ ذلك بثمر أو فائدة بل كلما كان يَرِد منهم من الإيذاء على تلك السدرة، سدرة طوبى، كلما كان يزداد شوقه، ويزداد اشتعال نار حبّه. وكل هذا واضح لا ينكره أحد إلى أن فدى أخيرًا بروحه وصعد إلى الرفيق الأعلى.

’... فحينما ظهر في شيراز ذاك الجمال الأزلي في سنة الستين وكشف الغطاء، فإنه في قليل من الزّمان قد ظهرت في جميع البلاد آثار الغلبة والقدرة، والسلطنة والاقتدار من ذاك الجوهر، جوهر الجواهر، وبحر البحور، بحيث إنه قد ظهرت من كل بلد آثار وإشارات ودلالات وعلامات من تلك الشمس اللاهوتية. وكم من رشحات علمية من ذلك البحر، بحر العلم اللدني، قد أحاطت جميع الممكنات، مع أن جميع العلماء وأعزّة القوم في كل بلد ومدينة قد قاموا على ردّهم ومنعهم، وشدّوا إزار الغل والحسد والظلم على دفعهم. وكم من نفوس قدسية قتلوها بتهمة الظلم، مع أنها كانت جواهر العدل. وكم من هياكل الروح قد أهلكوها بأشد العذاب، وما بدا منها إلا خالص العلم والعمل. ومع كل هذا كان كل واحد من تلك الوجودات ذاكرًا ومشغولاً بذكر الله إلى النفس الأخير، وطائرًا في هواء التسليم والرضا. وقد أثّر في هذه الوجودات وتصرف فيها على نحو لم يكن لهم مراد غير إرادته، ولم يبغوا أمرًا غير أمره. رضوا برضائه، وهامت قلوبهم بذكره.

’ففكر الآن قليلاً. هل ظهر من أحد في الإمكان مثل هذه القدرة والإحاطة؟ فإن جميع هذه القلوب المنزهة، والنفوس المقدسة، قد أسرع إلى موارد القضاء بكمال الرضا. وما ظهر منها في مواقع الشكاية إلا الشكران، وما شوهد منها في مواطن البلاء إلا الرضاء. وليس بخافٍ على أحد مقدار الغل والبغض والعداوة الذي كان يظهره كل أهل الأرض نحو هؤلاء الأصحاب بدرجة أنهم كانوا يعدّون الأذية والأذى لتلك الطلعات القدسية المعنوية علة الفوز والنجاة، وسببًا للفلاح والنجاح الأبدي. وهل وقع في البلاد في أي تاريخ من عهد آدم إلى الآن مثل هذه الغوغاء؟ وهل ظهر بين العباد مثل هذه الضوضاء؟ ومع كل هذه الأذية والإيذاء فإنهم كانوا عرضة للعن من جميع الناس، وهدفًا لملامة

كل العباد. كأن الصبر قد ظهر في عالم الكون من اصطبارهم، والوفاء قد وجد في أركان العالم من أفعالهم.

’وخلاصة الكلام عليك بأن تفكر في جميع هذه الوقائع الحادثة والحكايات الواردة، حتى تطّلع على عظمة الأمر وسموّه...‘

***
مميزات الشيعة في الإسلام

’إن النقطة الأساسية التي تختلف فيها الشيعة (وكذلك الفرق الأخرى المرتبطة بها والتي تدعى جميعها باسم الإمامية) عن أهل السنة هو معتقد الإمامة. فتبعًا لاعتقاد أهل السنة تتعين الخلافة بالانتخاب الحاصل من الأتباع ولا يمتاز الرئيس في العالم الإسلامي بشيء من المواهب الإلهية فلا يجمع في وظيفته سوى القوة الإدارية والدينية. أما في نظر الإمامية فالخلافة فيها أمر روحي ومنحة إلهية بحتة تعطى أولاً للرسول ثم للذين يخلفونه من بعده، وليس لها علاقة بالانتخاب ولا بتصديق العامة. وبالاختصار، الخليفة عند أهل السنة هو المدافع الظاهر عن الدين. وأما إمام الشيعة فهو خليفة الرسول وهو الملهم والمتحلي بالكمالات والمواهب الروحية وعلى جميع المؤمنين طاعته وحكمه قطعي ونهائي وحكمته فوق المستوى البشري وكلمته فصل الخطاب عند المؤمنين. ويطلق مصطلح الإمامية بشكل عام على كل من اتبع هذا الرأي دون التفات إلى الطريقة التي يعينون بها سلسلة التوريث ولذلك فهي تشمل الباقرية والإسماعيلية والشيعة الاثني عشرية، وهذه الفئة الأخيرة هي موضع اهتمامنا هنا. وحسب معتقد هؤلاء، فإن إثني عشر شخصًا تولوا منصب الإمام بالتتابع، وهم:

1. الإمام علي ابن أبي طالب أول المؤمنين وابن عم الرسول ﷺ قتله ابن ملجم في الكوفة سنة 40ﻫ (661م).

2. الحسن ابن علي وفاطمة ولد في السنة الثانية للهجرة وسمّمه معاوية الأول سنة 50ﻫ (670م).

3. الحسين ابن علي وفاطمة ولد سنة 4ﻫ وقتل في كربلاء في 10 محرم سنة 61ﻫ (10 أكتوبر/تشرين الأول سنة 680م).

4. علي ابن الحسين وشهربانو (بنت يزدگرد آخر ملوك الساسانية) ويسمى عادة بالإمام زين العابدين، وسمّمه الوليد.

5. محمد باقر ابن زين العابدين، المذكور أعلاه، وابن أم عبد الله بنت الإمام الحسن وسمّمه إبراهيم ابن الوليد.

6. جعفر الصادق ابن الإمام محمد باقر وسمّم بأمر المنصور الخليفة العباسي.

7. موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق، ولد سنة 129ﻫ وسمّم بأمر هارون الرشيد سنة 183ﻫ.

8. علي ابن موسى الرضا المدعو بالإمام الرضا، ولد سنة 153ﻫ وسمّم قرب طوس من أعمال خراسان بأمر الخليفة المأمون سنة 203ﻫ ودفن في مشهد التي سميت بذلك من أجله وتكتسب قداستها منه.

9. محمد تقي ابن الإمام الرضا، ولد سنة 195ﻫ وسمّم بأمر الخليفة المعتصم في بغداد سنة 220ﻫ.

10. علي نقي ابن الإمام محمد تقي، ولد سنة 213ﻫ وسمّم في سرّ من رأى سنة 254ﻫ.

11. الحسن العسكري ابن الإمام علي نقي ولد سنة 232ﻫ وسمّم سنة 260ﻫ.

12. محمد ابن الإمام حسن العسكري ونرجس خاتون، وتسميه الشيعة بالإمام المهدي حجة الله وبقية الله وقائم آل محمد. ويكنى بنفس كنية الرسول ﷺ وهي أبو القاسم وعند الشيعة لا يجوز لأحد أن يحمل هذا الاسم والكنية معًا بهذه الكيفية غيره. ولد في سرّ من رأى سنة 255ﻫ. وخلف والده في الإمامة سنة 260ﻫ.

’ويعتقد الشيعة أنه لم يمت بل اختفى في سرداب تحت الأرض في سرّ من رأى في سنة 329ﻫ، وأنه حيّ للآن ومحاط بطائفة من أتباعه المختارين في إحدى البلاد الغامضة جابلقا وجابلصا، وأنه سيظهر في آخر الأيام عندما تملأ الأرض بالظلم ويقع المؤمنون في اليأس، ويظهر قبله المسيح مبشرًا بظهوره، ويطيح بالكفار، ويؤسس السلام والعدل في العالم، ويبدأ العصر الذهبي الميمون لألف سنة. وطوال فترة الإمامة أي من سنة 260ﻫ لغاية الوقت الحالي كان الإمام المهدي مختبئًا ولا يصل إليه أحد من الأتباع وهذا ما يسمونه بالغيبة. وبعد أن تولى الإمام حسن العسكري الإمامة ودفن والده وسلفه اختفى عن نظر الناس إلا القليل من الذين انتخبهم ليكونوا واسطة بينه وبين أتباعه واحدًا بعد الآخر. وهؤلاء دعوا بالأبواب وأولهم أبو عمر عثمان ابن سعيد العمري، والثاني أبو جعفر محمد ابن عثمان وهو ابن الأول، والثالث حسين ابن روح نوبختي والرابع أبو الحسن علي ابن محمد السيمري. وعيّن أولهم الإمام حسن العسكري وأما الآخرون فعيّنهم الباب الموجود بموافقة الإمام المهدي وقد امتدت هذه المدة 69 سنة كان فيها الإمام معروفًا من الأبواب الذين كانوا الواسطة بينه وبين الناس. وكانت غيبته في هذه المدة تدعى بالغيبة الصغرى ثم جاءت الغيبة الكبرى فعندما حضرت الوفاة أبا الحسن علي، آخر الأبواب، طلب منه المؤمنون أن يعين خلفًا له لأنهم كانوا خائفين من انفصالهم انفصالاً كليًا ولكنه رفض طلبهم قائلاً "إن لله أمرًا هو بالغه". وبوفاته انقطعت كل صلة بين الإمام وبين علماء الدين وابتدأت بذلك الغيبة الكبرى وستستمر إلى رجعة الإمام في آخر الأيام.‘

("مقالة سائح"، الصفحات 296-299، الحاشية "و")
***
النسبة المحمدية
قريش
عبد مناف
عبد شمس
هاشم
أمية
عبد المطلب
خلفاء بني أمية
عباس
أبو طالب
عبد الله
الخلفاء العباسيون
محمد ﷺ
علي
فاطمة
حسين
حسن
ميلاد محمد ﷺ
20 أغسطس/آب سنة 570م
عمر بن الخطاب
634-644م
إعلان الدعوة
سنة 613-614م
عثمان بن عفان
644-656م
هجرته للمدينة
سنة 622م
علي بن أبي طالب
656-661م
أبو بكر الصديق
632-634م
خلفاء
دولة بني أمية
من 661-749م
العباسيون
من 749- 1258م
الفاطميون
من 1258-1517م
العثمانيون
من 1517-1918م
النظام القضائي في إيران
نظريًا وعمليًا
في أواسط القرن التاسع عشر

’... ينقسم القانون في إيران، بل لدى المسلمين عمومًا، إلى فرعين: الأول ديني عام وهو ما بني على الكتاب والشريعة الإسلامية ويطبقه أرباب الدين. والثاني هو القانون المدني وهو ما تطبقه المحاكم المدنية. وفي إيران يسمى الأول بالشرع والآخر بالعرف. ومن هذين الأصلين يتفرع النظام القضائي وهو إن لم يكن مبنيًا على العلم إلا أنه عملي من جهة التطبيق ويوافق مقتضيات وحاجات الذين دوّن لأجلهم بشكل عام. والأساس الذي بني عليه الشرع، أو القانون الديني، هو ما نطق به الرسول ﷺ في القرآن الكريم وآراء الأئمة الاثني عشر الذين لا يقل حكمهم في نظر الشيعة عن حكم الرسول ﷺ وكذلك تفاسير علماء الدين المرموقين. وهذه التفاسير هي التي وسعت دائرة الشرع كما وسعت قواعد وأحكام مجلس الشورى الشهير شريعة روما، أو كما وسعت تفاسير التلموديين النظام العبراني. وانقسم قوام الشريعة الناتجة واختصر تقريبًا إلى أربعة أقسام تتناول بالترتيب: الشعائر والفروض، المعاملات والواجبات، الأحوال الشخصية، وأخيرًا الدعاوى والإجراءات القضائية. وتطبق هذه الشريعة محكمة دينية مؤلفة من الملاّوات والمجتهدين ويساعدهم أحيانًا القضاة تحت رئاسة موظف يدعى شيخ الإسلام ويعين عادة في كل مدينة كبيرة من قبل الملك. وفي الأيام السالفة، كان رئيس هذه الفئة يسمى صدر الصدور المعين أيضًا من قبل الملك ويرأس جميع أرباب الدين والقضاة في المملكة. ولكن نادر شاه ألغى هذه الوظيفة عند قيامه ضد رؤساء الدين ولم تتجدد بعد

ذلك. وفي المدن الصغيرة والقرى يقوم بهذه الوظيفة الملاّوات الذين يستندون دائمًا على آية من القرآن. وأما في المحاكم العليا فإن الحكم يكون مكتوبًا معززًا بأدلة من الكتاب والتفاسير. وأما القضايا ذات الأهمية الكبرى فترفع إلى المجتهدين الأعلام وهم قليلو العدد ولا يصلون إلى هذا المقام إلا بالعلم والمقدرة والاطلاع مما يكون مشهودًا لهم به من العموم، وهم الذين لا تنقض أحكامهم إلا فيما ندر. ومذكور في كتب القانون في إيران أن القضايا الجنائية يحكم فيها الرؤساء الدينيون وأما القضايا المدنية فتحكم فيها المحاكم المدنية. إلا أنه في الواقع العملي لا يوجد هذا التمييز الواضح، ويختلف امتياز المحاكم باختلاف الأزمان تبعًا للتصادف أو الاختيار لا للضرورة، وفي الوقت الحاضر، ولو أن القضايا الجنائية المعقدة ترفع إلى المحاكم الدينية إلا أنها تنظر عادة في القضايا المدنية. أما مسائل البدع والهرطقة وتدنيس المقدسات فتعرض على المحاكم الدينية بطبيعة الحال وكذلك يحكمون في أحوال الزنا والطلاق وشرب الخمر، ولو أن الأخير لا يعتبر مخالفة حسب العرف المدني (في الواقع لو كانت مسألة أسبقية لكان السكر من أكبر المؤهلات في إيران) إلا أنه مخالف لنص القرآن ولذلك يقع في دائرة اختصاصهم...

’وهنا أنتقل من الشرع إلى العرف أو القانون العام. وهذا مبناه العادة ويختلف باختلاف الأماكن في إيران. وكذلك يختلف الحكم فيه باختلاف الشخص الذي يطبقه ومزاجه، فهو قانون غير مدوّن. وقضاة العرف هم القضاة المدنيون في أنحاء البلاد حيث لا توجد محاكم على النظام العلماني مثل الموجود في بلاد الغرب. وفي القرى ينظر الكدخدا (رئيس القرية) في القضايا، وأما في المدن فترفع القضايا إلى الداروغه، أي قاضي محكمة الشرطة، فيحكم في جميع المخالفات الصغيرة كمحكمة الشرطة في إنگلترا. والعقوبة في قضايا السرقة والاعتداء وأمثالها هي إعادة الشيء المسروق أو المخطوف أو ما يعادل قيمته المالية، وإذا كان ذلك غير ممكن فإن المذنب يجلد بقوة. أما القضايا الجنائية العادية فينظر فيها حاكم المدينة وأما الأكثر أهمية فترفع إلى حاكم الإقليم. واستئناف الأحكام الأخير يكون أمام الملك إذا كان المستأنف من بلاد قاصية. والعدالة التي تطبق بهذه الكيفية في إيران غير تابعة لأي قانون أو نظام مقرر. ولا ضمان لها سوى السمعة والإعلان لكن

المجال يتسع فيها خصوصًا في الدرجات الجزئية للرشوة والإكرامية. أما الداروغه فشهرته أنه قاس ومرتشٍ ويقول بعض الناس إنه لا يوجد أي حكم في إيران يصدر من أي موظف حتى في المراتب العليا إلا ويمكن الحصول عليه بالنقود والأموال.‘

("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 1، الصفحات 452-455)

مفتاح النسبة لحضرة الباب
1.
من ذرية الإمام الحسين وفاطمة وقطن في شيراز.
2.
حرم حضرة الباب.
3.
ملقب ﺑ"الأفنان الكبير".
4.
زوجة ميرزا زين العابدين.
5.
معروف ﺑ"سقا خان".
6.
زوجة الحاج ميرزا سيد حسن، ابن ميرزا علي.
7.
توفي عند الميلاد.
8.

ملقب ﺑ"الخال الأصغر" وهو الذي نزل له "كتاب الإيقان".

9.
ملقب ﺑ"الخال الأعظم" وهو أحد شهداء طهران السبعة.
10.

ملقب ﺑ"وكيل الدولة"، المساهم الأكبر في بناء مشرق الأذكار في عشق آباد.

11.

ملقب ﺑ"الوزير"، من أهالي نور في مازندران واسمه عباس.

12.
اسمه عباس.
13.
اسمه علي محمد.
14.
اسمه حسين علي.
15.
زوجة وكيل الدولة، الحاج ميرزا محمد تقي.
16.
الابن الوحيد للحاج ميرزا محمد.
17.
صهر حضرة عبدالبهاء.
18.
من ذرية الإمام الحسين، تاجر من أهالي شيراز.
19.
صهر حضرة عبدالبهاء.
20.
النجل الوحيد لميرزا أبو الفتح.
نسبة الباب واتصاله بسلالة بهاءالله
نسبة الباب واتصاله بسلالة بهاءالله
صفحة خالية
سلالة القاجار
فتح علي شاه
1798-1834م.
محمد شاه
1835-1848م.
ناصر الدين شاه
1848-1896م.
مظفر الدين شاه
1896-1907م.
محمد علي شاه
1907-1909م.
أحمد شاه
1909-1925م.
ميرزا أبو القاسم القائم مقام
الحاج ميرزا آقاسي
ميرزا تقي خان أمير النظام
ميرزا آقا خان النوري
سلالة دولة القاجار
سلالة دولة القاجار
صفحة خالية
اعتراف

بالامتنان للسيدة بلومفيلد لاقتراحاتها القيمة وللمراسل الإنگليزي الذي ساعد في تحضير المقدمة وللسيدة إ. هوگ لطبع النسخة الخطية على الآلة الكاتبة وللآنسة إيفي بيكر للصور الفوتوغرافية المصورة في هذا الكتاب.

المترجم
(حضرة شوقي أفندي)
***
محمد الزرندي، الملقب ﺑ"النبيل الأعظم"
ديباجة

كان من عزمي بفضل الله ومساعدته أن أخصص الصفحات الأولى من هذا التاريخ لذكر الروايات التي حصلت عليها فيما يخص النورين العظيمين الشيخ أحمد الأحسائي والسيد كاظم الرشتي، وكان أملي بعد ذلك أن أحكي بالترتيب الزمني أهم الأحداث التي حصلت منذ سنة 60 تلك السنة(1) التي أعلنت فيها دعوة حضرة الباب لغاية الوقت الحالي وهو سنة 1305ﻫ.(2)

وذكرت بعض الأحداث بالتفصيل واقتنعت في بعضها الآخر بذكر مختصر الوقائع ودونت وصف الأحداث التي شاهدتها بنفسي وكذلك التي سمعتها من ثقات الرجال ذاكرًا أسماءهم ومقاماتهم في كل حالة والذين أنا مدين لهم على الأخص هم ميرزا أحمد القزويني، كاتب وحي حضرة الباب والسيد إسماعيل الذبيح والشيخ حسن الزنوزي والشيخ أبو تراب القزويني والأخير الذي لم يكن له آخرًا هو ميرزا موسى، آقا كليم، أخو حضرة بهاءالله.

وإني أشكر الله الذي مكنني من كتابة هذه الصفحات الأولى ومن تبريكها وتشريفها بموافقة حضرة بهاءالله الذي تفضل بمراجعتها وحازت رضاه وقبوله بعد أن قرأها له كاتب وحيه ميرزا آقا جان وإني أطلب من القدير العون والهداية لئلا أخطأ في المهمة التي عزمت على إتمامها.

عكاء – فلسطين، 1305 هجرية
محمد الزرندي(3)
________________________
(1) 1260ﻫ (1844م).
(2) 1887-1888م.
(3) ولقبه الكامل "النبيل الأعظم".
صفحة خالية
استدراك لمترجم السفر إلى اللغة العربية

لما منّ الله تعالى عليّ بالنزوح إلى بلدة إسنا قاضيًا مبعدًا إلى أقاصي الصعيد بسبب قيامي على رد أحد مشايخ السنية فيما افتراه على البهائية السامية وجدت من فراغي هناك وقتًا ليس بقليل عكفت فيه على ترجمة كتاب مطالع الأنوار تهذيب مولانا العطوف حضرة ولي أمر الله أرواحنا لتراب عتبته فداء وهذا السفر الجليل مستقى أصلاً من تاريخ النبيل محمد الزرندي ومضاف إليه مقدمة وخاتمة من يراعة غصن دوحة البقاء الممتاز وفيه ألواح الباب بصورتها الأصلية وبخط يده المباركة إلا أنه لتحريره باللغة الإنجليزية كان أغلب قراء العربية محرومين من اجتلاء طلعته البهية ومبعدين عن اقتطاف أثماره الجنية ولذلك تطلعت نفسي إلى تقربهم إلى جنته العالية ومشاركتهم لباقي الأحباء المطلعين على الإنجليزية في التلذذ من نعماء مائدته السماوية واطلاعهم على حوادث البطولة والشهامة الممردة التي صدرت من شهداء الأمر مما يبقى على مرور القرون والأجيال وتتزين بها صحائف تاريخ العالم في دورته الجديدة ولعمري أنها لإحدى المعجزات وأعلى خوارق العادات مما لم يسمح بمثلها الزمان ولم تسمع بها الآذان ولم ترها الأعين ولا خطرت على قلوب البشر.

ورغم إني بذلت الجهد الجهيد لأقرب من بلاغة الترجمة الإنجليزية في نقلها إلى اللغة العربية إلا أني أعترف بعجزي وتقصيري عن أن أبلغ شأو معانيها أو أصل في تعبيري إلى سمو مبانيها فهي والحق يقال درّة فريدة وجوهرة منيعة وترجمة منيفة كما يشهد بذلك أساطين اللغة الإنجليزية وأين الثرى من الثريا. فليعذرني القارئ الكريم إن كان لا بد لمثلي من وجود بعض الأخطاء وخاصة في المطبعة رغمًا عن تكرار المراجعة وقد أردفت الكتاب بقائمة من الخطأ والصواب على قدر الإمكان فما لا يدرك كله لا يترك جله وإني أتضرع إلى عتبته المقدسة العليا أن تكون هذه الخدمة الضئيلة مقبولة وأن يثيبني بها جميل ذكره راجيًا ممن ينظر فيه من عالم فاضل أن يقبل ما يراه فيه من عثار ويسد ما يعثر عليه من خلل ويصلح ما طغى به القلم وقصر عنه الفهم وزاغ منه البصر.

الأحد 24 مارس سنة 1940م عبد الجليل سعد

يوم العظمة من شهر البهاء سنة 96 بديع
***
صورة 1
الشيخ أحمد الأحسائي
الفصل الأول
رسالة الشيخ أحمد الأحسائي

ظهر الشيخ أحمد الأحسائي،(1) نجم الهداية اللامع في أفق الشرق،(2) في وقت كانت شمس الحقيقة الإسلامية مختفية من أثر الجهل والتعصب والفساد الذي وقعت فيه الفرق المتجادلة، وقد لاحظ كيف أن الذين ينتمون للدين الإسلامي قد مزقوه شذر مذر وأضعفوا قوته وعكسوا مقاصده وحطوا من شأن اسمه المقدس. فكانت روحه ممتلئة بالحسرة على ما فشا بين شيعة الإسلام من الفساد والشرور والجدال. وإذ اهتدى بالنور الذي كان يشرق في باطنه(3) قام بنظر ثاقب وقصد معيّن وانقطاع تام ليحتج على خيانة أولئك القوم

________________________

(1) ’ولد في رجب سنة 1166ﻫ (24 أبريل/نيسان - 24 مايو/أيار سنة 1753م) في بلدة الأحساء من إقليم الأحساء في الشمال الشرقي من بلاد العرب.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 1، الصفحة 1) ’وولد شيعيًا ولو أن أجداده كانوا من أهل السنة.‘ (الصفحة 2) وتبعًا لبراون، ولد الشيخ أحمد سنة 1157ﻫ وتوفي سنة 1242ﻫ. ("مقالة سائح"، الحاشية إي، الصفحة 235)

(2) ’وكانت نسبته كما رواها نجله الشيخ عبد الله ما يأتي: الشيخ أحمد ابن زين الدين ابن إبراهيم ابن صخر ابن إبراهيم ابن ظاهر ابن رمضان ابن رشيد ابن دهيم ابن شمروخ ابن صولح.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 1، الصفحة 1)

(3) ’كتب السيد كاظم في كتابه "دليل المتحيرين" ما يأتي: ’’إن مولانا رأى الإمام الحسن عليه السلام ذات ليلة، وضع لسانه المقدس في فمه، فمن ريقه المقدس ومعونة الله تعلّم العلوم وكان في فمه كطعم السكر وأحلى من العسل وأطيب من رائحة المسك. ولما استيقظ أصبح في خاصته محاطًا بأنوار معرفة الله طافحًا بأفضاله منفصلاً عن كل ما هو مغاير لله وزاد اعتقاده في الله في الوقت نفسه الذي ظهر فيه استسلامه لإرادة العليّ. وبسبب ازدياد شوقه والرغبة الشديدة التي استولت على قلبه نسي الأكل واللبس، اللهم إلا ما يسد به حاجته الضرورية.‘‘ ‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 1، الصفحة 6)

المخادعين. وإذ كان واثقًا بنبالة مقصده طلب بحماس وهّاج ليس من أهل الشيعة فحسب بل من جميع أتباع الرسول محمد ﷺ في الشرق أن ينتبهوا من نوم غفلتهم ويهيئوا الطريق للذي سوف يظهر حتمًا بينهم عند تمام الوقت، والذي يقدر وحده بأنواره على محو ضباب الجهل والعمى الذي أحاط دينهم. وإذ ترك أهله وعشيرته وموطنه الواقع في إحدى جزائر البحرين جنوب الخليج الفارسي، استعد كما أمرته القدرة الإلهية أن يبين معضلات الكتابات الإسلامية التي كانت تشير إلى مجيء مظهر جديد. وكان عالمًا حق العلم بالأخطار والمصاعب التي تعترض طريقه والمسؤولية الساحقة الثقيلة لمهمته، فأضاءت في روحه شعلة الاعتقاد بأنه لا يمكن لأي إصلاح داخل الدين الإسلامي، مهما بلغ من الشدة، أن يأتي بنتيجة أو ثمرة في إنهاض هذا الشعب المنحرف من كبوته. وكان يعلم، كما قدرت له المشيئة الإلهية أن يبين، أنه لا يمكن إحياء ذلك الدين المتفسخ ولا إعادة طهارته الأولى إلا بظهور جديد مستقل كما شهدت وتنبأت بذلك الكتب الإسلامية نفسها.(1)

وإذ كان خلوًا من المتعلقات المادية ومنقطعًا عن كل ما سوى الله، قام في أوائل القرن الثالث عشر من الهجرة وله من العمر أربعين سنة وخصص ما بقي من أيام حياته للمهمة التي رأى نفسه مضطرًا للقيام بها. فسافر أولاً إلى النجف وكربلاء،(2) وفي بضع سنين هناك اطلع على أفكار علماء الإسلام وآرائهم ومشاربهم. وأقروا به بأنه من أقدر المفسرين للكتاب، ونال رتبة "مجتهد" وحاز قصب السبق على جميع أقرانه الذين أقاموا في ذين المدينتين المقدستين أو أتوا إليهما للزيارة. وأصبحوا يعتبرونه متبحرًا في أسرار الوحي الإلهي، ومؤهلاً لكشف المعضلات التي تحويها أحاديث الرسول محمد ﷺ وأئمة الدين. فلما ازداد تأثيره واتسعت دائرة نفوذه وجد نفسه محاطًا من كل الجهات

________________________

(1) ’وكان (الشيخ أحمد) يعلم بأن الله اختاره ليعد قلوب الناس لقبول الحق الذي سوف يظهر عن قريب وأنه بواسطته يسهل فتح الطريق إلى المهدي الإمام الثاني عشر المختفي، ولم يكتب ذلك بلغة واضحة مفهومة لئلا يمزقه الأشرار.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان"، للدكتور چين، الصفحة 15)

(2) ’تقع كربلاء على شاطئ الفرات إلى الجنوب الغربي على بعد 55 ميل من بغداد، ويقع قبر الحسين في وسطها، وقبر أخيه العباس في الجزء الجنوبي الشرقي.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحة 486) أما النجف فيقدسها الشيعة لأنها تحوي قبر الإمام علي.

بعدد متعاظم من الباحثين المخلصين الذين كانوا يرومون تنويرهم بدقايق الدين، فكان قادرًا على حلها جميعها. وبعلمه وإقدامه أوقع الرعب في قلوب الصوفية والأفلاطونية الجدد وغيرهم من أصحاب الفكر(1) ممن حسدوه على علمه وخشوا بأسه. وهكذا زاد اعتبارًا في أعين علماء الدين الذين يعتبرون هذه الطوائف من الفرق الباطلة. وكان مع ذلك لا يعبأ بالتكريم الذي يسديه له المعجبون به رغمًا عن اتساع دائرة علمه وشهرته واحترامه من الجميع، وكان يتعجب من شدة تعلقهم بالرتب والمناصب ولم يقبل أن يشاركهم في مقاصدهم.

وبعد أن أتم مهمته في ذين المدينتين واستنشق طيب الرائحة التي هبت عليه من إيران أحس في قلبه شوقًا جارفًا للإسراع إلى ذلك القطر. إلا أنه أخفى عن أصحابه الحامل الحقيقي الذي جعله يرحل إلى تلك الأرض. فمن طريق الخليج الفارسي أسرع إلى أرض محبوب قلبه متظاهرًا أنه يقصد زيارة ضريح الإمام الرضا في مشهد.(2) وامتلأ برغبة في رفع العبء عن روحه، وبحث باجتهاد عمن يمكنه البوح لهم بذلك السر الذي لم يبح به لأحد بعد. ولما وصل إلى شيراز، تلك المدينة التي ستر فيها الكنز الإلهي والتي سيرتفع صوت المنادي فيها بالأمر الجديد، ذهب إلى مسجد الجمعة الذي هو مشابه بدرجة كبيرة في هيئته وشكله للكعبة المشرفة. وكان غالبًا ما يقول وهو ينظر إلى ذلك البناء ’حقًا

________________________

(1) ’إن أخص عقايد الشيخ أحمد هي كما يأتي: ’إن جميع العلوم والمعارف موجودة في القرآن ولأجل فهم معاني بواطنه الكلية يقتضي معرفة العلوم ابتداء والاطلاع عليها ولأجل ايضاح هذه العقيدة كان يستعمل طرقًا حرفية في تفسير الكتاب، واجتهد أن يطبق عليه جميع أنواع العلوم المعروفة في العالم الإسلامي، وكان يبدي احترامًا زائدًا للأئمة وخاصة للإمام جعفر الصادق وهو السادس في ترتيب الأئمة وكان دائم الاقتباس من أقواله... وفيما يتعلق بأحوال الآخرة وقيام الأجساد، كان اعتقاده معدودًا من الهرطقة، فقد قرر أن جسم الإنسان مكون من أجزاء متباينة مستمدة من الطبائع الأربعة والأجسام التسعة السماوية، وأما الجسم الذي يقوم في يوم القيامة لا يتكون إلا من الأجزاء السماوية. وأما الطبائع الأربعة فإنها تعود إلى أصلها بمجرد الوفاة. أما هذا الجسم الهرقولي فهو الذي يعود.‘ وبسبب هذه الآراء اعتبره باقي العلماء مبتدعًا واتهموه بأنه يوافق آراء الملاّ صدرا أكبر فيلسوف إيراني في الزمن الحديث.‘ ("مجلة الجمعية الآسيوية الملكية" سنة 1889م، مقالة 12، الصفحتان 890-891)

(2) في القرن التاسع الميلادي دفنت رفات الإمام الرضا ابن الإمام موسى وثامن الأئمة الاثني عشر في مشهد.

إن لبيت الله علامات لا يعلمها إلا أولو الأبصار وإني أعتقد بأن الذي بناه موحى إليه من الله.‘(1) وكم كان يمتدح تلك المدينة بشغف وبدرجة أدهشت نبرة لهجته سامعيه الذين كانوا معتادين على رؤيتها! ولكنه كان يقول لهم ’لا تندهشوا فسوف ينكشف لكم قريبًا سرّ كلامي وإن منكم من يعيش ليرى جلال ذلك اليوم الذي اشتاق الأنبياء قديمًا لرؤيته.‘ ولجلالة قدر الشيخ في أعين العلماء الذين قابلوه وحادثوه، لم ينسبوا عدم فهمهم لكلماته إلا لقصور في إدراكهم لأسرار إشاراته.

ولما بذر بذور المعرفة الإلهية في قلوب الذين وجد فيهم الاستعداد لقبول ندائه، رحل إلى يزد ومكث فيها مدة منشغلاً باستمرار بنشر الحقائق التي رأى ضرورة الإفصاح عنها. وفي تلك البلدة كتب(2) معظم كتبه ورسائله وكان صيته وشهرته(3) قد وصلتا إلى درجة دفعت سلطان إيران فتح علي شاه إلى توجيه خطاب له(4) من طهران طلب منه فيه

________________________

(1) "وفي أرض الفاء (فارس) يوجد مسجد قد شيد في وسطه بناء شبيه بالكعبة (مسجد الجمعة) ولم يُبنَ ذلك البناء إلا علامة قبل ظهور الأمر من الله ببناء البيت في هذه الأرض [إشارة إلى منزل الباب في شيراز] طوبى لمن يعبد الله في تلك الأرض وإنا قد عبدناه هناك ودعونا الله لمن شيّد هذا البناء." ("البيان" الفارسي، الجزء 2، الصفحة 151)

(2) عدّد نقولاس في كتاب "مقالة في الشيخية" في الفصل الخامس نحوًا من 96 كتابًا مما كتبه الشيخ أحمد ومن بينها ذكر أشهرها كما يأتي: 1. شرح الزيارة على الجامعة الكبيرة للشيخ هادي 2. شرح آية "قل هو الله أحد" 3. الرسالة الخاقانية جوابًا لفتح علي شاه على سؤاله بخصوص امتياز القائم على أسلافه 4. رسالة في الأحلام 5. جواب الشيخ موسى البحريني بخصوص دعوى صاحب الزمان 6. جواب الصوفية 7. جواب الملاّ مهدي الأسترابادي في معرفة النفس 8. في نعيم وجحيم الحياة الأخرى 9. جواب الملاّ علي أكبر في أحسن الوسائل للوصول لله 10. في القيامة.

(3) ’وكان لنبأ وصوله رنة بين العلماء وخاصة أكابرهم الذين قابلوه بكل احترام والتفوا حوله وقلدهم في ذلك سكان المدينة وجاء جميع العلماء لمقابلته وكانوا يعتقدون أنه أشهر عالم بين أكابر العلماء.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الصفحة 18)

(4) ويقول نقولاس في "مقالة في الشيخية"، (الصفحتان 19-20) بأن الشاه أرسل له خطابًا آخر قال له فيه إنه يعلم أنه من الواجب عليه الذهاب إلى يزد لمقابلة العلاّمة الشهير والرجل القدسي الذي تبركت بأقدامه البلاد التي وطئها، إلا أنه لأسباب سياسية خطيرة لا يقدر في الوقت الحالي على مفارقة تخت المملكة وخاصة أنه لو سافر منها يكون مضطرًا لاصطحاب عشرة آلاف من الرجال والأتباع وتضيق بهم مدينة يزد الصغيرة، وقال إنه لذلك يرجو أن يتنازل الشيخ لزيارته، وزاد على ذلك بقوله: ’مع علمي الأكيد بحقارتي أمامك.‘

صورة 2
منظر عام للنجف

شرح بعض المسائل الإسلامية التي لم يقدر العلماء على بيان معانيها. فأجابه حالاً برسالة تسمى ﺑ"الرسالة السلطانية". فسُرَّ الشاه من عباراتها ومواضيعها لدرجة أنه دعاه بخطاب آخر لزيارة بلاط ملكه. فأجاب على ذلك الخطاب الملكي الثاني بكتابة الكلمات التالية: ’إني منذ غادرت النجف وكربلاء كنت وطدت العزم على زيارة ضريح الإمام الرضا في مشهد ولذلك أتعشم أن جلالة الملك يسمح لي بفضله بالبر بذلك القسم. ثم بعد ذلك إن شاء الله أتعشم أن أنعم بالشرف الذي أسداه إليّ جلالته.‘

ومن بين الذين انتبهوا لفحوى الدعوة التي قام بها ذلك المطلع للنور الإلهي في مدينة يزد، الحاج عبد الوهاب، وهو رجل ذو تقوى كبيرة ومستقيم ويخشى الله. وكان يزور الشيخ أحمد كل يوم بصحبة من يدعى الملاّ عبد الخالق اليزدي، الذي كان مشهورًا بنفوذه وعلمه. إلا أنه في مناسبات معينة كان الشيخ أحمد يرغب في محادثة عبد الوهاب على انفراد، فيطلب من عبد الخالق أن يتركه على انفراد مع تلميذه المحبوب، وكان هذا التفضيل المشهود لرجل أميّ مثل عبد الوهاب سببًا لدهشة زميله

الذي كان يظن نفسه أقدر وأعلم منه. ولكن فيما بعد عندما غادر الشيخ أحمد مدينة يزد، اعتكف عبد الوهاب واعتزل الناس، فظنوه قد زهد وتصوف. فقام عليه الرؤساء كنعمة الله والذهبي واتهموه بأنه دخيل ويريد أن يسلبهم سلطتهم. وأما عبد الوهاب الذي لم يكن منجذبًا لطريقة التصوف، فلم يكن له كبير اعتناء بادعاءاتهم واحتقر اتهامهم وأحجم عن صحبتهم. ولم يكن له من الأصحاب سوى الحاج حسن النائيني، الذي انتخبه كصديق حميم وأطلعه على السر الذي أدلى به إليه سيده. فلما قضي نحب عبد الوهاب، استمر ذلك الصديق في السبيل الذي أرشده إليه وكان يبشر كل شخص مستعد ببشارة قرب ظهور دين الله.

وقابلت في كاشان ميرزا محمود القَمصري الذي كان رجلاً مسنًا ويبلغ آنذاك التسعين من عمره ومحبوبًا ممن يعرفونه، وأخبرني بالرواية الآتية: ﴿أتذكر إني كنت أسمع وأنا صغير وقاطن في كاشان، أن رجلاً في بلدة نائين، كان يبشر الناس بقرب ظهور جديد وكل من يسمعه سواء من العلماء أو الموظفين أو العوام كان يقع تحت تأثير سحر كلامه فيزهد في الدنيا ويحتقرها. وإذ كنت أريد التحقق من صدق ذلك، سافرت إلى نائين دون إطلاع أصدقائي، وهناك تحققت من الرواية التي سمعتها عنه. وكانت طلاقة وجهه تحكي عن النور الذي اشتعل في روحه. وسمعته (الحاج حسن النائيني) ذات يوم يقول بعد أن أدى صلاة الصبح: ’عن قريب سوف تتبدل الأرض بالجنة وستكون بلاد إيران كعبة القصاد من جميع أمم العالم ويطوفون حولها.‘ وفي أحد الأيام رأيته لفرط دهشتي في الفجر ساجدًا يردد بإخلاص عبارة "الله أكبر" كثيرًا، ولدهشتي التفت إليّ وقال: ’إن الذي كنت أبلغك عنه قد ظهر، ففي هذه الساعة بالتحديد انبثق نور الموعود، وهو يضيء العالم بأنواره. يا محمود الحق أقول لك إنك سوف ترى وتشاهد بعينك يوم الأيام.‘ فبقيت تلك الكلمات التي خاطبني بها ذلك الرجل المقدس تدوي في أذني، إلى أن جاء اليوم الموعود في سنة الستين، فكان لي الشرف أن أستمع للنداء الذي علا من شيراز وكنت ويا للأسف بسبب مرضي غير قادر على الذهاب إلى تلك المدينة. وفيما بعد عندما وصل حضرة الباب صاحب الظهور إلى

صورة 3
صورة 4
فتح علي شاه وأنجاله

كاشان، ونزل ضيفًا مدة ثلاث ليال في منزل الحاج ميرزا جاني، لم أكن أعلم بزيارته، وبذلك منعت من شرف المثول بين يديه. وفيما بعد بينما كنت أتحادث مع أتباع أمر الله، علمت بتاريخ ميلاد حضرة الباب أنه يقع في أول محرم سنة 1235ﻫ،(1) ووجدت أن ذلك التاريخ لم يكن مطابقًا للتاريخ الذي تكلم عنه الحاج حسن النائيني، بل كان هناك فرق بمقدار سنتين بين التاريخين. فحيرني ذلك الأمر جدًا. ولكن بعد ذلك بمدة طويلة، قابلت الحاج ميرزا كمال الدين النراقي، الذي أخبرني بظهور حضرة بهاءالله في بغداد، وقص عليّ بعضًا من أبيات "القصيدة الورقائية" وبضع فقرات من "الكلمات المكنونة" الفارسية والعربية. فحركت تلاوة تلك الكلمات القدسية أعماق روحي، ولا زلت أذكر منها ما يأتي: "يا ابن الوجود فؤادك منزلي قدسه لنزولي وروحك منظري طهرها لظهوري"، "يا ابن الأرض إذا أردتني لا تطلب سواي ولو تنظر إلى جمالي فاغمض عينيك عن العالمين لأن إرادتي وإرادة غيري كالماء والنار لا يسكنان في قلب واحد." فسألت عن تاريخ ميلاد حضرة بهاءالله، فأجاب: ’في فجر اليوم الثاني من محرم سنة 1233ﻫ.‘(2) فتذكرت إذ ذاك كلمات الحاج حسن النائيني واليوم الذي نطق بها، فسجدت على الأرض لله قائلاً: ’سبحانك اللهم يا إلهي أحمدك على ما أشهدتني يومك الموعود، فإذا دعوتني إليك الآن، فإني أموت راضيًا مطمئنًا.‘﴾ وفي تلك السنة بالذات وهي سنة 1274ﻫ،(3) توفي ذلك الرجل الجليل المنير (محمود القَمصري)، وصعدت إلى الله روحه الطيبة.

وهذه الرواية التي سمعتها من فم ميرزا محمود القَمصري نفسه والتي هي لا زالت متداولة بين الناس، تشهد بقوة على عرفان الشيخ الأحسائي وبتأثيره البليغ على تلامذته المباشرين. فقد تم الوعد الذي أخبرهم به وانكشف السر الذي أشعل قلوبهم به بكل بهائه ومجده.

________________________
(1) يوافق 20 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1819م.
(2) يوافق 12 نوڤمبر/تشرين الثاني سنة 1817م.
(3) سنة 1857-1858م.
صورة 5
رسم ميرزا بزرگ
(والد حضرة بهاءالله)

وفي تلك الأيام التي كان الشيخ الأحسائي يستعد فيها للرحيل عن يزد، تحرك السيد كاظم الرشتي،(1) ذلك النور والعلم الإلهي الآخر، من إقليمه گيلان، لزيارة الشيخ أحمد قبل رحلته للحج في خراسان، وفي أول مقابلة له خاطبه الشيخ أحمد قائلاً: ’مرحبًا يا

________________________

(1) ’وكان السيد كاظم من أسرة مشهورة بالتجارة واسم والده آقا سيد قاسم ولما بلغ من السن اثني عشرة سنة كان يقطن في أردبيل قريبًا من قبر الشيخ صفي الدين إسحق من أولاد الإمام موسى الكاظم سابع الأئمة، وجدّ الملوك الصفوية، وفي ذات ليلة رأى احد أسلاف الشيخ يأمره بأن يكون تحت أمر الشيخ الأحسائي الذي كان مقيمًا إذ ذاك في يزد، فسافر بناء على هذا الأمر إلى هناك واندمج ضمن تلاميذ الشيخ أحمد ونبغ في تعاليمه لدرجة أنه اعتُرِف له بالإجماع عند وفاة الشيخ بأنه هو الرئيس للشيخية.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية إي، الصفحة 238)

صديقي كم كنت أشتاق إليك، وانتظرتك لتخلصني من غرور هؤلاء الجهلاء، وإني لممتعض من عدم مبالاتهم وقلة خجلهم من أعمالهم وفسوقهم. "إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً"‘(1)

وكان السيد كاظم تظهر عليه من صغره علائم النجابة والقوة الروحية، فكان فريدًا بين معاصريه والذين في رتبته. وفي سن الحادية عشر حفظ القرآن كله غيبًا، ولما بلغ الأربعة عشر عامًا، حفظ كثيرًا من الأحاديث النبوية والصلوات والمناجاة. وفي الثامنة عشر من عمره كتب تفسيرًا لآية الكرسي، أدهش الكثيرين من أعظم علماء عصره، وكانت تقواه ولطف أخلاقه وتواضعه بدرجة يتأثر منها كل من يعرفه من الصغير والكبير.

وفي سنة 1231ﻫ(2) لما بلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا فقط، ترك الأهل والخلان وسافر من گيلان ليتشرف بلقاء من قام لإعلان قرب الظهور الإلهي. ولم يمكث مع الشيخ أحمد سوى بضعة أسابيع، حتى واجهه الأخير في أحد الأيام بهذه الكلمات: ’إلزم بيتك ولا تحضر دروسي. والذي يريد من تلاميذي وأصحابي أن يتحرى مسألة قد تحير منها ليذهب إليك ويتعلمها منك، فإنك بفضل الله وموهبته التي منحها لك، ستحل لهم المشكلات بما يطمئن قلوبهم وستحيي بقوة بيانك دين جدك محمد ﷺ الذي أهمله الناس.‘

وكانت هذه الكلمات التي خوطب بها السيد كاظم قد أشعلت نار الحسد في صدور تلاميذ الشيخ أحمد وأهاجت شجونهم، ومن بينهم الملاّ محمد الممقاني والملاّ عبد الخالق اليزدي. إلا أنه نظرًا لمهابة السيد كاظم وللدلائل الباهرة على علمه وحكمته، فقد انبهر أولئك التلاميذ واضطروا للخضوع.

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الأحزاب، الآية 72.
(2) سنة 1815-1816م.

وبعد أن سلم الشيخ أحمد تلاميذه لرعاية السيد كاظم، ارتحل إلى خراسان، وهناك استراح مدة في الجهات المجاورة لضريح الإمام الرضا في مشهد. وابتدأ في ذلك الإقليم أيضًا بنشر تعاليمه وواصل أعماله هناك بحماس شديد. فكان يحل معضلات الأمور لعقول الباحثين ويهيئ الطريق لمجيء المظهر القادم. وفي تلك المدينة ازداد شعوره بقرب مجيء اليوم الذي يولد فيه الموعود وبأن الساعة الموعودة كانت تقترب بسرعة، ومن ناحية بلدة نور، في إقليم مازندران، كان يشاهد علائم تشعشع أنوار فجر الظهور الموعود. وبالنسبة له فإن الظهور المنبأ عنه في الحديث التالي كان وشيكًا: "سترون ربكم كما ترون القمر ليلة أربعة عشر وستنكرونه"، وفي حديث آخر "إن من إشراط الساعة أن تلد الأَمَةُ ربّها."

فولى الشيخ أحمد وجهه شطر نور، وسافر إلى طهران ومعه السيد كاظم وبعض التلاميذ. ولما أُعلِم شاه إيران بقرب مجيء الشيخ أحمد إلى العاصمة، أمر كافة الأعيان والموظفين في طهران بالخروج لاستقباله. ووجههم لأن يرحبوا به غاية الترحيب نيابة عنه. واستضافه الشاه مع أصحابه ضيافة ملكية، وزاره الشاه بنفسه ووصفه بأنه فخر أمته وزينة رعيته.(1) وفي تلك الأيام ولد مولود في عائلة شريفة وقديمة من عائلات نور،(2) وكان والده ميرزا عباس المعروف بميرزا بزرگ وزيرًا مقربًا للعرش. وكان المولود هو حضرة بهاءالله.(3) ففي ساعة فجر اليوم الثاني من محرم سنة 1233ﻫ، وهي الساعة التي لم يشعر العالم بأهميتها، ولد مَن قُدّر له أن يهب العالم نعمًا لا تحصى. وكان الشيخ أحمد، الذي أدرك تمامًا معنى ذلك الحدث، يريد أن يمضي بقية أيامه بالقرب من بلاط هذا المولود

________________________

(1) ’وكان الشاه يشعر بزيادة احترام وتقدير الشيخ ويعتقد أن من الفرض عليه طاعته وأن مخالفته كفر. وحصلت في تلك الأيام جملة زلازل في الري وسقطت جملة منازل ورأى الشاه في الرؤيا من قال له لولا وجود الشيخ أحمد لكانت المدينة قلبت رأسًا على عقب وقتل جميع السكان، فانتبه مرعوبًا وزاد اعتقاده في الشيخ.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 1، الصفحة 21)

(2) يقول ميرزا أبو الفضل في كتاباته أن نسبة حضرة بهاءالله يمكن تسلسلها إلى أنبياء إيران القدماء وكذلك إلى الملوك الذين حكموا تلك البلاد قبل احتلال العرب لها.

(3) واسمه ميرزا حسين علي.

الملك السماوي. ولكنه لم يروِ غلته ولا شفا ظمأه، واضطر أن يستسلم لأمر الله ويغادر مدينة محبوبه وسار إلى كرمانشاه.

وكان الأمير محمد علي ميرزا، أكبر أنجال الشاه حاكم كرمانشاه وأقدر عضو في أسرته، قد استأذن جلالة الملك أن يمكّنه من القيام بشخصه على خدمة الشيخ أحمد(1) ولما كان الأمير محبوبًا من الملك، أذن له في ذلك. وودع الشيخ أحمد طهران مفوضًا أمره إلى ما قُدّر له. وقبل مفارقته لتلك المدينة دعا الله بمناجاة أن يحفظ هذا المولود الجديد ويبارك هذا الكنز الرباني وأن يعترف مواطنوه ببهائه وبركته اعترافًا كليًا وأن يعلنوا تفوق أمره لسائر الأمم والأقوام.

ولما وصل الشيخ أحمد إلى كرمانشاه، عزم أن ينتخب جماعة من أخلص مريديه ووجه اهتمامه إليهم وأمرهم أن يكونوا على أهبة الاستعداد لنصرة الأمر الجديد الموعود. وفي سلسلة كتبه ورسائله التي حررها وخاصة في كتابه المعروف ﺑ"شرح الزيارة" عدّد مناقب الأئمة بلغة عالية ممتازة وجعل جلَّ اهتمامه الإشارة الواردة في أقوالهم بالنسبة لظهور الموعود. وكان يكرر كلمة "الحسين" مشيرًا بذلك إلى الحسين الموعود، وكذلك كان يشير إلى "علي"، ولم يكن مقصوده ذلك الذي قُتل، بل الذي ولد حديثًا. وكان يشير في إجاباته عن الأسئلة الخاصة بعلامات ظهور القائم الموعود إلى ضرورة قرب ظهوره. وفي السنة التي ولد فيها حضرة الباب، توفي ابن الشيخ المسمى علي، فكان يقول لتلاميذه الذين تأسفوا على وفاته: ’لا تحزنوا لأني قدمت ابني عليّ، فداء للعليّ الذي تنتظرونه جميعًا، وإني ربيته وأعددته لذلك.‘

وكان حضرة الباب المدعو "علي محمد"، قد ولد في شيراز في أول محرم سنة 1235ﻫ من بيت مشهور بالشرف والعترة النبوية ومن سلالة الرسول، وكان والده السيد محمد رضا من ذرية الرسول، كما كانت والدته أيضًا من العائلات العريقة في النسب، وطابق تاريخ ولادته الحديث المروي عن الإمام علي أمير المؤمنين، حيث قال: "إني

________________________

(1) ’وكانت كرمانشاه تنتظره بفارغ الصبر وكان الأمير محمد علي حاكمها قد أخرج المدينة بأسرها لملاقاته وشيد خيامًا لاستقباله في "شاه گيلان" ومشى الأمير أمامه لغاية "تاج عباد" التي تبعد 4 فراسخ عن المدينة.‘ ("مقالة في الشيخية"، لنقولاس، الجزء 1، الصفحة 30)

أصغر من ربّي بسنتين." وبقي سرّ هذا الحديث مستورًا إلا للذين بحثوا وعرفوا حقيقة هذه الرسالة الجديدة. وقال حضرة الباب في أول كتبه وأعظمها عن حضرة بهاءالله: "يا بقية الله قد فديت بكلي لك ورضيت السبّ في سبيلك وما تمنيت إلا القتل في محبتك وكفى بالله العلي معتصمًا قديمًا وكفى بالله شاهدًا ووكيلاً."

وبينما كان الشيخ أحمد يجول في كرمانشاه، أظهر له الأمير محمد علي ميرزا، علائم الخضوع التام حتى أنه في ذات يوم أشار إلى الأمير قائلاً عنه: ’إني أعتبر محمد علي ابني ولو أنه من نسل فتح علي.‘ وكان كثير من الطلاب والتلاميذ يحضرون إلى منزله ودرسه، فلم يكن يعِر اهتمامًا خاصًا لأحد من أتباعه سوى السيد كاظم، وتبين أنه أفرده من بين الجماهير الذين التفوا حوله وأعده بكل قوته لإتمام عمله بعد وفاته. وسأله يومًا أحد التلاميذ عن الكلمة التي يتفوه بها الموعود في وقته وهي التي يفرّ منها نقباء الأرض والثلاثمائة وثلاثة عشر رئيسًا في الأرض، وهي التي يمتلئون منها رعبًا لعدم قدرتهم على تحمّلها. فأجابه الشيخ قائلاً: ’كيف تقدر على تحمّل كلمة لا يقدر على تحمّلها نقباء الأرض؟ فلا تطمع في المحال ولا تعد تطلبه، ولا تسألني هذا السؤال، واطلب من الله المغفرة.‘ ولكن السائل المغرور أصر على السؤال ملحًا في طلب معنى تلك الكلمة، فأجابه أخيرًا الشيخ أحمد بقوله: ’لو فرض وبلغت ذلك اليوم، وقيل لك فيه اترك ولاية عليّ وأنكر صحتها، فماذا عسى أن يكون جوابك؟‘ فصاح ذلك التلميذ: ’لا قدّر الله ذلك، فلا يمكن أن يحصل هذا أبدًا، فلا يعقل أن تصدر مثل هذه الكلمات من لسان الموعود.‘ وبهذه العبارة امتحن التلميذ وخفّت موازين إيمانه وظهر نقصها، لأنه لم يعلم أن الذي يظهر قد وهب له من السلطة ما لا يمكن لأي إنسان أن يعارضه أو يناقشه فيها، لأنه مظهر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والذي يتردد أو يجادل في ذلك أقل من آن، إنه محروم من فضله ومحسوب من الغافلين. ومع ذلك لم يلتفت أحد في تلك المدينة من تلاميذ الشيخ أحمد إلى المعنى المقصود من قوله، ولا انكشفت أسراره إلا للقليل منهم.

وبعد وفاة الأمير محمد علي ميرزا،(1) نقل الشيخ أحمد مسكنه إلى كربلاء حيث تخلص من رجاء الأمير في إطالة مدة إقامته في كرمانشاه، ومع أنه بحسب الظاهر كان

________________________
(1) سنة 1237ﻫ.

يدور حول ضريح سيد الشهداء الإمام الحسين، إلا أن قلبه كان، وهو يقوم بأداء فرائض الزيارة، يدور حول حسينه الحقيقي الذي كان مقصود فؤاده في دعواته. وقد حضر جمهور غفير من العلماء لملاقاته، وأخذ الكثيرون يحسدونه على شهرته، وأراد العديدون النيل من سلطته، ولكنهم أخفقوا في سعيهم للحط من مقامه بين علماء تلك المدينة. وأخيرًا دعي ذلك النور المضيء لإرسال أشعته على مدينتَي مكة المكرمة والمدينة المنورة، فسافر إليهما، وهناك تابع بإخلاص تام أعماله وجعل مضجعه الأخير بجوار قبر النبي الذي أتعب حياته في نشر تعاليمه وبيان حقيقة دينه.

وقبل مبارحته كربلاء، أوصى السيد كاظم خليفته وزوده بسر رسالته(1) وطلب إليه أن يبذل الجهد في إشعال قلب كل باحث بما يجعل باطنه متوقدًا، ورفض أن يأذن له في مرافقته إلى النجف، كما كان السيد كاظم يلحّ به، وكانت كلماته الختامية له وهو يودعه: ’لا تضيع الوقت بل اغتنم كل ساعة تمر وأشدد أزر الهمة واجتهد ليل نهار في أن تزيل بعون الله ومحبته وقدرته تلك الحجب والغشاوة التي أعمت الناس، فالحق أقول لك إن الساعة قريبة، تلك التي طلبت من الله أن ينجيني من مشاهدتها، لأن زلزلة الساعة شيء عظيم. فاسأل الله أن ينجيك من محنة ذلك اليوم وهوله، لأننا كلانا لا نقدر أن نتحمل قوتها الجارفة وسيحمل ثقلها غيرنا ممن هم أشد بأسًا وقوة، رجال قلوبهم مقدسة عن أهواء هذا العالم وقوتهم مستمدة من قوة الله القدير.‘

ولما أتم الشيخ أحمد هذه العبارة ودّعه وشجعه على أن يقابل المصاعب والامتحانات التي ستأتيه ووكله إلى حفظ الله. وفي كربلاء اجتهد السيد كاظم في نشر وإكمال تعاليم الشيخ أحمد ودافع عن أمره وأجاب عن كل سؤال، مما حيّر عقول أتباعه وزاد في حسد معارضيه الجهلاء الذين كانوا يصيحون في وجهه قائلين: ’إننا تحملنا تعاليم الشيخ

________________________

(1) ذكر نقولاس في مقدمته لكتاب "رسالة في الشيخية": ’أقتبس الآتي من الأقوال التي تنسب للشيخ أحمد مما قاله للسيد الرشتي: ’’لا يوجد سوى السيد كاظم الرشتي الذي يعرف مقصدي ولا يقدر أن يفهمه أحد خلافه، فاطلبوا علومي من السيد كاظم الرشتي، فقد تلقاها مني مباشرة وهي التي تلقيتها من الأئمة الذين تلقوها من رسول الله ﷺ. فهو وحده الذي يعرف مغزى كلامي.‘‘ ‘

الادعائية مدة أربعين سنة دون أي معارضة من جانبنا، والآن يدعي السيد مثل ادعائه، فلا يمكننا والحالة هذه تحملها أو السماح بنشرها فهو لا يعتقد بقيامة الجسد، وينكر المعراج الجسماني ويعتبر علامات اليوم الأخير أنها استعارية وجميع ذلك مخالف لقواعد الإسلام الصحيحة، فآراؤه التي يقوم على نشرها بدعة مضلة.‘ ولكن السيد لم يعبأ بصيحاتهم واستمر في مجهوده، وكلما زاد صخبهم كلما زاد ثباتًا عملاً بالوصية. وأخيرًا أرسل خطابًا إلى الشيخ يعلمه فيه بالمصاعب التي حلّت عليه والتهم التي وُجهت ضده، ويسأله فيه عن مقدار الزمن والوقت الذي يستطيع فيه أن يتحمل جهل هؤلاء القوم العنودين وتعصبهم وعن الوقت والميعاد الذي يظهر فيه الموعود حتى يتخلص من مجابهتهم. فأجابه الشيخ بقوله: ’ثِق بفضل الله ولا تحزن من أعمالهم، فسيظهر الله سرّ هذا الأمر وينكشف الغطاء عن مكنون الرسالة، ولا أزيدك شيئًا على هذا ولا أعيّن لك(1) زمنًا معينًا، وستعلمنّ نبأه بعد حين(2) ولا تسألوا عن أشياء إن تبدُ لكم تسؤكم.‘

فما أعظم وما أسمى الأمر الذي كُتبت بسببه مثل هذه الكلمات إلى شخص عظيم مثل السيد كاظم، وكان جواب الشيخ أحمد مما طمأن خاطر السيد وقواه على متابعة عمله بمضاعفة المجهود الأول مستمرًا على مقاومة هجمات العدو الحسود الماكر.

________________________

(1) أشار حضرة الباب نفسه إلى هذه الفقرة في "الدلائل السبعة" وأيدها بقوله: "وهذا معروف من أقوال الشيخ أحمد الأحسائي وتوجد دلائل لا تحصى خاصة بهذا الظهور، فمثلاً كتب بيده للسيد كاظم الرشتي قائلاً ’كما أنه ينبغي لبناء المنزل وجود الأرض، كذلك يلزم لهذا المظهر من قيام الوقت، ولكن الآن لا يمكن الإجابة عن تحديد هذه الساعة، ومع ذلك فهي معلومة على وجه اليقين.‘ فكل هذا الذي سمعته بنفسك مرارًا من السيد كاظم ألم يكن واضحًا؟ ألم يكرر قوله ’ألا ترضون أن أذهب ويظهر لكم الله‘" ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحة 58) وفيه أيضًا الحكاية الآتية الخاصة بالشيخ أحمد في طريقه إلى مكة المكرمة، فإن بعضًا من تلامذته رووا أنهم سمعوا بأن الملاّ عبد الخالق ومرتضى قلي قالا أن الشيخ أخبرهما يومًا قائلاً: ’صلوا حتى لا توجدوا في يوم الظهور والرجعة لأنه سوف توجد حروب أهلية كثيرة وإذا عاش أحدكم ليرى هذا الوقت يشاهد أمورًا عجيبة بين سني 60، 67، وأعجب الكل نفس المظهر، فسوف تشاهدون أمرًا عجيبًا لأن الله إذا أراد نصرة هذا المظهر يظهر هيكلاً يتكلم عن نفسه ودون أن يتعلم من أحد.‘ (الصفحتان 59-60)

(2) بحسب حساب أبجد، كلمة "حين" تساوي من العدد 68، وفي سنة 1268ﻫ أظهر حضرة بهاءالله أمره كما يعلم من القصائد التي كتبها في تلك السنة.

وتوفي الشيخ أحمد بعدها بفترة قصيرة في سنة 1242ﻫ وكان عمره 81 سنة،(1) ووضع جسده في مقبرة البقيع(2) في المدينة المنورة، وراء حائط مرقد الرسول ﷺ.

***
________________________

(1) ’توفي في مكان يدعى الحَدِّة بجوار المدينة.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 1، الصفحة 60)

(2) ’ونقل جسده إلى المدينة ودفن في مقبرة البقيع خلف حائط القبة النبوية إلى جهة الجنوب تحت ميزاب المحراب، ويقال أن هناك أيضًا قبر فاطمة أمام "بيت الحَزَن".‘ ("مقالة في الشيخية"، الصفحتان 60-61) ’وقد أعقب وفاة الشيخ أحمد لمدة بضعة أيام هدوء. ويظهر أن الأهواء قد سكنت وذلك في وقت أصيب فيه الإسلام بنكبة وتضعضعت قوته، لأن إمبراطور روسيا أخضع أممًا إسلامية، وأغلب البلاد المأهولة بالمسلمين وقعت فريسة لجيش موسكو.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 2، الصفحة 5) ’وكان قد ظن أنه بوفاة الشيخ أحمد تنقرض تعاليمه وتتلاشى، ومرت سنتان ساد فيهما الهدوء، إلا أنه لم تمض تلك المدة إلا ورؤي أن تعاليمه قد أشرقت على العالم مرة أخرى بواسطة السيد كاظم الرشتي، أقدر تلاميذه.‘ (الصفحتان 5-6)

الفصل الثاني
رسالة السيد كاظم الرشتي

إن أخبار وفاة معلمه المحبوب قد أحزنت قلب السيد كاظم وامتلأ منها أسى. ولكنه تشجع بالآية الكريمة في القرآن "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"،(1) ونهض بعزم لا يحيد لإتمام المهمة التي ائتمنها عليه الشيخ أحمد. وقد وجد نفسه من بعد رحيل ذلك المدافع الممتاز ضحية للألسن اللاذعة والعداوة المتأصلة من الناس حوله. فهاجموا شخصه واستهزؤا بتعاليمه ولطخوا اسمه. وقد تعاضد أعداء السيد كاظم معًا بتحريض من زعيم شيعي شرير ذي نفوذ كبير يدعى السيد إبراهيم القزويني وأخذوا في عمل تدبير لإهلاك السيد كاظم. ولذلك خطط الأخير للحصول على مساعدة أحد أعظم رجال الدين في إيران من الرؤساء البارزين وهو الحاج السيد محمد باقر الرشتي الذي كان مقيمًا في إصفهان، وكانت سلطته تمتد خارج حدود تلك المدينة. وفكر السيد كاظم في أنه يمكن أن يعتمد على صداقته وعطفه ليواصل نشاطاته بلا عائق، ويوطد نفوذه على تلاميذه. فكان غالبًا يُسمع وهو يقول لهم: ’هل فيكم مَن يقدر أن يسافر إلى إصفهان منقطعًا عن كل شيء ويوصل هذه الرسالة مني لهذا السيد العلاّمة ويقول له: ’’لماذا أظهرت في مبدأ الأمر احترامًا ومحبة للشيخ أحمد، والآن فجأة تركت جماعة أتباعه وانفصلت عنهم؟ ولماذا تركتنا تحت رحمة أعدائنا؟‘‘ ولعل هذا الرسول يقوم متوكلاً على الله ويفسر لذلك السيد العالم كل ما أشكل على عقله ويزيل

________________________
(1) سورة التوبة، الآية 32.

كافة الشكوك التي أوجبت ابتعاده، ثم يأخذ منه إقرارًا بصحة تعاليم الشيخية ووجاهتها وشهادة منه بعلو شأن الشيخ أحمد، فإذا توفق في ذلك يذهب أيضًا إلى مشهد وهناك يحصل على إقرار مماثل من ميرزا عسكري، أكبر عالم في تلك المدينة المقدسة وبعد إتمامه لهذه المأمورية، يعود ظافرًا إلى هذا المكان.‘ وكان السيد يكرر هذا الطلب كلما حانت الفرصة. فلم يرضَ أحد بتحمل هذه المشاق سوى ميرزا محيط الكرماني، الذي أظهر استعداده للقيام بهذه المأمورية. فأجابه السيد كاظم قائلاً: ’احذر أن تمسّ ذيل الأسد، فلا تقلل من صعوبة مثل هذه المهمة أو من حساسيتها.‘ ثم التفت إلى تلميذه الشاب الملاّ حسين البشروئي، باب الباب(1) وخاطبه بهذه الكلمات: ’قُم أنت وأتمم هذه المأمورية، لأني أعتبرك كفؤًا لها، وسوف يساعدك القدير عليها ويكلّل جهودك بالنجاح.‘

فوثب الملاّ حسين بكل فرح وقبّل طرف رداء معلمه وتعهد بالولاء له، وقام توًا لرحلته. وبانقطاع تام وعزم شريف اضطلع بأعباء هذه المأمورية. وإذ وصل إلى إصفهان طلب في الحال الحضور أمام السيد العلاّمة، ومع إنه كان مرتديًا لباسًا بسيطًا ويعلوه غبار السفر، إلا إنه ظهر في وسط تلاميذ ذلك العالم الشهير، الذين كانوا جميعهم في أفضل ملابسهم، وكأنه شخص نكرة. ودون أن يشعر بقدومه أحد وبغير خوف سار إلى أن وصل إلى مقعد مواجه لذلك المعلم البارز. وإذ استجمع لعونه كل ذرة من الشجاعة والثقة التي ألهمته بها تعليمات السيد كاظم، خاطب الحاج السيد محمد باقر بهذه الكلمات: ’اسمع كلماتي أيها السيد، لأن بإجابة رجائي تضمن سلامة دين رسول الله، وبرفض التفكر في رسالتي تسبب أضرارًا بليغة له.‘ وقد تركت هذه الكلمات الجريئة، التي نطقت بشكل مباشر وقوي، انطباعًا مدهشًا لدى السيد. فقطع درسه فجأة ولم يعبأ بالتلاميذ الحاضرين واستمع بالتفات إلى الرسالة التي جاء بها هذا الزائر الغريب. ولكن تلاميذه الذين دهشوا من ذلك السلوك العجيب زجروا الدخيل المفاجئ واستنكروا ادعاءاته الجريئة. فأشار الملاّ حسين في أدب كبير ولغة وقورة إلى جفائهم وسخافتهم

________________________

(1) كان أول من آمن بحضرة الباب، الذي لقّبه بهذا اللقب.

وأظهر دهشته من صلفهم وغرورهم. وسُرّ السيد من براعة هذا الزائر ومنطق حديثه، واستنكر سلوك تلاميذه واعتذر عنهم. ولأجل تعويض جحودهم أظهر سروره لمقدم هذا الشاب وأكرمه وعبر عن دعمه له ورجاه أن يعرض رسالته. فعرّفه الملاّ حسين بطبيعة المأمورية التي عهدت إليه وهدفها. فأجاب السيد العلامّة: ’حيث أننا كنا في البداية نعتقد أن الشيخ أحمد والسيد كاظم لم يروما سوى تقدم مصالح الدين المقدسة، فقد شعرنا أننا ملزمون بتقديم دعمنا المخلص وتمجيد تعاليمهما. ولكن في السنوات الأخيرة لاحظنا وجود بيانات متناقضة عديدة وإشارات خفية في كتاباتهما، بحيث وجدنا من الحكمة أن نلتزم السكوت ردحًا من الزمن وأن نمتنع عن المدح أو القدح فيها.‘ فأجاب الملاّ حسين: ’لا يسعني إلا الأسف على سكوتك هذا لأني أعلم بيقين أن في ذلك ضياعًا لفرصة ثمينة لإعلاء كلمة الحق. فعليك أن تظهر ما بدا لك في كتاباتهما من إبهام أو تناقض مع تعاليم الدين وأنا أفسر لك معانيه الحقيقية بمعونة الله تعالى.‘ وكانت مهابة هذا الرسول المفاجئ ووقاره وثقته قد أدهشت الحاج السيد محمد باقر، الذي رجاه في أن لا يستعجل الموضوع في الوقت الحالي وأن يُرجئه إلى يوم لاحق يكونان فيه على انفراد ويتمكن فيه من إطلاعه على ظنونه وشكوكه. فلم يقبل الملاّ حسين التسويف لاعتقاده أن ذلك قد يضر بالأمر المحبّب لقلبه. وصمم على ضرورة عقد الاجتماع توًا والمفاوضة في المسائل الخطيرة التي أظهر استعداده لحلها وبيانها. فجرت دموع السيد من تأثره من حماس ذلك الشاب ومن الإخلاص والمصداقية البادية على وجهه. فأرسل من أحضر بعض كتب الشيخ أحمد والسيد كاظم وشرع يسأل الملاّ حسين عن تلك الفقرات التي أثارت استياءه ودهشته. فكان الرسول يجيبه عن كل واحدة منها بحماس مميز ومعرفة فائقة وتواضع لائق.

واستمر الملاّ حسين على هذا المنوال في محضر التلاميذ المجتمعين يعرض تعاليم الشيخ أحمد والسيد كاظم ويظهر أحقيتها ويدافع عن عقيدتهما حتى قطع صوت المؤذن تدفق سيل براهينه مناديًا للصلاة. وفي اليوم التالي، استمر أمام جمع غفير من الحضور الذي يمثل مختلف الفئات، في دفاعه البليغ عن المهمة السامية الموكلة من العناية الإلهية

إلى الشيخ أحمد وخليفته. وكان في أثناء ذلك يقف في مقابلة السيد. وساد صمت عميق على مستمعيه الذين أخذهم العجب من ترابط حججه وأسلوب حديثه. فوعد السيد علنًا أنه سوف يصدر شخصيًا في اليوم التالي بيانًا مكتوبًا يشهد فيه بعلو مقام كل من الشيخ أحمد والسيد كاظم، وأن كل من يخالف طريقتهما يخالف في الوقت نفسه دين الرسول نفسه. وأنه يشهد لهما كذلك بقوة بصيرتهما الكاشفة وصحة فهمهما وبلاغة إدراكهما للأسرار المودعة في دين محمد ﷺ. وبرّ السيد بوعده وكتب بيده الإعلان الذي وعد به. وكانت كتابته مفصلة، وامتدح في شهادته شخصية الملاّ حسين وعلمه. وتكلم بعبارات التفخيم والإجلال للسيد كاظم واعتذر عن موقفه السابق وأبدى أمله بأنه في مستقبل الأيام يتدارك ما فاته بسبب تصرفه المؤسف تجاهه. وقرأ بيانه بنفسه لتلاميذه وسلمه مفتوحًا للملاّ حسين، وصرح له بأن يطلع من يشاء عليه حتى يعلم الخاص والعام إخلاصه للسيد كاظم الرشتي.

وما أن استأذن الملاّ حسين في الانصراف، حتى أمر السيد أحد مرافقيه الموثوقين أن يتبعه ويعلم مقره. فتبعه المرافق ووجده قد دخل بناءً بسيطًا يستخدم كمدرسة(1) ورآه يدخل غرفة تخلو من الأثاث إلا من سجادة بالية غطت أرضها. وراقبه وهو يصلي ويشكر الله، ثم نام على السجادة ولم يجد سوى عباءته يتغطى بها. وما أن أعلم المرافق سيده بكل ما شاهده، حتى كلفه الأخير بإرسال مبلغ 100 تومان،(2) ونقل اعتذاره لعدم تمكنه من توفير الضيافة المناسبة لرسول مميز مثله بما يليق بمقامه. وإزاء ذلك العرض أرسل الملاّ حسين الرد التالي: ’قل لسيدك إن عطيته الحقيقية هي روح الإنصاف التي استقبلني بها وعقله المتحرر الذي قاده، رغم مكانته المرموقة، للاستجابة لرسالة جاء بها غريب بسيط

________________________

(1) ’المدارس في إيران هي في أيدي العلماء وهناك العديد منها في كل بلدة كبيرة. وتتألف عادة من فناء تحيط به أبنية تشمل غرفًا للتلاميذ والمعلمين، ولها باب من جهة واحدة وأحيانًا يوجد بها حديقة وبئر في وسط الفناء... وكثير من هذه المدارس تأسس بدعم من الملوك والصلحاء.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحة 365)

(2) مبلغ كبير في تلك الأيام.

مثلي. فأرجع إلى سيدك النقود لأني كرسول لا أريد مكافأة ولا جزاء. "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا."(1) ودعائي لسيدك هو أن لا تمنعه الرئاسة الأرضية أبدًا عن الشهادة والاعتراف بالحق.‘(2) وكانت وفاة الحاج السيد محمد باقر قبل سنة الستين التي شهدت ميلاد دعوة حضرة الباب. وكان لآخر لحظة من حياته نصيرًا راسخًا ومعجبًا مخلصًا للسيد كاظم.

ولما أتم الملاّ حسين الجزء الأول من مهمته، أرسل شهادة الحاج السيد محمد باقر الخطية إلى مولاه في كربلاء، ووجه خطاه نحو مشهد مصممًا على توصيل الرسالة المكلف بها إلى ميرزا عسكري على أفضل وجه ممكن. وما كاد الخطاب الذي يتضمن شهادة السيد يصل إلى السيد كاظم، حتى ابتهج الأخير وأرسل إلى الملاّ حسين ردّه مقدرًا كفاءته على أداء المأمورية وقيامه بها خير قيام. وكان قد ابتهج بالرد الذي وصله بحيث قطع درسه وتلا لتلاميذه كلاً من رسالة الملاّ حسين والشهادة الخطية المرفقة بها. وفيما بعد شاركهم بالرسالة المطولة التي كتبها للملاّ حسين، اعترافًا منه بالخدمة الفريدة التي أدّاها له. وفيها أظهر ما هو عليه من الكفاءة والأخلاق المرضية وأطراه إطراءً شديدًا على استعداده وعلو كعبه، حتى أن بعض الذين سمعوا ذلك المديح ظنوا أن الملاّ حسين هو المنتظر الذي كان سيدهم يشير إليه دائمًا ويقول أنه موجود بينهم ولكنهم لا يعرفونه وهو مستور عنهم. وكانت تلك الرسالة قد حثت الملاّ حسين على تقوى الله التي يعتبرها أقوى أداة لمقاومة هجوم الأعداء عليه والعلامة المميزة لكل مؤمن بالدين. وكانت الرسالة

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الإنسان، الآية 9.

(2) يشير حضرة الباب في "الدلائل السبعة" إلى الملاّ حسين بقوله: "أنت تعلم بنفسك من هو أول من اعترف بهذا الأمر وتعلم أن أغلب علماء الشيخية والسيدية وغيرهم من الأحزاب أعجبوا بعلومه ومواهبه، ولما دخل إصفهان صاح غوغاء المدينة قائلين عند مروره: ’آه آه قد حضر طالب مسكين!‘ ولكن هذا الرجل قد أفحم سيدًا مشهورًا بالعلم وقوة برهانه وهو محمد باقر. حقًا إن ذلك أحد دلائل هذا الظهور لأنه بعد وفاة هذا السيد، ذهب هذا الرجل لمقابلة أغلب علماء الإسلام ولم يجد الحق إلا عند رب الحق، وبذلك وصل إلى ما قدر له. حقًا إن خلق هذا الظهور من الأول للآخر يغبطونه وسوف يغبطونه إلى يوم يبعثون ومن الذي يقدر أن يتهم سلطان العلم والحكمة بضعف العقل أو خفته؟" ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحة 54)

مكتوبة بقالب المحبة حتى أن كل من يقرأها لا يشك في أن كاتبها يودّع فيها تلميذه المحبوب ويقطع الأمل في رؤيته مرة أخرى في هذا العالم.

وفي تلك الأيام كان السيد كاظم يزداد يقينًا باقتراب الساعة التي يظهر فيها الموعود(1) ويدرك كثافة الحجبات التي تمنع الباحثين عن إدراك مجد الظهور المستور. ولذلك بذل جهده تدريجيًا بالحكمة والحذر في إزالة تلك الحجب والعقبات التي تقف في سبيل الاعتراف الكامل بكنز الله المستور. وكرر مرارًا لأتباعه أن يعوا حقيقة أن الموعود الذي ينتظرون مجيئه لا يظهر من جابلقا ولا من جابلصا.(2) بل لمّح إلى وجوده في وسطهم. وغالبًا ما قال: ’ترونه بأعينكم ولكنكم لا تعرفونه.‘ وكان يقول لتلاميذه الذين يسألونه عن علائم الظهور: ’إنه من نسل شريف من سلالة رسول الله من سبط هاشم. وهو حديث السن وعلمه لدنّي وليس مقتبسًا من تعاليم الشيخ أحمد بل من الله. وإن علمي ليس إلا كقطرة بالنسبة إلى بحر علمه، وإنجازاتي ليست إلا كذرة من التراب أمام عجائب فضله وقدرته. بل لا مجال للمقارنة بينهما، فأين الثَرى من الثريا. وإنه لمتوسط القامة ولا يشرب الدخان وعلى غاية من الاستقامة والصلاح والتقوى.‘(3) وكان بعض تلاميذ السيد يظنون أنه هو الموعود رغم تأكيداته بخلاف ذلك، وظنوا أن جميع العلائم تنطبق عليه. ومن بينهم كان الملاّ مهدي الخوئي الذي ذهب في اعتقاده إلى درجة أن أعلنه جهرًا. فانزعج السيد جدًا وكان على وشك طرده من جملة أتباعه المختارين لولا أنه بادر برجاء المغفرة وعبّر عن توبته.

________________________

(1) وقد أبان حضرة الباب في "الدلائل السبعة" في هذا الخصوص ما يأتي: "والذي رواه عند انتهاء سفره من الذي سمعته بنفسك فهل لم يكن يروى لك؟ وكذلك حكاية ميرزا محمد الأخباري التي رواها عبد الحسين الشوشتري فإنه سأل السيد المحترم ذات يوم وهو في الكاظمين قائلاً: ’متى يكون ظهور الموعود؟‘ فأدار السيد عينيه في المجلس ثم قال له: ’وإنك أنت سوف تراه.‘ وقد حكى الملاّ محمد تقي الهراوي أيضًا هذه الرواية في إصفهان." ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحة 58)

(2) انظر مقدمة هذا الكتاب في "مميزات الشيعة في الإسلام".

(3) ’وكان السيد الرشتي في أواخر أيامه يعتقد بأن المظهر موجود وكثيرًا ما كان يشير إلى ذلك بقوله إني أراه كالشمس المشرقة.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحة 19)

صورة 6
منظر كربلاء

ومما حكاه لي الشيخ حسن الزنوزي بنفسه أنه كانت تساوره مثل تلك الشكوك، بحيث طلب من الله أن يثبته في اعتقاده إذا كان صائبًا وإلا فليخلصه من هذا الوهم. وروى لي ذات مرة: ﴿ كنت اضطربت من هذا الأمر لدرجة إني لم آكل ولم أشرب ولم أنَم جملة أيام، وكنت أصرف أيامي في خدمة السيد كاظم الذي كنت متعلقًا به جدًا. وذات يوم ساعة الفجر أيقظني فجأة الملاّ نوروز أحد مرافقيه وأمرني بانفعال أن أقوم وأتبعه. فذهبنا إلى منزل السيد كاظم حيث وجدناه مرتديًا كامل ملابسه وعليها عباءته ومستعدًا لمغادرة منزله، ثم قال: ’لقد حضر شخص جليل القدر وواجب علينا زيارته نحن الاثنين.‘ وكان الفجر قد انبثق ووجدت نفسي أسير معه في شوارع كربلاء. وسرعان ما وصلنا إلى منزل كان يقف على بابه شاب كأنه ينتظر مقابلتنا. وكان يلبس عمامة خضراء وظهرت على محياه علامات الخشوع واللطف مما لا أقدر أن أصفه. وتقدم نحونا بهدوء ومد يديه نحو السيد كاظم وعانقه بكل محبة، وكان وده ولطفه في معانقة السيد لا يقلان عن احترام السيد له احترامًا عميقًا، وقد قابل أشواق واحترام الشاب المتكررة بالتزام السكوت

وإحناء الرأس. وسرعان ما أخذنا إلى غرفة في طابق علوي مزينة بالزهور ومعطرة بأطيب عبير وأمرنا بالجلوس، وكان السرور قد شملنا بدرجة أننا لم نكن نشعر بالمقاعد التي جلسنا عليها. وشاهدنا كوبًا من فضة موضوعًا في وسط الغرفة، وسرعان ما ملأه مضيفنا الشاب بعد جلوسنا مباشرة وناوله للسيد كاظم قائلاً: "وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا."(1) فأمسك السيد كاظم بالكأس من يده وانتهله وامتلأ هيكله بسرورٍ فائق لم يتمكن من

صورة 7
مدخل ضريح الإمام الحسين في كربلاء
________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الإنسان، الآية 21.

إخفائه. وأنا أيضًا أعطاني كوبًا من ذلك المشروب لكنه لم يخاطبني بأي كلمة. واقتصر الحديث في تلك المناسبة الخالدة على الآية القرآنية السابقة. ثم بعد هنيهة قام المضيف وودعنا عند عتبة باب المنزل. ولفرط عجبي انعقد لساني ولم أقدر أن أعبّر عن شدة إكرامه وترحيبه وجلال هيكله وجمال ذلك الوجه ولذة ذلك المشروب. وكم كانت دهشتي إذ رأيتُ معلمي قد نهل ذلك المشروب المبارك دون أدنى تردد من الكأس الفضي، مع أن

صورة 8
ضريح الإمام الحسين في كربلاء

استعمال هذا المعدن محرم على المؤمنين حسب قواعد الإسلام. ولم يمكنني أن أعلّل سبب شدة احترام السيد وإجلاله لذلك الشاب احترامًا لا يُسدى حتى عند مشاهدة مرقد سيد الشهداء. وبعد ثلاثة أيام، رأيت الشاب نفسه قد وصل واحتل مقعده وسط حلقة تلاميذ السيد كاظم. وجلس قريبًا من العتبة وكان يستمع لدرس السيد بذات الأدب والوقار. وبمجرد أن وقعت عيناه على ذلك الشاب، سكت السيد عن الحديث وبقي ساكنًا. فترجّاه أحد تلاميذه أن يكمل مناقشته للموضوع الذي لم يكتمل، فأجاب السيد كاظم قائلاً: ’ماذا أقول لكم زيادة عن ذلك؟‘ ولفت وجهه نحو شخص حضرة الباب، ثم قال: ’انظروا! إن الحق أظهر من شعاع الشمس الواقع على هذا الحِجر.‘ وفي الحين لاحظتُ أن أشعة الشمس التي أشار إليها السيد كانت واقعة في حجر هذا الشاب الذي زرناه قريبًا. فاستفسر السائل: ’ولماذا لا تكشف لنا عن اسمه أو تظهر لنا شخصه؟‘ فأشار السيد إلى حنجرته بإصبعه، يعني إنه لو كشف ذلك لتعرّض كلاهما للقتل في الحال. وقد زاد ذلك في حيرتي وكنت قد سمعت من معلمي مرارًا، بأن ضلال هذا الجيل كان بدرجة أنه لو أشار بإصبعه إلى الموعود وقال: ’هذا هو محبوب قلبي وقلبكم‘ لأنكروه وما قبلوه. وقد رأيت بنفسي السيد يشير بإصبعه إلى حجر ذلك الشاب، ومع ذلك لم يفقه أحد من الحاضرين المعنى المقصود من الإشارة. وأما أنا فكنت مقتنعًا بأن السيد لا يمكن أن يكون هو الموعود، ولكن بعض السر المستسر علينا جميعنا أصبح يحوم حول هذا الشاب الغريب الجذّاب. وأردت أن أتجاسر عدة مرات بالتقدم نحو السيد لسؤاله عن كشف هذا السر، ولكن هيبته وشخصيته القوية كانتا تحولان دون ذلك، وكثيرًا ما كنت أسمعه يقول: ’يا شيخ حسن! افرح لأن اسمك حسن، فابتداؤك حسن وانتهاؤك حسن، وإنك تشرفت إذ عشت في أيام الشيخ أحمد وتقابلت معي وفي المستقبل سيكون لك فرح عظيم لأنك سترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.‘

وكنت كثيرًا ما أشعر باشتياق لمقابلة هذا الشاب الهاشمي لوحدي لأكشف سرّه. وكنت أراقبه واقفًا وقفة تبتل على باب مرقد الإمام الحسين وهو مستغرق في مناجاته حتى كأنه غير شاعر بمن حوله، وكانت الدموع تذرف من عينيه، وتنحدر من فمه كلمات لا

تزيد عنها الآيات المقدسة لديننا في الحسن والقوة والشرف. ويردد كثيرًا عبارة "يا إلهي ومحبوبي ومرغوب قلبي" بكل عشق حتى إن الحجاج الزائرين القريبين منه كانوا كثيرًا ما يقطعون صلواتهم ويستمعون لآيات الرحمة والخشوع التي تظهر من وجه ذلك الشاب. وكانوا مثله يذرفون الدموع مدرارًا ويتعلمون منه درس الوله الحق. وكان هذا الشاب يعود بسكون بعد إتمام صلاته إلى منزله دون أن يجتاز عتبة المرقد ودون أن يتكلم مع الذين حوله. وقد شعرت برغبة في مخاطبته، وكنت كلما حاولت الاقتراب منه أجد قوة تحجزني عنه مما لا أقدر على تفسيرها أو مقاومتها. وبالسؤال عنه علمْتُ أنه مقيم في شيراز ويشتغل بالتجارة ولم ينتمِ إلى أي من الفرق الدينية. وأُخبرت أيضًا أنه هو وأخواله وأقاربه من المعجبين بالشيخ أحمد والسيد كاظم. وسمعت بعد ذلك أنه سافر للنجف في طريقه إلى شيراز. وكان ذلك الشاب قد أشعل قلبي وذكراه لا تغيب عن مخيلتي وكانت روحي متعلقة بروحه حتى ذلك اليوم الذي سمعت فيه أن شابًا في شيراز ادعى أنه الباب. فلمعت في بالي فورًا الفكرة بأن ذلك الشخص لا يمكن أن يكون سوى محبوب قلبي، ذلك الشاب الذي رأيته في كربلاء.

ولما سافرت من كربلاء إلى شيراز فيما بعد، علمت أنه سافر للحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعند عودته قابلته واجتهدت أن أكون في صحبته رغم كل العقبات في طريقي. فلما حبس في قلعة ماه كو في مقاطعة آذربيجان، كنت أكتب الآيات التي أملاها على كاتبه. ولمدة تسعة أشهر قضاها سجينًا في تلك القلعة، كان كل ليلة، بعد إتمام صلاته، يملي تفسيرًا لجزء من القرآن الكريم. وكان في كل شهر يكمل تفسيرًا كاملاً على القرآن بأجمعه، فكمل في أثناء حبسه في ماه كو تسعة تفاسير للقرآن، وكانت هذه التفاسير قد أودعت عند شخص يدعى السيد إبراهيم الخليل وكان مأمورًا بإخفائها إلى أن يأتي الوقت لنشرها، ولم يُعرف مصير هذه التفاسير إلى الآن.

وذات يوم سألني حضرة الباب بخصوص أحد هذه التفاسير قائلاً: ’أيهما تفضله في نظرك، هذا التفسير الذي أنزلته الآن أم "أحسن القصص"، ذلك التفسير السابق على سورة يوسف؟‘ فقلت له: ’في نظري يبدو "أحسن القصص" زاخرًا بقوة أعظم

وروعة أجمل.‘ فتبسم لملحوظتي وقال: ’إنك للآن لم تعرف لحن هذا التفسير الأخير. فإن الحقائق المدونة فيه تمكّن الباحث للوصول إلى مبتغاه في وقت أسرع وفاعلية أكبر.‘

وكنت ملازمًا لحضرته باستمرار إلى أن حصلت واقعة الشيخ الطبرسي العظيمة، ولما سمع بها حضرة الباب أمر جميع أصحابه أن يسرعوا إلى تلك البقعة ويقدموا ما أمكن من العون للقدوس، تلميذه البطل الممتاز. وذات يوم قال لي: ’لولا حبسي في جبل شديد، قلعة چهريق، لكان من الواجب عليّ معاونة محبوبي القدوس شخصيًا، ولكنك أنت غير مفروض عليك الاشتراك في هذا القتال بل عليك أن تذهب إلى كربلاء وتمكث في تلك المدينة المقدسة لأنه قدر لك أن ترى بعينيك جمال وجه الحسين الموعود. وعندما تنظر إلى وجهه المضيء، تَذكّرَني وعبّر له عن خالص محبتي وولائي.‘ ثم أكد على ذلك وأضاف قائلاً: ’حقًا أقول لك، إني أوكلت إليك مأمورية كبيرة، فاحذر من أن يوهن قلبك أو تنسى هذا الفخر الذي منحته لك.‘

وبعدها بوقت قصير سافرت إلى كربلاء، كما أُمرت، ومكثت في تلك المدينة المقدسة. وخوفًا من أن يثار الارتياب بسبب طول إقامتي في مركز الحجاج ذاك، قررت أن أتزوج. وابتدأت أتعيش من الكتابة. وكم من المصائب حلت بي من الشيخية الذين ادّعوا أنهم من أتباع الشيخ أحمد، ومع ذلك لم يعرفوا حضرة الباب! ولكني صبرت على أذاهم متذكرًا نصائح ذلك الشاب الحبيب. وفي أثناء ذلك أطلق ذلك الشاب المقدس من سجنه الأرضي، وباستشهاده تخلص من القسوة الوحشية التي طبعت بها السنوات الأخيرة من حياته.

ومضى على شهادة حضرة الباب ستة عشر شهرًا قمريًا إلا اثنين وعشرين يومًا، إلى أن جاء يوم عرفة سنة 1267ﻫ.(1) فبينما أنا أسير عند الباب الداخلي من مرقد الإمام الحسين، وقعت عيني لأول مرة على حضرة بهاءالله. فما أذكر عن ذلك الوجه الذي رأيته! فإن جمال

________________________

(1) وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، الموافق 5 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1851م.

ذلك الوجه وكمال هيئته ولطف محياه الذي لا يقدر القلم على وصفه وكذلك لمحاته النافذة ووداعة وجهه وجلال هيكله وحلاوة ابتسامه وغزارة ضفائر شعره السوداء الحالكة المتدلية، قد أثرت في نفسي تأثيرًا عميقًا. وكنت في ذلك الوقت طاعنًا في السن منحني الظهر، فما أحلى محبته إذ اقترب مني وأخذه بيدي حينما تكلم معي بصوت لا يضاهى جمالاً ولا قوة! وخاطبني بهذه الكلمات: ’إني عزمت في هذا اليوم أن أشهرك في كربلاء بأنك بابي.‘ وجعل يتكلم معي وهو ممسك بيدي ونحن نسير في شارع السوق، وأخيرًا قال لي: ’احمد الله إذ بقيت في كربلاء حتى رأيت بعينيك وجه الحسين الموعود.‘ فتذكرت إذ ذاك وعد حضرة الباب الذي كنت أظن إن كلماته كانت تشير إلى مستقبل بعيد ولم أكُن شافهتُ بها أحدًا. فحرّكت كلمات حضرة بهاءالله هذه لبّي إلى أعمق درجة وشعرت بأني مجبور في ذلك الوقت على أن أعلن بكل روحي وبما أوتيت من قوة نبأ ظهور الحسين الموعود. ولكنه أمرني أن أكتم مشاعري وأخفي عواطفي وهمس في أذني قائلاً: ’مهلاً، فإن الساعة آتية قريبًا، ولكنها لم تدقّ بعد، فاطمئن واصبر.‘ ومنذ ذلك الوقت زالت جميع أحزاني وطفح السرور على روحي، وكنت في تلك الأيام فقيرًا جدًا لحد الجوع، ولكني شعرت بأني ثري جدًا بحيث أن جميع كنوز الأرض تلاشت أمامي بالنسبة لما ملكته للتو. وهذا من فضل الله يعطيه لمن يشاء وهو الواسع الكريم.﴾

وسأعود الآن بعد هذا الابتعاد عن الموضوع إلى أصل مطلبي. فكنت أشير إلى شوق السيد كاظم لكشف السبحات التي حالت بين معاصريه من الخلق وبين معرفة المظهر الموعود. ففي الصفحات التمهيدية من كتابيه، وهما "شرح القصيدة" و"شرح الخطبة"،(1) كان يشير بكنايات إلى اسم حضرة بهاءالله المبارك، وفي آخر كتيب أنشأه، ذكر اسم حضرة الباب بالتحديد بإشارته إلى عبارة "ذكر الله أعظم". وفيه كتب مخاطبًا ذلك الذِّكْر:

________________________

(1) خصص نقولاس الفصل 2 من الجزء 2 من "مقالة في الشيخية" في تعداد المائة وواحد وثلاثين رسالة من رسائل السيد كاظم، وأهمها: 1. شرح الخطبة التطنجية 2. شرح القصيدة 3. تفسير آية الكرسي 4. أسرار شهادة الإمام الحسين 5. في الهيئة 6. دليل المتحيرين. ويقال أن رسائله زادت على 300 رسالة. ("مقالة سائح"، الحاشية إي، الصفحة 238)

أخاف عليك من قومي ومني
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو إني وضعتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني(1)

وكم عانى السيد كاظم على أيدي أهل الشرور والفساد! فما أنكى الأذى الذي كان ذلك الجيل الفاسق يوقعه به! وكان لسنين يتحمل بسكون وهدوء جميع الشتائم والسخرية التي كانت تكال له. ولكن قدر له ليرى في أواخر أيامه كيف أن يد الغيب المنتقمة قد أهلكت جميع معانديه الذين كانوا يكيدون ويدبرون له. فأتباع السيد إبراهيم ذلك العدو اللدود للسيد كاظم تجمعوا في تلك الأيام ونادوا بقصد جلب الأذى والخطر على حياة خصمهم القوي. وبكل وسيلة سعوا إلى تسميم عقول أصدقائه ومعجبيه وتقويض سلطته وتلويث اسمه. ولم يرتفع أي صوت للاحتجاج ضد هؤلاء الخائنين الأشرار الذين كان كل منهم يدعي أنه مفسر للعلم الحقيقي وأنه مكمن أسرار دين الله. ولم يحذرهم أو ينبههم

________________________

(1) وقد أورد نقولاس في كتابه "مقالة في الشيخية" (الفصل الثالث، الجزء 2، الصفحة 43) القطعة الآتية من كلام السيد كاظم في كتابه "شرح القصيدة" قال: ’ويقوم في كل مائة مَن يروج الأحكام ويبين الحلال من الحرام فيظهر ما كان مخفيًا ويفصل ما كان مجملاً في المائة السابقة ويبين ما كان مبهمًا فيها وبالجملة فذلك العالم الكامل الفاضل يروي غصن الشريعة ويخضر عودها إلى أن يبلغ الكتاب أجله ويتم تمام الماية الثانية عشر. وإذا ظهر بعض الكاملين وأظهر بعض البواطن للبالغين الواصلين كان بيانه مخفيًا وتلك المطالب كانت مطوية... فلما تمت الماية الثانية عشرة وتمت الدورة الأولى المتعلقة بالظواهر لشمس النبوة والاثني عشر دورة لقمر الولاية من حيث التبعية فتمت الدورة وتمت مقتضياتها والكرّة الثانية والدورة الأخرى لبيان أحكام ظهور البواطن والأسرار المخفيات والمختبئات تحت الحجب والأستار. وبعبارة أخرى إن الدورة الأولى وهي الاثني عشر مائة لشمس النبوة لتربية الأبدان والأرواح المتعلقة بها، مثاله الجنين في بطن الأم، والكرّة الثانية لتربية الأرواح المقدسة والنفوس المجردة غير المرتبطة بالأجسام مثاله تربية الأرواح بالتكليف في هذه الدنيا، فلما تمت الدورة الأولى لشمس النبوة التي هي متعلقة بتربية الظواهر التي هي مقتضى ظهور اسم محمد (ﷺ) أتت الدورة الثانية لشمس النبوة التي هي متعلقة بتربية البواطن. والظواهر في هذه الدورة تابعة كما أن الدورة الأولى لتربية الظواهر والبواطن كانت تابعة، فكانت هذه الدورة الثانية فيها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في السماء وهو أحمد فكان المروّج والرئيس في رأس هذه المائة المسمى بأحمد ولابد أن يكون من أعذب أرض وأحسن هواء." انتهى. ويزيد نقولاس على ذلك في الحاشية بقوله: "وربما كانت اشارة اسم أحمد إلى الشيخ أحمد، ولكنه لا يمكن القول بأن الأحساء هي أعذب أرض، فبالعكس من ذلك فإنه يفهم من جميع أقوال الشعراء في إيران اتفاقهم على التغني بمدح شيراز وأن هواءها لا يفوقه هواء ويمكن الرجوع لأقوال الشيخ فيما يختص ببلاده.‘

أحد من سوء أعمالهم، فجمعوا جموعهم وأشعلوا فتنة شعواء ونجحوا في طرد مندوب الحكومة العثمانية من كربلاء شر طردة واستولوا بأنفسهم على الموارد المخصصة له إرضاء لأطماعهم الحقيرة. فتحركت الحكومة المركزية في إسطنبول نتيجة لموقفهم المعادي وأرسلت ضابطًا حربيًا إلى بؤرة الثورة ومعه التعليمات الكاملة لإطفاء نيران العصيان. فحاصر الضابط المدينة بالقوة التي كانت معه وأرسل إلى السيد كاظم رسالة يطلب فيها أن يهدّئ أفكار الشعب الهائج. ورجاه أن ينصحهم بالاعتدال ويطلب منهم أن يخففوا من عنادهم وأن يخضعوا لحكمه. وأنهم لو سمعوا نصحه فإنه يعدهم بتحقيق سلامتهم وحمايتهم ويعلن العفو العام ويجتهد فيما يعزز رفاهيتهم. وأما إذا رفضوا الانصياع، فإنه ينذرهم بأن حياتهم تكون في خطر وتنزل عليهم مصيبة عظمى بالتأكيد.

وبمجرد وصول الرسالة الرسمية إلى السيد كاظم، أحضر رؤساء الفتنة ونصحهم بغاية الحكمة أن يكفوا عن الهيجان وأن يسلّموا أسلحتهم. وتكلم معهم في ذلك ببلاغة مقنعة وإخلاص وانقطاع حتى لانت قلوبهم وخفتت مقاومتهم. وعزموا على فتح أبواب القلعة في صباح اليوم التالي، وأن يسلموا أنفسهم بصحبة السيد كاظم إلى قائد القوات المحاصِرة. واتفق أن يتوسط لهم السيد ويؤمن لهم كل ما يضمن راحتهم وطمأنينتهم. ولكنهم ما أن تركوا مجلس السيد حتى قام العلماء، وهم المحرضون الرئيسون على الثورة، وبالإجماع لإحباط هذه الخطة. ولعلمهم الأكيد بأن توسط السيد، الذي كانوا يحسدونه، يكون سببًا لإعلاء شأنه وتثبيت سلطته، عزموا على إقناع عدد من الحمقى والغوغاء سريعي الإثارة من سكان المدينة بمهاجمة قوات الأعداء ليلاً. وأكدوا لهم النصر مستندين على حلم زعم أحدهم أنه رأى في الرؤيا العباس (أخو الإمام الحسين) يأمره بتحريض أتباعه على الجهاد ضد المحاصِرين وأنه وعدهم بالنصر النهائي.

وإذ خدعوا بهذا الوعد الكاذب، رفضوا نصيحة ذلك الرئيس الحكيم العادل وقاموا على تنفيذ رغبة زعمائهم المهووسين. ولما كان السيد كاظم عالمًا بالتأثير الشرير الذي أشعل الثورة، فقد كتب تقريرًا مفصلاً صادقًا عن الوضع إلى القائد التركي، فأجابه مرة أخرى طالبًا منه إعادة النصح للأهالي لتحقيق تسوية سلمية للمسألة. وأعلن أيضًا بأنه سيقتحم

أبواب القلعة في ساعة معينة ولن يعتبر سوى منزل السيد ملجًأ آمنًا لعدو منهزم. وقام السيد بنشر الإعلان في كافة أنحاء المدينة، فقابلها السكان بالاستهزاء والتحقير. ولما أُخبر السيد بالاستقبال الذي لاقاه الإعلان قال: "إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب."(1)

وفي الفجر في الساعة المعينة قصفت القوات المعادية تحصينات القلعة وهدموا الأسوار واستبيحت المدينة قتلاً ونهبًا وهرب الكثيرون ملتجئين إلى حرم المقام الحسيني والتجأ آخرون إلى مقام العباس وهرع إلى منزل السيد كاظم كل من أحبه ووقره وازداد عدد الملتجئين إلى كنف منزله بدرجة أنه اضطر إلى إضافة المنازل المجاورة لمنزله لتكون حرمًا لجميع اللاجئين وازدادت الجموع التي هرعت إلى منزله حتى أنه بعد هدوء الحالة، وجدوا اثنين وعشرين شخصًا قضوا تحت الأقدام من شدة الزحام.

وما كان أشد انزعاج سكان المدينة المقدسة والزائرين لها! وما أقسى ما عامل الفاتحون الأهالي الخائفين! وبأي جسارة تجاهلوا الحقوق المقدسة التي كان الحجاج المسلمون يسدونها للمقامات المقدسة في كربلاء! فلم يعترفوا بحرمة مقام الإمام الحسين ولا مقام العباس المقدس كحرمين للاجئين، فقتل فيهما آلاف من الهاربين أمام الغضب المنتقم لقوم غرباء. وجرت دماء القتلى في صحن المقامين، وما كان يوجد في المدينة كلها مكان مأمون سوى منزل السيد كاظم مع متعلقاته، فكان حرمًا مقدسًا يتمتع بأمان لم يتمتع به أي من المقامات الشيعية المقدسة. وكان هذا الغضب الإلهي العجيب درسًا قاسيًا للذين قلّلوا من أهمية ذلك الرجل المقدس (السيد كاظم). وكان حصول(2)

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة هود، الآية 81.

(2) وفي "مقالة في الشيخية" (الجزء 2، الصفحتين 29-30) وصف نقولاس الحادثة كالآتي: ’حصلت هذه الحادثة سنة 1258ﻫ (1842م)، في ليلة القدر وقد دخل الجيش التركي تحت قيادة نجيب باشا كربلاء وقتل الأهالي وسلب ما في الجوامع من نفائس وقتل فيها قريبًا من تسعة آلاف شخص أغلبهم من الفرس. وكان محمد شاه مريضًا بحالة خطرة عند حصول هذه الحادثة، ولذلك أخفاها عنه كبار الموظفين، ولما علم الشاه بها بعد شفائه غضب غضبًا عظيمًا، وحلف أن يأخذ بالثأر، ولكن مندوبي إنگلترا وروسيا تدخلوا لتهدئة الخواطر. وأمر ميرزا جعفر مشير الدولة العائد من سفارة إسطنبول بالسفر إلى أرضروم ليقابل هناك مندوبي إنگلترا وروسيا وتركيا. وإذ وصل إلى تبريز مرض السفير الإيراني، فعين الحاج ميرزا آقاسي، ميرزا ↓

هذه الحادثة التاريخية في الثامن من ذي الحجة سنة 1258ﻫ.(1)

ومن المعلوم أن رسل الحق والذين مهّدوا الطريق لقبوله كانوا في كل عصر مبتلين بمعاندين من ذوي البأس والسطوة الذين كانوا دائمًا يتحدون سلطتهم ويسعون إلى تشويه تعاليمهم. وقد نجح أولئك وقتيًا، بواسطة الاحتيال أو الظلم، في إضلال الجهال عن سواء السبيل. ولرغبتهم في جعل عقول وأفكار الناس في قبضة يدهم ليتمكنوا من جني ثمار السلطة الدنيوية الزائلة ما دام دين الله بقي محجوبًا. إلا أنه لا يكاد أمر الدين الحق يشتهر حتى يجدون لفرط حنقهم أن آثار مجهوداتهم وتدابيرهم الباطلة تذوب وتتلاشى أمام أنوار يوم الله الجديد. وتذهب أعمالهم ويذوي مكرهم وضلالهم أمام شعاع الشمس الباهر ويكون كالهباء المنثور.

وقد اجتمع أيضًا حول السيد كاظم عدد من المغرورين الذين يدعون التعلق به ويتظاهرون بالصلاح والتقوى ويظنون أنهم مخزن أسرار الشيخ أحمد وخليفته. وكانوا يجلسون في مقاعد الشرف في حلقات درس السيد كاظم. ورغمًا عن أنه كان يلقي عليهم درسه ويظهر لهم احترامه فإنه كان يشير من طرف خفي إلى عمههم وغرورهم وعجزهم عن فهم الأسرار الإلهية وكان يقول: ’لا يفهم قولي إلا المولود مني.‘ وكان كذلك كثيرًا ما يقول: ’يأخذني الفكر ويدهشني أن أرى العالم محرومًا من القوة السامعة فلا أقدر أن أكشف السر لأن الناس لا يقدرون أن يتحملوا أثقاله.‘ ومرة تمثل بقول الشاعر:

_____________________________________________________________________

تقي خان الفراهاني وزير النظام الذي ذهب إلى أرضروم ومعه 200 ضابط، وكان مندوب الأتراك أنور أفندي يظهر بمظهر الاحترام والصلح، ولكن أحد رجال أمير النظام صدر منه فعل عُدّ إهانة لطريقة أهل السنة، فهجم الأهالي على خيمة السفير وقتلوا اثنين أو ثلاثة من الفرس ونهبوا كل شيء، ونجا السفير أمير النظام بتدخل بدري باشا، واعتذرت الحكومة التركية ودفعت 15000 تومان تعويضًا لهذا الحادث. وفي "هداية الطالبين"، يقول كريم خان، إنه أثناء نهب كربلاء كان الجنود يحترمون بيوت الشيخية، وكل من التجأ إليها صار آمنًا وكل ما معه من الأشياء الثمينة ولم يقتل أحد من أصحاب السيد كاظم، مع أن الذين التجأوا إلى المشاهد المقدسة قُتلوا جميعًا بلا رحمة ويقولون إن الباشا دخل بجواده في الأماكن المقدسة.‘

(1) 10 يناير/كانون الثاني سنة 1843م.
وكلٌ يدعي وصلاً بِلَيلى
وليلى لا تقرّ لهم بذاكا
إذا انبجست دموعٌ من مآقٍ
تبيّن مَن بكى ممّن تباكى

وكثيرًا ما كان يشير إلى الموعود ويقول: ’إن الذي يظهر بعدي هو من السلالة الطاهرة من النسب الرفيع من ذرية فاطمة وهو متوسط القامة وخال من العيوب الجسمانية والعاهات.‘(1)

وسمعت الشيخ أبو تراب(2) يحكي الآتي: ﴿إني مع عدد من تلامذة السيد، اعتبرنا من قوله السابق وإشارته إلى العاهات الجسمانية التي يخلو منها الموعود، أنه أشار تحديدًا إلى ثلاثة أشخاص بين زملائنا التلاميذ. بل إننا حددناهم بتلك العاهات الجسمانية الموجودة فيهم. كان أحدهم الحاج ميرزا كريم خان(3) ابن إبراهيم خان القاجاري الكِرماني، الذي كان أعور العين وضئيل اللحية. وثانيهم ميرزا حسن گوهر الذي كان ذا جسم بدين جدًا. والثالث ميرزا محيط الشاعر الكرماني، كان ذا طول مفرط ونحافة زائدة. وكنا مقتنعين بأنهم لا يمكن أن يكونوا سوى من كان السيد دائمًا يشير إليهم بأنهم مغرورون وعديمو الإيمان والذين في النهاية سوف يظهرون على حقيقتهم ويكشفون جحدهم وطيشهم. أما بالنسبة إلى الحاج ميرزا كريم خان، الذي

________________________

(1) نقل نقولاس في كتابه "مقالة في الشيخية" (الجزء 2، الصفحتان 60-61)، من كتابات السيد كاظم قال: ’قد علمتَ أن الشريعة وأصول الآداب هي غذاء للروح لذلك يجب أن تكون الشرائع متنوعة، وعلى ذلك يجب نسخ الشرائع العتيقة ويجب أن تشمل على شرائع محكمة وشرائع متشابهة وعامة وخاصة وظاهرة وباطنة ومطلقة ومقيدة حتى بذلك يصل الطفل إلى درجة البلوغ ويكون كاملاً في قوته ومقدرته وفي ذلك الوقت يظهر القائم وبعد ظهوره وإتمام حياته يقتل وإذا قتل يصل العالم إلى سن 18 سنة.‘

(2) تبعًا لسمندر (الصفحة 32) كان الشيخ أبو تراب من بلدة إشتهارد وكان من أخص تلاميذ السيد كاظم واقترن بأخت الملاّ حسين وتوفي في السجن في طهران.

(3) ’كتب الباب إلى الحاج محمد كريم خان... وطلب منه أن يعترف برسالته فلم يرفض هذا الأخير هذا الطلب فحسب، بل كتب رسالة ردًا على حضرة الباب وعلى شريعته.‘ (الصفحة 910) ’وكتب ما لا يقل عن رسالتين من هذا القبيل وكانت إحداهما بعد استشهاد الباب وبناء على طلب ناصر الدين شاه، وقد طبعت واحدة منهما تحت عنوان "إزهاق الباطل".‘ (الحاشية 1، في الصفحة 910) ("مجلة الجمعية الآسيوية الملكية"، سنة 1889م، المقالة 12)

لازم السيد عدة سنين وأخذ عنه علمه الذي يدعيه، فقد استأذن منه أخيرًا أن يستقر في كرمان، وهناك يشتغل في ترقية مصالح الإسلام وإذاعة تلك الأحاديث التي حامت حول ذكرى أئمة الهدى.

ومرة كنت موجودًا في مكتبة السيد كاظم إذ وصل في أحد الأيام مرافق الحاج ميرزا كريم خان وبيده كتاب قدمه للسيد نيابة عن مولاه وطلب منه أن يقرأه ويشير إلى مصادقته على محتوياته بخط يده. فقرأ السيد أجزاء من ذلك الكتاب وأعاده للمرافق قائلاً: ’قُل لمولاك إنه أقوى من غيره على تقدير قيمة كتابه.‘ فلما ذهب المرافق قال السيد بصوت حزين: ’ألا لعنة الله عليه! إنه عاشرني عدة سنوات، والآن إذ أراد الرحيل فإن غرضه الوحيد، بعد صرف السنوات العديدة في الدرس والصحبة أن ينشر في كتابه قواعد الكفر والإلحاد وهي ما يريدني أن أقرظها. وقد اتفق مع بعض المنافقين الأنانيين على أن يوطد نفسه في كرمان، حتى بعد رحيلي عن هذا العالم يمسك زمام القيادة المطلقة. فما أخطأ تقديره في ذلك! لأن نسيم الظهور الإلهي قد هب من ربيع الهداية وسوف يطفئ ناره حتمًا ويهدم سلطته. ولن تثمر شجرة جهوده سوى مرارة الوهم والندم الأكال. وإني الحق أقول لك إنك سوف ترى بعينيك كل ذلك وأطلب من الله أن يحفظك من التأثير الشيطاني لهذا الدجال الذي يعاند الموعود في مستقبل الأيام.‘ وقد طلب مني السيد أن أخفي ذلك النبأ إلى يوم القيامة ذلك اليوم الذي تكشف فيه يد القدرة الأسرار المستورة الآن في صدور الناس. وأمرني قائلاً: ’في ذلك اليوم قم على نصرة أمر الله بقوة لا تتزعزع وعزم متين وانشر في كل مكان ما سمعت وما رأيت.‘﴾ وكان الشيخ أبو تراب هذا نفسه قد ظن، في الأيام الأولى من الدورة الإلهية التي أعلنها حضرة الباب، أن من الحكمة أن يستر إيمانه، ولكن بقي في قلبه ذلك العشق الشديد للمظهر الإلهي المنكشف وبقي راسخًا في إيمانه كالصخرة حتى أدى اشتعال نار عشقه في روحه إلى قيامه بأعمال أدت أخيرًا إلى معاناة السجن في طهران في نفس السرداب الذي سجن فيه حضرة بهاءالله. وزيّن حياته المضحية المتيمة بتاج الشهادة المجيدة.

وإذ قاربت أيام السيد كاظم على الانتهاء، كان كلما قابل تلاميذه، إما في المحادثات الفردية أو في المناقشات العلنية، ينصحهم بقوله: ﴿يا أصحابي الأحباء! حذار حذار أن تخدعكم الدنيا من بعدي بغرورها واحذروا أن تنسوا الله وتزدادوا غرورًا على غروركم. عليكم بنبذ كل أشكال الراحة وترك المتعلقات الترابية والأهل، في طلب مرغوب قلوبكم وقلبي. تفرّقوا في كل جهة وانقطعوا عن الأشياء الدنيوية وتضرعوا لربكم بتواضع وابتهال أن يرزقكم ويهديكم. لا تهنوا في عزمكم حتى تجدوا من اختفى خلف حجاب العظمة. واظبوا على ذلك حتى أن مولاكم وهاديكم الحقيقي يساعدكم بفضله ويمنّ عليكم بعرفانه. فكونوا ثابتين إلى يوم يختاركم أصحابًا له وتكونوا ناصرين أبطالاً للقائم الموعود. هنيئًا لمَن يشرب منكم كأس الشهادة في سبيله. وعلى الذين يحفظهم الله بحكمته ويبقيهم ليشهدوا غروب كوكب الهداية المنير، ذلك المطلع لشمس الظهور الإلهي، أن يكونوا صابرين موقنين مستقيمين. فمثل هؤلاء منكم يجب أن لا يتزعزعوا ولا يقنطوا، لأن بعد حصول النفخة الأولى التي تهلك الأرض بالفناء والموت، سيرتفع سريعاّ نداء آخر تحيى به جميع الأشياء. فيظهر إذ ذاك معنى تلك الآيات المقدسة "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون."(1) والحق أقول لكم أن بعد القائم يظهر القيوم(2) لأنه عندما يغرب الكوكب الأول تشرق شمس جمال الحسين وتضيء العالمين. وفي ذلك الحين ينكشف في أبهى جلاله، ذلك "اللغز" و"السر" اللذين تكلم عنهما الشيخ أحمد عندما قال: ’إن لغز هذا الأمر لا بد وأن ينكشف ويظهر سرّ هذه الرسالة.‘ فمن بلغ يوم الأيام ذاك كمن بلغ تاج الفخر للأجيال الماضية، وأن عملاً طيبًا في ذلك العصر يساوي عبادة قرون لا عدد لها. فكم كان ذلك الشخص الجليل، الشيخ أحمد يكرّر آيات القرآن السابق ذكرها! وكم أكد أن مضمونها عبارة عن مجيء ظهورين متواليين لا يفصلهما وقت

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الزمر، الآيتين 68-69.
(2) يشير إلى حضرة الباب وحضرة بهاءالله.
صورة 9
منظر الكاظمين

كبير وقدر لكل منهما أن يملأ الأرض مجدًا وبهاء! وكم مرة صاح قائلاً: ’طوبى لمَن يدرك معناها ويشاهد جمال سنائها!‘ وكم مرة خاطبني قائلاً:’لن يعيش أي منا ليرى ضياء بهائهما. ولكن الكثيرين من تلاميذك المخلصين سيشهدون ذلك اليوم الذي لا أمل لنا في رؤيته للأسف! فيا أصحابي الأحباء! ما أعظم وأجل هذا الأمر! وما أعظم المقام الذي أدعوكم إليه! وما أعظم المهمة التي دربتكم وأعددتكم لها! فشمروا عن ساعد الجد واجعلوا وعده نصب أعينكم. أسأل الله أن يؤيدكم بفضله على أن تقاوموا عواصف الامتحان والافتتان التي سوف تكتنفكم حتى تخرجوا منها سالمين ظافرين وترتقوا مقامًا عليًا.‘﴾

وكان السيد في كل سنة في شهر ذي القعدة يسافر من كربلاء إلى الكاظمين(1) ليزور مقامات الأئمة. ثم يعود إلى كربلاء ليتمكن من زيارة مقام الإمام الحسين في يوم عرفة. وفي تلك السنة، وهي آخر سنة من حياته، سافر إلى كربلاء تبعًا لعادته التي كان حريصًا عليها. وفي أوائل أيام شهر ذي القعدة سنة 1259ﻫ(2) ومعه عدد من أصحابه وأصدقائه، وصل في رابع يوم من ذلك الشهر إلى مسجد براثة الكائن في الطريق العام ما بين بغداد والكاظمين، وقت صلاة الظهر، فأمر المؤذن أن يؤذن بالصلاة ووقف في ظل نخلة مواجهة

________________________

(1) قبرَيّ الكاظمين، وهما الإمام السابع، موسى الكاظم، والإمام التاسع، محمد تقي، ويقعان على بعد ثلاثة أميال من بغداد، ونشأت مدينة كبيرة حوالي المقامين ويسكنها في الغالب الإيرانيون وسميت بالكاظمين.

(2) 23 نوڤمبر/تشرين الثاني - 23 ديسمبر/كانون الأول سنة 1843م.

صورة 10
جانب من مسجد براثة

للمسجد، وما كاد يتم الصلاة حتى ظهر بغتة أعرابي، وإذ اقترب من السيد كاظم، عانقه قائلاً: ’منذ ثلاثة أيام كنت أرعى غنمي في هذا المرعى المجاور، إذ أخذتني فجأة سِنة من النوم، فرأيت محمدًا رسول الله في منامي ويقول لي هذه الكلمات: ’’اسمع أيها الراعي كلماتي واحفظها في قلبك لأنها وديعة الله أؤديها إليك لتحفظها. وإذا وفيت بالأمانة يكون أجرك عظيمًا وإذا أهملتها يحلّ بك عقاب شديد. اسمعني فهذه هي الوديعة التي أعطيها لك: امكث قريبًا من مسجد براثة، وفي اليوم الثالث من هذه الرؤيا سيحضر أحد ذريتي واسمه السيد كاظم مصحوبًا بأصدقائه وأصحابه ويقفون ساعة الظهر في ظل النخلة بقرب المسجد، وهناك يؤدي صلاته. وبمجرد أن تراه اذهب لملاقاته وأبلغه تحياتي الحبية. قل له عني: "افرح لأن ساعة فراقك قد جاءت، فبعد الفراغ من زياراتك في الكاظمين ورجوعك إلى كربلاء، فهناك بعد ثلاثة أيام، أي في يوم عرفة،(1) تطير إليّ، ولا يمضي زمن طويل

________________________
(1) 31 ديسمبر/كانون الأول سنة 1843م.
صورة 11
موقع مرقد السيد كاظم
(وأزيل الآن الشاهد)

حتى يظهر مَن هو الحق ويضيء الأرض بأنوار وجهه."‘‘ ‘ فبدت على وجه السيد كاظم ابتسامة بعد أن وصف الراعي الرؤيا، وقال: ’لا شك عندي في صحة رؤياك.‘ فحزن أتباعه لذلك حزنًا عميقًا. فالتفت إليهم قائلاً: ’أليست محبتكم لي لأجل مَن نحن ننتظره جميعًا؟ أفلا تحبون أن أذهب حتى يظهر الموعود؟‘ وكانت هذه الحادثة متداولة وسَمِعْتُها من نحو عشرة أشخاص ممن كانوا حاضرين وقتها وشهدوا بدقتها. ومع ذلك فكثير ممن شاهدوا بأعينهم علامات عجيبة كتلك، رفضوا الاعتراف بالحق وأنكروا رسالته!

وانتشرت أصداء هذه الحادثة العجيبة في أقاصي البلاد وجلبت الحزن والأسى إلى قلوب محبّي السيد كاظم، وبغاية اللطف والسرور خاطبهم بكلمات الفرح والاطمئنان التي هدأت روع قلوبهم المضطربة وثبتت إيمانهم وأشعلت فيهم نار الحمية والحماس. وأكمل حجّه بكل كمال ووقار وعاد إلى كربلاء، وفي نفس يوم وصوله وقع مريضًا طريح الفراش. وأشاع أعداؤه أن حاكم بغداد أعطاه سمًّا. وكان ذلك تضليلاً بحتًا وافتراءً سافرًا لأن الحاكم بنفسه كان كثير الاعتقاد في السيد ويضع فيه ثقته ويعتبره أكبر رئيس ديني عالم وذا اطلاع تام وخلق سوي.(1) وفي يوم عرفة سنة 1259ﻫ في سن الستين من عمره، ودّع السيد كاظم هذا العالم طبقًا لرؤيا ذلك الراعي البسيط وترك وراءه جماعة من التلاميذ المخلصين زهدوا في الدنيا وما فيها وانتشروا في البلاد يبحثون عن موعودهم المحبوب. وقد دفنت رفاته المقدسة في مقام الإمام الحسين.(2) وأحدثت وفاته ضجة كبيرة في كربلاء كالتي قامت في السنة السالفة في مساء يوم عرفة، إذ جاءت عساكر الأعداء منصورة واقتحمت أبواب القلعة وقتلت عددًا غفيرًا من الأهالي المحاصرين. وكان منزله إذ ذاك أي قبل وفاته بسنة واحدة ملجًأ(3) للوافدين عليه، فأصبح منزله الآن منزل الأحزان والأسى لأصحابه الذين كانوا يندبون وفاته وينوحون لفراقه.(4)

________________________

(1) ’وكريم خان الذي أصر على أن الفاتحين أظهروا كل احترام للشيخية وللسيد كاظم الرشتي لم يتردد في القول باحتمال سمّ السيد في بغداد من نجيب باشا، حيث سقاه شرابًا شعر بعده بعطش شديد وتوفي، وعلى هذا المنوال المضطرب يكتب الفرس تواريخهم.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 2، الصفحتان 30-31)

(2) ’ودفن خلف شباك البهو الموجود بقبر أمير المؤمنين، وقد حفر عميقًا ومائلاً في عمقه نحو مدخل فناء الحرم.‘ (مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 2، الصفحة 31)

(3) ‘وانتشرت عقائد الشيخية في أيام حياة السيد كاظم في جميع أنحاء إيران، وكان له في العراق وحده مائة ألف مريد.‘ ("المجلة الآسيوية"، سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 463)

(4) ’وهنا ينتهي تاريخ قيام الشيخية أو على الأقل تاريخ وحدتها، إذ انقسمت بعد وفاة السيد كاظم الرشتي إلى شعبتين، إحداهما تحت اسم البابية وانتشرت بقوة كبيرة كالقوة التي أوجدها الشيخ أحمد ومنها ظهر الظهوران اللذان تنبأ عنهما، وأما الطائفة الأخرى صارت تحت رياسة كريم خان القاجاري الكرماني الذي استمر في منازعته مع الشيعة وهو دائمًا يتستر تحت ستار الشيعي الاثني عشري الكامل. أما الباب في نظر كريم خان، فإنه ضال هو وأتباعه. وأما كريم خان فهو في نظر البابيين الدجّال الذي تنبأ عنه محمد ﷺ.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 2، الصفحة 31)

الفصل الثالث
إعلان دعوة حضرة الباب

كانت وفاة السيد كاظم بمثابة إشارة لقيام أعدائه بتجديد جهودهم، إذ كانوا متعطشين للرياسة ومتجرئين بوفاته وتفرق أصحابه فجددوا ادعاءاتهم وأعدوا العدة لتحقيق أغراضهم. وكان المخلصون للسيد من تلاميذه قد انزعجت قلوبهم وامتلأت أسىً وحزنًا عليه ردحًا من الزمن، ولكن عودة الملاّ حسين البشروئي، من بعد أداء المهمة التي أوكلها إليه معلمه بنجاح باهر، أزالت همومهم.(1)

وكانت عودة الملاّ حسين إلى كربلاء في أول محرم سنة 1260ﻫ.(2) وقد أفرح تلاميذ معلمه المحبوب الذين كان اليأس قد تطرق إلى قلوبهم، وقوّى من عزيمتهم، وذكّرهم بوعد معلمهم الأكيد، وتوسل إليهم بمتابعة البحث واليقظة في جهودهم بالبحث عن محبوبهم المختفي. وإذ كان مقيمًا في المنزل المجاور للذي كان يقطنه السيد، مكث مدة ثلاثة أيام يتقبل العزاء من المعزين ويستقبل عددًا كبيرًا من المواسين باعتباره المندوب الرئيس عن تلاميذ السيد. وفيما بعد دعا مجموعة من أميز وأخلص زملائه التلاميذ وسألهم عن وصية زعيمهم الراحل وعن آخر نصائحه لهم. فأخبروه بأن السيد كاظم

________________________

(1) ’كان الملاّ حسين البشروئي رجلاً يعترف له أعداؤه بأنه عالم كبير وذو شخصية قوية. وكان يداوم على الدرس من صغره وترقى في العلوم الدينية والشرعية على شأن أوجب احترامه.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 128)

(2) 22 يناير/كانون الثاني سنة 1844م.

أمرهم مرارًا وتكرارًا أن يهجروا منازلهم ويتفرقوا في البلاد ويطهروا قلوبهم من كل غرض دنيوي ويخصصوا أنفسهم للبحث عن الموعود الذي كان دائمًا يشير إلى قرب ظهوره. ومما قالوه: ’إنه أخبرنا بأن الذي هو مطلوبنا قد ظهر وأما الحجب التي هي بينكم وبينه فإنكم لا تقدرون على رفعها إلا بالبحث الحثيث. ولا يمكن تمزيق تلك الأستار إلا بالجهد المقترن بالدعاء، وبإخلاص النية، وبالعقل المتحرر المستقل. ألم يقل تعالى في كتابه "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"؟‘(1) فأجابهم الملاّ حسين: ’لماذا فضلتم الإقامة في كربلاء، ولماذا لم تتفرقوا للبحث لتقوموا على تحقيق رجائه الحار؟‘ فقالوا: ’إننا نعترف بتقصيرنا ونشهد جميعًا بعظمتك، ونحن على يقين بأنك لو تدّعي إنك أنت الموعود، فإننا لا نتردد في الإذعان لك لشدة ثقتنا فيك ونحن نعاهدك على الطاعة وعمل كل ما تريده.‘ فصاح الملاّ حسين قائلاً: ’لا سمح الله، أين التراب من رب الأرباب. فلو عرفتم لحن القول من السيد كاظم ما كنتم تتفوهون بمثل هذه الكلمات. فأول واجب عليكم وعليّ أن نقوم على تنفيذ وصية رئيسنا المحبوب الأخيرة قولاً وفعلاً.‘ وقام توًا من مقعده وواجه مباشرة ميرزا حسن گوهر وميرزا محيط وآخرين من أبرز تلاميذ السيد كاظم. فأبلغ كل واحد منهم فردًا وجماعة وصية رئيسه الوداعية بلا خوف ولا وجل، وأكد على الطبيعة الملحة لواجبهم، وحثهم على القيام لتنفيذه. ولكنهم أجابوا على التماسه بإجابات واهية بقصد المراوغة، وقال أحدهم: ’إن أعداءنا كثيرون وأقوياء وعلينا أن ننتظر في هذه المدينة لحراسة المقعد الشاغر لرئيسنا المتوفى.‘ وقال آخر: ’عليّ أن أبقى لأرعى أطفال السيد الذين تركهم.‘ فأدرك الملاّ حسين فورًا عبث جهوده معهم. وإذ تيقن من درجة حماقتهم وعماهم وجحدهم، فلم يزد في كلامه معهم وتركهم لشؤونهم التافهة.

ولما كانت سنة الستين التي شهدت ميلاد الظهور الموعود، قد أشرقت على العالم، فلا يبدو غريبًا، في هذا المنعطف أن نحيد عن موضوعنا فنذكر أحاديث معينة مروية عن الرسول وعن أئمة الدين والتي لها علاقة مباشرة مع تلك السنة. فممّا قاله الإمام جعفر ابن محمد جوابًا عن السؤال الخاص بسنة ظهور القائم: "وفي سنة الستين يظهر أمره ويعلو

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة العنكبوت، الآية 69.
صورة 12
منزل الملاّ حسين في بشرويه

ذكره." وكثيرًا ما أشار العلاّمة محي الدين ابن عربي في كتبه ورسائله إلى اسم الموعود وسنة ظهوره، ومن ذلك قوله: ((إن وزراء المهدي كلهم من الأعاجم.)) ((وفي اسمه يقدم اسم الولي (عليّ) على اسم النبي (محمد). )) ((وإن سنة ظهوره تنطبق على نصف أصغر عدد مشترك ينقسم على التسع أعداد (2520)." أي سنة 1260ﻫ. ومما رواه ميرزا محمد الأخباري في أشعاره متنبئًا بما يخص سنة الظهور: "وفي سنة غرس تشرق الأرض بأنواره، وفي سنة غرسه يمتلئ العالم من بهائه، ولو كنتَ حيًا في سنة غرسي، تشاهد كيف تتجدد الأمم والملوك والدين." وسنة غرس تطابق 1260، وغرسه 1265، وغرسي

1270. ومن أحاديث الإمام علي أمير المؤمنين: "إنه في سنة غرس تغرس شجرة الهداية الإلهية."

أما الملاّ حسين، فبعد أن قام بواجبه في حث زملائه التلاميذ وإيقاظهم، سافر من كربلاء إلى النجف ومعه أخوه محمد حسن وابن خاله محمد باقر اللذين رافقاه منذ زيارته لمدينة بشرويه موطنه في خراسان. ولما وصل إلى مسجد الكوفة عزم الملاّ حسين أن يصرف أربعين يومًا فيه للخلوة والعبادة. واستعد بمتابعة الصوم والترقب للمهمة المقدسة التي كان ينتظرها. وكان يشاطره العبادة أخوه فقط، بينما كان ابن خاله يأتيهما بما يحتاجانه ويرافقهما في التعبد في وقت فراغه.

وبعد أيام قلائل تغيرت حالة السكون والهدوء ووصل الملاّ علي البَسطامي، من أشهر تلاميذ السيد كاظم ومعه اثنا عشر من رفقائه إلى مسجد الكوفة، فوجده منهمكًا في العبادة. كان الملاّ علي متفقهًا في العلوم والمعارف وعلى اطلاع عظيم بتعاليم الشيخ أحمد، حتى أن كثيرين كانوا يعدّونه أعظم من الملاّ حسين. وطالما كان يشتاق أن يسأل الملاّ حسين عن وجهته بعد انقضاء مدة الخلوة. وكلما أراد مقابلته وجده غارقًا في تعبده ووجد من المستحيل توجيه أي سؤال. فعزم أن ينقطع للخلوة، مثله، مدة أربعين يومًا عن كل الناس. وأتبعه في ذلك رفقاؤه عدا ثلاثة ممن كانوا يقومون على خدمتهم.

وفور انقضاء مدة الأربعين يومًا من العزلة، سافر الملاّ حسين ومعه رفيقاه إلى النجف. وكان سفره من كربلاء ليلاً، وزار في طريقه مشهد النجف وواصل سيره مباشرة إلى بوشهر على الخليج الفارسي. وهناك ابتدأ بحثه المقدس عن محبوب قلبه، وفيها استنشق لأول مرة طيب الأنفاس التي عبقت ممن كان يقطن تلك المدينة مشتغلاً فيها كتاجر بسيط، وميّز روائح القدس التي ملأت أرجاء تلك المدينة من أثر مناجاة المحبوب.

ولكنه لم يقدر على المكوث طويلاً في بوشهر، وأحس أن شيئًا يجذبه بقوة إلى الشمال فاتجه إلى شيراز، وإذ وصل إلى بوابة المدينة، طلب من أخيه وابن خاله أن يذهبا مباشرة إلى مسجد إيلخاني وينتظراه هناك إلى أن يلحقهما، وعبر عن أمله، بمشيئة الله، بالانضمام إليها في أداء صلاة المغرب.

صورة 13
صورة 14
مناظر مسجد إيلخاني في شيراز
صورة 15
منظر عام لشيراز

وفي ذلك اليوم نفسه، بينما كان يتمشى قبل الغروب ببضع ساعات خارج بوابة المدينة، إذ أبصر فجأة شابًا وضّاح الجبين لابسًا عمامة خضراء، قد أقبل عليه وحيّاه بابتسامة مرحبًا بوصوله بالسلامة وعانق الملاّ حسين بمحبة وإخلاص كأنه صديق قديم. وكان الملاّ قد ظنه لأول وهلة تلميذًا للسيد كاظم وأنه حضر للترحيب به بعد أن سمع باقترابه من شيراز.

ومما قصّه ميرزا أحمد القزويني الشهيد على أوائل المؤمنين ما سمعه من الملاّ حسين في عدة مناسبات عن كيفية مقابلته لحضرة الباب، تلك المقابلة التاريخية المؤثرة، أخبرني بالآتي: ﴿سمعت الملاّ حسين مرارًا يصف بالتفصيل وقائع تلك المقابلة المدهشة كما يلي: إن الشاب الذي قابلني خارج بوابة شيراز أدهشني بتعابير محبته ولطفه. ودعاني دعوة حارة لزيارة منزله وهناك أستريح قليلاً من وعثاء السفر. فرجوته أن يعفيني من ذلك لأن رفيقَي قد عملا ترتيبًا لإقامتي في تلك المدينة وأنهما بانتظار رجوعي، فكان رده: ’اتركهما لحراسة الله فهو لاشك حافظهما.‘ ولما نطق بتلك الكلمات أمرني أن أتبعه. وكنت قد تأثرت جدًا بالطريقة التي حادثني بها ذلك الشاب الغريب، والتي وإن كانت لطيفة إلا أنها كانت أيضًا جذابة. وبينما سرت خلفه ترسخ انطباعي الأول عن تلك المقابلة المفاجئة نظرًا لمشيته وطلاوة صوته ووقار هيئته.

وسرعان ما وصلنا عند بوابة منزل متواضع في مظهره فطرق على الباب وفتح بعد برهة وجيزة من قبل خادم حبشي، ولما اجتاز العتبة، أشار عليّ باتباعه قائلاً: ’ادخلوها بسلام

آمنين.‘(1) وكانت تحيته بقوة وجلال نفذا إلى أعماق قلبي واستبشرت خيرًا من الفأل الحسن الصادر من هذه الكلمات التي خاطبني بها وأنا واقف على عتبة باب أول منزل دخلته في شيراز، تلك المدينة التي سبق أن طفح السرور على قلبي من تأثير جوّها سرورًا لا مزيد عليه، وقلت في نفسي: ’أليس من الممكن أن تقربني زيارتي إلى هذا المنزل من ذلك الذي أبحث عنه؟ أليس ممكنًا أن تقصر عليّ مدة حنيني الشديد وبحثي الشاق؟‘ ولما دخلت المنزل وتبعت مضيفي إلى غرفته شعرت بسرور طغى على كياني. وبمجرد أن جلسنا، أمر بإبريق من الماء، وأمرني أن أغسل يدَي وقدمَي من وعثاء السفر. فاستأذنت منه أن أترك محضره لأتوضأ في الغرفة المجاورة، ولكنه رفض طلبي وشرع يصب الماء على يدَي. ثم ناولني مشروبًا لطيفًا وطلب السماور وجهّز الشاي بنفسه وناولني منه.

صورة 16
الغرفة التي تقابل فيها حضرة الباب مع الملاّ
حسين في مسجد إيلخاني
________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الحجر، الآية 46.

وبعد أن غمرني بلطفه، نهضت لأغادر وقلت: ’إن صلاة المغرب قد اقتربت وقد وعدت أصحابي أن ألتحق بهم في تلك الساعة في مسجد إيلخاني.‘ وبكل احترام وهدوء أجاب: ’لابد وإنك تكون قد علّقت عودتك على مشية الله ويظهر أنه ما أراد ذلك. فلا تخف من خلف الوعد.‘ وأسكتني وقاره وثقته، وقمت لأعيد وضوئي وجهزت نفسي للصلاة. وأخذ هو أيضًا يصلي بجانبي. وأثناء الصلاة ارتاحت نفسي من تحيرها من غرابة

صورة 17
شجرة البرتقال التي غرسها حضرة الباب
في فناء منزله في شيراز

هذه المقابلة ومن مشاق بحثي، وشرعت أثناء الصلاة أقول: ’يا إلهي لم آلُ جهدًا في البحث، وللآن لم أوفق في الوصول إلى رسولك الموعود، وإن وعدك الحق وإنك لن تخلف الميعاد.‘

وكانت تلك الليلة الخالدة عشية اليوم الخامس من جمادى الأولى سنة 1260ﻫ،(1) وكان مضيفي الشاب ابتدأ يحادثني بعد المغرب بنحو ساعة، وسألني إذ ذاك قائلاً: ’مَن ذا الذي تعتبره خلفًا للسيد كاظم رئيسًا لكم؟‘ فأجبته: ’عندما حانت منية معلمنا، نصحنا بشدة أن نترك أوطاننا ونتفرق في كل مكان طلبًا للمحبوب الموعود، ولذلك سافرت إلى إيران وقمت لتنفيذ إرادته. وللآن لا أزال مشتغلاً بالبحث.‘ فسألني: ’هل أعطاكم معلمكم أوصافًا مفصلة وامتيازات في الموعود؟‘ فقلت: ’نعم. فإنه من السلالة الطاهرة والعترة النبوية ومن ذرية فاطمة. وأما سنّه فأكثر من العشرين وأقل من الثلاثين، وعنده علم لدنّي، وهو متوسط القامة ويمتنع عن شرب الدخان وخال من العيوب والعاهات الجسمانية.‘ فسكت هنيهة، ثم قال بصوت جهوري: ’انظر فسوف ترى هذه العلامات

صورة 18
موقد حضرة الباب وسماوره
________________________

(1) الموافق مساء 22 مايو/أيار سنة 1844م، ويوافق يوم 23 مايو/أيار يوم الخميس.

صورة 19
الغرفة (في الجهة اليسرى) التي ولد
فيها حضرة الباب في شيراز
صورة 20
صورة 21
ضواحي شيراز حيث كان يتنزه حضرة الباب

في شخصي!‘ ثم عدّد كل واحدة من العلامات على حدة وأظهر أنها جميعها تنطبق على شخصه. فحصلت عندي دهشة كبيرة، وقلت له في أدب: ’إن الذي ننتظره هو شخص قدسي ليس فوق قداسته قداسة، ويظهر من الأمر ما له قوة فائقة. فكثيرة ومتنوعة هي الشروط التي يجب أن يحققها من يدعي أنها متوفرة فيه. فكم أشار السيد إلى سعة علم الموعود! وكم كان يقول: "إن علومي بالنسبة لعلمه كقطرة من بحر مما وهبه الله. وإن جميع ما حصلته لم يكن إلا كذرة من التراب في مقابلة اتساع معارفه، بل الفرق بينهما شاسع."‘ وما كدت أتفوه بهذه الكلمات حتى شعرت بالخوف والندم بدرجة لم أتمكن من إخفائهما أو تفسيرهما. ووبخت نفسي بقسوة وعزمت في تلك اللحظة على تغيير إسلوبي وتخفيف حدتي. وعاهدت الله بأن لو عاد مضيفي للموضوع فإني أقول له بكل خضوع: ’إذا أردت أن تؤسس دعوتك فإنك تخلصني ولا شك من عبء الانتظار والترقب الذي أثقل روحي وأكون مدينًا لك لهذا الخلاص.‘ وكنت في ابتداء طلبي وبحثي قد جعلت أمام عينَي معيارين أعرف بهما صحة دعوى أي شخص يدعي أنه القائم الموعود. أولهما رسالة ألّفتها بنفسي تختص بالتعاليم الغامضة الباطنة التي روج لها الشيخ أحمد والسيد كاظم. وكل من يبدو لي قادرًا على حل معضلات هذه المسائل المذكورة في الرسالة أسلمه مطلبي الثاني، وأطلب منه أن يملي عليّ، دون تردد أو تفكر، تفسيرًا لسورة يوسف بأسلوب ولغة مغايرين للأصول المعروفة في زماننا. وكنت قد طلبت من السيد كاظم تفسيرًا لهذه السورة نفسها، فامتنع قائلاً: ’حقًا إن هذا ليس في مقدوري، فإن الشخص العظيم الذي يأتي بعدي سيكتب تفسيرًا لها دون أن يطلبه أحد، وسيكون هذا التفسير أحد أكبر الأدلة على صدقه وأحد أوضح الشواهد على سمو مقامه.‘(1)

وبينما كانت هذه الأمور تدور في خلدي، قال مضيفي الجليل مرة أخرى: ’أنعم النظر، ألا يمكن أن يكون الشخص الذي يعنيه السيد كاظم، إنما هو أنا؟‘ فاضطررت

________________________

(1) ’يروى أن الملاّ حسين قال: ’’بينما كنت ذات يوم لوحدي مع السيد كاظم في مكتبته، سألته عن السبب في أن سورة يوسف دعيت في القرآن "أحسن القصص". فأجابني بأنه لم يحن الوقت لإبداء السبب. وبقيت هذه الحادثة في مخيلتي ولم أذكرها لأي أحد.‘‘ ‘ ("التاريخ الجديد" للحاج ميرزا جاني، الصفحة 39)

إذ ذاك أن أقدم له نسخة من الرسالة التي كانت معي وسألته: ’هل لك أن تقرأ هذا الكتاب وتتصفحه بعين التسامح؟ وأتوسل أن تصفح عما تجده فيه من ضعفي وتقصيري؟‘ فأجاب طلبي بلباقة وفتح الكتاب ونظر في بعض صفحاته ثم أغلقه وابتدأ يخاطبني. وفي

صورة 22
صورة 23
صورة 24
مناظر الغرفة العليا في منزل حضرة الباب
في شيراز حيث أعلن دعوته

ظرف بضع دقائق كشف لي، بحيويته ولطفه الأصيلين، عن كافة الأسرار التي فيه وحلّ سائر معضلاته. ولما أتم ما أردته في برهة قصيرة، وبما حاز على رضائي التام، فسّر لي أيضًا حقائق معينة لم توجد في أقوال الأئمة ولا في كتابات الشيخ أحمد ولا السيد كاظم، وهذه الحقائق التي لم أسمعها من قبل بدت مفعمة بطلاوة مبهجة وقوة فائقة. ثم قال لي فيما بعد: ’لو لم تكن ضيفي، لكان موقفك خطيرًا، ولكن الرحمة الإلهية شملتك فإن لله أن يمتحن عبيده وليس للعبيد أن يمتحنوه بما عندهم من الموازين المختلة. ولو كنت فرضًا لم أحل لك معضلاتك، فهل تعتبر الحقيقة المشرقة في باطني عاجزة، أو تتهم علمي بالنقص؟ حاشا لله، بل ينبغي في هذا اليوم لملل الأرض في الشرق والغرب أن يسرعوا إلى هذه العتبة وعندها ينشدون فضل الرحمن، وكل من يتردد في ذلك فهو في خسران مبين. أفلا يشهد أهل الأرض أن الغرض الأصلي من خلقهم إنما هو معرفة الله وعبادته؟ إذًا ينبغي لهم أن يقوموا بأنفسهم ويبذلوا الجهد كما قمت أنت ويطلبوا بالاستقامة والثبات محبوبهم الموعود.‘ ثم استأنف قائلاً: ’والآن حان وقت إنزال التفسير على سورة يوسف.‘ وأخذ قلمه وبسرعة لا تكاد تصدق، أنزل سورة المُلك بكاملها، وهي أول باب من تفسيره على سورة يوسف، وكانت قوة تأثير الأسلوب الذي كتب به قد زادتها لطافة صوته وهو يتلوها. ولم يقطع ولو للحظة واحدة سيل الآيات التي نزلت من قلمه. ولم يتردد ولو مرة حتى تمت سورة الملك. وكنت جالسًا استمع مأسورًا من سحر صوته وقوة وحيه. وأخيرًا قمت من مقعدي وأنا أقدم رِجلاً وأؤخر أخرى، واستأذنت منه بالانصراف، فأمرني بابتسامة بالجلوس قائلاً: ’إذا انصرفت على هذه الحال، فإن كل من يراك يقول أن هذا الشاب المسكين قد فقد رشده.‘ وكانت الساعة إذ ذاك تشير إلى ساعتين وإحدى عشر دقيقة بعد الغروب(1) من عشية الليلة الخامسة من جمادى الأولى سنة 1260ﻫ، المطابقة لليلة الخامسة والستين بعد النوروز، وتطابق أيضًا ليلة اليوم

________________________

(1) أي من ليلة 5 جمادى الأولى سنة 1260ﻫ وهي 1270 من رسالة محمد ﷺ كما ذكر في الواحد الثاني من الباب 7 من البيان الفارسي: "كان ابتداؤه بعد مرور ساعتين وإحدى عشر دقيقة من مساء اليوم السابق على 5 جمادى الأولى سنة 1260ﻫ التي هي سنة 1270ﻫ من بعثة محمد ﷺ ." (منقول من نسخة خطية كتبت بخط السيد حسين كاتب وحي حضرة الباب ورفيقه)

السادس من خُرداد سنة نَهَنْگ. ثم قال لي: ’إن هذه الليلة وهذه الساعة سيحتفل بها في الأيام الآتية كأعظم الأعياد وأهمها. فاشكر الله الذي أوصلك إلى مرغوب قلبك وأشربك من رحيق كلامه المختوم، طوبى للذين هم إليه واصلون.‘(1) وفي الساعة الثالثة بعد الغروب، أمر مضيفي بتجهيز العشاء وظهر الخادم الحبشي نفسه وبسط أمامنا أشهى طعام مما أبهج جسمي وروحي معًا. وفي محضر مضيفي في تلك الساعة، شعرت كأني أتناول من فواكه الجنة. وكنت أُكْبِرُ أخلاق هذا الخادم الحبشي الذي كأن حياته قد تجددت من تأثير سيده. ومن ذلك أدركت، لأول مرة، معنى الحديث الشريف المشهور "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر." ولو لم يكن عند مضيفي الشاب سوى ما قابلني به من الكرم والمحبة التي أقنعتني أنها لا تصدر أبدًا من أي مخلوق آخر، لكان ذلك شاهدًا كافيًا للدلالة على عظمته.

ومكثت جالسًا مسحورًا من حديثه ناسيًا الوقت ومن كانوا بانتظار عودتي ولم أنتبه من النشوة التي وقعت فيها إلا على صوت المؤذن بغتة يدعو المؤمنين إلى صلاة الصبح. وفي تلك الليلة شعرت بجميع المسرات والنعم التي ذكر الله في كتابه أنه يهبها لأهل الجنة. وأحسست أني في مكان يصدق أن يقال عنه "لا يمسّنا فيه نَصَب ولا يمسّنا فيها لُغُوب" ويصدق عليه قوله تعالى: "لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا. إلا قيلاً سلامًا سلامًا."(2) – "دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين."(3)

وجفاني النوم تلك الليلة، واستمتعت بنغمات صوته في صعودها وهبوطها أثناء نزول قيوم الأسماء (وهو تفسير حضرة الباب لسورة يوسف)،(4) متلذذًا من ترنمات مناجاته

________________________

(1) نقل نقولاس من "كتاب الحرمين": "في الحقيقة أن أول يوم نزل فيه الروح على قلب هذا العبد كان يوم 15 من ربيع الأول." ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 206)

(2) القرآن الكريم، سورة الواقعة، الآيتين 25-26.
(3) القرآن الكريم، سورة يونس، الآية 10.

(4) ’ويظهر عليه في أول هذه الكتب، أنه كان شخصًا تقيًا باطنيًا وفي الثاني جدليًا منطقيًا ويلاحظ المستمعون أنهم وجدوا في الفصل الخاص بكتاب الله أنه اختار نغمة جديدة لم يعلم بها أحد قبل ذلك وأنها تستمد من معلومات لم يسمع بها من قبل. ولا يسع المستمع إلا الإعجاب بعلو وجمال تلك العبارات العربية المستعملة في تلك الكتابات. فلها من المعجبين العالين من لا يخشى تفضيلها على أحسن آيات الكتاب الكريم.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى"، لجوبينو، الصفحة 120)

صورة 25
غرفة نومه
صورة 26
غرفة والدته
صورة 27
غرفة جلوسه
مناظر منزل حضرة الباب في شيراز

التي كان يتلوها في صلواته وكان بين كل مناجاة وأخرى يكرر الآية: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين."(1)

ثم التفت إليّ وخاطبني بهذه الكلمات: ’يا من هو أول من آمن بي! حقًا أقول إنني أنا باب الله وأنت باب الباب. ولا بد أن يؤمن بي ثماني عشرة نفسًا من تلقاء أنفسهم ويعترفون بصدق ظهوري. وسينشدني كلٌ منهم على انفراد دون دعوة أو تنبيه. وعندما يتم عددهم يجب اختيار أحدهم لمرافقتي في الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. وهناك أبلّغ الرسالة الإلهية إلى شريف مكة ثم أرجع إلى الكوفة، وفي مسجد تلك المدينة أُظهر أمر الله. وعليك الآن أن تكتم عن أصحابك وعن كل شخص آخر كل ما رأيت وسمعت. وواصل الصلاة والدعاء في مسجد إيلخاني وواظب على التدريس. وأنا أيضًا سأنضم إليك في صلاة الجماعة هناك. واحذر أن تكشف سر إيمانك من سلوكك نحوي. وواظب على هذا العمل والتصرف إلى وقت مفارقتنا للحجاز. وقبل أن نسافر سنعين لكل من الثمانية عشر نفس مهمته الخاصة ثم نطلقهم لتحقيق مهامهم. وسنعلمهم كيفية تبليغ الكلمة الإلهية وإحياء النفوس.‘ ولما أتم هذه الكلمات صرفني من محضره ورافقني إلى باب المنزل وأودعني في حفظ العناية الإلهية.

وجاءت هذه الرسالة على غرّة كالصاعقة التي خدرت جميع قواي وقتًا ما،(2) وكان بهاء إشراقها يخطف بالأبصار وأخذتني قوتها الساحرة وحركت أعماق قلبي بشدة من الإثارة

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الصافات، الآيات 180-182.

(2) "ورد في كتاب "بحار الأنوار" وفي "العوالم" وفي "الينبوع" عن الصادق ابن محمد أنه قال: ’العلم سبعة وعشرون حرفًا، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان ولم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين. فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفًا.‘ "فانظر الآن كيف أنه جعل العلم سبعة وعشرين حرفًا. وأن جميع الأنبياء من آدم إلى الخاتم قد بينوا حرفين منه، وبعثوا بهذين الحرفين. ويقول بأن القائم يظهر جميع هذه الخمسة والعشرين حرفًا. فاعرف من هذا البيان مقام حضرته وقدره، وكيف أن قدره أعظم من كل الأنبياء، وأمره أعلى وأرفع من عرفان وإدراك كل الأولياء." ("كتاب الإيقان"، الصفحتان 205-206)

صورة 28
الباب والشباك الأصليين
صورة 29
الدرجات المؤدية إلى غرفة
إعلان الدعوة
صورة 30
المدخل
مناظر منزل حضرة الباب حيث أعلن دعوته

والفرح والتعجب والدهشة. وكان الحبور هو الغالب عليّ من جميع هذه الاحساسات وكذلك القوة، فإنهما أخذا بمجامع قلبي واستوليا على هيكلي ولبي، فكم كنت أحس بالضعف والإهمال والجبن قبل ذلك! وما كنت أقدر على الكتابة ولا على المشي وكانت يداي ورجلاي ترتعشان على الدوام. ولكن معرفة أمره بعد ذلك كهربت جسمي وأحسست بوجود قوة وشجاعة لا يقدر العالم بأجمعه على مقاومتها، بل لو اجتمع أهل الأرض وملوكها وقاموا كلهم ضدي، لرأيت في نفسي من الجسارة ما أقاوم به هجومهم وحدي. فكان الوجود أمامي كقبضة من تراب في يدي، وصرت كأني صوت جبريل المتجسد ينادي العالمين ’تنبهوا أيها الأقوام فقد انبلج نور الصباح ولاح الأمر وفتحت أبواب الرحمة لتدخلوا فيها يا ملأ الأرض، لأن الموعود الذي وعدتم به قد ظهر!‘

وعلى هذه الحالة تركت منزله وعدت إلى أخي وابن خالي. وقد تجمع في مسجد إيلخاني كثيرون من أتباع الشيخ أحمد ممن بلغهم خبر وصولي وأتوا لمقابلتي. وطبقًا لإرادة محبوبي الذي اكتشفته حديثًا قمت لتنفيذ رغباته. ولما بدأت بترتيب صفوف الدراسة وإقامة شعائر العبادة، اجتمع حولي شيئًا فشيئًا عدد غفير من الناس. وجاء لزيارتي أيضًا وجهاء المدينة وعلماؤها، وكان الحاضرون جميعهم قد أعجبوا من الروح التي كنت ألقي بها الدرس غير عالمين بأن المنبع الذي صدرت عنه إنما هو ذلك الموعود الذي ينتظرون مجيئه بشغف.

وفي تلك الأيام استدعيت لزيارة حضرة الباب عدة مرات. وكان في المساء يرسل ذلك الخادم الحبشي إلى المسجد حاملاً معه دعوة المحبة والترحيب. وكلما زرته كنت أصرف الليل بتمامه في محضره وأبقى متيقظًا إلى مطلع الفجر جالسًا عند قدميه مبهورًا من عذوبة حديثه متناسيًا الدنيا وهمومها ومشاغلها. كم كانت تمر تلك السويعات كالبرق الخاطف! وعند الفجر أنسحب من محضره بتردد. كم كان تلهفي في تلك الأيام بانتظار ساعة المساء! وبأي مشاعر من الحزن والأسف أجد أن الفجر قد بزغ! وفي أثناء إحدى تلك الأمسيات خاطبني مضيفي بهذه الكلمات: ’سوف يأتي غدًا ثلاثة عشر شخصًا من أصحابك، وعليك أن تظهر لكل منهم محبتك الفائقة،

ولا تتركهم وشأنهم لأنهم خصصوا حياتهم لطلب محبوبهم، وادعُ الله أن يمكنهم بمنّه وكرمه على أن يسيروا باطمئنان في ذلك الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحدّ من السيف. ومنهم من هو معدود عند الله من عباده المنتخبين المخلصين. وآخرون يسلكون طريقًا وسطًا، أما الباقون فلا يعلن مصيرهم حتى تأتي الساعة التي يظهر فيها كل أمر مكنون.‘(1)

وفي صبيحة ذلك اليوم نفسه في وقت الفجر، وبعد عودتي من منزل حضرة الباب بوقت قصير، وصل الملاّ علي البسطامي إلى مسجد إيلخاني ومعه العدد نفسه من أصحابه، كما أشير عليّ. وفي الحال قمت بترتيب وسائل راحتهم. وذات ليلة بعد بضعة أيام على وفودهم، كلمني الملاّ علي نيابة عن باقي أصحابه وهو عاجز عن كبت مشاعره، قائلاً: ’إنك لتعلم عظم ثقتنا فيك وإن طاعتنا لك بدرجة لو تدّعي أنك القائم الموعود، فإننا جميعًا لا نتأخر عن الرضوخ. وطبقًا لأمرك تركنا أوطاننا للبحث عن موعودنا المحبوب. وإنك كنت أول قدوة نبيلة لنا، وقد تبعنا خطواتك، وعزمنا أن لا نتوانى في بحثنا حتى نعثر على ضالتنا المنشودة. وتبعناك إلى هذا المكان ونحن مستعدون لقبول كل من تقبله أملاً في الاستظلال في ظل حمايته ونجتاز بنجاح تلك الاضطرابات التي تؤذن بدنو الساعة الأخيرة. فكيف نراك الآن تعلّم الناس وتقودهم في الصلاة والتعبد في غاية الهدوء؟ ويبدو أن علامات الاضطراب والترقب قد زالت عن ملامح وجهك. ولذلك نرجوك أن تخبرنا عن سبب ذلك، حتى نتخلص نحن أيضًا من حالة الانتظار والشك التي نحن فيها.‘ فأجبت بلطف قائلاً: ’إن أصحابك ربما نسبوا هدوئي وطمأنينتي إلى السطوة التي يبدو أني نلتها في هذه المدينة، ولكن الحقيقة بعيدة عن ذلك، فالعالم كله بأبهته وملذاته لا يمكنه أبدًا أن يغوي هذا الحسين البشروئي بعيدًا عن محبوبه. ومنذ بداية هذه المهمة المقدسة التي نزلت في ساحتها، أقسمت بأن يكون نصيبي أن أختم حياتي بخاتم

________________________

(1) "كذلك انظر في ابتداء ظهور الباب ففي مدة أربعين يومًا لم يؤمن بحرف الباء سوى السين ولم يكن إلا بالتدريج حتى لبست حروف باسم الله الأمنع الأقدس قميص الإيمان حتى كمل الواحد الأول، فانظر بعد ذلك كيف تضاعفت إلى هذا اليوم." ("البيان" الفارسي، الجزء 4، الصفحة 119)

دمي. فلأجله رحبت بالولوج في بحر البلايا، فلا أحن لأمور هذه الدنيا ولا أبغي إلا رضاء المحبوب. وإلى أن يسفك دمي لأجل اسمه لن تنطفئ هذه النار المشتعلة في قلبي. وأرجو الله أن تعيش لتشهد ذلك اليوم. ألا تعتقد بأن أصحابك قد ظنوا بأنه نظرًا لشدة تلهف الملاّ حسين هذا وإخلاص جهوده، فإن الله تعالى برحمته البالغة قد منّ عليه بفتح أبواب فضله، وأنه تعالى في رغبته في ستر تلك الحقيقة قد أمره بالقيام بتلك الجهود؟‘ فحركت هذه الكلمات روح الملاّ علي وأدرك معانيها. فألح عليّ بعينين دامعتين أن أكشف له عن هوية ذلك الشخص الذي أبدل اضطرابي بالسكون وقلب قلقي بالإيقان، وتوسل قائلاً: ’أقسمك بربك الرحمن أن تهبني نصيبًا من ذلك الرحيق القدسي الذي تناولته من يد الرحمة، ففي ذلك حتمًا إطفاء لهيب ظمئي وتهدئة لاضطراب قلبي من ألم الانتظار.‘ فأجبته: ’لا تطمح في أن تنال مني هذا المرغوب، وثِق به فسوف يسدد خطواتك ويهدئ روع قلبك.‘﴾

فأسرع الملاّ علي إلى أصحابه وأخبرهم بطبيعة ما دار بينه وبين الملاّ حسين من حديث. وإذ أشتعلت قلوبهم بالنار التي أوقدتها رواية تلك المحادثة، تفرقوا فورًا طالبين الخلوة في غرفهم وراجين بالصوم والتبتل كشف الحجاب الذي حال بينهم وبين معرفة محبوبهم. وكانوا يقولون في مناجاتهم أثناء سهرهم: "اللهم ربنا إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم يا ربنا وإلهنا أظهر لنا ما وعدتنا على لسان أنبيائك ورسلك ولا تخزنا يوم الدين إنك لن تخلف الميعاد."

وفي ثالث ليالي خلوته، بينما كان الملاّ علي البسطامي مستغرقًا في الصلاة، رأى رؤيا، فظهر أمام عينيه نور تحرك أمامه فتبعه وهو مأخوذ من بهجته إلى أن أوصله ذلك إلى محبوبه الموعود. فانتبه في تلك الساعة في نصف الليل وهو مغتبط فرحًا، وفتح باب مخدعه وأسرع إلى الملاّ حسين وارتمى في أحضانه. وعانقه الملاّ حسين بغاية المحبة قائلاً: ’الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.‘

وفي فجر ذلك اليوم ذهب الملاّ حسين يتبعه الملاّ علي إلى منزل حضرة الباب، فرأيا ذلك الخادم الحبشي المخلص واقفًا على الباب، فعرفهما وحيّاهما قائلاً: ’قبل الفجر

استدعيت لمحضر سيدي الذي أمرني أن أفتح باب المنزل وأنتظر على عتبته، وقال: ’’سيحضر في هذا الصباح باكرًا ضيفان، فباسمي رحب بهما بحرارة وقل لهما عني ادخلا على اسم الله.‘‘ ‘

وكانت مقابلة الملاّ علي الأولى مع حضرة الباب، شبيهة بمقابلة الملاّ حسين ولم تختلف عنها إلا في أن المقابلة السابقة كانت تدور حول تمحيص الحجج والبراهين على رسالة حضرة الباب، بينما في هذه الدفعة طرحت المجادلات جانبًا وسادت روح العشق الشديد والرفقة الحميمة الودية. وامتلأت الغرفة بتمامها بالحياة من أثر تلك القوة السماوية التي صدرت عن بيانات حضرته الملهمة. وبدا كأن كل شيء في الغرفة يشهد صائحًا: ’حقًا، حقًا، قد انبثق فجر يوم جديد، وجلس الموعود على عرش قلوب العالمين، ويمسك بيده كأس الأسرار وقدح الخلود طوبى للشاربين.‘

صورة 31
صورة 32
مناظر الحمّام العمومي في شيراز، الذي
ذهب إليه حضرة الباب في صباه

وهكذا وجد كل فرد من باقي أصحاب الملاّ علي الاثني عشر، محبوبه. وكل بدوره وبكامل سعيه وجدّه. فرآه بعضهم في الرؤيا، وبعضهم الآخر أثناء صلواتهم، ومنهم من وجده أثناء تأملاته مسترشدًا بالإلهام الرباني الذي ألهمهم لمعرفة قوة بهائه. وتشرف هؤلاء بمحضر حضرة الباب كما تشرف الملاّ علي من قبل، و كانت زيارتهم له مصحوبة بالملاّ حسين، ودعوا ﺑ"حروف الحيّ" وكمل منهم سبعة عشر حرفًا أُدرجوا في لوح الله المحفوظ بالتدريج وتعينوا رسلاً لحضرة الباب ووزراء لدينه وناشرين لنوره.

وتكلم حضرة الباب أثناء محادثته مع الملاّ حسين ذات ليلة قائلاً: ’قد أثبتنا سبعة عشر حرفًا وانضموا للواء دين الله، ولم يبق إلا حرف واحد على تمام العدد، فعلى هؤلاء الحروف القيام بالدعوة لأمري وتأسيس ديني، وسيأتي الحرف الأخير ليلة غد ليكمل العدد.‘ ففي اليوم التالي عند الغروب بينما كان حضرة الباب راجعًا إلى منزله متبوعًا بالملاّ حسين، إذ ظهر شاب عليه غبار السفر واقترب من الملاّ حسين وعانقه وسأله إذا كان قد وصل إلى بغيته، فاجتهد الملاّ حسين في البداية أن يهدئ روعه ونصحه أن يستريح برهة، ووعد بإرشاده فيما بعد. فلم يقبل ذلك الشاب أن يلتفت إلى نصحه ووجّه نظره إلى حضرة الباب، وقال للملاّ حسين: ’لماذا تخبئه عني؟ فإني أعرفه من هيئته، وإني أشهد في سري أنه لا يقدر أحد خلافه في الشرق أو الغرب أن يدعي أنه الحق.‘ فدهش الملاّ حسين من كلماته وحثه أن يكبح مشاعره حتى يأتي الوقت الذي يقدر فيه أن يبوح له بالحقيقة. وتركه مسرعًا ليلحق بحضرة الباب وأخبره بما دار بينه وبين ذلك الشاب، فأجابه حضرة الباب: ’لا تدهش من مسلكه الغريب فإننا كنا في عالم الروح نتحادث مع ذلك الشاب ونعرفه من قبل وكنا ننتظر قدومه، فاذهب إليه وأحضره أمامنا.‘ فتذكر الملاّ حسين حالاً من كلمات حضرة الباب تلك الفقرة من الأحاديث: "إنه في اليوم الأخير تجوب رجال الغيب فضاء العالم على أجنحة الروح ويحضرون أمام القائم الموعود ويبتغون منه ذلك السر الذي يحل لهم معضلاتهم ويزيل حيرتهم."

ومع أن هؤلاء الأبطال كانوا بعيدين عنه بالجسد إلا أنهم روحيًا كانوا مشغولين بالمناجاة مع محبوبهم ويشاركونه في أحاديثه ويتمتعون بشرف صحبته. وإلا فكيف يمكن للشيخ أحمد والسيد كاظم أن يعرفا حضرة الباب؟ وكيف تمكنا من الاطلاع على السرّ المودع فيه؟ بل كيف يتمكن حضرة الباب نفسه والقدوس تلميذه المحبوب أن يدونا ما دوّناه، لولا وجود رابطة سرية تجمع أرواحهما معًا؟ ألم يُشِر حضرة الباب في أوائل أيام دعوته في فواتح سور "قيوم الأسماء"، التي هي تفسير سورة يوسف، إلى أهمية ظهور حضرة بهاءالله وعظمته؟ ألم يكُ قصده في بيان الأضرار التي لحقت بيوسف من أخوته وما ظهر منهم من الغدر والجفاء أن يتنبأ بما قدر أن يصيب حضرة بهاءالله من أخيه وأقاربه؟ ألم يك القدّوس مستمرًا ليل نهار، وهو محاط بجموع الأعداء من كل الجهات وبنيران لا يخبو أوارها في قلعة الشيخ الطبرسي، في إعداد وتكميل مديحه في حضرة بهاءالله في تفسيره الخالد لحرف الصاد من سورة الصمد الذي يبلغ نحوًا من خمسمائة ألف آية؟ تشهد كل آية من آيات "قيوم الأسماء"، وكل كلمة من كلمات التفسير المذكور، بهذه الحقيقة.

وقد كمل عدد التلاميذ المنتخبين بقبول القدوس لصدق ظهور حضرة الباب. وينتمي القدوس، واسمه محمد علي، من طرف والدته إلى سلالة الإمام الحسن حفيد الرسول محمد ﷺ .(1) وكان مولده في بارفروش في مقاطعة مازندران. ومما ينقل عن الذين حضروا دروس السيد كاظم أن القدوس تتلمذ عليه في أواخر أيامه، وكان آخر من يصل ويجلس غالبًا في أبسط مقعد من المجلس. ويكون أول من يغادر بعد انتهاء كل اجتماع. وامتاز عن بقية أصحابه بالهدوء والسكينة ودماثة الأخلاق. وقد سُمع السيد كاظم كثيرًا يقول إن بعض التلاميذ مع أنهم يجلسون في أبسط المقاعد ويلتزمون الصمت التام، لهم في نظر الله مقام جليل على شأن لا يستحق نفسه أن يكون من خدامهم. وكان تلاميذه يلاحظون تواضع القدّوس ويعترفون بامتياز أخلاقه ولكنهم ما كانوا يعرفون قصد السيد

________________________

(1) وطبقًا ﻟ"كشف الغطاء" توفي والد القدوس قبل ظهور الباب بجملة سنين وفي وقت وفاته كان القدوس طفلاً يدرس في مشهد في مدرسة ميرزا جعفر. (الصفحة 227، الحاشية 1)

كاظم. ولما وصل القدّوس إلى شيراز واعتنق الأمر الذي أعلنه حضرة الباب، كان له من العمر اثنان وعشرون عامًا. ومع صغر سنه أظهر شجاعة نادرة وإيمانًا تامًا لم يصل إليه أحد خلافه من أتباع مولاه. وكان قد مثّل في أدوار حياته واستشهاده المجيد صحة الحديث القائل: "من طلبني وجدني، ومن تقدم إلي شبرًا تقدمت إليه باعًا، ومن أحبني أحببته، ومن أحببته قتلته، ومن قتلته فعليّ ديته."

أما حضرة الباب، فاسمه السيد علي محمد(1) وولد في مدينة شيراز سنة 1235ﻫ(2) في بيت مشهور بالشرف والانتماء إلى الرسول محمد ﷺ وأكد تاريخ ميلاده صحة النبؤة المروية عن الإمام علي: "إني أصغر من ربي بسنتين."(3) وأعلن دعوته بعد أن بلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، وتوفي والده وهو طفل وكان والده السيد محمد رضا(4) من نسل النبي ﷺ، ومشهورًا في مقاطعة فارس بأسرها بالتقوى والفضل وذا احترام عظيم من الناس. وكان والداه كلاهما من السلالة النبوية ويكن لهما الناس المحبة والاحترام. وكفله خاله الحاج ميرزا سيد علي، أحد شهداء أمر الله، وسلمه عندما كان لا يزال طفلاً إلى معلم يدعى الشيخ عابد(5) ولو أن حضرة الباب كان غير ميال للدرس، إلا أنه أطاع رغبة خاله وإرشاداته.

________________________

(1) وهو معروف أيضًا بالألقاب الآتية: سيد الذكر - عبد الذكر - باب الله - النقطة الأولى - طلعة الأعلى - حضرة الأعلى - الرب الأعلى - نقطة البيان - السيد الباب.

(2) 20 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1819م.
(3) هذا من أحاديث الشيعة.

(4) تبعًا لميرزا أبو الفضل (مخطوطة عن تاريخ أمر الله، الصفحة 3)، كان الباب طفلاً لم يفطم حين توفي والده.

(5) تبعًا لميرزا أبو الفضل (مخطوطة عن تاريخ أمر الله، الصفحة 41) فإن الباب كان يبلغ من العمر ست أو سبع سنوات عندما دخل مدرسة الشيخ عابد. وكانت المدرسة تعرف باسم "مقهى الأولياء". ومكث الباب فيها خمس سنين، تعلم فيها مبادئ اللغة الفارسية. وفي أول ربيع الأول من سنة 1257ﻫ، سافر إلى النجف وكربلاء، وبعد سبعة أشهر عاد إلى موطنه في إقليم فارس.

صورة 33
أطلال مقهى الأولياء في شيراز، المدرسة
التي ذهب إليها حضرة الباب
صورة 34
مدخل مقهى الأولياء

وكان الشيخ عابد، المعروف عند تلامذته ﺑ"شيخنا"، رجلاً صالحًا متفقهًا تتلمذ على كل من الشيخ أحمد والسيد كاظم. ومما حكاه الشيخ عابد قال: ’ذات يوم سألت الباب أن يقرأ فاتحة القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، فتردد ولم يقبل قراءتها إلا إذا عرف معناها وعدا ذلك لن يتلفظ بها. فتظاهرت بأني لا أعرف المعنى، فأجابني تلميذي: ’’أنا أعرف المعنى من هذه الكلمات، وإذا أذنت لي فسوف أشرحها.‘‘ وتكلم في ذلك بطلاوة ومعرفة أدهشتني، وفسّر "الله والرحمن والرحيم" بكيفية لم أكن أعرفها من قبل ولا سمعتها. وكانت حلاوة عباراته لا تزال ماثلة في مخيّلتي. فشعرت باضطراري أن أرجعه إلى خاله وأن أوصيه بتلك الوديعة التي عهد بها إليّ، وأن أخبره بأني أشعر إني لست مستحقًا أن أعلّم مثل هذا الطفل الفذ. ووجدت خاله لوحده في مكتبه، فقلت له: ’’إني أعيده إليك وأعهد به إلى يقظتك وحمايتك ولا يمكن معاملته كطفل عادي لأني أشاهد فيه قوة عجيبة مما لا تظهر إلا من صاحب الزمان(1) وحده، فالواجب عليك أن تحيطه بكل عنايتك ومحبتك، فاحفظه في منزلك لأنه الحق أقول لك لا يحتاج إلى معلمين مثلي.‘‘ ‘ ولكن الحاج ميرزا سيد علي وبخ حضرة الباب بشدة قائلاً: ’هل نسيت تعليماتي؟ ألم أنصحك أن تتبع مثال أقرانك وأن تلتزم جانب السكون وتستمع إلى كل كلمة يقولها لك معلمك؟‘ وبعد أن تلقى وعد حضرة الباب بالتقيد بتعليماته، أمره بالعودة إلى مدرسته. ولكن روح ذلك الطفل لم تكن لتكبح بإرشادات خاله الصارمة. ولم يكن لأي نظام متشدد أن يمنع إفاضة ما لديه من العلم اللدني. بل كانت تظهر عليه يومًا بعد يوم علائم الحكمة الفائقة عن الحد والخارجة عن حدود البشر التي أعجز عن وصفها. وأخيرًا اضطر خاله إلى سحبه من مدرسة الشيخ عابد وإشراكه معه في مهنته.(2) وفي تلك المهنة أيضًا أظهر علامات من القوة والعظمة التي لا يصل قربها إلا القليل ولا يتجاوزها أحد.

________________________
(1) أحد ألقاب القائم الموعود.

(2) وطبقًا لتاريخ الحاج معين السلطنة (الصفحة 37) اشتغل الباب في سن العشرين في التجارة بنفسه. ’ولأنه كان يتيمًا من صغره وضع في وصاية خاله آقا سيد علي، واشتغل تحت إشرافه بنفس مهنة والده (التجارة).‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 189)

صورة 35
صورة 36
الشجرة المدلة على مرقد نجل حضرة
الباب الطفل في باب دختران، شيراز
صورة 37
مرقد حرم حضرة الباب في شاه چراغ، شيراز

وبعد بضع سنين تزوج حضرة الباب(1) من أخت ميرزا سيد حسن وميرزا أبو القاسم(2) وولد له ابن سمي أحمد(3) توفي سنة 1259ﻫ، وهي السنة السابقة لإظهار الدعوة، ولم يندب الأب فقدان ابنه وكان يقول: "إلهي إلهي! لو أعطيت لإبراهيمك ألف إسماعيل لفديتهم فرادى وجمعًا في سبيل محبتك. فيا محبوبي ومرغوب قلبي! إن فداء أحمد الذي قدّمه عبدك علي محمد، فداء على مذبح محبتك لن يكفي لإطفاء اشتعال شوقه المتأجج في قلبه حتى يفدي قلبه تحت قدمك ويقع جسمه ضحية لأقسى أنواع الظلم في سبيلك وحتى يكون صدره هدفًا لآلاف السهام في مرضاتك وبذلك يسكن اضطراب روحه. فيا إلهي ومرادي الوحيد! فاجعل فداء ابني ووحيدي مقبولاً عندك ومقدمة لفداء نفسي وكينونتي في سبيل مرضاتك وامنحني فضل سفك دمي وفداء حياتي في سبيلك. واجعله يروي وينبت بذور دينك واشمله بقوتك السماوية حتى ينمو ذلك البذر الجديد في قلوب البشر وينتعش ويعظم إلى أن يصير شجرة كبيرة تجتمع وتستظل الأمم والأقوام تحت ظلها. فأجب يا إلهي دعائي وأتمم لي مراد قلبي إنك أنت القوي الكريم."(4)

________________________

(1) وطبقًا لتاريخ الحاج معين السلطنة (الصفحة 37) تزوج الباب لما وصل سن 22.

(2) ’وقد أشار حضرة الباب إليها في "تفسير سورة يوسف" في "سورة القرابة" بقوله: "وقد عقدت على الفراش بسرية اسم الحبيبة من الحبيب الأول للذكر الأكبر هذا ولقد جعلت ملائكة السماء وأهل رضوانه في يوم العهد بالحق الأكبر على الذكر بالذكر شهيدًا. يا أيتها الحبيبة من لدى المحبوب عند حبيبتي ما أنت كأحد من النساء أن اتبعت أمر الله الحق الأكبر اعرفي حق العظيم من كلمة القديم لنفسك وافخري بالجلوس مع الحبيب محبوب الله الأكبر ويكفيك الفخر هذا من لدى الحكيم حميدًا واصبري على القضاء في شأن الباب وأهله وإن ولدك أحمد لدى فاطمة الجليلة في جنة القدس على الحق بالحق قد كان في الحق بالعلم مربوبًا."‘ (مقدمة كتاب "البيان" الفارسي لنقولاس، الجزء 2، الصفحتان 10-11)

(3) ’وقد أشار الباب إلى ابنه في "تفسير سورة يوسف" بما يلي: "وإن ولدك أحمد لدى فاطمة الجليلة في الجنة القدس على الحق بالحق قد كان في الحق بالعلم مربوبًا." (من سورة القرابة) وكذلك "الحمد لله الذي أعطى قرة الأعين من شبابه طفلاً يدعى أحمد بالحق ورفعه الله إليه." (سورة العبد).‘ (مقدمة كتاب "البيان" الفارسي لنقولاس، الجزء 2، الصفحة 11)

(4) ’وترك شيراز إلى بوشهر وهو في سن السابعة عشر ومكث هناك خمس سنوات مشتغلاً بالتجارة. وفي تلك المدة كسب احترام كل التجار الذين تعامل معهم لصدقه وتقواه، وكان دائم الالتفات إلى واجباته الدينية وكان يصرف مبلغًا كبيرًا في الصدقة. وذات مرة أعطى لجار فقير 70 تومانًا (أي 22 جنيهًا).‘ (الحاشية 2، "التاريخ الجديد"، للحاج ميرزا جاني، الصفحتان 343-344)

صورة 38
صورة خط يد الطاهرة

وكان حضرة الباب يصرف غالب أوقات التجارة في بوشهر(1) وكانت شدة الحرارة فيها صيفًا لا تمنعه من أن يقضي بضع ساعات في الصلاة كل يوم جمعة على سطح منزله. ومع إنه كان يتعرض لأشعة الشمس اللاهبة في الظهيرة، فإنه كان يتوجه بقلبه إلى المحبوب ويستمر في المناجاة معه دون إعارة أي أهمية لشدة القيظ ومتناسيًا العالم بأجمعه. وكان يقضي في الصلاة والعبادة كل الوقت من الفجر إلى طلوع الشمس ومن الظهر إلى ما بعد العصر، ويتوجه دائمًا إلى جهة طهران شمالاً ويحيّي الشمس المشرقة

________________________

(1) ’كان دائم التأمل كثير الصمت وكان هيكله الجميل ونور محياه وسكون ذاته ما جذب أنظار مواطنيه، ومن صغره كانت المسائل الدينية تجذبه بقوة، وفي سن التاسعة عشر كتب أول كتاب له وهو "الرسالة الفقهية" وأظهر فيها تقواه ونفحة إسلامية تنبئ بمستقبل باهر في الفقه الشيعي. وربما كتب هذه الرسالة في بوشهر حيث كان خاله قد أرسله إليها عندما كان في الثامنة عشر أو التاسعة عشر من عمره، ليدير له أعماله التجارية.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 189-190)

بمحبة وفرح زائدين رمزًا وإشارة لطلوع كوكب الحق الذي سوف يشرق على العالم قريبًا. فكان ينظر إلى قرص الشمس حين الطلوع بثبات ولهف كما ينظر العاشق في وجه معشوقه، ويناجي ذلك النيّر الأعظم بلغة سرية وكأنه يبلغه رسالة حنينه ومحبته لتوصيلها إلى محبوبه المستور وبمثل هذه الرسائل الحبية كان يستقبل أشعتها الساطعة حتى أن مَن حوله من الجهلاء كانوا يظنون أنه يعشق الشمس(1) ويتعبدها.

وسمعت الحاج السيد جواد الكربلائي(2) يروي الآتي: ﴿أثناء سياحتي إلى الهند مررت ببوشهر. ولمعرفتي بالحاج ميرزا سيد علي، تمكنت من مقابلة حضرة الباب مرارًا، وكنت في كل مرة أراه بحالة الخشوع والخضوع وغض البصر واللطف وكمال المحيا، مما لا تقدر أي عبارة على وصفه،(3) وتركت انطباعًا عميقًا في نفسي. وكثيرًا ما سمعت أولئك الذين دأبوا على الاتصال به، يشهدون بطهارة خلقه وجاذبية مسلكه ونكران ذاته وصدقه وإخلاصه لله.(4) وذات مرة أودعه رجل أمانة لبيعها بثمن معين، فلما

________________________

(1) ’وكان يتباحث مع العلماء في المجالس ويستمع لروايات الزوار الذين يحضرون في هذه المدينة التجارية، وكانوا يعدونه من أبناء "الطريقة" التي كانت محترمة لدى الناس.‘ ("المجلة الآسيوية"، سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 335)

(2) وجاء في "كشف الغطاء" عن هذا الشخص الجليل ما يلي: ’أخبرني السيد جواد الكربلائي بنفسه أنه كان مقيمًا في كربلاء وأن أبناء عمه كانوا معروفين بين علماء تلك المدينة ومجتهديها وهم تابعون للفرقة الاثني عشرية من شيعة الإسلام. وفي حداثته قابل الشيخ أحمد الأحسائي ولكنه لم يكن معدودًا ضمن تلاميذه، بل كان من أتباع السيد كاظم المخلصين ومن المتقدمين بين تلاميذه. قابل الباب في شيراز قبل الظهور بمدة ورآه جملة مرات عندما كان سن الباب ثمانية أو تسعة أعوام في منزل خاله. ثم قابله فيما بعد في بوشهر ومكث نحوًا من ستة أشهر في الخان نفسه الذي كان يقطن فيه الباب وخاله وقد أبلغه الملاّ علي البسطامي أحد "حروف الحيّ" برسالة الباب بينما كان في كربلاء ومنها عاد إلى شيراز ليزداد اطلاعًا بنفسه على طبيعة رسالته الجديدة.‘ (الصفحات 55-57)

(3) ’كان الباب وسيم الطلعة حليمًا مهابًا ساكنًا زائد الفصاحة والبلاغة سريع الكتابة.‘ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران"، لليدي شيل، الصفحة 178)

(4) ’وكان يختلي بنفسه ليشتغل دائمًا بالعبادة ببساطة متناهية وحلاوة جاذبة وكانت هذه المواهب قد برزت لحداثة سنه وكمال طلعته وانجذب حوله كثيرون من المتنورين الذين كانوا يستمعون لعلومه ومعارفه ويسرون من فصاحته وكان أصدقاؤه يؤكدون إنه لم يفتح فاه إلا بما حرّك أعماق القلوب. وكان يسر المتدينين ↓

أرسل له حضرة الباب ثمنها وجده أكثر مما قدّره، فكتب إلى حضرة الباب يستفهم عن السبب، فأجابه حضرة الباب: ’إن الثمن الذي أرسلته إليك هو حقك ولم أزدك شيئًا، وقد أتى وقت على وديعتك وصل فيها ثمنها إلى تلك القيمة، ولما لم أبعها بذلك الثمن وجدت من الواجب عليّ رد تلك القيمة.‘ وكلما أراد البائع رد القيمة الزائدة امتنع حضرة الباب عن قبولها.

وكم كان اهتمامه دقيقًا عندما يحضر تلك الاحتفالات التي تقام لتعداد مناقب الإمام الحسين سيد الشهداء! وبأي انتباه يستمع إلى ترتيلات المدائح! وأي إظهار للخشوع والخضوع في هذه المشاهد من العويل والدعاء! كانت الدموع تنهمر من عينيه بينما كانت شفتاه المرتجفتان تهمسان ببعض المناجاة والثناء. فما أعظم الكمال الذي كان يظهر على هيكله وما ألطف تلك الشمائل التي كانت تبدو آثارها على وجهه!﴾

وأما أسماء الذين كان لهم الشرف العظيم في إثباتهم من قبل حضرة الباب في كتاب ظهوره بأنهم "حروف الحيّ" المنتخبون، فهي كالآتي:

الملاّ حسين البشروئي
محمد حسن، أخوه
محمد باقر، ابن خاله
الملاّ علي البسطامي

الملاّ خدا بخش القوچاني، وسمي ﺑ"الملاّ علي" فيما بعد

الملاّ حسن البجستاني
السيد حسين اليزدي
ميرزا محمد روضة خاني اليزدي

_____________________________________________________________________

المتمسكين لشدة احترامه للرسول والأئمة وأصحابهم في كل عباراته وفي الوقت نفسه كان في أحاديثه الخاصة يبهج أرواح المستمعين إليه من أصحاب العقول المتفتحة المتشوقة ولم يجدوا في أحاديثه غضاضة بل كانت تفتح أمامهم آفاقًا لا نهاية لها وأبوابًا متنوعة مرموزة وتجد هنا وهناك ظلالاً تتخللها خيوط من النور المبهر التي نقلت أهالي إيران ذوي المخيلات الواسعة إلى حالات من المتعة الروحية.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 118)

سعيد الهندي
الملاّ محمود الخوئي
الملاّ جليل الأُرومي
الملاّ أحمد إبدال المراغي
الملاّ باقر التبريزي
الملاّ يوسف الأردبيلي
ميرزا هادي ابن الملاّ عبد الوهاب القزويني
ميرزا محمد علي القزويني(1)
الطاهرة(2)
القدّوس.
________________________

(1) ونقلاً عن سمندر، وهو من المؤمنين الأوائل في قزوين، (مخطوطة عن تاريخ أمر الله، الصفحة 15)، أن أخت الطاهرة "مرضية" كانت زوجة لميرزا محمد علي، أحد "حروف الحيّ" الذي استشهد في قلعة الشيخ الطبرسي. ويبدو أن مرضية كانت قد آمنت بدعوة الباب. (الصفحة 5) وكان ميرزا محمد علي ابنًا للحاج الملاّ عبد الوهاب الذي وجه له الباب لوحًا وهو في جوار قزوين.

(2) وطبقًا لكتاب "تذكِرة الوفاء" (الترجمة العربية، الصفحات 217-221) فقد كان للطاهرة ابنان وبنت ولم يعترف أي منهم بأحقية أمر الله. وكانت درجة اطلاعها وعلمها على شأن أن والدها، الحاج الملاّ صالح، كان كثيرًا ما يأسف ويقول: ’لو كانت هذه البنت ولدًا ذكرًا، لكان أضاء بيتي وخلفني!‘ وقد اطلعت على كتابات الشيخ أحمد (الأحسائي) وهي في منزل ابن خالتها، الملاّ جواد، وكانت تستعير تلك الكتب من مكتبته وتأخذها معها إلى منزلها. وكان والدها يعارضها في أعمالها معارضة عنيفة، وفي خضم مجادلاته الشديدة معها كان يدين تعاليم الشيخ أحمد وينتقدها. رفضت الطاهرة اتّباع نصائح والدها واشتغلت بمكاتبة السيد كاظم (الرشتي) سرًا، وهو الذي سمّاها "قرة العين"، وكان لقب "الطاهرة" مقترنًا باسمها وقت أن كانت في بدشت، ووافق حضرة الباب على ذلك اللقب فيما بعد. وتركت قزوين إلى كربلاء أملاً في لقاء السيد كاظم، ولكنها وصلت متأخرة إذ كان قد توفي قبل وصولها بعشرة أيام. انضمت إلى تلاميذ المعلم المرحوم وقضت وقتها في العبادة والتأمل في انتظار وشوق لظهور الموعود الذي أخبر عنه السيد كاظم. وأثناء وجودها في تلك المدينة، رأت في الرؤيا أن سيدًا شابًا يلبس رداءً أسود وعمامة خضراء، ظهر لها في السماء وكان رافعًا يديه بتلاوة آيات معينة، فكتبت إحداها في دفترها. فاستيقظت من الرؤيا متعجبة من تجربتها الغريبة. ولما وصلتها فيما بعد نسخة من "أحسن القصص" وهو تفسير حضرة الباب لسورة يوسف، وجدت لفرط سرورها الآية ↓

وجميعهم، عدا الطاهرة، تشرّفوا بمحضر حضرة الباب، وكان لهم نصيب ترقيتهم إلى تلك الرتبة الممتازة من قبل حضرته شخصيًا. وكانت الطاهرة التي لما علمت بسفر زوج أختها المدعو ميرزا محمد علي من قزوين، سلمته خطابًا مختومًا وطلبت منه أن يسلمه إلى ذلك الشخص الموعود الذي لا بد وأن يقابله أثناء مراحل رحلته، وأفهمته أن يقول له نيابة عنها:

لمعات وجهك أشرقت
وضياء طلعتك اجتلى
قال ألست بربكم
قلنا بلى قلنا بلى(1)

وقد قابل الملاّ محمد علي، حضرةَ الباب، وأقبل إلى دعوته وسلمه الخطاب وأوصل إليه الرسالة، فأقرّها حضرة الباب ضمن "حروف الحيّ". وكان والدها الحاج الملاّ صالح القزويني وأخوه الملاّ تقي من كبار المجتهدين في إيران ومن المتبحرين في الأحاديث الإسلامية والمحترمين من قبل أهالي طهران وقزوين وغيرها من كبار مدن إيران. وكانت متزوجة بالملاّ محمد ابن عمها الملاّ تقي(2) الذي يسميه الشيعة الشهيد الثالث. ومع

_____________________________________________________________________

التي سمعتها في الرؤيا مكتوبة في ذلك الكتاب. وكان ذلك الكشف مؤيدًا لها في تصديق الدعوة الجديدة التي أتى بها كاتب ذلك الكتاب. وأخذت على نفسها ترجمة "أحسن القصص" إلى الفارسية وبذلت أقصى جهدها في نشره وتفسيره. ولمدة ثلاثة أشهر كان منزلها في كربلاء محاطًا بالحرس الذين عينهم الحاكم لمراقبتها ومنعها من الاختلاط بالعامة. ومن كربلاء سافرت إلى بغداد ومكثت مدة في منزل الشيخ محمد الشبل ثم انتقلت من منزله إلى حيّ آخر، وأخيرا نُقلت إلى منزل المفتي وفيه مكثت قرابة ثلاثة أشهر.

(1) ونقلاً عن "كشف الغطاء" (الصفحة 93)، بُلّغت الطاهرة برسالة حضرة الباب بواسطة الملاّ علي البسطامي الذي زار كربلاء سنة 1260ﻫ بعد عودته من شيراز.

(2) ’وكانت أسرة الحاج الملاّ صالح البَرقاني من أشهر أسر قزوين ومن أكبرها بسبب ما كان يشغله أعضاؤها من الوظائف العالية والمراكز في هيئة العلماء ولشهرتها في العلوم والمعارف، وكان الحاج قد تسمّى بعد موته بالشهيد الثالث. وسنذكر تاريخهم لأجل معرفة مقدار نصيبهم في الاختلافات الدينية في فارس وفي المصيبة التي انتهت أخيرًا بالقضاء على كِبر أخ الملاّ صالح وغروره. ولما وصل المجتهد العظيم آقا سيد محمد إلى قزوين، سأله أحدهم، إذا كان الحاج الملاّ صالح البرقاني يعد مجتهدًا؟ فأجابه السيد بقوله: ’’بالتأكيد.‘‘ وذلك لأنه فضلاً عن صلاحه كان من تلاميذه القدماء وكان متتبعًا للنهاية لدروس آقا سيد علي، فقال السائل: ’’حسنًا، وهل أخوه محمد تقي يستحق أيضًا هذا اللقب المقدس؟‘‘ فأجاب آقا سيد محمد مادحًا علوم ↓

أن أسرتها كانت من "البالاسري"، فإنها أظهرت منذ البداية تعاطفها وإخلاصها للسيد كاظم. وللدلالة على تقديرها الشخصي له فقد كتبت رسالة للدفاع عن تعاليم الشيخ أحمد وتبريرها وقدمتها إليه، فأجابها السيد برسالة مكتوبة بأرق العبارات وافتتحها بقوله: ’يا قرة عيني وفرح فؤادي!‘ ومنذ ذلك الوقت أطلق عليها اسم "قرة العين". وبعد الاجتماع التاريخي في "بدشت"، دهش كثير من الحاضرين من جرأة تلك البطلة وشجاعتها وبلاغة

_____________________________________________________________________

تقي، إلا إنه امتنع عن الإجابة عن الاستفهام بطريقة جلية. ولكن ذلك لم يمنع المستفهم من أن ينشر في المدينة إشاعات أن السيد محمد اعترف بنفسه برياسة تقي وقال بأنه مجتهد في محضره. وكان السيد محمد قد قطن مع أحد أقرانه الحاج الملاّ عبد الوهاب واطلع هذا الأخير على الإشاعة بسرعة وأحضر السائل ووبخه أمام شهود. وكانت إشاعة هذا التدخل بسبب تداولها بالألسنة قد زادت حتى وصلت سمع تقي، وحمى غضبه من ذلك، فكان بمجرد أن يسمع باسم عبد الوهاب يقول: ’’أنا لا أحترمه إلا لأنه ابن معلمي المحبوب.‘‘ فلما سمع السيد محمد الإشاعة وأدرك أنه أحزن قلب تقي، دعاه يومًا عنده لتناول الغداء وعامله بكل احترام وكتب له شهادة مجتهد وصحبه إلى المسجد في اليوم نفسه. وبعد انتهاء الصلاة، جلس على درجات المنبر وأخذ يكيل له المديح وأثبته في مركزه الجديد أمام الحاضرين كافة. وتصادف مرور الشيخ الأحسائي فيما بعد بقزوين وكان الناس يكفّرونه لأنه قرّب الفلسفة من الديانة، وكل العالم يعرف أن مزج الفلسفة بالشريعة أمر مستحيل، كما قال في كتاب "قصص العلماء". إلا أن الشيخ أحمد ارتفع في الحقيقة عن مقام أقرانه وشاركه العديدون في أفكاره وآرائه. وكان له مريدون في سائر مدن إيران. وعامله شاه إيران فتح علي شاه بمنتهى الاحترام رغمًا عما قاله الآخوند الملاّ علي في حقه ’’بأنه جاهل ولكن قلبه طاهر.‘‘ وأثناء وجوده في قزوين ذهب وقطن في منزل الملاّ عبد الوهاب الذي أصبح عدوًا لأسرة البرقاني. ولما ذهب للصلاة في المسجد حضر علماء قزوين وصلّوا خلفه ورد لهم الزيارة جميعًا بكل محبة، وازدادت روابط الألفة بينهم وظهر للعموم أن مضيفه هو أحد تلاميذه. وذات يوم قام الشيخ أحمد بزيارة للملاّ محمد البرقاني الذي أظهر له منتهى الاحترام إلا أنه انتهز الفرصة لسؤاله عددًا من الأسئلة الغامضة منها: ’’هل اعتقادكم في قيامة الأموات في يوم القيامة كاعتقاد الملاّ صدرا؟‘‘ فأجاب الشيخ أحمد بالنفي، فاستدعى تقي أخاه الأصغر الحاج الملاّ علي ثم قال له: ’’اذهب إلى مكتبتي وأحضر "شواهد الربوبية" للملاّ صدرا.‘‘ ولما تأخر الحاج الملاّ علي في إحضار الكتاب، قال تقي للشيخ أحمد: ’’مع أني لا أوافقك الرأي في هذا الموضوع، إلا أنني أرغب في معرفة رأيك في هذه المسألة.‘‘ فأجابه الشيخ أحمد: ’’لا يوجد ما هو أسهل من ذلك. فاعتقادي أن القيامة لن تحصل بأجسامنا المادية بل بحقائقها، وبحقائقها أعني مثلاً كما يكون الزجاج موجودًا في الحجر.‘‘ فأجاب تقي بخبث: ’’عذرًا. ولكن هذه الحقيقة تختلف عن الجسم المادي ومن أصول اعتقادنا أن القيامة هي بأجسامنا المادية.‘‘ فالتزم الشيخ الصمت، وكان توسط أحد تلاميذه من أهالي تركستان بفتح موضوع آخر يطول فيه الجدال، بلا طائل. فإن الضربة كانت قد وُجّهت وانسحب الشيخ أحمد مقتنعًا أنه تم ترتيب تسوية. ولم يطل الوقت إلى أن أدرك أن محادثته قد نقلت بدقة، إذ إنه لما ذهب للمسجد في نفس اليوم ليصلي، لم يتبعه أحد خلاف عبد الوهاب. وعلم أن سوء تفاهم سيقع، ولكن عبد الوهاب ظنًا منه أنه وجد طريقة لتدارك ↓

بيانها حتى أنهم رأوا من واجبهم أن يعلموا حضرة الباب بطبيعة تصرفها العجيب الذي لم يسبق له نظير. واجتهدوا أن يسيئوا إلى سمعتها، فأجابهم حضرة الباب على افتراءاتهم بقوله: ’ماذا عساي أن أقول في من أسماها لسان العظمة والقوة بالطاهرة‘، فقطعت هذه الكلمات جهيرة كل قول وأسكتت الذين أرادوا تقويض سلطتها والنيل من سمعتها، فمنذ ذلك الوقت دعيت بالطاهرة من قبل المؤمنين.(1)

_____________________________________________________________________

الأمر وإزالة كل الصعوبات توسل من سيده أن يكتب وينشر كتابًا يؤيد فيه القيامة للجسد المادي. ولكنه لم يدرك مدى كراهية تقي. وفعلاً كتب الشيخ بحثًا ضمنه في كتابه "أجوبة المسائل" لم يكترث أحد بقراءته، وانتشرت أخبار كفره وزادت يومًا فيومًا. وتدخل الأمير علي نقي ميرزا ركن الدولة للصلح خوفًا من اتهامه بالإهمال وحتى لا تتفاقم الأمور. ودعا ذات ليلة سائر العلماء لمأدبة عظيمة. وأعطي كرسي الشرف للشيخ أحمد وجلس بقربه تقي يفصلهما رجل واحد. وخصص طبق يأكل منه كل ثلاثة رجال معًا، ووجد العدوّان أنهما مضطران للأكل من طبق واحد، إلا أن تقي العنيد خالف النظام واتجه للأكل من الطبق المجاور على يمينه ووضع يده اليسرى على خده الأيسر حتى لا يرى الشيخ أحمد، مما ازعج الأمير جدًا. وبعد الانتهاء من الوليمة، التي بدت مملة، استمر الأمير في محاولته للإصلاح بين الغريمين فأخذ في مدح الشيخ أحمد بأنه أكبر مجتهدي العرب والفرس وأن الأجدر بتقي أن يقدم له واجب الاحترام وأن لا يصغي للذين يريدون إلقاء الفتنة بين اثنين من أصحاب العقول المميزة. فقاطعه تقي بعنف وقال باحتقار شديد: ’’لا يمكن الصلح بين الكفر والإيمان! لأن الشيخ يعتقد في القيامة عقيدة تخالف عقائد الإسلام، لذلك فإن كل من اعتقدها كافر، فكيف يمكن التوفيق بيني وبين كافر؟‘‘ وكلما شدد الأمير في الصلح كلما تصلب تقي. وانتهت بذلك الوليمة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحات 263-267)

(1) ’وكان من بين ذرية الملاّ صالح بنت تدعى زرين تاج (التاج الذهبي) لفتت الأنظار منذ صباها، وبدلاً من صرف وقتها في اللعب والتسلية كأقرانها، كانت تمضي ساعات كل مرة في الاستماع للمحادثات الدينية التي تجري بين والديها. وبذكائها الحاد أدركت سريعًا الأفكار المغلوطة التي شابت العلوم الإسلامية دون أن تقع تحت تأثيرها وسرعان ما تمكنت من مناقشة أمهات المسائل العويصة. أما الأحاديث فقد أجادتها ولم يخف عليها سرّها. وذاع صيتها في المدينة وكان مواطنوها يعتبرونها أعجوبة، وبذلك كانوا محقين. كانت أعجوبة في العلوم والمعارف وآية في الجمال، فإن الطفلة لما كبرت أصبح يتلألأ من وجهها شعاع نور الجمال حتى دعوها ﺑ"قرّة العين". وكان أخوها عبد الوهاب القزويني الذي ورث العلم والشهرة من والده يحكي بنفسه، رغم حقيقة أنه بقي، ولو في الظاهر مسلمًا، ما يلي: ’’إننا جميعًا من إخوة وأولاد عم، ما كنا نقدر أن نتكلم في محضرها، لأن علمها كان يرعبنا وإذا تصادف وتكلمنا عن مسألة فإنها كانت تتكلم فيها بكل وضوح ودقة وحسم حتى نعلم أننا أخطأنا السبيل وننسحب ونحن متحيرون.‘‘ وكانت تحضر دروس والدها وعمها في نفس البهو الذي كان يجتمع فيه من التلاميذ ما ينوف عن مائتين أو ثلاثمائة تلميذ، ولكنها كانت تحتجب وراء ستار. وكانت كثيرًا ما تدحض أدلة هذين الرجلين المسنين في بعض المسائل. وزادت شهرتها في سائر أنحاء إيران، وكان أكثر علمائها غرورًا لا يحجمون عن أن يتبعوها في بعض نظرياتها وآرائها. ↓

ويجدر الآن ذكر معنى البالاسري،(1) فالشيخ أحمد والسيد كاظم وكذلك أتباعهما في وقت زيارتهم لمرقد الإمام الحسين في كربلاء، كانوا يحتلون الجزء الأدنى من الضريح علامة للاحترام، ولم يتجاوزوه أبدًا، ولكن كثيرين غيرهم من المتعبدين وهم البالاسري، اعتادوا أن يقرءوا أدعيتهم في الجزء الأعلى من ذلك المرقد. ويعتقد الشيخية أن المؤمن الصادق حيّ في الدارين، الدنيا والآخرة، ولذلك فهم يشعرون أنه لا يليق بهم أن يتجاوزوا الحدود الدانية من ضريح الإمام الحسين الذي هو في نظرهم المثل الأعلى لأكمل المؤمنين.

وكان الملاّ حسين يعتقد أنه سيكون الشخص الذي ينتخبه حضرة الباب لمرافقته في الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولكن حضرته بمجرد أن عزم على الارتحال من شيراز دعاه وقال له: ’إن أيام اجتماعنا قد قاربت الانتهاء، وإن عهدي معك قد تحقق. فشمّر الذيل وقُم لتبليغ أمري ولا تخَف من سقوط هذا الجيل والتوائه، لأن رب الميثاق

_____________________________________________________________________

وهذه الحقيقة غريبة نظرًا لأن المذهب الشيعي ينزل مقام المرأة إلى رتبة الحيوان. ويعتبرون أنها لا تملك روحًا ولا تصلح إلا للإنجاب. وقد تزوجت وهي صغيرة السن بابن عمها محمد القزويني الذي كان إمام الجمعة في المدينة، وسافرت إلى كربلاء فيما بعد، وهناك حضرت دروس السيد كاظم الرشتي. وكانت موافقة بحماس على آراء معلمها لأنها وجدتها منطبقة على آرائها وأفكارها. وبذلك أصبحت قزوين مركز العقائد الشيخية. وكانت كما سنرى فيما بعد متحمسة المزاج، دقيقة الذكاء مع وضوحه، سريعة البديهة، فائقة الشجاعة. وأدى اجتماع هذه الخصال فيها إلى الاهتمام بمسألة الباب الذي سمعته يتكلم عند عودته إلى قزوين. واشتد إعجابها بما تعلمته من ذلك حتى أنها واصلت الكتابة مع ذلك المصلح وليقينها فيه أشهرت إيمانها. فقامت لذلك قيامة العلماء واشتد حنقهم وحاول زوجها ووالدها وإخوتها عبثًا التأثير عليها كي ترفض التمسك بهذه الضلالة الخطرة. ولكنها لم تقبل ولم تتزعزع وأعلنت دينها الجديد بكل قوة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 273-274)

(1) قال الحاج كريم خان في كتابه "هداية الطالبين": ’إنهم سُمّوا بذلك لأن المرحوم الشيخ أحمد أثناء وجوده في كربلاء لزيارة المقامات المقدسة، ونظرًا لاحترامه للأئمة، كان يتلو دعواته وصلواته وهو خلف الإمام أي قرب قدميه. ومن ذلك يعلم إنه لا يفرق بين الاحترام المسدى للإمام الميت والإمام الحيّ، أما الفرس إذا دخلوا القبور يقفون قرب رأس الإمام وبالتالي يولون ظهورهم له لأن الأجداث المطهرة مدفونة بطريقة أن الرأس باتجاه القبلة. ولكن ذلك مشين! وأتباع المسيح إنما سموا نصارى لنصرهم الله ولكن هذا الاسم أطلق على جميع من اقتفى أثرهم، وكذلك اسم "بالاسري" يطلق على جميع الذين يصلّون وهم فوق رأس الإمام.‘ ("مقالة في الشيخية" لنقولاس، الجزء 1، المقدمة، الصفحتان 5-6)

صورة 39
موقع بوابة كازران، شيراز
صورة 40
سوق الوكيل، شيراز

لا شك يساعدك ويحيطك بحفظه ومحبته وينقلك من نصر إلى نصر. فسِر في البلاد وأغدق على الناس تلك البركات التي منحها لك القدير برحمته كما تغدق السحب بأمطار بركاتها على الأرض، وتذرع بالصبر مع العلماء وأسلم نفسك لإرادة الله. وقُم على النداء بصوت مرتفع، وقل: ’’تيقظوا تيقظوا قد فتح باب الله وسطع نور الصبح بأشعته على كل الخلق! وظهر الموعود فمهدوا الطريق أمامه يا أمم الأرض! ولا تحرموا أنفسكم من بدائع فضله المحيية ولا تغمضوا أعينكم عن ساطع بهائه.‘‘ والذين يتقبلون منك النداء اقرأ عليهم الألواح التي أنزلناها إليك لعل تجذبهم تلك الكلمات البديعة وتوقظهم من وهدة غفلتهم وترفعهم إلى ملكوت الحضرة الإلهية. وقد اخترنا معنا القدوس لمرافقتنا في سفر الحج هذا، وتركناك لتواجه هجوم عدوّ قاس. فتأكد أنك سوف تنال الموهبة الكبرى، فسافر ناحية الشمال وزُر في طريقك إصفهان وكاشان وقُم وطهران. واطلب من القدرة الربانية أن توفقك على أن تشاهد في تلك العاصمة عرش سلطنة الحق وتدخل في قصر

المحبوب، ففي تلك المدينة سرّ لو انكشف تنقلب الأرض جنة عليا. وأتعشم أنك سوف تشترك في ذلك الفضل وتعترف ببهائه. ومن طهران سافر إلى خراسان وهناك قم على النداء مرة أخرى بالأمر، ومنها عد إلى النجف وكربلاء حيث تنتظر أمر ربك، وتأكد أنك ستتمم المأمورية التي خُلقت لأجلها، ولو اجتمعت سهام المشركين بأجمعها وصوبت نحوك، لن تقدر أن تضرك ولو بمقدار شعرة واحدة من رأسك إلى أن يتم عملك. فكل شيء موكل في قبضة قدرته فهو القادر القاهر.‘

ثم استدعى حضرة الباب الملاّ علي البسطامي إلى محضره وخاطبه بكلمات المحبة والسرور، وأمره أن يذهب توًا إلى النجف وكربلاء، وأشار إلى الامتحانات الشديدة التي ستنتابه وإلى المصاعب والشدائد التي ستصادفه، وحثه على الثبات إلى النهاية، وقال له: ’إنك يجب أن تكون ثابتًا في إيمانك لا تزعزعك العواصف، فكُن كالجبل الراسخ لكل كارثة ولا تحزن من قذف الجهال وشتائم الملاّوات وأرباب الدين، واحذر أن يثنيك ذلك عن مقصدك، لأنك مدعوّ لأن تتناول من المائدة السماوية المعدّة لك في العالم الأبدي، فأنت أول من يغادر بيت الله وأول من يصيبه البلاء في سبيله، ولو فرض وذبحت في سبيله فتيقن بأن جزاءك سيكون عظيمًا وموهبتك كبرى.‘

وما كاد الملاّ علي يتم له استماع هذه الكلمات، حتى قام لتنفيذ مهمته، وإذ بعد عن شيراز بمقدار فرسخ، لحقه شاب يدعى عبد الوهاب، وطلب منه بإلحاح وهو في حالة اضطراب أن يتكلم معه، وقال للملاّ علي وهو يبكي: ’أتضرع إليك أن توافق على أني أرافقك في سفرك لأن قلبي ضاق ذرعًا واضطرابًا، وأرجو منك أن تسدد خطاي في سبيل الحق. فقد رأيت في الرؤيا الليلة الماضية أنني سمعت مناديًا ينادي في سوق شيراز بظهور الإمام علي أمير المؤمنين، وكان يخاطب الجمهور قائلاً: ’’قوموا واطلبوه وانظروا إنه يجمع من وسط النار رسائل الغفران للناس، فأسرعوا إليه وكل من أخذها من يده غُفرت له خطاياه ونجا من العقاب، ومن فاتته كان محرومًا من بركات الجنة.‘‘ فلما سمعت صوت ذلك المنادي قمت وتركت حانوتي وجريت في سوق الوكيل إلى المكان الذي أنت واقف فيه توزع تلك الأوراق للناس. وكل من أخذها تهمس في إذنه كلمات

يفرّ عند سماعها صائحًا: ’’الويل لي لأني محروم من بركات عليّ وآله، فيا أسفي إنني معدود من المنبوذين والساقطين!‘‘ وعند ذلك انتبهت من النوم وذهبت إلى الحانوت وأنا غريق في بحر من الأفكار. ثم رأيتك فجأة تمرّ ومعك رجل يلبس عمامة يتكلم معك. فنهضت من مقعدي وجريت لألحق بك كأني مدفوع بقوة لا أقدر على ردها. ولدهشتي وجدتك في نفس المكان الذي شاهدته في الرؤيا وأنت تتلو الأحاديث والآيات، فوقفت بعيدًا عنك أشاهدك أنت وصديقك، فسمعت الرجل الذي تخاطبه يحتج عليك ويقول إنه من السهل عنده أن تلتهمه النيران من أن يعترف بصحة كلماتك، فإن الجبال لن تقدر أن تحمل ثقلها. فأجبتَه على اعتراضه وإنكاره قائلاً: ’’لو أنكر العالم بأجمعه رسالته، فلن يؤثر ذلك على ذيل رداء عظمته الطاهر.‘‘ فلما تركتَه عجّلتَ نحو بوابة كازران،(1) فتتبعتك إلى أن وصلت إلى هذا المكان.‘

فتلطف الملاّ علي به وأراد أن يهدئ روعه، وطلب منه الرجوع إلى حانوته ومزاولة أعماله، وقال له إن صحبتك معي تجرّ لي متاعب، فارجع إلى شيراز وتيقّن إنك معدود من الناجين، فإن الله بعدله لا يرد كأس فضله عن طالب مشتعل مثلك أو يخيّب نفسًا متعطشة من بحر فضله وأمره. ولكن كلمات الملاّ علي، كانت بغير نتيجة. وكلما شدد عليه في الرجوع، كلما زاد نحيبه وبكاؤه، فاضطر الملاّ علي أخيرًا أن يجيب طلبه وسلم نفسه لإرادة الله.

فكان الحاج عبد المجيد والد عبد الوهاب، كثيرًا ما يقص هذه الرواية وعيناه منهمرتان بالدموع: ﴿كم أسفت على ما فعلت! وأسأل الله أن يسامحني على ذنبي. كنت أحد أفراد حاشية بلاط أبناء فرمان فرما، حاكم مقاطعة فارس. وكانت مكانتي بدرجة أن أحدًا لم يقدر على مخالفتي أو إيذائي. ولم يتدخل أحد في سلطتي أو جازف بالتدخل في شؤوني. ولما سمعت أن ابني عبد الوهاب ترك حانوته وخرج من المدينة، جريت في اتجاه بوابة كازران لألحق به. وإذ حملت معي هراوة لضربه، استفسرت عن الطريق الذي سلكه فقيل لي أن رجلاً بعمامة قد مر في الشارع وشوهد ابني يتبعه. وبدا أنهما اتفقا على مغادرة

________________________
(1) وأحيانًا وردت "كازرون".

المدينة معًا. فأثار ذلك غضبي وسخطي وقلت لنفسي كيف تحصل مثل هذه المخالفة من نجلي مع إني صاحب مقام رفيع في بلاط أبناء فرمان فرما؟ وصممت على عقابه لأغسل هذه الإهانة.

واستمر بحثي حتى اهتديت إليهما. وأخذ مني الغضب كل مأخذ بحيث أوقعت بالملاّ علي أشد العذاب. وكان يتلقى الضربات الشديدة بوقار شديد ويقول: ’كفّ عن ضربي يا عبد المجيد لأن عين الله ناظرة إليك وإني أشهد الله إني لم أكُ مسؤولاً عن سلوك ابنك، وإني لا أهتم بضربك لأني مستعد لملاقاة أشد أنواع العذاب في السبيل الذي اخترته، فإساءتك بالنسبة لما أنتظره أن يقع عليّ لم تكن إلا كالقطرة بالنسبة إلى المحيط. حقًا أقول لك، إنك سوف تعيش بعدي وتشهد إذ ذاك ببراءتي ويزداد إذًا توبيخ ضميرك وندمك على فعلك ويكون حزنك عميقًا.‘ ولكن لم أكُ أعبأ بأقواله وإشاراته، وزِدته ضربًا وجيعًا، إلى أن عييت فتحمل بسكون وشجاعة كل هذا العذاب الذي لم يكن يستحقه، ثم أمرت ابني أخيرًا، أن يتبعني وتركت الملاّ علي وحده.

وأثناء رجوعنا إلى شيراز، أخبرني ابني بالرؤيا التي رآها، فتأسفت أسفًا شديدًا لما بدر مني وتجلت أمام عيني براءة الملاّ علي، وكنت كلما تذكرت قسوتي عليه ينفطر قلبي. وبقيت مرارتها في نفسي إلى الوقت الذي شعرت فيه بتحويل إقامتي من شيراز إلى بغداد، ومن بغداد تحركت إلى الكاظمين حيث استقر عبد الوهاب في أشغاله، وكانت تلوح على محياه المنير سيماء سرِّ عجيب، وظهر لي أنه يخفي عني هذا السر الذي بدا أنه قد قلب حياته. وفي سنة 1267ﻫ(1) لما سافر حضرة بهاءالله إلى العراق وزار الكاظمين، كان عبد الوهاب قد وقع في سحر لطفه وتعهد بالولاء الشديد لحضرته، ولما استشهد نجلي بعد ذلك ببضعة سنين في طهران ونفي حضرة بهاءالله إلى بغداد، أيقظني حضرته من نوم غفلتي برحمته وشفقته وعلّمني رسالة يومه الجديد غاسلاً بمياه عفوه الإلهي أقذار تلك الفعلة الشنعاء.﴾

________________________
(1) سنة 1850-1851م.

وتشير هذه الحادثة إلى أول اضطهاد حصل لأحد تلاميذ حضرة الباب بعد إعلان دعوته، وكان الملاّ علي قد عرف من هذه التجربة أن السبيل للحصول على ما وعد به حضرة الباب محفوف بالمخاطر والأشواك، فواصل السفر إلى أن وصل إلى النجف وهو مستسلم لإرادة المولى ومستعد لأن يسفك دمه في سبيله. وفي محضر الشيخ محمد حسن، أحد الرؤساء الدينيين الكبار للشيعة، تكلم الملاّ علي بلا خوف ولا وجَل عن ظهور حضرة الباب الذي كانوا ينتظرون مجيئه بشغف، وكان ذلك أمام جمع كبير من أتباع الشيخ وتلاميذه، وقرر أمامهم جميعًا بأنه هو الشخص الذي ينتظرونه بشغف، وأعلن لهم: ’إن دليله آياته ومعجزته هي المعجزة التي يعترف بها الإسلام لمعرفة الحق. فمن قلم هذا الشاب الهاشمي الذي لم يدخل المدارس تجري في ظرف ثمان وأربعين ساعة من الآيات والمناجاة والأبحاث العلمية ما يعادل حجم القرآن كله الذي أنزل على محمد رسول الله في مدة ثلاثة وعشرين عامًا.‘ إلا أن ذلك العالم المغرور المتشدد، بدلاً من أن يرحب بنبأ الظهور الجديد في هذا العصر المظلم المجحف، حكم على الملاّ علي بالكفر وطرده من المجلس، وأتبعه في ذلك تلاميذه وأصحابه، حتى الشيخية الذين كانوا يشهدون بصلاح الملاّ علي وبتقواه وعلمه وصدقه لم يترددوا في أن يوافقوا على ذلك الحكم الصادر ضده، وفعلا ختموه. وتآزر تلاميذ الشيخ محمد حسن وتكاتفوا مع أعدائهم وقاموا جميعًا ضد الملاّ علي، وأهانوه إهانات شديدة مما يخرج عن حد الوصف، وأخيرا أوثقوه بالأغلال وسلموه إلى موظف في الحكومة العثمانية واتهموه بأنه هادم للإسلام وقادح في الرسول ومحرك للفتنة، وبأنه معرّة للإيمان ومستحق لعقاب الإعدام. فأرسل إلى بغداد تحت حراسة موظفي الحكومة وأودع السجن بأمر حاكم تلك المدينة.

وروى الحاج هاشم الملقب بالعطار، وهو تاجر شهير متفقه في الكتب الإسلامية، الحكاية الآتية: ’كنت حاضرًا ذات مرة في مقر الحكومة إذ أحضروا الملاّ علي، أمام جمع من أعيان وموظفي الحكومة في تلك المدينة، واتهموه علنًا أنه كافر وناسخ لأحكام الإسلام ومرتد عن أصوله ومعاييره المقبولة. ولما عدّدوا أعماله وتهمه، قال له المفتي

الذي هو رئيس مفسري أحكام الإسلام في تلك المدينة: ’’يا عدوّ الله‘‘، ولما كنت جالسًا بجانبه، همست في أذنه: ’’لماذا تخاطب هذا الغريب بهذه اللهجة قبل أن تتبين أمره؟ ألا تعلم أن مثل هذه الألفاظ تهيج العامة الملتفين حوله، ومن اللائق أن لا تصدق هذه التهم الباطلة التي يكيلها هؤلاء الناس له جزافًا، حتى تحقق معه، ثم تحكم حسب أصول العدل المقرر في شريعة الإسلام.‘‘ فغضب المفتي غضبًا شديدًا، وقام من جلسته. وطُرح الملاّ علي ثانية في السجن، وبعد أيام قليلة سألت عنه مؤملاً نجاته، فأخبرت بأنه نفي لإسطنبول في ذات الليلة التي سجن فيها، وصرت أبحث وأفتش عن مصيره، فلم أصل إلى معرفة مآله. ويعتقد بعض الناس إنه أثناء الطريق إلى إسطنبول مرض وتوفي، وقيل إنه تجرع كأس الشهادة كما يعتقد آخرون.‘(1) ومهما يكن من أمر ختام حياته فهو أول من تألم وضحّى في سبيل الله وأول من وضع حياته على مذبح التضحية.

وبعد أن أرسل حضرة الباب الملاّ علي في مأموريته، دعا باقي "حروف الحيّ" إلى محضره، وأمر كل شخص بأمر خاص وأوكله بمهمة خاصة، وودّعهم قائلاً: ﴿يا أصحابي الأعزاء أنتم حاملون للواء الله في هذا اليوم وإنكم مختارون أمناء على سره، فعلى كل منكم أن تظهر منه صفات الله وأن تتجلى في أقوالكم وأفعالكم علائم الصدق والقوة والعظمة حتى أن أعضاء جسمكم تشهد بنبالة مقصدكم وطهارة حياتكم وصدق إيمانكم وعلو منزلتكم، لأني الحق أقول لكم أن هذا هو اليوم الذي تكلم عنه الله في كتابه القرآن "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون"،(2) تفكروا في كلمات المسيح إلى تلاميذه عندما أرسلهم لتبليغ أمر الله، قال لهم وهو يأمرهم بالقيام لإتمام المأمورية المكلفين بها "إنكم كالنار المشتعلة في ظلام الليل الموقدة على ذروة الجبل. فليكن نوركم ساطعًا أمام أنظار الخلق ولتكن طهارة أخلاقكم ودرجة

________________________

(1) وذكر محمد مصطفى (الصفحة 106) أن الملاّ علي سجن ستة أشهر في بغداد بأمر نجيب باشا والي المدينة، ثم أمر بالسفر إلى إسطنبول بناء على تعليمات استلمت من الحكومة العثمانية. ومرّ بمدينة الموصل وفيها تمكن من إيقاظ بعض النفوس للأمر الجديد، ولكن أصدقاءه لم يتأكدوا من وصوله إلى وجهته.

(2) سورة يس، الآية 65.

انقطاعكم على شأن يتقرب أهل الأرض بها إلى الأب السماوي منبع الطهارة والفضل ويتعرفون إليه، فلم ير أحد الآب الذي في السماء. فأنتم أبناؤه الروحانيون عليكم أن تظهروا بأعمالكم فضائله وتشهدوا بعظمته فأنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح فبماذا يملح؟ يجب أن يكون انقطاعكم بحيث إنكم إذا دخلتم مدينة لتبليغ وتعليم أمر الله فلا تنتظروا مكافأة من أهلها بل إذا خرجتم منها فانفضوا الغبار من أرجلكم فكما دخلتموها طاهرين كذلك اخرجوا منها طاهرين، لأني الحق أقول لكم أن أباكم السماوي معكم وينظر إليكم، فإذا كنتم أمناء لأمره فإنه يدفع لأيديكم كل ثروة العالم ويرفعكم على حكام وملوك الأرض." فيا حروفي! الحق أقول لكم إن هذا اليوم هو أرفع وأجل من أيام الرسل السابقين بل البون والفرق شاسع بينهما فأنتم شهود فجر يوم الله الموعود الشاربون من كأس وحيه المختوم، فشمّروا عن ذيل الجد وتذكروا كلام الله الذي نزل به الوحي في كتابه "وجاء ربك والملك صفًا صفًا."(1) فاغسلوا قلوبكم عن أدران الشهوات في هذه الدنيا واجعلوا زينتكم فضائل الملأ الأعلى واجتهدوا أن تكون أعمالكم شاهدة على صدق هذه الكلمات الإلهية واحذروا إنكم إذا ترددتم أو توليتم أن يستبدلكم ربي بقوم آخرين ثم لا يكونوا أمثالكم وهم الذين يأخذون منكم ملكوت الله فقد انتهت الأيام التي كانت فيها العبادة المقرونة بالكسل والفتور كافية، والآن قد أتى الوقت الذي لا تصعد فيه الأعمال إلى عرشه الأعلى إلا إذا كانت طاهرة نقية ولا تكون مقبولة لديه إلا إذا كانت خالية من أثر الدنس "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه."(2) فأنتم المستضعفون الذي نزل في شأنهم في الكتاب "ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين."(3) فقد دعاكم ربكم إلى هذا المقام وستصلون إليه إذا وضعتم تحت أقدامكم كل رغبة وشهوة أرضية واجتهدتم أن تكونوا من الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، فأنتم الحروف الأولى التي نبتت من النقطة الأولى والعيون الأولى التي

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الفجر، الآية 22.
(2) القرآن الكريم، سورة فاطر، الآية 10.
(3) القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 5.

انبجست من منبع الوحي. فتضرعوا إلى الله أن لا تعوقكم الشؤون الأرضية ولا الشهوات الدنيوية وأن لا تعكر شؤون الخلق صفو ذلك الفضل الذي يجري فيكم أو تقلب حلاوته بمرارة، لأني أعدّكم لمجيء يوم عظيم. فابذلوا غاية الجهد حتى أمام كرسي رحمة الله في العالم الآتي أكون أنا الذي أعلمكم وأرشدكم مبتهجًا بأعمالكم ومفتخرًا بما تم على أيديكم. وأما سرّ ذلك اليوم الآتي فمستور لا ينكشف الآن لأن مولود ذلك اليوم الجديد يفوق أعقل وأشرف الناس في هذا الزمان وأصغر عاميّ فيه يفوق في العلم والمعرفة أعلم العلماء والفقهاء في هذا العصر. فانتشروا في جميع الجهات وأعدوا الطريق لمجيئه بأقدام ثابتة وقلوب طاهرة ولا تنظروا إلى ضعفكم واستكانتكم بل اجعلوا أنظاركم دائمًا متوجهة إلى القوة القاهرة من ربكم وإلهكم القدير. ألم يجعل إبراهيم منصورًا على جيوش نمرود رغمًا عن ضعفه الظاهر؟ ألم يجعل موسى غالبًا على فرعون وجنوده مع أنه لم يكن له رفيق سوى عصاه؟ ألم يؤسس المسيح عزته ومجده ورِفعته فوق جميع اليهود مع أنه كان بحسب الظاهر فقيرًا وحيدًا؟ ألم يخضع محمد ﷺ قبائل العرب المتوحشة الثائرة إلى النظام القدسي الذي أتى به حتى قلبهم وغيّر أحوالهم؟ إذًا قوموا على اسم الله وضعوا ثقتكم فيه وتوكلوا عليه وأيقنوا بالنصر والفوز في النهاية.(1)﴾

وبكلمات كهذه أحيى حضرة الباب إيمان تلاميذه وبلّغهم مهمتهم وخصص لكل منهم الإقليم الذي جاء منه ليقوم فيه على التبليغ وأمرهم جميعًا أن يمتنعوا عن الإشارة إلى اسمه وشخصه(2) وأن ينادوا فقط بأن باب الموعود قد انفتح وأن حجته كاملة وبرهانه قائم وأن كل مَن يؤمن به فقد آمن بجميع أنبياء الله ومَن أنكره فقد أنكر أولياءه. وبهذه التعليمات

________________________

(1) يشير حضرة الباب إلى "حروف الحيّ" في "البيان الفارسي" (الواحد الأول، الباب الثاني) بقوله: "وجميعهم يكوّنون اسم الحيّ لأنها أقرب الأسماء إلى الله، وأما غيرهم فيهتدون بهدى أعمالهم الواضحة المهمة، لأن الله قد ابتدأ بهم في خلق البيان وإليهم يعود هذا الخلق للبيان. فهم الأنوار الذين كانوا منذ القدم ساجدين وسيكونون إلى الأبد ساجدين أمام عرش السماء." (الجزء 1، الصفحتان 24-25)

(2) وذكر نقولاس في مقدمته (الصفحات 3-5) على الجزء 1 من "البيان الفارسي" ما يأتي: ’وقد اتفق الجميع على أنه من المستحيل نشر الدعوة بين الناس علنًا بل يجب معاملتهم كما يعامل الطبيب الأطفال فإنه يخفي دواءً مرًّا في غلاف سكري حتى يمكن مداواة هؤلاء المرضى الصغار. وكان القوم الذين ظهر فيهم ↓

صورة 41
مدرسة نيم آورد، إصفهان

ودّعهم وصرفهم من محضره وتركهم لحفظ الله، وبقي معه في شيراز من هؤلاء الحروف الذين تكلم معهم، الملاّ حسين أولهم، وكذلك القدوس آخرهم، وأرسل الأربعة عشر الباقين من شيراز في ساعة الفجر كل لينفذ الخطة التي أمره بها.

أما الملاّ حسين فقد خاطبه في ساعة فراقه بهذه الكلمات: ’لا تحزن إنك لم تكن مختارًا لمرافقتي في السفر والحج إلى الحجاز فإني سوف أوجه خطاك إلى تلك المدينة التي لها من القداسة العليا ما لا تأمل الحجاز ولا شيراز أن تقاربها فيها، لاشتمالها على سرّ يفوق كل قداسة. وأملي أنك بمعونة الله ترفع الحجب عن أعين المعاندين وتثقف عقول الحاقدين. وفي طريقك تزور إصفهان وكاشان وطهران وخراسان، ثم تسير إلى العراق وهناك تنتظر أمر ربك فهو يرعاك ويرشدك إلى حيث شاء وأراد. أما أنا فسأسافر إلى الحج مع القدوس وخادمي الحبشي وسأرافق ركب الحج من فارس الذي سيبحر قريبًا وسأزور مكة المكرمة والمدينة المنورة وهناك أتمم المأمورية التي أمرني بها الله، وإن شاء الله سأعود إلى هنا بطريق الكوفة، وهناك أتعشم أن أراك وأقابلك، ولو جاء الأمر بخلاف ذلك، فإني سأخبرك أن تقابلني في شيراز، وكُن واثقًا أن جنود الملكوت ستؤيدك وتوفقك فجوهر القوة مودع الآن فيك وجنود ملائكته المختارين تحوم حولك وقوات العليّ تحيطك وروحه الفائضة تسدد خطاك وترشدك، فمن أحبك فقد أحب الله ومن عاندك فقد عاند الله ومن تودد إليك فقد تودد إلى الله ومن أنكرك فسوف ينكره الله.‘

_____________________________________________________________________

ويا للأسف متعصبين بدرجة تفوق تعصب اليهود في وقت ظهور المسيح ولم تكن عندهم عظمة المملكة الرومانية وشيوع السلام فيها ليمنعا التجاوزات العنيفة للجهالة الدينية لقوم ذوي حمية عظيمة. فإذا كان المسيح رغمًا عن الهدوء النسبي الذي كان حوله لا يتكلم إلا بالأمثال فلا بدع إذا كان السيد علي محمد يخفي أفكاره تحت طي الإشارات ولا يبدي من الحقائق الإلهية إلا قطرة قطرة، فربى طفل الإنسانية وهداه، مجدًّا في عدم تخويفه وسدد خطاه الأولى في طريق يوصله ببطء ولوحده، عندما يصبح قادرًا، إلى هدفه الموعود منذ الأول الذي لا أول له.‘

الفصل الرابع
رحلة الملاّ حسين إلى طهران

بهذه الكلمات النبيلة وهي تتردد في أذنيه، نهض الملاّ حسين على تنفيذ مهمته الخطيرة. فأينما ذهب وفي أي مجمع كان يخاطب الجمهور بكل جرأة ويعلّمهم الرسالة التي عهد بها إليه مولاه المحبوب. ولما وصل إلى إصفهان استقر في مدرسة نيم آورد. والتفّ حوله تلاميذ المجتهد الحاج السيد محمد باقر(1) الذين عرفوه منذ زيارته الأولى لتلك المدينة بأنه رسول السيد كاظم إلى ذلك المجتهد، وخلفه بعد وفاته ابنه واستلم منصب والده بعد أن عاد من النجف، وأما الحاج محمد إبراهيم الكَلْباسي، فاشتد مرضه واقتربت منيته. وانزعج تلاميذ المرحوم الحاج السيد محمد باقر من التعاليم الجديدة التي كان ينشرها الملاّ حسين بعد أن ظنوا أنهم تخلصوا من التأثير المتشدد لمعلهم بعد وفاته، فقاموا ضد الملاّ حسين وشكوه إلى الحاج السيد أسد الله، ابن المرحوم الحاج السيد محمد باقر قائلين: ’إن الملاّ حسين سبق أن اكتسب أثناء زيارته الأخيرة تأييد ومعونة والدك العلاّمة لأمر الشيخ أحمد ولم يتجاسر أحد من تلاميذ السيد العاجزين أن يعارضه. والآن يدعونا بكل قوة وشجاعة لأمر جديد آخر أقوى وأثبت، ويقول عن صاحبه أنه ذو كتاب سماوي يشبه القرآن في لهجته ولغته. ويباهل به

________________________

(1) ’وكان الناس يهرعون جماعات وزرافات لسماع المعلم وقد صعد إلى كافة منابر إصفهان حيث تمتع بالحرية في قول ما يشاء علنًا وأن يعلن أن ميرزا علي محمد هو الإمام الثاني عشر، الإمام المهدي. وكان يعرض كتب سيده ويقرأها ويشير إلى ما تمتعت به من البلاغة والعمق ويركز على صغر سن الرائي ويعدد عجائبه.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 130)

أهل هذه المدينة، قائلاً: "فأتوا بسورة من مثله... إن كنتم صادقين."(1) وسرعان ما يأتي يوم يؤمن به جميع أهالي إصفهان.‘ فكان الحاج السيد أسد الله يراوغ في إجابته على شكواهم، وأخيرًا اضطر أن يقول: ’وماذا عساي أن أقول لكم؟ ألا تعترفون أنفسكم أن الملاّ حسين قد أسكت بقوة برهانه وفصاحته رجلاً شهيرًا كوالدي؟ فكيف وأنا أقلّ منه علمًا ومقامًا يمكنني أن أتحدى ما وافق عليه والدي؟ فليفحص كل إنسان هذه الادعاءات بلا تحيز. فإن اقتنع، فبها وإلا فليلزم السكوت ولا يعرض اسم ديننا للإهانة.‘

ولما رأوا عجزهم عن التأثير على السيد أسد الله، أحال تلاميذه الموضوع إلى الحاج محمد إبراهيم الكلباسي، وصرخوا إليه قائلين: ’الويل لنا لأن العدو قد قام لنقض دين الإسلام المقدس.‘ وبأسلوب وقح مبالغ فيه أكدوا الطبيعة المتحدية لآراء الملاّ حسين. فأجابهم الحاج محمد إبراهيم قائلاً: ’التزموا جانب السكوت، فإن الملاّ حسين ليس برجل ينخدع بسهولة أو يقع فريسة للباطل، ولو صحّ قولكم أن الملاّ حسين اعتنق دينًا جديدًا، فأول واجب عليكم أن تفحصوا طبيعة تعاليمه بلا تحيز وأن تمتنعوا عن استنكارها قبل الفحص والتمعّن. وإذا ساعدَتني صحتي وعادت إليّ قوتي، فإن غرضي، إن شاء الله، أن أبحث الأمر لأتبين الحق بنفسي.‘

فلما وصلهم هذا التأنيب الشديد من الحاج الكلباسي، خاب مسعى تلاميذ الحاج السيد أسد الله. وفي فورة يأسهم التجأوا إلى حاكم المدينة منوچهر خان، معتمد الدولة، فامتنع هذا الحاكم العاقل العادل عن التدخل في هذه المسائل قائلاً إنها تخص العلماء. ولكنه حذّرهم من التورط في إحداث الاضطراب والإخلال بالأمن أو الإساءة إلى الرسول، فبددت كلماته اللاذعة آمال مثيري الفتنة. فلم يقع الملاّ حسين فريسة لمؤامرات أعدائه واستمر في عمله مدة دون أي عائق.

وكان أول من اعتنق أمر حضرة الباب في تلك المدينة، رجل يشتغل في تنقية القمح، والذي ما أن وصل النداء إلى مسامعه حتى اعتنق الأمر دون تحفظ. فخدم الملاّ حسين

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 23.

بكل إخلاص، وبسبب معاشرته له أصبح مدافعًا كبيرًا عن الظهور الجديد. وبعد سنوات، عندما رويت له التفاصيل المثيرة للأشجان لوقائع حصار قلعة الشيخ الطبرسي، شعر بحافز لا يقاوم وتمنى الانضمام إلى أصحاب حضرة الباب الأبطال الذين قاموا للدفاع عن دينهم. فحمل غرباله بيده وقام على الفور لينضم إلى تلك الملحمة الخالدة. فسأله أصحابه إذ شاهدوه يجري في أسواق إصفهان بحالة انفعال عظيم قائلين: ’لماذا تغادر بهذا الاستعجال؟‘ فأجابهم قائلاً: ’قمت للانضمام إلى العصبة المجيدة من المدافعين عن قلعة الشيخ الطبرسي! وبهذا الغربال الذي أحمله سأغربل الناس في كل مدينة أمرّ فيها أثناء رحلتي، فمن وجدته مستعدًا لهذا الأمر الذي اعتنقته، أسأله أن ينضم إليّ ويتعجل إلى ميدان الشهادة.‘ هكذا كان إخلاص هذا الشاب بحيث قال عنه حضرة الباب في "البيان" الفارسي: "قد امتازت إصفهان تلك المدينة البارزة بعلم علمائها وحماس أهلها الديني ولشدة الانتظار والتربص سواء من العالي أو الداني، للمجيء الوشيك لصاحب الزمان. وفي كل حي من المدينة أسست معاهد دينية، فلما أتى الرسول الإلهي، أنكر رسالته من ادّعوا أنهم مخازن العلم وكاشفو أسرار دين الله، ولم يؤمن بالحق من بين سكان مدينة العلم المذكورة سوى شخص واحد وهو منقي القمح الذي تردى بخلعة الفضل الإلهي."(1)

ولم يعترف بأحقية أمر الله من بين أسياد إصفهان سوى القليل، كميرزا محمد علي النهري الذي اقترنت ابنته لاحقًا بالغصن الأعظم(2) وكذلك ميرزا هادي أخو ميرزا محمد علي، وميرزا محمد رضا "پا قلعة". أما الملاّ صادق الخراساني الذي كان يلقب ﺑ"المقدّس"، والذي سمّاه حضرة بهاءالله ﺑ"اسم الله الأصدق"، فأقام في إصفهان مدة خمس سنوات باحثًا عن مجيء الأمر الجديد بناء على تعاليم السيد كاظم، وكان من المؤمنين الأوائل

________________________

(1) "وانظر إلى أرض الصاد التي هي في هذا العالم الظاهر أعظم الأراضي فيوجد في كل ركن منها عبيد عديدون اتصفوا واكتسوا باسم العلماء والمجادلين. ففي الوقت الذي انتخب فيه الخلق اكتسى مغربل القمح بحلة الأولية. وهنا يظهر سرّ كلمة الأئمة في موضوع المظهر: ’حتى يكون أعلاكم أسفلكم. وأسفلكم أعلاكم.‘" ("البيان" الفارسي، الجزء 4، الصفحة 113)

(2) إشارة إلى زواج حضرة عبدالبهاء من منيرة خانم.

الذين شهروا نسبتهم إلى حضرة الباب.(1) إذ إنه لما علم بوصول الملاّ حسين إلى إصفهان أسرع لمقابلته. وحكى الملاّ صادق الخراساني الرواية الآتية عن مقابلته الأولى التي جرت في منزل الملاّ محمد علي النهري، قال: ’سألت الملاّ حسين أن يخبرني باسم الذي يدّعي أنه المظهر الموعود، فأجاب: ’’إن الاستفهام عن اسمه والإفضاء به، كلاهما ممنوعان.‘‘ فسألته: ’’هل لي أن أعتكف كحروف الحيّ وأسأل الله في صلواتي أن يبيّنه لي برحمته؟‘‘ فأجابني: ’’إن باب رحمته لن يُغلق أبدًا أمام وجه مَن يجاهد في البحث عنه.‘‘ فانصرفت حالاً من محضره وسألت مضيفه أن يخصص لي غرفة للخلوة في منزله، بحيث أتمكن لوحدي من مناجاة الله بلا انقطاع. وفي أثناء مناجاتي تذكرت وجه ذلك الشاب الذي رأيته مرارًا في كربلاء وهو واقف يصلي عند مدخل مرقد الإمام الحسين والدموع تكسو وجهه. فتمثل ذلك الوجه الآن أمام عينَي. وفي الرؤيا شاهدت ما يبدو أنه وجهه نفسه، بنفس الملامح التي تُظهر سرورًا لا يمكن وصفه. وابتسم وهو يحدق بي. فذهبت نحوه متأهبًا لأرتمي على قدميه، ولكنني أثناء انحنائي وجدت ذلك الهيكل المنير قد اختفى من أمامي! فذهبت إلى الملاّ حسين وأخبرته بالرؤيا وأنا مستبشر، فاستقبلني بنشوة وأكد لي بأني قد وصلت في آخر المطاف إلى مراد قلبي. إلا أنه أمرني بكتم مشاعري. وحثني قائلاً: ’’إن الوقت لم يحِن بعد للإفضاء برؤياك لأي أحد. لقد جنيت ثمرة انتظارك الصبور في إصفهان، فعليك الآن أن تذهب إلى كرمان وتبلغ الدعوة للحاج ميرزا كريم خان. ومن هناك تسافر إلى شيراز وتسعى في تنبيه سكان تلك المدينة من غفلتهم، وأتعشم أني أنضم إليك في شيراز وأقاسمك نعمة الاجتماع المبهج ثانية مع محبوبنا.‘‘ ‘(2)

________________________

(1) ذكر جوبينو (الصفحة 129) أن الملاّ محمد تقي الهَراتي، من مشاهير العلماء، كان من أوائل المؤمنين بأمر الله.

(2) ’وكانت رحلة البشروئي في إصفهان نصرًا للباب. وكانت مآثره التبليغية عديدة وفذة. ولكن، كما هي طبيعة هذا العالم، فقد جلب ضغينة العلماء الرسميين حتى إنه اضطر إلى مغادرة المدينة. وكان إيمان الملاّ محمد تقي الهراتي وهو عالم من الدرجة الأولى قد أوصل غضبهم إلى ذروته خصوصًا وأن هذا الأخير كان ممتلئًا بالحماس وكان في كل يوم يصعد المنبر ويخطب في الناس دون ستر عن عظمة الباب الذي كان أعطاه رتبة النائب الخاص عن الإمام الثاني عشر.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 255)

وواصل الملاّ حسين سفره من إصفهان إلى كاشان، وكان أول من آمن في تلك المدينة الحاج ميرزا جاني الملقب ﺑ"پَرپا"(1) أحد التجار المرموقين. وكان من بين أصحاب الملاّ حسين عالِم شهير يدعى السيد عبد الباقي من سكان كاشان وأحد الشيخية فيها، ومع أنه كان من أعز أصحاب الملاّ حسين خلال إقامته في النجف وكربلاء، فإن ذلك السيد شعر أنه عاجز عن التضحية بالمركز والرياسة لأجل الدعوة التي أتى بها صديقه.

ولما وصل الملاّ حسين إلى مدينة قُم، وجد أهلها غير مستعدين بتاتًا لندائه، ولم ينبت البذر الذي بذره فيها إلا بعد نفي حضرة بهاءالله إلى بغداد. ففي تلك الأيام آمن الحاج ميرزا موسى، أحد سكان قُم، وسافر إلى بغداد، وهناك قابل حضرة بهاءالله، وأخيرًا تجرع كأس الشهادة في سبيله.

ومن قُم، واصل الملاّ حسين رحلته مباشرة إلى طهران. ونزل أثناء فترة إقامته في العاصمة في إحدى غرف مدرسة ميرزا صالح المعروفة بمدرسة پاي مِنار. وقد بلّغ الملاّ حسين الدعوة للحاج ميرزا محمد الخراساني المعلم في تلك المدرسة وهو رئيس الشيخية في طهران، ولكنه أبى أن يستجيب لتشجيعه بقبول الدعوة. وقال للملاّ حسين: ’نحن كنا نأمل أنك بعد وفاة السيد كاظم ستجتهد في ترقية أمور الشيخية وتخلصها من الظلمات التي اكتنفتها. ولكن يبدو أنك قد خنت أمرها وضيّعت أعظم آمالنا. فإذا صممت على إذاعة هذه العقائد الباطلة فإنك تمحو آخر بقايا الشيخية في هذه المدينة.‘ فطمّنه الملاّ حسين بأنه لا يود أن يطيل إقامته في طهران ولم يقصد الحط من تعاليم الشيخ أحمد ولا السيد كاظم.(2)

________________________

(1) وجاء في "كشف الغطاء" (الصفحات 42-45) أن الحاج ميرزا جاني كان معروفًا عند أهل كاشان باسم الحاج ميرزا جاني بزرگ (الكبير) لتمييزه عن آخر سميّ له كان تاجرًا في كاشان باسم الحاج ميرزا جاني تُرْك أو كوچك (الصغير)، وكان للأول ثلاثة أخوة وأكبرهم يدعى الحاج محمد إسماعيل الذبيح والثاني الحاج ميرزا أحمد والثالث الحاج علي أكبر.

(2) ’وكان يمضي أيامًا عديدة في تخت المملكة ولكنه ما كان يظهر أمام الجمهور علنًا وكان يقتنع أن يحادث الذين يحضرون عنده لمقابلته سرًا. وهكذا تمكن من مقابلة العديدين وجذب لأمر الله العديد من المستفسرين، وكان كل شخص يحب رؤيته ومقابلته. كذلك محمد شاه ووزيره الحاج ميرزا آقاسي، كونهما فارسيين أصيلين، لم يفتهما أن يدعواه للزيارة. وأظهر لهما التعاليم وأعطاهما كتبًا من كتب مولاه.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 131)

صورة 42
صورة 43
مناظر طهران

وكانت عادة الملاّ حسين مدة إقامته في طهران أن يترك غرفته في الصباح مبكرًا ليعود إليها فقط بعد الغروب بساعة لوحده وبهدوء، فيغلق بابها على نفسه ويبقى فيها إلى اليوم التالي.(1) ومما رواه ميرزا موسى، آقا كليم، أخو حضرة بهاءالله ما يأتي: ﴿سمعت الملاّ محمد المعلم، أحد سكان نور في مقاطعة مازندران ومن المعجبين بتعاليم الشيخ أحمد والسيد كاظم، يروي هذه القصة: ’كنت في تلك الأيام معتبرًا من تلاميذ الحاج ميرزا محمد المقربين، وقاطنًا في نفس المدرسة التي يعلّم فيها، وكانت غرفتي ملاصقة لغرفته

________________________

(1) وذكر سمندر (مخطوطة عن تاريخ أمر الله، الصفحة 2) أن الملاّ حسين كان يحمل في طريقه من شيراز إلى طهران سنة 1260ﻫ، لوحًا من حضرة الباب إلى محمد شاه.

صورة 44
آقا كليم، أخو حضرة بهاءالله

وكنت دائم المعاشرة معه، وفي اليوم الذي انشغل فيه بمناقشة الملاّ حسين، سمعت خلسة حوارهما من أوله إلى آخره. وقد تأثرت بعمق من حماس ذلك الشاب الغريب وطلاقته وعلمه. وتعجبت من مراوغات الحاج ميرزا محمد في الإجابات ومن تكبره وتحقيره له. فأحسست في ذلك اليوم بانجذاب من سحر ذلك الشاب واستهجنت بشدة سلوك معلمي نحوه. ولكني أخفيت أحاسيسي وتظاهرت بتجاهل مداولاته مع الملاّ حسين. وانتابتني رغبة عارمة بمقابلة الأخير، وغامرت بالذهاب لزيارته في منتصف الليل. ومع أنه لم يتوقع زيارتي إلا أنني طرقت على بابه فوجدته منتبهًا وجالسًا بجوار مصباحه. فقابلني بلطف وتكلم معي بكل أدب ورقّة، فأنزلت حمل قلبي عنده وخاطبته والدموع تجري من عيني، فقال لي: ’’إني الآن عرفت لماذا اخترتُ هذا المكان من أجل السكنى لأنه ولو كان معلمك قد رفض قبول الدعوة واحتقر مؤسسها، ولكن الأمل في أن تلميذه يعترف بها على عكس معلمه، فما هو اسمك وموطنك؟‘‘ فأجبته: ’’اسمي الملاّ محمد ولقبي المعلم وموطني نور في مقاطعة مازندران.‘‘ فسألني قائلاً: ’’أخبرني هل يوجد اليوم من بين أفراد عائلة المرحوم ميرزا بزرگ النوري، الذي اشتهر بأخلاقه وجاذبيته وعلومه وفكره، من قام

صورة 45
صورة 46
صورة 47
مناظر منزل حضرة بهاءالله في طهران

مقامه في الحفاظ على التقاليد الموروثة في هذا البيت الشهير؟‘‘ فأجبته: ’’نعم. يوجد بين أنجاله الآن من امتاز بالمناقب نفسها التي اشتهر بها والده. وقد برهن بطهارة حياته وعلو كعبه ومحبته وشفقته وحريته، بأنه السليل الشريف لذلك الوالد النبيل.‘‘ فسألني: ’’ما هي مهنته؟‘‘ فأجبته: ’’إنه يواسي الفقير ويطعم الجائع.‘‘ ’’ما هي رتبته ومقامه؟‘‘ فأجبته: ’’ليس له لقب سوى إنه صاحب المسكين والغريب.‘‘ ’’وما هو اسمه؟‘‘ ’’اسمه حسين علي.‘‘ ’’وفي أي من خطوط والده امتاز؟‘‘ ’’إن الخط المفضل لديه "الشكسته-نسخ تعليق".‘‘ ’’كيف يمضي وقته؟‘‘ ’’إنه يجول في الغابات ويبتهج بجمال الطبيعة.‘‘(1) ’’كم يبلغ من العمر؟‘‘ ’’عمره ثمان وعشرون سنة.‘‘ وكانت هذه المعلومات أجوبة عن أسئلة الملاّ حسين التي كان يسألها بلهف، وكنت متعجبًا من حالة السرور التي كانت تبدو عليه وقت أن كان يسمع الإجابة عن كل سؤال. ثم التفت إليّ بوجه مفعم بالرضا والحبور، واستفسر ثانية: ’’أظن أنك تقابله كثيرًا؟‘‘ فأجبته: ’’كثيرًا ما أتردد على منزله.‘‘ فقال: ’’هل لك أن توصل إليه وديعة مني؟‘‘ فكان جوابي: ’’نِعِمًّا ومرحبًا.‘‘ فأعطاني ملفًا في قطعة قماش وأمرني أن أسلمها إلى حضرته غدًا عند الفجر، وأضاف قائلاً: ’’إذا تكرم بالإجابة فأعلمني بردّه.‘‘ فأخذت منه الملف، وعند طلوع الشمس ذهبت لتنفيذ رغبته.

وإذ اقتربت من منزل حضرة بهاءالله تعرفت على أخيه ميرزا موسى الذي كان واقفًا بجوار البوابة، وأعلمته بمهمتي. فدخل المنزل وعاد سريعًا حاملاً رسالة ترحيب. فاصطحبني إلى محضره، وقدمت الملف إلى ميرزا موسى الذي وضعه أمام حضرة بهاءالله، فأمرنا

________________________

(1) وكتب الدكتور إسلمنت قال: ’وفي ذات يوم روى حضرة عبدالبهاء أكبر أنجال حضرة بهاءالله لمؤلف هذا الكتاب التفاصيل الآتية بخصوص أوائل أيام حياة والده قال: ’’كان منذ طفولته شفوقًا سخيًا للغاية، وكان محبًا للعيشة في الأرياف، فكان يقضي أغلب أوقاته في البساتين أو الحقول، وكانت له قوة جاذبية خارقة يشعر بها الجميع، فكان الناس يلتفون حوله كما كان الوزراء ورجال البلاط يحبون مجالسته، وكذلك كان يحبه الأطفال. ولما بلغ سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة اشتهر بدرايته الواسعة وعلمه الغزير... ولما بلغ سن الثانية والعشرين، توفي والده، وأرادت الحكومة أن تسند إليه منصب والده في الوزارة، كما هي الحال في إيران، ولكنّ بهاءالله لم يقبل ذلك المنصب، وعندئذ قال رئيس الوزراء: ’’إتركوه لنفسه فإن هذا المنصب لا يليق به، فإن له غرضًا أسمى تحت نظرِه، ولا أقدر أن أفهمه، ولكنني مقتنع بأن مهمة سامية قد قدرت له، فإن أفكاره ليست كأفكارنا، فاتركوه لنفسه.‘‘ ‘ ("بهاءالله والعصر الجديد"، الصفحة 37)

بالجلوس وفتح الملف ونظر في محتوياته وابتدأ يقرأ بعض عباراته بصوت مرتفع. وجلست مفتونًا وأنا أستمع لحلاوة صوته ونغماته. وبعد أن أتم قراءة صحيفة من الملف، التفت إلى أخيه وقال له: ’’يا موسى، ماذا تقول؟ حقًا إن كل من يعتقد في القرآن ويعترف بمنبعه السماوي، ويتردد ولو لحظة في أن هذه الكلمات تحمل نفس القوة المحيية للأرواح، فإنه يخطئ في حكمه ويضل عن صراط العدل.‘‘ ولم يزد على ذلك، وعندما أذن لي بالانصراف من محضره أمرني بأن أحمل إلى الملاّ حسين هدية منه، قمعًا من السكر الروسي وعلبة من الشاي(1) وأن أبلغه تقديره ومحبته.

فقمت مملوءًا بالفرح وأسرعت إلى الملاّ حسين وسلمته الهدية وأبلغته رسالة حضرة بهاءالله. فما كان أشد فرحه واغتباطه إذ ذاك، فلا تقدر الكلمات أن تعبر عن شدة تأثره، فقام عند ابلاغه الرسالة على قدميه وأحنى رأسه وأخذ الهدية من يدي وقبّلها بلهف شديد، ثم عانقني وقبّل عينَي قائلاً: ’’أيها الحبيب العزيز إني أدعو الله كما فرّحت قلبي أن يهبك السعادة الأبدية ويملأ قلبك بفرح لا مزيد عليه.‘‘ وقد كنت متعجبًا من سلوك الملاّ حسين، وقلت في نفسي ماذا عسى أن تكون الصلة التي جمعت هذين الروحين؟ وما الذي أشعل مثل هذه الصداقة الحميمة في قلبيهما؟ ولماذا ظهر من الملاّ حسين مثل هذا السرور عند نظره لمثل هذه الهدية البسيطة من طرف حضرة بهاءالله، مع أن أبهة الملك والعز لا أهمية لها في نظره؟ وكنت متحيرًا في فكري ولم أتمكن من حل ذلك اللغز.

ولم تمضِ إلا أيام قلائل حتى سافر الملاّ حسين إلى خراسان وعند الوداع قال لي: ’’لا تخبر أحدًا بما سمعت وشاهدت، فاجعل ذلك سرًا مكتومًا في صدرك، ولا تفشِ اسمه، لأن الذين يحسدونه على مقامه سيقومون للإضرار به، واطلب من الله القدير في مناجاتك أن يحفظه، فبواسطته يُرفع المستضعفون ويُغنى الفقراء ويُعزّ المساكين، وسيبقى سرّ الأشياء محجوبًا الآن عن أنظارنا، فعلينا أن نرفع نداء هذا اليوم الجديد وندعوا جميع الأمم والأقوام إلى هذه الرسالة الربانية وسوف يفدي الكثيرون في هذه المدينة أرواحهم في هذا السبيل. ومن هذه الدماء ترتوي شجرة الله وتنمو حتى تستظل في ظلها الخلائق أجمعين.‘‘ ‘﴾

________________________

(1) وكان الشاي وذلك النوع من السكر نادرين في ذلك الوقت في إيران وكان يهادى بهما العظماء.

الفصل الخامس
رحلة حضرة بهاءالله إلى مازندران

كان أول ما قام به حضرة بهاءالله من الرحلات بهدف نشر تعاليم حضرة الباب رحلته في موطنه نور في مقاطعة مازندران. فانتقل إلى قرية تاكُر حيث أملاك والده الذي امتلك فيها قصرًا كبيرًا ذا موقع بديع ومفروشًا بالأثاث الفاخر. وكان من حظي أن سمعت حضرة بهاءالله نفسه يذكر يومًا ما يأتي: ’كان لأبي الوزير المرحوم منزلة يحسده عليها أقرانه، فكانت ثروته الواسعة وسلالته العريقة في النسب وأعماله الفنية ومكانته التي لا تُدانى ورتبته العالية موضع إعجاب كل من عرفه. ولمدة عشرين سنة فأكثر لم يصب أي فرد من أفراد أسرته، التي انتشرت في إقليم نور وطهران، أي ضرر أو ضيق أو مرض. وكانوا يتمتعون لمدة طويلة بلا انقطاع بما كان يحل عليهم من البركات المتنوعة، ولكن الحال تغير فجأة وتبدلت تلك السعادة والرفاهية بسلسلة من المصائب التي هزت أركان راحتهم المادية بشدة. فأول خسارة وقعت له تسببت من فيضان عظيم ارتفع في جبال مازندران، وطغى بشدة على قرية تاكُر وهدم نصف القصر المملوك للوزير المبني فوق قلعة تلك القرية. واقتلع السيل الهادر أحسن شقّي المنزل رغم أنه كان متين الأساس، فتلف أثاثه الثمين وتلاشت زينته الفاخرة. وتبع ذلك ضياع الوظائف الحكومية التي كان الوزير قد تقلدها، وحصلت من خصومه وحسّاده هجمات متوالية. ورغمًا عن كل هذه التقلبات المفاجئة في حظوظه، استمر الوزير على سكونه ووقاره المعهود، وعلى أعمال البِر والإحسان ضمن حدود إمكاناته. واستمر يعامل أقرانه من عديمي الوفاء بنفس

الاحترام والشفقة اللذين عرف بهما في تعامله مع مواطنيه. وإلى آخر نسمة من حياته تحمل بكل ثبات البلايا التي داهمته.‘

وكان حضرة بهاءالله قبل إعلان دعوة حضرة الباب قد زار إقليم نور في الوقت الذي بلغ فيه المجتهد الشهير ميرزا محمد تقي النوري أوج شهرته وقوته التي وصلت إلى درجة أن الذين يجلسون عند أقدامه كانوا يعتبرون أنفسهم مخولين بتفسير الشريعة الإسلامية. وكان المجتهد يشرح الدرس لنحو مائتين من تلاميذه ويتكلم عن فقرة غامضة من أحد أحاديث الأئمة، إذ مر بذلك المكان حضرة بهاءالله يتبعه عدد من أصحابه، وتوقفوا لفترة يستمعون لمحاضرته. فسأل المجتهد تلاميذه أن يشرحوا نظرية مبهمة تتعلق بالأوجه الغيبية للتعاليم الإسلامية. فلما اعترفوا جميعهم بالعجز عن شرحها، تحرك حضرة بهاءالله وبيّن باختصار تلك النظرية بلغة مقنعة وبيان سهل. فتكدر المجتهد من عجز تلاميذه وقال

صورة 48
الطريق المؤدي إلى أطلال منزل حضرة بهاءالله
الأصلي في تاكُر، مازندران
صورة 49
أطلال منزل حضرة بهاءالله في تاكر، مازندران

غاضبًا: ’علّمتكم عدة سنين وجهدت بكل صبر أن أرسخ في عقولكم أعمق حقائق الدين ومبادئه السامية. ومع ذلك تسمحون لهذا الشاب الذي يلبس الكُلاه أن يثبت تفوّقه عليكم بعد كل هذه السنين الطويلة من الدرس الشاق، مع أنه لم يتعلم في مدرسة ولم يكن له اطلاع على دروسكم وعلومكم!‘

وبعد أن غادر حضرة بهاءالله المكان، أخبر ذلك المجتهد تلاميذه فيما بعد عن رؤيتين رآهما حديثًا وكان لهما في نظره أهمية كبرى، قال: ’في الرؤيا الأولى كنت واقفًا في وسط جمع غفير من الناس وبدا كأنهم يشيرون إلى منزل معين يقولون إن صاحب الزمان يسكنه. فأسرعت في منامي بفرح بالغ للتشرف بمحضره. ولما وصلت إلى المنزل منعت عن الدخول لفرط تعجبي. وقيل لي ’’إن القائم الموعود مشغول في محادثة خاصة مع شخص آخر. ولا يمكن الوصول إليهما فذلك ممنوع بتاتًا.‘‘ واستنتجت من الحراس الذين رأيتهم بجوار الباب، أن ذلك الشخص ليس سوى بهاءالله.‘

صورة 50
الكتابة التي نقشها الوزير، ميرزا بزرگ،
فوق باب منزله في تاكر، مازندران

واستمر المجتهد في روايته: ’في الرؤيا الثانية، وجدت نفسي في مكان ورأيت حولي عددًا من الصناديق قيل لي أن كل واحد منها يخص بهاءالله. وإذ فتحتها وجدتها مملوءة كتبًا. وكانت كل كلمة وكل حرف مكتوب في هذه الكتب مزينًا بجواهر غالية. وقد أبهر لمعانها بصري، وكنت مندهشًا من بريقها بحيث استيقظت من النوم فجأة.‘

ولما وصل حضرة بهاءالله إلى إقليم نور سنة الستين (1260ﻫ)، وجد أن المجتهد الشهير الذي كانت له سلطة قوية عند زيارة حضرته السابقة، قد توفي. ونقص عدد مريديه العظيم إلى شرذمة ضئيلة من التلاميذ اجتهدت في التمسك بتقاليد معلمهم المرحوم تحت رئاسة الملاّ محمد خليفته. فما أشد التباين بين الحماس الذي استقبل به وصول حضرة بهاءالله والغم الذي بسط ظلاله على تلك البقية الباقية من الجماعة التي كانت مزدهرة نشطة يومًا ما. وحضر لمقابلته جمع غفير من المسؤولين والأعيان في تلك الناحية ورحّبوا به الترحيب اللائق. وكانوا مشتاقين، نظرًا للمركز الاجتماعي الذي كان يشغله، لأن يعلموا منه شيئًا عن حياة الشاه وأنشطة وزرائه وأحوال حكومته. فأجابهم حضرة بهاءالله

على استفساراتهم بقلة اهتمام ملحوظ، وبدا أن حضرته يولي قدرًا ضئيلاً من الاهتمام. ولكنه دعاهم إلى الأمر الجديد بفصاحة مقنعة، ولفت انتباههم إلى المنافع العديدة التي قدر لذلك الأمر أن يسديها لوطنهم.(1) وكان الذين يستمعون إليه يندهشون من عظيم اهتمام رجل في مركزه وسنه بالحقائق المختصة بعلماء الدين في الدرجة الأولى. وكانوا يشعرون بعجزهم عن تحدي رجحان أدلته أو تصغير أهمية ذلك الأمر الذي كان يبينه بتلك القدرة. فأعجبوا بشدة حماسه وعمق تفكيره، وتأثروا للغاية بانقطاعه وتواضعه.

ولم يجرؤ أحد أن يعارضه في آرائه سوى عمّه عزيز، الذي تجرأ على معارضته وتحدي بياناته والطعن بصحتها. ولما حاول الحاضرون في مجلسه ممن سمعوه أن يسكتوا ذلك الغريم ويضروا به، توسط حضرة بهاءالله له ونصحهم أن يتركوه في يد الله. فلما أحس عمّه بالخطر طلب مساعدة فورية من مجتهد نور، وهو الملاّ محمد، وقال له: ’يا خليفة رسول الله! انظر ماذا داهم الدين، فإن شابًا من غير العلماء مرتديًا خلعة النبلاء حضر إلى نور واقتحم معاقل المعتقدات الدينية ومزق دين الإسلام المقدس. فقُم وقاوم هجومه، لأن كل من يحضر أمامه يقع فورًا في حبائل سحره وينجذب بقوة منطقه. ولست أدري هل هو ساحر أم هو يمزج الشاي بمادة غريبة تجعل كل من يشرب منه يقع فريسة لسحره.‘ وكان المجتهد، على قلة بضاعته في الفهم والإدراك، يعلم بطلان تلك الملاحظات. فكان يسأله مازحًا: ’ألم تشرب من الشاي الذي يصنعه أو تسمعه يخاطب أتباعه؟‘ فأجابه: ’نعم، ولكن لم تؤثر فيّ قوته الغامضة إذ حفظتني حماية حبك.‘ ولما وجد المجتهد أنه غير قادر على إثارة السكان ضد حضرة بهاءالله، أو أن يقاوم مباشرة الآراء التي ينشرها شخص مقتدر مثله بغير خوف ولا وجل، اكتفى بكتابة بيان أعلن فيه: ’يا عزيز، لا تخَف فلن يقدر أحد أن يلحق بك ضررًا.‘ وكانت العبارة مكتوبة بخطأ نحوي جعل معناها غير مفهوم حتى أن كل من قرأها من أعيان قرية تاكُر عاب الكاتب والمكتوب له.

________________________

(1) ’وكانت عباراته (بهاءالله) كالسيل المتدفق وأوجبت سلاسة عباراته ووضوح بياناته أن يجلس أعظم العلماء عند قدميه.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان"، للدكتور چين، الصفحة 120)

وكان الذين يتشرفون بمحضر حضرة بهاءالله ويسمعوه يفسر رسالة حضرة الباب، يعجبون بجدية دعوته ومناشدته على شأن يقومون على نشر نفس الرسالة بين أهالي نور وإعلاء فضائل صاحبها المميز. واجتهد تلاميذ الملاّ محمد في هذه الأثناء أن يقنعوا معلمهم بالتوجه إلى تاكُر ويزور حضرة بهاءالله شخصيًا، ويتحقق طبيعة هذا الظهور الجديد، وينوّر أتباعه بمزاياه ومقاصده. ولكن المجتهد كان يتهرب في الجواب رغمًا

صورة 51
منظر خارجي لغرفة حضرة بهاءالله في تاكر، مازندران
صورة 52

منظر داخلي لغرفة حضرة بهاءالله محفوظة بشكلها الأصلي

عن الإلحاح الشديد، فلم يقبل منه تلاميذه ما كان يعتذر به، وقالوا له إن أول واجب على رجل في مركزه، والذي وظيفته المحافظة على سلامة المذهب الشيعي، أن يتفحص طبيعة كل حركة لها مساس بمصالح دينهم. وأخيرًا صمّم الملاّ محمد أن ينتدب اثنين من مشاهير مساعديه، الملاّ عباس وميرزا أبو القاسم، وهما صهران للمجتهد المرحوم ميرزا محمد تقي ومن تلاميذه الموثوقين، وطلب منهما زيارة حضرة بهاءالله والتحقق

صورة 53
منظر خارجي لغرفة حضرة عبدالبهاء في تاكر
صورة 54
منظر داخلي لغرفة حضرة عبدالبهاء

من الرسالة التي أتى بها. وأوجب على نفسه الاعتراف بأي نتيجة يصلان إليها دون أي تحفظ. وقال إنها ستكون فصل الخطاب.

ولدى وصولهما إلى تاكُر وعلمهما أن حضرة بهاءالله تركها إلى منتجعه الشتوي، قرر مندوبا الملاّ محمد التوجه إلى ذلك المكان. ولما وصلا وجدا حضرة بهاءالله مشغولاً بتنزيل تفسير لسورة الفاتحة من القرآن الكريم، بعنوان "السبع المثاني". وإذ جلسا وسمعا بياناته وسمو موضوعه وفصاحة عباراته المقنعة، وكذلك الأسلوب الخارق في العرض، تأثرا للغاية وقام الملاّ عباس من مكانه مدفوعًا بقوة لا يقدر على ردها ووقف بجوار الباب في حالة خضوع وخشوع. وقد انجذب بحلاوة البيان الذي كان يصغي إليه، وقال لزميله وهو يقف مرتجفًا مما انتابه من مشاعر وبعيون فاضت دمعًا: ’لقد رأيت حالي، فأنا غير قادر على سؤال بهاءالله. فجميع الأسئلة التي أعددتها قد زالت فجأة من ذاكرتي، وأنت حرّ إما أن تتم بحثك أو تعود إلى معلمك وحدك، وتخبره بالحالة التي صرت إليها، وأخبره عن لساني وقل له إن عباس لا يقدر أن يرجع إليك أبدًا أو أن يترك هذه العتبة.‘ واتّبعه في ذلك زميله ميرزا أبو القاسم حيث أجابه قائلاً: ’إني من الآن لن أعرف معلمي، ففي هذا الوقت نذرت لله أن أخصص بقية أيام حياتي لخدمة بهاءالله الذي هو مولاي الوحيد الحق.‘

وانتشرت أخبار الإيمان المفاجئ لمندوبَي مجتهد نور المختارين بسرعة مدهشة في أنحاء الإقليم. وانتبه الناس من غفلتهم، وهرع أعيان رجال الدين، وموظفو الحكومة والتجار والفلاحون إلى منزل حضرة بهاءالله وآمن طواعية كثيرون بالأمر الذي كان يدعو إليه. وفي خضم إعجابهم بحضرته، قال عدد من بين أعظم وجهائهم: ’إننا نرى كيف قام أهالي نور والتفوا حولك. ونرى ابتهاجهم ظاهرًا في كل الجهات، فإذا انضم إليهم الملاّ محمد فإن نصر هذا الدين يكون مؤكدًا.‘ فأجابهم حضرة بهاءالله: ’إني جئت إلى نور لمجرد إعلان أمر الله ولا أبغي مقصدًا آخر. فإذا قيل لي أن طالبًا على بعد مائة فرسخ يبحث عن الحق وهو غير قادر على الحضور لمقابلتي، فإني بكل سرور ودون تأخير أسرع إلى مسكنه وأحقق له مراده. وقد أخبرت أن الملاّ محمد يقطن في سعادت آباد وهي قرية ليست ببعيدة عن هذا المحل فإن هدفي أن أزوره وأعلمه بالدعوة الإلهية.‘

ولرغبته بدعم كلماته بالأفعال، ذهب حضرة بهاءالله برفقة عدد من أصحابه إلى تلك القرية في الحال. وقابلهم الملاّ محمد بكل ترحيب، وقال له حضرة بهاءالله: ’إني لم أحضر إلى هنا لأزورك زيارة رسمية فإن غرضي هو تنويرك فيما يختص بالدعوة الجديدة المدهشة الموحى بها من الله والتي بها يتم الوعد المذكور في الإسلام. وكل من يصغي لهذه الرسالة يشعر بقوة تأثيرها ويحصل عنده التغيير من قوة فضلها. فأخبرني عن كل ما يحير فكرك من جهتها أو ما يمنعك من تصديق الحق.‘ فقال الملاّ محمد باستخفاف: ’إني لا أقدر أن أبت في أمر إلا بعد أن أستخير القرآن. وقد اعتدت في مثل هذه المواقف أن أطلب دائمًا معونة الله وبركته بأن أفتح كتابه المقدس عشوائيًا وأستعلم من نص أول آية من الصحيفة التي تقع عيني عليها. ومن طبيعة هذه الآية يمكنني أن أحكم على الطريق الذي أتبعه.‘ ولما رأى المجتهد أن حضرة بهاءالله لم يمانع في طريقة الاستخارة، طلب المصحف وفتحه ثم طواه، ولم يقبل أن يفصح عن طبيعة الآية التي وقعت عينه عليها أمام الحاضرين، وقال: ’إني استخرت كتاب الله وأرى أنه لم يكن من المستحسن لي أن أستمر في بحث هذا الموضوع.‘ فوافقه بعض الحاضرين وعرف الآخرون ما ساوره من الخوف في هذا الصدد، ولم يرتضِ حضرة بهاءالله أن يزيد في حرجه وارتباكه، فقام واستأذن وودعه وداعًا حبيًّا.

وذات يوم أثناء إحدى جولاته في الريف راكبًا الخيل مع أصحابه، رأى حضرة بهاءالله شابًا جالسًا وحده بجانب الطريق. وكان الشاب أشعث الشعر ويلبس زي الدراويش. وكان قد أشعل نارًا وطبخ طعامه بجانب جدول ماء وأخذ يأكله. وإذ اقترب منه، سأله حضرة بهاءالله بمحبة بالغة: ’أخبرني ماذا تفعل أيها الدرويش؟‘ فأجابه بخشونة: ’أنا مشغول في أكل الرب وطبخه وحرقه.‘ فأعجب حضرة بهاءالله ببساطة أخلاق الشاب وعدم تصنّعه وصراحة إجابته، وابتسم من هذه الملاحظة وأخذ يتحدث معه بكل لطف وحرية. وبعد برهة وجيزة تمكن حضرة بهاءالله من تغييره بالكلية. وإذ ابتهج بمعرفة طبيعة الله الحق وخلّص عقله من أوهام قومه اعترف حالاً بالنور الذي جاءه به ذلك الشخص الغريب فجأة. وتعشق ذلك الدرويش، المدعو مصطفى، تعاليمه على شأن ترك أدوات

طبخه وراءه ولحق حضرة بهاءالله. وكان يسير وراء جواده وهو يتغنى بأشعار كان ينشدها بداهة مسرورًا في محبته التي اشتعلت نارها في قلبه. وكان يقول: ’أنت نجم صبح الهداية وأنت ضياء الحق اكشف نفسك للناس يا مظهر الحق.‘ ومع أن هذا الشعر قد انتشر في قومه في السنين اللاحقة واشتهر بأن درويشًا، يلقب بالمجذوب واسمه مصطفى بيك السنندجي، أنشأه على البداهة في مدح المحبوب، فإن الناس لم يفهموا وقتها من هو الذي كان يعنيه في شعره ولم يشك أحد أن ذلك الدرويش عرف مقام حضرة بهاءالله واكتشف بهاءه في وقت كان فيه محجوبًا عن أنظار الخلق.

وحققت زيارة حضرة بهاءالله لنور نتائج باهرة بعيدة المدى وأعطت الأمر جديد النشأة دفعة مدهشة لانتشاره. وبفصاحته الجذابة وطهارة حياته ووقار هيئته ومنطق براهينه الذي لا يُرّد وعلائم محبته العديدة، تمكن حضرة بهاءالله من كسب قلوب أهالي نور وتحريك أرواحهم وضمهم تحت لواء أمر الله. كان تأثير كلماته وأفعاله وأقواله وهو يبلّغ الأمر الجديد ويظهر مجده لمواطنيه في نور حتى كأن الحجر والشجر في ذلك الإقليم قد أحيي من أمواج القدرة الروحانية التي كانت تصدر من شخصه. وبدت كل الأشياء كأنها استمدت قوة واكتسبت حياة جديدة وكأنها بلسان حالها تنادي بأعلى النداء: ’انظروا جمال الله وبهاءه فقد ظهر! انهضوا فقد جاء بكل مجده.‘ واستمر أهالي نور بعد فراق حضرة بهاءالله لهم، في نشر أمر الله وتثبيت أسسه. وتحمّل عدد منهم أشد أنواع الاضطهاد لأجل حضرته. وتجرع آخرون كأس الشهادة بكل سرور في سبيل حضرته. وهكذا اشتهرت مازندران عامة، ونور خاصة، عن بقية مقاطعات إيران وأقاليمها، بأنها أول من قبلت بكل عشق الرسالة الإلهية. وكان إقليم نور المحاطة بجبال مازندران أول أرض سطعت عليها أشعة الشمس التي ارتفعت في شيراز، وأول من أعلن لبقية إيران، التي كانت راقدة في وادي الغفلة، أن شمس الهداية الإلهية قد أشرقت أخيرًا لتنعم بدفئها ونورها أرض البلاد بأسرها.

ولما كان حضرة بهاءالله لا يزال طفلاً، رأى والده الوزير في الرؤيا، كأن حضرة بهاءالله يسبح في محيط لا حدّ له وكان جسمه يلمع على المياه بضياء أنار البحر، وكانت

ترى حول رأسه شعراته السوداء الحالكة الطويلة فوق المياه تسبح على الأمواج. وإذ استمر في منامه حامت حول حضرة بهاءالله جملة أسماك تعلق كل منها بطرف شعرة من شعراته بكل ثبات. وتبعته أينما سبح وهي مبهورة بضياء وجهه. ومع وفرة عددها وشدة تعلقها بشعره، لم تنفصل عن رأسه شعرة واحدة ولم يحصل له أي ضرر. فكان يتحرك فوق المياه بغير مشقة ودون عائق وكل الأسماك تتبعه.

ولشدة تأثر الوزير من هذه الرؤيا، استدعى عرّافًا اشتهر في تلك الأرجاء وطلب منه أن يفسرها له. فقال هذا الرجل الذي كأنه أوحي إليه بجلال حياة حضرة بهاءالله المستقبلة ومجدها: ’أيها الوزير! إن البحر المحيط اللامحدود الذي رأيته في منامك، إنما هو عالم الوجود. وإن ابنك سيعلو عليه وحيدًا فريدًا. ولن يعوقه عائق عن أي جهة يريد التوجه إليها ولا يقدر أحد أن يقف في سبيل تقدمه. وأما حشود الأسماك العديدة، فهي عبارة عن الاضطراب الذي سيحدثه بين الأمم والأقوام. وسوف يتجمعون حوله ويتعلقون بشخصه. وإذ يتيقن بحماية الله القدير المؤكدة لا ينال شخصه أذى من هذا الاضطراب، ولن يهدد بقاءه وحيدًا على بحر الحياة سالمًا آمنًا.‘

وبعد ذلك أخذوا العراف لرؤية حضرة بهاءالله. وإذ نظر إلى وجهه بتركيز وتفحص ملامحه، سُحِر من جمال مظهره، ومجّد كل ميزة في طلعته، وكان كل تعبير في ذلك الوجه يكشف لعينَي العراف عن علامة من علامات بهائه المستور. وكان عظيم إعجابه وشدة إطرائه لحضرة بهاءالله بدرجة أن الوزير أصبح منذ ذلك اليوم أشد تعلقًا بنجله. وكانت كلمات ذلك العراف قد عززت آماله وقوّت ثقته في ابنه. وأصبح كيعقوب لا يرغب إلا ضمان سعادة محبوبه يوسف، وأن يكتنفه بحماية محبته.

وكان الحاج ميرزا آقاسي، رئيس وزراء محمد شاه، رغم التنافر الشديد بينه وبين والد حضرة بهاءالله، يبدي كل مظاهر العناية والحظوة لابنه. وكانت شدة احترام الحاج لحضرته قد أثارت الحسد في قلب ميرزا آقا خان النوري، اعتماد الدولة، الذي خلف الحاج ميرزا آقاسي في منصبه فيما بعد. فامتعض من علو المكانة التي أسديت إلى حضرة بهاءالله الشاب فوق مكانته. وتأصل الحسد في قلبه من ذلك الحين، لأنه قال في نفسه إذا

كان يُظهر مثل هذا الاحترام أمام رئيس الوزراء لشاب مثله ووالده لا يزال على قيد الحياة، فما بالك لو خلف هذا الشاب والده في منصبه؟

واستمر الحاج ميرزا آقاسي في احترامه الشديد لحضرة بهاءالله بعد وفاة والده الوزير، وكان يزوره في منزله ويخاطبه كما لو كان ابنه. ولكن صدق محبته سرعان ما امتحن. ففي يوم من الأيام كان يمر بقرية كوچ حصار، وهي من أملاك حضرة بهاءالله وقد أعجبه جمال ذلك المكان ووفرة الماء فيه، حتى إنه خطرت له فكره تملّكه. فاستدعى حضرة بهاءالله على الفور لإتمام عملية شراء تلك القرية، ولكنه أجابه: ’لو كانت هذه الأملاك تخصني وحدي لحققت لك مرادك عن طيب خاطر. فإن هذه الدنيا فانية بجميع مشتملاتها الخسيسة، وليس لها أي تعلق في نظري فكيف بهذه القرية الصغيرة التافهة. ولكن لما كان يشاركني في هذا الممتلك عدد من الأغنياء والفقراء، بعضهم بالغ وبعضهم قاصر، فإني أطلب إليك أن ترجع إليهم وتطلب رضاهم وقبولهم.‘ فلم يعجب الحاج ميرزا آقاسي هذا الرد، وأخذ في تدبير الحيلة للحصول على مرغوبه. ولما علم حضرة بهاءالله بمقاصده الشريرة، نقل ملكية الأرض فورًا إلى اسم أخت محمد شاه بموافقة سائر المعنيين، لأنها كثيرًا ما أبدت رغبتها بتملكها. فاغتاظ الحاج من ذلك الإجراء وأمر بالاستيلاء على الممتلك بالقوة، مدعيًا أنه اشتراه من مالكه الأول، ولكن وكلاء أخت الشاه، وبّخوا مندوبي الحاج ميرزا آقاسي وأمروهم بأن يخطروا سيدهم بعزم تلك السيدة على تثبيت حقوقها. فعرض الحاج القضية على محمد شاه، واشتكى من المعاملة الظالمة التي تعرض لها. وكانت أخت الشاه قد سبق لها في نفس الليلة أن شرحت له طبيعة الإجراء قائلة لأخيها: ’لقد تكرمت جلالتك بإبداء رغبتك بأن أبيع مجوهراتي التي لا أتقلدها في محضرك لأشتري بقيمتها ممتلكًا ما. وقد نجحت أخيرًا في تحقيق رغبتك. ولكن الحاج ميرزا آقاسي ينوي الآن الاستيلاء عليها مني بالقوة.‘ فطمّن الشاه أخته وأمر الحاج أن يتنازل عن ادعائه. ولما يئس الأخير من تنفيذ رغبته، دعا حضرة بهاءالله إلى مقابلته واجتهد في الإدعاء عليه بكل حيلة لتلطيخ سمعته، فكان حضرة بهاءالله يجيب بشهامة عن كل تهمة يريد الرئيس أن يلصقها به وأثبت براءته. وفي سورة غضبه صاح رئيس

الوزراء قائلاً: ’وماذا تهدف من كل هذه الولائم والموائد التي يبدو أنك تسرّ بها؟ وإني بصفتي رئيس وزراء شاهنشاه إيران لا يجتمع على مائدتي أبدًا مثل هذا العدد من مختلف الضيوف الذين يحتشدون حول مائدتك كل ليلة. ولماذا كل هذا الإسراف والغرور؟ لا شك أنك تدبر مكيدة ضدي.‘ فأجاب حضرة بهاءالله قائلاً: ’يا ربي العطوف! فهل الرجل الذي يشارك مواطنيه خبزه، لمحض المحبة العامرة في قلبه، يتهم أنه يضمر نوايا إجرامية؟‘ فارتبك الحاج ميرزا آقاسي ولم يجرؤ على الإجابة. ومع أنه كان مؤيدًا بالقوى الدينية والمدنية مجتمعة في إيران، إلا أنه وجد نفسه أخيرًا مهزومًا تمامًا، في كل منازلة تجرأ على خوضها ضد حضرة بهاءالله.

وقد ظهر وتحقق تفوق حضرة بهاءالله على معانديه في عدد من المناسبات الأخرى. وكانت هذه الانتصارات الشخصية التي حققها قد عززت مكانته وأذاعت شهرته في الأرجاء. ودهش الناس على اختلاف مقاماتهم من نجاحه المعجز في الخروج سالمًا من أخطر المواجهات. وفكروا أن العناية الربانية لابد وأن تكون هي التي أوجبت سلامته في تلك المناسبات. ولم يخضع حضرة بهاءالله ولو مرة واحدة إلى غرور الذين حوله أو إلى طمعهم وخيانتهم، مع أنه كان محاطًا بأعظم المخاطر. وفي أثناء معاشرته المستمرة لكبار رجال الدولة والدين في تلك الأيام لم يقبل أبدًا أن يقبل ببساطة آرائهم التي يعبرون عنها أو ادعاءاتهم التي يروجوها. فكان في مجامعهم يقوم على إشهار أمر الحق ومساعدته دون وجل ويحافظ على حقوق المظلومين ويدافع عن الضعفاء ويحامي عن الأبرياء.

***
صفحة خالية
الفصل السادس
رحلة الملاّ حسين إلى خراسان

ولدى توديع حضرة الباب حروف الحيّ، أمرهم فردًا فردًا أن يدونوا في قائمة اسم كل مؤمن اعتنق الأمر وسار حسب تعاليمه. وأمرهم أن يضع كل منهم قائمة أسماء أولئك المؤمنين في خطابات مغلقة مختومة ويرسلوها إلى خاله الحاج ميرزا سيد علي في شيراز ليبعث بها إليه. وقال لهم: ’سوف أبوّب هذه الأسماء إلى ثمانية عشر بابًا وأجعل كل باب يحتوي على أسماء تسعة عشر شخصًا فيكون كل باب في مجموعه واحدًا(1) فإذا أضيفت هذه الأسماء في أبوابها الثمانية عشر إلى الواحد الأول الذي تكوّن من اسمي وأسماء الحروف الثمانية عشر التي هي حروف الحيّ، فإنها تكوّن عدد "كل شيء".(2) وسأذكر أسماء جميع المؤمنين في لوح الله حتى إن محبوب قلوبنا ينزل عليهم بركاته التي لا تُحصى في اليوم الذي يستقر فيه على عرش مجده ويعدهم من سكان جنته.‘

وحدد حضرة الباب للملاّ حسين بصفة خاصة تعليمات محددة بأن يبعث إليه بتقرير كتابي عن طبيعة نشاطاته وتقدمها في إصفهان وطهران وخراسان، وأكد عليه أن يخطره بأسماء الذين أقروا وآمنوا بأمر الله، وكذلك الذين كفروا واعترضوا على أحقيته. وقال له: ’لن أستعد لمبارحة هذه المدينة للحج إلى الحجاز حتى يصلني خطابك من خراسان.‘

________________________
(1) عدد "واحد" هو 19 بالحساب الأبجدي.

(2) عدد "كل شيء" هو 361، يعني 19 Х 19 بالحساب الأبجدي.

صورة 55
صورة 56
صورة 57

مناظر مسجد گوهر شاد في مشهد، تظهر المنبر الذي كان الملاّ حسين يبلّغ منه

وبعد مقابلة الملاّ حسين لحضرة بهاءالله وانتعاشه من محادثته، قام بالسفر إلى خراسان، وفي أثناء زيارته لتلك المقاطعة ظهرت منه آثار القوة التي أحيته بها كلمات حضرة الباب أثناء توديعه.(1) وكان أول من آمن في خراسان ميرزا أحمد الأزغندي وهو أبرز علماء عصره في ذلك الإقليم في العلم والحكمة والشهرة. وكان إذا حضر أي مجلس من العلماء قل عددهم أو كثر، كان هو المتكلم الرئيس. وكانت أخلاقه السامية وشدة تقواه قد زادت في شهرته التي اكتسبها ببراعته وقدرته وحكمته. وتبعه

صورة 58
منظر "البابية" في مشهد
________________________

(1) ’وكان الزائر يزيد في مدة إقامته كلما أراد واحتاج لإجراء المحادثات والمقابلات في المدن والقرى والحوار مع الملاّوات وإظهار كتب حضرة الباب وتبليغ الدعوة. وكان الناس في كل مكان يستمعون له بفارغ الصبر، ويبحثون عنه متعجبين ويستمعون له بلهف ويقبلون الدعوة بسهولة وخاصة في نيشاپور حيث قبل الدعوة اثنان من مشاهير العلماء وهما الملاّ عبد الخالق من يزد، والملاّ علي الصغير، وكان أول هذين المجتهدين من تلاميذ الشيخ أحمد الأحسائي وكان عالمًا ضليعًا في العلوم وله تأثير على الناس وذو فصاحة في المنطق، وكان الثاني شيخيًا أيضًا وذو أخلاق راسخة وفهم كبير وله اعتبار عظيم ويشغل وظيفة المجتهد الأول في المدينة وأصبح الاثنان بابيين مخلصين. وكانا يصيحان من على منابر المساجد بتنبؤات قاسية على الإسلام وفي مدة الأسابيع الأولى ظن العموم أن الدين القديم قد زحزح نهائيًا. أما العلماء الذين تذمروا من تخلية رئيسهم فقد خشوا من الخطابة العامة التي لم تستثنيهم، فهم إما خشوا الظهور علنًا أو ولّوا الأدبار. ولما جاء الملاّ حسين البشروئي إلى مشهد وجد الأهالي مضطربين ومنقسمين على أنفسهم بخصوصه، من جهة، ووجد العلماء متهيجين وقد عيل صبرهم وعزموا على إجراء مقاومة قوية للحملة التي وجهت إليهم من جهة أخرى.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 139-140)

في الإيمان من الشيخية في خراسان الملاّ أحمد المعلم الذي كان معلمًا لأنجال السيد كاظم في كربلاء. وآمن بعده الملاّ الشيخ علي الذي سمّاه حضرة الباب بالعظيم، ثم الملاّ ميرزا محمد الفروغي الذي تفوق بعلمه على سواه عدا ميرزا أحمد. ولم يكن أحد من علماء خراسان الباقين بقادر على معارضة حجج الملاّ حسين أو عنده من العلم ما يكفي لمجادلته.

وآمن من بعدهم ميرزا محمد باقر القائني الذي صرف بقية سنيّ حياته في الإقامة في مشهد، واشتعلت محبة حضرة الباب في روحه في عشق متقد على شأن لم يقدر أحد على مقاومة قوته أو التقليل من نفوذه. واتحدت فيه مزايا الشجاعة والحيوية السخية والولاء الراسخ ونبل المسلك ليصبح مصدر ذعر أعدائه ومنبع إلهام أحبائه. وقد وضع منزله في خدمة الملاّ حسين ورتب له عدة مجالس منفصلة لمقابلة العلماء في مشهد، واجتهد للسعي بكل قوته لإزالة كل عقبة تعترض تقدم أمر الله. وكان يبذل مجهودات قوية لا يتطرق إليه فيها الملل ولا الكلل وهو على استقامة لا تنثني ونشاط لا يفنى.

صورة 59
منظر "البابية" في مشهد

واستمر على عمله دون عائق في سبيل الأمر المحبوب إلى آخر نسمة من حياته، حتى وقع شهيدًا في قلعة الشيخ الطبرسي. وفي أواخر أيامه أمره القدوس أن يستلم قيادة المدافعين الأبطال عن تلك القلعة بعد وفاة الملاّ حسين المحزنة. وقام بتلك المأمورية بما جلب له الفخر. وكان منزله في بالا خيابان في مدينة مشهد معروفًا حتى الآن باسم "البابية" وكل من كان يدخله لا ينجو من أن يتهم بأنه بابي. فلتنعم روحه بالراحة الأبدية!

وما أن تمكّن الملاّ حسين من ضم هؤلاء المؤمنين الأشداء إلى أمر الله، حتى عزم على كتابة التقرير إلى حضرة الباب عن أنشطته. وفي تقريره أشار بإسهاب إلى إقامته في إصفهان وكاشان، ووصف تفاصيل تجربته مع حضرة بهاءالله ورحلة حضرته إلى مازندران، وذكر حوادث نور وتحدّث عن النجاح الذي صادفه هو في خراسان وأرفق مع التقرير كشفًا ببيان أسماء الأحباء الذين أجابوا نداءه واطمأن إلى ثباتهم وإخلاصهم. وأرسل خطابه عن طريق يزد بواسطة شركاء خال حضرة الباب الموثوقين الذي كان إذ ذاك قاطنًا في طبس. ووصل الخطاب إلى حضرة الباب في الليلة التي سبقت اليوم السابع والعشرين من رمضان(1) وهي المشهورة عند المسلمين بكافة مذاهبهم بليلة القدر وهي التي وصفت في القرآن بأنها خير من ألف شهر(2) ولم يكن مع حضرة الباب في تلك الليلة عند وصول الخطاب إليه سوى القدوس الذي قرأ عليه الكثير من فقراته.

وسمعت ميرزا أحمد يقص ما يأتي: ﴿إن خال حضرة الباب وصف لي الظروف التي اقترنت بتسلم حضرة الباب خطاب الملاّ حسين. قال: ’شاهدت في تلك الليلة علائم الفرح والسرور على وجه حضرة الباب والقدوس بما لا أقدر أن أصفه. وكثيرًا ما سمعت حضرة الباب في تلك الأيام يكرر تلك الكلمات بانشراح، ’’العجب كل العجب فيما وقع بين جمادى ورجب.‘‘ وبينما كان يقرأ الخطاب المرسل إليه من الملاّ حسين، التفت إلى

________________________
(1) توافق ليلة 10 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1844م.

(2) وهي إحدى الليالي العشر الأخيرة من رمضان ومعناها ليلة القوة، وهي على الأرجح الليلة السابعة إذا حسبت بالتراجع (أي ليلة 23، 24 من رمضان).

القدوس وأطلعه على بعض فقرات ذلك الخطاب وشرح له سبب دهشته السارة. وأما أنا فبقيت غير عالم بطبيعة ذلك الشرح.‘﴾

وكان ميرزا أحمد الذي تأثر من سماع هذه القصة تأثرًا بالغًا، قد عزم على استكشاف سرها، وقال لي: ’إني لم أتمكن من الوقوف على حقيقة أمرها ولم يطمئن قلبي إلا بعد مقابلتي للملاّ حسين في شيراز، لأني لما قصصت عليه ما ذكره لي خال حضرة الباب، تبسم وقال إنه يتذكر جيدًا أنه فيما بين جمادى ورجب كان مقيمًا في طهران، ولم يذكر شيئًا عن التفاصيل، وفقط لمّح لي واكتفى بهذه الإشارة، وكان ذلك كافيًا لإقناعي أنه يوجد في طهران سرّ إذا انكشف للعالم فإنه يجلب الفرح والسرور إلى قلبَي حضرة الباب والقدوس.‘

وكانت إشارات الملاّ حسين إلى التصديق الفوري من حضرة بهاءالله للرسالة الربانية وإجابته لها دون تردد وقيامه على التبليغ في نور بكل شهامة وما لقيه من النجاح العظيم الذي كلل مجهوداته، قد أبهج قلب حضرة الباب وقوّى ثقته في غلبة أمره النهائية واطمأن إلى أنه لو وقع تحت مخالب ظلم الأعداء وفارق هذا العالم، فإن الأمر الذي قام على ترويجه سيعيش وينمو ويثمر بإشراف وإدارة حضرة بهاءالله الرئيسة وإنه سيدير دفتها بحكمته الفائقة وإن محبته الغالبة ستؤثر في قلوب الناس، وامتلأ قلبه بهذا اليقين والأمل وقويت بهما روحه. ومنذ ذلك الوقت تبدد منه الاضطراب من حلول المخاطر. وقَبِل بكل فرح نيران الاضطهاد وابتهج بحرارة اشتعالها ولمعان ضيائها كما تبتهج بذلك العنقاء.

***
الفصل السابع
حج حضرة الباب إلى مكة المكرمة
والمدينة المنورة
صورة 60
رسم مكة المكرمة

بوصول خطاب الملاّ حسين، عزم حضرة الباب على الحج إلى الحجاز، وترك زوجته في رعاية والدته، وأوصى بهما خاله ليكونا تحت حمايته، وانضم إلى جماعة الحجاج المسافرين من فارس الذين كانوا على أهبة الاستعداد لمغادرة شيراز للسفر لمكة المكرمة والمدينة المنورة،(1) وكان القدوس هو رفيقه الوحيد عدا خادمه الحبشي الخاص. واتجه

________________________

(1) وحسب تاريخ الحاج معين السلطنة (الصفحة 72)، قام الباب للحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة في شهر شوال سنة 1260 ﻫ (أكتوبر/تشرين الأول سنة 1844م).

أولاً إلى بوشهر، مقر تجارة خاله عندما كان حضرته في الأيام السالفة يعمل معه وعاش كتاجر بسيط. وبعد أن أنهى ترتيبات سفره الطويل الشاق، استقل مركبًا شراعيًا أبحر ببطء لمدة شهرين وسط العواصف حتى رسى على شواطئ تلك الأرض المقدسة.(1) ولم يمنعه تلاطم الأمواج ولا انعدام وسائل الراحة من الاستمرار على الصلاة بانتظام، وعلى المناجاة ودوام الابتهال والتضرع، ولم يشغله دوار البحر الذي أصاب زملاءه الحجاج، بل داوم على إملاء القدوس بالمناجاة والألواح التي كان يشعر بالإلهام في إنزالها.

وسمعتُ الحاج أبو الحسن الشيرازي الذي كان مسافرًا في السفينة نفسها مع حضرة الباب يصف تلك الرحلة الشهيرة. قال: ’كنت طوال شهرين من رحلة السفينة، من وقت أن أبحرت من بوشهر إلى أن رست في جدة، التي هي ميناء الحجاز، أشاهد حضرة الباب منهمكًا في العمل والاشتغال الدائم مع القدوس كلما سنحت لي الفرصة في مقابلتهما. وكان حضرة الباب يُملي والقدوس يكتب ما يتفوّه به حضرة الباب. وكانا يشتغلان

________________________

(1) ’وحصل له تعب من هذا السفر. "اعلم أن الطريق في البحر متعب ولا نحبه لأحبائنا مع وجود السفر بالطرق البرية." وكتب في "صحيفة بين الحرمين" في خطابه لخاله، كما سنرى فيما بعد، وكذلك كتب في "البيان" تفصيلاً عن هذا الموضوع. ولم يكن الأمر تافهًا فإن الروح التي اقتادت الباب إلى أهوال البحر كانت أكثر سموًا ونبلاً. فقد دهش من نفسية الحجاج وأنانيتهم والتي زادتها متاعب البحر وأخطاره ومن الظروف القذرة التي يضطر المسافرون لتحمّلها على سطح المركب، فأراد لذلك أن يتجنب الناس غرائزهم الدنيا بتعاملهم مع بعضهم البعض بخشونة، ونعلم أن حضرة الباب حث على الأدب خاصة وعلى اللباقة في التعامل الاجتماعي، فقال: "لا تُغضبوا أي أحد لأي سبب." ورأى في هذا السفر خسة الإنسان وقسوته عندما يواجه الصعاب. فكتب في "البيان" [4:16]: "إن أكثر ما أحزنني ما رأيته في حجي إلى مكة المكرمة النزاع المتوالي الواقع بين الحجاج والمشاجرات التي تمحو أجر الحج ومنافعه الأدبية." ووصل إلى مسقط واستراح فيها بضعة أيام وأراد تبليغ الأهالي، ولكنه لم يوفق لذلك وكان خطابه موجهًا إلى أحد علماء الدين من رتبة عالية حتى إذا آمن يؤمن بواسطته مواطنوه على غالب ظني، ولكن لم يذكر تفصيل هذه الأمور. ومن الطبيعي أنه لا يدعو أول من يقابله دون أن يكون له تأثير على سكان المدينة. ومسألة كونه دعا أحدًا للإيمان ولم يقبل، مسألة لا شك فيها وأقرها بنفسه، قال: "إن ذكر الله الحق نزل على أرض مسقط ووصل بأمر الله إلى أحد من أهالي تلك الجهة وكان يمكنه أن يفهم آياتنا ويكون من المهتدين. قل إنه اتبع هواه بعد أن سمع آياتنا بالحق وحسب في الكتاب من المعتدين. قل لم نرَ في مسقط من أهل الكتاب من يؤمن، ألا إنهم من الجهلاء الهالكين. كذلك كان من على السفينة، إلا واحد من بينهم آمن بآياتنا وكان ممن يخشون ربهم."‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 207-208)

باطمئنان وهدوء حتى في الوقت الذي كانت فيه السفينة مضطربة والركاب مذعورين من الرياح العاصفة. فلم يلفتهما ذلك عن العمل ولم تتغير بشاشة وجهيهما من هياج الركاب واضطرابهم ولا من اشتداد العواصف وانقلاب البحر وهياجه.‘

وأشار حضرة الباب بنفسه في "البيان" الفارسي(1) إلى هذه المشاق التي وقعت أثناء السفر، فكتب ما يلي: "ولم نتمكن من الحصول على الماء جملة أيام إلا بصعوبة، وكنا نكتفي بعصير الليمون الحلو." وبسبب هذه التجربة كان يدعو الله القدير أن يسهل سبل السفر في البحر قريبًا، ويقلل مشاقه ويمحو أخطاره بالكلية. فلم يمضِ وقت طويل بعد ذلك الدعاء حتى ظهرت علائم التحسن في سائر وسائل المواصلات البحرية وأصبح الخليج الفارسي بعد أن لم يكن فيه سوى سفينة واحدة بخارية، ممتلئًا بأسطول من السفن العظيمة التي تقدر أن تنقل جميع الحجاج من أهالي فارس بالراحة التامة إلى الحجاز في بضعة أيام أثناء موسم الحج السنوي.

أما سكان الغرب الذين ظهرت بينهم بوادر الانقلاب الصناعي الضخم، فلم يدركوا المنبع الذي ظهرت منه تلك القوة العظيمة التي غيرت مرافق الحياة المادية جميعها. ويشهد تاريخهم نفسه بحقيقة أنه في سنة الظهور الأعظم ظهرت فيهم فجأة بوادر الانقلاب الصناعي والاقتصادي، على شأن أقروا بأنفسهم بأنه لم يحدث له مثيل في تاريخ العالم الإنساني. ولشدة انهماكهم في تفاصيل هذه القوى المحركة الجديدة، تناسوا مصدرها تدريجيًا وعموا عن الغرض الذي من أجله أعطاهم ذو القدرة هذه القوة العجيبة. فلم

________________________

(1) "وقد رأيت بنفسي في سفري إلى مكة المكرمة شخصًا شهيرًا يصرف مبالغ كبيرة ولكنه امتنع عن صرف ثمن كوب ماء إلى زميل له في السفر. وحصل هذا على السفينة وكان الماء فيها نادرًا لدرجة إني لم أجد الماء أثناء سفري من بوشهر إلى مسقط، ذلك السفر الذي دام اثني عشر يومًا وكنت أثناءها أكتفي بالليمون الحلو." ("البيان" الفارسي، الجزء 2، الصفحة 154) "ولا يمكن أن يتصور في سفر البحر هذا سوى العذاب. فلا يجد الإنسان فيه لوازمه كالسفر برًا. وأما رجال البحر فمجبورون على المعيشة ولكنهم بعملهم يتقربون إلى الله الذي يجازي على العمل الطيب سواء في البر أو في البحر ولكن يضاعف أجر عبده الذي يعمل في البحر لأن عمله مضنٍ." (المصدر السابق، الصفحتان 155-156) "ورأيت (في السفر إلى مكة المكرمة) أعمالاً شريرة، في نظر الله، جَعلت ثواب الحج هباء منثورًا. وتلك هي المشاجرات بين الحجاج. والحق أن بيت الله في غنى عن أن يطوف به أمثال هؤلاء الناس." ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 155)

يستعملوها فيما خلقت لأجله بل استعملوها لزيادة وسائل التدمير والحروب بدلاً عن نعمة السلام والسرور.

ولما وصل حضرة الباب إلى جدة، ارتدى لباس الإحرام وركب جملاً وشرع في سيره إلى مكة. وأما القدوس ففضل أن يسير مرافقًا له على قدميه طوال الطريق، من جدة إلى تلك المدينة المقدسة رغمًا عن رغبة سيده المتكررة ألا يفعل، فكان يمسك مقود الجمل الذي كان حضرة الباب يركبه ويسير بجانبه مسرورًا على هيئة الخشوع لتلبية طلبات سيده وغير مبال بالمتاعب والمشاق الناشئة عن مثل هذا السير القاسي، وكان في كل ليلة، من الغسق إلى دنو الفجر، يضحي براحته ونومه في سبيل المحافظة على محبوبه، ويسهر بانتباه لا يعرف الملل استعدادًا لتلبية احتياجاته وتأكيدًا لحمايته وسلامته.

وفي ذات يوم، أثناء نزول حضرة الباب عن ظهر جمله للصلاة، قريبًا من بئر ماء، ظهر فجأة بدوي هائج في الأفق واقترب من حضرته واختطف الخرج الذي كان مطروحًا على الأرض وبه كتابات حضرة الباب وأوراقه، واختفى بسرعة وسط مجاهل الصحراء. فقام الخادم الحبشي ليتبعه، ولكن سيده منعه، وأشار إليه أثناء صلاته بيده أن يتوقف عن مطاردته، وأكد له برفق فيما بعد: ’لو أذنتك في تتبعه لأدركتَه وعاقبتَه، ولكن هذه الأوراق والكتابات سوف تصل بواسطة هذا البدوي إلى المقر الذي لا يمكننا الوصول إليه، فلا تحزن من عمله، لأن ذلك هو أمر الله المقتدر.‘ وكثيرًا ما كان حضرة الباب، في مناسبات مماثلة، يواسي أصحابه بمثل هذه الملاحظات وبأمثال هذه العبارات تتبدل مرارة الغضب والأسف، بالرضاء بأمر الله بكل سرور وابتهاج.

وفي يوم عرفة، اختلى حضرة الباب في غرفته واشتغل بالصلاة والعبادة طيلة ذلك اليوم. وفي اليوم التالي وهو يوم النحر بعد صلاة العيد، ذهب إلى منى وهناك تبعًا للعادة المتبعة، اشترى تسعة عشر شاة من أجود الأصناف ونحر تسعًا منها باسمه وسبعًا باسم القدوس وثلاثًا باسم خادمه الحبشي. وامتنع عن تناول شيء من لحومها مفضلاً توزيعها على الفقراء والمساكين في تلك الناحية.

صورة 61
القفطان الذي كان حضرة
الباب يرتديه تحت الجبة

ومع أن شهر ذي الحجة، في تلك السنة صادف وقوعه في أول أشهر الشتاء، فإن الحرارة كانت في تلك الجهات مرتفعة بدرجة أن الحجاج لم يتمكنوا من الطواف حول الحرم بملابسهم العادية، فأتموا هذه المناسك واحتفلوا بالعيد بلباس الإحرام الفضفاضة الخفيفة. ولكن حضرة الباب لم يرضَ مع ذلك أن يخلع عمامته أو عباءته احترامًا للمناسبة وبكل هدوء ووقار وبساطة، أتمّ المناسك والطواف حول الكعبة مرتديًا ملابسه العادية.

وفي آخر يوم من أيام حجه في مكة، قابل حضرة الباب ميرزا محيط الكرماني. وكان مواجهًا للحجر الأسود عندما اقترب منه حضرة الباب وأخذ بيده وخاطبه بهذه الكلمات: ’يا محيط! إنك تعتبر نفسك أكبر رجال الشيخية البارزين ومن مشاهير مفسري تعاليم الشيخية. بل تدّعي في باطنك إنك أحد الورّاث المباشرين لهذين النورين العظيمين التوأمين وأحد خلفاء هذين الكوكبين اللذين بشرا بطلوع فجر الهداية الربانية. فالآن انظر ترانا

صورة 62
القلنسوة التي كان حضرة الباب
يلف العمامة حولها

واقفين في أقدس حرم، وفي هذا الجوار المبارك يقدر ذلك الروح الذي يكتنف هذا المكان أن يميز الحق عن الباطل والهدى من الضلالة. حقًا أقول، إنه لا يوجد أحد في الشرق أو الغرب يقدر في هذا اليوم أن يدعي أنه الباب الذي يوصل الإنسان إلى معرفة الله غيري. وبرهاني هو عين البرهان الذي رسّخ صدق محمد رسول الله. فاسأل مني عما تشاء الآن، فإني في هذه اللحظة أجيبك بآيات تثبت صحة دعوتي. وعليك أن تختار إما أن تخضع خضوعًا تامًا لأمري أو تعرض عنه كلية. فلا خيار غيرهما أمامك. فإن اخترت الإعراض عن أمري فلا أترك يدك حتى تعلن للعموم إعراضك عن الحق الذي ادعيتُه، ليُعرف من يقول الحق، ومن يقول الباطل سيلقى الخسران والندم إلى الأبد. وبهذا يتضح سبيل الحق لكافة الخلق.‘

وواجه حضرة الباب ميرزا محيط الكرماني بهذه المباهلة فجأة، حتى إنه اضطرب منها وقد بهت من الأسلوب المباشر في إلقائها ومن جلالها وقوتها. وأحس أمام هذا الشاب كأنه عصفور محصور في مخالب نسر عظيم رغمًا عما هو عليه من تقدم السن والقوة والعلم. فأجابه وهو ممتلئ رعبًا: ’يا مولاي، ويا سيدي! من أول يوم وقعت فيه عيني عليك في كربلاء شعرت بأني قد وجدت وعرفت من هو مطلوب فؤادي ومرغوبي. وإني أرفض كل من لا يعترف بك بل أحتقر كل من يبقى في قلبه ذرة من الشك في طهارتك وقدسيّتك. فأرجوك أن تعفو عن ضعفي وأن تجيبني في حيرتي. وإن شاء الله سأحلف يمين الطاعة لك في هذا المكان المقدس وأقوم على نصرة أمرك. وإن لم أكُ صادقًا فيما ادعيت أو كان في قلبي ما يخالف ما أقررت به بلساني، فإني أعد نفسي غير أهل لرحمة رسول الله. وأعتبر عملي مخالفًا لطاعة علي وليّه مخالفة صريحة.‘

وكان حضرة الباب يستمع لكلماته ويعلم بضعف روحه وذلة نفسه، فأجابه: ’حقًا لقد تبين الآن الحق من الباطل. فيا حرم رسول الله! ويا قدوس يا من آمنت بي! إني في هذه الساعة أشهدكما فإنكما سمعتما ورأيتما ما دار بيني وبينه، وأنتما شاهدَي على ذلك والله من فوقك أعظم شاهد لي وهو البصير العالم الحكيم. فيا محيط! اذكر كل ما يشغل بالك واسأل، تجد لساني بفضل الله يجيبك على كل ما تسأل ويحل لك معضلات ما أبهم عليك حتى تشهد بسمو كلامي وتتحقق من أنه لا يقدر أحد خلافي أن يظهر حكمتي.‘

فاستجاب ميرزا محيط لدعوة حضرة الباب وسأل جملة أسئلة وذكر إنه مضطر للسفر للمدينة المنورة وسأل الله أن يصله الرد قبل مبارحته لها. فأكد له حضرة الباب الإجابة قائلاً: ’أثناء سفري للمدينة المنورة سأجيب عن أسئلتك بحول الله وعونه فإذا لم أقابلك

صورة 63
لباس الإحرام الذي ارتداه حضرة الباب
في طوافه حول الكعبة المشرفة

هناك فإن جوابي يصلك بعد وصولك إلى كربلاء، وأنتظر منك الوفاء بالعدل والإنصاف "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها."(1) "إن الله لغني عن العالمين."(2)‘

وقبل مغادرته، جدد ميرزا محيط عزمه على الوفاء بالعهد الذي قطعه مؤكدًا لحضرة الباب: ’لن أترك المدينة المنورة حتى أوفي بعهدي معك مهما يكن.‘ وفرّ من أمام وجه حضرة الباب مرعوبًا كأنه هباء أمام العاصفة وهو عاجز عن مقاومة العظمة الساحقة لإعلان حضرة الباب دعوته. ومكث فترة قصيرة في المدينة المنورة ثم تركها إلى كربلاء غير موفٍ بالعهد الذي قطعه على نفسه ولا مبالٍ بتوبيخ ضميره.

وصدق حضرة الباب في وعده وكتب في طريقه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة إجابات عن الأسئلة التي أشكلت ذهن ميرزا محيط وسمّاها "صحيفة بين الحرمين". أما ميرزا محيط الذي استلم الرسالة في أوائل أيام وصوله إلى كربلاء فلم يتأثر من نبرتها ولم يقبل ما دوّن بها من الأصول. فكان موقفه بالنسبة لأمر الله معارضة مستورة محمومة. وكان أحيانًا يدّعي أنه تابع ومساعد للحاج ميرزا كريم خان الخصم الشرير لحضرة الباب، وأحيانا يدّعي أنه مرشد مستقل بنفسه. وقرب انتهاء حياته بينما كان مقيمًا في العراق تظاهر بالخضوع لحضرة بهاءالله وبواسطة أحد الأمراء القاطنين في بغداد أظهر الرغبة في مقابلته. وطلب أن تكون مقابلته المقترحة سرًا لا يعلم بها أحد. فأجابه حضرة بهاءالله: ’أخبره بأني في الأيام التي كنت فيها في جبال السليمانية كتبت رسالة بيّنت فيها الواجبات المفروضة على كل طالب يريد أن يسلك طريق البحث عن الحق، فاذكر له هذه القطعة منها "إن أردت أن تتمتع بالحياة الدنيا فلا تقرب لساحتنا، وإذا كان مرغوب فؤادك التضحية، فاحْضَر وأحضِر غيرك معك، فهذا هو سبيل الإيمان إن كنت تريد أن تسلك بقلبك مع البهاء. وأما إذا كنت ترفض أن تتخذ هذا السبيل، فلماذا تتعبنا؟" فاذهب إليه فإنه لو يريد ليسرع لمقابلتنا دون قيد ولا شرط، وإلا فإني لا أريد أن أراه.‘ وكان رد حضرة بهاءالله المحكم قد أقلق بال ميرزا محيط. ولما رأى نفسه غير قادر على المقاومة

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 7.
(2) القرآن الكريم، سورة العنكبوت، الآية 6.
صورة 64
رسم المدينة المنورة

ولا على الطاعة، سافر إلى كربلاء موطنه في نفس اليوم الذي وصلته الرسالة ومرض هناك وتوفي بعد ثلاثة أيام.

وما أن أتم حضرة الباب مناسك الحج الأخيرة في مكة، حتى كتب رسالة إلى شريف تلك المدينة المقدسة يبين له فيها بوضوح تام معالم رسالته، وطلب منه أن يقوم ويعتنق دعوته. وسلّم حضرة الباب تلك الرسالة مع بعض كتابات أخرى إلى القدوس وأمره أن يقدّمها بنفسه إلى الشريف. ولما كان الأخير منهمكًا في شؤونه الدنيوية الخاصة لم يلق بالاً لاستماع النداء الإلهي. وسُمع الحاج نياز البغدادي يروي ما يلي: ’في سنة 1267ﻫ،(1) ذهبت للحج إلى تلك المدينة المقدسة حيث تشرفت بمقابلة الشريف، وأثناء محادثته قال لي: ’’أتذكر إني في سنة 1260ﻫ حضر شاب لمقابلتي أثناء موسم الحج وسلمني كتابًا مختومًا، فأخذته، ولانشغالي وقتها لم أتمكن من قرائته. وبعد مرور أيام قابلني الشاب نفسه وسألني إذا كان هناك جواب عندي، ولكثرة أشغالي أيضًا لم أتمكن وقتها

________________________
(1) سنة 1850-1851م.

من قراءة محتويات الكتاب، ولذلك لم أتمكن من إعطائه ردًا مقبولاً. ولما انتهى موسم الحج، وبينما كنت أرتب رسائلي يومًا ما، وقع نظري على ذلك الكتاب بالصدفة، ففتحته ووجدت في صفحات مقدمته مواعظ حسنة محررة بلغة شبيهة جدًا بالقرآن. وكل ما فهمته من قراءة الكتاب هو أن رجلاً من سلالة فاطمة من نسل هاشم قام بين أقوام الفرس بدعوة جديدة وأعلن لجميع الأقوام ظهور القائم الموعود. وبقيت غير عالم بمؤلف ذلك الكتاب، ولم أطلع على الظروف التي أحاطت ذلك النداء.‘‘ فقلت له: ’’لقد حصل في تلك البلاد اضطراب عظيم في السنوات الأخيرة، فإن شابًا من سلالة النبي يشتغل بالتجارة، ادعى أن كلامه موحَى به من الله. وأعلن أنه في ظرف بضعة أيام تخرج من فمه آيات تزيد في الحجم والحسن على جملة القرآن نفسه الذي أوحي به إلى الرسول في ظرف ثلاث وعشرين سنة. وانضم تحت لوائه جمع غفير من الناس من الأعالي والأداني من علماء وموظفين من أهالي إيران، وضحوا بأنفسهم فداء في سبيله. واستشهد هذا الشاب في السنة الماضية في أواخر شهر شعبان(1) في تبريز في إقليم آذربيجان. وأراد الذين قتلوه أن يطفئوا بقتله ذلك النور الذي أشعله في تلك البلاد، إلا أن تأثير أمره ازداد منذ حصول تلك الشهادة وانتشر بين جميع الأمم والأفراد.‘‘ وكان الشريف يستمع بسكون وانتباه، وأعرب عن استنكاره لتصرف الذين اضطهدوا حضرة الباب. وقال صائحًا: ’’ألا لعنة الله على هؤلاء الأشرار الذين عاملوا في الماضي أسلافنا اللامعين الأتقياء بنفس هذه المعاملة.‘‘ وبهذه الكلمات أتم الشريف محادثته معي.‘

وسافر حضرة الباب من مكة إلى المدينة المنورة في أول محرم سنة 1261ﻫ،(2) وإذ كان يقترب منها تذكر الحوادث المؤلمة التي خلدت ذكرى ذلكم الذي عاش ومات بين أسوارها. وتجلت أمام عينيه من خلال تلك المناظر تلك القوة الخلاقة التي ظهرت من ذلك الرسول العبقري الخالد. وكان يكثر من الصلاة والمناجاة كلما اقترب من ذلك الحرم المقدس الذي ضم رفات رسول الله ﷺ. وكذلك تذكر أثناء سيره على

________________________
(1) يوليو/تموز سنة 1850م.
(2) الجمعة 30 يناير/كانون الثاني سنة 1845م.

تراب تلك الأرض المقدسة، ذلك المنادي الذي بشر الناس بدورته الجديدة. فكان حضرته يعلم أنه يوجد في مقبرة البقيع، قريبًا من المقام النبوي والحرم المقدس، قبر الشيخ أحمد الأحسائي، المبشر بظهور حضرته، والذي قرر أن يمضي بجوار ذلك الحرم المقدس ما تبقى من أيام حياته المتعبة التي وهبها للخدمة. وهناك أيضًا تمثلت أمامه ذكرى أولئك الرجال الورعين والمهاجرين وشهداء أمر الله الذين سقطوا ماجدين في ميدان المعركة والذين ختموا بدمائهم نصرة دين الله. وكأن ترابهم المقدس قد حيّ من مرور أقدامه فظهرت له أشباحهم وتحركت من نفثاته المحيية للنفوس، وكانوا كأنهم قد قاموا من مراقدهم ينظرون إليه مسرعين ورافعين أصواتهم بالترحيب كأنهم يخاطبونه وهم متضرعون: ’نتوسل إليك ألا ترجع إلى موطنك يا محبوب قلوبنا، بل اسكن بيننا لأننا هنا بعيدون عن الاضطراب الذي سيحصل من أعدائك فهم مترصدون لرجوعك. أما هنا فإنك تكون آمنًا مطمئنًا، وإنا نخاف عليك ونخشى من مكائد أعدائك ومكرهم. ونرتعد عندما نفكر أن أعمالهم سوف تجلب على أرواحهم الدمار الأبدي.‘ وكأن حضرة الباب يجيبهم بروحه التي لا تقهر: ’لا تخافوا. فقد حضرت إلى هذا العالم لأشاهد جلال التضحية والفداء، وأنتم تعلمون شوقي له وتدركون درجة إنقطاعي. إذًا تضرعوا إلى الله ربكم أن يسرع بساعة شهادتي وأن يقبل مني تضحيتي. فافرحوا لأني أنا والقدوس سوف نذبح على مذبح إخلاصنا لمليك البهاء. فإن الدم الذي قدر لنا أن نسفكه في سبيله سيروي ويحيي حديقة سعادتنا الأبدية. وقطرات هذا الدم ستكون بذرًا تنبت منه شجرة الله القوية التي سوف تجمع في ظلها الوارف كل أمم الأرض ومللها. فلا تحزنوا إذا سافرت من هذه الأرض وأسرعت لإتمام مأموريتي.‘

***
صفحة خالية
الفصل الثامن
إقامة حضرة الباب في شيراز بعد الحج

وكانت زيارة حضرة الباب للمدينة المنورة آخر مرحلة في حجه بالحجاز. ومن هناك عاد إلى جدة ومنها أبحر إلى موطنه ونزل في بوشهر بعد غياب تسعة أشهر قمرية منذ سافر منها إلى الحج. وقابل أصحابه ومعارفه الذين حضروا للترحيب به في نفس الخان الذي نزل به سابقًا. وبينما كان مقيمًا في بوشهر، طلب القدوس لمحضره، وأمره بكل لطف أن يسافر إلى شيراز، وقال له: ’إن أيام صحبتك لي قد قاربت الانتهاء. وقد دقت ساعة الافتراق الذي لا يعقبه اجتماع إلا في ملكوت الله في حضور مليك البهاء. ففي هذا العالم الترابي لم يقدر لك الاجتماع بي سوى تسعة أشهر عابرة، وهناك على شواطئ بحر البعد الأكبر في عالم الخلد ينتظرنا الاجتماع الأبدي بالفرح والسرور، وسوف تغمسك يد القضاء في بحر من البلاء لأجل وجه المحبوب وسأتبعك وأنغمس معك في أعماقه. فابتهج بسرور عظيم لأنك انتخبت حاملاً للواء فيلق الرزايا والفجائع وستكون في طليعة ذلك الجيش النبيل الذي سيتجرع كأس الشهادة لأجل اسمه. وفي شوارع شيراز سوف تنزل عليك كل الإهانات والشدائد ويصيب جسمك أشد أنواع الأذى ولكنك سوف تتغلب على نكبات الأعداء ويمتد عمرك إلى أن تحضر بين يدَي من هو مقصود محبتنا وعشقنا. وستنسى في محضره كل أذى وهوان أصابك. وسوف تتقدم جنود الغيب لتؤيدك وتعلن شجاعتك وعظمتك لكل العالم. وسيكون نصيبك الابتهاج الذي لا يوصف عند تجرعك كأس الشهادة لأجله. وسوف أسير أنا أيضًا في طريق الفداء هنا وأجتمع بك في الملكوت الأبدي.‘ ثم أعطاه

حضرة الباب رسالة كتبها إلى خاله الحاج ميرزا سيد علي، يخبره فيها بسلامة وصوله إلى بوشهر وكذلك ائتمنه بنسخة من "الخصائل السبع" وهي رسالة ذكر فيها الشروط الأساسية التي يجب على الذين آمنوا بالأمر الجديد واعترفوا بدعوته أن يسيروا بمقتضاها. وفي وقت توديعه الأخير للقدوس، سأله أن يبلغ تحياته إلى كل فرد من أحبائه في شيراز.

وسافر القدوس من بوشهر وهو عازم عزمًا أكيدًا على تنفيذ رغبات سيده. ولما وصل إلى شيراز قابله الحاج ميرزا سيد علي بكل محبة واستضافه في منزله وسأله بشغف عن صحة ابن أخته المحبوب وأعماله. ولما وجده القدوس مستعدًا لسماع النداء، أخبره بطبيعة الدعوة الجديدة التي جاء بها هذا الشاب والتي سبق لها أن أشعلت روحه. فكان خال حضرة الباب، بجهد القدوس، أول من آمن واعتنق الأمر في شيراز بعد حروف الحيّ. ولما كانت عظمة الأمر مستورة، لم يكن لديه اطلاع كاف بمغزاه ومدى سطوته. ولكن محادثته مع القدوس كشفت الغطاء عن عينيه وأصبح منذ ذلك الوقت مستقيمًا على أمر الله، وزادت محبته لحضرة الباب حتى إنه خصص باقي حياته لخدمته، وبذل أقصى جهده للدفاع عن أمره وحماية شخص حضرة الباب، ولم يعبأ بالمتاعب في أعماله المتواصلة ولا بالتعب ولم يكترث حتى بالموت. ورغمًا عن أنه كان معروفًا من أصحاب الأعمال المرموقين في تلك المدينة فإنه لم يقبل أن يجعل للأمور المادية أي تأثير على ما أخذه على عاتقه من المسؤولية الروحية لحفظ شخص قريبه المحبوب، وإعلاء أمره، وواظب على عمله إلى آخر نسمة من حياته، حيث انضم إلى الشهداء السبعة في طهران وضحّى بحياته لأجله بشجاعة نادرة لا مثيل لها.

أما الشخص التالي الذي قابله القدوس في شيراز، فكان اسم الله الأصدق، الملاّ صادق الخراساني، والذي سلمه رسالة "الخصائل السبع" وأمره بضرورة إجراء كل مضامينها. وكان من ضمن وصاياها التأكيد على كل مؤمن مخلص أن يضيف على صيغة الأذان "وأشهد أن عليًّا قبل محمد(1) هو عبد بقية الله".(2) وكان الملاّ صادق يخطب في تلك الأيام من المنبر على

________________________
(1) إشارة إلى حضرة الباب.
(2) إشارة إلى حضرة بهاءالله.
صورة 65
صورة 66
مناظر مسجد نوّ

الجماهير عن فضائل أئمة الدين، فانجذب من فحوى الرسالة ولغتها ولم يتردد في تنفيذ ما جاء فيها. وذات يوم بينما كان يؤم الناس في الصلاة في مسجد "نوّ"، أعلن الجملة الإضافية التي أمر بها حضرة الباب في الأذان، وهو مسوق بتلك القوة القاهرة المكنونة في اللوح. فصعق الجمهور الذي سمعه وامتلك الرعب والذعر كل المستمعين، وصاح العلماء الذين كانوا في الصف الأول من المصلين والذين اشتهروا بالورع والتقوى، قائلين: ’الويل لنا نحن حماة دين الله، ألا فانظروا كيف أن هذا الرجل قد رفع علم الكفر، فليسقط هذا الخائن المارق الذي نطق بالكفر. اقبضوا عليه فإنه خزي وعار على الدين، فمن ذا الذي يتجاسر أن يخرج بهذه الكيفية عن قواعد الإسلام المقررة؟ ومن ذا الذي يدّعي أنه يصل إلى هذا المقام الرفيع؟‘

فردد السكان احتجاجات هؤلاء العلماء وقاموا بتعزيز جلبتهم وضجيجهم. وماجت المدينة بأسرها واضطرب حبل الأمن واختل النظام. فتدخل حسين خان الإيرواني حاكم فارس الملقب أجودان باشي ومعروف في تلك الأيام بلقب "صاحب الاختيار"،(1) ووجد من الضروري التحري في سبب هذا الهيجان الفجائي. فأخبروه بأن تلميذًا من تلاميذ السيد الباب الذي رجع توًا من حجه في مكة المكرمة والمدينة المنورة والذي هو قاطن الآن في بوشهر، قد وصل إلى شيراز وقام على تنفيذ تعاليم سيده، وهذا التلميذ يدّعي أن سيده أتى بشرع جديد وأنزل كتابًا يؤكد أنه موحى به من الله. وقد اعتنق الملاّ صادق الخراساني ذلك الأمر، وهو يدعو الناس جهارًا دون خوف إلى قبول الرسالة ويعلمهم أن أول واجب على كل مؤمن شيعي تقي أن يقبلها.

فأمر حسين خان بالقبض على كل من القدوس والملاّ صادق وأمر الشرطة أن يحضروهما أمامه مقيدي الأيدي. فأحضروهما وأحضروا معهما أيضًا كتاب "قيّوم الأسماء" الذي انتزعوه من يد الملاّ صادق بينما كان يتلو بعض فقراته بصوت جهوري على الجمهور المتهيج، ولما كان القدوس أصغر سنًا ويرتدي ملابس غير مألوفة، فقد تجاهله حسين خان في البداية وفضّل توجيه ملاحظاته إلى الملاّ صادق الأكبر سنًا

________________________

(1) ’ويدعى أيضًا "نظام الدولة".‘ ("التاريخ الجديد" للحاج ميرزا جاني، الصفحة 204)

والأوقر هيئة، فسأله بغضب: ’أخبرني إذا كنت تعلم بما تضمنه افتتاح كتاب "قيوم الأسماء" عندما يخاطب السيد الباب حكام الأرض وملوكها ويقول "يا معشر الملوك وأبناء الملوك انصرفوا عن ملك الله" وكذلك "يا وزير الملك خف عن الله الذي لا إله إلا هو الحق العادل واعزل نفسك عن الملك فإنا نحن قد نرث الأرض ومن عليها بإذن الله الحكيم وإنه قد كان بالحق عليك وعلى الملك شهيدًا". فإذا صدق هذا القول، فهل يسري ذلك على مليكي محمد شاه من عائلة القاجار(1) الذي أنا أمثله هنا كحاكم على هذه المدينة، فهل يجب على محمد شاه أن يتنازل عن تاج ملكه ويترك السلطنة؟ وهل عليّ أن أترك عملي وأتنازل عن سلطتي؟‘ فأجابه الملاّ صادق بلا تردد: ’عندما يتقرر صدق الرسالة التي أتى بها صاحب هذا الكلمات ويثبت صحتها، يثبت صحة كل ما نزل من قلمه وما صدر من فمه. فإذا كانت هذه هي كلمات الله فلا يهم تنازل محمد شاه وأمثاله فذلك لا يبدل شيئًا من أمر الله أو يحجبه ولا يغيّر سلطنة الملك الأزلي القدير.‘(2)

فغضب ذلك الحاكم القاسي الفاسق غضبًا شديدًا من هذه الإجابة، وأخذ في سبّه وشتمه، وأمر أتباعه أن يخلعوا ملابسه ويجلدوه ألف مرة. وأمر بحرق لحية كل من القدوس والملاّ صادق وأن يُثقب أنفهما ويخزما ويربطا بحبل يدخل فيهما ويطاف بهما على هذه الحالة مقيدين في سائر أنحاء المدينة،(3) وأعلن حسين خان: ’إن ذلك يكون درسًا قاسيًا حيًّا لأهالي شيراز جميعهم ليعلموا منه عقاب الكفر.‘ وكان الملاّ صادق يمشي بهدوء ورباطة جأش رافعًا عينيه إلى السماء وسُمع يتلو قوله تعالى: "ربنا إنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنّا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفنا

________________________

(1) ’والقاجار إحدى قبائل توران وهي عائلة تركية ظهرت أولاً في إيران ضمن الجيش الفاتح الذي غزاها تحت إمرة گنكيز خان.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحة 339)

(2) ’حصل هذا الاجتماع في 6 أغسطس/آب سنة 1845م.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الحاشية رقم 175، الصفحة 225)

(3) وتبعًا ﻟ"مقالة سائح" (الصفحة 5، في الترجمة العربية) حصل نفس هذا الاضطهاد لشخص ثالث كان معهما وهو الملاّ علي أكبر الأردِستاني.

مع الأبرار."(1) وسلّم الاثنان أمرهما لقضاء الله وهما على ثبات عظيم، وقام المأمورون بإيقاع العقاب الوحشي وتنفيذه بكل نشاط وقوة. ولم يتدخل لمصلحة هذين المعذبين أحد ولا للدفاع عنهما. وبعد ذلك بوقت قصير طردا من شيراز، وقبل طردهما حُذّرا إنهما لو حاولا العودة إلى هذه المدينة فإنهما يصلبان. وبتعذيبهما حازا قصب السبق في ميدان الاضطهاد الواقع في أرض إيران لأجل دينهما. فإن الملاّ علي البسطامي ولو إنه كان أول ضحية لكراهية عدو لا يلين، إلا أنه أصابه الاضطهاد في أرض العراق خارج حدود إيران ولم تكن الاضطهادات التي وقعت عليه بدرجة القسوة الوحشية والشناعة التي حصلت للقدوس والملاّ صادق.

وقد روى لي شاهد عيان من سكان شيراز، لم يكن مؤمنًا، قال: ’كنت حاضرًا إذ كانوا يجلدون الملاّ صادق. وكنت أرى كيف كان مضطهدوه يتناوبون الجلد على كتفيه الداميتين، واستمر جلده حتى أنهكت قواه ولم يكن أحد يصدق أن الملاّ صادق وهو طاعن في السن وضعيف البنية يقدر أن يتحمل أكثر من خمسين جلدة من هذا الجلد الوحشي. وكنا نعجب من تحمله إذ علمنا أن عدد الجلدات قد زاد على تسعمائة ومع ذلك احتفظ وجهه بوقاره وهدوئه المعهودين. وكانت تلوح على وجهه ابتسامة وهو واضع يده على فمه ويظهر عدم المبالاة بالضربات التي كانت تمطر عليه. وقد اجتهدت حتى وصلت إليه بعد طرده من المدينة، وسألته لماذا كان يضع يده على فمه؟ وأظهرت له تعجبي من تبسمه. فأكد لي قائلاً: ’’كنت شديد التألم في السبع جلدات الأولى، وأما باقي الجلدات فيبدو أنني أصبحت غير مبال بها. وكنت أتعجب هل كانت الجلدات التالية تنزل على جسمي أم لا؟ فقد احتل روحي إحساس فرح وانشراح، وكنت أجتهد أن أخفي مشاعري وأمنع ضحكي. والآن أدرك كيف أن ربنا المخلّص قادر أن يغير الألم بالراحة والحزن بالسرور في أقل من لمح البصر، تعالت قدرته فوق إدراكات خلقه الفانين.‘‘ ‘ فلما قابلت الملاّ صادق بعد مرور عدة سنين أكد لي صحة تفاصيل تلك الحادثة المؤثرة.

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 193.

ولم يشف غليل حسين خان بإيقاع هذه العقوبة القاسية غير المستحقة، بل إن قسوته الوحشية النزوية وجدت منفذًا إضافيًا في إيقاع الأذى بشخص حضرة الباب.(1) فأرسل إلى بوشهر خيّالة من حرسه الخاص وأعطاهم أوامر مشددة للقبض على حضرة الباب وتكبيله وإحضاره إلى شيراز، وكان رئيس الحرس من النصيرية المعروفين ﺑ"عليّ اللّهي". وقد حكى ما يأتي: ’عندما فرغنا من المرحلة الثالثة من سفرنا إلى بوشهر، وجدنا في البرية شابًا يتمنطق بحزام أخضر وعمامة صغيرة كما يلبس عادة الأسياد الذين يحترفون التجارة. وكان ممتطيًا جواده وخلفه خادم حبشي يحرس أمتعته. وعندما اقتربنا منه، ألقى علينا التحية وسألنا عن وجهتنا. وكنت أريد أن أخفي عنه مأموريتنا، فقلت له أن حاكم فارس أمرنا بمهمة في تلك الجهة، فتبسم قائلاً: ’’إن الحاكم أرسلكم للقبض عليّ، فها أنا ذا اعملوا معي كما تريدون وحضرت لمقابلتكم كي أوفر عليكم السير وسهلت لكم المأمورية في البحث عني.‘‘ فدهشت من إجابته وأعجبت من صراحته واستقامته، ولم أقدر أن أفهم سبب استعداده لتقديم نفسه من تلقاء ذاته إلى تعذيب موظفي الحكومة وتحمل الخطر على حياته وسلامته، واجتهدت أن أتجاهله وأظهرت استعدادي لتركه والارتحال بعيدًا عنه، ولكنه اقترب مني وقال: ’’قسمًا بالحق الذي خلق الإنسان وميّزه وفضّله على جميع خلقه وجعل قلبه مقر سلطنته ومعرفته إني في جميع أدوار حياتي لم أتكلم إلا بالحق ولم يكن

________________________

(1) ’وأصبحت هذه المدينة مسرحًا لمجادلات عنيفة أقلقت الأمن العام. فكان الفضوليون والحجاج ومروجو الإشاعات قد اجتمعوا فيها يعلقون على الأنباء، مادحين أو لائمين السيد الباب، أو على النقيض من ذلك يكيلون له اللعن والشتم. وكان كل إنسان متهيجًا واهنًا. وانزعج الملاّوات لازدياد عدد المؤمنين بالأمر الجديد ونقصت بالتالي الموارد التي كانت تدر عليهم المال. فأصبح من الضروري التصرف حيال الأمور إذ وجدوا بأن التسامح في هذا الشأن يخلي المساجد من أتباعهم الذين اقتنعوا بأنه طالما لم يدافع الإسلام عن نفسه، فإنه يعترف بالهزيمة. من جهة أخرى خشي حسين خان، نظام الدولة وحاكم شيراز أنه لو ترك الحبل على الغارب فإن الحالة قد تصل إلى درجة لا يمكن معها قمع الهياج فيما بعد، ويكون ذلك بمثابة التودد إلى العار. كما أن الباب لم يقنع بالوعظ والتبشير بل دعا إليه رجالاً سليمي الطوية قائلاً: "إن الذي يعرف كلمة الله ولم يأت لمساعدته في أيام العنف فهو كالذي فر من شهادة الحسين ابن علي في كربلاء وكان من الكافرين."‘ (كتاب "بين الحرمين"). فاجتمعت المصالح المدنية والمصالح السماوية أي اتفق نظام الدولة مع الشيخ أبو تراب إمام الجمعة وأرادا مواجهة الداعي الجديد بما يكون سببًا لسقوطه في أعين مواطنيه وبذلك ربما تمكنا من تهدئة الخواطر.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 229-230)

لي قصد سوى تقدم أبناء جنسي تاركًا راحتي ولم أكن سببًا في حزن أو أذى أحد وإني أعلم أنكم تبحثون عني، لذلك فضّلت أن أقدم نفسي لكم بدلاً من أن تتعرضوا للمسؤولية أو تتحملوا مشقة غير لازمة.‘‘ فحركت هذه الكلمات أعماق قلبي وترجلت عفويًا عن جوادي وقبّلت ركابه وخاطبته بهذه الكلمات: ’’يا نور عين رسول الله! أستحلفك بالذي خلقك وأعطاك القوة والمقام الأعلى بأن تقبل رجائي وتجيب تضرعي وتهرب من هذا المكان وتتجنب الحضور أمام وجه حسين خان حاكم هذه المقاطعة القاسي السافل، فإني أخاف عليك من مكره ولا أرضى أن يقع رجل مثلك من سلالة الرسول تحت تأثير دسائسه الخبيثة. أما أعواني فكلهم رجال أشراف وتربطهم كلمتهم. وهم يتعهدون أن لا يفشوا سرّ هربك. فأتوسل إليك أن تحتمي في مدينة مشهد في خراسان وتتجنب الوقوع فريسة لوحشية هذا الذئب الفتاك.‘‘ فأجاب على توسلاتي قائلاً: ’’جازاك الله عني كل خير لنبل مقصدك وشهامتك. ولكن لا يوجد أحد يعلم سر أمري أو يطلع على خافيته، فلن أحوّل وجهي أبدًا عن أمر الله وقضائه فهو كهفي ووليي وملجئي. وإلى أن تأتي ساعتي الأخيرة لا يقدر أحد أن يضرّني ولا أن يبطل حكم الله القادر. وإذا أتت ساعتي فما أعظم سروري بتجرع كأس الشهادة لأجل اسمه! فها أنا ذا سلّمني ليد سيدك ولا تخف لأنه لن يلومك في ذلك أحد.‘‘ فامتثلت لإرادته ونفذت رغبته.‘

واستأنف حضرة الباب على الفور سفره إلى شيراز وكان يسير أمام الحرس دون قيد، وهم يتبعونه بكل إجلال واحترام. وتمكن بتأثير سحر كلماته أن يبعد عن قلوب الحرس كل عداء وأن يقلب كبرياءهم إلى الخضوع والمحبة. ولما وصلوا إلى المدينة، ذهبوا توًا إلى مقر الحكومة وكان كل من رأى موكب الفرسان وهو يسير في المدينة لا يسعه إلا الإعجاب بذلك المنظر غير المألوف. وبمجرد أن أُخبر حسين خان بوصول حضرة الباب، استدعاه إلى محضره وقابله بكل وقاحة وأمره أن يجلس على كرسي أمامه في وسط الغرفة. ووبخّه أمام العموم ولامه على سلوكه بألفاظ بذيئة واحتج عليه غاضبًا بقوله: ’ألا تعلم ما جلبه عملك من المفاسد؟ وبأنك صرت لعنة على دين الإسلام المقدس وعظمة شخص مليكنا؟ ألست ذلك الرجل الذي تدعي أنك مبتدع أمرًا جديدًا يلغي أحكام القرآن المقدسة؟‘ فأجاب حضرة

الباب بهدوء: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين."(1) فأثارت هذه الكلمات التي نطق بها حضرة الباب غضب حسين خان، وصاح قائلاً: ’ماذا تقول؟ هل يجوز أن تنسب إلينا الفسق والجهل؟‘ وأمر مرافقه أن يصفع حضرة الباب على وجهه، فكانت اللطمة شديدة بدرجة أن عمامته وقعت على الأرض. ولكن الشيخ أبو تراب إمام الجمعة في شيراز الذي كان حاضرًا في ذلك الاجتماع، والذي كان رافضًا تصرف حسين خان، أمر بإعادة عمامة حضرة الباب وطلب منه أن يجلس بجانبه. والتفت إلى الحاكم وشرح له الظروف التي نزلت فيها الآية القرآنية التي اقتبسها حضرة الباب، وأراد بهذه الوسيلة أن يهدّي ثورة غضبه، وقال له: ’إن هذه الآية التي ذكرها هذا الشاب قد أثرت في نفسي تأثيرًا بليغًا وأرى أن الطريق القويم هو البحث في هذا الموضوع بكل اعتناء وتدقيق ثم الحكم في هذه المسألة بمقتضى أحكام الكتاب.‘ فوافق حسين خان على ذلك، وبعد ذلك أخذ الشيخ أبو تراب يسأل حضرة الباب عن طبيعة أمره وميزاته. فأنكر حضرة الباب أنه وكيل القائم الموعود أو الواسطة بينه وبين المؤمنين، فأجاب إمام الجمعة: ’نحن قد اقتنعنا تمامًا، ونطلب منك أن تظهر للناس يوم الجمعة في مسجد الوكيل وتعلن هذا الإنكار أمام العموم.‘ وإذ قام الشيخ أبو تراب للمغادرة وآملاً في إنهاء الترتيبات اللازمة، تدخل حسين خان قائلاً: ’يلزمنا أن نأخذ الضمان الكافي من شخص محترم وأن تكون الضمانة كتابية حتى إذا همّ هذا الشاب في المستقبل، بكلماته أو أعماله، أن يوقع الضرر بدين الإسلام أو بحكومة هذه البلاد، فإنه يحضره في الحال لنا ويكون مسؤولاً في كل الأحوال عن سلوكه.‘ فقبل الحاج ميرزا سيد علي، خال حضرة الباب، الذي كان حاضرًا في ذلك الاجتماع، أن يكون كفيلاً لابن أخته، وكتب بخطه صورة الضمانة وختم عليها بخاتمه وأيدها بإمضاء شهود عديدين وسلمها للحاكم. وبناء على ذلك أمر حسين خان أن يسلّم إلى حفظ خاله وكفالته بشرط أنه في أي وقت يجد الحاكم ضرورة إحضاره، يقوم الحاج ميرزا سيد علي بتسليم حضرة الباب إليه.

وقد امتلأ قلب الحاج ميرزا سيد علي بالشكر لله، وأخذ حضرة الباب إلى منزله وسلّمه

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 6.

إلى حفظ والدته المصون. وابتهج من هذا الاجتماع العائلي وحمد الله على خلاص قريبه المحبوب من يد ذلك الطاغية الشرير. فأمضى حضرة الباب وقتًا من الهدوء بمنزله الخاص ولم يتصل به سوى زوجته ووالدته وأخواله. وفي تلك الأثناء كان أهل السوء يلحون على الشيخ أبو تراب لدعوة حضرة الباب لمسجد الوكيل ليوفي بوعده. وكان الشيخ أبو تراب معروفًا بمزاجه اللطيف ويوافق في طبيعته وأخلاقه المرحوم ميرزا أبو القاسم إمام الجمعة في طهران. فكان يتردد جدًا في معاملة الأشخاص ذوي الحيثية بالإهانة وخاصة إذا كانوا من أهالي شيراز ويرى بالفطرة أن ذلك من واجبه، حتى إن أهالي تلك المدينة يجلّونه ويحترمونه لهذا السبب. فكان يسوّف المسألة جملة مرات ويجيب بأجوبة غير صريحة، حتى يخفف بذلك من غلواء الجمهور. ولكنه وجد بأن المفسدين تشبثوا بكل وسيلة لتحريك أحاسيس العامة وإشعال هياجهم. وأخيرًا اضطر لإرسال رسالة سرّية إلى الحاج ميرزا سيد علي، يطلب منه أن يحضر حضرة الباب يوم الجمعة إلى مسجد الوكيل حتى يوفي بالتعهد الذي أعطاه. وقال له: ’أرجو أن تكون أقوال ابن أختك بعون الله سببًا في إخماد الهياج وتهدئة الخواطر حتى بذلك ترتاح ونرتاح معك.‘

ووصل حضرة الباب إلى المسجد مع الحاج ميرزا سيد علي في الوقت الذي صعد فيه إمام الجمعة إلى المنبر وأوشك على البدء بموعظته. وبمجرد أن وقعت عيناه على حضرة الباب، أعلن ترحيبه به وطلب إليه أن يصعد المنبر ويخطب في الناس. فتقدم حضرة الباب إجابة لطلبه ووقف على الدرجة الأولى من المنبر وتهيأ ليخطب في الحاضرين، فطلب منه إمام الجمعة أن يصعد المنبر، فصعد درجتين طبقًا لإرادته، بحيث كان وهو واقف يحجب برأسه صدر الشيخ أبو تراب الذي كان على أعلى المنبر. وابتدأ إقراره بمقدمة، وما كاد ينطق بقوله: ’الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بالحق.‘ حتى اعترضه سيد يعرف باسم "سيد شِش پري"، وظيفته حمل الصولجان أمام إمام الجمعة، وصاح بوقاحة قائلاً: ’كفى هذا الكلام الفارغ! أسرع وقرر الشيء الذي تريد أن تقوله.‘ فغضب إمام الجمعة غضبًا شديدًا من وقاحة هذا السيد ووبخه قائلاً: ’اسكت يا هذا واخجل من وقاحتك.‘ ثم التفت إلى حضرة الباب وسأله أن يختصر في القول حتى يسكن هياج العامة. فواجه حضرة الباب

صورة 67
قسم من الداخل
صورة 68
المنبر الذي اعتلاه حضرة
الباب مخاطبًا المصلين
صورة 69
مدخل المسجد
مناظر مسجد الوكيل، شيراز

الجمع المحتشد وقال: ’لينزل غضب الله على كل من يعتبرني وكيلاً عن الإمام أو الباب إليه. لينزل غضب الله أيضًا على كل من ينسب إليّ إنكار وحدانية الله أو إنكار نبوة محمد خاتم النبيين أو رسالة أي من رسل الله أو وصاية علي أمير المؤمنين أو أي أحد من الأئمة الذين خلفوه.‘ ثم صعد إلى ذروة المنبر وعانق إمام الجمعة، ثم نزل إلى أرض المسجد وانضم إلى المؤمنين لأداء صلاة الجمعة. فتدخل إمام الجمعة وطلب منه الانسحاب وقال له: إن أسرتك تنتظر عودتك بقلق بالغ. وجميعهم يخشون أن تصاب بمكروه. فاذهب إلى منزلك وأقم صلاتك هناك فهذا أفضل لك في نظر الله.‘ كذلك طلب إمام الجمعة من الحاج ميرزا سيد علي أن يرافق ابن أخته إلى منزله. وكان هذا التدبير الاحترازي من إمام الجمعة خوفًا من اعتداء بعض الحمقى للإضرار بشخص حضرة الباب أو إيقاع حياته في خطر بعد الصلاة. ولولا حكمة إمام الجمعة ومحبته ورعايته التي أظهرها في عدة مناسبات، لكان الجمهور الهائج قد انقض على حضرة الباب ليتشفى منه بوحشية ولارتكب معه أفظع اعتداء. فكان ذلك الإمام كآلة ليد الغيب تعمل لحفظ كل من شخص ذلك الشاب ورسالته.(1)

وعاد حضرة الباب إلى منزله وأمضى ردحًا من الزمن بعيشة هادئة مع أسرته وأقربائه. وفي تلك الأيام احتفل بأول عيد للنوروز منذ إعلانه دعوته. وقد صادف ذلك العيد في تلك السنة اليوم العاشر من شهر ربيع الأول سنة 1261ﻫ.(2)

وكان عدد قليل ممن حضروا تلك الحادثة الشهيرة في مسجد الوكيل، وسمعوا بيانات حضرة الباب، قد أعجبوا جدًا بالأسلوب الرائع الذي نجح به ذلك الشاب في إسكات مقاوميه الأشداء دون أن يساعده أحد في ذلك. فلم يمض على تلك الحادثة وقت طويل حتى عرف كل واحد منهم حقيقة رسالة حضرة الباب وأدرك جلالها. وكان

________________________

(1) ’وكانت نتيجة هذا الاجتماع الذي رتبه الملاّوات بحماقتهم انجذاب العديد من المؤمنين وزاد الاضطراب في سائر مقاطعات إيران، وتفاقم النزاع إلى حالة من الخطر بحيث اضطر محمد شاه أن يرسل رجلاً إلى شيراز كان موضع ثقته الكاملة ليكتب له تقريرًا بكل ما يراه ويعلمه. وكان هذا المبعوث هو السيد يحيى الدارابي.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 232-233)

(2) مارس/آذار سنة 1845م.

من بينهم الشيخ علي ميرزا ابن أخت إمام الجمعة نفسه، وكان شابًا وصل إلى سن البلوغ وأينعت البذرة التي زرعت في قلبه ونمت، حتى إنه في سنة 1267ﻫ تشرف بمحضر حضرة بهاءالله في العراق. وامتلأ من تلك المقابلة حماسًا وفرحًا، وإذ رجع إلى موطنه ضاعف الجهد في أعماله لإعلاء أمر الله. ومن ذلك الوقت إلى هذا الحين لا يزال مواظبًا على أعماله. وقد امتاز باستقامته وأخلاقه وإخلاصه المتناهي للحكومة والبلاد. ووصل منه حديثًا خطاب إلى حضرة بهاءالله في الأرض المقدسة يبشر بانتشار أمر الله في إيران وكتب يقول: ’لقد أسكتني العجب إذ أشاهد علائم قدرة الله التي لا تغلب، ظاهرة بين أبناء قومي. ففي الأرض التي قاومت أمر الله واضطهدته بكل قسوة ووحشية جملة سنوات، اضطر اثنان من كبار رجال الدولة وهما الطاغية ظل السلطان ابن الشاه ذلك الظالم وعدوّ أمر الله، وميرزا فتح علي خان صاحب الديوان بأن يحكّما في نزاع بينهما شخصًا بابيًا معروفًا في جميع أنحاء إيران بشدة تعلقه بأمر الله وكان معتنقًا له مدة أربعين سنة واتفقا أن يقبلا حكم هذا البابي بصفته حَكمًا بينهما وأن ينفذا ما يحكم به في منازعتهما فورًا.‘

وكان ممن انجذب من سلوك حضرة الباب البديع في تلك الحادثة أثناء صلاة الجمعة شخص يدعى محمد كريم. واعتنق أمره بسبب ما شاهده ورآه في ذلك اليوم. واضطره الاضطهاد للسفر خارج حدود إيران إلى العراق. وهناك في محضر حضرة بهاءالله ازداد إيقانًا وإيمانًا ورجع فيما بعد إلى شيراز حيث أمره حضرة بهاءالله أن يبذل الجهد في نشر أمر الله. ومكث هناك إلى آخر أيام حياته منشغلاً بالتبليغ.

وكان هناك أيضًا شخص آخر يدعى ميرزا آقا ركاب ساز. فقد تملكته محبة حضرة الباب في ذلك اليوم على شأن لم يؤثر عليه أي اضطهاد فلم يتزعزع في إيمانه ولم تخبُ أنوار محبته. وتشرف هو أيضًا بمحضر حضرة بهاءالله في العراق. وردًا على أسئلته عن تفسير الحروف المقطعة في القرآن ومعنى آية النور، أنعم عليه حضرة بهاءالله بلوح خاص نزل خصيصًا باسمه. وقد استشهد أخيرًا في سبيل حضرته.

وكان من بينهم أيضًا ميرزا رحيم الخباز، الذي امتاز بجرأته وحماسه ولم يتوانَ في مجهوداته حتى ساعة منيته.

وكذلك كان الحاج أبو الحسن البزّاز، الذي رافق جماعة الحجاج مع حضرة الباب، ولم يكن إذ ذاك مطلعًا تمامًا على عظمة أمره. ففي يوم الجمعة المشهودة تلك اهتز بعنف وتغيّر تغيرًا كليًا. وحمل في قلبه لحضرة الباب محبة فائقة على شأن كانت تذرف دموعه من عينيه باستمرار. وكان كل من عرفه يعجب من استقامته ويمدح حسن أخلاقه وكرمه وصراحته، وبرهن، هو ونجلاه، بأعمالهم قوة إيمانهم بأمر الله ونالوا احترام إخوانهم من المؤمنين وتقديرهم.

ومن جملة من افتتنوا بحضرة الباب في ذلك اليوم أيضًا المرحوم الحاج محمد بساط، وهو رجل متفقه في تعاليم الإسلام الغيبية، ومن المعجبين بالشيخ أحمد والسيد كاظم. وكان رجلاً ذا مزاج رقيق ويمتلك روح الدعابة. وقد اكتسب صداقة حميمة مع إمام الجمعة، وكان مواظبًا على أداء صلاة الجمعة.

كان نوروز تلك السنة، المبشر بالربيع الجديد، رمزًا أيضًا لذلك الخلق الروحاني الجديد الذي لاحت بوادر تحركه في أنحاء البلاد. وخرج الكثيرون من أشهر الرجال والعلماء من جمود شتاء الغفلة وبرودته، فسرت نسمة الحياة فيهم إذ استنشقوا طيب أنفاس الظهور الجديد. ونضجت البذور التي غرستها يد القدرة في قلوبهم وأزهرت بأجمل الأزهار وأعبقها.(1) ولما هبّ نسيم محبة حضرة الباب العطري ورحمته الرقيقة

________________________

(1) ’ومهما يكن من الأمر فإن الهياج ازداد في شيراز وهرع جميع المتعلمين إلى ملاقاة علي محمد الباب. وما كاد يظهر في المسجد حتى التفوا حوله وما كاد يجلس على كرسي المنبر حتى أنصتوا ليستمعوا له. ولم تكن خطابته بقادحة في أصول الإسلام بل إنه احترم كثيرًا من التقاليد، ولذلك ساد التكتم، ومع ذلك كانت الخطابة جريئة ولم يكن فيها مداراة للعلماء بل كان يقرع مساوئهم بزواجر وعظه وبيان سوء أعمالهم وأشار بوجه عام إلى حالة العالم السيئة المحزنة. وفي الخطابة إشارات وتلميحات هيجت أهواء البعض بينما أعجب بها الآخرون وامتدحوها وزادوا في وصف حسنها وملاحتها كما هو دأب العامة الذين يزيدون الأقاويل والإشاعات حتى ابتدأ الناس في جميع أنحاء إيران يتكلمون عن علي محمد. ولم يكن ملاّوات شيراز قد انتظروا كل ذلك الاضطراب ليتّحدوا ضد هذا الشاب الذي سلبهم بعض نفوذهم. ومنذ ظهوره للناس يخطب فيهم لأول مرة، أرسلوا إليه أمهر الملاّوات للمجادلة معه والتشويش عليه، وعقدت هذه المجادلات العلنية في المساجد أو في المدارس بمحضر الحاكم العام ورؤساء الحربية والعلماء والعامة، وفي الحقيقة أمام كل الناس. ولكن بدلاً من أن تفيد العلماء زادت تلك المحاورات قليلاً من شهرة هذا ↓

على تلك الأزهار، انتشر عبق عطرها النفاذ في جميع أطراف تلك البلاد. بل جاوز طيب رائحتها حدود إيران ووصل إلى كربلاء وانتعشت منها أرواح الذين كانوا هنالك منتظرين

_____________________________________________________________________

المعلم المتحمس على حساب العلماء. والحقيقة أنه (حضرة الباب) كان يهزم خصومه ويدينهم وذلك أمر ميسور له إذ كان القرآن في يده. ولم يكن بأسهل عليه من الظهور أمام الجمهور الذين كانوا يعرفون الملاّوات حق المعرفة، فيُظهر في أي نقطة كان سلوكهم أو مبادئهم أو حتى فقههم، مناقضًا للكتاب (القرآن) ومناف له منافاة صريحة، ذلك الكتاب الذي لا يقدرون على إنكاره. وبما ملكه من الشجاعة النادرة والابتهاج بالنصر، أمكنه أن يفضح أعداءه ومقاوميه بكل جرأة وحماس ولم يختصر في ذلك شيئًا، وأظهر ما هم عليه من المفاسد دون أدنى مداراة وبغير اهتمام بالأعراف السائدة. فبعد أن أظهر لهم عدم وفائهم لدينهم، أبان مثالب وعيوب حياتهم ودهاهم بداهية عظيمة حتى دهش له السامعون أو ازدروه. وفي شيراز كانت أولى عظاته مثيرة للعواطف لأقصى درجة حتى لدى المتشددين من المسلمين الذين حضروها لم ينسوا ما دار فيها بل كانت خطبته تذكارًا لهم، فلم يقدروا على التكلم إلا بخوف. واتفقوا جميعهم على أن فصاحة علي محمد لا تدانيها فصاحة ولا يقدر أن يتصورها من لم يراه عيانًا. وسرعان ما جاء وقت لم يكن ليظهر "الفقيه الشاب" في مكان إلا محاطًا بجمهور غفير من الأنصار. وامتلأ منزله من الزوار فلم يكن تعليمه قاصرًا على المساجد والمدارس بل كان يجتمع عنده أيضًا كل ليلة كثيرون من الخواص المعجبين به ليكشف لهم من الأحكام ما لم يؤسسها بالكامل بعد. وبدا في تلك الأيام المبكرة أنه كان جدليًا أكثر منه عقائديًا وهذا أمر طبيعي. وفي محاضراته السرية كانت بياناته الجريئة تزداد يومًا بعد يوم واتجهت بوضوح إلى قلب الإسلام قلبًا تامًا وتكون بمثابة مقدمة للإيمان الجديد. وكان الجمع الصغير مشتعلاً شجاعًا منجرفًا بالحماس ومستعدًا لأي شيء. وكانوا متعصبين بالمعنى الصحيح والنبيل لهذه الكلمة، أي أن كل واحد من أفراده لم يولِ أهمية لنفسه واشتعل برغبة الفداء بدم حياته وبمتعلقاته الدنيوية في سبيل أمر الحق.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 120، 122) ’وابتدأ الباب يجمع حوله جماعة من الأتباع المتحمسين. واشتهر بالبساطة الكلية في أخلاقه ولطافته وحسن منظره. وكان الناس يتأثرون من سعة علمه وفصاحة منطقه النافذة في القلوب. وأما كتاباته، التي ولو كانت في نظر جوبينو مملة، إلا أن الإيرانيين كانوا أشد الناس إعجابًا بها لبداعة أسلوبها وجمالها، وكان لها تأثير عظيم في شيراز. وكان بمجرد دخوله المسجد يحاط المكان بالناس، وبمجرد صعوده إلى المنبر ينصتون.‘ ("الومضة" للسير فرانسيس يونگهزبند، الصفحة 194) ’وكانت الآداب التي يحث عليها رجل شاب في عصر تغلي فيه الأهواء والشهوات قد أثرت على السامعين من المتدينين المتشددين لمطابقة أقواله لأفعاله. فلم يشك أحد أن "الكربلائي" السيد علي محمد كان يكبح الشهوات أو يشك في ثباته وورعه. وكان يتكلم قليلاً ولكنه كان دائم التذكر والتعبد وكثيرًا ما يتحاشى الجموع مما أدى إلى ازدياد فضولهم.‘ ("المجلة الآسيوية"، سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 341) ’وكان السيد الشاب بسلوكه مثالاً أعلى للملتفين حوله. وكانوا يستمعون إليه بمحض حريتهم عندما يلقي وعظه بأسلوب غامض تتم مقاطعته أثناءها مرارًا، فيدين المفاسد الشائعة في كافة طبقات المجتمع. فيرددون أقواله ويعلقون عليها ويصفونه بأنه معلم صادق يسلمون إليه مقاليد أمورهم دون أي احتراز.‘ (المصدر السابق)

رجوع حضرة الباب إلى مدينتهم بفارغ الصبر. وبعد النوروز بقليل وصلت إليهم رسالة بطريق البصرة أخبرهم فيها حضرة الباب بعدوله عن العودة بطريق كربلاء بعد الرجوع من الحجاز، وعدم إمكان إيفاء ذلك الوعد ووجههم للذهاب إلى إصفهان وينتظروا هناك حتى تصلهم تعليمات أخرى، وأضاف: ’وربما طلبنا منكم التوجه إلى شيراز إذا رأينا ذلك موافقًا، وإلا فانتظروا في إصفهان إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.‘

فحرّك ذلك الخطاب المفاجئ شوق المنتظرين لوصول حضرة الباب إلى كربلاء، وأهاج أفكارهم وامتحن ولاءهم. وقال بعض المستائين من بينهم: ’وماذا عن وعده لنا؟ فهل يقول أن خلف هذا الوعد كان بأمر من الله؟‘ وأما الثابتون فاشتد تعلقهم بدينه أكثر من ذي قبل، وأطاعوا الأمر وهم خاضعون لمولاهم متناسين كل نقد واحتجاج صدر من المترددين. وسافروا إلى إصفهان تلبية لدعوة مولاهم المحبوب وعزموا على تنفيذ تعلمياته. وانضم إليهم بعض الأصحاب ممن تزعزع إيمانهم بشدة ولكنهم كتموا مشاعرهم. وكان من بين أهالي إصفهان ممن دخل في تلك الجماعة التي لم تحجبها وساوس المفسدين عن النظر إلى عظمة الأمر ورفعته، ميرزا محمد علي النهري، الذي تزوجت كريمته بالغصن الأعظم فيما بعد، وميرزا هادي أخ ميرزا محمد علي. وكان بينهم أيضًا ميرزا محمد حناساب من أهالي إصفهان، وهو الآن يخدم في منزل حضرة بهاءالله. واشترك عدد من هؤلاء الأتباع البواسل لحضرة الباب، في ملحمة الشيخ الطبرسي وكانت نجاتهم من نصيب إخوانهم من الشهادة المفجعة أعجوبة.

وفي طريقهم إلى إصفهان، قابلوا في مدينة كنگاور الملاّ حسين مع أخيه وابن خاله اللذين رافقاه في زيارته السابقة لشيراز وكانا متجهين إلى كربلاء. وقد سرّوا بهذا اللقاء المفاجئ، وسألوا الملاّ حسين أن يطيل مكثه في كنگاور، فأجابهم لذلك. وكان الملاّ حسين الذي يؤم أصحاب حضرة الباب في صلاة الجمعة، مبجلاً محترمًا من قبل زملائه التلاميذ لدرجة أن حسده على ذلك عدد من الحاضرين الذين أظهروا عدم إخلاصهم لأمر الله فيما بعد في شيراز. ومن بينهم الملاّ جواد البَرَغاني والملاّ عبد العلي الهَراتي، وكان كل منهما يتظاهر بالخضوع لأمر حضرة الباب بأمل إشباع طموحه للرئاسة. وكانا

يجتهدان سرًا في تقويض المقام المحسود الذي وصل إليه الملاّ حسين. واستمرا دائبين على دس الدسائس والملاحظات لتشويه سمعته والإساءة لاسمه.

وسمعت من ميرزا أحمد الكاتب، المعروف في تلك الأيام بالملاّ عبد الكريم، والذي صاحب الملاّ جواد في سفره من قزوين، يقول: ’كان الملاّ جواد كثير الإشارة في حديثه معي للملاّ حسين وكثيرًا ما قطعت مرافقته بسبب ملاحظات الاستهزاء على الملاّ حسين التي كان يكررها ويذكرها بمهارة في عبارات ماكرة مبطنة. وكلما أردت هجره يمنعني الملاّ حسين، ولما وقف على قصدي نصحني أن أعامله بالتسامح. فكانت مصاحبة الملاّ حسين لأتباع حضرة الباب المخلصين تزيد في حميتهم واشتعالهم وتهذب أخلاقهم باقتفاء آثاره ومثاله، وهم معجبون بصفاته العالية واستنارة عقله وقلبه، حتى إنه أصبح ممتازًا بين الأقران.‘

وعزم الملاّ حسين على الانضمام إلى الأصحاب متجهًا معهم إلى إصفهان. وكان يتقدمهم منفردًا على بعد فرسخ، وعند الغروب يستريح للصلاة، فيلحقه أصحابه ويكمل صلاته معهم. ثم يسبقهم في السير منفردًا وعند الفجر يلحقونه عندما يشرع في الصلاة. ولا يصلي معهم صلاة الجماعة إلا إذا ألح عليه أصحابه، وفي مثل هذه الأحوال كان يأتم بأحد من الأصحاب. وكان الإخلاص الذي أشعله في قلوبهم عظيمًا بدرجة أن الكثيرين منهم كانوا ينزلون من ركائبهم ويسلمونها للذين كانوا منهم مسافرين مشيًا على الأقدام، ويتعقبونه مترجلين وذاهلين عن متاعب السفر ومشاقه.

ولما قاربوا ضواحي إصفهان، نصح الملاّ حسين الأصحاب أن يتفرقوا ولا يدخلوا بوابات المدينة إلا في جماعات صغيرة غير ظاهرين خوفًا من أن دخول جمهور كبير دفعة واحدة يثير شبهة الأهالي واستغرابهم. وبعد بضعة أيام من وصولهم جاءتهم الأخبار بحصول هيجان شديد في شيراز، وأن الاختلاط مع حضرة الباب أصبح ممنوعًا، وأن زيارتهم القادمة لتلك المدينة ربما حفّت بأعظم الأخطار. ولكن الملاّ حسين لم يحفل بهذه الأخبار المفاجئة، وعزم على المسير إلى شيراز. وأفضى بعزمه هذا إلى القليلين من أصحابه. وخلع القفطان والعمامة ولبس الجبة والكلاة، وهو لباس أهل خراسان، وتنكر

بزي خيالة الهزارة وقوچان وصحبه أخوه وابن خاله وفي ساعة غير متوقعة واصل السير إلى مدينة محبوبه. ولما اقترب من بوابة المدينة أرسل أخاه في جنح الليل إلى منزل خال حضرة الباب، وطلب منه أن يخبر حضرته بوصوله، فأتاه الخبر في اليوم التالي، بأن الحاج ميرزا سيد علي ينتظره بالترحيب بعد الغروب بساعة خارج بوابة المدينة. وقابله الملاّ حسين في الساعة المعينة ورافقه إلى منزله. وكثيرًا ما كان حضرة الباب يشرّف ليلاً ذلك المنزل ويستمر مع الملاّ حسين إلى طلوع الفجر. ولم تمضِ فترة طويلة حتى أذن لأصحابه الذين اجتمعوا في إصفهان بالمغادرة تدريجيًا إلى شيراز، وهناك ينتظرون الفرصة الملائمة للتشرف بمحضره، ونصحهم بالحذر واليقظة القصوى وأمرهم بالدخول بجماعات صغيرة وأن يتفرقوا بمجرد وصولهم إلى مقار نزول المسافرون، وأن يقبلوا العمل في أي مهنة يجدونها.

وكان أول فوج وصل إلى المدينة وقابل حضرة الباب بعد وصول الملاّ حسين ببضعة أيام، مكونًا من ميرزا محمد علي النهري وميرزا هادي أخيه والملاّ عبد الكريم القزويني والملاّ جواد البرغاني والملاّ عبد العلي الهراتي وميرزا إبراهيم الشيرازي. وفي أثناء اجتماعهم بحضرته كشف الثلاثة الأخيرون تدريجيًا عن عمى قلوبهم وأظهروا انحطاط أخلاقهم. وكانت الدلائل العديدة التي أشارت إلى ما يكنه حضرة الباب من عطف متزايد على الملاّ حسين، قد أثارت غضبهم وأضرمت نيران حسدهم. وبسبب احتدام غضبهم وعجزهم، تسلحوا بسلاح الغيبة والنميمة، وكانوا في البداية عاجزين عن إظهار عداوتهم للملاّ حسين وطفقوا يبحثون عن كل مكيدة لتسميم الأذهان وإخماد نار محبة المعجبين به، وكان هذا السلوك المعوج من جانبهم سببًا في إبعاد عطف المؤمنين عنهم وإخراجهم من جماعتهم. وإذ طردوا بأعمالهم من جامعة أمر الله انضموا إلى صفوف أعداء الأمر وجاهروا برفض مبادئه وأصوله. وبلغت الفتنة التي روجوها بين سكان تلك المدينة إلى درجة جعلت السلطات المحلية تطردهم من المدينة بسبب كراهيتها لهم وخشيتها من مكائدهم. وكان حضرة الباب قد أسهب في ذكر حيلهم ومساوئهم في أحد الألواح وشبههم بالعجل السامري الذي لم يكن له صوت ولا روح بل كان صنيعة دنيئة من شعب

ضال قام بعبادته. ومما كتبه بخصوص الملاّ جواد والملاّ عبد العلي: "اللهم إلعن الجبت والطاغوت،(1) التوأمين المعبودين من هذا الشعب الضال." وسافر الثلاثة فيما بعد إلى كرمان حيث حشدوا قواهم إلى جانب الحاج ميرزا محمد كريم خان ودعموه في مكائده وسعوا في تحميسه على كيل اتهاماته.

وكان حضرة الباب ذات ليلة يزور منزل الحاج ميرزا سيد علي بعد طرد هؤلاء الثلاثة من شيراز، فاستدعى ميرزا محمد علي النهري وميرزا هادي والملاّ عبد الكريم القزويني ليمثلوا أمامه، فلما حضروا التفت حضرة الباب إلى الملاّ عبد الكريم وقال له: ’يا عبد الكريم، هل تبحث عن المظهر؟‘ فكان لهذه العبارة التي نطق بها حضرة الباب بكل هدوء ولطف، تأثير بليغ عليه حصل له منها دهشة واصفر لونه من هذا الاستفهام الفجائي وأجهش بالبكاء وارتمى على قدمَي حضرة الباب بحالة اضطراب عميق. فأخذه حضرة الباب باللطف بين ذراعيه وقبّل جبهته وطلب منه أن يجلس بجانبه وهدأ روع قلبه بكلمات المحبة الرقيقة.

ولما عادوا إلى منزلهم، استفسر ميرزا محمد علي وأخوه من الملاّ عبد الكريم عن سبب الانزعاج المفاجئ الذي أصابه فجأة. فأجابهم بقوله: ﴿اسمعوا لأني سأحكي لكم واقعة غريبة وقصة لم أذكرها لأحد للآن. عندما وصلت إلى سن البلوغ، شعرت وأنا قاطن في قزوين بميل شديد لكشف السر الإلهي ولمعرفة طبيعة قدّيسيه وأنبيائه. فلم أرَ وسيلة سوى تحصيل العلوم لأتمكن من بلوغ هذا المرام. فنجحت في الحصول على موافقة والدي وأعمامي على ترك أعمالي والتفرغ للدراسة والبحث. فقطنت في غرفة في إحدى مدارس قزوين وأفرغت وسعي في تحصيل كل أنواع الدراسات الإنسانية. وكثيرًا ما كنت أناقش أقراني في المعارف التي أحصلها ورأيت في ذلك وسيلة لإثراء تجاربي. وفي الليل أعود إلى المنزل واعتزل في مكتبتي وأخصص جملة ساعات للدراسة المتواصلة. وكنت مستغرقًا في أعمالي إلى درجة أهملت فيها النوم وتجاهلت الشعور بالجوع. وكنت قد صممت أن

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 51.

أصل في ظرف سنتين إلى حل معضلات الفقه والأصول الإسلامية. وكنت ملازمًا بإخلاص لمحاضرات الملاّ عبد الكريم الإيرواني الذي كان معدودًا في تلك الأيام أعظم علماء قزوين. وكنت أعجب بسعة اطلاعه وفضله وصلاحه، وأخصص بعض الوقت كل ليلة من فترة تتلمذي عنده لكتابة رسالة قدمتها له، ولما راجعها بعناية واهتمام أظهر سروره من اجتهادي وامتدح مجهوداتي العظيمة. وذات يوم أعلن أمام جمع من تلاميذه: ’إن العلاّمة الفهّامة الملاّ عبد الكريم قد أهّل نفسه ليكون مرجعًا في بيان كتب الإسلام المقدسة وتفسيرها. فهو في غنى عن حضور درسي أو درس أقراني. وإن شاء الله سوف أحتفل بارتقائه إلى درجة مجتهد في صباح يوم الجمعة القادم وأسلمه شهادته بعد صلاة الجمعة.‘

وما أن تفوه الملاّ عبد الكريم الإيرواني بتلك الكلمات وخرج، حتى تقدم التلاميذ وهنأوني من قلوبهم على إنجازاتي، فرجعت إلى منزلي مغتبطًا. وبوصولي وجدتُ والدي وعمي الأكبر الحاج حسين علي، وهما صاحبا اعتبار عظيم في كل قزوين، يهيئان احتفالاً على شرفي بمناسبة إنهائي دراساتي. فطلبت منهما أن يؤجلا دعوة أعيان قزوين حتى أخبرهم، فقبلوا ذلك بسرور لعلمهم بأن شوقي لمثل هذا الاحتفال لا يدع مجالاً لتأجيله بعيدًا. وفي تلك الليلة ذهبت إلى مكتبتي وفي عزلة غرفتي رددت الأفكار الآتية في قلبي، وقلت لنفسي: ألم تتخيل بأنه لا أمل في الوصول إلى رتبة بيان الكتب الإسلامية المقدسة وتفسيرها إلا لذوي الأرواح الطاهرة؟ ألم يكن اعتقادك أن الذي يصل إلى هذه المرتبة يكون معصومًا من الخطأ؟ ألم تكن الآن معدودًا من تلك الطبقة؟ ألم يعدك أكبر عالم في قزوين بأنك تكون كذلك؟ كُن منصفًا. هل تعتقد في قلبك أنك وصلت إلى هذه الدرجة من القداسة والطهارة والانقطاع الصرف وهي الشروط التي كنت تعدّها في الأيام الخالية لازمة وضرورية لمن يروم الوصول إلى تلك المنزلة الشريفة الرفيعة؟ وهل تظن نفسك أنك خلصت من كل شائبة نفسية أنانية؟ وبينما أنا جالس أفكر إذ غلب عليّ إحساس تدريجي بعدم استحقاقي لتلك الرتبة ورأيت نفسي أسير الهموم والتحير والإغراءات والشكوك. وكئبت إذ ساورني الارتياب حول كيفية إلقاء الدروس وإمامة صلاة الجماعة وتنفيذ أحكام الدين. وشعرت بالقلق باستمرار في كيفية تأدية واجباتي،

وضمان تفوق إنجازاتي على إنجازات من سبقني. فكان يغلب عليّ شعور الضعة والحاجة إلى طلب المغفرة من الله، فكنت أقول لنفسي إنك كنت تقصد من طلب العلم كشف السر الإلهي والوصول إلى رتبة الإيقان، فكن منصفًا. هل أنت متأكد من صحة تفسيرك للقرآن؟ وأن الأحكام التي تنفذها وتروجها تعبر عن إرادة الله؟ وبغتة ساورني الشعور بالخطأ، وأدركت لأول مرة أن صدأ التعلم قد أكل روحي وحجب بصيرتي. فحزنت على ماضيّ وتأسفت على ضياع جهودي، وعلمت أن الناس من رتبتي هم مثلي خاضعون لنفس هذه الآلام فبمجرد أن يحوزوا العلوم الظاهرة يظنون أنهم أصبحوا قادرين على بيان أحكام الإسلام ويدّعون لأنفسهم حق الامتياز المطلق في التحدث عن مبادئه.

وبقيت مستغرقًا في أفكاري إلى الفجر، فلم أتناول في تلك الليلة طعامًا ولا أخذني النوم، وأحيانًا كنت أناجي الله قائلاً: ’ترى يا إلهي وتعلم ورطتي وإني لا أقصد سوى إرادتك ورضائك، وقد أخذتني الدهشة عندما أفكر في الفرق العديدة التي وقع فيها دينك المقدس. وتحيرت إذ رأيت أن المذاهب قد مزقت الأديان السابقة. فهل ترشدني يا إلهي في حيرتي وتخلصني من شكوكي؟ ولمن أتوجه يا إلهي للعزاء والهداية؟‘ ثم بكيت بحرقة في تلك الليلة حتى إني ظننت أني فقدت صوابي. وفجأة رأيت في الرؤيا جمعًا كبيرًا من الناس ذوي وجوه مستبشرة بما أثار إعجابي الشديد. وجلس على مقعد فوق منبر أمام الجمع شخص جليل يرتدي لباس سيد. وكان يفسّر الآية من القرآن الكريم "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا."(1) فانجذبت من النظر في وجهه وقمت وتقدمت إليه وشرعت في الوقوع على قدميه، ولكن تلك الرؤيا اختفت فجأة من أمامي. فابتهج قلبي وامتلأ بالنور واشتد فرحي بدرجة لا توصف.

وعزمت أن أستشير الحاج الله وردي والد محمد جواد الفرهادي وهو رجل معروف في سائر أنحاء قزوين برؤيته الروحانية العميقة. فلما قصصت عليه الرؤيا تبسم ووصف لي ذلك السيد الذي رأيته بكل دقة وبيّن لي مميزاته، ثم قال لي: ’إن ذلك الشخص

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة العنكبوت، الآية 69.

الجليل لم يكن سوى الحاج السيد كاظم الرشتي الذي هو الآن في كربلاء وفي كل يوم يفسر لتلاميذه تعاليم الإسلام المقدسة. والذين يستمعون لدروسه ينتعشون ويتهذبون من كلماته. ولا أقدر أبدًا أن أصف التأثير الذي يحدثه في سامعيه.‘ فقمت مسرورًا وعبرت له عن شكري العميق ورجعت إلى منزلي ثم سافرت توًا إلى كربلاء. وجاء أقراني القدماء وطلبوا مني أن أقابل الملاّ عبد الكريم لأنه طلب المقابلة إما بحضوري عنده أو حضوره لمنزلي، فقلت: ’إني أشعر بدافع يدفعني لزيارة مقام الإمام الحسين في كربلاء. ووعدت أني سأذهب فورًا لتلك الزيارة، وأني غير قادر على إرجاء مغادرتي، وإن أمكن فإني أزوره بضع دقائق قبل مبارحتي المدينة، وإلا فإني أرجوه أن يسامحني وأن يدعو الله أن يهديني في صراطه المستقيم.‘

وأعلمت أهلي وأقاربي سرًا بطبيعة الرؤيا التي رأيتها وبتفسيرها، وأخبرتهم بعزمي على زيارة كربلاء. وكانت كلماتي لهم في ذلك اليوم قد زرعت حب السيد كاظم في قلوبهم وشعروا بانجذاب إلى الحاج الله وردي واجتمعوا به وصاروا من معجبيه المخلصين.

وكان أخي عبد الحميد (الذي تجرّع فيما بعد كأس الشهادة في طهران) قد رافقني في سفري إلى كربلاء. وهناك قابلت السيد كاظم ودهشت لسماع حديثه مع التلاميذ المجتمعين في نفس الظروف والطريقة التي رأيته بها في الرؤيا. وانصعقت عندما اكتشفت لدى وصولي أنه يفسر نفس الآية التي كان يفسرها في الرؤيا. وإذ جلست وأنصت له انجذبت بشدة من قوة بيانه وسمو أفكاره. ثم قابلني بكل ترحاب وأظهر لي كل محبة ولطف وشعرت أنا وأخي بسرور داخلي لم نذقه قط من قبل. وكنّا في ساعة الفجر نهرع إلى منزله ونرافقه لزيارة مرقد الإمام الحسين.

وصرفت كل أيام الشتاء بصحبته. وأثناء تلك المدة بكاملها كنت مواظبًا على حضور دروسه، وفي كل مرة كنت أصغي لأقواله أجده يصف ناحية خاصة من نواحي ظهور القائم الموعود. وكان هذا موضوع درسه الوحيد، فأي آية أو حديث يتصادف له تفسيره ينتهي بإشارة خاصة بالظهور الموعود. فكان يكرر قوله بصراحة: ’إن الموعود يعيش وسط هؤلاء القوم وإن ميعاد ظهوره قد قرب فهيئوا الطريق له وطهّروا نفوسكم حتى

تدركوا جماله. وما لم أفارق هذا العالم فلن تشرق شمس طلعته. فيجدر بكم بعد فراقي أن تقوموا على طلبه ولا تستريحوا لحظة واحدة حتى تجدوه.‘

وبعد الاحتفال بالنوروز أمرني السيد كاظم بمغادرة كربلاء، وعندما كان يودعني قال لي: ’تأكد يا عبد الكريم إنك في يوم ظهوره ستكون من الذين يقومون لنصرة أمره، وأتعشم أنك تذكرني في ذلك اليوم المبارك.‘ فتضرعت إليه أن يسمح لي بالبقاء في كربلاء لأن عودتي إلى قزوين تثير عداوة الملاّوات في تلك المدينة. فكان جوابه لي: ’ليكن اعتمادك كله على الله وتجاهل قطعيًا مكائدهم واشتغل بالتجارة وتأكد أن احتجاجاتهم لن تنجح في ضرك بشيء.‘ فاتبعت نصيحته وسافرت مع أخي إلى قزوين.

وفور وصولي أخذت في تنفيذ نصيحة السيد كاظم. وتمكنت باتباع إرشاداته من إسكات كل معارض مبغض. وكرست أيامي في تنفيذ أعمالي المادية وفي الليل أعود إلى منزلي وأخصص وقتًا في هدوء غرفتي للتأمل والصلاة. وكنت أناجي الله بأعين باكية وأتضرع إليه قائلاً: ’إنك يا إلهي وعدتني على لسان عبدك الصدّيق أني سوف أرى يومك وأنظر ظهورك وأمرك. وقد أكدت لي بواسطته أني سأكون ضمن الذين يقومون لنصرة دينك، فإلى متى تؤخّر عني وعدك؟ ومتى تفتح لي باب فضلك بيد كرمك ومحبتك لتمنحني نعمتك الخالدة؟‘ وفي كل ليلة كنت أكرر هذا الدعاء واستمر في المناجاة إلى طلوع الفجر.

وذات ليلة في عشية يوم عرفة سنة 1255ﻫ(1) كنت مستغرقًا في الصلاة، فأخذتني سِنة من النوم ورأيت أمامي طائرًا أبيض كالثلج يحوم فوق رأسي ثم وقف على فرع شجرة بجانبي وبنغمات شجّية لا توصف، قال: ’هل أنت تطلب المظهر يا عبد الكريم؟ ها هو ذا يظهر سنة 60.‘ ولم يلبث الطائر أن طار واختفى. فهيجني سرّ هذه الكلمات ولم يغب ذكرى جمال ذلك المنظر عن في مخيلتي لزمن طويل. حتى كأني ذقت جميع ملاذ الجنة، فكان سروري لا يكبت.

________________________
(1) الليلة السابقة على 13 فبراير/شباط سنة 1840م.

ونفذت إلى أعماق روحي تلك الرسالة الخفية من ذلك الطائر وكانت دائمًا على شفتي وكنت أرددها في عقلي باستمرار. ولم أذكرها لأحد خوفًا من أن تفارقني حلاوتها. وبعد بضع سنين وصل إلى مسامعي النداء من شيراز فأسرعت في نفس اليوم إلى تلك المدينة، وأثناء الطريق قابلت في طهران الملاّ محمد المعلم الذي عرّفني بطبيعة ذلك النداء وأخبرني أن الذين آمنوا به قد اجتمعوا في كربلاء منتظرين عودة رئيسهم من الحجاز. فسافرت توًا إلى تلك المدينة ومن همدان رافقني لسوء حظي الملاّ جواد البرغاني إلى كربلاء وفيها كان لي الشرف بمقابلتكم مع باقي الأحباء. وكنت على الدوام أخفي في نفسي تلك الرسالة العجيبة التي كلّمني بها ذلك الطائر. فلما قابلت حضرة الباب أخيرًا وسمعت من شفتيه نفس العبارة وبنفس النغمة واللغة التي سمعتها من الطائر عرفت مغزاها وأخذني جذب قوتها وجمالها حتى إني دون شعور وقعت على قدميه ومجّدت اسمه.﴾

وفي أوائل أيام سنة 1265ﻫ،(1) قمت في سن الثامنة عشر من قريتي زرند إلى قُم وهناك تصادفت مقابلتي للسيد إسماعيل الزواري الملقب ﺑ"الذبيح" والذي بذل روحه فيما بعد فداء في سبيل حضرة بهاءالله في بغداد. وبواسطته تمكنت من الاعتراف بالظهور الجديد. وكان وقتها على وشك السفر إلى مازندران وعزم على الانضمام لجماعة المدافعين الأبطال في قلعة الشيخ الطبرسي وعزم على أن يأخذني معه بصحبة ميرزا فتح الله الحكاك وهو شاب في سنّي من سكان قُم. ولما حالت الظروف دون تنفيذ خطته، وَعَدَنا قبل سفره أن يقابلنا في طهران ويطلب منا الانضمام إليه. وأثناء حديثه مع ميرزا فتح الله ومعي، حكى لنا واقعة الملاّ عبد الكريم الشيقة فرغبت جدًا بمقابلة هذا الأخير. ولما وصلت إلى طهران فيما بعد قابلت السيد إسماعيل في مدرسة "دار شفاء مسجد الشاه" وعرّفني بالملاّ عبد الكريم الذي كان مقيمًا في تلك المدرسة. وفي تلك الأيام علمنا أن ملحمة الشيخ الطبرسي انتهت وأن أصحاب حضرة الباب الذين اجتمعوا في طهران بنية اللحاق بإخوانهم قد رجعوا، كل إلى مقاطعته دون أن يتمكنوا من إتمام مقصدهم. وبقي الملاّ عبد الكريم في العاصمة وكرس وقته في استنساخ "البيان" الفارسي. وكان دوام الاتصال به في ذلك

________________________
(1) سنة 1848 م.

الوقت قد عمّق محبتي له وإعجابي به، ولا أزال أشعر بعد مضي ثمانية وثلاثين عامًا منذ أول مقابلة معه في طهران بتلك الحرارة الحبية وباشتعال ايمانه وإحساسي بالمحبة الفائقة له جعلني أذكر بالتفصيل وقائع أحوال أوائل أيامه حيث انتهت بما يعتبر نقطة تحول في حياته. ولعلها بدورها تنفع في إيقاظ القارئ وتنبيهه إلى عظمة هذا الظهور العظيم.

***
صفحة خالية
الفصل التاسع
إقامة حضرة الباب في شيراز بعد الحج
(تكملة)

وبمجرد وصول الملاّ حسين إلى شيراز ارتفعت أصوات الناس مرة أخرى احتجاجًا عليه. وزاد خوف الجماهير وسخطهم لعلمهم باتصاله الوثيق المستمر بحضرة الباب. فتذمروا قائلين: ’لقد عاد إلى مدينتنا ثانية، ليرفع علم العصيان مرة أخرى ويدبر مع رئيسه حملة أشد على أعرافنا وعاداتنا العتيدة.‘ وتفاقم الوضع بحيث أمر حضرة الباب الملاّ حسين بالعودة عن طريق يزد إلى موطنه في إقليم خراسان. وكذلك صرف باقي أصحابه الذين اجتمعوا في شيراز وأمرهم بالرجوع إلى إصفهان وأبقى الملاّ عبد الكريم الذي أوكله بنسخ كتاباته.

وهذه الإجراءات الاحتياطية التي رأى حضرة الباب من الحكمة اتخاذها خلّصته من خطر محدق وهو عنف أهل شيراز الغاضبين، وساعدت على إيجاد قوة دافعة لترويج أمره خارج حدود تلك المدينة. فلما انتشر التلاميذ في أنحاء البلاد أعلنوا دون خوف ولا وجل لجمهور مواطنيهم تلك القوة المحيية للدين حديث الولادة. وذاع صيت حضرة الباب في الأطراف ووصل إلى آذان الذين تبوؤوا أعلى مراكز السلطة سواء في العاصمة أو في المقاطعات.(1) وسيطرت موجة من البحث الدؤوب على عقول وقلوب كل من

________________________

(1) ’كان للبابية أتباع عديدون في كل طبقات المجتمع ولكثير منهم مناصب عليا. فقبل تلك العقيدة عدد من كبار القوم وأعضاء في الهيئة الدينية ورجال عسكريون وتجار.‘ ("المجلة الآسيوية"، سنة 1866م، الجزء 8، الصفحة 251)

الرؤساء وجماهير الناس. وأخذت الدهشة والحيرة كل الذين سمعوا من أفواه رسل حضرة الباب تلك العلامات والدلائل التي بشّرت بميلاد ظهوره. وكان عظماء الدولة وقادة رجال الدين دائبين على البحث والتحري بأنفسهم أو يوفدون مندوبيهم المقتدرين للبحث والتنقيب عن حقيقة هذه الحركة العظيمة وطبيعتها.

وتحرك محمد شاه(1) نفسه للتحقق من صحة هذه التقارير والبحث في طبيعتها. فأوفد السيد يحيى الدارابي،(2) وهو أغزر رعاياه علمًا وأفصحهم قولاً وأوسعهم نفوذًا، لمقابلة

________________________
(1) انظر النسبة للدولة القاجارية في أول الكتاب.

(2) ’كتب عبدالبهاء عنه ما يأتي: "وكان هذا الرجل الشهير وهذه الروح الغالية يحفظ عن ظهر قلب أكثر من ثلاثين ألف حديث وكان محبوبًا من كافة طبقات الشعب وأصبحت له شهرة عامة في جميع أنحاء إيران وكانت سلطته وعلمه موضع اعتراف واسع كامل."‘ (من كتاب خطي خاص بحوادث الاستشهاد في إيران) ’وكان هذا الشخص كما يدل عليه اسمه مولودًا في داراب قريبًا من شيراز ووالده السيد جعفر الملقب ﺑ"الكشفي" من أعظم وأشهر العلماء في زمانه وكان سمو أخلاقه الفاضلة واستقامه تعامله قد جذب تقديرًا واسعًا واحترامًا عامًا. ولقب بالكشفي لعلومه أي أنه اكتشف الأسرار الإلهية وفسرها. وإذ قام على تربيته بنفسه لم يتأخر نجله عن أن يساويه في الرتبة من جميع الوجوه وكانت له نفس الحظوة الشعبية التي كانت لوالده. وعندما ذهب إلى طهران سبقته شهرته وصيته. وأصبح ضيفًا منتظمًا للأمير طهماسپ ميرزا مؤيد الدولة حفيد فتح علي شاه من أبيه محمد علي ميرزا. وكانت الحكومة نفسها تقدره لعلمه وجدارته، واستشير أكثر من مرة في أمور شاقة. وكان هو الذي خطر على بال كل من محمد شاه والحاج ميرزا آقاسي عندما أرادا رسولاً مؤتمنًا يرسلونه في هذه المهمة يكون صدقه لا شك فيه مطلقًا.‘ ("السيد علي محمد الباب"، لنقولاس، الصفحة 233) ’وبينما كانت هذه الحوادث تقع في شمال إيران كانت المقاطعات الوسطى والجنوبية تتعرض لحملة إيقاظ بليغة شنها مبلغو العقيدة الجديدة ببلاغتهم المتقدة. وكان الشعب، على ما هو عليه من الطيش والسذاجة والجهل والوهم المطلق، قد انصعق من سماعه عن المعجزات المتواصلة التي تروى له في كل لحظة، وكان الملاّوات القلقون قد شعروا بتخوف وارتعدوا من إيمان أتباعهم واستعدادهم للتخلص من سيطرتهم، فضاعفوا شتمهم وافتراءهم ونشروا روايات مختلقة وأكاذيب ملفقة بين السكان المترددين بين الامتعاض والإعجاب... وكان السيد جعفر غير مطلع على عقائد الشيخية أما بالنسبة للملاّ صدرا فكان مدركًا لأفكاره، ومع ذلك فإن حماسه المتقد ومخيلته المستنيرة قد أخرجته، قرب نهاية حياته، من حبائل الشيعة الأصولية، فكان يفسر الأحاديث بطريقة تخالف طريقة أقرانه ويدعي، كما قيل عنه، أنه اخترق السبعين، يعني من المعاني الغيبية للقرآن. وكان نجله الذي على أثره اجتاز هذه الصعوبات قد بلغ من العمر 35 سنة تقريبًا. وبعد أن أتم دروسه جاء إلى طهران وفيها صاحب بشكل وثيق كل من اعتبره بلاط الشاه عظيمًا متميزًا. وهو الذي وقع عليه اختيار صاحب الجلالة. لذلك تم تكليفه بالذهاب إلى شيراز والاتصال بالباب وإعلام السلطة المركزية، على أدق نحو ممكن، بالنتائج السياسية التي يمكن حصولها من الإصلاح الذي يظهر أنه سيؤدي إلى اضطراب قلب المملكة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 387-388)

حضرة الباب وكتابة تقرير عن نتيجة تحرياته. وكان للشاه ثقة تامة في حياده وكفاءته ورؤيته الروحانية العميقة. وكانت له مكانة مرموقة بين كبار رجالات إيران، حتى إنه في أي مجمع يحضره يكون هو المتكلم فيهم ومهما حضر في المجمع من رؤساء الدين لا يجسر أحد منهم أن يذكر رأيه في محضره وجميعهم يكونون صامتين أمامه بكل احترام ومقرين ومذعنين برجحان عقله وغزارة علمه وحكمته البالغة.

وكان السيد يحيى في تلك الأيام يقطن في طهران في منزل لطف علي، رئيس تشريفات الشاه كضيف معزز لجلالة الملك. فأسرّ الشاه إلى ميرزا لطف علي برغبته وغبطته في أن يقوم السيد يحيى بزيارة شيراز ويفحص هذا الموضوع شخصيًا. وأمره الملك قائلاً: ’أخبره عنّا بثقتنا العالية في استقامته، وإعجابنا بمعاييره الأخلاقية والفكرية، ونعتبره أليق عالِم في قُطرنا، فإننا ننتظر منه أن يتوجه بنفسه إلى شيراز ويفحص أمر السيد الباب بدقة ويخبرنا بنتائج تحرياته حتى ننظر في الإجراءات التي يجدر بنا اتخاذها نحوه.‘

وكان السيد يحيى نفسه أيضًا راغبًا في الحصول على أدقّ المعلومات الخاصة بدعوة حضرة الباب، ولكنه لم يكن يتمكن من السفر إلى فارس نظرًا للأحوال غير الملائمة. فاضطره أمر محمد شاه أن ينفذ عزمه الذي طالما كان يتمناه. وبعد أن أكد للشاه استعداده لتنفيذ رغبته، سافر إلى شيراز على الفور.

وأثناء الطريق فكّر في الأسئلة المختلفة التي سيلقيها على حضرة الباب لأن صحة الرسالة تتوقف حسب رأيه على الإجابة عن هذه الأسئلة. وإذ وصل إلى شيراز قابل الملاّ الشيخ علي الملقب ﺑ"عظيم"، والذي كان صديقه الحميم في خراسان. وسأله هل هو مسرور من مقابلته لحضرة الباب، فأجابه عظيم: ’عليك أن تقابله ثم تبحث بنفسك دون تدخل أحد حتى تطّلع بنفسك على أمره. وكصاحب لك، أنصحك أن تسدي إليه منتهى الاحترام أثناء المحادثات لئلا تندم آخر الأمر على أي جفاء يصدر منك نحوه.‘

وكانت مقابلة السيد يحيى مع حضرة الباب في منزل الحاج ميرزا سيد علي، وأظهر لحضرته الاحترام والإجلال أثناء المحادثة كما أوصاه عظيم، ومكث زهاء ساعتين يلفت نظر حضرة الباب إلى المسائل العويصة والمواضيع الغيبية في التعاليم الإسلامية وإلى أكثر

فقرات القرآن غموضًا وإلى أحاديث أئمة الدين ونبوءاتهم. وكان حضرة الباب ينصت أولاً إلى إشاراته العلمية عن الشريعة والنبوات الإسلامية ويستوعب كل أسئلته، ثم يشرع في بيان الجواب المقنع المختصر لكل سؤال. وكانت سلاسة أجوبته واختصارها ودقتها بحيث أثارت دهشة السيد يحيى وإعجابه، وغلبه شعور بالإذلال بما كان عليه من صلف وكبرياء، فزال إحساسه بالتفوق كليًا. ولما عزم على الانصراف، وجه إلى حضرة الباب الكلمات التالية: ’إن شاء الله في المقابلة الآتية أعرض لكم بقية أسئلتي وبها أنتهي من بحثي.‘ وبعد مغادرته اجتمع بعظيم وأخبره بما جرى في المقابلة. وقال له: ’إنني أسهبت في محضره في إظهار معارفي بلا مبرر، ولكنه بكلمات قليلة تمكن من الإجابة عن كل أسئلتي وحلّ لي ما أشكل عليّ. وشعرت أمامه بتذلل وخضوع جعلني أسرع وأطلب الانصراف من أمامه.‘ فذكّره عظيم بنصيحته وتوسل إليه عدم نسيانها في المرة القادمة.

وفي المقابلة الثانية وجد السيد يحيى، لفرط دهشته، أنه نسي كافة الأسئلة التي عزم على طرحها على حضرة الباب. فاكتفى بمواضيع لا علاقة لها ببحثه، ولكنه اكتشف، لمزيد من الحيرة والدهشة، أن حضرة الباب كان يجيب بنفس السلاسة والاختصار اللذين شهدهما، عن الأسئلة التي نسيها وقتيًا. ووصف السيد يحيى ذلك فيما بعد، قال: ﴿كنت أشعر إذ ذاك أني أنام نومًا عميقًا وكانت كلماته وإجاباته عن المسائل التي نسيت أن أسألها توقظني من سباتي، وكان يتردد في أذني وفي سرّي صوت يقول: ’ألا يمكن أن يكون ذلك كله من باب المصادفات؟‘ وكنت مضطربًا لدرجة لم أتمكن من ترتيب أفكاري، وطلبت ثانيًا الإذن بالانصراف. وقابلني عظيم فيما بعد وقال لي في غير مبالاة وهو مقطّب الوجه: ’يا ليت كانت هذه المدارس التي تعلمنا فيها مغلقة وليتنا لم ندخلها! فمن قصر عقولنا وغرورنا احتجبنا عن فضل الله الذي هو مخلصنا، وكنا سببًا لمتاعب منبع الفضل، ألا يحسن بك أن تتضرع لله في هذه المرة ليهبك في محضره شرف الانقطاع والخشوع ليخلصك بلطفه ورحمته من جور الشك والحيرة؟‘

فصممت في المقابلة الثالثة أن أطلب من حضرة الباب في سر سري تفسيرًا لسورة الكوثر من القرآن. وعزمت أن لا أذكر هذا الطلب في محضره. فإذا أتى بالتفسير من تلقاء

نفسه وبكيفية تخالف بحسب رأيي التفاسير المعهودة، اقتنعت إذ ذاك بصحة رسالته السماوية واعتنقت أمره، وإلا فلا أعترف به. وبمجرد أن أدخلت إلى محضره شعرت بخوف لم أكن أعلم سببه، وكنت أرتجف وأنا أنظر إلى وجهه، ومع إني كنت قد حضرت عدة مرات أمام الشاه نفسه دون أي اضطراب، إلا إني كنت غير قادر على الوقوف على قدمَي. ولما شاهد حضرة الباب حالتي، قام من مقعده وتقدم نحوي وأخذ بيدي وأجلسني بجانبه وقال: ’اطلب مني كل ما يريده قلبك، أذكره توًا لك.‘ فبقيت صامتًا في حيرتي كطفل لا يقدر أن يفهم أو يتكلم، وشعرت بعجز عن الاستجابة. فتبسم وهو ينظر إليّ وقال: ’إذا فسرت لك سورة الكوثر، هل تعترف أن كلامي هو من روح الله؟ وهل تعترف بأن بياني لا علاقة له بالسحر والشعوذة؟‘ فسكبت عيوني الدموع وأنا أسمعه يلفظ تلك الكلمات. وما تمكنت أن أتكلم بشيء سوى الآية القرآنية: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين."(1)

وكان الوقت لا يزال باكرًا من ساعات العصر إذ طلب حضرة الباب من الحاج ميرزا سيد علي أن يأتيه بعلبة أقلامه وبعض الورق ثم بدأ تفسيره على سورة الكوثر. وكيف أقدر أن أصف جلال ذلك المنظر المهيب؟ فكانت الآيات تنهمر من قلمه بسرعة مدهشة لا تصدق.(2)

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 23.

(2) وذكر في "كشف الغطاء" (الصفحة 81) أن الباب نطق بما لا يقل عن ألفي آية في تلك المناسبة. وكانت سرعة نزول الوحي مدهشة في نظر السيد يحيى بقدر ما كان جمال الآيات النادر وما أفعمت به من المعاني الدقيقة. فقد ذكر في "البيان" الفارسي (الجزء 1، ص 43) أنه في ظرف خمس ساعات أنزل ألفي آية بسرعة لا تكفي إلا للإملاء وبقدر ما يكتب الكاتب، ومن ذلك يمكن الحكم، إذا أمكن العد، كم من الكتب أنزلت وانتشرت بين الناس منذ ابتداء الدعوة للآن. وذكر في نفس المصدر أعلاه (الجزء 2، الصفحة 132) يقول: "ولقد أعطاه الله من القدرة وقوة البيان والبلاغة ما إذا كتب الكاتب بكل سرعته يحصل على ما يوازي القرآن في ظرف يومين وليلتين مما ينزل من معدن هذه الكلمات." (وفي الواحد الثاني من الباب الأول من "البيان") يقول: "وإذا تفكّر أحد في ظهور سدرة الباب ليعتقد دون تردد في علو دين الله وسموّه. فإذا كان شخص مر من حياته أربع وعشرون عامًا وهو خال من العلوم التي تفقه فيها الكثيرون، وتنزل عليه الآيات دون أي تفكر أو تردد، وفي ظرف خمس ساعات يكتب ألف آية من المناجاة دون توقف القلم، ويصدِر من التفاسير والرسائل العلمية ومن الحكمة العالية والتفهم للتوحيد الإلهي مما يعجز عن فهم مضامينه العلماء والفلاسفة، فلا شك أنها صادرة جميعها من الله." ("مقالة سائح"، الحاشية سي، الصفحة 219)

وكانت سلاسة كتابته العجيبة، وعذوبة همسات صوته وتغنياته، وقوة بيانه المهيب قد اجتمعت لتدهشني وتحيرني. واستمر على هذا المنوال لغاية الغروب. ولم يتوقف حتى أتم تفسير السورة بكاملها. ثم وضع القلم وطلب الشاي. وبعد ذلك ابتدأ يقرأ التفسير بصوت جهوري أمامي. فكان قلبي يخفق وصرت كالمجنون من شدة تأثري وأنا أصغي إلى نغمات قراءته الشجية التي لا توصف بالعبارة وتفسيره الرفيع الهادئ لتلك الكنوز المحجوبة.(1) وسحرني جمالها على شأن كنت على وشك الإغماء ثلاث مرات. فكان ينعش قواي المنهكة برش نقط من ماء الورد على وجهي، فاستعيد بعدها قوتي وأتمكن من متابعة قراءته للنهاية.

وبعد أن أتم تلاوته قام ليغادر، وأوصى خاله بي قائلاً: ’ليكن في ضيافتك إلى أن يُتِمّ مع الملاّ عبد الكريم استنساخ ما نزل حديثًا من التفسير ويقابله بالدقة مع الأصل.‘ وصرف الملاّ عبد الكريم معي ثلاثة أيام بلياليها في تلك المهمة، وكنا نتناوب القراءة بصوت عال أجزاء من التفسير، حتى أتممنا استنساخها. وتحققنا من الأحاديث الواردة في الأصل ووجدناها على غاية من الدقة. ووصل إيماني بعظمة الأمر إذ ذاك إلى درجة، لو اجتمعت قوات الأرض جميعها واتحدت ضدي فلا تقدر أن تقلل شيئًا منه.(2)

ولما كنت قاطنًا في منزل حسين خان حاكم فارس منذ ورودي إلى شيراز، شعرت بأن تغيبي المطول من منزله ربما أوجب له الشكوك وأثار فيه الغضب. فعزمت على الاستئذان من الحاج ميرزا سيد علي ومن الملاّ عبد الكريم، لأعود إلى مقر الحاكم. وبمجرد وصولي وجدت أن حسين خان الذي كان يبحث عني في تلك الأثناء، متلهف ليعلم إذا كنت وقعت فريسة لتأثير حضرة الباب السحري، فأجبته قائلاً: ’لا يقلّب قلب

________________________

(1) ’والحق يقال إن كتابة تفسير جديد على سورة عويصة دون توقف قلم، أدهش السيد يحيى ولكن الذي زاد في دهشته أنه وجد في نفس التفسير ما كان يعتقده بنفسه واكتشفه بتأملاته في الآيات الثلاث، وبذلك اتفق مع المصلح في تفسير كان يظن أنه وحده المكتشف له وأن غيره لم يطلع عليه.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 234)

(2) ’ومن أعجب الأمور أن يكون من بين الذين صدقوا دعوة الباب الكثيرون من كبار العلماء والمجتهدين الذين لهم مركز عظيم في تفسير الأحكام الدينية في الإسلام وكثير من هؤلاء ختم إيمانه بدمه.‘ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران" للّيدي شيل، الصفحتان 178-179)

السيد يحيى إلا الله وحده، فهو مقلّب القلوب والذي يقدر على أسر قلبه هو من الله. وكلمته بلا شك من صوت الحق.‘ وكان جوابي قد أسكت الحاكم. وأثناء محادثتي مع آخرين فيما بعد، علمت أنه ذكر لهم أني وقعت فريسة عاجزة لسحر ذلك الشاب. بل إنه كتب إلى محمد شاه واشتكى أنه في مدة إقامتي في شيراز امتنعت عن الاتصال بعلماء تلك المدينة. وكتب إلى مليكه: ’ولو أنه في الظاهر ضيفي، إلا أنه كان متغيبًا جملة أيام وليالي متتابعة عن منزلي ولست أشك مطلقًا أنه أصبح بابيًا وأن قلبه وروحه أصبحا أسيرَي إرادة السيد الباب.‘

ونقل أن محمد شاه نفسه وجّه الكلمات التالية، في إحدى المناسبات الرسمية في عاصمته، إلى الحاج ميرزا آقاسي: ’بلغنا أخيرًا(1) أن السيد يحيى الدارابي صار بابيًا. فإذا صح ذلك، فالأليق بنا أن لا نقلل من أهمية أمر ذلك السيد (الباب).‘ ثم وصل حسين خان الأمر الشاهاني الآتي: ’ممنوع لأي أحد من الرعية أن يتفوه بأي كلمة يُشم منها انتقاص لرتبة السيد يحيى الرفيعة. فهو من سلالة الأشراف وذو علم واسع وفضل تام كامل. ولا يستمع بأي حال لأمر ما، إلا إذا اعتقد أنه يؤول إلى تقدم مصالح مملكتنا وعزة دين الإسلام.‘

ولما وصل هذا الأمر الشاهاني إلى حسين خان أصبح غير قادر على مقاومتي جهرًا، وكان يجتهد في تقويض سلطتي سرًا. ولم يستطع وجهه إخفاء العداوة والبغضاء. ولكن خاب سعيه في ايذائي أو توهين سمعتي نظرًا لما كان يظهره الشاه نحوي من الإكرام والعطف البيّن.

وأمرني حضرة الباب فيما بعد أن أسافر إلى بروجرد وهناك أبلّغ والدي(2) الأمر الجديد. وحثني على أن أعامله بكل صبر ولطف. ومن محادثاتي الخصوصية مع والدي علمت

________________________

(1) وذكر في "مقالة سائح" (صفحة 7، في الترجمة العربية) أن السيد يحيى ’كتب بلا خوف ولا تردد تفصيلات حاله إلى ميرزا لطف علي خادم الحضور (رئيس التشريفات) ليعرضها على الخاقان المغفور له، ثم أخذ يطوف البلاد الإيرانية واندفع يدعو الناس على رؤوس المنابر‘ في كل بلدة وقرية ’إلى حد حكم سائر العلماء الأعلام بجنونه وعدّوا عمله سحرًا مبينًا.‘

(2) وكان اسمه السيد جعفر الكشفي لمهارته في كشف معاني القرآن والرؤى المتعددة التي ادعى أنه رآها.

أنه لا يميل إلى إنكار الرسالة التي أتيته بها. ولكنه فضّل أن أتركه وشأنه وأسمح له بمتابعة طريقه الخاص.﴾

وممن فحص الأمر بلا تحيز من أعلام المملكة واعتنقه أخيرًا الملاّ محمد علي(1) من أهالي زنجان، والذي لقّبه حضرة الباب بالحُجّة الزنجاني. وكان ذا فكر مستقل ومشهورًا بالأفكار الجديدة والتخلص من كل القيود التقليدية. وعاب كل درجة من درجات نظام الرياسة الدينية الموجودة في المملكة من الأبواب الأربعة(2) إلى أصغر ملاّ من معاصريه. واحتقر أخلاقهم وتأسف على انحطاطهم وأطنب في ذكر مساوئهم. واشتهر قبل إيمانه بعدم اعتباره للشيخ أحمد الأحسائي وللسيد كاظم الرشتي.(3) وكان حانقًا على حصول الحوادث التي لطخت تاريخ الشيعة في الإسلام حتى إن كل من ينتمي إلى هذه الطائفة كان في نظره غير جدير بالاحترام مهما بلغت إنجازاته الشخصية. وتكررت منه حوادث الجدل العنيف مع علماء زنجان، ولولا تدخل الشاه الشخصي لأدى الأمر إلى اضطراب الأمن الخطير وسفك الدماء. وأخيرًا استدعي إلى العاصمة وطلب منه أن يثبت ادعاءه أمام جمع غفير من معارضيه ومن مندوبي رؤساء الدين في طهران ومدن أخرى. وفاز على مناظريه مع أنه كان وحيدًا وأفحمهم حتى اضطروا للاعتراف ظاهرًا بسلطته وتأييد رأيه ولو أنهم باطنًا كانوا يخالفون آراءه ويعيبون مسلكه.

وبمجرد أن وصل نداء الأمر الجديد إلى سمعه من شيراز أرسل الحجة أحد تلاميذه، الملاّ إسكندر الحائز على ثقته التامة، ليبحث الموضوع بحذافيره ويرسل له تقريرًا بنتيجة تحرياته. ولما كان لا يعبأ بمدح أو قدح مواطنيه الذين يشك في مصداقيتهم ويحتقر آراءهم، فقد أرسل مندوبه إلى شيراز وزوده بتعليمات محددة بعمل تحقيق مستقل دقيق. وتوصل الملاّ إسكندر إلى مقابلة حضرة الباب وفي الحال شعر بقوة تأثيره المحيية.

________________________
(1) وكان لقبه "حجة الإسلام".

(2) والأبواب الأربعة كل منهم ادعى أنه الواسطة بين الإمام الغائب وأتباعه.

(3) كان من فرقة الأخبارية. انظر كتاب "الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو. (الصفحة 23 وما بعدها)

ومكث أربعين يومًا في شيراز وفي أثنائها تشرب مبادئ أمر الله ونال، على قدر استعداده، إدراكًا لمدى عظمة الأمر.

وبموافقة حضرة الباب رجع إلى زنجان ووصل في وقت كان علماء المدينة مجتمعين في محضر الحجة. ولم يكد يصل حتى سأله الحجة إذا كان قد آمن بالأمر الجديد أم لم يؤمن؟ فقدم الملاّ إسكندر الأوراق المشتملة على كتابات حضرة الباب التي أحضرها معه، وأكد أنه مهما كان حكم سيده، فإنه يكون من واجبه الانقياد له. فصاح الحجة غاضبًا: ’ماذا؟ لولا وجود هذه الجماعة المميزة لكنت أوقعت بك عقابًا شديدًا. بل كيف تجرؤ أن تجعل مسائل المعتقد متعلقة على قبول أو رفض أي شخص آخر؟‘ وما أن تسلّم من يد موفده نسخة من "قيوم الأسماء" وقرأ صفحة من ذلك الكتاب حتى خرّ ساجدًا وصاح قائلاً: ’أشهد أن هذا الكلمات التي قرأتها قد صدرت من نفس المنبع الذي أظهر القرآن. ومن عرف الحق في ذلك الكتاب المقدس، لا بد وأن يشهد بالمنبع الربّاني لهذه الكلمات وعليه أن يخضع إلى الأحكام التي يفرضها صاحبها. وإني أشهدكم أيها الحاضرون في هذا المجلس بأني أجعل طاعة صاحب هذا الظهور واجبة عليّ حتى لو حكم على الليل حكم النهار أو على الشمس حكم الظل لأطعت حكمه دون أي تردد ولاعتبرت قضاءه صوت الحق. وكل من أنكره فإني أعتبره أنه أنكر الله نفسه.‘ وبهذه الكلمات أنهى وقائع ذلك المجلس.(1)

________________________

(1) يقول الحاج ميرزا جاني: ’إني قابلته، (الملاّ محمد علي) في طهران في منزل محمد خان الكالانتر، وكان محبوسًا فيه لاعتقاده في أمر حضرة الباب، وكان يقول: ’’إني كنت أحد الملاّوات فخورًا بنفسي ومدعيًا الرياسة حتى إني كنت لا أخضع لأي أحد حتى ولا للمرحوم الحاج السيد باقر الرشتي الذي هو معتبر بأنه حجة الإسلام وأعلم العلماء الأعلام. وكانت آرائي كفرقة الأخبارية، وكنت أخالف جمهور العلماء في بعض المسائل، وكان الناس يشتكون مني فدعاني محمد شاه إلى طهران. ولما وصلت وقرأ كتبي وفهمها سألته أن يطلب السيد (باقر الرشتي) أيضًا حتى نتجادل معًا. فعزم في أول الأمر على تنفيذ ذلك ثم عدل عنه خوفًا من تفاقم الأمر واتساع الخرق. وبالاختصار رغمًا عن كل هذا الاعتماد على النفس بمجرد أن وصلتني كتابات مولاي وقرأت صفحة واحدة من آيات نقطة الفرقان، أحسست كشخص خارج عن طوره، واعتنقت دعوته تلقائيًا ولكن بكامل اختياري وصرت عبده المخلص، لأني شاهدت فيه أنبل معجزات الرسول ﷺ ، ولو كنت رفضتها لكنت في الوقت نفسه قد رفضت دين الإسلام.‘‘ ‘ (تاريخ الحاج ميرزا جاني، الملحق 2، "التاريخ الجديد"، الصفحتان 349-350)

وسبق لنا في الصفحات السالفة أن أشرنا إلى طرد القدوس والملاّ صادق من شيراز وحاولنا، قدر المستطاع، وصف العقوبة التي أوقعها عليهما ذلك الطاغية المفترس حسين خان. والآن يجدر أن نذكر جانبًا من طبيعة نشاطاتهما بعد طردهما من تلك المدينة، فإنهما استمرا بضعة أيام يسافران معًا ثم افترقا، وذهب القدوس إلى كرمان ليقابل الحاج ميرزا كريم خان، ووجه الملاّ صادق خطاه إلى يزد بقصد متابعة عمله بين العلماء في تلك المقاطعة، وهو نفس العمل الذي أجبر على تركه في فارس بكل قسوة. ولما وصل القدوس إلى كرمان استقبله في منزله الحاج السيد جواد الكرماني الذي عرفه في كربلاء، والذي اعتُرف له بين أهالي كرمان بالعلم والبراعة والقدرة. وفي كل المجالس التي التأمت في منزله كان يخص ضيفه الشاب بكرسي الشرف ويعامله بغاية الإجلال والتعظيم. وكان من شأن هذه الحظوة لشاب يبدو شخصًا عاديًا، أن اشتعلت نيران الحسد في قلوب تلاميذ الحاج ميرزا كريم خان، الذين وصفوا بلغة جلية مبالغ فيها ما ينعمه السيد من مظاهر التشريف على شخص القدوس، وكان غرضهم من ذلك إيقاظ عداوة رئيسهم. فهمسوا في أذنه قائلين: ’انظر! إن المحبوب الخاص للباب وموضع ثقته الأكبر وأكثر أتباعه تقربًا، هو الآن ضيف معزز مكرم عند أقوى وأقدر شخص بين سكان كرمان. فإذا سمح له بأن يعيش بصحبة الحاج السيد جواد فإنه بلا شك ينفث سمومه في روحه ويهيئه ليكون أداة لإنجاح مقصده في زعزعة سلطتك وإطفاء صيتك.‘ وإذ ارتعب الحاج ميرزا كريم خان الجبان من هذه الهمزات الشريرة ذهب توًا إلى الحاكم وأقنعه أن يذهب شخصيًا إلى الحاج السيد جواد ويطلب منه الامتناع عن تلك المصاحبة الخطرة مع القدوس. فلما خاطبه الوالي في ذلك، اهتاج الحاج السيد جواد وأجابه محتدًا بقوله: ’كم مرة نصحتك بتجاهل وساوس المتآمر الشرير! فقد تشجع بما يراه من تسامحي، فليحذر أن يتعدى حدوده. فهل يريد أن يغتصب مقامي؟ ألم يقابل في بيته آلافًا من أرذل وأحط الناس ويتملقهم بأحط التملقات؟ ألم يجتهد مرارًا في إعلاء شأن الأشقياء وإسكات الأبرياء؟ ألم يسعَ، عامًا بعد عام، لإرضاء شهواته بواسطة تقوية أيدي الأشرار والتحالف معهم؟ ألا يصر إلى هذا اليوم على التفوه بتجديفاته وتقولاته ضد كل ما هو طاهر ونقي في الإسلام؟ يبدو

أن سكوتي جعله يزيد في وقاحته وتهوره فهو يجيز لنفسه الحرية التامة في ارتكاب أشنع الموبقات ولا يرضى أن يتركني أكرم في منزلي رجلاً على هذا القدر من الصدق والعلم والنبل. فليحذر بعد الآن وإن لم يمتنع عن هذه الفعال فإن أراذل المدينة سوف يطردونه من كرمان بناء على أول إشارة مني.‘ فلما سمع الحاكم هذا التهديد الشديد، اعتذر عن تصرفه. وقبل افتراقه أكد للحاج السيد جواد بأن لا يخشى أمرًا وأنه سيجتهد في تنبيه الحاج ميرزا كريم خان إلى حماقة سلوكه ويحثه على التوبة.

وكانت رسالة السيد قد لسعت الحاج ميرزا كريم خان وانتابته مشاعر الاستياء الشديد الذي لم يقدر أن يكبته أو يزيله، وأدت إلى فقدانه كل أمل في الحصول على رياسة أهل كرمان دون منازع. وكانت هذه المباهلة المكشوفة بمثابة دق ناقوس المنية لطموحاته الغالية.

وفي خلوة منزله استمع الحاج السيد جواد إلى القدوس وهو يروي تفاصيل نشاطاته جميعها من يوم مغادرته كربلاء لغاية عودته إلى كرمان. وقصّ عليه كيفية إيمانه وحجّه بعد ذلك مع حضرة الباب. وحركت روايته مخيلة مضيفه وأوقدت في قلبه شعلة الإيمان، ولكنه فضّل أن يخفي إيمانه أملاً في أن يحرس مصالح جامعة الأحباء الجديدة بفاعلية أكبر. فأكد له القدوس بكل محبة: ’إن عزمك النبيل بحد ذاته يكون مقبولاً كخدمة عظيمة لأمر الله. وسيساعدك القدير ويؤيدك ويجعلك في كل الأحوال غالبًا على أعدائك.‘

وحكى لي هذه الرواية ميرزا عبد الله خواجه الذي سمعها في كرمان من فم الحاج السيد جواد نفسه. وقد ظهر صدق نيّة السيد في الطريقة البديعة التي نجح بها، نتيجة جهوده، في مقاومة تعديات الحاج ميرزا كريم خان الماكر الذي لو ترك وشأنه لكان ألحق بأمر الله أضرارًا جسيمة.

ومن كرمان قرر القدوس السفر إلى يزد ومن هناك إلى أردِكان ونائين وأردستان وإصفهان وكاشان وقُم وطهران. وفي كل واحدة من هذه المدن نجح في أن يغرس في أفكار مستمعيه تلك المبادئ التي قام بكل شجاعة على ترويجها، وذلك رغم العقبات التي اعترضت سبيله. وسمعت آقا كليم أخا حضرة بهاءالله يصف مقابلته مع القدوس في طهران،

صورة 70
صورة 71
مناظر منزل والد القدوس في بارفروش

قال: ’إن سحر شخصيته، ومحبته العارمة، مجتمعين مع وقار هيئته كانت من الصفات التي جذبت حتى أقل الناس ملاحظة. فكل من اختلط به يأخذه العجب الشديد من سحر ذلك الشاب. وذات يوم لاحظناه وهو يتوضأ وأعجبنا من الوقار الذي ميزه عن عامة المتعبدين في أداء هذه الفريضة العادية. فقد ظهر لأعيننا بأنه كان تجسيدًا للطهارة والفضل.‘

وفي طهران تشرف القدوس بالدخول إلى محضر حضرة بهاءالله ثم أكمل سفره إلى مازندران حيث أقام في منزل والده في بارفروش مدة سنتين تقريبًا، كان في أثنائها محاطًا بمحبة أهله وأسرته. وكان والده قد تزوج بعد وفاة زوجته الأولى من سيدة كانت تعامل القدوس بكل شفقة ومحبة وعناية لا تنقص شيئًا عن عناية أي والدة، وكانت تتمنى أن تراه يتزوج وتبدي خشيتها من الذهاب إلى القبر دون أن تتمتع بهذا الفرح العظيم. وكان القدوس يجيبها بقوله: ’إن يوم عرسي لم يحِن بعد وإن ذلك اليوم سيكون بلا شك مهيبًا ولا يكون العرس داخل هذا المنزل بل في العراء وتحت قبة السماء في وسط سبزه ميدان وأمام أنظار الجموع المحتشدة. هناك يكون عرسي وهناك أشاهد تحقق آمالي.‘ وبعد مضي ثلاث سنوات عندما علمت تلك السيدة بظروف استشهاد القدوس في سبزه ميدان تذكرت تلك الكلمات المنبئة وفهمت معناها.(1) ومكث القدوس في بارفروش حتى انضم إليه الملاّ حسين بعد رجوع الأخير من زيارته لحضرة الباب في قلعة ماه كو، ومن بارفروش ذهبا معًا إلى خراسان واكتسبت تلك الرحلة مجدًا خالدًا بالإقدامات البطولية التي لا يبلغ شأوها أحد من قومهما.

أما الملاّ صادق، فبمجرد وصوله إلى يزد سأل أحد أصدقائه الموثوق بهم من أهالي خراسان عن آخر التطورات المتعلقة بتقدم أمر الله في تلك الجهات. وكان متلهفًا على الأخص لمعرفة نشاطات ميرزا أحمد الأزغندي وأظهر تعجبه مما بدا أنه فتور في نشاط من أظهر حماسًا قويًا ظاهرًا في إعداد الناس لقبول الأمر الموعود في ابتداء نشأته وقبل كشف سره.

________________________

(1) وقد ورد بيان مشابه في "كشف الغطاء" (الصفحة 227) ويقول المؤلف أنه سمع مثل ذلك من كثير من سكان مقاطعة مازندران.

وقد سمع الرواية التالية: ﴿اعتزل ميرزا أحمد في منزله مدة طويلة وركز طاقاته في إخراج كتاب كبير جمع فيه الأحاديث الإسلامية والتنبؤات الخاصة بميعاد هذا الظهور الموعود وطبيعته. وجمع فيه ما يزيد على اثني عشر ألف حديث من الأحاديث الواضحة الصحيحة والمسلم بها من العموم، وعزم على اتخاذ جميع الوسائل لاستنساخ هذا الكتاب ونشره. وشجع زملاءه التلاميذ على الاقتباس منه في المجالس والمحافل حتى يمكنه بذلك أن يزيل تلك العوائق التي تمنع تقدم الأمر العزيز على قلبه.

ولما وصل إلى يزد استقبله بكل ترحاب خاله السيد حسين الأزغندي، المجتهد الأبرز في تلك المدينة، وكان قبل وصوله ببضعة أيام، سبق أن أرسل إليه خطابًا يطلب حضوره إلى يزد ليتخلص من مكائد الحاج ميرزا كريم خان الذي يعتبره عدوًا خطرًا للإسلام غير معلن. وكان ذلك المجتهد قد طلب من ميرزا أحمد أن يحارب بكل قوته سطوة الحاج ميرزا كريم خان الضارة، ورغب إليه أن يجعل اقامته الدائمة في تلك المدينة حتى يتمكن بنصائحه وارشاداته المتكررة من تنوير عقول الشعب بخصوص حقيقة مقاصد ذلك العدو السيئ وأغراضه.

وكان ميرزا أحمد قد أخفى عن خاله رغبته الأصلية في السفر إلى شيراز، فقرر إطالة الإقامة في يزد. وأطلعه على كتابه الذي جمعه، وكان يشارك محتوياته مع العلماء الذين كانوا يهرعون من أرجاء المدينة لملاقاته. وكانوا جميعهم معجبين جدًا بما أظهره مؤلف ذلك الكتاب الشهير من مثابرة ومعرفة وحماس.

وكان من بين الذين حضروا لملاقاة ميرزا أحمد، شخص يدعى ميرزا تقي، وهو رجل شرير طموح متكبر، حديث العهد في رجوعه من النجف حيث أتم دراساته وتحصّل على رتبة مجتهد. وفي أثناء حديثه مع ميرزا أحمد أظهر رغبته في قراءة ذلك الكتاب وأن يسمح له بالاحتفاظ به لبضعة أيام حتى يحصل على فهم أوسع لمحتواه. فوافقه السيد حسين وابن أخته على ذلك الطلب، ولكن ميرزا تقي لم يفِ بوعده في إرجاع الكتاب. ولما كان ميرزا أحمد في ريب من مقصد ميرزا تقي، أخذ يلح على خاله أن يذكّر ذلك المستعير بوعده. ولكن الرسول الذي أرسل لاسترجاع الكتاب تلقى الرد الوقح التالي:

’أخبر سيدك أنني بعد أن تأكدت من مقاصد الكتاب السيئة، عزمت على محوه، وفي الليلة الماضية رميته في البركة وبذلك محيت صفحاته.‘

فثار سخط السيد حسين ونقمته الشديدة من هذا التصرف الماكر الوقح وعزم على الانتقام منه. ولكن ميرزا أحمد نجح بنصائحه الرشيدة في تهدئة روع خاله المتهيج وفي تحويله عن المضي في السبيل الذي عزم على سلوكه، وقال له: ’إن العقاب الذي تريد إيقاعه به سيؤدي إلى هياج الناس وينتج عنه ضرر وفتنة، وهو يتعارض مع جهودك التي تأمل في بذلها لهدم صولة الحاج ميرزا كريم خان. لأنه بلا شك ينتهز هذه الفرصة لاتهامك بأنك بابي ويجعلني مسئولاً عن تغيير دينك، فيتمكن بهذه الوسيلة من هدم سلطتك فضلاً عما يجنيه من احترام الناس له وامتنانهم منه، فلنتركه في يد الله.‘﴾

وفرح الملاّ صادق كثيرًا إذ علم من هذه الحادثة أن ميرزا أحمد موجود فعلاً في يزد وأنه لا توجد عوائق في سبيل مقابلته، ولذلك ذهب توًا إلى المسجد الذي كان يصلي فيه السيد حسين إمامًا، والذي يخطب فيه ميرزا أحمد. وجلس في الصف الأول من المصلين وانضم إليهم في الصلاة، وبعد إتمامها ذهب توًا إلى السيد حسين وعانقه علنًا، ودون إذن صعد إلى المنبر وابتدأ يخطب في جماعة المؤمنين، ومع أن السيد حسين ارتاع أولاً من هذه الجرأة، إلا أنه فضّل عدم معارضته حتى يعلم الدافع له على هذا العمل، ويتحقق من درجة علم هذا الزائر المفاجئ، فأشار إلى ابن أخته بعدم التعرض له.

وافتتح الملاّ صادق حديثه بخطبة من أروع عظات حضرة الباب، وبعدها خاطب الجمهور قائلاً: ’اشكروا الله يا أهل العلم لأنه قد فتح باب العلم الإلهي الذي تقولون عنه أنه أغلق، وفاضت مياه نهر الحياة الأبدية من مدينة شيراز واهبة أهل هذه البلاد نعمًا فائقة. والذي يشرب نقطة من بحر الفضل الإلهي يرى في نفسه قوة لحل الأسرار العويصة وتفسير أصعب المسائل في الحكمة القديمة مهما كان أميًا أو وضيعًا. وأما الذي اعتقد أنه أعلم مفسري دين الإسلام، واختار الاعتماد على مقدرته ومؤهلاته، وأنكر رسالة الله، فقد حكم على نفسه بالضياع والذلة الأبدية.‘

فاجتاحت الحاضرين موجة من الاستنكار والفزع لدى تفوه الملاّ صادق بهذه الكلمات المجلجلة بهذا الإعلان المدوي. وارتفعت في المسجد صيحات ’هذا كفر!‘ من الجمع الغاضب ضد الخطيب. وصاح السيد حسين وسط ضوضاء الناس وتذمرهم قائلاً: ’انزل عن المنبر.‘ وأشار إلى الملاّ صادق أن يسكت وينسحب. وما كاد ينزل إلى أرض المسجد حتى التف حوله جمهور المصلين وأوسعوه ضربًا. وتدخل السيد حسين في الحال وفرّق الجموع المحتشدة بكل همة وأمسك بيد الملاّ صادق وجذبه بقوة إلى جانبه وخاطب الجموع قائلاً: ’ارفعوا أيديكم عنه واتركوه في عهدتي وسآخذه إلى منزلي وأبحث الموضوع مليًّا، ربما نوبة جنون مفاجئة أجبرته على التفوه بهذه الكلمات. وسأفحصه بنفسي، وإذا وجدته متعمدًا أو معتقدًا في الأمور التي نطق بها، فإني بيدي أوقع عليه العقاب الذي يستوجبه شرع الإسلام.‘

وبهذا التأكيد الرزين نجا الملاّ صادق من هجمات المغيرين الشرسة. وإذ جُرّد من عباءته وعمامته، وحُرم من نعله وعصاه، وأثخن بالجراح، سلموه إلى رعاية مرافقي السيد حسين الذين فتحوا طريقهم عنوة بين الحشد وأفلحوا أخيرًا في اصطحابه إلى منزل سيدهم.

وكذلك أصاب الملاّ يوسف الأردبيلي في تلك الأيام اضطهاد أقسى شراسة وأشد تصميمًا من الهجوم الوحشي الذي أصاب الملاّ صادق على أيدي أهالي يزد. ولولا تدخل ميرزا أحمد ومساعدة خاله لوقع فريسة لغضب عدو مفترس.

ولما وصل الملاّ صادق والملاّ يوسف الأردبيلي إلى كرمان اضطرا إلى تحمل مثل هذا الاضطهاد والأذى ثانية على أيدي الحاج ميرزا كريم خان وأعوانه.(1) وأخيرًا خلصهما

________________________

(1) ’وحصل نزاع كبير بين المقدس وكريم خان الذي تبوأ، كما هو معروف، مركز رئيس الشيخية بعد وفاة السيد كاظم. وحصلت المناقشة أمام جمع غفير حيث تحدى كريم خان خصمه ليدلل على صدق دعوة الباب وقال له: ’’إذا نجحت فإني أول من يؤمن ويتبعني في ذلك تلاميذي ولكن إذا لم تقدر فإني سوف أصيح في الأسواق وأقول: انظروا إلى الذي أوقع أحكام الإسلام لتداس تحت الأقدام!‘‘ فأجاب المقدس: ’’إني أعلم من أنت يا كريم. ألا تذكر ما قاله لك مولاك السيد كاظم "يا كلب ألا ترضى أن أموت وبعد موتي يظهر الحق المطلق؟" فاشهد في هذا اليوم كيف اتبعت هواك بغناك وفخرك بحيث تكذب على نفسك!‘‘ وببداية كهذه ↓

صورة 72
السيد جواد الكربلائي

الحاج السيد جواد من قبضة مضطهديهما بمساعيه المتكررة ومكنهما من التوجه إلى خراسان.

ورغم الملاحقة والمضايقة من قبل أعدائهم، فإن تلاميذ حضرة الباب المقربين، بالإضافة إلى أصحابهم في مناطق متفرقة من إيران، لم تصدهم مثل تلك الأعمال الإجرامية عن إتمام تحقيق مهمتهم. وبعزيمة راسخة وثبات في العقيدة استمروا ثابتين في إيمانهم بلا ملل يحاربون جنود الظلام الذين هجموا عليهم في كل مقام في طريقهم. وبإخلاصهم الذي لا تشوبه شائبة وثباتهم منقطع النظير، تمكنوا من أن يظهروا للعديد من مواطنيهم التأثير النبيل لذلك الأمر الكريم الذي قاموا على نصرته.

ولما كان وحيد(1) لا يزال في شيراز، وصل الحاج السيد جواد الكربلائي(2) وأدخله الحاج ميرزا سيد علي إلى محضر حضرة الباب. وفي لوح وجّهه إلى وحيد والحاج السيد جواد، أثنى حضرة الباب على ثبات إيمانهما

_____________________________________________________________________

كان لا بد أن ينتهي النقاش مختصرًا. وعلى الفور استل بعض تلاميذ كريم خان خناجرهم وطعنوا بها الذي سب رئيسهم. ولحسن الحظ كان حاكم المدينة قد تدخل وقبض على المقدس وقاده إلى منزله. وأبقاه عنده فترة من الزمن حتى هدأت الخواطر وأبعده بعد ذلك ومعه عشرة من الخيالة إلى مسافة بضعة أميال خارج المدينة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 228-229)

(1) "وحيد" هو لقب أعطي للسيد يحيى الدارابي من حضرة الباب.

(2) وذكر في "كشف الغطاء" الأحوال العجيبة التي رافقت إيمان الحاج السيد جواد الكربلائي (الصفحات 70-76)، وأشار إلى لوح هام صدر له من بهاءالله (الصفحة 63) وفيه يؤكد على أهمية "الكتاب الأقدس" وأخذ الحيطة في تنفيذ أحكامه بالحكمة والاعتدال. ونقل نص اللوح في الكتاب (الصفحات 64-70). وذكر في "الدلائل السبعة" اشارة لإيمان الحاج السيد جواد الكربلائي قال: ’إن السيد جواد الكربلائي ذكر أن هنديًا كتب له اسم الداعي الذي سيظهر وذلك قبل إظهار الدعوة.‘ ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحة 59)

وأكد رسوخ إخلاصهما. وكان الأخير قد قابل حضرة الباب وعرفه قبل إظهار أمره وأعجب كثيرًا بتلك الصفات الخلقية العجيبة التي ميزته منذ نعومة أظفاره. وقابل فيما بعد حضرة بهاءالله في بغداد وكان محل عنايته الخاصة. ولما نفي حضرة بهاءالله بعد سنوات إلى أدرنة كان قد وصل إلى سن الشيخوخة، فرجع إلى إيران ومكث قليلاً في العراق ثم توجه إلى خراسان. ولرقة مزاجه وشدة تحمله ودوام بساطته حاز على لقب "سيد النور".

وذات يوم بينما كان الحاج السيد جواد يعبر شارعًا في طهران، رأى بغتة الشاه يمر ممتطيًا جواده. ودون أن يضطرب من وجود مليكه تقدم منه وحيّاه. فسرَّ الشاه جدًا من جلال بنيته ووقار هيكله ورد عليه التحية ودعاه لمقابلته. فأخذ الحسد حاشية الشاه لما رأوه من حسن استقباله واحتجوا قائلين: ’هل يعلم جلالة الشاه أن هذا الحاج السيد جواد ليس سوى الرجل الذي اعترف بأنه بابي حتى قبل إعلان السيد الباب وعاهده على الولاء المطلق لشخصه مدى الحياة؟‘ فلما اطلع الشاه على نواياهم السيئة، حزن جدًا ووبّخهم على طيشهم وصغر عقولهم. وروي أنه قال متعجبًا: ’يا عجبًا! كلما رأينا شخصًا مستقيمًا في سيره ومحترمًا في سلوكه اتهمه قومي بأنه بابي واعتبروه مستحقًا لسخطي!‘

فصرف الحاج السيد جواد بقية أيام حياته في كرمان وبقي حتى آخر ساعة مؤيدًا مخلصًا لأمر الله. ولم يتردد في اعتقاده أو يتهاون في جهوده الوافرة في سبيل نشره.

وكان ضمن الذين قابلوا حضرة الباب في شيراز في تلك الأيام الشيخ سلطان الكربلائي، الذي كان أسلافه من أشهر علماء كربلاء، وكان هو بنفسه مؤيدًا راسخًا وصديقًا حميمًا للسيد كاظم. وهو الذي ذهب فيما بعد إلى السليمانية للبحث عن حضرة بهاءالله، والذي تزوجت ابنته لاحقًا من آقا كليم. ولما وصل إلى شيراز، صحبه الشيخ حسن الزنوزي الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة من هذا الكتاب. وكان حضرة الباب قد عهد إليه وإلى الملاّ عبد الكريم باستنساخ الألواح التي نزلت أخيرًا. وإذ كان الشيخ سلطان مريضًا وقت وصوله، لم يتمكن من ملاقاة حضرة الباب، وذات ليلة بينما كان طريح الفراش وصلته رسالة من محبوبه يخبره فيها بأنه سوف يزوره بنفسه بعد ساعتين من غروب الشمس. فصدرت

الأوامر اللازمة إلى الخادم الحبشي الذي كان يحمل مصباحه أن يمشي على بعد مبتعدًا عنه حتى لا يلفت إليه الأنظار، وأن يطفئ السراج بمجرد وصوله إلى وجهته.

وسمعت الشيخ سلطان نفسه يصف تلك الزيارة الليلية قال: ﴿وكان حضرة الباب قد أمرني أن أطفئ السراج في غرفتي قبل وصوله، ودخل مباشرة ووقف بجانب سريري. أمسكت بذيل ردائه في ذلك الظلام الحالك وتضرعت إليه قائلاً: ’يا محبوب قلبي أجب ندائي واسمح لي أن أضحي بنفسي لأجلك فلا أحد خلافك يقدر أن يمنحني هذه العطية.‘ فأجاب حضرة الباب: ’يا شيخ إني أيضًا أتمنى أن أقدم نفسي قربانًا على مذبح التضحية، وعلينا نحن الاثنين أن نتشبث برداء المحبوب ونطلب منه السرور والفرح بالشهادة في سبيله. وتأكد بأني أدعو لك ربي القدير أن يمكنك أن تتشرف بلقائه، فاذكرني في ذلك اليوم الذي لم يرَ العالم شبهه من قبل.‘ وإذ جاءت ساعة الفراق وضع هدية في يدي وطلب أن أصرفها على نفسي، فحاولت أن أرفض، ولكنه رجاني أن أقبلها. وأخيرًا وافقته على مراده ثم قام وتركني.

وأثارت إشارة حضرة الباب إلى "المحبوب" في تلك الليلة عجبي وفضولي. وفي السنوات التالية كنت أعتقد أحيانًا أن الشخص الذي عناه حضرة الباب ليس سوى الطاهرة. وتخيلت أيضًا أن السيد "علوّ" هو ذلك الشخص. وصرت في حيرة شديدة من أمري ولم أعلم كيف أحل هذا اللغز. ولما وصلت إلى كربلاء وتشرفت بمحضر حضرة بهاءالله، تيقنت أنه هو وحده الذي يشير إليه حضرة الباب بمحبته، وأنه هو وحده الجدير بهذا الابتهال.﴾

وفي النوروز التالي لدعوة حضرة الباب الذي صادف 21 ربيع الأول سنة 1262ﻫ(1) كان حضرة الباب لا يزال في شيراز متمتعًا ببعض الراحة والسكون مع أسرته وأهله. واحتفل بهدوء بعيد النيروز في منزله، وحسب عادته أنعم على والدته وزوجته بمحبته وفضله. وبحكمة نصائحه ولطف محبته، فرّح قلبيهما وأزال همومهما وأوصى بجميع

________________________
(1) سنة 1846م.

ممتلكاته لهما وسجّلها باسميهما. وفي كتاب وصيته قرر بأن منزله وأثاثه وباقي أملاكه تكون ملكًا لوالدته وزوجته، وعند وفاة الأولى يرجع نصيبها إلى زوجته.

ولم تتوفق والدة حضرة الباب في البداية إلى إدراك أهمية رسالة ابنها. وبقيت مدة غير عالمة بعظمة القوة المودعة في ظهوره. إلا أنها لما قاربت أواخر أيام حياتها، أدركت قدر ذلك الكنز النفيس الذي حملته ووهبته للعالم. وكان حضرة بهاءالله هو الذي مكّنها أخيرًا من اكتشاف قدر ذلك الكنز المكنون الذي بقى سنين عديدة محجوبًا عن أنظارها. وكانت تعيش في العراق، حيث رغبت أن تصرف بقية أيام حياتها فيه، عندما أمر حضرة بهاءالله اثنين من أحبائه المخلصين، وهما الحاج السيد جواد الكربلائي وزوجة الحاج عبد المجيد الشيرازي، وهما من أخص معارفها أن يعلّماها مبادئ أمر الله. فاعترفت بأحقية الدعوة وعاشت لأواخر القرن الثالث عشر الهجري(1) وتوفيت وهي مدركة تمامًا للمواهب العميمة التي منحها لها ربّ العزة.

صورة 73
داخل منزل الحاج ميرزا سيد علي
في شيراز (خال حضرة الباب)

أما زوجة حضرة الباب فكانت خلافًا لوالدته قد اطلعت على جلال الأمر في أوائل إشراقه وشعرت من البداية بغزارة قوته. ولم يفُقها من قريناتها في قوة العبادة أو قوة الإيمان سوى الطاهرة. وقد أعلمها حضرته بسر آلامه المقبلة وكشف أمام عينيها أهمية الحوادث التي ستحصل في يومه. وأمرها أن لا تذيع هذا السر إلى والدته، ونصحها أن تصبر وتمتثل لإرادة الله. وأوصاها بدعاء خاص كتبه لها بنفسه، وأكد لها أن تلاوته تزيل عنها كل آلامها وتخفف حمل متاعبها. وقال لها: ’في وقت اضطرابك اقرئي هذا الدعاء قبل أن

________________________

(1) وكان آخر القرن الثالث عشر الهجري في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1882م.

تنامي فسأظهر لك وأزيل عنك همومك.‘ وكان صادقًا في نصحه، فكلما اتجهت له في صلواتها لم يلبث نور هدايته أن يضيء لها الطريق ويحل لها معضلاتها.(1)

وبعد أن أنهى حضرة الباب شؤون منزله ورتب أمور معيشة والدته وزوجته نقل إقامته من منزله إلى منزل الحاج ميرزا سيد علي، وهناك انتظر ساعة آلامه المنتظرة. وعرف أن المصائب المخزونة له لا يمكن أن تتأخر وأنه سوف يؤخذ وسط عاصفة الشدة والضراء ويُحمل منها سريعًا إلى ميدان الشهادة التي هي تاج فخر حياته. وأمر من أقام في شيراز من تلاميذه أن يرحلوا إلى إصفهان. وكان بينهم الملاّ عبد الكريم والشيخ حسن الزنوزي وأن ينتظروا هناك أوامره. وكذلك صدر الأمر للسيد حسين اليزدي أحد حروف الحيّ، وكان قد حضر إلى شيراز حديثًا، أن يسافر أيضًا إلى إصفهان، وينضم إلى زملائه من الأتباع في تلك المدينة.

وفي هذه الأثناء، كان حسين خان حاكم فارس يعمل كل جهده لإيقاع حضرة الباب في إرباكات جديدة وليحط من منزلته أكثر في نظر العامة. وكانت جمرات عداوته الخامدة قد عادت للاشتعال إذ علم أن حضرة الباب قد سُمح له بمواصلة نشاطاته بلا اعتراض، وأنه لم يزل قادرًا على لقاء بعض أصحابه، وأنه مستمر بمواصلة الاختلاط مع أسرته وأهله دون أي مانع.(2) ونجح الحاكم المذكور، بعون عملائه السريين، في الحصول على معلومات دقيقة عن طبيعة الحركة التي أسسها حضرة الباب ونفوذها. فراقب تحركات حضرته سرًا، وتحقق من درجة الحماس الذي أثاره، وتفحص دوافع أولئك الذين اعتنقوا أمره وعددهم.

وفي إحدى الليالي جاء إلى حسين خان رئيس جواسيسه ومعه تقرير بأن عدد الذين احتشدوا لرؤية حضرة الباب زاد لدرجة تستلزم تصرفًا سريعًا من جانب من كانت وظيفته

________________________

(1) ’وعاشت أرملة الباب لغاية سنة 1300ﻫ، أي قبل ست سنوات. وكانت أخت جد صاحبي لأمه. وسمعت ذلك من سيدة مسنة في الأسرة، لذلك هناك أكثر من سبب لاعتبار كلامها موثوقًا.‘ ("مجلة الجمعية الآسيوية الملكية" سنة 1889م، الصفحة 993)

(2) ’وفي تلك الأثناء استمر الاضطراب والمجادلات العنيفة في شيراز بحيث ضجر الحاج ميرزا آقاسي من كل هذه الضوضاء وخشى عواقبها فأصدر أمره إلى حسين خان نظام الدولة أن ينهي موضوع المصلح ويقتله سرًا على الفور.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 235)

صورة 74
منزل الحاج ميرزا سيد علي (خال حضرة الباب)

حفظ أمن المدينة. وقال له: ’إن الجمهور المتعطش الذي يجتمع كل ليلة لزيارة الباب، يفوق في العدد حشد الناس الذين يتزاحمون كل يوم على أبواب مقر حكومتك. ومن بينهم يشاهد رجال اشتهروا بعلو المقام والعلم الواسع.(1) وإن مرؤسيك لا يرضوا أن يعلموك بحقيقة الحال، لأن لخاله إحسان عليهم ويعاملهم بلباقة. وإنك لو تسمح لي فإني بمساعدة نفر من مرافقيك أفاجئ السيد الباب في منتصف الليل وأحضر لك بعضًا من أتباعه مغلولي الأيدي. وهم يخبرونك بكل نشاطاته ويصادقوني على قولي.‘ فلم يقبل

________________________

(1) ’وكان الملاّوات في فارس قد ضجروا وملوا ورأوا أنهم عاجزون عن ايقاف تيار الحركة التي هددتهم، ولكنهم لم يكونوا هم وحدهم المتحيرين بل أن السلطات المحلية في المدينة وفي المقاطعة أيضًا علموا أن الأهالي الذين كانوا دائمًا يشقون عصا الطاعة قد أصبحوا خارجين عن قبضة يدهم، لأن أهالي شيراز هوائيون مستهزئون مهرجون محبون للثورة والهياج ووقحون للغاية غير عابئين بسلالة آل قاجار بتاتًا، وكان من الصعب السيطرة عليهم ولاقى حكامهم أوقاتًا صعبة. فماذا يكون الحال بالنسبة لهؤلاء الحكام إذا كان الرئيس الحقيقي للمدينة والبلاد والحاكم النافذ على الجميع ومعبود الكل شابًا صغيرًا؟ البتة لا يخضع لهم أحد منهم، فلا تبادل للمنفعة بينه (المصلح) وبينهم، بل إنه يعمل لاستقلاله ولا يخشى أن يتهجم في كل يوم على ما هو معروف ↓

حسين خان تحقيق رغبته وكان جوابه: ’إني أعرف المصلحة التي تتطلبها الدولة أحسن منك، فراقبني عن بعد وسأعرف كيف أتعامل معه.‘

وفي تلك اللحظة دعا الحاكمُ عبدَ الحميد خان رئيس الشرطة في المدينة وأمره قائلاً: ’اذهب توًا إلى منزل الحاج ميرزا سيد علي. وبكل هدوء ودون أن يراك أحد، تسلّق الحائط واصعد إلى السطح ومنه ادخل فجأة المنزل واقبض على السيد الباب في الحال وأحضره إلى هنا ومعه كل من تجد من الزائرين. واضبط كل الكتب والوثائق التي تقدر أن تجدها في ذلك المنزل. أما الحاج ميرزا سيد علي، فقد عزمت أن أوقع به في اليوم التالي عقوبة عدم وفائه بالوعد. وإني أقسم بتاج محمد شاه الملكي أني في هذه الليلة لابد مرسل السيد الباب وأصحابه التعساء إلى ساحة الإعدام. وسيكون موتهم المشين مطفئ الشعلة التي أوقدوها، ومنبّه كل من يريد الانتماء إلى هذه العقيدة إلى الخطر الذي يتهدد كل من يعكر صفو هذه المملكة. وبهذا العمل أكون استأصلت بدعة كان استمرارها ليشكل أعظم خطر على مصلحة الدولة.‘

فانسحب عبد الحميد خان لتنفيذ المهمة. واقتحم مع مساعديه منزل الحاج ميرزا سيد علي،(1) ووجدوا حضرة الباب بصحبة خاله والسيد كاظم الزنجاني وهو الذي استشهد فيما بعد في مازندران، وكان أخوه السيد مرتضى ضمن الشهداء السبعة في طهران. فقبض عليهم جميعهم فورًا وأخذ كل ما وجده من الوثائق وأمر الحاج ميرزا سيد علي بالبقاء في منزله وقاد الباقين إلى مقر الحكومة. وقد سُمع حضرة الباب يردد الآية القرآنية بكل شجاعة وثبات: "إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟"(2)

_____________________________________________________________________

وثابت من الأصول والأوضاع المحترمة والقوية في المدينة، ومع أنه في الحقيقة والواقع لم يكن الحكام ولا أرباب السلطة مقصودين بالذات بالتشديد عليهم من المصلح، ولكنه لما كان قاسيًا على العلماء وأرباب الدين ولا يلين فيما يختص بتشديد النكير عليهم وزجرهم عن النهب والسلب، لذلك كان من المشكوك فيه أنه في ذات يوم يوافق على تصرفات الحكام وموظفي الدولة. ولا يحجم إذ ذاك عن توبيخهم أيضًا كما وبخ العلماء على ما لم يقدروا على ستره.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصحفتين 122-123)

(1) 23 سپتمبر/أيلول سنة 1845م. (انظر "التاريخ الجديد"، للحاج ميرزا جاني، الصفحة 204)

(2) القرآن الكريم، سورة هود، الآية 81.

وما كاد رئيس الشرطة يصل إلى السوق حتى وجد لفرط دهشته أن أهالي المدينة يهرعون ذاهلين في كل اتجاه كأنما دهمتهم مصيبة كبرى. وتملكه الفزع إذ رأى صفًا طويلاً من النعوش ينقل في الشوارع على عجل ويمشي خلف كل نعش موكب من الرجال والنساء وهم يصيحون ألمًا وحزنًا. فغمره الكرب والحيرة من هذه الضجة الفجائية والعويل والوجوه العابسة الوجلة والجلبة الصادرة من الجموع. وسأل عن السبب فأخبروه قائلين: ’إن وباء خبيثًا(1) انتشر فجأة هذه الليلة وقد ضربنا بقوته المهلكة، ومنذ منتصف الليل مات بسببه نحو مائة نفس، وارتفع العويل واشتد الخوف في كل منزل، والناس يتركون بيوتهم ويجأرون إلى الله أن ينجيهم في محنتهم.‘(2)

وهلع عبد الحميد خان من هذا الخبر المروع وأسرع إلى منزل حسين خان فأخبره رجل مسن يحرس البيت ويقوم مقام بواب بأن منزل سيده قد هُجر وأن الوباء قد تفشى فيه وأصاب أفراد الأسرة. وأضاف: ’لقد هلكت بسببه جاريتان حبشيتان وخادم، وباقي أسرته هم مرضى في حالة خطرة. ولذلك ترك سيدي المنزل وهو يائس، حتى إنه ترك الموتى دون دفن وهرب مع باقي أسرته إلى "باغ تخت".‘(3)

فعزم عبد الحميد خان على أخذ حضرة الباب إلى منزله هو لحجزه هناك حتى تصله تعليمات من الحاكم. ولما اقترب من منزله صدمه صوت البكاء والعويل من أفراد أسرته. وكان الوباء قد أصاب ابنه وصار على شفا الهلاك. ففي حالة يأسه وقع على أقدام حضرة الباب وتضرع إليه باكيًا أن ينقذ حياة ابنه، وسأله أن يغفر له سابق تعدياته وسيئاته. وتوسل لحضرة الباب وهو ممسك بطرف ردائه: ’أتضرع إليك بالذي رفعك إلى هذا المقام الرفيع أن تشفع لي وتدعو لشفاء نجلي. ولا تجعله يؤخذ مني وهو في ريعان شبابه ولا تعاقبه

________________________
(1) الكوليرا.

(2) وقد أشار الباب إلى الحادثة في "الدلائل السبعة" بقوله: "فارجع إلى الأيام الأولى من الدعوة كم من الناس ماتوا من الكوليرا فهذه إحدى معجزات الظهور ولم يفهمها أحد. ولمدة أربع سنوات، عاقب الله الشيعة بهذا البلاء ولم يعلم أحد دلالته." ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحتان 61-62)

(3) حديقة في ضواحي شيراز.

لأجل ذنب اقترفه والده فإني تُبت عما فعلته. وفي هذه الساعة استعفي من وظيفتي وأتعهد أن لا أقبل بعد اليوم مثل هذا المنصب ولو مُت جوعًا.‘

وكان حضرة الباب في ذلك الوقت يتوضأ لصلاة الفجر، فأمره أن يأخذ بعضًا من الماء الذي يغسل به وجهه ويطلب من نجله أن يشربه، وقال إن ذلك سينقذ حياته.

وما كاد عبد الحميد خان يشاهد علامات شفاء نجله، حتى كتب للحاكم خطابًا يعلمه بالوضع العام ويرجوه أن يترك تهجماته على حضرة الباب، وقال فيه: ’ارحم نفسك والذين أولتك العناية الإلهية رعايتهم. ولو استمر عنف هذا الوباء في سيره المهلك فأخشى أن لا ينجو من أهواله أحد من سكان هذه المدينة مع نهاية هذا اليوم.‘ فأجاب حسين خان بأن يجب إطلاق سراح حضرة الباب على الفور وإعطاؤه الحرية ليذهب حيث يشاء.(1)

وبمجرد وصول أخبار هذه الأحداث لطهران، ولفت نظر الشاه إليها، أصدر أمره الملكي بعزل حسين خان من وظيفته وأرسل الفرمان إلى شيراز. ومن وقت عزله، وقع ذلك الطاغية الوقح أسيرًا لمصائب عديدة وأصبح في النهاية عاجزًا عن كسب قوته اليومي. ولم يبدِ أحد استعداده لإنقاذه من ورطته السيئة. وعندما نفي حضرة بهاءالله إلى بغداد أرسل له حسين خان خطابًا أظهر فيه التوبة والعزم على التكفير عن سابق سيئاته بشرط أن يستعيد وظيفته السابقة، فلم يجِبه حضرة بهاءالله إلى شيء، وأخيرًا وقع في البؤس والذلّة وخمد إلى أن مات.

وعندما كان مقيمًا في منزل عبد الحميد خان، أرسل حضرة الباب السيد كاظم إلى الحاج ميرزا سيد علي ليأتي لزيارته. وأخبر خاله بعزمه على مبارحة شيراز، وأوصاه بوالدته وزوجته وأن ينقل إليهما محبته ويعدهما بعون الله الأكيد. وقال له وهو يودّعه: ’أينما تكونان ستحيطهما محبة الله الشاملة وحفظه. وسأقابلك مرة أخرى وسط جبال آذربيجان ومنها أرسلك لتحصل على تاج الشهادة. وسأتبعك بنفسي ومعي أحد أصحابي المخلصين ونتقابل في عالم الأبدية.‘

________________________

(1) وتبعًا ﻟ"مقالة سائح" (الصفحة 10، في الترجمة العربية) أفرج حسين خان عن الباب شريطة أن يترك المدينة.

صفحة خالية
الفصل العاشر
إقامة حضرة الباب في إصفهان
صورة 75
منظر إصفهان

كان صيف سنة 1262ﻫ(1) قد أذن بالرحيل إذ ودّع حضرة الباب موطنه في شيراز وسافر إلى إصفهان ورافقه في سفره السيد كاظم الزنجاني، ولما قرب من ضواحي المدينة كتب خطابًا إلى منوچهر خان معتمد الدولة،(2) والي تلك المقاطعة وطلب إليه أن يعيّن له مكان

________________________
(1) سنة 1846م.

(2) ’وكان (منوچهر خان) رجل نشاط وشجاعة وفي سنة 1841م أتم هزيمة القبائل البختيارية التي قامت على الثورة. وكانت إدارته النشيطة رغمًا عن قسوتها قد ضمنت لأهالي إصفهان بعض العدالة.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحة 487)

صورة 76
المدخل
صورة 77
الفِناء
مناظر منزل إمام الجمعة في إصفهان

الإقامة حسب رغبته. وكان الخطاب الذي أرسل بواسطة السيد كاظم ناطقًا بالاحترام ومحررًا بخط رائع جعل المعتمد يأمر سلطان العلماء إمام الجمعة في إصفهان(1) وهو أكبر رجال الدين في تلك المقاطعة، بأن يستقبل حضرة الباب ويستضيفه في منزله بكل ترحاب وإكرام. وإضافة إلى ذلك أرسل الحاكم لإمام الجمعة خطاب حضرة الباب. فأمر سلطان العلماء أخاه، الذي تسمى فيما بعد ﺑ"الرقشاء" من قلم حضرة بهاءالله نظرًا للوحشية التي ظهرت منه في السنين اللاحقة، أن يذهب مع بعض أصحابه المقربين لاستقبال ومرافقة الزائر المنتظر إلى بوابة المدينة. وإذ اقترب حضرة الباب، خرج إمام الجمعة بنفسه للترحيب به وأدخله منزله باستقبال رسمي.

وكان يحفّ حضرة الباب الاحترام والإجلال حتى إنه في أحد أيام الجمعة بينما كان عائدًا من الحمام العمومي إلى المنزل، شوهد جمهور من الناس يتشاحنون على اقتسام الماء الذي استعمله في وضوئه. وكان معجبوه المتحمسون يعتقدون في طهارتها الأكيدة وقدرتها على شفاء أمراضهم وأسقامهم. ووصلت محبة إمام الجمعة من أول ليلة إلى درجة أنه أعدَّ نفسه لخدمة ضيفه المحبوب وقضاء حوائجه بنفسه، وكان يمسك بالإبريق من يد رئيس خدمه ويصب الماء بنفسه على يدَي حضرة الباب متناسيًا بالكلية شرف رتبته.

وذات ليلة بعد العشاء أخذ إمام الجمعة العجب من المناقب الخارقة لضيفه الشاب وطلب منه أن ينزّل تفسيرًا لسورة "والعصر". فأجيب إلى طلبه حالاً، وطلب حضرة الباب القلم والورق وأخذ يكتب بسرعة مدهشة دون أدنى تأمل، ما طلبه مضيفه ونزّل أمامه تفسيرًا جليلاً لتلك السورة. فكان قريبًا من نصف الليل عندما كان حضرة الباب يتلو عليهم المعاني المتعددة التي يدل عليها أول حرف من السورة وهو حرف الواو الذي كان الشيخ أحمد الأحسائي كثيرًا ما يلفت إليه الأنظار في كتاباته. فكان في نظر حضرة الباب يدل على ابتداء دورة جديدة للوحي الإلهي، وأشار إليه حضرة بهاءالله في الكتاب

________________________

(1) ’وقد ذكر ميرزا أبو الفضل في مخطوطة له (الصفحة 66) أن اسم إمام الجمعة كان مير سيد محمد ولقبه سلطان العلماء وأما وظيفة صدر الصدور وهو الرئيس الديني في الدولة الصفوية فقد ألغاها نادر شاه وحل محله الآن إمام الجمعة في إصفهان فهو الرئيس الديني لإيران قاطبة.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحة 365)

الأقدس بعبارات مثل "سرّ التنكيس لرمز الرئيس". وبعد ذلك أخذ حضرة الباب يتلو أمام مضيفه وأصحابه موعظة جعلها مقدمة لتفسيره السورة. فأدهشت قوة بيانه سامعيه الذين سحروا من صوته ونهضوا عفويًا بمن فيهم إمام الجمعة وقبلوا طرف ردائه. ونطق الملاّ محمد تقي الهراتي المجتهد الشهير فجأة بعبارات المدح والثناء وقال: ’حقًا إنها لكلمات فريدة لا مثيل لها تلك التي صدرت من هذا القلم، فما أعجب وأظهر هذه القدرة، حيث تمكن في وقت قصير أن يجري من فمه عددًا كبيرًا من الآيات ما يعادل ربع بل ثلث القرآن ببلاغة تامة فهذا ما لا يقدر أي إنسان أن يعمله من نفسه دون تأييد إلهي، فلا انشقاق القمر ولا إحياء الحصى يضاهيان عظمة هذا العمل.‘

ولما عمّت شهرة حضرة الباب في سائر أنحاء مدينة إصفهان، حضر لزيارته جمع غفير متصل من الزوار من كل حي إلى منزل إمام الجمعة، وكان بعضهم يحضر لمجرد الفضول وبعضهم الآخر لمعرفة الحقائق الدينية لظهوره وكثيرون حضروا طلبًا للشفاء من الأمراض والآلام. وجاء المعتمد نفسه ذات يوم لزيارة حضرة الباب، وبينما كان جالسًا وسط ألمع علماء إصفهان طلب منه تفسيرًا لطبيعة النبوة الخاصة ويبرهن على صحتها. وكان قبل ذلك، وفي نفس المجلس، قد طلب من الحاضرين أن يظهروا البراهين والحجج على صحة معتقدهم المذكور، ليكون ذلك دليلاً كافيًا لكل من ينكره. فلم يقدر أحد من الحاضرين على إجابة الطلب، ولكن حضرة الباب سأله: ’أيهما تفضل؟ ردًا كتابيًا أم شفاهًا على سؤالك؟‘ فقال له: ’بل أريد ردًا كتابيًا ويكون بحيث لا يقنع فقط الحاضرين في هذا المجلس بل يكون مُعلمًا ومُهذبًا للأجيال الحاضرة والمستقبلة.‘

فأمسك حضرة الباب قلمه على الفور وشرع في الكتابة، وفي أقل من ساعتين ملأ أكثر من خمسين صفحة ببحث مستفيض عن أصل وكيفية تأثير الإسلام الشامل وكانت قوة عباراته ووضوحها ومتانتها ودقة تفاصيلها قد طبعت الموضوع الذي يعالجه بطابع الامتياز الذي لم يغب عن ذهن أحد من الحاضرين. وبرؤيته الفذة ربط هذه الفكرة الرئيسة في الفصول الأخيرة من التفسير بحادثة ظهور القائم الموعود ورجعة

صورة 78
صورة 79
مناظر مسجد الجمعة في إصفهان، تظهر المنبر الذي
صلى حضرة الباب أمامه

الإمام الحسين المنتظر. وقد أدلى بالحجج القوية بشجاعة تامة حتى إن المستمعين لتلاوة الآيات أخذتهم الدهشة من عظمة وحيه ولم يجرؤ أحد أن ينبس بأقل اعتراض، فضلاً عن أن يرد علنًا على شيء من بياناته. ولم يقدر المعتمد أن يخفي حماسه وسروره وصاح قائلاً: ’اسمعوني يا أصحاب الفضيلة! إني أشهدكم بأني لم أكن إلى هذا اليوم أعتقد بقلبي اعتقادًا جازمًا بصحة الإسلام، ولكني الآن أعترف بأني صرت مؤمنًا حقًا بالدين الذي جاء به رسول الله. وأشهد بإيماني بحقيقة القوة الخارقة الخارجة عن طاقة البشر التي يمتلكها هذا الشاب، والتي لا يقدر أي تعليم أن يهبها.‘ وبهذه الكلمات أنهى الاجتماع.

وسببت شهرة حضرة الباب الآخذة في الازدياد حقد الرؤساء الدينيين في إصفهان فنظروا بعين القلق والحسد إلى المقام الرفيع الذي وصل إليه شاب غير متعلم والعظمة التي حصل عليها في أعين أتباعهم تدريجيًا. وقد تيقنوا أنهم إن لم يقوموا على صدّ تيار الحماس الشعبي فإن أساس وجودهم ينهار، ورأى قليل من عقلائهم أن الحكمة تقتضي الامتناع عن أعمال العداء المباشر لشخص حضرة الباب أو لتعاليمه، لأنهم شعروا أن مثل هذه الأعمال لا تفيد إلا في إعلاء شأنه وتثبيت مقامه. وكان الأشرار يروجون الإشاعات بتقارير كاذبة عن شخصية حضرة الباب وادعاءاته. وسرعان ما وصلت هذه التقارير إلى طهران وأعلم بها الحاج ميرزا آقاسي رئيس وزراء محمد شاه، وأدرك هذا الوزير المتعجرف المتغطرس بمشاعر القلق احتمال ميل مليكه ذات يوم إلى التودد لحضرة الباب وكسب صداقته، وذلك يؤول طبعًا إلى سقوطه هو، وكذلك خشي الحاج أن يرتب المعتمد مجلسًا يجمع فيه حضرة الباب مع الشاه، لأن المعتمد المذكور يتمتع بثقة الشاه. وتيقّن الحاج بأنه لو تم هذا الاجتماع فإن ذلك المذهب الجديد يأخذ بلب الشاه ويستحوذ على قلبه الرقيق بجاذبيته وحداثته. ولما تمكنت منه هذه الهواجس أرسل إلى إمام الجمعة خطابًا شديدًا وبّخه فيه على إهماله الخطير في حراسة مصالح الإسلام. وكتب الحاج ميرزا آقاسي إليه قائلاً: ’كنا ننتظر منك أن تقاوم بكل قدرتك أي أمر يتعارض مع مصالح الحكومة وشعب البلاد. ولكن يظهر

أنك صاحبت بل عظّمت مؤسس هذه الحركة المظلمة المزرية.‘ ثم كتب أيضًا جملة خطابات مشجعة إلى علماء إصفهان الذين كان يتجاهلهم قبل ذلك وأصبحوا إذ ذاك موضع عنايته الخاصة. ومع إن إمام الجمعة أبى أن ينتقص شيئًا من احترامه وإجلاله لحضرة الباب، فإنه بسبب لهجة الرسالة التي وصلته من الوزير الكبير أصدر الأوامر إلى أقرانه بأن يبحثوا عن وسيلة لتقليل العدد المتزايد من الزوار الذين يقصدون الاجتماع بحضرة الباب يوميًا، وأخذ محمد مهدي المدعو سفيه العلماء ابن المرحوم الحاج الكلباسي في سبّ حضرة الباب على المنبر بألفاظ قبيحة إرضاء لرغبة الحاج ميرزا آقاسي لينال عنده الحظوة.

ولما علم المعتمد بهذه التطورات أرسل إلى إمام الجمعة يذكره بزيارته كحاكم لحضرة الباب ودعاه للحضور مع مضيفه لمنزله. وكذلك دعا المعتمد كلاً من الحاج السيد أسد الله ابن المرحوم الحاج السيد محمد باقر الرشتي والحاج محمد جعفر الآبادي ومحمد مهدي وميرزا حسن النوري وغيرهم لحضور الاجتماع. ورفض الحاج السيد أسد الله قبول الدعوة واجتهد في منع المدعوين الآخرين من حضور هذا الاجتماع قائلاً: ’إني اعتذرت وأطلب منكم بإلحاح أن تفعلوا مثلي وإني لا أرى من الحكمة أن تقابلوا السيد الباب وجهًا لوجه، لأنه بالتأكيد سوف يؤيد دعوته بالحجة ويظهر لكم كل ما تطلبونه من البراهين ودون أدنى تأمل يتلو عليكم آيات عديدة تربو على نصف القرآن ليؤيد بها حجته، وأخيرًا يباهلكم بقوله: "فأتوا بمثلها إن كنتم صادقين". فلا يمكننا والحالة هذه أن نقاومه وإذا امتنعنا عن إجابته فإن ذلك يظهر عجزنا وإذا خضعنا لدعوته فإننا لا نخسر فقط شهرتنا وامتيازاتنا وحقوقنا بل أيضًا نلتزم بقبول كل ما يدعيه في المستقبل.‘

فاستمع الحاج محمد جعفر لهذه النصيحة وعدل عن قبول دعوة الحاكم. أما محمد مهدي وميرزا حسن النوري وقليل غيرهما فحضروا في الموعد المعين إلى منزل المعتمد واحتقروا مثل هذا النصح، وفي هذا الاجتماع، وبناء على دعوة المضيف، طلب ميرزا حسن (وهو من مشاهير الأفلاطونية) من حضرة الباب أن يفسر بعض القواعد الفلسفية

صورة 80
صورة 81
مناظر منزل معتمد الدولة في إصفهان

المتعلقة بالعرشية للملاّ صدرا(1) والتي لا يفقه معانيها إلا القليل. فأجابه حضرة الباب بعبارات سهلة عن كل سؤال(2) بطريقة غير مألوفة. فعرف ميرزا حسن تفوّق أجوبة ذلك الشاب على تفاسير من يُدعون أصحاب المدرسة الفكرية الأفلاطونية والأرسطية في زمانه، ومقدار الفرق العظيم بين الاثنين ولو أنه لم يستوعب معاني الإجابات التي سمعها. أما محمد مهدي فسأل حضرة الباب بدوره عن بعض النظريات في التشريع الإسلامي، ولما لم تقنعه الإجابة ابتدأ يتجادل مع حضرة الباب فأسكته المعتمد وقطع حديثه وطلب من أحد أتباعه أن يشعل مصباحًا ويقود محمد مهدي إلى منزله. ثم أسرّ المعتمد إلى إمام الجمعة بمخاوفه قائلاً: ’إني أخاف من تدابير أعداء السيد الباب، وقد أمر الشاه بإحضاره إلى طهران وإني مضطر أن أعمل الترتيبات لإرساله وأرى أن يمكث في منزلي حتى يحين الوقت لمغادرته مدينتنا.‘ فوافقه إمام الجمعة على ذلك وعاد إلى منزله لوحده.

وكان حضرة الباب قد مكث أربعين يومًا في منزل إمام الجمعة. وكان الملاّ محمد تقي الهراتي في أثنائها يتشرف بزيارة حضرة الباب كل يوم ويترجم إحدى كتاباته المسماة

________________________

(1) انظر "مقالة سائح"، الحاشية ك، وأيضًا "الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحات 65-73.

(2) ’ولما سكت محمد، طلب ميرزا محمد حسن، الذي كان يتبع عقيدة الملاّ صدرا الفلسفية، من الباب تفسير ثلاث عجائب تكفي لتنوير القارئ. الأولى: طي الأرض، أي انتقال الشخص فوريًا من مكان إلى آخر بعيد في العالم. ويعتقد الشيعة أن الإمام الثالث جواد كان يستخدم هذه الوسيلة السهلة الاقتصادية في الأسفار. فمثلاً كان ينتقل في غمضة عين من المدينة (المنورة) في بلاد العرب إلى طوس في خراسان. والمعجزة الثانية: تواجد شخص معين في وقت واحد في عدة أماكن مختلفة. فقد كان الإمام علي يستضيف ستين شخصًا كل في مكان مختلف في نفس الوقت. والمعجزة الثالثة: معضلة في علم الكونيات التي أتركها (الكلام لنقولاس) لعلمائنا الفلكيين الذين سيتندرون بها بالتأكيد. فقد قيل بأن السموات تدور بسرعة أثناء ولاية حاكم ظالم، وأما أثناء حكم إمام فتدور ببطء. أولاً، كيف يكون للسموات حركتان، ثم ماذا كانت تفعل أيام حكم بني أمية وحكم العباسيين؟ فكان حل هذه الخرافات هو ما طلب من الباب! ولن أعلق عليها كثيرًا ولكني أعتقد أنه يجب عليّ هنا أن أوضّح عقلية علماء إيران المسلمين. وإذا تفكر المرء بأن العلم عندهم كان يرتكز مدة ألف سنة تقريبًا على مثل هذا الهراء، وبأن رجالاً يتعبون أنفسهم في أبحاث مستمرة في مواضيع كتلك، فإن المرء سيفهم بسهولة مدى ضآلة عقولهم وعجرفتها. ومهما يكن من الأمر فان الاجتماع فض باعلان ميعاد وجبة العشاء التي شارك فيها كل شخص وبعدها قام كل منهم راجعًا إلى منزله.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 239-240)

"رسالة الفروع العدلية" من اللغة العربية إلى الفارسية بإذن منه. ولكن تلك الخدمة التي أداها للمؤمنين في إيران محيت بسبب تصرفه لاحقًا. فقد استولى عليه الخوف فجأة وفي النهاية قطع علاقته بزملائه من المؤمنين.

وقبل انتقال حضرة الباب إلى منزل المعتمد كان ميرزا إبراهيم، وهو والد سلطان الشهداء والأخ الأكبر لميرزا محمد علي النهري الذي أشرنا إليه سابقًا، قد دعا حضرة الباب إلى منزله ذات ليلة. وكان ميرزا إبراهيم صديقًا حميمًا لإمام الجمعة ويدير شؤونه وأعماله. وكانت الوليمة التي أعدت لحضرة الباب في تلك الليلة رائعة فخمة لم يسبق لها مثيل. ولاحظ الحضور أنه لم يقم أي من المسؤولين أو من علية القوم في المدينة بإعداد وليمة بمثل حجمها وروعتها. وخدم على المائدة كل من سلطان الشهداء وأخوه محبوب الشهداء وهما طفلان في التاسعة والحادية عشر من عمرهما. وقد أبدى حضرة الباب اهتمامًا خاصًا نحوهما. وفي تلك الليلة أثناء تناول الطعام، استدار ميرزا إبراهيم إلى ضيفه وقال: ’إن أخي ميرزا محمد علي ليس له طفل، فأرجوك أن تتوسط له وتهبه مرغوب فؤاده.‘ فأخذ حضرة الباب بعضًا من الطعام ووضعه بيده في صحن وناوله لمضيفه، وطلب منه أن يأخذه لميرزا محمد علي وزوجته، وقال: ’ليأكل كلاهما من هذا فيتم لهما مرادهما.‘ وبفضل الطعام الذي اختاره حضرة الباب لزوجة ميرزا محمد علي، حملت ثم أنجبت في تمام الوقت طفلة اقترنت فيما بعد بالغصن الأعظم،(1) وكان هذا القران منتهى آمال والديها.

وأثار التبجيل الجزيل لحضرة الباب عداوة علماء إصفهان، وشاهدوا بمشاعر الامتعاض دلائل تأثيره النافذ يخترق معاقل الدين التقليدية ويهدم أساساتها. فدعوا إلى عقد اجتماع وفيه حرروا وثيقة ختمها كل من الرؤساء الدينيين في المدينة وحكموا فيها على حضرة الباب بالإعدام.(2) ووافقوا جميعهم على هذا الحكم عدا الحاج السيد أسد الله والحاج

________________________
(1) إشارة إلى زواج منيرة خانم بحضرة عبدالبهاء.

(2) وتبعًا لميرزا أبو الفضل فقد قارب السبعين عدد العلماء والأعيان المرموقين الذين ختموا بأسمائهم على وثيقة تدين حضرة الباب بأنه كافر، والتي تعلن أنه مستحق لعقوبة الموت.

محمد جعفر الآبادي، فإنهما رفضا أن يكون لهما أية صلة بمضامين وثيقة على هذا النحو الواضح من الاعتساف. وأما إمام الجمعة فمع امتناعه عن إمضاء حكم الإعدام على حضرة الباب فإنه كتب إقرارًا بخط يده على الوثيقة بسبب شدة جبنه الشديد وطموحه الأكال: ’أشهد أني في مدة صحبتي مع هذا الشاب لم أجد منه عملاً يناقض أحكام الإسلام، وبالعكس لم أرَ منه إلا التقوى وإنه شديد التمسك بأحكامه، ولكن مغالاته في الإدعاء واحتقاره لأمور هذا العالم تجعلني أعتقد أنه خال من العقل والحجى.‘

وما أن علم المعتمد بالإدانة الصادرة من علماء إصفهان حتى قرر، بناء على خطة وضعها بنفسه، إلغاء تأثير هذا الحكم القاسي. فأصدر تعليمات فورية بخروج حضرة الباب من إصفهان ساعة الغروب محروسًا بخمسمائة من الخيالة من حرسه الخاص عن طريق بوابة المدينة ليتوجهوا نحو طهران. ثم أصدر أوامر مشددة بأن يعود في كل فرسخ مائة من الخيالة إلى إصفهان، وأسرّ إلى قائد المائة الأخيرة وهو رجل يثق به أن يأمر عشرين فارسًا من المائة الباقية بعد كل ميدان(1) بالعودة مباشرة إلى إصفهان. ومن العشرين الباقية يرسل عشرة منهم إلى أردستان لتحصيل الضرائب التي تفرضها الحكومة ثم يعود بطريق آخر غير مطروق مع العشرة الباقية من رجاله الموثوق بهم إلى إصفهان خفية. ويعدلوا سيرهم بطريقة يعودون فيها بحضرة الباب متخفيًا إلى إصفهان(2) قبل الفجر في اليوم التالي ويسلموه له.

وقد طبقت تلك الخطة على الفور ونُفذّت بحذافيرها. وعاد حضرة الباب في ساعة غير منظورة إلى المدينة وأوصلوه إلى مقر المعتمد الخاص المسمى بعمارة خورشيد(3)

________________________
(1) جزء من فرسخ.

(2) وتبعًا ﻟ"مقالة سائح" ( الصفحة 10، في الترجمة العربية) فإن المعتمد أعطى أوامره السرية أنه عند وصول الباب إلى مورچه خوار (وهي المحطة الثانية خارج إصفهان على الطريق شمالاً وتبعد نحو 35 ميلاً) يجب أن يعود إلى إصفهان.

(3) "وهذه الغرفة (التي أجد نفسي فيها) لم يكن لها أبواب ولا حدود ظاهرة هي اليوم أعلى غرف الجنان لأن فيها يقطن سدرة الحق ويبدو كأن كل ذرات الغرفة تغني "حقًا إنني أنا الله لا إله إلا أنا الحاكم على كل شيء" وهي تغني بذلك على أعلى غرفات الأرض كلها حتى التي تزينت بمرايا الذهب. فإذا قطن في إحداها سدرة ↓

صورة 82
منظر عمارة خورشيد في إصفهان
صورة 83
أطلال القسم الذي شغله حضرة الباب
صورة 84
منوچهر خان،
معتمد الدولة

ودخل إليه من مدخل خاص به إلى غرفته الخصوصية. وكان الحاكم المذكور يتولى خدمة حضرة الباب بنفسه ويقدم له وجباته ويوفر له كل ما يلزم لراحته وسلامته.(1) وفي هذه الأثناء كثرت التقولات والظنون بخصوص سفر حضرة الباب إلى طهران، والمتاعب التي لاقاها في طريقه إلى العاصمة، والحكم الذي صدر ضده، والعقوبة التي أنزلت به، وكانت هذه الأراجيف قد أحزنت أتباعه المقيمين في إصفهان حزنًا عميقًا. وكان المعتمد عالمًا بحزنهم وشوقهم وتوسط عند حضرة الباب لأجلهم ورجاه أن يسمح بإحضارهم إلى محضره. فكتب حضرة الباب بضعة أسطر إلى الملاّ عبد الكريم القزويني الذي كان مقيمًا في مدرسة نيم آورد وطلب من المعتمد إيصالها إليه مع رسول موثوق. وبعد ساعة أدخل الملاّ عبد الكريم إلى محضر حضرة الباب. ولم يعلم بحضوره أحد سوى المعتمد نفسه. واستلم من مولاه بعض الرسائل وأمر أن ينسخها بمعونة السيد حسين اليزدي والشيخ حسن الزنوزي. فقفل راجعًا إلى الأخيرين يحمل خبر حضرة الباب السار وسلامته ولم يسمح لأي من الأحباء المقيمين في إصفهان إلا لهؤلاء الثلاثة أن يروه.

وذات يوم أثناء جلوسه مع حضرة الباب في حديقته الخاصة داخل باحة المنزل، أفضى المعتمد إلى ضيفه ببعض أسراره وخاطبه قائلاً: ’إن الذات العلية قد وهبتني أموالاً عظيمة(2)

___________________________________________________________________

الحق فجميع ذرات مراياها تغني بهذا القول، كما غنت وتغني ذرات مرايا قصر صدري، لأنه كان في أيام الصاد (إصفهان) يقطن فيها." ("البيان" الفارسي، الجزء 1، الصفحة 128)

(1) وفي "مقالة سائح" ( الصفحة 11، في الترجمة العربية) أن الباب مكث في ذلك المنزل مدة أربعة أشهر.

(2) في 4 مارس/آذار سنة 1847م كتب السيد بونيير إلى وزير خارجية فرنسا: ’لقد توفي معتمد الدولة حاكم إصفهان وترك ثروة تقدر بمبلغ أربعين مليون فرنك.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 242، الحاشية 192)

ولا أعلم كيف أصرفها على أحسن وجه، والآن الحمد لله قد وصلت إلى معرفة حقيقة هذا الظهور ولي رغبة شديدة في أن أخصص كل ممتلكاتي للصرف منها على شؤون هذا الأمر ولإعلاء صيته ولي رغبة أن أسافر بإذنك إلى طهران وأعمل جهدي حتى يعتنق محمد شاه هذا الأمر وهو شديد الثقة بي، وإني متأكد أنه سيقبل الدعوة ويقوم على ترويجها في كل الأكناف. وسأجتهد أن اقنع الشاه أن يطرد الحاج ميرزا آقاسي الفاسق الذي جعل البلاد تشرف على الخراب بطيشه وسوء إدارته. ثم أجتهد أن أحصل لك على يد إحدى أخوات الشاه وأنفذ مراسيم الزواج بنفسي. وأخيرًا أرجو أن أكون قادرًا على أن أكسب قلوب حكام الأرض وملوكها إلى هذا الأمر المدهش وأن أقضي على كل أثر باق من هذه الهيئات الدينية التي لطخت اسم الإسلام النظيف.‘ فأجابه حضرة الباب قائلاً: ’جازاك الله خيرًا على مقاصدك النبيلة فإن مثل هذا الغرض السامي بالنسبة لي أثمن من الفعل نفسه. ولكن أيامك وأيامي في هذه الدنيا محدودة وهي أقصر من أن تمكنني من مشاهدة تحقق آمالك أو أن تسمح لك أن تعمل على تحقيقها، فلا يتم الله القدير نصرة أمره بالطرق التي تتصورها بل بواسطة المساكين والمستضعفين في هذه الأرض، وبدمائهم التي يسفكها أولئك في سبيله يحقق القدير أمره ويحفظه ويصونه ويوطد أركانه. وسيتوج الله في العالم الآتي رأسك بإكليل الفخر الأبدي ويمطرك ببركاته التي لا تحصى. وقد بقي لك الآن في الحياة الدنيا ثلاثة أشهر وتسعة أيام فقط وبعدها تعود إلى المسكن الأبدي بالإيمان والإيقان.‘ ففرح المعتمد بهذه الكلمات وأسلم أمره لإرادة الله وابتدأ يستعد للفراق الذي أنبأه به حضرة الباب بوضوح تام. وكتب وصيته وأنهى أشغاله الخصوصية وأوصى بأمواله لحضرة الباب. وبعد وفاته مباشرة اكتشف ابن أخيه گُرگين خان الجشع وصيته فمزقها واستولى على ممتلكاته وتجاهل رغباته.

وإذ اقتربت أيامه الأخيرة، كان المعتمد يزداد رغبة في مجالسة حضرة الباب وفي ساعات ألفته الحميمة معه كان يزداد يقينًا وعلمًا بطبيعة الروح المحركة لظهوره. وذات يوم قال لحضرة الباب: ’بما أن ساعة فراقي قد دنت فإني أشعر بفرح لا يوصف يحيط بروحي. ولكني أخشى عليك وأرتجف إذ أعلم أني سأفارقك وأتركك لتقدير وارثٍ قاسٍ

مثل گرگين خان. فإنه بلا شك سيكشف أمر وجودك في هذا المنزل وأخاف عليك أن يؤذيك إيذاءً بليغًا.‘ فاعترض حضرة الباب قائلاً: ’لا تخَف، إني أسلمت أمري إلى الله وعليه توكلت ولقد منّ عليّ بقوة من عنده بحيث لو أرغب أن أقلب هذه الأحجار إلى جواهر مما لا عدل لها، وأن أثبت في قلب أشقى المجرمين أعلى مظاهر الاستقامة والإخلاص، لأقدر، ولكني اخترت بنفسي أن أعذب بيد أعدائي ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.‘(1) وكلما مرت تلك الساعات السعيدة كان قلب المعتمد يمتلئ بإخلاص خارج عن إرادته وبازدياد شعور التقرب إلى الله وزالت من نظره أبهة العالم وأذنت زينته بالزوال إذ رأى مواجهة الحقائق الأبدية المخزونة في أمر حضرة الباب وشاهد جماله وعزته وبركاته التي لا حد لها كلها وهي تزداد جلاء أمام عينيه كما تحقق من غرور الأطماع الأرضية وعجز القوة البشرية، واستمر على تأمل هذه الأفكار في قلبه حتى انتابته حمى طفيفة لم تطل سوى ليلة واحدة وانتهت بذلك حياته فجأة وطار إلى العالم الأبدي بصفاء واطمئنان.(2)

ولما كانت حياة المعتمد قد قربت على الانتهاء، دعا حضرة الباب لمحضره كلاً من السيد حسين اليزدي والملاّ عبد الكريم وأخبرهما بما تنبأ به لمضيفه وأمرهما أن يخبرا به المؤمنين المجتمعين في تلك المدينة وأن يتفرقوا إلى كاشان وقم وطهران وينتظروا ما يقضي به الله ويختاره.

وبعد أيام قليلة من وفاة المعتمد، علم گرگين خان من أحد المطلعين(3) بمقر حضرة الباب الحالي في عمارة خورشيد وبالانعامات التي أعطاها سلفه لصديقه في خاصة منزله وكذلك أطلعه على سرّ الاحتياطات التي عملها سلفه لحماية ضيفه. ولدى اطلاعه على تلك المعلومات أرسل گرگين خان رسوله إلى طهران ليسلم الرسالة الآتية إلى محمد

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الأنفال، الآية 44.

(2) وحسب ما ذكره براون ("مقالة سائح"، الصفحة 277، الحاشية ل) فإن وفاته حصلت في شهر ربيع الأول سنة 1263ﻫ (فبراير/شباط - مارس/آذار سنة 1847م).

(3) ورد في "مقالة سائح" (الصفحة 11، في الترجمة العربية) أنه كان ابن أخ المعتمد.

شاه شخصيًا: ’كان من المعتقد في إصفهان منذ أربعة أشهر أن معتمد الدولة سلفي قد أرسل السيد الباب إلى مقر حكومتكم بناء على استدعاء جلالتكم. وقد ظهر الآن أن هذا السيد قاطن في عمارة خورشيد، مقر إقامة معتمد الدولة الخاص. واتضح أن سلفي قد أكرم السيد الباب في ضيافته واجتهد في إخفاء ذلك السر عن الناس وعن المسؤولين في المدينة. فمهما يرى الآن جلالة الملك فإني أتعهد القيام بتنفيذه بلا تردد.‘

ولما كان الشاه مقتنعًا بولاء المتعمد، فقد أدرك عندما استلم تلك الرسالة أن رغبة الحاكم المخلصة كانت في انتهاز فرصة مناسبة لترتيب اجتماع بينه وبين حضرة الباب، وإن منيّته المفاجئة عاجلته وحالت دون تنفيذ تلك الخطة. فأصدر أمرًا ملكيًا بدعوة حضرة الباب إلى العاصمة وفي خطابه إلى گرگين خان أمره أن يرسل حضرة الباب متخفيًا بصحبة حرس من الخيالة(1) برئاسة محمد بيك چاپارچي(2) من طائفة "عليُّ اللّهي" إلى طهران وأن يظهر له منتهى الاعتبار أثناء سفره وأن يبقي أمر مغادرته سرًا مكتومًا.(3)

فذهب گرگين خان توًا إلى حضرة الباب وسلمه الخطاب الصادر من الشاه. ثم دعا محمد بيك وأطلعه على رغبات الشاه، وأمره بالاستعداد للرحيل، وحذره قائلاً: ’احترس لئلا يطلع أحد على شخصيته أو يشتبه فيه. ولا تجعل أحدًا خلافك يعرف شخصيته حتى ولا أفراد حرسه. وإذا سألك أحد عنه فقل إنه تاجر مطلوب للعاصمة ولا نعلم هويته.‘ وبعد منتصف الليل قام حضرة الباب بالارتحال عن المدينة إلى جهة طهران تبعًا للأوامر الصادرة.

***
________________________

(1) ورد في "مقالة سائح" (الصفحة 11، في الترجمة العربية) أن أفراد الحرس كانوا من الفرسان النصيرية.

(2) چاپارچي معناها حامل الرسائل.

(3) ’ولما كان الشاه نزويًا متقلبًا ناسيًا أنه قبل مدة وجيزة أصدر أمره بقتل المصلح، فقد رغب أخيرًا في رؤية ذلك الشخص الذي أثار اهتمامًا واسعًا. ولذلك أصدر أمرًا إلى گرگين خان بأن يرسله إليه في طهران.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 242)

الفصل الحادي عشر
إقامة حضرة الباب في كاشان
صورة 85
منظر كاشان

وفي ليلة اليوم الذي سبق وصول حضرة الباب إلى كاشان، كان الحاج ميرزا جاني المشهور ﺑ"پَرپا" وهو من مشاهير سكان المدينة، قد رأى في المنام كأنه واقف عصرًا في ساعة متأخرة على بوابة العطار، إحدى بوابات المدينة، إذ رأت عيناه فجأة حضرة الباب راكبًا جواده وعلى رأسه "كلاه" بدل العمامة التي اعتاد لبسها، وكان في حراسته من الأمام والخلف عدد من الخيالة يبدو أنه سلم إلى عهدتهم، وإذ اقترب من البوابة حيّاه حضرة الباب قائلاً: ’سوف نكون ضيوفًا عليك مدة ثلاث ليال فاستعد للقائنا.‘

وإذ استيقظ شعر من وضوح رؤياه أنها حقيقية وجاءته على غير انتظار واعتبرها في نظره بمثابة إنذار سماوي رأى من واجبه الالتفات إليه وتنفيذه. وبناء عليه أخذ في إعداد منزله لنزول الزائر وتوفير كل ما يبدو ضروريًا لراحته. وبعد أن أتم الترتيبات للوليمة التي عزم على تقديمها لحضرة الباب في تلك الليلة، ذهب الحاج ميرزا جاني إلى بوابة العطار وانتظر هناك علامات وصول حضرة الباب المتوقع. وفي الساعة المعينة بينما كان يمعن النظر في الأفق شاهد عن بعد، مجموعة من الخيالة تتقدم نحو بوابة المدينة. ولما أسرع للقائهم ميزت عيناه حضرة الباب محاطًا بحرسه وهم بنفس الملابس والهيئة التي رآهم بها في الرؤيا، فاقترب منه الحاج ميرزا جاني بفرح وانحنى ليقبّل ركابه، فمنعه حضرة الباب وقال: ’سنكون ضيوفك مدة ثلاث ليال. وغدًا هو يوم النوروز فسنحتفل به سويًا في منزلك.‘ وكان محمد بيك ممتطيًا جواده بجانب حضرة الباب، فظن أن حضرته صديق حميم للحاج ميرزا جاني، فالتفت إليه وقال: ’أنا مستعد لتنفيذ كل ما يأمر به السيد الباب، ولكني أطلب منك أن تطلب من زميلي الذي يشاركني في الحراسة إلى طهران الموافقة على ذلك.‘ فعرض الحاج ميرزا جاني طلبه على زميله، ولكنه قوبل بالرفض التام وقال له الزميل: ’إني أُمرت بحزم قاطع أن لا أدع هذا الشاب يدخل أي مدينة حتى وصوله إلى العاصمة، وقد أُمرت خصيصاُ أن أقضي الليلة خارج المدينة وأن أقطع مسيري عند غروب الشمس وأكمله في اليوم التالي عند الفجر، فلا أقدر أن أحيد عن الأوامر الموجهة إليّ.‘ وتسبب ذلك في جدال شديد انتهى لمصلحة محمد بيك الذي نجح في إقناع خصمه في تسليم حضرة الباب إلى عهدة الحاج ميرزا جاني، مع التفاهم الواضح على إنه في اليوم الثالث صباحًا يعيد ضيفه إليهم. وكان الحاج ميرزا جاني قد عزم على استضافة كافة أفراد حرس حضرة الباب، ولكن حضرته أمره أن يترك ذلك العزم قائلاً: ’لا يرافقني سواك إلى منزلك.‘ فطلب الحاج جاني أن يسمح له بدفع مصاريف بقاء الخيالة لثلاثة أيام في كاشان، ولكن حضرة الباب قال له: ’هذا غير ضروري ولولا إرادتي ما كان يمكن إقناعهم بأن يسلموني ليديك، فكل شيء موكول إلى قبضة قدرته ولا يستحيل عليه شيء فهو يزيل كل صعوبة ويتغلب على كل مانع.‘ وذهب الخيالة إلى خان في جوار بوابة

صورة 86
صورة 87
بوابة العطار، كاشان

المدينة، وأما محمد بيك فاتباعًا لأوامر حضرة الباب رافقه حتى قربوا منزل الحاج ميرزا جاني، ثم رجع بعد أن علم بمكان المنزل وانضم لأصحابه.

وتصادف وصول حضرة الباب للمنزل المذكور مع مساء اليوم السابق للنيروز الثالث بعد إعلان دعوته، ويوافق اليوم الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 1263ﻫ.(1) وفي تلك الليلة نفسها كان السيد حسين اليزدي، بناء على تعليمات حضرة الباب، موجودًا في كاشان، قد دعي إلى منزل الحاج ميرزا جاني وتشرف بمحضر مولاه. وبينما كان حضرة الباب يمليه لوحًا في إعزاز مضيفه، إذ وصل صديق من أصحاب الحاج وهو السيد عبد الباقي الذي اشتهر في كاشان بعلمه. فدعاه حضرة الباب للدخول وصرح له بسماع الآيات التي

________________________
(1) سنة 1847م.
صورة 88
صورة 89
صورة 90
مناظر منزل الحاج ميرزا جاني في كاشان،
تظهر الغرفة التي شغلها حضرة الباب

كان ينزلها، ولكنه لم يكشف له عن هويته. وفي الفقرة الختامية من اللوح الذي وجه للحاج ميرزا جاني دعا له وتضرع إلى الله القادر أن ينير قلبه بنور المعرفة الإلهية وأن يطلق لسانه لخدمة أمر الله وانتشاره. ومع أن ميرزا جاني لم يتعلم في مدرسة ولم يتضلع في العلوم والمعارف فإنه تمكن بهذا الدعاء أن يؤثر بأقواله على أعظم علماء كاشان. ووهبت له القوة على إسكات كل مدّع يتجرأ على تحدي أحكام دينه. حتى إن الطاغية العاتي الملاّ جعفر النراقي عجز عن مقاومة حجته رغم فصاحته التامة، واضطر للاعتراف ظاهريًا بمزايا أمر غريمه، ولو إنه في قلبه لم يقبل أن يعتقد بصحة الدعوة.

وجلس السيد عبد الباقي يستمع لحضرة الباب. فسمع صوته ولاحظ حركاته ونظر إلى تعابير وجهه ولاحظ كلماته الجارية من شفتيه بلا انقطاع، ولكنه لم يتحرك بقوتها وعظمتها وبقي محجوبًا في حجاب أهوائه وعلمه إذ لم تكن عنده قدرة على فهم معاني كلمات حضرة الباب، بل إنه لم يشأ أن يسأل عن اسم أو شخصية الضيف الذي أدخل إلى محضره. ولما لم يتأثر مما سمعه ورآه، خرج من ذلك المحضر غير مدرك للفرصة النادرة التي أضاعها للأبد بسبب عدم مبالاته. وبعد بضعة أيام علم اسم ذلك الشاب الذي قابله بعدم الاعتناء، فامتلأ قلبه حزنًا وأسفًا ولم تتح له الفرصة مرة ثانية لمقابلته ليعتذر عن سلوكه، لأن حضرة الباب كان قد غادر كاشان. ومن شدة حزنه اعتزل المجتمع وعاش إلى آخر أيامه حياة عزلة غير مريحة.

ومن بين الذين تشرفوا بمقابلة حضرة الباب في منزل الحاج ميرزا جاني، رجل يدعى مهدي وكان نصيبه فيما بعد الاستشهاد في طهران سنة 1268ﻫ.(1) وكان هو وقلة آخرون في ضيافة الحاج ميرزا جاني الكريمة مدة ثلاث ليال، وكان الحاج ميرزا جاني قد كسب رضاء ومدح مولاه بسبب كرمه وما أظهره من المحبة أيضًا إلى أفراد حرس حضرة الباب وكانوا جميعهم معجبين بكرمه ودماثة أخلاقه. وفي صبيحة اليوم الثاني بعد النوروز وبناء على تعهده سلمهم المسجون وبقلب مملوء بالحزن والأسى ودّعه الوداع الأخير المؤثر.

***
________________________
(1) سنة 1851-1852م.
صفحة خالية
الفصل الثاني عشر
رحلة حضرة الباب من كاشان إلى تبريز
صورة 91
صورة 92
مناظر قُم، تظهر حرم المعصومة

وسار حضرة الباب وبموكبه مرافقوه في طريق قُم(1) وكانت جاذبيته الساحرة الممزوجة بالوقار الأخاذ واللطف الدائم قد غيّرت سلوك حرسه وجعلتهم منقادين له، وبدا أنهم طرحوا جانبًا كل حقوقهم وواجباتهم وأنهم سلموا أنفسهم لإرادته ورضاه. ومن شدة شوقهم لخدمته قالوا له يومًا: ’إننا ممنوعون قطعيًا بأمر الحكومة أن نسمح لك بدخول مدينة قُم ومأموريتنا أن نسلك بك طريقًا غير اعتيادي لإيصالك مباشرة إلى طهران. وقد صدرت إلينا التعليمات الخاصة بأن لا نقترب من حرم المعصومة،(2) الذي من التجأ إليه يكون آمنًا من القبض عليه، حتى ولو كان من أعتى المجرمين. إلا أننا مستعدون أن نتجاهل بالكلية لأجلك كل الأوامر التي تلقيناها. وإذا أردت فإنا دون تردد نمرّ بك من وسط شوارع مدينة قُم ونمكّنك من زيارة المقام المقدس.‘ فأجاب حضرة الباب بقوله: ’قلب المؤمن عرش الرحمن، والذي هو سفينة النجاة وحصن القادر الذي لا غالب له، يسافر معكم الآن في هذه البيداء، وإني أفضّل السير في طريق الريف عن الدخول إلى هذه المدينة الفاسدة، فالمعصومة التي دُفنت بقاياها في هذا المقام تندب هي وأخوها وأسلافها اللامعون مصيبة هؤلاء القوم الأشرار. فهم يحترمونها بأفواههم ويهينون اسمها بأعمالهم. في الظاهر يخدمون ضريحها ويحترمونه، وفي الباطن يلوثون شرفها.‘

وكانت هذه الإحساسات الشريفة قد غرست الثقة في قلوب الذين رافقوا حضرة الباب بدرجة إنه لو أراد في أي وقت أن يبتعد فجأة ويتركهم، فلا يوجس أحد من حراسه في نفسه خيفة ولا يرى ضرورة لملاحقته. وأثناء سيرهم في الطريق الدائر حول الناحية الشمالية لمدينة قُم، نزلوا للإستراحة عند قرية قُمرود التي يملكها أحد أقرباء

________________________

(1) مدينة قُم هي ثاني الأماكن المقدسة في إيران وفيها مدافن كثيرة لملوكها ومن بينهم فتح علي شاه ومحمد شاه.

(2) ’ويوجد في مدينة قُم جدث أخت الإمام الرضا فاطمة المعصومة وعاشت وتوفيت هناك وكانت قد هربت إليها من بغداد من اضطهاد الخلفاء، ويقال إنها مرضت وتوفيت في قُم في طريقها لرؤية أخيها في طوس. ويعتقد الصلحاء بأنه رد جميلها بأن يزورها كل يوم جمعة من قبره في مشهد.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 2، الصفحة 8)

محمد بيك، وجميع سكانها من طائفة "عليّ اللّهي". ومكث حضرة الباب فيها ليلة بناء على دعوة زعيم القرية، وانشرح صدرًا من دفء أهل القرية البسطاء وعفويتهم. وقبل استئناف رحلته طلب من الله القدير أن ينزل البركات عليهم وفرّح قلوبهم بتأكيدات تقديره ومحبته.

صورة 93
قرية قُمرود

وبعد مسير يومين من تلك القرية، وصلوا بعد ظهر اليوم الثامن بعد النوروز إلى قلعة كِنارگِرد(1) التي تبعد ستة فراسخ من جنوب طهران. وكانوا يخططون للوصول إلى العاصمة في اليوم التالي فقرروا أن يصرفوا الليل في جوار تلك القلعة، وإذا برسول يصل فجأة من طهران ومعه أمر خطي من الحاج ميرزا آقاسي إلى محمد بيك يأمره فيه بالذهاب توًا بحضرة الباب إلى قرية كُلين،(2) التي دفن فيها الشيخ الكليني، محمد

________________________

(1) محطة على طريق إصفهان القديم تبعد نحو 28 ميلاً من طهران. ("مقالة سائح"، الصفحة 14، الحاشية 2)

(2) انظر "مقالة سائح"، الصفحة 11، في الترجمة العربية.

صورة 94
أطلال قلعة كنارگرد

ابن يعقوب، مؤلف كتاب "أصول الكافي"، والذي وُلد في تلك القرية ودُفن فيها مع والده، ويحترم الناس ضريحهما في تلك الأنحاء.(1) وبالنظر إلى عدم صلاحية المنازل في تلك القرية، أُمر محمد بيك أن يضرب خيمة خاصة في جوارها لأجل حضرة الباب ويقيم حولها الحرس حتى تصله أوامر جديدة. وفي صباح اليوم التاسع بعد النوروز وهو اليوم الحادي عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1263ﻫ،(2) نصبت لحضرة الباب الخيمة التي كان الحاج ميرزا آقاسي ينزل فيها عند زيارته لتلك المحلة، ونصبت على سفح تل جميل الموقع وسط حدائق غنّاء ومروج خضراء من كل الجهات، وسرّ حضرة الباب من هدوء تلك الجهة ونضارة خضرتها وخرير مياه جداولها، ولحق به بعد يومين السيد حسين اليزدي وأخوه السيد حسن والملاّ عبد الكريم القزويني والشيخ حسن

________________________

(1) ’وانتشرت الإشاعة وكان من المستحيل تنفيذ أمر رئيس الوزراء الحاج ميرزا آقاسي، فمن إصفهان إلى طهران كان الناس يتكلمون عن ظلم العلماء والحكومة للباب وكانوا يهمسون في كل مكان ويصرخون من الظلم.‘ ("المجلة الآسيوية"، الجزء 7، الصفحة 355)

(2) 29 مارس/آذار سنة 1847م.
صورة 95
صورة 96
مناظر قرية كلين

الزنوزي، وكانوا جميعهم قادمين من إصفهان، ووجهت إليهم الدعوة ليقيموا في جوار الخيمة. ووصل الملاّ مهدي الخوئي والملاّ محمد مهدي الكَنْدي من طهران في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الثاني(1) وهو اليوم الثاني عشر بعد النوروز، وكان الأخير من أصحاب حضرة بهاءالله في طهران وهو الذي أرسله ومعه خطاب مختوم وبعض الهدايا لحضرة الباب، الذي بمجرد وصولها ليده شعر بسرور غير عادي وتهلل وجهه فرحًا وأغدق على الرسول عبارات الشكر والامتنان.

وأثرت هذه الرسالة التي وصلت في ساعة الحيرة والتوقف وجددت في حضرة الباب نشاطًا وسُلُوًّا ونفت ذلك الغم الذي كان يساور قلبه ونفثت في روحه تأكيد الفوز والنصر، فتبدد ذلك الحزن الذي كانت تزيده متاعب الأسر. ولم يعُد يسكب دموع الكرب التي كانت تجري من عينيه بغزارة منذ أيام اعتقاله وخروجه من شيراز. وبعد أن كان يناجي ربه في حزنه العميق وفي وحدته بقوله ’يا محبوبي ويا مقصودي،‘ أصبح ينطق بعبارات الشكر والمدح والأمل والنصر. وبدا على وجهه فرح لم يفارقه حتى وردت عليه أخبار الفاجعة العظيمة بسقوط شجعان قلعة الشيخ الطبرسي، فاحتجبت من محياه تلك الابتسامة وزال من قلبه الفرح والابتهاج.

وسمعتُ الملاّ عبد الكريم يقص الرواية الآتية: (كنت مع أقراني النائمين معي في جوار خيمة حضرة الباب، إذ تيقظنا على صوت وقع أقدام الخيّالة، وسرعان ما سمعنا أن حضرة الباب غادر خيمته وأن الذين ذهبوا وراءه للبحث عنه لم يجدوه. وكان محمد بيك يوبّخ الحرس ويقول لهم: ’لماذا تضطربون؟ أليست شهامته ونبل روحه راسخين في نظركم لإقناعكم بأنه لن يرضى أبدًا أن يوقع غيره في الحيرة والارتباك لأجل نجاة نفسه؟ ولا بد أنه قد تنحى ناحية في الليلة المقمرة إلى مكان هادئ ليناجي فيه ربه، ولا بد أن يعود قريبًا إلى خيمته لأنه لا يرضى أن يهجرنا مطلقًا.‘ ومشى محمد بيك على قدميه في الطريق الذي يؤدي إلى طهران لرغبته في إقناع أقرانه بذلك، فسِرتُ خلفه مع باقي الأصحاب ووراءنا الحرس على ظهور الخيل، ولم نقطع إلا مسافة

________________________
(1) أول أبريل/نيسان سنة 1847م.
صورة 97
محمد شاه

ميدان(1) واحد حتى نظرنا على بعد من خلال نور الفجر الضئيل، هيكل حضرة الباب آتيًا نحونا من طريق طهران، وقال لمحمد بيك وهو يقترب منه: ’هل اعتقدت أني هربت؟‘ فارتمى محمد بيك على أقدامه يقبلها ويقول: ’أستغفر الله أن تساورني مثل هذه الأفكار!‘ وكان جلال حضرة الباب وهيبته قد روّعت محمد بيك كثيرًا في ذلك الصباح فلم يقدر على إبداء أي ملحوظة أخرى. وظهرت على محيّا حضرة الباب علامات الثقة وكانت كلماته مشبعة بقوة فائقة. فلم يقدر أحد أن يسأله عن سبب هذا التغيير العظيم الحاصل في أقواله وأفعاله، وكذلك لم يشأ هو بنفسه أن يزيل حيرتنا وفضولنا.(

________________________
(1) جزء من فرسخ.

وأقام حضرة الباب مدة أسبوعين(1) في تلك البقعة. إلا أن الهدوء الذي استمتع به وسط تلك المناظر الخلابة انقطع بوصول خطاب موجه من محمد شاه(2) نفسه إلى حضرة الباب وفيه يقول(3): ’ولو إننا كنا نود مقابلتك إلا أننا نجد أنفسنا غير قادرين على استقبالك في

________________________

(1) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 11، في الترجمة العربية) مكث الباب في قرية كُلين مدة 20 يومًا.

(2) وقال جوبينو أن محمد شاه كان حاكمًا ذا صفات خاصة لم تكن نادرة في آسيا ولكنها على الأقل مما لا يعرفها الأوروپي. ولا يمكنه أن يفهمها، فمع كونه كان حاكمًا في الوقت الذي كانت فيه العوائد السياسية المحلية قاسية فإنه كان لطيفًا سهلاً وصبورًا وكان ينظر بعين هادئة إلى الاضطرابات التي تحصل داخل الحريم والتي كانت تغضبه. ووصل تركه الحبل على الغارب واتباع النفس والهوى لدرجة لم يصل إليها أحد حتى ولا فتح علي شاه. وتنطبق عليه تلك العبارة اللائقة للقرن الثامن عشر وهي: ’يا سيدتي لا تختبئي لأني لا أريد أن أمنعك من الحظوظ والتمتع.‘ وما كان ذلك بسبب عدم الاهتمام بل من الإعياء والملل. لأن صحته كانت دائمًا في تراجع وتضعضع. فكان مصابًا بالنقرس بدرجة كبيرة ويتألم من الأوجاع المستمرة فلم يكن لديه راحة من حيث صحته. وكانت أخلاقه ضعيفة من طبيعتها وذلك مما يجعله دائمًا حزينًا. ولأنه كان يحتاج إلى المحبة التي لم يجدها في أسرته ولا في نسائه ولا عند أنجاله لذلك كان يحصر محبته كلها في معلمه العجوز. فكان هو الحبيب الوحيد ورئيس وزارته الأمين. وأخيرًا أصبح معبوده بغير مبالغة بل إلهه الأعلى. ومن هذا الصنم استمد أفكارًا مضادة ومضرة بالإسلام فكان لا يكتفي بإهمال أحكام النبي بل كان يعتقد أنه هو النبي بذاته، فلم يكن عنده اهتمام بالأئمة، واحترامه لعلي لم يكن إلا بسبب تلك العقيدة الفارغة التي جعلت الأمة الإيرانية تدمج وطنيتها في ذلك الشخص المحترم، وبالاختصار لم يكن محمد شاه مسلمًا ولا مسيحيًا بل كان يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الحقيقة الإلهية تتجسم في الحكماء بكل قوتها. وبما إنه يعد الحاج ميرزا آقاسي الحكيم الأول فما كان يشك إنه هو الله ذاته، وكثيرًا ما كان يطلب منه المعجزات ويقول لضباطه بيقين تام: ’قد وعدني الحاج بإظهار معجزة في هذا المساء فسوف ترونها.‘ وما كان محمد شاه يهتم بنجاح أو تنفيذ أمر ديني إن لم يكن خاصًا بالحاج المذكور بل كان على العكس يسر من تطاحن الآراء التي تكشف له عن جهل الناس وعماهم. ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 131-132).

(3) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 11، في الترجمة العربية) أرسل الباب ’رسالة إلى السدة الملوكية ملتمسًا فيها الإذن بالمثول بين يديه لإظهار الحقيقة وكشفها، وعدّ ذلك سببًا لحصول الفوائد العظيمة.‘ وكتب جوبينو ما يأتي: ’إن علي محمد كتب بنفسه إلى البلاط ووصل خطابه في نفس الوقت الذي وصلت فيه خطابات أعدائه، ودون أن يتعرض للملك، وبالعكس طلب منه العدل والإنصاف وأظهر أن أخلاق العلماء تغيرت في فارس من زمن بعيد وفسدت كما هو معلوم للجميع. فلم يقتصر الأمر على فساد الأخلاق بل إنه بسبب خطأ الكثيرين من المفسدين أصبح الدين في حالة حرجة وقريبًا من التلاشي بالكلية بحيث يترك الناس في ظلمات حالكة... وذكر له أن الله أمره برسالة خاصة لإصلاح هذه المفاسد وأنه ابتدأ يوضح لأهالي فارس بأن الدين الحق هو الترقي الظاهر السريع وأنه أخمد جميع مقاوميه حتى أصبحوا في عجز تام أمام الجمهور، وهذا لم يكن سوى مقدمة. وطلب من عظمة السلطان الإذن له بالحضور للعاصمة مع تلاميذه المشهورين وأن يهيئ ↓

طهران بما هو لائق لك، نظرًا لمغادرتنا عاصمتنا. وقد أبدينا رغبتنا أن تُرسَل إلى ماه كو وأصدرنا التعليمات اللازمة إلى علي خان محافظ القلعة أن يعاملك بالإجلال والاعتبار. وأملنا وعزمنا أن نطلب حضورك لدى عودتنا إلى سرير السلطنة، وفي ذلك الوقت نقدر أن نحكم في مسألتك ونعتقد إننا لم نسبب لك أي انزعاج وإنك لا تتأخر أن تخبرنا عن أي حيف يصيبك ونتمنى لك أن تستمر على الدعاء والتوفيق لنا والسعادة لمملكتنا.‘ (مؤرخ في ربيع الثاني سنة 1263ﻫ.)(1)

ومما لا شك فيه أن الحاج ميرزا آقاسي(2) كان مسؤولاً عن تحفيز الشاه لإرسال مثل

__________________________________________________________________

له مجلسًا للمناظرة مع العلماء ومع جميع الملاّوات في المملكة وأن يكون ذلك بحضرة السلطان والكبراء والعامة وذكر إنه متأكد إنه سيغلبهم ويخجلهم ويبرهن له على عدم صدقهم وأمانتهم. وإنه سوف يسكتهم كما أسكت الملاوات من الكبير والصغير من الذين قاموا ضده وإنه إذا -لا سمح الله- لم يغلبهم في هذه المعمعة فليحكم السلطان عليه بما يشير به لأنه مستعد أن يقدم رأسه ورأس أتباعه له.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى"، الصفحة 124)

(1) 19 مارس/آذار - 17 أبريل/نيسان سنة 1847م.

(2) وقال هدايت في "مجمع الفصحاء" إن اسم الحاج ميرزا آقاسي هو عباس علي. وكان نجل ميرزا مسلم، أحد مشاهير علماء إيروان. وكان عباس علي تلميذًا لفخر الدين عبد الصمد الهمداني إذ كان في كربلاء. ومن كربلاء سافر إلى همدان وزار آذربيجان ومنها حج إلى مكة. ولما عاد كان في فقر مدقع إلا أنه تمكن وهو في آذربيجان بعد عودته من تحسين حالته واشتغل بصفة معلم لأنجال ميرزا موسى خان أخ المرحوم ميرزا أبو القاسم القائم مقام، وبشّر محمد ميرزا باعتلائه عرش المملكة، فأخلص له وعينه رئيس وزارته. ولما توفي الشاه سافر الحاج إلى كربلاء وتوفي هناك في رمضان سنة 1265ﻫ. (من مذكرات ميرزا أبو الفضل). وفي تاريخ الحاج معين السلطنة (الصفحة 120) أن الحاج ميرزا آقاسي ولد في ماه كو حيث كان يقيم والداه بعد سفرهم من إيروان في القوقاز. ’وكان الحاج ميرزا آقاسي أحد أهالي إيروان. وكان له تأثير عظيم على سيده ضعيف العقل حيث كان قبلاً معلمه وكان يتبع الطريقة الصوفية وكان رجلاً عجوزًا ذا شكل مضحك وله أنف طويل ويظهر من ملامحه أنه فريد في أخلاقه معجب بذاته.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحة 473)

’وكان الحاج مثالاً فريدًا من نوع خاص. ولم يعلم بالضبط إن كان يعتقد في نفسه ما يراه فيه محمد شاه، وعلى العموم كان في اعتقاده موافقًا لاعتقاد محمد شاه نفسه الذي طبعه في عقله. ولم يمنعه ذلك من أن يتمسخر، وكانت مسخرته منظمة وجزءًا من أعمال حياته اليومية الاعتيادية. وهو لا ينظر إلى أي شيء بعين الجد مبتدئًا بنفسه. فكان يصف نفسه قائلاً: ’’إنني لست رئيسًا للوزراء وفقط شخص ملاّ عجوز لا استحقاق له ولا شهرة في مولده. وإذا كنت في المركز الذي أنا فيه فذلك بسبب إرادة الملك فقط.‘‘ وكان ↓

هذا الخطاب إلى حضرة الباب. وكان دافعه الأوحد شعوره بالخوف(1) من أن تكون المقابلة المرتقبة مع الشاه سببًا في خلعه وسلبه مقامه الذي يتمتع به وسلطته التامة على كافة أمور الحكومة. ولم يكنّ لحضرة الباب أي سوء أو كراهية. وقد نجح(2) أخيرًا في إقناع مليكه على نقل مثل هذا الخصم المخيف إلى ركن بعيد منعزل في مملكته، وبهذه الوسيلة يخلص فكره من الهم الذي كان دائمًا يساوره.(3) فما أعظم خطأه وأشد ضلاله!

__________________________________________________________________

يذكر هذه العبارة ويكررها دائمًا خصوصًا لمن كان يعاكسه. وكان يخاطب أولاده بأولاد الكلاب وأولاد الغجر وبهذه التسمية يسألهم عن أحوالهم أو يرسل إليهم أوامره بواسطة ضباطه عندما يكونون غائبين. وكانت مسرته في استعراض الخيالة الذين يجمعهم بملابسهم الفخمة تحت قيادة الخانات الرحل في إيران. وعندما تجتمع هؤلاء القبائل الحربية في الوادي يأتي الحاج كالشخص الفقير لابسًا طرطورًا بسيطًا ومعوجًا وحاملاً سيفًا في وسط ردائه وراكبًا حمارًا صغيرًا. ثم يجمع الخيالة حوله ويعاملهم كأنهم مغفلين ويضحك على ملابسهم ويفهمهم إنهم لا ينفعون لشيء ثم يعيدهم إلى أماكنهم بعد أن يعطيهم هدايا، ذلك لأن طبيعته الهزلية كانت مخلوطة بالكرم.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 132-133)

(1) ’ومن الحكاية الآتية يتبين الإحساس الذي كان يساور رئيس الوزارة عندما يبت في أمر إرادة الشاه وكان الرئيس فرهاد ميرزا وهو صغير تلميذًا للحاج ميرزا آقاسي وحكى ما يأتي: ’’لمّا استشار الشاه رئيس وزارته وكتب للباب بالمكث في ماه كو ذهبنا مع ميرزا آقاسي لتمضية بضعة أيام في الحديقة التي زرعها بنفسه في "يفت آباد" من ضواحي طهران وكنت أريد ان أسأل معلمي عن الحوادث الواقعية ولكني ما كنت أحب أن أسأله أمام الناس بل على انفراد. وفي ذات يوم بينما كنت أتمشى معه في الحديقة وكان يظهر عليه الانشراح تجاسرت وسألته: ’’يا حاج لماذا ترسل الباب إلى ماه كو؟‘‘، فأجابني: ’’إنك الآن صغير ولا تقدر أن تفهم بعض الأمور ولكني أعلم إنه لو حضر إلى طهران لا نقدر لا أنا ولا أنت أن نتنزه أحرارًا ومرتاحي البال تحت ظلال هذه الأشجار الطيبة.‘‘ ‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 243-244) وفي تاريخ الحاج معين السلطنة (الصفحة 129) إن الباعث الذي أملاه الحاج ميرزا آقاسي على السلطان لنفي الباب إلى آذربيجان هو الخوف من إتمام حصول وعد الباب بشفاء الشاه من مرضه إذا حضر إلى طهران. وكان متأكدًا إنه لو تمكن الباب من شفائه فإن رئيس الوزارة يقع في قبضة يد مسجونه فيحرمه من المنافع والامتيازات التي يتمتع بها الآن.

(2) وقال أبو الفضل إن ميرزا آقاسي أقنع الشاه إنه نظرًا للثورة التي قام بها محمد حسن خان في خراسان وقيام آقا خان إسماعيل في كرمان، يحسن عدم إحضار الباب إلى طهران وأن يرسل بدلاً عن ذلك إلى إقليم آذربيجان البعيد.

(3) ’ومع ذلك فقد جاء حساب رئيس الوزراء، في هذه المناسبة، مخطئًا في خوفه أن حضور الباب إلى طهران يحدث اضطرابات جديدة (وكان هناك الكثير منها بسبب اتّباع هواه وسوء إدارته) فغيّر خططه وأصدر أمره للحرس، الذين كلفوا بمرافقة الباب من إصفهان إلى طهران، وهم على بعد 30 كيلومترًا من العاصمة، أن ↓

فقليلاً ما كان يفقه في تلك اللحظة أنه بسبب دسائسه المستمرة كان يحجب عن الملك وعن الوطن منافع لا تُحصى يأتي بها أمر إلهي يملك وحده القدرة على تخليص المملكة من حالة الانحطاط المروعة التي وقعت فيها. فهذا الوزير قصير النظر لم يتسبب فقط في منع محمد شاه من الوسيلة العظمى التي بها يمكنه أن يعيد مجد المملكة المنحدرة في هاوية السقوط، بل حرمه أيضًا من تلك القوة الروحية التي تمكنه من التفوق الكامل على كل ملل العالم وأممه. وبسبب طيشه وإسرافه وخيانته في النصح، قوّض أساس الدولة وأذل كرامتها وسلبها ولاء أتباعها وأسقطهم في هاوية الذلة والتعاسة.(1) ولم يتّعظ بسيرة أسلافه متجاهلاً حاجات البلاد ومحتقرًا مصالح العباد وأمعن في عمل التدبير اللازم لإعلاء شؤونه الخاصة بحماس فائق وفي الانهماك في الفجور والتبذير وإيقاع المملكة في الارتباك والحروب المهلكة مع جيرانها. لقد وصل سعد معاذ بسبب استقامته وإخلاصه لدين محمد ﷺ إلى مقام رفيع، ويحترم ذكراه زعماء الإسلام وحكامه حتى هذا الحين ويبجلون فضائله مع إنه لم يكن من سلالة ملكية ولم يكن له نفوذ ولا سلطة. بينما كان "بُزُرگ مِهْر" أبرز وزراء نوشيروان العادل في المقدرة والحكمة والخبرة الإدارية، ورغمًا عن مقامه الرفيع، أصابه أخيرًا نكال، وطُرح في حفرة وأصبح موضع الاحتقار والسخرية من الناس. فكان يندب حظه ويبكي بحرقة حتى فقد بصره. أما الوزير الحاج ميرزا آقاسي فلم يعتبر لا بالمثل الأول ولم يتّعظ بنصيب الثاني ولم ينتبه ذلك الوزير الواثق من نفسه إلى مخاطر منصبه هو، وأصر على أفكاره وآرائه حتى فقد هو أيضًا رتبته وأضاع ثروته

_________________________________________________________________

لا يحضروا إليها، بل يسيروا به مباشرة إلى ماه كو. وهي المدينة التي ظن رئيس الوزراء أنها لن تقدم شيئًا للمدّعي (الباب، حسب تفكيره) لأن أهلها سيقاومون أي اضطراب من منطلق جميله نحوهم في السابق وما أولاهم من الحماية.‘ ("المجلة الآسيوية/ 1866م، الجزء 7، الصفحة 356)

(1) ’ولم تكن حالة إيران مرضية لأن الحاج ميرزا آقاسي الذي كان حاكمها الحقيقي مدة 13 سنة كان جاهلاً بالسياسة والعلوم العسكرية ولم يرض من تكبره أن يتعلم أو أن يتعاون مع مستشار آخر من شدة حسده، وكان وحشيًا في لغته وقبيحًا في أخلاقه وقذرًا في عوائده وجعل المالية تشرف على الخراب والإفلاس واقتربت البلاد من شفير الثورة. وتأخرت رواتب الجيش ما بين ثلاث إلى خمس سنوات. وانعدم تقريبًا وجود خيالة القبائل. وعلى هذه الصفة كانت حالة إيران في وسط القرن التاسع عشر كما ذكرها رولنسون في كلماته القيمة.‘ ("تاريخ إيران" لسايكس، الجزء 2، الصفحتان 439-440)

صورة 98
الحاج ميرزا آقاسي

وسقط في خجالته وذلته. وضاعت منه أملاكه(1) العديدة التي كان قد استولى عليها بالظلم من رعية الشاه المساكين الملتزمين بالقانون، وكذلك الأثاث الثمين الذي كان يفرشه في تلك المنازل وما صرفه عليها من الأموال والجهود لأجل صيانتها وتجديدها، ذهب كل ذلك هباء منثورًا بعد سنتين من إصداره الأمر بحبس حضرة الباب في جبال آذربيجان الموحشة. وصادرت الدولة سائر ممتلكاته وغضب عليه مليكه وطرده من طهران بالذلة

________________________

(1) ’وكانت الإدارة كلها في قبضة يد الحاج ميرزا آقاسي رئيس الوزراء المخبول وكانت له السلطة التامة على الشاه. وازداد سوء الإدارة في البلاد بينما الأهالي جياع يلعنون السلالة القاجارية... وكانت حالة الأقاليم محزنة للغاية وكل من كان صاحب وطنية أو تعقل جرى نفيه على يد الحاج المسن، الذي كان يجمع لنفسه الثروة في طهران بكل جد على حساب البلاد التعيسة. وكان يبيع مناصب إدارة الأقاليم لأكبر عطاء، والذين يتعينون بهذه الطريقة كانوا يظلمون الأهالي بطرق مخيفة.‘ ("لمحة عامة عن تاريخ إيران" لماركهام، الصفحتان 486-487)

والهوان ووقع فريسة للمرض والفقر وضاع منه الأمل وهبط في الذل وخمد ذكره في كربلاء حتى حانت منيته.(1)

وعليه أُمر حضرة الباب بالتوجه إلى تبريز.(2) وصحبه الحرس أنفسهم تحت إمرة محمد بيك إلى مقاطعة آذربيجان الشمالية الغربية. وسُمح له أن ينتخب رفيقًا واحدًا وخادمًا أيضًا من بين أتباعه أثناء إقامته في تلك المقاطعة. فانتخب السيد حسين اليزدي وأخاه السيد حسن. وامتنع أن يصرف على نفسه الأموال التي قدرتها الحكومة لمصاريف تلك الرحلة. وصرف كل المستحقات التي أعطتها له الحكومة على المساكين والمحتاجين وخصص لنفقاته واحتياجاته الضرورية المال الذي ربحه في التجارة في بوشهر وشيراز. ولما كانت الأوامر قد أعطيت لمنعه من الدخول إلى المدن التي يمر بها في طريقه إلى تبريز، توجه فوج من أحباء قزوين ممن علموا بقرب مجيء رئيسهم المحبوب إلى قرية سِياه دِهان(3) وتشرفوا بمحضره هناك.

________________________

(1) وكتب جوبينو عن كيفية سقوطه قال: ’طرد الحاج ميرزا آقاسي من سلطة كان قد أمضى بعضًا من الوقت في التمسخر بها وعاد إلى كربلاء وفيها قضى بقية عمره في عمل الألاعيب مع الملاّوات وحتى السخرية من الشهداء.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى"، الصفحة 160) ’وكان هذا الرجل الماكر قد اغتصب كل سلطة الملك المتوفي حتى قيل إنه كان هو السلطان الحقيقي، ولذلك لم يتحمل فقدان حظوظه الطيبة. ولما توفي محمد شاه اختفى وأخذ طريقه إلى كربلاء التي يحتمي فيها أكبر المجرمين بحمى أكبر الأئمة، إلا أنه سرعان ما وقع في أرزاء الحزن المتلف فضلاً عن توبيخ ضميره مما قصّر حياته.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحتان 367-368)

(2) وتبعًا ﻟ"مقالة سائح" (الصفحة 12، في الترجمة العربية) كتب الباب إلى ذلك الوزير أثناء ارتحاله... يقول فيها: ’إنكم استدعيتموني من إصفهان لأجتمع بالعلماء فيحصل الحكم الفاصل. فماذا جرى الآن حتى بدل هذا المقصد العزيز بماه كو وتبريز؟‘

(3) وقال سمندر (مخطوطة عن تاريخ أمر الله، الصفحتان 4-5) أن الباب انتظر في قرية سياه دهان قرب قزوين في طريقه إلى آذربيجان. وفي أثناء تلك الرحلة يقال أنه أنزل جملة ألواح إلى مشاهير العلماء في قزوين ومن بينهم الحاج الملاّ عبد الوهاب والحاج الملاّ صالح والحاج الملاّ تقي والحاج السيد تقي. ووصلت هذه الألواح إلى أصحابها بواسطة الحاج الملاّ أحمد إبدال. وكثير من المؤمنين ومن بينهم نجلا الحاج الملاّ عبد الوهاب تمكنوا من مقابلة الباب أثناء الليلة التي أمضاها في تلك القرية. وهناك، كما قيل، كتب الباب رسالته إلى الحاج ميرزا آقاسي.

وكان أحدهم الملاّ إسكندر الذي انتدبه الحجة لزيارة حضرة الباب في شيراز ويتحقق أمره، فأوفده حضرة الباب بالرسالة الآتية إلى سليمان خان أفشار الذي كان من المعجبين بالمرحوم السيد كاظم: ’قد ظهر الآن من كان السيد المرحوم يشير إليه ودائمًا يمتدحه ويفخمه ويشير باستمرار إلى قرب ظهوره، وإني أنا هو الموعود فقم وأنقذني من يد الظالمين‘، ولما سلّم حضرة الباب الرسالة إلى الملاّ إسكندر كان سليمان خان في زنجان ويستعد للسفر إلى طهران، فوصلته الرسالة في ظرف ثلاثة أيام. إلا أنه فشل في تلبية ذلك النداء.

وكان أحد أصحاب الملاّ إسكندر قد أخبر الحجة بعد يومين بنداء حضرة الباب، وكان الحجة قد حبس في العاصمة بتحريض العلماء في زنجان. وعلى الفور أمر الحجة الأحباء في موطنه أن يستعدوا ويجمعوا قواتهم لأجل تخليص سيدهم، وحرضهم أن يقوموا مع الاحتراس ويجتهدوا في انتهاز الفرصة لأخذه وإرساله إلى أي جهة يشاء. وسرعان ما انضم إلى هؤلاء عدد من المؤمنين في قزوين وطهران وذهبوا بناء على أمر الحجة لتنفيذ الخطة. فأدركوا الحرس ساعة متنصف الليل، ولما وجدوهم نائمين اقتربوا

صورة 99
منظر عام لتبريز

من حضرة الباب ورجوه أن يهرب. فأجابهم بثقة: ’إن جبال آذربيجان أيضًا لها حقوق.‘ ونصحهم بكل محبة أن يتخلوا عن خطتهم ويعودوا إلى منازلهم.(1)

ولما اقترب الركب من بوابة تبريز وشعر محمد بيك بأن ساعة الفراق من مسجونه قد دنت، حضر أمامه، وبأعين دامعة رجاه أن يغفر له تقصيره وتعدّيه وقال له: ’إن السفر من إصفهان كان طويلاً وشاقًا وقد قصّرت في أداء واجبي في خدمتك كما ينبغي لي، لذلك استسمحك وأرجوك أن تباركني.‘ فأجابه حضرة الباب قائلاً: ’كُن مطمئنًا فإني أعدّك أحد شيعتي والذين يتبعون أمري سوف يباركونك إلى الأبد ويعظمونك ويمجدون عملك ويرفعون اسمك.‘(2) وفعل باقي الحرس كما فعل رئيسهم وتضرعوا إلى مسجونهم أن يباركهم وقبّلوا قدميه وودعوه الوداع الأخير بعيون دامعة. وعبّر حضرة الباب لكل منهم عن عناياته وأكد دعاءه لهم في صلواته، وأسلموه بعد التردد الكثير إلى يد حاكم تبريز، ولي عهد محمد شاه. وكان هؤلاء المرافقون، الذين شاهدوا بأعينهم حكمة حضرة الباب وقدرته الفائقتين عن حدود البشر، قد أخبروا بمشاعر الحيرة والإعجاب كل من قابلهم بروايات مما رأوه وسمعوه، وبهذه الوسيلة ساعدوا على نشر الأمر الجديد بطريقتهم الخاصة.

وأثارت أحباء تبريز أخبار اقتراب حضرة الباب من تلك المدينة، فخرجوا جميعهم لمقابلته وهم مشتاقون أن يظهروا ترحيبهم لرئيسهم المحبوب. ولكن موظفي الحكومة

________________________

(1) وفي "التاريخ الجديد" أن محمد بيك حكى ما يأتي للحاج ميرزا جاني: ’وركبنا سائرين حتى وصلنا إلى خان مبني بالطوب على بعد فرسخين من المدينة. ومن هناك سرنا إلى ميلان حيث جاء كثير من الأهالي لرؤية حضرته، وامتلؤوا تعجبًا من جلال رب الإنسانية وجماله. وبينما كنا نستعد للرحيل في الصباح من ميلان، جاءت عجوز معها طفل أصلع الرأس ومغطى بالجرب بحيث كان أبيض اللون لغاية الرقبة، وتوسلت إلى حضرته أن يشفيه. وكان الحراس يريدون ردعها، ولكن حضرته منعهم، ودعا بإحضار الطفل. ثم مرر منديلاً على رأسه وتلفظ بضع كلمات معينة. وما كاد يتمها حتى شفي الطفل. وكان يوجد في ذلك المكان نحو مائتي شخص آمنوا كلهم دفعة واحدة وأصبحوا من الراسخين في اعتقادهم.‘ (الصفحتان 220-221)

(2) ويقول ميرزا أبو الفضل في كتاباته إنه عندما كان في طهران، قابل نجل محمد بيك واسمه علي أكبر بيك وأسمعه العجائب التي كان والده يحكيها عن الباب أثناء رحلته معه إلى تبريز. وكان علي أكبر بيك مؤمنًا صادقًا بأمر حضرة بهاءالله ومعروفًا بذلك بين أحباء إيران.

صورة 100
صورة 101
قلعة تبريز حيث سجن حضرة الباب
ويظهر داخل وخارج (x) غرفة حبسه

الذين تسلموا حضرة الباب أبَوا أن يسمحوا لهم بأن يقتربوا منه أو يتلقوا بركاته. ولكن أحد الشبان لم يقدر أن يمنع نفسه وهجم وهو حافي القدمين واخترق بوابة المدينة، وفي لهفته لرؤية وجه محبوبه جرى مسافة نصف فرسخ باتجاه حضرته حتى وصل إلى الخيالة الذين كانوا سائرين في المقدمة أمام حضرة الباب، ورحب بهم بكل فرح، وأمسك بطرف رداء أحدهم وقبّل ركابه، وصاح قائلاً وهو يبكي: ’أنتم رفقاء محبوبي وإني أعزكم لذلك مثل حبة عيني.‘ وكان هذا المسلك الغريب والحنين الزائد قد بهرهم، فسمحوا له في الحال بالمثول بين يدَي سيده، وبمجرد أن وقع نظره عليه صاح بفرح غامر ووقع على وجهه باكيًا بحرقة، فنزل حضرة الباب من جواده وعانقه ومسح دموعه وبدّل اضطرابه بالاطمئنان. ومن بين المؤمنين جميعهم في تبريز لم يتمكن أحد من تقديم ولائه لحضرة الباب سوى ذلك الشاب، أو أن يتبرك بلمسة يده. وقنع الآخرون بإلقاء نظرات على محبوبهم من بعد. واكتفوا بذلك لشفاء غليل فؤادهم.

ولما وصل حضرة الباب إلى تبريز أدخلوه أحد المنازل التي أعدت لحبسه(1) في تلك المدينة، وكان يحرسه على مدخل الباب كتيبة من فوج الناصري ولم يتمكن أحد من مقابلته سواء من العامة أو من أنصاره سوى السيد حسين وأخيه، وكان هذا الفوج الذي شكل من بين سكان بلدة "خمسة"، وكانت محط عناية الحكومة، هو نفس الفوج الذي انتخب فيما بعد ليمطر حضرة الباب بوابل مقذوفاته. وأثارت أخبار وصوله إلى تبريز ضجة كبيرة بين الأهالي واحتشد جمع غفير لمشاهدة دخوله إلى المدينة.(2) وحضر بعضهم لمجرد الإطلاع وآخرون ليتحققوا بأنفسهم من صحة الإشاعات السيئة التي كانت تحوم حوله، كما كان هناك من أهل الإيمان من حرّكهم خلوصهم وانقطاعهم ليتشرفوا بمحضره ويؤكدوا له ولاءهم. وبينما كان يسير في الشوارع كان صياح الغوغاء يتردد من كل الجهات، وكان أغلب الجمهور الذين رأوا وجهه يحيّونه بنداء "الله أكبر" وكان غيرهم يرحب به ويهلل وبعضهم يطلب من الله نزول بركات العلي القدير عليه، وشوهد غيرهم يقبّل تراب موطئ قدميه باحترام. وبلغت جلبة الغوغاء على أثر وصوله لدرجة أنهم أمروا مناديًا يحذر السكان من الخطر الذي يحدق بهم إذا تجاسروا على الحضور أمامه ويقول: ’كل من يحاول الاقتراب من السيد الباب أو يسعى للقائه تُضبط وتُصادر أملاكه جميعها ويُحكم عليه بالسجن المؤبد.‘

وفي اليوم التالي لوصول حضرة الباب، تجاسر الحاج محمد تقي الميلاني وهو تاجر مشهور في المدينة أن يقابل حضرة الباب ومعه الحاج علي عسكر. وقد حذّرهما أصدقاؤهما بأنهما بعملهما هذا لا يعرضان أملاكهما فقط للخسارة بل إن حياتهما أيضًا تكون معرضة

________________________

(1) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 13، في الترجمة العربية) إن الباب مكث 40 يومًا في تبريز. وقال الحاج معين السلطنة في تاريخه الخطي (الصفحة 138) إن الباب أمضى الليلة الأولى في منزل محمد بيك. ومن هناك انتقل إلى غرفته في القلعة المجاورة لمسجد علي شاه.

(2) ’وكان نجاح ذلك الرجل النشيط (الملاّ يوسف الأردبيلي) عظيمًا وسريعًا لدرجة أنه على بوابات تبريز، خرج سكان هذه المدينة المزدحمة عن بكرة أبيهم واعترفوا بالباب زعيمًا لهم وسمّوا أنفسهم بابيين. ولا حاجة للقول أن البابيين في المدينة عديدون، مع أن الحكومة اتخذت التدابير اللازمة لإدانة الباب ومعاقبته لكي تبرر موقفها أمام الجمهور.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحتان 357-358)

للخطر، إلا أنهما رفضا التقيد بهذه النصائح. وبمجرد أن اقتربا من باب المنزل الذي كان حضرة الباب محبوسًا فيه حتى ألقي القبض عليهما، ولكن السيد حسن الذي كان في ذلك الوقت خارجًا من محضر حضرة الباب تدخل فورًا واحتج بشدة قائلاً: ’إني مأمور من السيد الباب أن أبلغكم هذه الرسالة وهي أن لا تمنعوا الزائرَين من الدخول لأني بنفسي طلبتهما لمقابلتي.‘ وسمعت الحاج علي عسكر يشهد بالآتي: ﴿إن هذه الرسالة أسكتت المعارضين وأدخلنا توًا إلى محضره، فحيّانا بهذه الكلمات: ’إن هؤلاء التعساء الذين يحرسون على باب منزلي أوجدتهم بأمري للحماية من هجوم الغوغاء الذين يحتشدون حول المنزل. وهم عاجزون عن منع من أريد إدخالهم إلى محضري.‘ ومكثنا معه نحوًا من ساعتين، فلما أذن لنا بالانصراف سلّمني حجرين من خواتم العقيق وأمرني أن أنقش عليهما الآيتين اللتين أعطاهما لي سابقًا وأن أثبّتهما على الخاتمين وأحضرهما له بعد أن يجهزا. وأكد لنا إنه في أي وقت أردنا مقابلته فلا يقدر أحد على منعنا من الدخول إلى محضره. ولم أصادف أي اعتراض بسيط في أي مرة من قبل أولئك القائمين على حراسة مدخل منزل حضرته. ولم أسمع منهم أي كلمة مسيئة، ولم يبدُ أنهم ينتظرون مني أية مكافأة على هذا التسامح.

وأتذكر أني أثناء مرافقتي بالملاّ حسين كنت أعجب من الدلائل الوفيرة على لباقته وقوته الخارقة. وكان لي الشرف أن أرافقه في رحلته من شيراز إلى مشهد وزرت معه مدن يزد وطبس وبشرويه و"تُربَت"، وكنت أتأسف في تلك الأيام حزنًا على ما فاتني من رؤية حضرة الباب في شيراز، فأكد لي الملاّ حسين قائلاً: ’لا تحزن فإن الله القدير سوف يعوضك بلا شك في تبريز ما ضاع منك في شيراز ويمنحك فرح زيارته سبع مرات بدلاً من المرة الواحدة التي فاتتك‘. وكنت أندهش من الثقة التي كان يخاطبني بها الملاّ حسين. وقد مرت الأيام إلى أن زرت حضرة الباب في تبريز وتشرفت بمحضره جملة مرات رغم الظروف المعاكسة، وتذكرت إذ ذاك كلمات الملاّ حسين وتعجبت من صدق فراسته وزادت دهشتي عندما سمعت حضرة الباب يقول لي في زيارتي السابعة: ’الحمد لله الذي مكنك من أن تكمل عدّة زياراتك وشملك بحمايته العزيزة.‘﴾

***
صورة 102
قلعة ماه كو
صفحة خالية
الفصل الثالث عشر
حبس حضرة الباب في قلعة ماه كو

ومما رواه السيد حسين اليزدي قال: ’في مدة العشرة أيام الأولى من حبس حضرة الباب في تبريز، لم يعلم أحد ماذا يكون مصيره وكثرت الإشاعات في المدينة. وذات يوم تجاسرت على سؤاله، إذا كان سيستمر في البقاء حيث هو أو إنه سينتقل إلى جهة أخرى. فأجابني فورًا: ’’هل نسيت سؤالك لي في إصفهان؟ فسوف نمكث مدة لا تقل عن تسعة أشهر محبوسين في جبل باسط (ماه كو)(1) ثم ننتقل منه إلى جبل شديد (چهريق).(2) وهذان الجبلان هما من سلسلة جبال خوي ويقعان على جانبَي المدينة التي تحمل هذا الاسم.‘‘ وبعد مرور خمسة أيام من صدور هذا التنبؤ من حضرة الباب صدرت الأوامر لنقله وأنا معه إلى قلعة ماه كو وأن نكون في حراسة علي خان الماه كوئي.‘

والقلعة عبارة عن بناء حجري متين ذي أربعة أبراج ويقع على قمة جبل وفي أسفله بلدة ماه كو والطريق الوحيد الذي يصلها يمتد إلى المدينة، وفي آخره بوابة ملاصقة لمقر الحكومة وهي مغلقة دائمًا. وهذه البوابة هي خلاف بوابة القلعة. وهذه القلعة الواقعة على حدود الإمبراطوريتين العثمانية والروسية استخدمت، نظرًا لموقعها الاستراتيجي المشرف ومزاياها الحربية، مركزًا للمراقبة. ويلاحظ الضابط المنوط بهذه المحطة حركات العدو في وقت الحرب ويراقب المناطق المجاورة ويرسل التقارير بما

________________________

(1) "باسط" يوافق "ماه كو" في العدد الأبجدي وهو 72.

(2) "شديد" يوافق "چهريق" في العدد الأبجدي وهو 318.

يراه للحكومة عند الضرورة عن الأمور التي تقع تحت نظره. وتحد القلعة غربًا بنهر أراكسِس الذي يمثل الحدود بين ممالك الشاه والإمبراطورية الروسية. وفي الجنوب تمتد أملاك سلطان تركيا، وتبعد بلدة بايزيد أربعة فراسخ فقط من جبل ماه كو. وكان اسم الضابط المنوط بالقلعة، علي خان. وسكان المدينة جميعهم من الأكراد وهم من المسلمين السنة.(1) والشيعة الذين يكوّنون غالبية سكان فارس هم أعداء الأكراد الألداء. ويكره الأكراد بالخصوص الشيعة الأسياد، الذين يعتبرونهم رؤساءهم الروحانيين ومن أكبر المهيجين عليهم. وكانت والدة علي خان كردية، ولذلك كان الابن محترمًا جدًا ومطاعًا إطاعة مطلقة من سكان ماه كو، لأنهم يعتبرونه أحد أفراد جماعتهم ويضعون فيه أكبر الثقة.

وكان الحاج ميرزا آقاسي قد دبر مسألة إبعاد حضرة الباب إلى تلك الجهة البعيدة الموحشة الخطيرة في أحد أركان مملكة الشاه، ولم يقصد من ذلك سوى صد تيار تأثير حضرته ونفوذه المتزايد، وقطع كل علاقة تربطه مع جماعة أتباعه في سائر أنحاء المملكة.(2) وإذ وثق بأن معظم الناس لا يرغبون في اختراق تلك البلاد الموحشة المضطربة، فقد تهلل فرحًا وظن بأن الإبعاد القسري لأسيره عن اهتمامات أتباعه ومصالحهم يؤول إلى خنق الحركة في مهدها وإلى إطفائها وزوالها في نهاية المطاف. ولكن سرعان ما أجبر على إدراك خطئه في معرفة طبيعة أمر حضرة الباب، ولم يقدّر قوة تأثيره. ذلك أن لطف صفات حضرة الباب سرعان ما أخضعت الروح المضطربة للسكان، ورقت قلوبهم بتأثير محبته السامية. فأخضع تكبرهم وصلفهم بدماثة أخلاقه التي لا شبيه لها ولانت غطرستهم وحمقهم من حكمة كلماته. وكان الحماس الذي أوقده حضرة الباب في قلوبهم على شأن كانوا في كل صباح يبدأون أعمالهم بأن يبحثوا

________________________

(1) "ويقطن في هذا الجبل أناس لا يقدرون أن ينطقوا بكلمة جنة العربية، فكيف يفهمون معناها. فانظروا ماذا جرى لسيد الكائنات." ("البيان" الفارسي، الجزء 4، الصفحة 14)

(2) ’وهي بلاد رئيس الوزراء على الحدود في آذربيجان وقد برزت تلك المدينة من احتجابها في مدة حكم الوزير. وكثير من أهالي ماه كو تبوؤا أعلى الوظائف في الحكومة بفضل انتمائهم إلى الرئيس الحاج ميرزا آقاسي.‘ (المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 356، الحاشية 1)

عن مكان يقدرون أن يفوزوا فيه بنظرة لوجهه ويناجونه ويطلبون منه البركة في عملهم اليومي. وعند حصول مشاجرة أو خصام يسرعون إلى ذلك المكان ويولون وجوههم تلقاء سجنه ويحلفون باسمه أن يقول كل منهم الصدق. وكثيرًا ما حاول علي خان أن يمنعهم عن هذا العمل، ولكنه وجد نفسه عاجزًا على منعهم عن ذلك الحماس. وكان بنفسه يؤدي وظيفته بكل صرامة ولا يأذن لأحد من تلاميذ حضرة الباب المخلصين أن يمكث ولو ليلة واحدة في بلدة ماه كو.(1)

________________________

(1) ﴿وقد أخبرنا الباب بنفسه عن كيفية حياته في السجن الذي حبس فيه وكان يتألم منه كثيرًا وكان ذلك كما هو مذكور في "البيان" ناتجًا من تشديد النظام اتباعًا للأوامر الآتية من وقت لآخر من طهران. وجميع المؤرخين سواء من المسلمين أو البابيين متفقون أنه رغمًا عن الأوامر المشددة بعدم السماح للباب بالاتصال بأحد، كانت جموع التلاميذ والأتباع تهرع لمقابلته في سجنه وكذلك كان يفعل غير المؤمنين، وقال مؤلف كتاب "المتنبئين": ’وكان البابيون من كل الجهات يأتون إلى آذربيجان للحج عند رئيسهم.‘ وقد ورد في "البيان" قوله: "فما أجهلك يا عبدي فقد فعلت ما فعلت ظنًا منك أنك ترضيني. فبالرغم عن الآيات التي أظهرتها بنفسي وتلك التي تجري بقدرتي التي مخزنها شخص الباب وبالرغم من أن الآيات لا تخرج منه إلا بإذني فإنك بلا حق وضعته في رأس جبل لا يستحق سكانه أن يُذكروا. ولم يكن أحد موجودًا بالقرب منه ذلك القرب الذي هو عين القرب مني إلا أحد حروف الحيّ من كتابي حتى ولم يكن بين يديه اللتين هما يداي خادم ليسرِّج له المصباح ليلاً. فهذا كان شأن الذي لولاه لم يخلق كل من على الأرض ومن جوده هم متنعمون فلم يسمحوا له بسراج يوقدونه." [الواحد الثاني من الباب الأول]. "ومع أن الثمرة من كل ذلك (الإسلام) هو الاعتقاد في هذا الظهور إنهم حبسوه في ماه كو." [الواحد الثاني، الباب السابع]. "وكل ما كان متعلقًا برجل الجنة كان في الجنة. وتلك الغرفة المنفردة التي لم يكن لها باب إنها اليوم أعظم الجنات لأن سدرة منتهى الحق غرست فيها. وتنادي فيها كل الذرات التي تتكون منها، أن لا إله إلا الله وأني أنا الله لا إله إلا أنا رب العالمين." [الواحد الثاني الباب 16]. "وثمرة هذا الباب أن الناس لما رأوا أن لهم أن يعملوا كل هذا (صرف النقود) لأجل البيان الذي لم يكن إلا أثرًا ممن يظهره الله، فإنهم يحاسبون عما يعملونه لأجل من يظهره الله في وقت ظهوره حتى لا يجري عليه ما جرى علينا في هذا اليوم. يعني إنه توجد عدة قرآنات في العالم مما تساوي ألفًا من التومانات في حين أن الذي أنزل الآيات قد وُضع في جبل وفي غرفة مبنية باللبن الذي جفف في الشمس، ومع ذلك كانت هذه الغرفة ذاتها هي العرش بنفسه (السماء التاسعة التي استقرت عليها الربوبية) وهذا بمثابة نذير للبيانيين حتى لا يعملوا معه ما عمله معنا أهل القرآن." [الواحد الثالث الباب 19].﴾ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحات 365-367 ). "ويعتقد الكل فيه ومع ذلك فقد حبسوه في جبل ومع أنهم يفرحون بسببه ولكنهم تركوه وحيدًا، والذين فعلوا معه هذه الأعمال كانت نفس أعمالهم جحيمًا لهم وكذلك لم تكن للمؤمنين جنة أعلى من إيمانهم نفسه." ("البيان" الفارسي، الجزء 1، الصفحتان 126-127)

وأضاف السيد حسين قائلاً: ﴿في الأسبوعين الأولين لم يسمح لأحد بزيارة حضرة الباب. وكنت أنا وأخي الوحيدين المسموح لنا بملاقاته، وكان السيد حسن في كل يوم ينزل إلى المدينة ومعه أحد الحراس لشراء اللوازم اليومية الضرورية، وأما الشيخ حسن الزنوزي الذي وصل إلى ماه كو فصرف الليالي في مسجد خارج بوابة المدينة، وكان يقوم بدور وسيط بين أتباع حضرة الباب الذين كانوا يأتون أحيانًا للزيارة في ماه كو وبين أخي السيد حسن، الذي بواسطته كانت تسلّم العرائض من المؤمنين إلى مولاهم وترسل الأجوبة بواسطته إلى الشيخ حسن الزنوزي.

وفي ذات يوم طلب حضرة الباب من أخي أن يبلغ الشيخ حسن بأنه سوف يطلب بنفسه من علي خان أن يغير سلوكه تجاه المؤمنين الذين يزورون ماه كو وأن يترك قسوته. وأضاف: ’أخبره بأني سوف آمر المحافظ غدًا ليأتي إلى هذا المكان.‘ فحصلت لي دهشة من هذه الرسالة. وفكرت في نفسي كيف يمكن إقناع علي خان المتسلط أن يلطف من قسوة انضباطه. وفي اليوم التالي في وقت مبكر دهشنا لطرق بوابة القلعة المغلقة فجأة مع علمنا الأكيد بأن الأوامر أعطيت أن لا يسمح لأحد بالدخول قبل طلوع الشمس. وعرفنا صوت علي خان وهو يتناقش مع الحرس، وجاء أحدهم وأخبرني بأن محافظ القلعة مصمم على التصريح له بالدخول لمقابلة حضرة الباب في زنزانته. فأوصلت الرسالة وأمرت أن أدخله إلى محضره. وإذ شرعت بالخروج من الغرفة المجاورة لغرفته، وجدت علي خان واقفًا على العتبة بهيئة خضوع تام وتظهر على وجهه علائم الخشوع والتعجب على غير المعتاد. وظهر لي أن كِبره وغطرسته قد زالتا بالكلية. وبكل خضوع وبكمال الأدب رد عليّ التحية ورجاني أن أصرح له بالدخول لمقابلة حضرة الباب. فأخذته إلى الغرفة التي يشغلها مولاي، وكانت أطرافه ترتعش وهو يتبعني. وظهر في باطنه هيجان لم يقدر على إخفائه وظهر جليًا على أسارير وجهه. فقام حضرة الباب من مقعده ورحّب به. فاقترب علي خان وانحنى تعظيمًا له وارتمى على أقدامه وتوسل قائلاً: ’خلصني من حيرتي، فإني أستحلفك بالنبي جدّك العظيم أن تقشع عني شكوكي لأن ثقلها عليّ يقطّع نياط قلبي. فإني كنت أقود جوادي في

البيداء وعندما اقتربت من بوابة المدينة وقت الفجر، رأيتك بعينَي فجأة بجانب النهر واقفًا تؤدي صلاتك. وبيدين ممدودتين وعينين مرتفعتين إلى السماء كنت مشتغلاً بالمناجاة لله. فوقفت ساكنًا ألاحظك وانتظرت حتى أتممت الصلاة لأقترب منك وأوبخك على التجاسر لترك القلعة دون أذني. وكنت أثناء مناجاتك مع الله منهمكًا في العبادة والابتهال ناسيًا نفسك تمامًا، فاقتربتُ منكَ بهدوء وأنت في حالة وله ولم تشعر بوجودي بتاتًا. وفجأة شعرت بخوف شديد ورجعت عن عزمي عن إيقاظك من هيامك، فقررت أن أتركك وأذهب إلى الحرس لأوبخهم على إهمالهم. ولكني سرعان ما دهشت إذ وجدت البوابتين الخارجية والداخلية مغلقتين ولم يُفتحا إلا بناء على طلبي، فدخلت إلى محضرك، والآن وجدتك جالسًا أمامي مما أوجب تعجبي وارتبت أن يكون عقلي قد فارقني.‘ فأجابه حضرة الباب قائلاً: ’إن الذي رأيت هو حق لا ينكر. لقد بخست قدر هذا الأمر واحتقرت صاحبه ولم يشأ الله برحمته أن يوقعك في العقاب بل أراد أن يظهر الحق أمام عينيك وبتوسطه الإلهي أوقع في قلبك محبة وليّه وجعلك تعترف بقوة أمره التي لن تُقهر.‘﴾

وقلّبت هذه الحادثة العجيبة قلب علي خان كلية. وهدّأت تلك الكلمات اضطرابه وأخضعت وحشيته وأزالت عداوته. وأراد أن يكفّر عن سابق سلوكه بكل ما أوتي من نفوذ، وأسرع بإخبار حضرة الباب قائلاً: ’هناك شيخ مسكين يحنّ للقائك وهو قاطن في مسجد خارج بوابة ماه كو. أرجوك أن تأذن لي أن أحضره بنفسي إلى هذا المكان لمقابلتك. وبذلك العمل أرجو أن تغفر لي سيئاتي حتى أكون قادرًا على محو شوائب آثار سلوكي السيئ مع أحبائك.‘ فأذن له في ذلك، وذهب توًا وأحضر الشيخ حسن الزنوزي للمثول بين يدي مولاه.

ولم يألُ علي خان جهدًا، ضمن الصلاحيات المخولة له، في عمل كل ما من شأنه تخفيف وطأة الحبس على حضرة الباب. وبقيت بوابة القلعة مغلقة أثناء الليل، وأما في النهار فكان كل من يريد الدخول إلى حضرة الباب يصرح له ويتمكن من التحدث معه وتسلّم التعليمات اللازمة منه.

وأثناء حبسه بين جدران القلعة خصص حضرته كل وقته لكتابة "البيان" الفارسي(1) وهو أهم وأنور وأشهر وأجمع من كل كتاباته وفيه شرّع القوانين والقواعد لدورته الجديدة، وبيّن وأوضح وبشّر بظهور جديد يأتي بعده، وحرّض أتباعه للبحث عن "من يظهره الله"(2) وحذرهم من أن يؤولوا الأسرار والإشارات الموجودة في "البيان" بطريقة تمنع الاعتراف بأمره.(3)

________________________

(1) ’وكانت الجموع تهرع لزيارة الباب من كل مكان وكان عدد الكتابات والألواح التي صدرت من قلمه في تلك المدة عديدة بدرجة أنها بلغت نحو ماية ألف آية.‘ (كتاب "التاريخ الجديد"، الصفحة 238) "فانظروا أنه صدر ما يقرب من ماية ألف سطر من مثل هذه الآيات وانتشرت بين الناس، خلاف الخطب المتوالية وأجوبة المسائل العلمية والفلسفية." ("البيان" الفارسي، الجزء 1، الصفحة 43) "وانظروا أيضًا في مسألة نقطة البيان، إن الذين أوتوا العلم يعرفون رتبته قبل ظهوره ولكنه فيما بعد أظهر للآن ما ينوف عن خمسمائة ألف آية في مختلف المواضيع، ومع ذلك تكلموا عليه بكلمات لا يرضى القلم أن يكررها." ("البيان" الفارسي، الجزء 3، الصفحة 113) "بينما قد نزّلت الآيات من هذا الغمام الرحمانية على قدر لم يحصها أحد للآن. حيث إن المتداول منها في اليد إلى الآن نحو عشرين مجلدًا، وكم منها لم تصل إليه الأيدي، وكم منها أيضًا قد نُهب وسُلب ووقع بأيدي المشركين، ولا يُعلم ما فعلوا به." ("كتاب الإيقان"، الصفحة 183)

(2) إشارة إلى حضرة بهاءالله - وقد كتب حضرة الباب للملاّ باقر، أحد حروف الحيّ، عليه رحمة الله وبركاته: "لعلك في ثمانية سنة يوم ظهوره تدرك لقاءه." ("لوح ابن الذئب"، الصفحة 129، طبعة مصر)

(3) ﴿وعلى هذا النمط كانت كتابات الباب جميعها بعد حبسه في سجن ماه كو، فقد خاطب محمد شاه بخطاب طويل نقوم على تحليله وهو يبتدئ بحمد الله الواحد ثم يستمر في المدح على محمد والأئمة الاثني عشر الذين هم حجر الزاوية في بناء "البيان" كما يظهر ذلك من الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكتب ما يأتي: "أقول بأن كل ما سواهم ممن في الإمكان في هذه الدنيا عندهم عدم صرف، وإذا ذكر فإنما يكون الكل بمثابة ظل الظل. واستغفر الله من هذا التحديد الذي أصفهم به. لأن درجة المدح الذي يمدحون به هو عدم إمكان مدحهم... ولهذا خلقني الله من طينة لم يخلق أحد من طينة مثلها. وأعطاني ربي ما لا يفهمه العلماء بكل ما أوتوه من العلم وما لا يعرفه أحد إلا الذين انمحوا بالكلية أمام آية من آياتي... واعلم إني بالحق عمود الكلمة الأولى تلك الكلمة التي من عرفها عرف الله ودخل في كل الخير. والذي ما أراد أن يعرفها فقد جهل الله ودخل في كل الشر. فوربك رب الأرضين والسموات إن الذي يعيش هنا بقدر ما تسمح له طبيعته ويمضي حياته يعبد الله، وفي جميع أعمال الخير حسبما يقتضيه علم الله، إذا كان في قلبه عداء لي بأقل مما لا يقدر أحد على معرفته إلا الله فجميع أعماله الطيبة والصالحة ليس لها من فائدة ولا منفعة ولا ينظر إليها الله إلا للعقاب وكان معدودًا من بين الأموات. فقد قدر الله كل الخير كما يعرفه خيرًا في طاعتي وقدر كل الشر في مخالفتي وفي الحقيقة إني اليوم أرى في مرتبتي أن كل ما أريد أن أقوله وجميع أهل محبتي وطاعتي في أعلى غرف الجنان. بينما أعدائي مغموسين في أسفل دركات الجحيم. أما عن وجودي فإني أقسم أنه لولا ↓

وسمعت الشيخ حسن الزنوزي يشهد بالآتي: ’إن صوت حضرة الباب وهو يملي تعاليم ومبادئ دينه كان مسموعًا بوضوح في سفح الجبل. وكانت نغمة ترتيل الآيات

_____________________________________________________________________

أني أجبرت على أن أقبل أن أكون حجة لله فما كنت أقدم على تحذيرك..." وهنا يستمر الباب بكل وضوح يؤيد أقواله في كتاب "بين الحرمين". ولا يزيد عليها شيئًا ولا ينقص منها شيئًا. قال: "وأني أنا النقطة التي ظهر منها كل الوجود وأني أنا وجه الله الذي لن يفنى ولا يطفى والذي يعرفني يصحبه كل الخير والذي ينكرني يأتي خلفه كل الشر. ولما سأل موسى ربه ما سأل وتجلى ربك للجبل تنور من أحد شيعة علي كما يدل على ذلك الحديث: "وأقسم بالله أن ذلك النور هو نوري." ألا ترى أن عدد اسمي يساوي عدد اسم الرب ألم يقل الله في القرآن "فلما تجلى ربك للجبل؟" واستمر حضرة الباب في بحث النبوات المذكورة في القرآن وبعض الأحاديث وذكر حديث المفضل الشهير وهو من أكبر الأدلة على ظهوره وفي القرآن يقول: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون." [سورة السجدة، الآية 5] وقد اختفى آخر أيام سنة 260ﻫ وفي ذلك الوقت تم تدبير الأمر الإلهي وأغلق باب العلم. وقد سأل المفضل الإمام الصادق عن علامات ظهور المهدي فأجابه: "إنه يظهر في سنة الستين ويرتفع أمره"، يعني سنة 260 وهي السنة التي كان فيها ظهور حضرة الباب. ويقول حضرة الباب: "قسمًا بالله إني لم أتلق الدرس وكان تعليمي كتعليم التجار. وفي سنة الستين امتلأ قلبي بآيات بينات وعلوم حقة وشهادة لله الحق وقد أظهرت دعوتي في تلك السنة بعينها."

"وفي تلك السنة أرسلت لك أيضًا رسولاً (الملاّ حسين البشروئي) ومعه كتاب يحمله لعل الحكومة تفعل ما تراه بالنسبة للحجة. ولكن الإرادة الإلهية أقامت الحروب الأهلية التي أصمت الآذان وأعمت الأعين وأقست القلوب حتى بذلك لم يتمكن رسولي من الوصول إليكم وعارضه الذين ظنوا أنفسهم وطنيين. وللآن بعد مرور أربع سنوات لم يخبركم أحد بحقيقة الأمر. والآن قد اقترب وقتي لأن عملي هو عمل إلهي وليس بشريًا ولذلك كتبت إليك بالاختصار. قسمًا بالله لو تعلم ما نزل عليّ في هذه المدة من موظفيك ومن مأموريك فإن خوف الله يمنعك من الشهيق الذي تردده الآن على شفتيك إلا إذا فكرت ورتبت الدخول في طاعة الحجة وأصلحت حالاً ما حصل وقد كنت في شيراز ووقع علينا من ذلك الطاغية الشرير وهو حاكمها من الظلم ما لو علمتَ بأقل قليل منه لعاقبته بالقصاص لأن شره قد جلب غضب السماء إلى يوم يبعثون على جميع أنحاء المملكة. فهذا الرجل المتكبر الحسود لم يصدر منه أي أمر ينطبق على العقل فأجبرني على مبارحة شيراز وسرت في طريقي إلى طهران لمقابلتك ولكن المرحوم معتمد الدولة كان يعلم بحقيقة الدعوة وعمل كل ما يقتضيه واجب الاحترام نحو آل الله. وابتدأ جهال المدينة يثورون وهذا ما جعلني أختبئ في قصر الصدر حتى توفي المعتمد جزاه الله عنا كل خير. ولا شك أن ما عمله معنا كان سببًا في نجاته من نار الجحيم. ثم جاء من بعده گرگين وجعلني أسافر سبع ليال مع خمسة رجال بغير أن يعطينا ما يلزمنا للسفر ومعه ألف أكذوبة وألف ظلم. فيا أسفًا على ما نابني وما أصابني. وأخيرًا أمر السلطان بذهابي إلى ماه كو دون أن يعطيني ركوبة للسفر عليها، فيا أسفي فقد أصابني ما أصابني ووصلت أخيرًا إلى هذه القرية التي سكانها جهلاء غلاظ. قسمًا بالله لو تعلم في أي مكان سكنت لكنتَ أول من يرحمني، إنه عبارة عن قلعة على قمة جبل وهذا من رعايتك أنني سكنت في هذا المسكن. وكان عدد الساكنين فيه رجلين وأربعة كلاب، والآن ↓

تفيض من شفتيه وهي تشنّف الأسماع وتخترق القلوب والأرواح وتتحرك بندائه قلوبنا من أعماقها.‘(1)

_____________________________________________________________________

فكّر كيف كنت أمضي وقتي. إلا أني مع ذلك شكرت لربي كما يجب أن يشكر. وأقسم بالله أن الذي حبسني هناك كان مسرورًا من فعلته ولو كان يعرف الذي عمل معه ذلك حق المعرفة لزال فرحه. والآن أكشف لك عن سر وهو أن ذلك الرجل قد حبس جميع الأنبياء والأولياء في شخصي، والذي أحاطه علم الله، ولم يبق من تعد لم يصبني منه الأنين… ولما علمت بالأمر الذي أصدرتم في حقي باعتقالي في ماه كو كتبت للصدر الأعظم وقلت له اقتلني وأرسل رأسي لأي مكان شئت ولا ترسلني حيًا دون ذنب إلى حيث يرسل المذنبون، ولكنه لم يجبني بشيء. وإني لعلى يقين أنه لم يكن عالمًا بحقيقة الحال لأن إغضاب قلوب المؤمنين بغير سبب أشد وأصعب من هدم بيت الله. قسمًا بالله إني أنا الآن بيت الله الحقيقي، وكل خير معلق بما يعمله كلٌ نحوي من الخير، لأنه يكون كمن يعمل الخير لله وملائكته وأحبائه. ولو أن الله وأحباءه قد عَلو عُلوًا كبيرًا من أن يصل إلى تراب عتبتهم أي خير أو شر من أي إنسان. ولكن كل ما يصل اليّ إنه يصل إلى الله. قسمًا بالله إن الذي أمر بحبسي إنما حبس نفسه ولن يصيبني إلا ما أراد الله، فآه آه على من يخرج من يده الشر وطوبى لمن يبذل الخير."

وفي نهاية هذه الرسالة الطويلة يقول: "أما الأمر الآخر فعن هذه الدنيا الدنية فإن المرحوم المعتمد صرف أعوانه ذات ليلة وخاصة الحاج الملاّ أحمد ثم قال لي: ’إني أعلم يقينًا أن كل ما ملكتُهُ جمعته بالغصب وهو ملك لصاحب الزمان، ولذلك أسلمكَ جميع مالي لأنك سيد الحقيقة. وأرجو أن تجعلني في حلٍ من حيازته.‘ ثم خلع خاتمًا كان في يده وأعطاه لي، فأخذت الخاتم ثم أعدته إليه وجعلته حايزًا لكل أملاكه. والله شاهد على ما أقول وكفى بالله شهيدًا. لم أقبل من جميع أملاكه دينارًا ولكن لك أن تأمر فيها بما تشاء وبما أن الله أمر أن يكون لكل نزاع شاهدان فمن بين جميع العلماء أطلب السيد يحيى والآخوند الملاّ عبد الخالق فهما يطلعانك على أمري ويوضحان لك آياتي فلا يبقى بعد هذه المقابلة إلا أمر واحد وهو إتمام حجتي. لأن أحد هذين الشاهدين عرفني قبل الظهور وأما الآخر فعرفني بعده. ويعلم الاثنان كلاهما ذلك حق العلم. ولذلك اخترتهما."

وينتهي الخطاب بأحاديث وبراهين عديدة حرفية على هذا النحو وكان الباب محزونًا جدًا في حبسه ومكث فيه كثيرًا لأن الخطاب المومى إليه صدر سنة 1264ﻫ وكانت شهادته في 27 شعبان 1266ﻫ (8 يوليو/تموز سنة 1850م).﴾ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحات 367-373)

(1) وهذا هو الدعاء الذي كان الباب يدعو به كما يذكره في "الدلائل السبعة" وهو مناجاته أثناء حبسه في قلعة ماه كو (ما ترجمته): "أي رب أنزل عليه وأهله وذريته وأحبائه وأتباعه وأقربائه وكل من على الأرض نورًا يفتح أبصارهم، وسهل أمورهم ومكنهم من الطيبات في الدنيا والآخرة إنك فعال لما تريد. أحيي اللهم في قلبه ما يقتدر به على تجديد شريعتك ويحيي به ما تغير في كتابك. وأظهر له ما أردت من تعديل أوامرك حتى تتجدد شريعتك. وامنحه في يده كتابًا جديدًا طاهرًا نقيًا لا ريب فيه فلا يشك فيه أحد ولا يقدر أن يغيره أو يعدله. فيا إلهي أنر بضيائك كل ما هو مظلم وأمح بقوته الثابتة ما غبر من الأحكام وأهلك باعتلائه الذين لم يتبعوا ↓

وكان للإرخاء التدرجي للقيود التي فرضت على حضرة الباب، الأثر الجميل في تشجيع الكثيرين من أتباع حضرته على الحضور من الأقاليم المختلفة من إيران لزيارته في قلعة ماه كو. فكان الزوار يفدون زرافات على بوابات القلعة ويدخلونها بلطف علي خان وتساهله،(1) وبعد إقامة ثلاثة أيام يسمح لهم بالانصراف بأمر حضرة الباب مع التعليمات بالعودة إلى خدماتهم وأعمالهم لإعلاء شأن أمره، ولم يتأخر علي خان نفسه في كل يوم جمعة من أداء واجبات الاحترام لحضرة الباب ليؤكد له إخلاصه وولائه. وكثيرًا ما قدم له أندر وأطيب الفاكهة الموجودة بالقرب من ماه كو، ويهديه بكل ما لذَّ وطاب من الأطعمة التي تكون موافقة لمذاقه ورغبته.

وعلى هذا النحو أمضى حضرة الباب الصيف والخريف بين حوائط تلك القلعة، وتلا ذلك شتاء قارس حتى إن الأواني النحاسية تأثرت من شدة البرد. ووافق ابتداء ذلك الفصل شهر محرم سنة 1264ﻫ،(2) وكان الماء الذي يستعمله حضرة الباب في الوضوء وصل لدرجة من البرودة الثلجية أن قطراته كانت تلمع وهي تتجمد على وجهه. وكان باستمرار عقب كل صلاة يطلب حضور السيد حسين أمامه ويأمره أن يقرأ بصوت مرتفع فقرة من "محرِّق القلوب" وهو كتاب المرحوم الحاج الملاّ مهدي، الجد الأكبر للحاج ميرزا كمال الدين النراقي، وفيه يمتدح المؤلف فضائل الإمام الحسين ويندب وفاته ويذكر

_____________________________________________________________________

طريق الحق كما تهلك به الظالمين. فأمحُ بسيفه أعمالهم المجتثة، وبعدله كل ظلم واجعل كل من عنده مطيعًا لأمره. واقلب جميع الممالك بسلطنته. فيا إلهي أنزل من يريد إنزاله وأهلك عدوه وأنكر كل من أنكره وشتت شمل كل من خالف حقه وأنكر أوامره وسعى في إطفاء نوره وامحُ اسمه (عدوه)."

وأضاف الباب هذه العبارات: "اتلو هذه العبارات والبركات مرارًا وأن لم يكن عندك وقت لتلاوتها بأجمعها فلا تنسَ أن تتلو الجزء الأخير منها وانتبه لظهور من يظهره الله لأن هذا الدعاء نزل لأجله من السماء حتى لا يصيبه حزن وعلَّمتُ أتباعي أن لا يُحزنوا أحدًا وقت الظهور لئلا يصيب شمس الحقيقة أي حزن." ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحتان 64-65)

(1) ’وقد كتب صاحب كتاب "المتنبئين" ما يأتي: "إن البابيين يأتون من كل جهة إلى آذربيجان للحج عند رئيسهم."‘ (من كتاب "السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 365، الحاشية 227) نقلاً عن كلام الأمير علي قلي ميرزا اعتضاد السلطنة، مؤلف كتاب "المتنبئين".

(2) 9 ديسمبر/كانون الأول سنة 1847م - 8 يناير/كانون الثاني سنة 1848م.

أحوال استشهاده. وكانت قراءة تلك المآسي تثير الهياج العميق في قلب حضرة الباب، فتستمر دموعه في الجريان وهو يستمع إلى رواية الشتائم والإهانات التي وجهت إلى الإمام، مما لا يصح التفوه بها، وإلى الألم المضني الذي قاساه على أيدي طغاة الأعداء. وبينما كان يستعرض حوادث تلك الحياة المحزنة، كان دائمًا يردد في ذهنه صورة تلك الفاجعة المحزنة التي ستحصل وقت مجيء الحسين الموعود. ولم تكن تلك المفاجع السابقة إلا إشارة تنبئ عن الآلام القاسية التي سوف يقاسيها محبوبه الحسين على أيدي مواطنيه، فكان يبكي أثناء تصور هذه المصائب في مخيلته والتي سيتعرض لها "من يظهره الله" وهي مما لم تحصل للإمام الحسين حتى في أشد مراحل نكبته.(1)

ويقرر حضرة الباب في إحدى كتاباته المنزلة سنة 1260ﻫ ما يأتي: "إن تبتلي وصلواتي ونسكي كانت نتيجة رؤيا رأيتها قبل إعلان أمري بسنة واحدة. وهي أني رأيت رأس الإمام الحسين سيد الشهداء معلقًا على شجرة. وكان بلعومه المقطوع يقطر دمًا بغزارة. فاقتربت من تلك الشجرة وأنا مبتهج أشد الابتهاج وبسطت يداي وجمعت قليلاً من

________________________

(1) ’وكتب الباب أثناء إقامته في ماه كو جملة كتب ومنها "البيان" الفارسي و"الدلائل السبعة" وكلها مملوءة بالأدلة الدالة على أنها كتبت في ذلك الوقت. وإذا صدقنا ما ورد في "التاريخ الجديد" استنادًا إلى أقوال ميرزا عبد الوهاب كانت كتابات الباب المتداولة في تبريز لا تقل عن مليون آية.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية ل، الصفحة 200). أما بخصوص كتاب "الدلائل السبعة" فكتب نقولاس ما يأتي: (إن كتاب "الدلائل السبعة" من أعظم الكتب الاستدلالية التي أملاها قلم الباب السيد علي محمد [المقدمة، الصفحة 1] وكان مكاتبه قد طلب منه جميع الأدلة على رسالته وكان الجواب الذي وصله فريدًا في بابه من جهة الإتقان والدقة وهو مبني على آيتين من القرآن، الأولى: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأْتوا بمثل هذا القرآن لا يأْتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا." [سورة الإسراء، الآية 88]. والثانية: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم." [سورة آل عمران، الآية 7] [المقدمة، الصفحة 5]. فالتدليل الذي أتى به الباب جديد في ذاته ولم يسبق له مثيل ومن هذا نلحظ الفائدة العظمى من قراءة هذا الكتاب. ومن اتساع الكتاب لم تتح لي الفرصة لاستعراض أصول المسائل التي فيه ولو بالاختصار والتي هي قواعد ثابتة والتي يظهر عليها الجمال ومقترنة بالتصديق. وأتعشم أن أقوم بذلك فيما بعد. والآن عندي ملحوظة أقولها عن كتاب "الدلائل السبعة"، فإن الباب تكلم في نهاية الكتاب عن المعجزات التي قارنت دعوته. وهذا ما يدعو إلى الدهشة لأن الرسول ينكر بتاتًا المعجزات المادية التي ظنوا أن محمدًا أتى بها، ولم يذكر له وللنبي العربي من المعجزات سوى نزول الآيات لا غيرها ولم يكن ذلك بسبب عدم إمكان الإتيان بها، بل لأن العجائب المادية هي أحط من العجائب غير المادية والله يفعل ما يشاء. [المقدمة، الصفحتان 12-13]﴾ ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس)

قطرات ذلك الدم المقدس وشربتها بإخلاص. ولما انتبهت شعرت بأن روح الله قد اخترقت جسمي واستولت على نفسي. وابتهج قلبي بفرح الحضرة الإلهية وتجلت أسرار ظهوره أمام عيني بكل مجدها."

وما كاد محمد شاه يحكم على حضرة الباب بالأسر وسط جبال آذربيجان حتى واجهه تغيير مفاجئ في حظوظه، فتبدلت راحته بالمتاعب بدرجة لم يعهد لها مثيل من قبل، واشتدت عليه الكوارث من كل الجهات وابتدأت أركان السلطنة تتزلزل، وأخذت المصائب المفجعة تنتاب القوات التي كانت تحافظ على الأمن في داخل البلاد(1) وارتفع علم الثورة في خراسان واستولى الذعر والرعب على المملكة بدرجة اضطر الشاه إلى إلغاء سفره إلى هرات في الحال. وكان إهمال الحاج ميرزا آقاسي وإسرافه قد سببا إشعال نيران الاستياء واندلاع لهيبها وسخط الجمهور، فتشجع الناس للقيام على النهب والسلب. وأخذت أكثر العناصر مشاغبة في خراسان من السكان في أقاليم قوچان وبُجنورد وشيروان تتّحد تحت إمرة السالار ابن آصف الدولة وهو الخال الأكبر للشاه والحاكم على الإقليم

________________________

(1) ’وكانت هذه المقاطعة معرضًا للقلاقل الخطيرة، ففي نهاية سنة 1844م وابتداء سنة 1845م كان حاكم بجنورد قد ثار على الشاه واتحد مع التركمان على إيران، فاستغاث الأمير آصف الدولة حاكم خراسان بطهران، فصدر الأمر للجنرال خان بابا خان رئيس الجيش الإيراني بإرسال عشرة آلاف رجل لإخماد الثورة ولكن فراغ الخزينة من المال عطل إرسال القوة فامتنع عن إطاعة الأمر. ورتب الشاه مشروعًا لإرسال حملة في الربيع وهو على رأسها وأخذ في الإعداد لها وكمل تنظيم عشر كتائب تضم ألف رجل لكل كتيبة، انتظروا وصول الأمير حمزة ميرزا الذي تعيّن رئيسًا للحملة. وكان حاكم خراسان آصف الدولة خال الملك أحس بفزع من جراء النميمة التي وشي بها في حقه في طهران فحضر فجأة إلى البلاط الملكي ووقع على رجل الملك وأعلن إخلاصه لشخصه وطلب معاقبة متهميه وأعدائه وخاصة ميرزا آقاسي رئيس الوزراء القوي وانتهى النزاع بهزيمة الحاكم حيث استلم الأمر بالسفر إلى الحجاز مع والدة الملك إلى مكة المكرمة. وكان ابن آصف الدولة سالار محافظًا على جامع مشهد وهو رجل غني بنفسه وقوي بمحالفته مع شيخ الأكراد جعفر قلي خان إيلخاني من قبيلة قاجار قد قام بشق عصا الطاعة واستلزم ذلك إرسال ثلاثة آلاف رجل مع الأسلحة وعشرين مدفعًا وأعطى مقاطعة خراسان لحكم حمزة ميرزا، ولما جاءت الأخبار بأن جعفر قلي خان حضر ومعه خيالة من الكرد والتركمان وقتل بعض فصائل من الجيش الإيراني، استلزم الحال إرسال خمسة أفواج من الجيش وثمانية عشر قطعة إضافية من المدفعية. وبذلك تم إخماد الثورة في 28 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1847م. وتسمى موقعة شاهرود "15 سپتمبر/أيلول" وفرّ جعفر قلي خان والسالار.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 257-258)

المذكور، وخلعوا سلطة الحكومة المركزية وثاروا عليها. وكلما أرسلت قوات من العاصمة كان محركو الثورة يهزمونها في الحال. وكان جعفر قلي خان نامدار والأمير أرسلان خان ابن السالار، اللذان يقودان الثوار المحاربين للشاه قد أظهرا منتهى القسوة في معاملة الأسرى، وإذ صدّا هجوم الأعداء، قاما بإعدام أسراهم بوحشية.

وكان الملاّ حسين البشروئي في ذلك الوقت مقيمًا في مشهد(1) ومنشغلاً في نشر الأمر الجديد بالرغم من الهياج الذي أحدثه وقوع تلك الثورة. وما كاد يعلم أن السالار عزم على مقابلته للحصول منه على المعونة والمساعدة ليمد نطاق الثورة، حتى قرر ترك المدينة توًا لئلا يدمج نفسه في الدسائس التي كان يحيكها ذلك الزعيم الثائر. وخرج في ظلام الليل من المدينة ومعه قمبر علي خادمه فقط، سائرين على الأقدام باتجاه طهران ومنها عزم على زيارة آذربيجان حتى يقابل هناك حضرة الباب. ولما علم أصدقاؤه بسفره، هيئوا له كل أسباب الراحة لذلك السفر الطويل المتعب، وذهبوا بها ليلحقوه. ولكن الملاّ حسين امتنع عن قبول مساعدتهم قائلاً: ’إني أقسمت أن أسير على قدمَي كل المسافة التي تفصلني عن محبوبي، فلن أنثني عن عزمي حتى أصل إلى المكان المقصود.‘ بل اجتهد أن يقنع قمبر علي بالرجوع إلى مشهد، ولكنه أخيرًا اضطر للسماح له بخدمته أثناء حجه إلى آذربيجان بناءً على توسله.

________________________

(1) ’مشهد هي أكبر مدينة يحج إليها في إيران وفيها جدث الإمام الرضا، ولا أذكر المئات من المعجزات التي تنسب إلى ذلك القبر المقدس وتحصل في كل يوم ويكفي الإشارة إلى أنه في كل سنة يحضر للحج آلاف من الحجاج لذلك القبر. ولا يرجعون إلى بيوتهم حتى يصرفوا آخر قرش على ما فيها من البضائع والصنائع ويجري فيها من أجل ذلك نهر من ذهب بلا انقطاع ويتناول هذه النقود الموظفون السعداء ولا يفتأون يعملون ألف حيلة ليبقوا زبائنهم في شباكهم. ولذلك وجدت هناك أعظم إدارة منظمة في إيران. فلو فرضنا وكان هناك نصف المدينة من الزوار فإن النصف الآخر يقومون على خدمتهم والانتفاع منهم، فيكون منهم أصحاب حانات ونزل وفنادق وسماسرة، حتى البنات اللائي لا يجدن أزواجًا يلجأن إليها للتزوج. ومع أنهم جميعًا قاموا ضد الرسول الذي لا يعرفونه ويجهلون أحكامه. فلا يخافون من جانبه على شيء إلا بوار تجارتهم فإنهم لا يأذنون بذلك. وإذا كان الرسول يقوم على محاربة الفساد فذلك جائز فيما عدا مدينة مشهد من البلاد. أما عندهم في تلك المدينة فمن فيها من كبار وصغار نشأوا على الفساد ولا يعيشون إلا عليه. فللإمام المهدي إذًا أن يظهر كيف يشاء إلا إذا كان ظهوره يضر بتجارتهم. وفي نظرهم إنه يصح له أن يجمع الناس حوله وبهم ينتصر وإن في ذلك مشقة عليه لمواجهته ضربات قاسية ولكن الناس في مدينتهم هادئون يكسبون عيشهم وأموالهم دون أي مخاطرة أو تعب.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 258-259)

وقابل الأحباء الملاّ حسين في طريقه إلى طهران بكل ترحاب وحماس في مختلف المدن التي مرّ بها، فكانوا يقدمون له عرض المعونة نفسه ويتلقون رد الرفض نفسه. وسمعت الشهادة الآتية من شفتَي آقا كليم: ’لما وصل الملاّ حسين إلى طهران، ذهبت ومعي عدد كبير من الأحباء لزيارته. كان يظهر لنا أنه هيكل الرزانة والتقوى والفضيلة. وكان يحرضنا على مكارم الأخلاق والولاء التام. وهكذا كانت قوة شخصيته وشدة إيمانه على شأن اعتقدنا أنه وحده ودون عون أحد يقدر أن يحقق النصر لأمر الله.‘ وقد توصل سرًا إلى المثول أمام حضرة بهاءالله، وبعد التحدث معه قام إلى آذربيجان.

وفي الليلة السابقة على وصوله إلى ماه كو التي كانت في عشية النوروز الرابع من إعلان دعوة حضرة الباب، ووافق في سنة 1264ﻫ(1) اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الثاني، رأى علي خان رؤيا، قال: ’رأيت كأني أُخبرت فجأة بعزم محمد رسول الله على المجيء إلى ماه كو وأنه سوف يحضر إلى القلعة ليزور الباب وليهنئه بمجيء عيد النوروز. وفي منامي خرجت جريًا لمقابلته وأنا مشتاق لأقدم خضوعي وترحيبي لزائرٍ مقدسٍ مثله. وبفرحٍ لا يُوصَف أسرعت على الأقدام إلى ناحية النهر، ولما وصلت إلى القنطرة التي هي على بعد ميدان(2) من بلدة ماه كو، رأيت رجلين قادمين نحوي وظننت أن أحدهما رسول الله نفسه والآخر الذي يسير خلفه أحد أصحابه المميزين. فأسرعت إلى الوقوع على أقدامه وانحنيت لأقبّل طرف ردائه، وإذ ذاك استيقظت فجأة. فانغمست روحي في بحر من السرور وشعرت كأن الجنة بنفسها وما فيها من مسرات قد تجمّعت في قلبي. وإذ أيقنت بصحة رؤياي، قمت وتوضأت وصليت وارتديت أفخر ملابسي وتعطرت وذهبت إلى تلك البقعة التي نظرت فيها في الرؤيا الليلة الماضية وجه الرسول. وكنت قد أمرت أتباعي أن يسرجوا لي ثلاثة جياد من خيارها وأسرعها وأن يقودوها إلى القنطرة. وما كادت الشمس تشرق حتى خرجت وحدي دون حرس وخرجت من بلدة ماه كو باتجاه النهر، وما كدت أصل إلى القنطرة حتى عجبت لرؤيتي الرجلين الذين شاهدتهما في الرؤيا

________________________
(1) سنة 1848م.
(2) جزء من فرسخ.

يمشيان الواحد خلف الآخر ويسيران نحوي، ودون أي تفكّر وقعت على قدمَي الشخص الذي اعتقدت أنه الرسول وقبّلتهما بإخلاص ورجوته هو ورفيقه أن يركبا الجوادين اللذين هيّئتهما لدخولهما إلى ماه كو. فقال: ’’لا فإني آليت على نفسي أن أتمّم رحلتي ماشيًا على قدمَي. وسأسير ماشيًا إلى قمة الجبل وهناك أزور سجينك.‘‘ ‘

صورة 103
منظر ميلان في آذربيجان

وجعلت هذه الحادثة الغريبة علي خان يشعر باحترام زائد في مسلكه نحو حضرة الباب، وأصبح يقينه في صحة الأمر وقوته أعظم من ذي قبل. وبخشوع تام تبع الملاّ حسين إلى أن وصلوا إلى بوابة القلعة. وما كادت عينا الملاّ حسين تقع على وجه سيده الذي كان واقفًا على عتبة البوابة، حتى وقف فجأة وانحنى أمامه ومكث بجانبه دون حراك. فمدَّ حضرة الباب ذراعيه وعانقه بكل شوق. وأمسك بيده واصطحبه إلى غرفته. ثم دعا أحباءه إلى محضره واحتفل معهم بعيد النوروز. وقدمت أطباق الحلوى والفاكهة المميزة أمامه، وفرّقها على أحبائه المجتمعين، وإذ ناول الملاّ حسين بعضًا من السفرجل والتفاح، قال له: ’إن هذه الفاكهة اللذيذة قد أتتنا من ميلان، أرض الجنة، وقُطفت خصيصًا لهذا العيد بواسطة اسم الله الفاتق محمد تقي.‘

وحتى ذلك الوقت لم يكن يُسمح لأحد من أتباع حضرة الباب سوى السيد حسين اليزدي وأخيه بالمبيت ليلاً داخل القلعة. ولكن في ذلك اليوم ذهب علي خان إلى حضرة الباب وقال: ’إذا كنت ترغب في أن يبقى معك الملاّ حسين هذه الليلة، فإني مستعد لتنفيذ رغبتك لأنه ليس لي إرادة من تلقاء نفسي ومهما طال الوقت الذي تريده أن يمكث معك فإني لا أمانع بل أكون رهن إشارتك.‘ وكان تلاميذ حضرة الباب يفدون عليه بأعداد متزايدة في ماه كو وكان يسمح لهم بالدخول إلى محضره توًا دون أي حائل.

وذات يوم كان حضرة الباب يتأمل في المناظر المجاورة من سطح القلعة ورأى من ناحية الغرب كيف أن نهر أراكسس يتعرج في مجراه بعيدًا تحت ناظرَي حضرته، فالتفت إلى الملاّ حسين وقال: ’هذا هو النهر وهذه هي ضفته التي كتب عنها الشاعر حافظ: ’’يا نسيم إذا مررت بضفاف نهر أراكسس، فقبّل تراب ذلك الوادي، وعطّر مشام أنفاسك من عبير طيبها، ويا منازل سلمى إليك ألف تحية وثناء، فما أعز صوت الحادي هناك وما أحلى جلجلة أجراسه.‘‘(1) إن أيام إقامتك في هذا الإقليم أصبحت معدودة ولولا قصر مدة إقامتك لأريناك "منازل سلمى" كما أريناك ضفاف نهر أراكسس.‘ وكان حضرة الباب يقصد من "منازل سلمى" بلدة سلماس التي تقع قريبًا من چهريق ويسميها الأتراك سلماس. واستمر حضرة الباب في ملاحظاته بقوله: ’إن الروح القدس هي التي تنطق على ألسن الشعراء وهم في غالب الأحيان لا يقدرون أن يعرفوا المغزى. والشعر الآتي أيضًا موحى به من الروح الأمين: "شيراز سوف تضطرب، وسيظهر فيها ذلك الفتى الحلو اللُمى وأخشى أن تهيج طيب أنفاس فمه وتقلب بغداد." والسر في هذا البيت مخفي الآن "وسيعلم نبؤه بعد حين."‘(2) ثم تلا حضرة الباب الحديث المعروف الذي يفيد أن الكنوز

________________________

(1) وقال الحاج معين السلطنة في تاريخه (الصفحتان 67-68) أن ميرزا حبيب الشيرازي المعروف باسم القائني وهو أحد مشاهير شعراء الفرس كان أول من أنشأ قصيدة في مدح الباب وإعلاء شأنه ومقامه وكانت النسخة الخطية المتضمنة هذه الأشعار قد اطلع عليها مؤلف التاريخ وقد كتب على رأس المديح: "في مدح ظهور السيد الباب".

(2) عدد "حين" يوازي 68 أي سنة 1268ﻫ وهي سنة بدء دعوة حضرة بهاءالله في طهران إذ كان مسجونًا في سياه چال.

الإلهية مخبوءة تحت عرش الرحمن ومفتاحها ألسن الشعراء. ثم أنبأ الملاّ حسين بكافة الحوادث التي ستحصل في المستقبل واحدة بعد أخرى، وأمره أن لا يخبر بها أحدًا(1) وقال له حضرة الباب: ’بعد بضعة أيام على مغادرتك هذا المكان سوف ينقلوننا إلى جبل آخر. وقبل أن تصل إلى وجهتك ستصلك أخبار انتقالنا من ماه كو.‘

وتحقق تنبؤ حضرة الباب سريعًا. فالأشخاص الذين كانوا يتجسسون على حركات علي خان ومسلكه، أرسلوا تقريرًا مفصلاً إلى الحاج ميرزا آقاسي واتهموه فيه بإخلاصه الشديد لسجينه، ووصفوا الوقائع التي تثبت أقوالهم. ومما كتبوه: ’إن محافظ قلعة ماه كو يعاشر المسجون ليل نهار بحرية تامة وود خالص، وإن علي خان الذي رفض أن يزوج ابنته إلى ولي عهد عرش إيران بحجة أن هذا العمل يثير ثائرة أقارب والدته الذين هم من أهل السنة ويعرّضونه هو وابنته للقتل، يطلب الآن من الباب بإلحاح تزويجها له. وقد رفض الباب ذلك، إلا إن علي خان يصر في تضرّعه. ولولا رفض المسجون لتمّت المراسم الخاصة بالزواج والاحتفال به.‘ وكان علي خان قد قدم طلبًا كهذا وترجّى الملاّ حسين أن يتوسط لدى حضرة الباب ولكنه لم يتمكن من الحصول على الإذن منه.

فكان لهذه التقارير المغرضة أثر فوري على الحاج ميرزا آقاسي. فقاد الخوف والاستياء ذلك الوزير الأحمق إلى إصدار أمر جازم بنقل حضرة الباب إلى قلعة چهريق.

وبعد مرور عشرين يومًا على النوروز، ودّع حضرة الباب أهالي ماه كو الذين عرفوا إلى درجة كبيرة قوة شخصيته العظيمة وسمو أخلاقه أثناء الأشهر التسعة التي قضاها في الحبس. وكان الملاّ حسين الذي غادر ماه كو بأمر حضرة الباب لا يزال في تبريز، إذ سمع بأخبار نقل مولاه إلى چهريق كما سبق وتنبأ به حضرته. وكان حضرة الباب وقت وداعه للملاّ حسين قد خاطبه بهذه الكلمات: ’لقد سِرتَ على قدميك طول الطريق من

________________________

(1) وفي "الدلائل السبعة" يقول الباب أن حديث آذربيجان خاص بهذا الموضوع وهو "إن كلما يحصل في آذربيجان هو بلا شك لأجلنا ولا يمكن لأي أحد أن يمنع حصوله. فاذهبوا إذًا إلى بيوتكم ولكن إذا سمعتم بظهور أحد فاذهبوا إليه." ويستمر الحديث "ويلٌ للعرب من شر قد اقترب." ولو كانت هذه الأقوال الصادرة من الرسول خاصة برسالته لما كان لها أي معنى بل تكون عبثًا. ("الدلائل السبعة"، ترجمة نقولاس، الصفحة 47)

موطنك إلى هذا المكان، فعليك الآن أن تعود أيضًا سيرًا على الأقدام إلى أن تصل إلى وجهتك، لأن الأيام التي تمتطي فيها ظهور الجياد سوف تأتي فيما بعد، فقد قدر لك أن تظهر منك الشجاعة والمهارة والبطولة التي تقصر عنها أعمال أعظم الأبطال من قديم الأزمان. إن مآثرك الجريئة ستستوجب مديح سكان الملكوت الأبدي وإعجابهم. عليك أن تزور في طريقك أحباء خوي وأروميه ومراغه وميلان وتبريز وزنجان وقزوين وطهران. عليك أن تبلغ محبتي وأرق أشواقي لكل منهم. واجتهد أن تشعل في قلوبهم مرة أخرى نيران محبة الجمال الإلهي، وتسعى في تقوية إيمانهم في أمره. عليك أن تسير من طهران إلى مازندران وهناك ينكشف لك الكنز الإلهي المستور. فسوف يطلب منك أن تقوم بأعمال عظيمة تقل دونها أعظم الأعمال التي وجدت منذ القدم. وسوف تتضح لك طبيعة مأموريتك في ذلك المكان وتعطى القوة والهداية حتى توفق لإسداء خدماتك لأمره.‘

وفي صبيحة اليوم التاسع بعد النوروز قام الملاّ حسين برحلته في مازندران كما أمر به مولاه. وقال حضرة الباب لقمبر علي أثناء توديعه: ’إن قمبر علي في العصر الماضي كان ليفتخر أن اسمه قد بقي حتى يشاهد اليوم الذي كان رب سيده يتأوه ويتحسر ليراه وكان يقول بكل شوق ’’وا شوقاه لرؤية وجوه أحبائي الذين سيتشرفون بلقاء يوم حضرته!‘‘ ‘

***
صفحة خالية
الفصل الرابع عشر
رحلة الملاّ حسين إلى مازندران

وطلب علي خان من الملاّ حسين أن يتأخر بضعة أيام في منزله قبل سفره من ماه كو وأظهر رغبته في عمل كل التسهيلات أثناء رحلته إلى مازندران، ولكن الملاّ حسين رفض أن يؤخر سفره أو أن يقبل ما وضعه علي خان تحت تصرفه من وسائل الراحة.

وإذ كان موفيًا بالتعليمات التي أعطيت له، فقد مكث في كل بلدة وقرية أمره حضرة الباب بزيارتها، وجمع الأحباء فيها وأوصل لهم رسالة المحبة والتحيات وتأكيدات مولاهم المحبوب، وكان يحيي فيهم الحماس وينصحهم على أن يظلوا ثابتين على نهجه. وتشرف في طهران ثانية بمحضر حضرة بهاءالله وتسلّم من يديه الغذاء الروحي الذي مكنه أن يواجه المخاطر التي اكتنفته بشدة في أواخر أيام حياته بتلك الشجاعة والجرأة.

وواصل الملاّ حسين رحلته من طهران إلى مازندران شوقًا لمشاهدة أمر الكنز المكنون الذي وعده مولاه به. وكان القدوس في ذلك الوقت قاطنًا في بارفروش في المنزل الذي كان أصلاً مُلكًا لوالده. وكان يعاشر الناس على اختلاف طبقاتهم وبسبب لطف طباعه واتساع دائرة معارفه اكتسب محبة سكان تلك المدينة وإعجابهم. ولدى وصوله إلى تلك المدينة ذهب الملاّ حسين توًا إلى منزل القدوس وتلقى منه ترحيبًا وديًا. وكان القدوس يقوم بنفسه على خدمة ضيفه ويعمل كل ما في وسعه لراحته. وبيده قام على غسل رجليه من أدرانها وإزالة ما علق بها من الأوضار. وخصص له مقعد الشرف في مجلس الأحباء وعرّف المؤمنين الذين تجمّعوا لملاقاته.

وفي ليلة وصوله، وبعد رجوع الأحباء الذين حضروا العشاء المعد لاستقبال الملاّ حسين إلى منازلهم، التفت المضيف إلى ضيفه وسأله إن كان بإمكانه توفير معلومات بخصوص مشاهداته الدقيقة مع حضرة الباب في قلعة ماه كو. فأجابه قائلاً: ’إن الأمور والأشياء التي سمعتها في مدة تسعة أيام التي اجتمعت فيها معه كثيرة ومتنوعة. وتحدث معي في أمور ترتبط مباشرة وبشكل غير مباشر في نفس الوقت بدينه. إلا إنه لم يرشدني بصفة خاصة إلى الطريقة التي اتبعها لنشر أمره. ومحصل ما قاله لي: ’’إنك في طريقك إلى طهران عليك أن تزور الأحباء في كل مدينة وقرية تمر بها. ومن طهران تتجه إلى مازندران وسيظهر لك هناك كنز مستور سوف ينير لعينيك طريقة العمل الذي قدر لك إنجازه.‘‘ ومن إشاراته أمكنني أن أشاهد، ولو بنحو باهت، مجد ظهوره وعلائم ارتفاع أمره في المستقبل. وفهمت من كلمات حضرته أني سوف أُدعَى في النهاية لأن أضحي بنفسي الحقيرة في سبيله. فقد كان في كل مرة يودعني يؤكد لي حضرة الباب أني سوف أدعى مرة أخرى لمقابلته. أما في هذه المرة عندما كان يلفظ كلمات وداعه لم يعدني بمثل ذلك الوعد ولا أشار إلى ميعاد مقابلتي له في هذا العالم، بل كانت آخر كلماته لي ’’إن عيد التضحية سريع الاقتراب، فقم وشمّر عن ساعد الجد ولا تسمح لأي شيء أن يمنعك عن الوصول إلى المقام الذي قدر لك، فإذا وصلت إليه فاستعد عند ذلك للقائنا لأننا نحن أيضًا سنتبعك.‘‘ ‘

وسأله القدوس إن كان أحضر معه شيئًا من كتابات مولاه؟ فلما أجابه سلبًا، أهدى القدوس ضيفه بصحائف من كتاب خطي كان في حوزته وطلب منه أن يقرأ بعض فقرات معينة، وإذ قرأ صفحة واحدة من ذلك الكتاب حصل في وجهه تغيير كلي فجائي. وبدت عليه علامات الدهشة والإعجاب وأثار سمو تلك العبارات وعمقها وتأثيرها وقوة نفوذها، ولهًا شديدًا في قلبه وابتدأ يذكرها بمدح فائق. وإذ وضع الكتاب من يده قال: ’إني أرى أن كاتب هذه الكلمات قد استقى وحيه من المنبع الأصلي الذي هو أعلى وأشرف من جميع المنابع التي يستقي منها العلماء معارفهم. وإني أشهد بكل قلبي وجوارحي بعلو كعب هذه الكلمات ورفعتها وقبولي لكل الحقائق التي تحتويها.‘ وقد استنتج الملاّ حسين من

صمت القدوس ومن أسارير وجهه أن مضيفه هو الشخص الوحيد الذي يقدر أن يكتب هذه الكلمات، فقام من مكانه توًا ووقف برأس منحن على عتبة الباب وقال باحترام: ’إن الكنز المستور الذي تكلم عنه حضرة الباب قد انكشف الآن أمام عينَي وبدلت أنواره ظلام الحيرة والشك، ومع أن مولاي الآن مستور في حصون جبال آذربيجان إلا إن آية بهائه ومظهر قوته يقف الآن أمامي وقد وجدت في مازندران مرآة عظمته.‘

فما أعظم وأفدح خطأ الحاج ميرزا آقاسي! فقد ظن هذا الوزير الأحمق خطًأ أنه بالحكم على حضرة الباب بالنفي والإبعاد في أحد أركان آذربيجان المحجوبة ينجح في إطفاء الشعلة الإلهية الأزلية ليحجب نورها عن أعين مواطنيه. وغاب عنه أنه بعمله قد وضع النور الإلهي على قمة الجبل فساعد بذلك على انتشار أشعته وإعلاء عظمته. وبسوء تدبيره وخطأ حسابه الفادح، زاده علوًا واشتعالاً بدلاً عن إخفاء هذه الشعلة الإلهية عن أعين البشر. ومن جهة أخرى كم كان إنصاف الملاّ حسين ودقة حكمه وثقته! ولن تجد بين من عرفه ورآه، من يشك للحظة واحدة في معرفته الواسعة، أو في جاذبيته أو في وقاره الرفيع أو في بسالته المدهشة. فلو ادّعى بعد وفاة السيد كاظم أنه هو القائم الموعود، فإن أشهر زملائه التلاميذ كانوا لا يحجمون عن تلبية دعوته بالإجماع ويخضعون لسلطانه. حتى إن الملاّ محمد الممقاني ذلك العالِم الشهير من تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي كان يقول بعد أن تعرّف عن طريق الملاّ حسين في تبريز بدعاوى الظهور الجديد: ’أشهد بالله لو كانت هذه الدعوة التي ادّعاها السيد الباب صدرت من نفس الملاّ حسين لكنت أول من يصدّقها نظرًا لما هو عليه من حسن الأخلاق وسعة العلم وكنت إذ ذاك أنشرها في كل أنحاء العالم. ولكنه لما اختار أن يخضع لشخص آخر فقد امتنعت من أن أثق في كلماته ورفضت إجابة ندائه.‘ كذلك الحاج السيد محمد باقر الرشتي لما سمع الملاّ حسين يحل له بمقدرة فائقة المعضلات الدينية التي أشكلت عليه زمنًا طويلاً، شهد له بعلو كعبه بعبارات لامعة قائلاً: ’كنت أظن نفسي قادرًا على إسكات السيد كاظم الرشتي وتحييره، فلما قابلت وتكلمت مع مَن يدعي إنه أحقر تلاميذه علمت لأول مرة أني أخطأت خطًأ فاحشًا في حكمي. فإن حجة

هذا الشاب والموهبة التي منحها كانت بدرجة لو يحكم بأن النهار ليل لكنت أصدق أنه يمكنه تقديم براهين كافية تثبت في أعين علماء الدين صحة بيانه.‘

ورغم اعتقاده في البداية بعلو مقامه وتفوقه وتوجهه نحو التقليل من شأن دعاوى قدمها ابن تاجر مغمور من شيراز، فإن الملاّ حسين في الليلة نفسها التي التقى فيها بحضرة الباب لم يفُته، منذ اللحظة التي بدأ فيها مضيفه بعرض موضوعه، إدراك ما انطوى عليه أمره من المنافع العديدة. فاعتنق دينه بكل شوق وطرح جانبًا كل ما يعوقه عن التفهم الصحيح لحقيقة أمر الله وإعلاء شأنه. ولما سنحت الفرصة لاحقًا للملاّ حسين أن ينظر في كتابات القدوس الفائقة ويدرك سموها، وبما ملك من حنكة ورأي سديد، اعترف حالاً بقيمة المواهب الخاصة التي منحت للقدوس، فتضاءل اتساع علمه الذي حصّله أمام قوته وصار كالعدم تلقاء الفضائل الإلهية المحيطة التي ظهرت من روح ذلك الشاب. ومنذ ذلك الوقت كرس ولاءه الدائم لمن تجلت في مرآة فؤاده أشعة شمس مولاه المحبوب، فشعر بأن أول واجباته أن يخضع كلية إلى القدوس ويتبع خطواته ويسير طبق إرادته، ويعمل على راحته وسلامته بكل ما أوتي من قوة. ولساعة استشهاده كان الملاّ حسين وفيًا بوعده، وكان احترامه الشديد للقدوس مسيرًا باعتقاد راسخ متين في تلك المواهب الإلهية التي شملته والتي هي خارجة عن حدودات البشرية وهي التي ميزته عن باقي أقرانه. ولم يكن لدى الملاّ حسين أي اعتبار آخر يجعله يخضع ويحترم من كان يعتبره أولاً قرينه ومساويًا له في الرتبة. إلا أن فراسة الملاّ حسين وشرف أرومته دفعته إلى الاعتراف بهذه الحقيقة الواضحة فأظهرها بما يليق لمقامها.

وهكذا حصل التغيير في سلوك الملاّ حسين نحو القدوس، حتى إن الأحباء الذين اجتمعوا صباح اليوم التالي في منزله دهشوا إذ رأوا أن الضيف الذي كان يحتل المقام الأول والذي كان مشمولاً بالعطف والإكرام قد ترك مقامه لمضيفه ووقف في محله على العتبة بخضوع تام. وأول ما تكلم به القدوس للملاّ حسين في محضر الأحباء المجتمعين هو الآتي: ’عليك الآن أن تقوم في هذه الساعة وتتسلح بعصا الحكمة والقوة وتسكت ملأ المعتدين الذين يجهدون لإهانة اسم دين الله النقي. فعليك أن تواجه هؤلاء الجموع وتكسر

قوتهم وتتكل على فضل الله وأن تعتبر مكائدهم محاولة خاسرة لإطفاء أنوار الأمر. وعليك أن تجتمع بسعيد العلماء ذلك الطاغية المشهور ذي الضمير السيئ وتبين له بلا خوف معالم امتياز هذا الظهور. ثم تذهب إلى خراسان وفي بلدة مشهد تبني منزلاً يكفي أن يكون مسكنًا لنا وتكون فيه المرافق الكافية لاستقبال ضيوفنا. وسنسافر إلى هناك ونسكن في ذلك البيت وندعو إليه كل نفس مستعدة للاطلاع من طلاب الهداية إلى مَعين الحياة الأبدية وسوف نعدّهم وننصحهم أن يتكاتفوا على خدمة أمر الله.‘

وقام الملاّ حسين في اليوم التالي عند طلوع الشمس لمقابلة سعيد العلماء ودخل عليه وحيدًا دون معين، وكما أمره القدوس أبلغه الرسالة عن ظهور اليوم الجديد وبفصاحة تامة ودون وجل أظهر أمر مولاه المحبوب في وسط الجمع الحاشد من تلاميذه وطلب منه أن يكسر تلك الأصنام التي نحتها له وهمه وأن يرفع على أنقاضها علم الهداية الإلهية ويخلص فؤاده من قيود التقاليد الماضية ويسرع بعد فكها والخلاص منها إلى شاطئ النجاة الأبدية. وتمكن من رد كل حجة أراد هذا الساحر المغرور أن يدحض بها أمر الرسالة الإلهية، وأظهر بمنطقه الذي لا يغلب كذب كل قضية اجتهد في أن يقيمها. وإذ تسلط على سعيد العلماء خوف انفضاض التلاميذ والمريدين من حوله والتفافهم حول شخص الملاّ حسين، شرع إلى أحط الوسائل وتذرع بقبيح الأقوال أملاً في لم شعث مقامه، فكان يقذف بالشتائم في وجه الملاّ حسين، وتجاهل باحتقار قوة البراهين والأدلة التي كان يحاججه بها خصمه وقرر بلا مبرر عدم صلاحية الأمر الذي دعي لقبوله. وما كاد الملاّ حسين يعلم منه عدم قدرته على تفهم أهمية الرسالة التي جاءه بها حتى قام من مجلسه وقال له: ’إن حجتي قصرت عن أن توقظك من نوم غفلتك، وإن أعمالي في الأيام المقبلة ستريك وتبرهن لك قوة الرسالة التي رأيتَ احتقارها.‘ وكان يتكلم بقوة وتأثير جعل سعيد العلماء يرتبك كلية ومن شدة رعبه لم يقدر على الجواب، ثم التفت الملاّ حسين إلى أحد الحاضرين في ذلك المجلس والذي ظهر عليه التأثر من كلماته وطلب منه أن يخبر القدوس بما وقع في هذه المقابلة، وأضاف: ’قل له بما إنك لم تأمرني بالمثول أمامك لذلك قررت أن أتوجه فورًا إلى خراسان، لأقوم بتنفيذ كل ما أمرتني بعمله.‘

وقام الملاّ حسين فريدًا ومنقطعًا عن كل ما سوى الله وسافر إلى مشهد ولم يكن معه أثناء سيره إلى خراسان سوى الرغبة في إتمام أوامر القدوس وما يكن في ضميره للوفاء بوعده الثابت، فذهب توًا إلى منزل ميرزا باقر القائني وتمكن من أن يشتري في جوار هذا المنزل في بالا خيابان قطعة أرض وابتدأ بتشييد منزل عليها حسب الأمر وأسماه "البابية" وهو اسم تُعرف به إلى هذا اليوم. وبعد إتمام بنائه وصل القدوس إلى مشهد وسكن في المنزل. وبدأ سيل منتظم من الزوار الذين أعدهم الملاّ حسين بهمة وحماسة بالوفود على المنزل والاجتماع بالقدوس ثم اعتناق الأمر والانضمام تحت رايته طواعية. وكانت يقظة الملاّ حسين وانتباهه للعمل على نشر المعارف التي جاء بها الأمر الجديد والطريقة المثلى التي قام بها القدوس على تهذيب أتباعه قد أحدثت موجة شديدة من الحماس عمّت مدينة مشهد بأسرها. وسرعان ما انتشر تأثيرها خارج حدود خراسان وأصبح منزل البابية مركزًا يلمّ جميع المخلصين الذين عزموا عزمًا أكيدًا متشبثين بكل ما أوتوا من قوة لإظهار القوى الباطنية العظيمة التي يكنّها إيمانهم بأمر الله.

***
الفصل الخامس عشر
رحلة الطاهرة من كربلاء إلى خراسان

وإذ اقتربت الساعة المحددة من الإرادة الربانية، أخذت الحجب المانعة من ظهور الدين الإلهي في خراسان تتلاشى، واشتعلت النار الإلهية في قلوب أهل خراسان، حتى أذابت وأحرقت أعظم الموانع والعقبات في طريق الاعتراف النهائي بالأمر.(1) فزادت النار المشتعلة في القلوب بدرجة أن الجميع حتى في المقاطعات النائية من إيران شعروا بقوة إحيائها للنفوس، فانمحى كل أثر للشكوك والهواجس من قلوب الأحباء، تلك التي كانت تمنعهم عن تفهم عظمة الأمر، ودنت الساعة التي فيها زالت جميع الموانع التي حجبت تقدير عظمة الأمر حق التقدير. وخاب ظن العدو الذي أمر بإبعاد صاحب الأمر مظهر الجمال الإلهي وفصله عن أتباعه رغبة من هذا العدو في أن يتمكن بهذه الوسيلة من إطفاء شعلة محبته الموقدة في القلوب. ولكن يد القدرة كانت تعمل بجد على إخماد مقاصد الأعداء وإحباط أعمالهم. ففي أقصى مقاطعات إيران شرقًا أوقد الباري بيد القدوس نارًا ربانية مشتعلة في صدور أهالي خراسان. وفي كربلاء خارج الحدود الغربية لتلك الأرض أشعل نور الطاهرة الذي قدر له

________________________

(1) وكتب كلمنت هوارت ما يلي: ’ولا يندهش إنسان بأن الأمر الجديد انتشر في خراسان بسرعة أكبر عن أي مكان آخر. فقد كان لخراسان امتيازها الأوحد، كونها مسرحًا للأفكار والآراء الجديدة حيث تجد فيها مرتعًا خصيبًا، وخرجت من هذه المقاطعة معظم الحركات التي أثرت جذريًا في الشرق الإسلامي. ويكفي أن نتذكر أن فكرة التجديد الإيراني بعد الفتح العربي نشأت في خراسان. وفيها تكون الجيش تحت إمرة أبي مسلم الذي أجلس العباسيين على كرسي الخلافة عندما قضى على الأرستقراطية المكّية التي احتلته منذ تولي الأمويين الخلافة.‘ ("دين الباب"، الصفحتان 18-19)

أن ينتشر شعاعه في إيران بكاملها. وارتفع النداء الغيبي من شرق المملكة وغربها آمرًا هذين النورين الوضائين أن يسرعا إلى أرض الطاء(1) فجر المجد وموطن حضرة بهاءالله وأن يمثلا أمامه ويطيعا أمره ويطوفا حول كوكب هدايته ويشدا أزره ويهيئا الطريق لظهوره القادم.

واتباعًا للأمر الإلهي نزل لوح من قلم حضرة الباب في تلك الأيام التي كان القدوس لا يزال قاطنًا في مشهد. وفي ذلك اللوح يأمر كل الأحباء في إيران بالإسراع إلى أرض الخاء، مقاطعة خراسان.(2) وانتشرت أنباء هذا الأمر الرفيع بسرعة البرق وأهاجت حماسًا عامًا ووصلت إلى مسامع الطاهرة التي كانت إذ ذاك مقيمة في كربلاء وتعمل جهدها لتوسيع نطاق الأمر الذي اعتنقته.(3) وكانت قد تركت موطنها في قزوين ووصلت بعد وفاة السيد كاظم إلى تلك المدينة المقدسة متشوقة لمشاهدة العلائم التي أخبر بها السيد الراحل. وقد علمنا في الصفحات السابقة كيف اكتشفت بوجدانها حقيقة أمر حضرة الباب واعترفت بأحقيته تلقائيًا. فرأت في نفسها أن فجر الظهور الموعود قد أشرق على مدينة شيراز دون أن يعلمها أو يدعوها أحد، فحررت رسالة لمنبع ذلك النور تعرض فيها إخلاصها وخضوعها.

وكان رد حضرة الباب الفوري على قبولها لاعتناق الأمر دون مقابلته قد أحيا فيها الحماس، وزاد كثيرًا في شجاعتها، فقامت على نشر تعاليمه بكل قوتها وانتقدت بشدة فساد أخلاق أبناء جيلها، وعملت بكل شجاعة على إحداث انقلاب فكري بتغيير عادات الأهالي وأخلاقهم.(4) وكانت نار محبة حضرة الباب أشعلت روحها التي لا تقهر وتعاظم لديها مجد رؤياها بما اكتشفته من البركات الفائضة المكنونة في أمره وزادت شجاعتها

________________________
(1) طهران.

(2) وذكر المقدّم پ. م. سايكس أنه يُعتقد أن الإمام الثاني عشر لم يمت وأنه في سنة 260ﻫ (873م) اختفى في مخبأ سري، وأنه سوف يخرج منه في يوم القيامة ويظهر في مسجد گوهر شاد في مشهد ويتبعه الناس على أنه الإمام المهدي وهو الذي يملأ الأرض عدلاً. ("تاريخ إيران"، الجزء 2، الصفحة 45)

(3) وطبقًا لمحمد مصطفى (الصفحة 108) أن الطاهرة وصلت إلى كربلاء في سنة 1263ﻫ. وأنها زارت الكوفة والمنطقة المحيطة بها واشتغلت بنشر تعاليم حضرة الباب. وكانت تشارك الذين تقابلهم بكتابات مولاها وبينها تفسيره لسورة الكوثر.

(4) ’وسمعت بنداء الباب من شيراز لأول مرة في أسرتها وعلمت القواعد والأحكام التي يبني عليها دعوته. وإن كان علمها ذاك ناقصًا وبعيدًا عن الكمال، ولكنها أعجبت به جدًا، وأخذت في مكاتبة الباب وسرعان ما ↓

الباطنية وقوة شخصيتها أضعافًا مضاعفة بسبب اعتقادها اليقين في نصرة الأمر الذي اعتنقته، وتجددت طاقتها التي لا حدّ لها بعرفانها مقدار فضل هذه الدعوة التي قامت على ترويجها ونصرتها. فكان كل من يقابلها في كربلاء ينجذب من فصاحتها وسحر بيانها ويشعر بالإعجاب من أثر كلماتها. ولم يقدر أحد أن يقاوم سحر لطفها، والقليل أمكنه الإفلات من تأثير معتقدها. وشهد كل الناس بكمال أخلاقها الخارق وأعجبوا بشخصيتها المدهشة واقتنعوا بصدق إيمانها الراسخ.

وتمكنت من ضم أرملة السيد كاظم تحت لواء أمر الله، وهي التي ولدت في شيراز وكانت أولى المؤمنات بين نساء كربلاء اللائي أدركن أحقية الأمر. وسمعتُ الشيخ سلطان يصف إخلاصها الشديد للطاهرة واعتبارها مرشدتها الروحية وصديقتها الحميمة. وقد كان من أكبر المعجبين بشخصية أرملة السيد كاظم، وكثيرًا ما كان الشيخ يشهد بسمو أخلاقها ويقول: ’إن تعلقها بالطاهرة اشتد لدرجة إنها كانت لا تسمح لتلك البطلة العظيمة التي كانت ضيفتها أن تغيب عنها ولو ساعة واحدة. فكان عظيم تعلقها بها مما يثير إعجاب صويحباتها ويقوي يقينهن وإيمانهن عرَبًا كُنّ أم إيرانيات ممن كُنّ يفِدْن عليها للزيارة في منزلها بانتظام. وفي السنة الأولى من اعتناقها لأمر الله وقعت فريسة المرض فجأة. وبعد ثلاثة أيام فارقت هذه الحياة كما حدث للسيد كاظم نفسه.‘

ومن بين الرجال الذين اعتنقوا أمر حضرة الباب بجهود الطاهرة كان الشيخ صالح وهو عربي قاطن في تلك المدينة، فكان أول من سفك دمه في سبيل أمر الله في طهران وكان مدحها للشيخ صالح عظيمًا لدرجة أن البعض ظن أنه يكون مساويًا في الرتبة

_____________________________________________________________________

تبنّت كل أفكاره. وهي لم تكتف بالعطف المجرد ولكنها أعلنت علنًا إيمانها بدعوة مولاها. ولم تدين تعدد الزوجات فحسب، بل حاربت عادة لبس الحجاب وكانت تظهر في الأماكن العامة سافرة مما أثار دهشة عائلتها وجلب عليهم العار وانسحب ذلك أيضًا على كل المسلمين المخلصين. أما أقرانها من المواطنين الذين شاركوها الحماس، فكانوا مبتهجين واتسعت جمعيتهم يومًا فيومًا نتيجة تبليغها لأمر الله. وحاول عمها الطبيب ووالدها القانوني وزوجها بكل الوسائل إقناعها بسلوك أكثر هدوءًا وتحفظًا. ولكنها صدتهم ببراهين موحاة من إيمان يعجز عن تقبل الأمر الواقع بهدوء.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 137-138)

للقدوس. وكان الشيخ سلطان أيضًا من الذين وقعوا في أسر تأثيرها. وإذ رجع من شيراز اعتنق الأمر بكل جسارة وقوة وتأثير، وبذل جهده في إعلاء شأنه وفي تنفيذ أوامر الطاهرة ورغباتها. وكان الشيخ محمد الشبل والد محمد مصطفى أيضًا من المعجبين بها وهو عربي من سكان بغداد وله مقام كبير بين علماء المدينة. وبمساعدة هذه الفئة المنتخبة من الأعوان القادرين المخلصين، تمكنت الطاهرة من إشعال قلوب العديدين من العرب والإيرانيين من سكان العراق وأدخلتهم تحت لوائها، وقادت أغلبهم للانضمام إلى إخوانهم في إيران من الذين دعوا لنصرة أمر الله بأعمالهم وما قدر لهم من سفك دمائهم وتضحية حياتهم.

وكان نداء حضرة الباب الموجه أصلاً إلى أتباعه في إيران، قد وصل في وقت قصير إلى المؤمنين بأمره في العراق. واستجابت الطاهرة في الحال بشكل باهر، واقتفى أثرها عدد كبير من المخلصين المعجبين بها والذين أظهروا جميعهم رغبتهم واستعدادهم للسفر توًا إلى خراسان. وكان علماء كربلاء قد اجتهدوا في أن يثنوا عزمها على السفر. وإذ أدركت للتوّ الداعي الذي حركهم لنصحها على هذا المنوال ومتيقنة من تدبيرهم السيئ، حررت لكل من هؤلاء السفسطائيين رسالة مطولة أظهرت فيها الأسباب التي دعتها إلى السفر وكشفت مكرهم ورياءهم.(1)

وتوجهت من كربلاء إلى بغداد(2) وقابلها وفد من مندوبي أقدر رؤساء الدين من المجتمع الشيعي والسنّي والمسيحي واليهودي في تلك المدينة، وسعوا لإقناعها بطيش

________________________

(1) وطبقًا لسمندر (مخطوطة، الصفحة 9) فإن السبب الحقيقي لهيجان أهل كربلاء، والذي دفعهم لاتهام للطاهرة أمام حاكم بغداد، كان عملها الجريء بعدم الاعتناء بذكرى استشهاد الإمام الحسين الذي أقيم في أوائل شهر محرم في منزل المرحوم السيد كاظم في كربلاء، والاحتفال بدلاً عنها بذكرى ميلاد حضرة الباب الذي يقع في أول يوم من ذلك الشهر. ويقال أنها طلبت من أختها وأقاربها أن يخلعوا أثواب الحزن ويلبسوا بدلاً عنها أثواب الفرح، في تحدٍ علني لعادات الناس وتقاليدهم في تلك المناسبة.

(2) وتبعًا لمحمد مصطفى (الصفحتان 108-109) كان بصحبة الطاهرة عند ورودها إلى بغداد من التلاميذ والأصحاب الملاّ إبراهيم المحلاتي والشيخ صالح كريمي والسيد أحمد اليزدي (والد السيد حسين كاتب حضرة الباب) والسيد محمد البايگاني والشيخ سلطان الكربلائي ووالدة الملاّ حسين وابنتها وزوجة ميرزا ↓

أعمالها. فتمكنت من دحض حججهم وإسكاتهم مذهولين من قوة حجتها. فتركوها وهم متحيرون مرتبكون عالمون بعجزهم.(1)

وقابلها علماء كرمانشاه بالاحترام مبدين الدلائل الوفيرة على تقديرهم وإعجابهم.(2) أما في همدان(3) فكان القادة الدينيون في المدينة منقسمين في موقفهم تجاهها. وكان القليل منهم يحرض الناس ضدها ويسعى لزعزعة مكانتها، وكان بعضهم الآخر يتغنى علنًا بفضائلها ويثني على شجاعتها. وكان هؤلاء الأصحاب يتكلمون من المنابر قائلين:

_____________________________________________________________________

هادي النهري ووالدته. وحسب "كشف الغطاء" (الصفحة 94) فإن والدة الملاّ حسين وأخته كانتا من ضمن السيدات والتلميذات اللائي صحبن الطاهرة في سفرها من كربلاء إلى بغداد. ولدى وصولهن أقمن في منزل الشيخ محمد ابن الشبل العراقي ثم نقلن بأمر حاكم بغداد إلى منزل المفتي السيد محمود الآلوسي صاحب التفسير الشهير المسمى "روح المعاني"، وبقين فيه انتظارًا لوصول تعليمات من السلطان في إسطنبول. وزاد في كشف الغطاء بقوله (الصفحة 96) إن في "روح المعاني" إشارات إلى الأحاديث التي أجراها المفتي مع الطاهرة، ويقال أنه وجه إليها هذه الكلمات: ’يا قرة العين! أقسم بالله إني أشاركك في اعتقادك، ولكني أخشى سيوف آل عثمان.‘ وفي "مقالة سائح" نقرأ: ’وقد ذهبت إلى منزل المفتي مباشرة ودافعت أمامه عن عقيدتها وسلوكها بغاية الاقتدار. وأما مسألة تركها تدعو إلى الدين، فقد عرض الأمر على باشا بغداد ثم على الحكومة المركزية فصدر الأمر لها بترك الأراضي التركية.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية كيو، الصفحة 310)

(1) وحسب ما ذكره محمد مصطفى (الصفحة 111) فإن الذين رافقوا الطاهرة من خانقين (على الحدود الإيرانية) إلى كرمنشاه هم: الشيخ صالح كريمي والشيخ محمد الشبل والشيخ سلطان الكربلائي والسيد أحمد اليزدي والسيد محمد البايگاني والسيد محسن الكاظمي والملاّ إبراهيم المحلاتي ونحو ثلاثين من الأحباء العرب. ومكثوا ثلاثة أيام في قرية كَرَنْد حيث كانت الطاهرة تعلن تعاليم الباب بكل شجاعة ونجحت في إيقاظ اهتمام كل طبقات الناس بالظهور الجديد. وروي أن ألفًا ومائتي شخص تطوعوا لاتّباعها وتنفيذ أوامرها.

(2) وحسب ما كتبه محمد مصطفى (الصفحة 112) فإنها استقبلت لدى وصولها كرمانشاه بحماس زائد وأسرع لزيارتها الأمراء والعلماء وموظفو الحكومة وتأثروا جدًا بفصاحتها وشجاعتها واتساع علومها وقوة شخصيتها. وقد تلي تفسير حضرة الباب لسورة الكوثر علنًا وتمت ترجمته. وكانت زوجة الأمير حاكم كرمنشاه من بين السيدات اللائي قابلن الطاهرة وسمعن تفسيرها للتعاليم المقدسة. وأقر الأمير وعائلته بصدق الدعوة وأقروا بإعجابهم ومحبتهم للطاهرة. وذكر محمد مصطفى (الصفحة 116) أن الطاهرة مكثت يومين في قرية "صَحْنِه" في طريقها إلى همدان حيث استقبلت بترحاب لا يقل حماسًا عن ذلك الذي لاقته في قرية كرند. وقد رجاها سكان القرية أن يضعوا أيديهم في أيدي أتباعها لنشر الأمر الجديد وإعلاء شأنه، ولكنها نصحتهم أن يبقوا في أماكنهم وأثنت على مجهوداتهم وباركتها وتابعت سفرها إلى همدان.

(3) وجاء في "تذكرة الوفاء" (الترجمة العربية، الصفحة 207) أن الطاهرة مكثت شهرين في همدان.

صورة 104
صورة 105
المنازل التي عاشت فيها الطاهرة في قزوين

’يجدر بنا أن نتبع مثالها النبيل ونطلب منها باحترام أن تكشف لنا عن أسرار القرآن الكريم وأن تحل لنا تعقيدات الكتاب. لأن كل ما وصلنا إليه لم يكن إلا كقطرة من بحر بالنسبة إلى علمها.‘ وأثناء إقامتها في همدان قابلها الذين أرسلهم إليها والدها الحاج الملاّ صالح من قزوين للترحيب بها وحثها، نيابة عنه، على زيارة موطنها وإطالة مكثها بينهم.(1) فقبلت ذلك بعد تردد. وقبل مغادرتها أمرت الذين رافقوها من العراق أن يتوجهوا إلى موطنهم، وكان بينهم الشيخ سلطان والشيخ محمد الشبل وابنه الصغير محمد مصطفى، وعابد وابنه ناصر الذي تسمى فيما بعد باسم الحاج عباس. وأما رفقاؤها الذين هم من أهالي إيران مثل السيد محمد الگلپايگاني واسمه القلمي(2) "الطائر" والذي سمّته الطاهرة "الفتى المليح"، وغيرهم فقد أمرتهم أن يعودوا إلى أوطانهم. ولم تُبْقِ معها سوى الشيخ صالح والملاّ إبراهيم

صورة 106

مكتبة الطاهرة في منزل والدها في قزوين ويظهر أحد أقاربه

________________________

(1) وذكر محمد مصطفى (الصفحة 117) أن من بين الذين أرسلوا من قزوين كانوا إخوة الطاهرة.

(2) اسم مستعار يتخذه الكاتب أو الشاعر.

الگلپايگاني، واللذين شربا كأس الشهادة، الأول في طهران والثاني في قزوين. ورافقها في الطريق من كربلاء إلى قزوين من أقربائها ميرزا محمد علي، أحد حروف الحيّ وزوج أختها، وكذلك السيد عبد الهادي الذي كان قد عقد خطبته على ابنة الطاهرة.

وإذ وصلت إلى منزل والدها أرسل ابن عمها ذلك المتغطرس أسود القلب الملاّ محمد ابن الملاّ تقي الذي ظن نفسه بعد والده وعمه أقدر مجتهدي إيران، أرسل إليها بعض النسوة من منزله لإقناعها بنقل سكنها من عند والدها إلى منزله، فكان جوابها الجريء لهن: ’قولوا لقريبي الأحمق المغرور لو كان قصدك حقًا أن تكون رفيقًا لي وزوجًا، لكنتَ أسرعتَ لمقابلتي في كربلاء، ولسِرتَ على قدميك لحراستي وقيادة هودجي طول الطريق إلى قزوين، وإذ ذاك كنتُ أثناء سفري معك أقدر أن أوقظك من نوم غفلتك وأظهر لك طريق الحق، ولكن ذلك لم يقدّر لك وقد مرّ على فراقنا ثلاث سنوات فلا يمكن في هذه الحياة ولا في الحياة الآخرة أن اجتمع بك، فقد طرحتك كلية من حياتي إلى الأبد.‘

وكان الجواب قاسيًا شديدًا بدرجة أثار وأغضب الملاّ محمد ووالده وحكما عليها بالكفر فورًا، واجتهدا ليل نهار أن ينتقصا من مقامها وأن يلطخا سمعتها.(1) وكانت الطاهرة تدافع عن نفسها بحماس، وأظهرت لهما نقائص شخصيتيهما. وكان والدها المسالم المنصف يتأسف لهذا النزاع المرّ واجتهد في عقد الصلح وتحقيق الوفاق بينهما ولكنه خاب في مساعيه.

واستمرت حالة التوتر هذه إلى أن حضر الملاّ عبد الله من سكان شيراز وهو من أتباع الشيخ أحمد والسيد كاظم المخلصين، ووصل إلى قزوين في أول شهر رمضان سنة 1263ﻫ.(2) وفيما بعد حكى الملاّ المذكور إذ كان يحاكم في طهران أمام صاحب الديوان قال: ﴿إني لم

________________________

(1) ’وكيف يمكن لامرأة في إيران، حيث تُعتبر المرأة مخلوقًا ضعيفًا، وخاصة في مدينة كقزوين حيث يملك رجال الدين نفوذًا عظيمًا، وحيث يستقطب العلماء، بعددهم وأهميتهم، انتباه الحكومة والشعب، - كيف يمكن لامرأة، في ظروف صعبة كتلك، أن تجمع حولها مجموعة قوية من الكافرين؟ وهنا يكمن سؤال يحير حتى المؤرخ الإيراني "سِپهْر"، فهذا مما لا نظير له في السابق.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 474)

(2) يوافق 13 أغسطس/آب - 12 سپتمبر/أيلول سنة 1847م.

أكُن يومًا ما بابيًا مقتنعًا، ولما وصلت إلى قزوين كنت في طريقي إلى ماه كو بقصد زيارة حضرة الباب والتحري عن طبيعة دعوته. وفي يوم وصولي إلى قزوين لاحظت أن المدينة كانت في حالة اضطراب شديد. وبينما كنت أمرّ في السوق رأيت أن حشدًا من الأوباش قد خلعوا عمامة رجل وحذاءه ولفوا رقبته بالعمامة وسحبوه بها في الشوارع. وكان جمع كبير غاضب يتوعدوه بتهديداتهم ويؤذونه بضرباتهم ولعناتهم. ولما سألت كانت الإجابة: ’إن جريمته التي لا تغتفر أنه تجاسر على مدح الشيخ أحمد والسيد كاظم وإظهار فضائلهما علنًا. ولذلك حكم عليه الحاج الملاّ تقي حجة الإسلام بالكفر وأمر بطرده من المدينة.‘

فدهشت من التبرير الذي تلقيته وتساءلت في نفسي كيف يكون الشيخي كافرًا ومستحقًا لمثل هذه المعاملة القاسية؟ ورغبة في التحقق من صدق هذه الرواية من الملاّ تقي نفسه ذهبت إلى مدرسته وسألته إذا كان أصدر مثل هذا الحكم ضده فعلاً. فقال: ’إن الإله الذي يعبده المرحوم الشيخ أحمد البحريني هو إله لا يمكن أن أعتقد به، وإني أعتبره هو وأتباعه تجسيدًا للخطأ والزلل.‘ وكنت في تلك اللحظة على وشك أن أصفعه على وجهه أمام تلاميذه المجتمعين ولكني تداركت نفسي وحلفت، أن أشق شفتيه بحربتي، إن شاء الله، حتى لا يقدر مرة أخرى أن يتفوه بمثل هذا الكفر.

فتركته توًا وذهبت إلى السوق واشتريت خنجرًا ومدية صغيرة من أحدّ أنواع الفولاذ، وخبأتهما في حجري لأشفي غليلي منه، وترصدت الفرصة، ودخلتُ ذات ليلة المسجد الذي كان يؤم الناس فيه للصلاة وانتظرت لغاية الفجر إلى أن رأيت عجوزًا دخلَت المسجد ومعها سجادة فرشَتها على أرض المحراب. وبعد برهة قصيرة رأيت الملاّ تقي يدخل وحده وأخذ يصلي، فجئتُ من خلفه بسكون واحتراس وتبعتُه ووقفتُ خلفه، وإذ خرّ على وجهه ساجدًا سحبت مديتي وغرزتها في رقبته من الخلف، فصاح صيحة قوية فقلبته على ظهره واستللت خنجري وغرزته عميقًا في حلقه ثم طعنته جملة طعنات في صدره وجوانبه وتركته يدمي في المحراب.

ثم صعدتُ إلى سطح المسجد وراقبتُ اضطراب الجمهور وذعره. ودخل حشد من الناس إلى الداخل ووضعوه على نقالة ونقلوه إلى منزله. ولما لم يُعلم القاتل، انتهز الناس

الفرصة للتشفي والانتقام من بعضهم البعض أمام الحاكم. ولما رأيت أن عددًا غفيرًا من الناس أوذي أذى بليغًا وطُرحوا في السجن، ناداني صوت الضمير أن أعترف بعملي. فطلبت المثول بين يدي الحاكم وقلت له: ’إذا أتيتك بالقاتل فهل تعدني أن تطلق سراح كل المظلومين الذين يعذبون مكانه؟‘ ولما أكد لي ذلك، اعترفت بما عملته. ولم يكن في بادئ الأمر يميل إلى تصديقي، وبناء على طلبي أحضروا العجوز التي فرشت السجادة في المحراب، ولكن لم يقتنع بالشهادة التي أدتها. وأخيرًا أخذوني إلى سرير الملاّ تقي الذي كان مشرفًا على الموت، وبمجرد أن رآني تعرّف على ملامحي، وفي اضطرابه أشار بإصبعه إليّ للدلالة على أني أنا القاتل وأظهر رغبته في أن يبعدوني عنه. وبعد برهة توفي. فقبضوا عليّ فورًا واتهمت بالقتل وأودعت السجن. إلا أن الحاكم لم يَفِ بوعده ولم يقبل بإطلاق سراح المساجين.﴾

وكانت سلامة طوية الملاّ عبد الله وصدقه قد أعجبت صاحب الديوان، فأعطى أوامر سريّة لخدّامه أن يسهّلوا هربه من السجن. وفي منتصف الليل التجأ السجين إلى منزل رضا خان السردار الذي اقترن بأخت السپاه سالار حديثًا، وبقي مختبئًا في ذلك المنزل إلى أن حصلت حادثة المعركة العظيمة عند قلعة الشيخ الطبرسي، حيث عزم على الاشتراك مع المدافعين الأبطال في تلك القلعة. وفيها شرب كأس الشهادة مع رضا خان السردار الذي تبعه إلى مازندران.

وكانت ظروف حادثة القتل قد أهاجت غضب ورثة الملاّ تقي، وعزموا على أن ينزلوا انتقامهم بسببها على الطاهرة. ونجحوا في حبسها في منزل والدها حبسًا مشددًا، وجعلوا عليها نسوة حراسًا وأمرن أن لا يسمحن لها بمغادرة الغرفة إلا للتوضؤ فقط. واتهموها فعلاً بالتحريض على القتل وقالوا: ’لا نتهم غيرك أحدًا بقتل والدنا لأنك أصدرت أمرًا بقتله.‘ وأرسل الذين قبض عليهم في هذه الحادثة إلى طهران، وحبسوا في منزل أحد كدخداوات العاصمة. وانتشر أصحاب الملاّ تقي وورثته في كل الجهات يتهمون المحبوسين بأنهم انشقوا عن الإسلام وطالبوا بإعدامهم حالاً.

وعلم حضرة بهاءالله الذي كان قاطنًا إذ ذاك في طهران بمحنة هؤلاء المسجونين الذين كانوا مساعدين ومعاونين للطاهرة. وعزم على زيارتهم في منزل الكدخدا الذي كان يعرفه

وأراد أن يتوسط نيابة عنهم. ولكن ذلك الموظف المخاتل الطمّاع كان يعلم حق العلم بجود حضرة بهاءالله وكرمه، فأراد أن يتخذ من هذه الحادثة وسيلة للحصول على منافع مالية لنفسه، فأخذ يبالغ في وصف المصائب التي حلت بالمحبوسين التعساء وقال: ’إنهم محرومون من ضروريات الحياة، جياع وملابسهم رثة.‘ فأرسل حضرة بهاءالله مساعدة مالية حالاً لإنقاذهم، وطلب من الكدخدا تخفيف وطأة الحبس عليهم. فأطلق المذكور سراح بعض منهم ممن كانوا غير قادرين على تحمل ثقل السلاسل والقيود. وعمل جهده في تخفيف حبس الباقين. وإذ حركته الأطماع، أخبر رؤساءه بالأمر وأن حضرة بهاءالله يمد هؤلاء المحبوسين بالمال والطعام بانتظام.

وسعى أولئك الموظفون أيضًا بدورهم للحصول على كل ما يمكن الحصول عليه من المنافع من كرم حضرة بهاءالله. فطلبوه أمامهم واحتجوا على عمله واتهموه بالاشتراك مع هؤلاء المحبوسين في جريمتهم، فأجاب حضرة بهاءالله: ’إن الكدخدا أظهر لي شدة احتياجهم وآلامهم، وشهد أمامي ببراءتهم وطلب مني مساعدتهم. والآن تتهمونني بجريمة أنا بريء منها جزاء على المساعدة التي أسديتها بناء على طلبه.‘ ولكنهم لم يقبلوا أن يسمحوا لحضرة بهاءالله أن يعود إلى منزله مؤملين أن يخيفوه بالعقاب، فكان حبسه أول ضير أصابه في سبيل أمر الله وأول حبس قضاه في سبيل أحبائه. ومكث على هذه الحالة بضعة أيام إلى أن توسط جعفر قلي خان أخ ميرزا آقا خان النوري، الذي تعين فيما بعد رئيس وزراء الشاه، وآخرون من أصدقائه بالنيابة عن حضرته وهددوا الكدخدا بلغة قاسية إلى أن تمكنوا من إخلاء سبيل حضرة بهاءالله. وكان المسؤولون الذين حبسوه يأملون الحصول على مبلغ ألف تومان مقابل الإفراج عنه، ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين لإجابة رغبات جعفر قلي خان دون أن يحصلوا منه أو من حضرة بهاءالله على أقل مكافأة. وسلموه المحبوس بعد إبداء اعتذاراتهم المتكررة وتأسفهم العظيم.

وكان ورثة الملاّ تقي في تلك الأثناء يبذلون جهدهم للانتقام لدم قريبهم الشهير. وإذ لم يقتنعوا بما سبق لهم إنجازه، تقدموا بالطلب إلى محمد شاه نفسه وسعوا في أن يكسبوا عطفه في قضيتهم. وقيل أن الشاه أجابهم بالآتي: ’إن والدكم الملاّ تقي لا يمكن أن يبلغ

رتبة أعلى من رتبة الإمام علي أمير المؤمنين الذي لما علم أتباعه أنه وقع ضحية لسيف ابن ملجم لم يعدموا أحدًا سواه، فلماذا لا يكون القصاص في قتل أبيكم على هذا النحو؟ فلا يعدم سوى القاتل وحده، فأحضروا لي القاتل وأنا أصدر الأوامر أن يسلموه لأيديكم لتوقعوا عليه الجزاء الذي ترون أنه يستحقه.‘

وبذلك الموقف الثابت من جانب الشاه، تركوا الآمال التي كانوا يتعلقون بها وادّعوا أن قاتل والدهم هو الشيخ صالح وحصلوا على أمر بالقبض عليه، ورضوا لأنفسهم قتله ظلمًا. فكان أول مَن سُفك دمه في أرض إيران في سبيل أمر الله وهو أول الجماعة الماجدة الذين سجلوا بدمائهم المسفوكة نصرة دين الله المقدس. وبينما كان يُقاد إلى محل استشهاده كان وجهه يلمع بالفرح والحماس، وأسرع إلى درجات منصة الإعدام وقابل الجلاد كأنه يقابل صاحبًا عزيزًا وصديقًا حميمًا، وكانت تتطاير من فمه كلمات الأمل والنصر دون انقطاع وصاح بفرح عند دنو أجله: ’إني تركت آمال القوم واعتقادهم منذ عرفتك يا من أنت أملي ويقيني.‘ ودفنت رفاته في باحة ضريح الإمام زاده زيد في طهران.

وأخذ الحقد الذي لا يخمد يحرك أولئك المسؤولين عن استشهاد الشيخ صالح للبحث عن وسائل جديدة لتحقيق مخططاتهم. ولكن صاحب الديوان أفلح في إقناع الحاج ميرزا آقاسي بالمسلك الشرير لورثة الملاّ تقي، ولذلك لم يلتفت إلى طلبهم. ولكن رفضه لم يمنعهم من أن يتقدموا بقضيتهم إلى الصدر الأردبيلي وهو رجل مشهور بين رؤساء إيران الدينيين بالغرور والكبر. فتوسلوا إليه قائلين: ’انظر إلى هذه الإهانة التي وقعت على من كُلّفوا بالوظيفة العظمى المتمثلة بحفظ أمر الشريعة وصيانتها! فكيف تسمح وأنت رئيسها ومبيّن أحكامها أن تبقى مثل هذه الجريمة والجرأة المتناهية دون عقاب؟ فهل تعجز عن الانتقام لدم النائب عن رسول الله؟ ألا تدرك أنك لو سمحت بوقوع أمثال هذه الجريمة الشنيعة فإن فيضان التعدي يعمّ الذين هم مخازن التعاليم والأصول الدينية؟ ألن يجعل سكوتك أعداء الإسلام يتجرأون لنقض ذلك البنيان الذي أقمته بيديك؟ وبالنتيجة ألن تكون حياتك أنت أيضًا في خطر؟‘

فارتعب الصدر الأردبيلي وفي سورة عجزه اجتهد في أن يحتال على مليكه، وقدّم لمحمد شاه الطلب الآتي: ’إني أتضرع لجلالتك أن تسمح للمحبوسين أن يعودوا إلى قزوين بصحبة ورثة ذلك الرئيس المقتول حتى يتمكن الورثة من تلقاء أنفسهم أن يسامحوهم علنًا عن أعمالهم ويمكنوهم من استرداد حريتهم. فهذه المبادرة سترفع شأنهم وتجعلهم محترمين في أعين مواطنيهم.‘ ولما كان الشاه غافلاً عن المخططات الشريرة لذلك الدّساس المحتال، قبل ذلك الرجاء بشرط أن يصله إخطار كتابي من قزوين يطمئنه بأن حالة المحبوسين بعد إطلاق سراحهم مرضية جدًا، وأن لا يصيبهم أي أذى في المستقبل.

وما كاد هؤلاء الأشرار يستلمون المحبوسين حتى أخذوا يشفون غليلهم ويصبّون عليهم جام انتقامهم. وفي أول ليلة تسلموا المحبوسين أعدموا بلا رحمة الحاج أسد الله، أخا الحاج الله وردي، عم محمد هادي ومحمد جواد الفرهادي، وكان تاجرًا في قزوين اشتهر بالصلاح والتقوى بدرجة عظيمة لا تقل عن تقوى أخيه الشهير. ولعلمهم بعدم إمكانهم توقيع العقاب عليه في بلدته كما أرادوا، عزموا على قتله في طهران بطريقة تبعد عنهم شبهة اقتراف جريمة القتل. ففي منتصف الليل ارتكبوا فعلهم الشنيع، وفي صباح اليوم التالي ادعوا أنه توفي من مرض ألمّ به. وأما معارفه وأصحابه في قزوين فلم يتمكنوا من كشف الجريمة التي قضت على حياة مثل هذا الشخص العظيم، فدفنوه بالاحترام اللائق به.

أما باقي رفاقه، فقد أُعدموا بمجرد وصولهم إلى قزوين بطريقة وحشية. وكان من بينهم الملاّ طاهر الشيرازي والملاّ إبراهيم المحلاتي وكلاهما مشهور بعلمه وأخلاقه. وكان الأهالي الذين سبق تحريضهم من قبل بخديعة، قد هاجوا وماجوا وطالبوا بإعدامهم الفوري. وحضرت عصبة من الرعاع الأوباش المسلحين بالسكاكين والسيوف والحراب والفؤوس وقطعوهم إربًا إربًا. وشوهوا أجسادهم بدرجة من الوحشية بحيث لم يبقَ من أشلائهم جزء يصلح للدفن.

فيا لله! لقد وقعت في بلدة مثل قزوين هذه الأفعال بوحشية لا تكاد تصدق، مع أن هذه البلدة تفخر بأنها تجمع داخل بواباتها ما لا يقل عن مائة عالم من رؤساء دين الإسلام،

فلم يوجد فيها من يرفع صوته احتجاجًا على هؤلاء القتلة السفاكين، ولا من يسألهم كيف جاز لهم اقتراف مثل هذه الأعمال الظالمة المخجلة، ولا من يقدّر مقدار الفرق العظيم بين هذه الأعمال الوحشية التي يقترفها من يدّعون أنهم مخازن أسرار الإسلام، وبين أعمال السلف الصالح الذين ظهر نورهم في أنحاء العالم. فلم يوجد من يصيح مستنكرًا: ’أيها الجيل الفاسق الشرير! إلى أية دركة وقعتم في العار والشنار! ألم تتجاوزا في أعمالكم المفجعة أردأ الأفعال الصادرة من أرذل الناس؟ ألا تدركون أن وحوش الفلاة أو أي مخلوق على وجه البسيطة لا ينحط في وحشيته ليرتكب أمثال أعمالكم؟ فإلى متى تتيهون ولا تنتبهون؟ ألم يكن من أساس اعتقادكم أن صلاة الجماعة لا تصح إلا باستقامة إمامها وأمانته؟ ألم تقرروا مرارًا وتكرارًا أن هذه الصلاة لا تقبل أمام الله إلا إذا كان قلب الإمام طاهرًا من كل أثر من آثار الشرور؟ ومع ذلك تعتبرون القوم الذين حرضوا وساهموا في ارتكاب مثل هذه الفظائع أنهم رؤساء حقيقيون جديرون بالرئاسة الدينية وأنهم عنوان اللطف والعدل. ألم تسلموهم زمام أمور الدين وتعتبروهم متصرفين في مصائركم؟‘

ووصلت أخبار هذه الفاجعة إلى طهران وانتشرت فيها بسرعة البرق. واحتج الحاج ميرزا آقاسي بشدة قائلاً: ’بأي آية في القرآن أو بأي حديث من الأحاديث النبوية يصح قتل أشخاص عديدين انتقامًا لدم رجل واحد؟‘ وكذلك عبّر محمد شاه عن رفضه الشديد للتصرف الشائن من الصدر الأردبيلي وأعوانه، واستنكر جُبنه ونفاه من العاصمة، وحكم عليه بالعيش المغمور في مدينة قُم. وسُرّ الوزير الأكبر من طرده من الوظيفة، وكان دائم السعي في إسقاطه من قبل، ولكن دون جدوى. فلما نفي فجأة من طهران تخلص الوزير من الأفكار المقلقة التي كانت تساوره بخصوص اتساع سلطة الصدر. ولم يكن سخطه على حادثة القتل التي وقعت في قزوين ناشئًا عن عطفه على الضحايا المظلومين، بل عن الرغبة في التشفّي من الصدر الأردبيلي وسقوطه بما أوجب احتقاره أخيرًا في عينَي مليكه.

ولما عجز الشاه وحكومته عن إيقاع العقاب الفوري على المعتدين، ازدادوا جرأة وأخذوا يبحثون عن وسائل إضافية لصب جام انتقامهم وإشباع أحقادهم التي لا تفتر

وإرواء ظمئهم لسفك دماء أخصامهم، فالتفتوا الآن إلى الطاهرة نفسها، وعزموا على أن يذيقوها من نفس الكأس التي شربها أقرانها. فلما علمت الطاهرة بقصدهم وهي لا تزال في حبسها، كتبت رسالة إلى الملاّ محمد الذي ورث مقام أبيه وأصبح إمام الجمعة المعروف في قزوين، وقالت فيها: ’إنهم عبثًا "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون."(1) فإذا كان الأمر الذي أتّبعه هو الحق وكان الربّ الذي أعبده هو الإله الواحد الحق فإنه قبل مرور تسعة أيام يخلصني من ظلمكم. وإن فشل في تحريري، تكونون أحرارًا في أن تعملوا ما تشاؤون وتكونون أثبتم فساد اعتقادي.‘ واختار الملاّ محمد أن يتجاهل هذه المباهلة لأنه لا يقدر أن يقبلها. وسعى في الاحتيال بكل وسيلة وخداع أن يتمم مقصوده.

وفي تلك الأيام وقبل أن تحين الساعة التي عينتها الطاهرة لخلاصها، رغب حضرة بهاءالله أن تؤخذ من حبسها ويؤتى بها إلى طهران، وصمم أن يؤكد لأعين أعدائها صدق كلماتها وأن يفشل تدابيرهم لقتلها. وعليه دُعي محمد هادي الفرهادي وأوكل إليه حضرته أمر نقلها الفوري إلى منزله في طهران ودفع إليه خطابًا مختومًا ليسلمه إلى زوجته خاتون جان. وأمره أن يطلب منها أن ترتدي لباس سائلة لتدخل في المنزل الذي حبست فيه الطاهرة وتدفع لها الخطاب، وأن ينتظر هو على مدخل المنزل حتى تأتي إليه ويحضرها عنده. وقال حضرة بهاءالله للمبعوث: ’بمجرد أن تنضم إليك الطاهرة قم توًا إلى طهران. وفي هذه الليلة سوف أرسل إلى بوابة قزوين مرافقًا ومعه ثلاثة جياد، فتستلمها وتودعها مكانًا أمينًا خارج أسوار قزوين، ثم تأخذ الطاهرة إلى ذلك المكان وتركبون الجياد معًا وتسيرون في طريق غير مطروق، وتجتهدون أن تصلوا قبل طلوع النهار إلى ضواحي العاصمة. وبمجرد فتح البوابات تدخلون المدينة وتتجهون فورًا إلى منزلي. واحترس جدًا لئلا تنكشف هويتها. والله يهديكم ويسدّد خطاكم ويحفظكم في كنف حفظه وحمايته التي لا تضام.‘

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 32.

وقام محمد هادي توًا على تنفيذ تعليمات حضرة بهاءالله مطمئنًا بتأكيداته، فلم يعترضه في طريقه أي مانع، وأدى الخدمة المطلوبة باقتدار وإخلاص وتمكن من إحضار الطاهرة سالمة في الساعة المعينة إلى منزل مولاه. وقد أثار نقلها الفجائي الخفي من قزوين دهشة فيما بين الأحباء والأعداء على السواء. وأخذوا يبحثون عنها طوال الليل في المنازل، وخابوا في سعيهم ويئسوا في العثور عليها. وكان إتمام الوعد الذي نطقت به قد حيّر كل مقاوميها حتى أشدهم تشككًا. وقليل منهم أدرك قوة الأمر الذي اعتنقته والخارجة عن الحدود البشرية. فاعترفوا حالاً بصحة الدعوى واعتنقوا أمرها، واعترف ميرزا عبد الوهاب أخوها بصدق الرسالة في نفس اليوم، ولكنه فيما بعد لم يظهر منه ما يثبت صدق اعتقاده.(1)

وفي الساعة المعينة بمعرفة الطاهرة لخلاصها أصبحت في حفظ حضرة بهاءالله. وقد عرفت يقينًا من هو الذي دخلت محضره. وكانت عالمة بقداسة وفضل الذي أنقذها بعطفه ورحمته.(2) وكما قبلت أمر حضرة الباب من تلقاء نفسها دون دعوة من أحد واعترفت بصحته، فكذلك أدركت بفراستها مجد حضرة بهاءالله المقبل. فكانت في سنة 60 موجودة في كربلاء عندما خصصت أشعارها للاعتراف بالحق الذي سوف يظهره. وقرأت بنفسي في طهران في منزل السيد محمد، الذي كانت الطاهرة تسميه بالفتى المليح، تلك الأشعار التي نظمتها وسطرتها بخط يدها. ويشهد كل حرف منها بإيمانها

________________________

(1) وجاء في "كشف الغطاء" (الصفحة 110) أن الملاّ جعفر الواعظ القزويني، قال أن الملاّ حسين قابل الطاهرة في قزوين في منزل آقا هادي الذي ربما لم يكن سوى محمد هادي الفرهادي الذي أرسله بهاءالله لإيصال الطاهرة إلى طهران. ويقال أن المقابلة كانت قبل مقتل الملاّ تقي.

(2) ويروي حضرة عبدالبهاء في "تذكرة الوفاء" (الترجمة العربية، الصفحة 227) حوادث زيارة وحيد للطاهرة عندما كانت في منزل حضرة بهاءالله في طهران، فكتب: ’كانت الطاهرة جالسة وراء الحجاب وكنت أنا نفسي إذ ذاك طفلاً وكنت جالسًا على حجرها وما لبثنا حتى أخذت الآيات والأحاديث تتدفق كالدر المنثور من فم وحيد في إثبات هذا الأمر. وفجأة هاجت الطاهرة ثم قالت: ’يا يحيى، فأتِ بعمل إن كنت ذا علم رشيد. ليس الوقت وقت نقل الروايات إنما الوقت وقت الآيات البينات، وقت الاستقامة وهتك الأستار والأوهام، وقت إعلاء كلمة الله، وقت تضحية الروح في سبيل الله. العمل! العمل! لا بد من العمل!‘ (جرى تعديل على الترجمة العربية)

ويقينها بسمو الرسالة التي جاء بها حضرة الباب وحضرة بهاءالله. ومن تلك القصيدة(1) ما يأتي: "قد خرقت أنوار الجمال الأبهى حجاب الظلام، ورقصت أرواح محبيه في النور المشرق من وجهه، كما ترقص ذرات الهباء في الضياء الخارق للظلام." وكان يقينها في قوة حضرة بهاءالله التي لا تقهر مما حداها لأن تنطق بنبوتها بكل ثقة واطمئنان، وأن تباهل بها أعداءها بكل شجاعة. فكانت الثقة في تلك القوة الثابتة المتينة التي لا تتزعزع توحي إليها في أظلم ساعات حبسها أن تقرر بكل شجاعة ما قررته من تأكيد فوزها وخلاصها القريب.

فلم تمض إلا بضعة أيام على وصول الطاهرة إلى طهران حتى عزم حضرة بهاءالله على أن يرسلها إلى خراسان بصحبة الأحباء الذين استعدوا للرحيل إلى تلك المقاطعة، وكذلك عزم هو أيضًا على الرحيل من العاصمة في ذلك الاتجاه بعد بضعة أيام. ولذلك استدعى أخاه آقا كليم وأمره أن يتخذ فورًا التدابير الكفيلة بنقل الطاهرة مع خادمتها "قانتة" إلى مكان خارج بوابة العاصمة ليرحلوا من هناك فيما بعد إلى خراسان. وأمره أن يحترس لئلا يتعرف الحراس الموجودون على مدخل المدينة على هويتها فيمنعون سفرها، إذ إنهم لا يصرحون بمرور النساء دون رخصة.

وسمعت آقا كليم يقص الآتي: ﴿سرنا متّكلين على الله، الطاهرة وخادمتها وأنا، إلى مكان في جوار العاصمة ولم يعترض أحد من الحراس الواقفين على بوابة شميران بأدنى اعتراض ولم يسألونا عن وجهتنا. وعلى مسافة فرسخين من العاصمة نزلنا وسط حديقة تنساب فيها مياه غزيرة تقع على سفح جبل وفي وسطها منزل بدا مهجورًا تمامًا. ولما دخلت لأبحث عن صاحبه قابلت رجلا هرمًا كان منشغلاً في إرواء نباتاته. وإجابة عن سؤالي شرح بأنه حصل نزاع بين المالك والمستأجرين نتج عنه أن القاطنين في المنزل هجروه، وأضاف: ’لقد طلب مني المالك حراسة المكان حتى ينتهي النزاع.‘ فسررت جدًا من المعلومات التي أدلى بها وطلبتُ منه أن يشاركنا تناول الغداء. ولما عزمت

________________________
(1) مترجمًا عن الفارسية.

على العودة في عصر ذلك اليوم إلى طهران وجدته راغبًا في حراسة الطاهرة وخادمتها والمحافظة عليهما، فتركتهما لرعايته وأكدت له إني سأعود بنفسي في المساء أو أرسل مرافقًا موثوقًا أتبعه في اليوم التالي بكل معدات السفر إلى خراسان.

ولما وصلتُ إلى طهران، أرسلتُ الملاّ باقر، أحد حروف الحيّ ومعه خادم للانضمام إلى الطاهرة، وأخبرت حضرة بهاءالله بخروجها سالمة من العاصمة. فسرّ للخبر الذي أتيته به، وسمّى ذلك البستان "باغ جنّت"(1) وقال: ’إن ذلك المنزل قد أعدّته لكم يد القدرة الإلهية لاستقبالكم حتى ترحّب فيه بأحباء الله.‘

ومكثت الطاهرة في تلك البقعة سبعة أيام، وبعد ذلك سافرت إلى جهة خراسان ومعها محمد حسن القزويني المسمى بالفتى وآخرون. وأمرني حضرة بهاءالله أن أعد لرحيلها كل ما يلزم لسفرها.﴾

***
________________________
(1) حديقة الجنة.
الفصل السادس عشر
مؤتمر بدشت

وبعد قيام الطاهرة لرحلتها، أمر حضرة بهاءالله آقا كليم ليجهز ما يلزم لسفره إلى خراسان، وأوصاه بأسرته وسأله أن يسهل لها كل ما يلزم لراحتها وسلامتها.

ولما وصل إلى شاهرود، قابله القدوس الذي ترك مشهد مقر إقامته وحضر للترحيب به بمجرد أن سمع بقدومه. وكانت مقاطعة خراسان بأسرها في تلك الأيام تتمخض بالاضطراب العنيف، وكانت المساعي التي قام بها القدوس والملاّ حسين مع الحماس الذي ظهر منهما وشجاعتهما ولغتهما البليغة قد أيقظت الأهالي من نوم غفلتهم وأشعل في قلوب بعض السكان أنبل مشاعر الإخلاص والاطمئنان، كما أشعل في صدور آخرين نيران العناد والعداء. وجاء لتحري الحقيقة جمهور كبير باستمرار من كافة أنحاء مشهد إلى منزل الملاّ حسين الذي كان يدخلهم إلى محضر القدوس.

وزاد عدد الوافدين إلى درجة نبهت مخاوف السلطات. وكان رئيس الشرطة ينظر بالاهتمام والقلق إلى جموع الناس المتحمسة الذين كانوا يموجون في كل ناحية من نواحي المدينة المقدسة. ولرغبته في تدعيم سلطته وتخويف الملاّ حسين حتى يضيّق نطاق مساعيه، أمر بالقبض على خادمه الخاص وكان اسمه حسن وبمعاملته بالقسوة والإهانة، فخزموا أنفه ومرروا حبلاً فيه وسحبوه بهذه الكيفية في شوارع المدينة وأسواقها.

وكان الملاّ حسين ماثلاً في محضر القدوس إذ أتته أخبار الحادثة المحزنة التي وقعت على خادمه. وخوفًا من أن يحزن هذا الخبر قلب رئيسه المحبوب، قام وغادر محضره

بهدوء. وسرعان ما اجتمع أصحابه حوله وعبروا عن استيائهم من حصول هذا التهجم الشنيع الذي أصاب هذا المؤمن البريء وألحوا عليه بوجوب الانتقام. فهدّأ الملاّ حسين من روعهم وقال لهم: ’لا تضطربوا من حصول الإهانة لحسن، فإن الحسين لا يزال معكم وسيرجع لكم الحسن سليمًا لأيديكم باكرًا.‘

فلم يشأ أصحابه أن يتكلموا بكلمة إزاء هذا التأكيد. إلا أن قلوبهم كانت تحترق بالرغبة في الثأر لذلك الحيف المر. وأخيرًا قرر عدد منهم التجمع معًا والسير في شوارع مشهد هاتفين ’يا صاحب الزمان‘ بأعلى النداء احتجاجًا على ذلك التهجم المفاجيء الواقع على دينهم. وكان هذا النداء أول نداء من نوعه ارتفع في خراسان باسم أمر الله وتردد صداه في كل جهات المدينة، وعلت الهتافات حتى وصلت إلى الأقاليم المجاورة وأهاجت شعورًا عميقًا في القلوب. وكانت إشارة إلى وقوع الحوادث العظيمة التي ستظهر في المستقبل.

وفي وسط الاضطراب الناشئ، قُتل بالسيف أولئك الذين قادوا حسن بالحبل في الشوارع وأخذ أصحاب الملاّ حسين أسيرهم المحرر إلى محضر رئيسهم، وأخبروه بما أصاب ظالميه. فأجابهم الملاّ حسين: ’إنكم لم تسمحوا بالعذاب الذي أصاب حسن، فكيف تتصرفون إزاء استشهاد الحسين؟‘

وكانت مدينة مشهد التي ابتدأت تستعيد هدوءها وأمنها بعد ثورة السالار قد عادت ثانية إلى الاضطراب والفوضى، وكان الأمير حمزة ميرزا قد توقف بعساكره وذخيرته على بعد أربعة فراسخ من المدينة لمواجهة الطوارئ إذ وصلته فجأة أخبار الأحداث الجديدة. فأرسل على الفور كتيبة إلى المدينة ومعها تعليمات بالقبض على الملاّ حسين بمعونة حاكم المدينة وإحضاره عنده. وتدخل عبد العلي خان المراغي رئيس فرقة مدفعية الأمير قائلاً: ’إني أعتبر نفسي أحد محبي الملاّ حسين والمعجبين به، فإذا أردتم إيقاع أي ضرر به فأرجوكم أن تقتلوني قبل أن تنفّذوا غرضكم لأني لا أسمح وأنا على قيد الحياة بتوجيه أي إهانة نحوه.‘

ودهش الأمير وارتبك من هذا التصريح المفاجئ الصادر من ضابط يحتاجه. ولكنه اجتهد أن يزيل ما علق بذهن عبد العلي خان، فقال له: ’وأنا أيضًا قابلت الملاّ حسين

وأشعر بميل نحوه بالمحبة والإخلاص، وإذا طلبته إلى معسكري فإني أريد فقط أن أحصر نطاق ذلك الهياج الذي اشتعل في المدينة وأن أحافظ على حياته.‘ ثم كتب الأمير خطابًا بخط يده إلى الملاّ حسين ألح فيه بالرغبة الشديدة في أن ينقل مسكنه بضعة أيام فقط إلى مقره، وأكد له رغبته الخالصة في أن يحميه من هجوم أعدائه الهائجين. وأصدر الأوامر أن تنصب خيمته المزخرفة قرب معسكره وتخصص لاستقبال ضيفه المنتظر.

وبوصول هذه الرسالة قدّمها الملاّ حسين إلى القدوس الذي أمره أن يستجيب لطلب الأمير. وأكد له القدوس قائلاً: ’لن يصيبك أي ضرر، أما أنا فسأسافر هذه الليلة بصحبة ميرزا محمد علي القزويني أحد حروف الحيّ إلى مازندران. وستكون أنت أيضًا إن شاء الله في المستقبل على رأس جماعة كبيرة من المؤمنين تتقدمكم الرايات السود وتغادر مشهد وتنضم إليّ. وسيكون اجتماعنا في أي مكان يعيّنه العلي القدير.‘

فأطاع الملاّ حسين بكل فرح وطرح نفسه على قدمَي القدوس وأكد له عزمه على تنفيذ الواجبات التي فرضها عليه بكل إخلاص. فأخذه القدوس بكل محبة بين ذراعيه وقبّل جبهته وأسلمه إلى حفظ الله القدير. وفي وقت مبكر من عصر ذلك اليوم نفسه ركب الملاّ حسين جواده المطهم وسار بوقار وهدوء إلى معسكر الأمير حمزة ميرزا حيث استقبله عبد العلي خان الذي عيّنه الأمير مع جماعة من الضباط للترحيب به وأوصلوه إلى الخيمة التي أعدت خصيصًا له.

وفي تلك الليلة نفسها استدعى القدوس ميرزا محمد باقر القائني، وهو الذي بنى بيت "البابية"، مع جماعة من أشهر أتباعه، وأمرهم أن يظهروا الطاعة التامة للملاّ حسين وأن يأتمروا بكل ما يطلب منهم عمله. وقال لهم: ’سوف تنتابنا قريبًا امتحانات شديدة، وتقترب أيام المصائب والبلايا. فتمسكوا به فإن إطاعة أمره تكون سببًا لنجاتكم.‘

وبهذه الكلمات ودّع القدوس أصحابه وارتحل مع ميرزا محمد علي القزويني من مشهد. وبعد مرور بضعة أيام تقابل مع ميرزا سليمان النوري الذي أخبره بظروف خلاص الطاهرة من حبسها في قزوين وبرحلتها باتجاه خراسان وبانتقال حضرة بهاءالله من العاصمة بعد ذلك. وبقي ميرزا سليمان وكذلك ميرزا محمد علي في صحبة القدوس حتى وصلوا

صورة 107
قرية شاهرود

إلى بدشت. وكان وصولهم إلى تلك القرية في ساعة الفجر، ووجدوا هناك جماعة كبيرة عرفوا أنهم من زملائهم المؤمنين. ومع ذلك عزموا على إكمال رحلتهم فتوجهوا مباشرة إلى شاهرود. ولما اقتربوا من تلك القرية تقابل ميرزا سليمان الذي كان سائرًا على مسافة خلفهم، مع آقا محمد حناساب الذي كان في طريقه إلى بدشت. فلما سأل الأخير عن القصد من ذلك الاجتماع، أجيب بأن حضرة بهاءالله والطاهرة قد قاما برحلتهما إلى هذا المكان، وإنهما تركا فعلاً شاهرود منذ بضعة أيام لهذا الغرض. وأن جموعًا غفيرة جاءت من إصفهان وقزوين وغيرها من مدن إيران، وينتظرون الانضمام إلى حضرة بهاءالله في رحلته إلى خراسان. فقال ميرزا سليمان: ’أخبر الملاّ أحمد إبدال الموجود في بدشت الآن أنه في نفس هذا الصباح قد أشرق عليك نور لم تقدر أن تعرفه.‘(1)

وما كاد حضرة بهاءالله يعلم من محمد حناساب بوصول القدوس إلى شاهرود، حتى عزم على الانضمام إليه، وقام في مساء ذلك اليوم إلى تلك القرية ممتطيًا جواده

________________________
(1) إشارة إلى القدوس.

ومعه الملاّ محمد المعلم النوري ثم عاد مع القدوس إلى بدشت ساعة شروق شمس اليوم التالي.

وكان الصيف قد ابتدأ، وبوصول حضرة بهاءالله، استأجر ثلاث حدائق، عيّن واحدة منها خصيصًا للقدوس وأخرى على حدة للطاهرة وخادمتها والثالثة لنفسه. وكان عدد المجتمعين في بدشت واحدًا وثمانين نفرًا، ومن وقت حضورهم إلى يوم تفرقهم كانوا جميعهم ضيوفًا على حضرة بهاءالله. وفي كل يوم كان حضرته ينزل لوحًا يعطى لميرزا سليمان النوري ليرتله في مجمع الأحباء الحاضرين. وكان يسمّي كل فرد منهم باسم جديد. وتَسمّى هو أيضًا بالبهاء، وسُمّي آخر حروف الحيّ بالقدوس، وسمّيت قرة العين بالطاهرة. وصدر لوح من حضرة الباب فيما بعد لكل من اجتمع في بدشت وصدر بالاسم الذي تسمى به أخيرًا. ولما اختار بعض زملاء الطاهرة من المحافظين على التقاليد القديمة أن يتهموها لاحقًا بعدم مراعاة تلك التقاليد أمام حضرة الباب، أجابهم بالعبارات التالية: ’ما الذي أقوله عمن أسماها لسان العظمة بالطاهرة؟‘

وشهد كل يوم من أيام ذلك الاجتماع المشهود إلغاء أحد التقاليد القديمة، وبذلك خُرقت بقوة الحجب الناشئة من تقديس الأحكام الشرعية الإسلامية، وكُسرت الأصنام التي كان يعبدها الناس عبادة عمياء كسرًا عنيفًا. إلا أنه لم يعرف أحد مصدر هذا التجديد الجريء، ولم يرتَبْ أحد باليد التي كانت تدير دفة الأمور بكل بثبات وصواب. بل إن هوية ذلك الذي منح كل شخص من المجتمعين في تلك القرية اسمًا جديدًا بقيت مجهولة لدى حاملي تلك الأسماء. وكان كل فرد يعتقد في واحد حسبما يظن ولم يدرك منهم إلا القليل بأن حضرة بهاءالله هو الذي كان مصدر جميع هذه التغييرات ذات الأثر البعيد، وأنه هو الذي حددها بلا خوف ولا وجل.

ونقل أن الشيخ أبو تراب، أحد أكثر المطلعين على طبيعة التطورات في بدشت، حكى الرواية الآتية: ﴿كان حضرة بهاءالله قد لزم الفراش ذات يوم لمرض ألمَّ به، ولما علم القدوس بمرضه أسرع لزيارته. وعندما أُدخل إلى محضر حضرة بهاءالله جلس على يمين حضرته، وسُمح لباقي الأحباء بالدخول تدريجيًا، وما كادوا يتجمعون حوله حتى دخل فجأة محمد

صورة 108
قرية بدشت

حسن القزويني رسول الطاهرة وهو الذي تسمّي حديثًا بالفتى القزويني، وأعلم القدوس بدعوة ملحة من الطاهرة ليقوم بزيارتها في الحديقة الخاصة بها. فأجابه بجرأة وحزم: ’إني قطعت نفسي عنها بالكامل وأرفض أن أقابلها.‘(1) فاستأذن الرسول بالانصراف فورًا، ثم عاد ثانيًا وأعاد الرسالة وتضرع إليه أن يلبي نداءها المستعجل وقال: ’إنها مصممة على الزيارة وإذا كنت تصمم على الرفض فإنها لابد آتية إليك.‘ ولما شاهد امتناعه عن القبول، استل الرسول سيفه ووضعه عند قدمَي القدوس وقال: ’أنا لا أرضى أن أذهب بغيرك، فاختر أحد أمرين، إما أن تصحبني إليها أو تقطع رأسي بهذا السيف.‘ فأجاب القدوس غاضبًا: ’إني أعربت عن نيتي بعدم زيارة الطاهرة وسأنفذ لك غرضك الآخر الذي اقترحته عليّ.‘

________________________

(1) وقال في "كشف الغطاء" إنه حصل اتفاق بين القدوس والطاهرة على أن الأخيرة تقوم بتفهيم الحاضرين على إن الأمر الجديد مستقل بذاته عن القديم ويتكلم عن نسخ الأحكام في الشريعة القديمة، وأن يعارضها القدوس في آرائها ويرفض ادعاءها، وكان هذا الاتفاق يلزمها لتخفيف وطأة الأمر بالتجديد واتقاء المخاطر التي يتعرضون إليها من جراء مباغتة جماعة المؤمنين واطلاعهم على مقاصد الدين الجديد (صفحة 211). وكان حضرة بهاءالله على ما يظهر متخذًا خطة الحياد في هذا النزاع ولو إنه كان هو المحرك الأول وصاحب النفوذ الحقيقي في جميع أطوار هذه الحوادث.

وبينما كان محمد حسن القزويني راكعًا أمام القدوس قرب قدميه ورقبته ممدودة لتنفيذ الضربة، وإذ بالطاهرة حضرت فجأة مزينة دون حجاب أمام أعين الأصحاب المجتمعين. وأخذت الناس الدهشة ووقفوا كلهم حائرين أمام هذا المنظر المباغت غير المنتظَر.(1) وكانوا يعتبرون أن رؤيتها غير محجبة من أكبر المحال، بل يعتقدون أن النظر إلى ظلها غير جائز لأنهم يعتبرونها تجسيد فاطمة الزهراء ورمزًا للعصمة والطهر في نظرهم.(2)

فتقدمت الطاهرة بسكون وصمت ووقار تام نحو القدوس وجلست إلى يمينه. وكان سكونها التام يتناقض تمامًا مع الخوف الظاهر على وجوه ناظريها، فاضطربت أركانهم واستولى على أرواحهم الرعب والغضب والحيرة، وبدا أن هذا الظهور المفاجئ صدم حواسهم. وارتعش أحدهم المدعو عبد الخالق الإصفهاني بعنف وقطع حنجرته بيده وفرّ هاربًا من وجه الطاهرة مغطى بدمه وهو يصرخ بهيجان. وفعل قليل من أقرانه مثله وتركوا أصحابهم وتخلوا عن إيمانهم. وشوهد عدد منهم واقفين أمامها بلا حراك متحيرين من أمرهم. وفي هذه الأثناء بقي القدوس جالسًا في مكانه قابضًا على سيفه المسلول وعلى وجهه علائم الغضب الشديد. وبدا كأنه ينتظر فرصة ليضرب الطاهرة الضربة القاضية.

إلا أن منظره المهدد لم يحركها، بل كان يعلو وجهها الوقار والثقة التي ظهرت بها عند ابتداء دخولها أمام حشد الأحباء. وأضاء وجهها الآن شعور الفرح والغبطة والنصر ونهضت عن مقعدها وخاطبت الباقين من هذا الجمع غير وجلة ولا مهتمة بما حصل في قلوب أصحابها على البداهة ودون سابق تفكير، وبلسان له شبه كبير بلغة القرآن ألقت خطابتها

________________________

(1) ’وكان التأثير مدهشًا مخيفًا. فخبأ البعض وجوههم بأيديهم ووضع آخرون رؤوسهم تحت عباءاتهم حتى لا ينظروا وجه الطاهرة فإنه إذا كان النظر إلى وجه أجنبية محرمًا فكيف النظر إلى وجه الطاهرة الصديقة... وانتهى الاحتفال بهياج لا يوصف ووقعت الشتائم على خطابة امرأة لا حياء عندها لتظهر في الجمع عارية الوجه وظن البعض أنها جُنّت. وقال آخرون إنها لوقاحة ولم يوافق على عملها سوى القليل.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 283-284)

(2) يعني فاطمة بنت الرسول، زوجة الإمام علي.

ببلاغة ليس لها مثيل وحماس شديد وختمتها بآيتين من القرآن الكريم: "إن المتقين في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر."(1) وكانت أثناء تلاوة هذه الآية تنظر خلسة إلى حضرة بهاءالله والقدوس معًا بحيث لا يقدر الحاضرون على تعيين من منهما كانت الطاهرة تعني بهذا القول. ثم قالت: ’إني أنا الكلمة التي ينطق بها القائم والتي يفرّ منها نقباء الأرض ونجباؤها.‘(2)

ثم أدارت وجهها إلى القدوس ولامته لأنه فشل في خراسان في تنفيذ الأمور التي رأت أنها أساسية لمصلحة أمر الله. فأجابها: ’إني حرّ أن أتبع ما يمليه عليّ ضميري ولست مقيدًا بآراء وإرادة أصحابي.‘ ثم أشاحت الطاهرة وجهها عنه وطلبت من الحاضرين أن يحتفلوا بهذه المناسبة السعيدة بما يليق بها، وقالت: ’إن هذا اليوم يوم عيد وسرور عام وهو اليوم الذي فيه تُحطم قيود الماضي. فليقُم أولئك الذين اشتركوا في هذا الانتصار العظيم ويعانقوا بعضهم بعضًا.‘﴾

وكان ذلك اليوم التاريخي والأيام التي تلته مباشرة قد شهدت أعظم التغييرات الثورية في حياة أتباع حضرة الباب المجتمعين وعاداتهم. فتغيرت طريقة العبادة تغييرًا فجائيًا جذريًا. وطرحت العبادات القديمة التي كان المتعبدون المخلصون يتبعون نظامها طرحًا أبديًا. وحصل اضطراب عظيم بين الذين قاموا على نشر هذا الإصلاح بكل جهدهم. وكانت قلة منهم لا توافق على حصول مثل هذا التغيير الأساسي، وظنوا إنه عين الكفر وامتنعوا أن ينسخوا ما يعتبرونه من أحكام الإسلام التي لا تُنسخ. وطائفة اعتبرت أن قول الطاهرة هو الفصل في مثل هذه الأحوال، وأن طاعتها واجبة على جميع المؤمنين. وكان هناك آخرون ممن امتعضوا من تصرفها ووقفوا مع القدوس واعتبروه الممثل والنائب عن حضرة الباب والوحيد الذي يحق له أن يحكم في مثل هذه الأمور الخطيرة. ونظر فريق يؤيد سلطة القدوس والطاهرة معًا إلى الحادثة بأجمعها على أنها امتحان إلهي لفصل الصادقين من الكاذبين والمؤمنين عن الكافرين.

________________________
(1) سورة القمر، الآيتين 54-55.
(2) انظر الصفحة 13 من هذا الكتاب.

وتجرأت الطاهرة في بعض الأحيان برفض الاعتراف بسلطة القدوس، وروي أنها قالت: ’إني أعتبر القدوس تلميذًا أرسله إليّ حضرة الباب لتعليمه وتهذيبه. ولا أنظر إليه بنظر آخر.‘ ولم يمتنع القدوس بدوره أن يتهم الطاهرة أنها "صاحبة هذه البدعة"، وادعى أن الذين يدعون إلى رأيها وقعوا "ضحية الخطأ". واستمرت حالة التوتر هذه بضعة أيام إلى أن توسط حضرة بهاءالله، وبأسلوبه البارع وفّق بينهما تمامًا ولمّ شعثهما ولأم الجرح الذي سببه هذا الهياج والنزاع الحاد ووجّه همّة كل منهما إلى طريق الخدمة المنتجة.(1)

صورة 109
الهودج الفارسي
________________________

(1) ’وكانت هذه الجسارة التي وقعت من قرة العين هي التي زعزعت أسس الأحكام الإسلامية في إيران يضاف إلى ذلك أن ثمرة تعليم قرة العين الأولى لا تقل عن تعليم القدوس من حيث الشجاعة، وأن استنارتها الباطنية ربما أخذتها من بهاءالله وطبعًا إن افتراض غضب أغلب وأكبر أصحابها من عملها وعزمهم على توبيخها إنما كان من قبيل المباسطة اللطيفة.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحتان 103-104)

وحصل المقصود من هذا الاجتماع المشهود،(1) لأن النداء بالنظام الجديد كان بمثابة النفخ في الصور، فمسحت التقاليد العقيمة المجمع عليها والتي كانت تقيد ضمائر الناس ومحيت بكل جسارة وبلا وجل. فتهيأ الطريق لإعلان الأحكام والقواعد التي جاء بها الأمر الجديد. وعزم الباقون من الجمع المحتشد في بدشت على الرحيل إلى مازندران. ورحل القدوس مع الطاهرة في هودج واحد أعدّه لسفرهما حضرة بهاءالله. وفي طريقها كانت الطاهرة تنظم قصيدة كل يوم وتأمر الأصحاب أن ينشدوها أثناء سيرهم خلف الهودج، وكانت الجبال والأودية تردد أصوات تلك العصبة المتحمسة وأناشيدها أثناء السفر إيذانًا بمحو القديم وبعث اليوم الجديد.

واستغرقت رحلة حضرة بهاءالله في بدشت اثنين وعشرين يومًا، وأثناء سفرهم إلى مازندران أراد بعض أتباع حضرة الباب أن يسيئوا استعمال الحرية التي نتجت عن نسخ الشرائع القديمة، وظنوا أن في طرح الطاهرة للحجاب إشارة منها للتجاوز عن حدود الأدب وإشباع النزوات الأنانية. وسبّب هذا التعدي الواقع من تلك القلة غضب المقتدر القدير وتسبب في تفريقهم وتشتيتهم. ففي قرية نيالا امتُحنوا امتحانًا شديدًا وأصيبوا بأضرار

________________________

(1) ’وقيل إن الغرض من هذا الاجتماع تخليص الباب ونقله إلى مكان آمن، ولكن الرأي المعول عليه إنه كان لوضع حد بين الإسلام والأمر الجديد وهو ما ينطبق على المعقول.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحة 80) ’وكان الغرض من المؤتمر تصحيح خطأ شائع فكان الكثيرون يعتقدون أن القائم الجديد إنما جاء ليتمم الأحكام الإسلامية، فكانوا يظنون أن مهمة محمد (ﷺ) هي لأجل إصلاح العالم بالعدل والأمن وإن ذلك لا يتم إلا بسفك الدماء والاعتماد على مساعدة الأحكام الإلهية. وأما الباب فكان على العكس من ذلك يتحرك مع تلامذته في طريق الإقناع الأدبي، فكان سلاحه سيف الروح وهو كلمة الله. وإنه إذا ظهر القائم تتجدد جميع الأشياء. ولكن القائم كان على وشك الظهور وكان لابد من تهيئة الأمور لظهوره ولا يصح أن يكون هناك فارق بين الأجناس والأقوام المختلفة. ولا بين الرجل والمرأة. وأن لا يكون الحجاب عنوان انحطاط المرأة. ولقد أوجدت تلك المرأة ذات المواهب الجليلة حلاً لشؤون المرأة... وقد قيل في إحدى الروايات إنها (أي قرة العين) بنفسها حضرت المؤتمر لابسة القناع وإذا كان الأمر كذلك فإنها ما لبثت أن صاحت في الجمع الحاشد: ’’إني أنا صوت الصافور والنداء الذي ينفخ في الصور أن انتبهوا أيها النائمون...‘‘ وقيل أن بهاءالله أتبع خطاب هذه المرأة الشجيعة بتلاوة "سورة القيامة". فلمثل هذه التلاوات تأثير قوي شديد. والمعنى المقصود من كل ذلك أن العالم ابتدأ يدخل في دورة جديدة دنيوية وكان من الضروري لها وجود قوانين وأحكام وقواعد جديدة.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحات 101-103)

جسيمة على أيدي أعدائهم. وأطفأ هذا التشتيت الشرور التي حاول إشعالها ذلك النفر القليل من غير المسئولين من بين أتباع أمر الله، وصان شرفه وسمعته في نقاء وصفاء.

وسمعت حضرة بهاءالله نفسه يصف الحادثة كما يلي: ’كنّا مجتمعين في بلدة نيالا ونزلنا للإستراحة في سفح جبل، وفي ساعة الفجر استيقظنا فجأة على صوت الأحجار التي رشقنا بها المجاورون، وكانوا يرموننا بها من أعلى الجبل. واشتد هجومهم علينا حتى التجأ أصحابنا إلى الهرب مرعوبين مذعورين. فألبستُ القدوس ملابسي وأرسلته إلى محل آمن وعزمت على اللحاق به، ولما وصلت إليه وجدته قد ارتحل عنه. ولم يبقَ أحد في نيالا سوى الطاهرة وشاب من شيراز يدعى ميرزا عبد الله. وكان عنف الهجوم الذي شن ضدنا قد أوقع الخراب في مخيمنا. ولم أجد أحدًا أسلم له الطاهرة سوى ذلك الشاب الذي أظهر في تلك المناسبة بسالة وعزمًا مدهشيْن. وإذ أمسك بسيفه غير هيّاب ولا وجل من هجوم السكان الوحشي الذين أسرعوا لنهب أمتعتنا، اندفع قدمًا لمنعهم عن مقصدهم. ومع أنه جرح في مواضع كثيرة من جسمه، ولكن أبى إلا أن يخاطر بحياته لصيانة أموالنا رغم أني أمرته بالكف عن ذلك. فلما هدأ الاضطراب تقدمت إلى بعض سكان القرية وأقنعتهم بقسوة عملهم المخجل ونجحت في إعادة جزء من أموالنا المنهوبة.‘

واتجه حضرة بهاءالله مع الطاهرة وخادمتها إلى نور، وعيّن الشيخ أبو تراب لحراستها وضمان سلامتها. وكان مثيرو الشغب في تلك الأثناء يسعون في إشعال غضب محمد شاه ضد حضرة بهاءالله. وادّعوا بأنه أكبر مثير للقلاقل التي وقعت في شاهرود وفي مازندران، ونجحوا أخيرًا في حمل الشاه على إصدار الأمر بالقبض عليه. ويحكى أن الشاه قال غاضبًا: ’لقد امتنعت للآن أن أصدق ما كان يقال ضده اعترافًا مني بالخدمات التي أسداها والده لوطني، ولكني هذه المرة عزمت على إعدامه.‘

وبناء عليه أمر أحد ضباطه في طهران أن يطلب من نجله المقيم في مازندران أن يقبض على حضرة بهاءالله ويرسله إلى العاصمة. ووصل هذا الأمر لنجل الضابط في اليوم السابق على اليوم الذي أعده للاحتفال بحضرة بهاءالله، لأنه كان من أخص محبيه. فاستاء من ذلك ولكنه لم يفض بالخبر لأحد. ولحظ حضرة بهاءالله في وجهه آثار الحزن، فنصحه

أن يوكل أمره إلى الله. وفي اليوم التالي بينما كان حضرة بهاءالله يصحب صديقه إلى منزله، وإذا بفارسٍ آتٍ من جهة طهران، وبعد حديث قصير بين الصديق والفارس صاح الأول بلهجة مازندران قائلاً: ’إن محمد شاه توفي.‘ ثم أخرج الأمر الملكي ليراه حضرة بهاءالله. فزال أثر الأمر سالف الذكر وصرف ذلك الصديق ليلته في صحبة ضيفه في جو من الهدوء والفرح.

وفي هذه الأثناء وقع القدوس في يد أعدائه وحبس في ساري في منزل ميرزا محمد تقي رئيس المجتهدين في تلك البلدة. أما باقي رفاقه فتفرقوا بعد حادثة نيالا في جهات متفرقة وحمل كل منهم أخبار الحوادث العظيمة التي وقعت في بدشت ليخبر بها أقرانه من المؤمنين.

***
الفصل السابع عشر
حبس حضرة الباب في قلعة چهريق
صورة 110
قلعة چهريق

وقعت حادثة نيالا في وسط شهر شعبان سنة 1264ﻫ.(1) وفي أواخر ذلك الشهر نقل حضرة الباب إلى تبريز وفيها تحمل على يد ظالميه أذىً شديدًا وضررًا مشينًا. وصادف هذا التوهين المتعمد من كرامة حضرة الباب، مع هجوم أهالي نيالا على حضرة بهاءالله

________________________
(1) 3 يوليو/تموز - أول أغسطس/آب سنة 1848م.

وأصحابه. فأحدهما رجم بالحجارة من قبل أناس جهلة مشاكسين، وجُلد الآخر على يد عدوٍ قاسٍ خائن.

وأعود الآن لسرد الحوادث التي أدت للإهانة البغيضة التي اختارها أعداء حضرة الباب ومضطهدوه للإيقاع به. فإنه نقل بناء على أوامر الحاج ميرزا آقاسي إلى قلعة چهريق(1) وسلّم لحراسة يحيى خان الكردي الذي كانت أخته زوجة محمد شاه وهي والدة نائب السلطنة. وكان الوزير الأكبر قد أصدر التعليمات المشددة الصريحة إلى يحيى خان يأمره فيها أن لا يصرّح لأحد أن يدخل محضر سجينه، ونبّه عليه خصيصًا أن لا يقتفي أثر علي خان الماه كوئي الذي تدرج في مخالفة الأوامر التي تسلمها.

ورغمًا عن صرامة الأمر الصادر إليه، وفي وجه المعارضة الشديدة من الحاج ميرزا آقاسي صاحب النفوذ والسلطان، وجد يحيى خان نفسه عاجزًا عن تنفيذ تلك التعليمات. فسرعان ما شعر هو الآخر بقوة سجينه السحرية وما أن اتصل بروح حضرته حتى نسي الواجب الذي كان متوقعًا منه تأديته. فمن البداية نفذت محبة حضرة الباب إلى قلبه وهيمنت على وجوده بالكامل. وكذا الحال مع الأكراد الذين يقطنون في چهريق، والذين يزيد تعصبهم وبغضهم للشيعة عن أكراد أهل ماه كو، فإنهم وقعوا جميعهم تحت تأثير حضرة الباب المقلّب. ووصلت المحبة التي أشعلها حضرته في قلوبهم لدرجة أنهم في كل صباح، قبل أن يبتدئوا أعمالهم اليومية، كانوا يوجهون خطاهم ناحية سجنه(2) وينظرون من بعد إلى القلعة التي تحتضن شخصه المحبوب، ثم يتضرعون باسمه ويستنزلون البركات منه ويسجدون على الأرض طالبين إحياء أرواحهم بذكراه. وكانوا يخبرون بعضهم بعضًا بكل حرية بالعجائب التي شاهدوها من قوته ومجده، ويقصّون رؤآهم التي تشهد بقوة تأثير خلاّقيته. ولم يرفض

________________________

(1) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 14، في الترجمة العربية) أن الباب مكث ثلاثة أشهر في قلعة چهريق قبل نقله إلى تبريز لاستنطاقه.

(2) ’وكان الباب قد وضع في حبس چهريق وشدد عليه في هذا الحبس أكثر من ماه كو لذلك كان يدعو الأول بجبل شديد (عدد "شديد" 318 وهو يوافق في العدد "چهريق"، وسمى ماه كو "باسط").‘ ("مقالة سائح"، الصفحة 276، الحاشية ل)

يحيى خان دخول أي شخص إلى القلعة.(1) ولما كانت چهريق تضيق مساكنها عن أن تسع كل الزوار الذين كانوا يهرعون إلى بواباتها، لذلك كان الأحباء يجدون المأوى في "إسكي شهر" وهي چهريق القديمة وتقع على مسافة ساعة من القلعة، وكانت احتياجات حضرة الباب تُشترى من تلك البلدة القديمة وتنقل إلى سجن حضرته.

وذات يوم طلب حضرة الباب شراء عسل له، ولكن الثمن الذي دُفع بدا له باهظًا، فلم يقبل شراءه، وقال: ’إن العسل الجيّد يمكن شراؤه بقيمة أقل من هذه، وأنا الذي أكون الآن مقتداكم كنت تاجرًا من قبل. فعليكم أن تقتدوا بي في سائر معاملاتكم فلا تغشوا جيرانكم ولا تسمحوا لهم أن يغشوكم. هذا هو طريق مولاكم. فلم يتمكن أمهر الناس ولا أمكرهم أن يغشه، وكذلك لم يقبل هو من جهته أن يعامل أقل مخلوق وأضعفه معاملة لا تتصف بالشهامة والكرم.‘ وأصرّ أن يُعيد الخادم المشتري العسل ويأتيه بآخر أجود صنفًا وأقل ثمنًا.

وحصلت حوادث ذات طبيعة مفزعة أقلقت راحة الحكومة أثناء سجن حضرة الباب في قلعة چهريق. واتضح سريعًا أن جمعًا غفيرًا من أشهر أشراف "خوي" وعلمائها ومسؤوليها الحكوميين اعتنقوا أمر المسجون وأصبحوا من أخص أتباعه. وكان من بينهم ميرزا محمد علي وأخوه بيوك آقا وكلاهما من الأشراف الممتازين من الذين قاموا لنصرة أمر الله وأبلغوه لمواطنيهم من كل الأجناس والخلفيات بحماس وعشق. وكان هناك سيل متدفق من طلبة الحقيقة والمؤمنين الثابتين يتحرك جيئة وذهابًا ما بين خوي وچهريق.

وحدث في ذلك الحين أن أحد المسؤولين المرموقين، ممن عرف بالمقدرة الأدبية الفائقة واسمه ميرزا أسد الله، والذي سمّاه حضرة الباب فيما بعد ﺑ"الديّان"، والذي كان

________________________

(1) وهناك كما في كل مكان التف الناس حوله. وكتب السيد موشنين في مذكراته عن الباب: ’في شهر يونيو/حزيران سنة 1850م (أليست على الأرجح سنة 1849م ؟) ذهبت إلى چهريق لأعمال تخص وظيفتي ورأيت البالاخانة التي كان الباب يبلغ رسالته من على سطحها. وازداد تجمع الناس حولها حتى ملأوا المكان والفناء الذي أمامه وكان أغلب المستمعين الذين لم يجدوا مكانًا يقفون في الشوارع ينصتون إلى آيات القرآن الجديد. ثم بعد قليل من الزمن نقل الباب إلى تبريز لإعدامه.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 371)

استنكاره العنيف لدعوة حضرة الباب قد حيّر أولئك الذين سعوا لتبليغه، رأى رؤيا. ولما استيقظ قرر ألا يرويها لأحد، واختار في نفسه آيتين من القرآن الكريم، وأرسل لحضرة الباب الطلب التالي: ’إني قد رتبت في عقلي ثلاثة أمور وأطلب منك أن تكشف لي عن طبيعتها.‘ وطلب من ميرزا محمد علي أن يسلم ذلك الطلب الكتابي إلى حضرة الباب. وبعد بضعة أيام جاءه الجواب بخط يد حضرة الباب، وكشف له فيه بشكل كامل ظروف تلك الرؤيا وكشف عن نص الآيتين حرفيًا. وسببت دقة تلك الإجابة تحولاً مفاجئًا. ومع إنه لم يكن معتادًا على المشي فقد أسرع ميرزا أسد الله وارتقى ماشيًا ذلك الطريق السحيق الحجري المؤدي إلى القلعة من خوي. وأراد أصحابه إقناعه أن يمتطي جوادًا إلى چهريق، فلم يقبل عرضهم وفضل السير. ولما تقابل مع حضرة الباب ثبت يقينه وأشعلت المقابلة فيه حماسًا شديدًا استمر إلى آخر أيام حياته.

وفي تلك السنة أبدى حضرة الباب رغبته بأن يقوم كل واحد من أربعين من أصحابه بكتابة رسالة يثبت فيها صحة الأمر مستندًا إلى الآيات والأحاديث. فاستجابوا لرغبته حالاً وعرضوا نتيجة أعمالهم في محضره، فنالت رسالة ميرزا أسد الله إعجاب حضرة الباب التام وكانت أعلاها جميعًا في تقديره، فأعطاه حضرة الباب لقب الديّان وأنزل في حقه "لوح الحروفات" الذي جاء فيه البيان التالي: ’لو لم يكن لدى "نقطة البيان"(1) دليلاً على صحة أمره سوى هذا اللوح، الذي لن تقدر كل العلوم أن تظهر مثله، لكفى.‘

ولما لم يفهم أهل "البيان" الغرض المقصود من هذا اللوح ظنوا أنه مجرد تفصيل لعلم الجَفر.(2) وفي السنين اللاحقة وفي أوائل أيام حضرة بهاءالله في سجن عكاء، طلب منه "جناب المبلّغ" من شيراز أن يظهر أسرار ذلك اللوح. فنزل من قلمه تفسير له يحق للذين لم يفهموا كلمات حضرة الباب أن يتدبروه، وقد بيّن حضرة بهاءالله البراهين الساطعة الدالة على ضرورة ظهور "من يظهره الله"(3) من تفسير كلمات حضرة الباب في ذلك

________________________
(1) أحد ألقاب حضرة الباب.
(2) علم العِرافة والنبوءة.
(3) إشارة إلى حضرة بهاءالله.

اللوح، وإن ظهوره يكون قبل مضي تسعة عشر سنة من إعلان دعوة حضرة الباب. وكان سر المستغاث موضع حيرة وعجب لأهل "البيان"، حتى لأشدهم ذكاء وأكثرهم علمًا، وثبت بأنه عقبة كأداء أمام إدراكهم وعرفانهم للموعود. وفي اللوح المذكور كشف حضرة الباب بنفسه ذلك السر، وإن لم يستطع أحد أن يفهم المقصود من الشرح الذي كتبه. فكان أن كشف حضرة بهاءالله ذلك اللغز لأنظار كل البشر.

وأظهر ميرزا أسد الله حماسًا لا يكل حمل والده أن يلتجئ إلى الحاج ميرزا آقاسي صديقه الحميم ويخطره بظروف اعتناق ابنه الأمر الجديد وينبهه إلى إهماله لواجباته التي ألقتها الدولة على عاتقه. وأطنب في الحديث عن توق مثل هذا الخادم الحكومي المقتدر لخدمة مولاه الجديد وبما تكللت به مجهوداته من نجاح.

وكان من دواعي قلق الحكومة أيضًا أن درويشًا حضر من الهند إلى چهريق، وبمجرد أن قابل حضرة الباب اعترف بصحة رسالته. وكان كل من يقابل ذلك الدرويش، الذي سمّاه حضرة الباب "قهر الله" أثناء إقامته القصيرة في إسكي شهر، يشعر بحرارة حماسه ويتأثر تأثرًا عميقًا من قوة يقينه. وتعاظم عدد المأخوذين بشخصيته واعترفوا طواعية بقوة إيمانه القاهرة. كان تأثيره عليهم لدرجة أن قلة من المؤمنين اعتبروا أنه مبين للوحي الإلهي، ولو إنه أنكر مثل هذا الادعاء. وسمع مرارًا يروي الآتي: ’في الأيام التي كنت أشغل فيها وظيفة نواب المرموقة في الهند، ظهر لي حضرة الباب في الرؤيا وحدق فيّ فانجذب قلبي إليه تمامًا. ونهضت وبدأت أتبعه عندما التفت ونظر إليّ بإمعان وقال: ’’تخلص من ملابسك الفخمة واهجر موطنك وأسرع سيرًا على قدميك لمقابلتي في آذربيجان وفي چهريق تحصل على مرغوب قلبك.‘‘ فاتبعت أمره حتى وصلت إلى بغيتي.‘

ووصلت إلى تبريز أخبار الهياج الذي وقع بين رؤساء الأكراد في چهريق بتأثير هذا الدرويش المسكين. وانتقلت الأخبار منها إلى طهران أيضًا وما كادت تصل إليها حتى صدر الأمر بنقل حضرة الباب حالاً إلى تبريز وذلك بأمل تهدئة الاضطراب الذي أثارته إقامته المستمرة في تلك الأنحاء. وقبل وصول أنباء هذا الأمر الجديد كان حضرة الباب قد أمر "عظيم" أن يخبر قهر الله برغبته في أن يعود إلى الهند وهناك يخصص حياته

لخدمة أمره الإلهي، وأمره قائلاً: ’وكما جاء وحيدًا سيرًا على الأقدام يعود من حيث أتى بالإخلاص نفسه والمحبة ذاتها اللذين وسما حجه إلى هذه البلاد. عليه أن يعود إلى موطنه وأن لا يألُ جهدًا في نشر الأمر وتحقيق مصالحه.‘ وكذلك أمره أن يخبر ميرزا عبد الوهاب الترشيزي الذي كان قاطنًا في خوي أن يذهب توًا إلى أروميه ليقابله (حضرة الباب) هناك قريبًا. وقد أمر "عظيم" أن يتجه إلى تبريز وهناك يخطر السيد إبراهيم الخليل عن قرب وصوله (حضرة الباب) إلى تلك المدينة. وأضاف حضرة الباب: ’أخبره أن نار النمرود سوف تشتعل في تبريز قريبًا ولكن رغمًا عن شدة لهيبها فلا يصيب أصحابنا منها أي أذى.‘

وما كاد قهر الله يتسلم الأمر من مولاه حتى قام لتنفيذ رغباته، فكان يقول لكل شخص يريد مرافقته في الطريق: ’إنك لن تقدر أن تتحمل متاعب السفر وامتحاناته، فاترك العزم في التوجه معي لأنك ستهلك حتمًا في الطريق، كما أن حضرة الباب قد أمرني أن أعود وحدي إلى موطني.‘ وكانت قوة إجابته الحازمة قد أسكتت الذين رجوه أن يسمح لهم بالسفر معه. ولم يقبل أن يأخذ أي نقود أو ملابس من أحد. ورجع قافلاً إلى وطنه فريدًا سائرًا على الأقدام وعصاه في يده ولم يعلم أحد ماذا أصابه في النهاية.

وكان محمد علي الزنوزي الملقب ﺑ"الأنيس" ضمن الذين سمعوا برسالة حضرة الباب في تبريز وتأججت فيه نيران الشوق للإسراع إلى چهريق للقائه، وأشعلت فيه تلك الكلمات شوقًا لا يقهر ليضحي بنفسه في سبيله. وعارض السيد علي الزنوزي زوج أمه، وهو من أعيان تبريز، تركه للمدينة. وتمكّن في النهاية من حبسه في المنزل وتشديد المراقبة عليه. فهزل الابن في الحبس إلى أن حان الوقت الذي فيه وصل محبوبه إلى تبريز ثم أعيد ثانية إلى سجنه في چهريق.

وسمعت الشيخ حسن الزنوزي يروي ما يأتي: ﴿في الوقت الذي أذن فيه حضرة الباب لعظيم بالخروج من محضره، أمرني حضرته أن أجمع كل ما توفر من الألواح التي نزلت أثناء الحبس في قلعتَي ماه كو وچهريق وأن أسلمها ليد السيد إبراهيم الخليل الذي كان وقتها موجودًا في تبريز وأن أحثه على إخفائها والمحافظة عليها بحرص.

وأثناء إقامتي في تلك المدينة، كنت كثيرًا ما أزور السيد علي الزنوزي، الذي كان من أقربائي، وأسمعه يندب حظ ابنه(1) المحزن، فكان يشكو بحرقة قائلاً: ’يظهر أنه فقد رشده وقد جلب عليّ العار بسلوكه، فاجتهد في أن تقنعه أن يخفي اعتقاده وتهدئ روع قلبه.‘ وفي كل يوم زرته (الابن) كنت أرى دموعه تجري دومًا من عينيه. ولما رحل حضرة الباب عن تبريز ذهبت يومًا لرؤيته، فتعجبت من منظره لأني رأيت أمارات الفرح بادية على وجهه وتهلل وجهه اللطيف بشرًا عندما تقدم للقائي وقال لي وهو يعانقني: ’إن أعين محبوبي قد نظرت هذا الوجه ورأت عيناي طلعته. فدعني أحكي لك سر سروري، فبعد أن أعيد حضرة الباب إلى چهريق وبينما أنا محبوس في غرفتي وجهت قلبي إليه وناجيته قائلاً: ’’ترى يا محبوبي أسري وعجزي وتعلم كم أحن شوقًا للنظر إلى وجهك. فارفع بأنوار طلعتك هذه الظلمة التي تخيم على قلبي.‘‘ فكم من دموع الألم الموجع سكبت في تلك الساعة! وغلب عليّ التأثر بدرجة أحسست كأني فقدت شعوري. وفجأة سمعت صوت حضرة الباب يناديني ويأمرني بالقيام. ورأيت جلال طلعته إذ ظهر أمامي. وابتسم وهو ينظر في عينَي، فاندفعت نحوه وطرحت نفسي على قدميه. فقال لي: ’’افرح فإن الساعة قادمة عندما أُعلّق فيها أمام أعين الجماهير في هذه المدينة نفسها وأقع ضحية لنار الأعداء. ولن أنتخب أحدًا خلافك ليشاركني في تجرع كأس الشهادة، وتأكد أن هذا الوعد الذي أعدك به سيتحقق.‘‘ وسحرت من جمال تلك الرؤيا. ولما صحوتُ وجدتُ نفسي غريقًا في بحر من السرور الذي لن تحجب بريقه أبدًا كل أحزان العالم. ولا يزال ذلك الصوت يرنّ في أذني. وتلازمني هذه الرؤيا في الليل وفي النهار. إن ذكرى تلك الابتسامة فائقة الوصف أنستني عزلة حبسي وأصبح اعتقادي يقينًا بأن الساعة التي ضمنها لي لتحقق الوعد لا تتأخر بعد ذلك.‘ فنصحته بالصبر وكتمان مشاعره، فوعدني أنه سوف لن يبوح بذلك السر، وتعهد أن يسلك مع السيد علي، بالرفق والأناة. وأسرعت إلى الأب لأخبره عن تصميم الشاب ونجحت في فكّ أسره. واستمر هذا الشاب إلى يوم شهادته في حالة من الفرح

________________________
(1) أو بالأصح ابن زوجته.

والسكون التام مع والديه وأقربائه. واستمر على هذا المنوال في سلوكه نحو الأصحاب والأقارب، حتى إنه في اليوم الذي ضحى فيه بحياته لأجل محبوبه كان أهل تبريز جميعهم يندبونه ويبكونه.﴾

***
الفصل الثامن عشر
التحقيق مع حضرة الباب في تبريز

وكان حضرة الباب عالمًا بدنوّ خاتمة حياته ولذلك فرّق تلاميذه الذين تجمعوا في چهريق وانتظر الأمر باستدعائه إلى تبريز بالتسليم والرضا. ورأى الذين تسلموا حراسته أن من الحكمة عدم مرورهم به في بلدة خوي التي تقع في طريقهم إلى عاصمة آذربيجان. وعزموا على سلوك طريق أروميه تجنبًا للتظاهرات المتوقع أن يقوم بها أهالي خوي المنفعلين احتجاجًا على طغيان الحكومة. ولما وصل حضرة الباب إلى أروميه استقبله مَلِك قاسم ميرزا استقبالاً رسميًا وأكرم وفادته للغاية. وفي محضر حضرته أظهر الأمير احترامًا فائقًا ورفض السماح لأي كان ممن يسمح لهم بمقابلة حضرته أن يعامله بغير الاحترام.

وذات يوم جمعة بينما كان حضرة الباب ذاهبًا إلى الحمّام العمومي، أراد الأمير أن يمتحن شجاعة ضيفه وقوته، فأمر سائسه أن يسرج لحضرته أصعب الجياد مراسًا. ولعلم الخادم بالضرر الذي ربما يلحق بحضرة الباب، اقترب منه ونبّهه سرًا أن لا يقبل امتطاء الجواد لأنه طرح سابقًا أشجع الفرسان وأمهرهم. فكان جوابه له: ’لا تخَف! اعمل كما أُمِرت واتركنا لحفظ الله وحراسة المولى القدير.‘ وكان أهل أروميه قد علموا بغرض الأمير فاجتمعوا في الميدان العمومي متلهفين لمشاهدة ما يحصل لحضرة الباب، ولما جاءوه بالجواد اقترب منه باطمئنان وهدوء وأخذ اللجام من يد السائس وربته بلطف ثم وضع رجله في الركاب. فوقف الجواد دون حراك كأنه شاعر بالقوة المهيمنة عليه. فدهش الجمهور الذي راقب ذلك المشهد الغريب من مسلك الجواد. ولضعف عقولهم

ظهرت لهم هذه الحادثة العجيبة شبه معجزة. فأسرعوا في حماسهم لتقبيل ركاب حضرة الباب، ولكن خدّام الأمير منعوهم من ذلك حرصًا على أن مثل هذا الهجوم ربما يحصل منه ضرر لحضرته. وكان الأمير الذي رافق حضرة الباب ماشيًا على قدميه إلى جوار الحمّام، قد أمره حضرة الباب قبل الوصول إلى المدخل بالعودة إلى منزله، وكان خدّام الأمير يفسحون الطريق أمامه طول المسافة لكثرة الازدحام الحاصل من الذين حضروا لالقاء نظرة على حضرة الباب، وعند وصوله صرف الخدم عدا خادم الأمير الخاص والسيد حسن الذي مكث في الغرفة المجاورة وساعده في خلع الملابس. وعند عودته من الحمّام امتطى الجواد نفسه وهلّلت له الجماهير نفسها. وجاء الأمير ماشيًا لمقابلته ورافقه إلى منزله.

وما كاد حضرة الباب يغادر الحمام حتى هجم أهالي أروميه وتقاسموا الماء الذي استعمله في وضوئه إلى آخر قطرة، وحصل في ذلك اليوم هياج عظيم. فلما شاهد حضرة الباب علائم هذا الحماس المتحرر تذكّر الحديث المشهور المنسوب للإمام علي أمير المؤمنين الذي أشار فيه إلى آذربيجان وورد في فقراته الأخيرة أن بحيرة أروميه سوف يغلي ماؤها ويفيض على ضفافها ويغمر المدينة. ولما أخبروا حضرته بأن غالبية السكان اعتنقوا أمره دفعة واحدة، أجاب بهدوء: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون."(1) وقد تأيّد هذا البيان بمسلك السكان أنفسهم نحوه حين بلغهم خبر المعاملة المفجعة التي عومل بها في تبريز. فلم يستقم على الأمر منهم إلا القليل رغم إجماعهم أولاً على الإيمان بمحض رغبتهم فكان ذلك امتحانًا لهم. وكان من بين الذين استقاموا على الأمر الملاّ إمام وردي، فلم يوجد أحد هناك أقوى إيمانًا منه سوى الملاّ جلال الأرومي أحد حروف الحيّ. وزادت شعلة إيمانه بالاضطهاد وتقوّى اعتقاده باستقامته على الأمر الذي اعتنقه. وأخيرًا حظي بلقاء حضرة بهاءالله واعترف برسالته فيما بعد. وجاهد في نشر أمره بنفس الأمانة التي قام بها على نشر أمر حضرة الباب. واعترافًا بخدماته على مر السنين الطويلة تشرف هو وأسرته بألواح عديدة من قلم حضرة بهاءالله وفيها امتدح أعماله ودعا

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة العنكبوت، الآية 2.
صورة 111

المنزل الذي شغله حضرة الباب في أروميه وتظهر الغرفة العليا (بالاخانه) (x) التي سكنها

بنزول البركات عليه من العلي القدير وبعزم لا ينثني استمر على العمل لإعلاء شأن الأمر حتى وصل إلى سن الثمانين وفارق هذه الحياة.

أما روايات صدور العجائب من حضرة الباب فكانت تتناقلها ألسن الذين شاهدوها من المعجبين به الذين لا يدخلون تحت حصر، وأوجدت حماسًا انتشر بسرعة مدهشة في أنحاء المملكة بأسرها. وانتقلت إلى طهران وأثارت فيها رؤساء الدين للقيام بعمل مجهودات أخرى جديدة ضده. فقد ارتعبوا من سرعة تلك الحركة التي شعروا لو أنها تركت تجري في مسارها لابتلعت المؤسسات التي ترتكز عليها سلطتهم، لا بل وجودهم نفسه. وقد رأوا دلائل الإخلاص لحضرة الباب بادية من كل الجهات وعجزوا عن إيجاد مثلها لأنفسهم، كما شاهدوا علائم ولاء جديد يضرب في جذور نسيج غزلوه ورعوه بأيديهم. ولاء فشلت كل الموارد الموضوعة تحت تصرفهم عن إطفاء شعلته.

وكانت تبريز على الخصوص تتمخض بأفجع الاضطرابات. وأهاجت أخبار قرب وصول حضرة الباب مخاوف السكان وأثارت أقسى أنواع العداء في قلوب زعماء آذربيجان الدينيين. وكان هؤلاء العلماء وحدهم من بين جميع سكان تبريز هم الذين لم يشتركوا في المظاهرة الودية التي حيوا بها رجوع حضرة الباب إلى مدينتهم. وبلغ حماس الناس لهذه الأخبار لدرجة أن الحكومة قررت أن تكون إقامة حضرة الباب خارج بوابات المدينة. ولم يتشرف بلقائه إلا الذين أراد هو مقابلتهم وأما غيرهم فحرموا من هذا الشرف.

وفي الليلة الثانية من وصول حضرة الباب، دعا عظيم إلى محضره، وأثناء محادثته معه أكد له أن دعوته إنما هي دعوة القائم الموعود، فوجده مترددًا في قبول هذه الدعوة دون قيد، ولما رأى اضطرابه الباطني قال له: ’إني باكرًا أمام ولي العهد وفي وسط الجمع الحاشد من العلماء والأعيان سوف أظهر دعوتي. وكل من يريد أن يطلب برهانًا سوى الآيات التي أنزلتها فليطلبها من قائمه الموهوم.‘

وسمعت عظيمًا يشهد بالآتي: ’كنت في تلك الليلة في اضطراب كبير وبقيت مستيقظًا متململاً إلى ساعة طلوع الشمس. وبمجرد أن صليت الصبح وجدت تغييرًا عظيمًا في نفسي حتى كأن بابًا جديدًا فتح أمام وجهي، وجاءتني الفكرة بأني لو كنت أمينًا ومطيعًا

لدين محمد رسول الله لاعترفت بدعاوى حضرة الباب دون قيد ولخضعت لكل ما يأمر به دون خوف أو تردد. وكانت هذه النتيجة التي وصلت إليها قد أزالت اضطرابي. فأسرعت إلى حضرة الباب وطلبت منه العفو والمغفرة. فقال لي: ’’إن من علائم عظمة الأمر أن أمثال عظيم يضطرب ويرتجف من قوته واتساع نطاقه.‘‘ ثم أضاف: ’’ثق أن فضل الله يمكنك أن تقوّي كل ضعيف قلب وتثبت كل متزلزل. وسيكون إيمانك قويًا على شأنٍ لو يقطّعك الأعداء إربًا إربًا رجاء أن تنقص محبتك بقدر ذرة فلا يقدرون على ذلك، وستقابل في مستقبل أيامك بالتأكيد مظهر رب العالمين وجهًا لوجه وتفرح بلقائه.‘‘ فأزالت هذه الكلمات هموم كل مخاوفي. ومنذ ذلك اليوم لم يظهر عليّ أي أثر للاضطراب ولا للخوف.‘

وكان حجز حضرة الباب خارج بوابة تبريز غير كافٍ لتهدئة الهيجان الذي ساد في المدينة. وكل تدابير الحيطة والقيود التي اتخذتها السلطات لم تزِد الموقف إلا حدة بحيث

صورة 112

ناصر الدين شاه طفلاً وميرزا أبو القاسم القائم مقام على يمينه والحاج ميرزا آقاسي على

يساره، وفي أقصى اليسار (x) منوچهر خان، معتمد الدولة

صورة 113
ناصر الدين شاه

أنذر بسوء العاقبة. وأصدر الحاج ميرزا آقاسي أوامره بدعوة فورية للرؤساء الدينيين في تبريز إلى سراي حاكم آذربيجان بهدف محدد هو استدعاء حضرة الباب لمحاكمته والبحث في أنجع السبل لإخماد تأثيره. وكان من بين المدعوين لهذا الاجتماع الحاج الملاّ محمود، المسمى نظام العلماء وكان معلم ناصر الدين ميرزا ولي العهد،(1) والملاّ محمد الممقاني وميرزا علي أصغر شيخ الإسلام وعدد من كبار علماء الشيخية والمجتهدين في الفقه.(2) وكان ناصر الدين ميرزا حاضرًا بنفسه في هذا الاجتماع. وكان رئيس الاجتماع نظام العلماء الذي ما أن بدأت الإجراءات حتى أمر، باسم المجتمعين، أحد ضباط الجيش أن يدخِل حضرة الباب. وفي تلك الأثناء اكتظ جمع غفير بالمدخل منتظرين بفروغ صبر لحظة فوزهم بنظرة إلى حضرة الباب. وكانوا يتزاحمون قدمًا بأعداد كبيرة بحيث اضطر العسكر لشق طريق لحضرته بالقوة بين الجموع المكتظة عند البوابة.

ولدى وصوله وجد حضرة الباب أن كل المقاعد مشغولة عدا واحدًا أعد لولي العهد. فألقى التحية على الجمع ودون أي تردد ذهب واحتل المقعد الشاغر. وكانت مهابة

________________________

(1) ’ولد في 17 يوليو/تموز سنة 1831م وابتدأ حكمه في سپتمبر/أيلول سنة 1848م وقتل سنة 1896م. وترك هذا الأمير طهران للانتظام في سلك الحكومة في 23 يناير/كانون الثاني سنة 1848م. ولأن والده توفي في 4 سپتمبر/أيلول من نفس السنة عاد في 18 منه ليكون شاهًا.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 243، الحاشية 195)

(2) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 14، في الترجمة العربية) زاد عليهم ميرزا أحمد إمام الجمعة.

صورة 114
ناصر الدين شاه

مشيته، وعلائم الثقة المهيمنة التي علت وجهه، وفوق كل شيء روح القوة التي أشعت من هيكله، كأنها سحقت للحظة أرواح الذين حيّاهم، وساد عليهم فجأة صمت عجيب، ولم يقدر أحد منهم أن ينطق ببنت شفة. وأخيرًا قطع نظام العلماء الصمت السائد إذ سأل حضرة الباب: ’من تدعي أن تكون؟ وما هي الرسالة التي أتيت بها؟‘ فأجاب حضرة الباب ثلاثًا: ’إني أنا الموعود، وأنا الذي دعوتموه مدة ألف سنة وتقومون عند سماع اسمه، وكنتم تشتاقون للقائه عند مجيئه وتدعون الله بتعجيل ساعة ظهوره. الحق أقول لكم إن طاعتي واجبة على أهل الشرق والغرب.‘ فلم يجرؤ أحد على الكلام سوى الملاّ محمد الممقاني وهو أحد رؤساء الشيخية الذي كان نفسه تلميذًا للسيد كاظم. وكان أستاذه السيد يئن وينوح من عدم إيمانه ويأسف لفساد أخلاقه. وروى لي الشيخ حسن الزنوزي الذي سمع تلك الانتقادات من السيد كاظم ما يأتي:

﴿كنت أتعجب كثيرًا من تعريضه بالملاّ محمد وكنت أشتاق أن أعرف مستقبل حياته وسلوكه لأرى إن كان حكم السيد كاظم عليه في محله من عدمه، فلما رأيت سلوكه نحو حضرة الباب في ذلك اليوم عرفت صدق ما أخبر به الأستاذ عن غفلته وعَماه وكبره وغروره. وكنت واقفًا مع أشخاص آخرين خارج بهو القاعة التي كانوا فيها. وتمكنت من سماع الحديث الذي جرى في الداخل. وكان الملاّ محمد جالسًا على يسار ولي العهد. وحضرة الباب جالسًا بينهما. ولما أعلن حضرة الباب أنه هو الموعود أخذ الرعب جميع الحاضرين ونكسوا رؤوسهم مرتبكين وهم سكوت، وعلت وجوههم قترة واصفرار دل

على غليان قلوبهم. وكان الملاّ محمد ذلك الأعور أبيض الذقن الغادر قد قام على توبيخ حضرته بوقاحة قائلاً: ’إنك أيها الشقي الناقص صبي شيراز قد خربت العراق والآن تريد أن تثير مثل هذا الخراب في آذربيجان.‘ فأجابه حضرة الباب: ’يا فضيلة الشيخ أنا لم أحضر هنا من تلقاء نفسي بل دُعيت إلى هذا المكان.‘ فردّ عليه الملاّ محمد بغضب: ’أسكت يا أرذل أتباع الشيطان.‘ فأجاب حضرة الباب: ’يا فضيلة الشيخ أكرر لك ثانيًا ما سبق أن قلته لك.‘

ورأى نظام العلماء أن الأحسن هو الاعتراض على رسالته علنًا. فقال لحضرة الباب: ’إن الدعوة التي تقدمها الآن هي دعوة خطيرة فيجب أن تدعمها بالدليل القاطع.‘ فأجاب حضرة الباب: ’إن أقوى دليل مقنع على صحة دعوة رسول الله هو كلامه كما دلل على ذلك بقوله: "أو لم يكفِهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب."(1) ولقد منحني الله القوة لآتي بهذا البرهان، ففي ظرف يومين وليلتين أقرر أني أقدر أن أظهر آيات توازي في الحجم كل القرآن.‘ فقال له نظام العلماء: ’إن كنت صادقًا صف لنا هذا الاجتماع شفاهة بلغة تشابه آيات القرآن، حتى أن ولي العهد والعلماء المجتمعين يشهدون بصحة دعوتك.‘ فوافق حضرة الباب على طلبه وابتدأ ينطق بهذه الكلمات: ’بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السموات والأرض.‘ فاعترض عليه الملاّ محمد الممقاني لافتًا نظره لغلطة نحوية وصاح قائلاً باحتقار: ’إن هذا القائم أظهر جهله في أول كلامه في أبسط القواعد النحوية.‘ فأجابه حضرة الباب: ’إن القرآن نفسه لا يتفق في كثير من الأحوال مع هذه القواعد السائدة بينكم، فكلمة الله لا تقاس بالحدود التي هي عند خلقه بل إن القواعد التي أوجدها الناس قد استنتجوها من كلام الله. وقد وجد هؤلاء الناس مخالفات نحوية في القرآن في أكثر من ثلاثمائة موضع مثل الموضع الذي تنتقد عليه، ولكنهم امتثلوا ولم يكن لهم بد من ذلك لأن الكلام إنما هو كلام الله.‘(2)

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة العنكبوت، الآية 51.

(2) "وإذا حصل اعتراض على النحو والصرف الواقع في الآيات فذلك الاعتراض باطل لأن القواعد يجب أن تستمد من الآيات وليست الآيات مرتبة بمقتضاها، فمما لاشك فيه أن رب الآيات قد أنكر هذه القواعد وأنكر معرفتها لأنه قائم بذاته." ("البيان" الفارسي، الجزء 1، الصفحتان 45-46)

صورة 115
مشاهير المجتهدين في إيران

ثم أعاد الكلمات التي نطق بها وانتقد عليها ثانية الملاّ محمد. وبعد ذلك تجاسر شخص آخر على إيراد السؤال الآتي لحضرة الباب: ’على أي صيغة من صيغ الأفعال تصرف كلمة اشترطن؟‘ وجوابًا عن هذا السؤال، تلا حضرة الباب الآيات القرآنية: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين."(1) ثم قام بعد ذلك وترك مجمعهم.(2)﴾

________________________
(1) سورة الصافات، الآيات 180-182.

(2) ’وأما الروايات الإسلامية التي أمامنا فليس عليها مسحة الصدق بل يظهر أنها مزورة. ومما نعلمه عن الباب، فمن الأرجح أنه تفوق عليهم في المناقشات وأن العلماء والموظفين الذين حضروا الاجتماع كانوا غير راغبين في تدوين انهزامهم وخذلانهم.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان، للدكتور چين، الصفحة 62) ’ومن الصعب الحكم على صحة الرواية الإسلامية عن المحاكمة في تبريز وقد تكون بعض الأسئلة المدونة قد وقعت فعلاً على ما فيها من القحة والقبح. وقد لا يصدر من الباب جواب عليها، فمن المعقول جدًا كما كُتب في "التاريخ الجديد" أن الباب فضّل الصمت الوقور، كما ينسبه بعض كتّاب المسلمين، على الإجابة عن الخزعبلات. وهذا يناقض ويخالف قضيتهم لأنهم اجتهدوا أن يظهروا الباب بمظهر الرجل الذي لم يكن عنده مواهب خارقة للعادة، فأظهروه بمظهر الرجل الجاهل، فيصعب تصديق ذلك بالكلية، ومما لاشك فيه أن المحاكمة كانت مهزلة والحكم عليه كان متفقًا عليه قبل المحاكمة ولم يكن لدى المجتمعين إذ ذاك ↓

وغضب نظام العلماء من الطريقة التي سلكها ذلك الجمع وسُمع يقول: ’وا أسفًا على سفاهة أهل تبريز! فما هي العلاقة بين هذه الأسئلة التافهة وبين النظر في أمثال هذه الدعوة الخطيرة؟‘ كذلك كان غيره يسفّه أحلام الذين عاملوا حضرة الباب بهذه الطريقة المعيبة المخجلة في تلك المناسبة. وكان الملاّ محمد المَمقاني مع ذلك مصرًا على رده العنيف وصاح في الجمع محتدًا: ’إني أحذركم بأنكم لو صرّحتم لهذا الشاب أن يستمر في تنفيذ أعماله دون إيقافه عند حدّه، فسيأتي اليوم الذي يدخل فيه كل سكان تبريز في أمره وينضمون إلى لوائه. وإذا أراد في ذلك اليوم، وأنتم مقبلون إليه، أن يظهر رغبته في طرد علماء تبريز حتى ولي العهد نفسه وأن يتولى زمام السلطة الدينية والمدنية وحده فلا يقدر أحد منكم على معارضته فعلاً لأن جميع سكان المدينة بل كافة سكان آذربيجان يكونون كلهم قائمين على إعانته.‘

صورة 116
نمازخانه شيخ الإسلام في تبريز

_____________________________________________________________________

أي غرض في معرفة طبيعة دعوة الباب أو السؤال عنها. وكان المجلس من أوله إلى آخره منحصرًا في التهكم والسخرية والاستهزاء والمهاترة وهذا ما يظهر لي جليًا في التواريخ الإسلامية أكثر منه في البابية.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية م، الصفحة 290)

صورة 117
الركن (x) الذي جلد فيه حضرة الباب على قدميه

وكانت الاتهامات الملحة من ذلك المتآمر الشرير قد أثارت مخاوف أرباب السلطة في تبريز، وتشاور أولو الأمر معًا في أنجع التدابير الواجب اتخاذها لمقاومة تقدم أمر حضرة الباب. فألحّ بعضهم على دعوته مرة أخرى لمجمع آخر يوقع عليه فيه عقاب مذل بأيدي الأعضاء لأنه في المجمع الأول أظهر عدم الاحترام إذ جلس في المقعد المخصص لولي العهد وترك المجلس دون إذن رئيسه. ولكن ناصر الدين ميرزا لم يقبل هذا الحل. وأخيرًا تقرر إحضار حضرة الباب إلى منزل ميرزا علي أصغر الذي كان شيخ الإسلام في تبريز وسيدًا، فيعاقب بأيدي حرس الحاكم بالعقاب الذي يستحقه. ولكن الحراس أبوا أن يطيعوا هذا الأمر مفضلين عدم التدخل في موضوع خاص بعلماء المدينة وحدهم. فعزم إذ ذاك شيخ الإسلام أن يوقع العقاب بنفسه. فاستدعى حضرة الباب إلى منزله وبيده ضربه بالعصى على قدميه إحدى عشرة مرة.(1)

________________________

(1) وهذه رواية الدكتور كورمِك في انطباعاته الشخصية عن ميرزا علي محمد الباب، مستخرجة من رسائل كتبها إلى القس بنيامين لاباري (كان الدكتور كورمِك طبيبًا إنگليزيًا أقام في تبريز مدة طويلة كان فيها موضع الاحترام. وعرضت الوثيقة على الپروفسور إ. گ. براون من جامعة كامبردج بواسطة السيد و. أ. شيد، الذي حرر خطابًا خاصًا بها مؤرخًا في 1 مارس/آذار سنة 1911م قال فيه: ’عزيزي الپروفسور براون! أثناء البحث في أوراق والدي (المرحوم القس ج. ﻫ. شيد من الإرسالية الأمريكية في أروميه، إيران، وهي التي كان فيها الدكتور بنيامين لاباري)، وجدت بعض أشياء ربما يكون لها قيمة تاريخية. ليس عندي هنا كتب ولا يمكن ↓

وفي نفس السنة أصيب ذلك الطاغية الوقح بالشلل وبعد أن قاسى آلامًا مبرحة مات أشنع ميتة. وكان مشهورًا عند جميع أهالي تبريز بصفات الخيانة والغرور والأنانية. ولشهرته بالقسوة والخسة كان مخوفًا ومحتقرًا في الوقت نفسه من الأهالي الذين كانوا يئنون تحت نير ظلمه ويدعون الله للخلاص منه. وكانت حادثة وفاته المزرية قد ذكّرت الناس من الصديق والعدو بالعقاب الذي لا بد أن يصيب الذين لا تردعهم مخافة الله ولا صوت

_____________________________________________________________________

الحصول على أي منها حتى يمكن معرفة إن كانت هذه الشهادة قد حصل الانتفاع منها من عدمه. وأعتقد أنه لم يحصل ذلك، وإني متأكد أن أحسن شيء أعمله هو أن أرسلها إليك بأمل الانتفاع بها كما تراه مناسبًا. أما عن صحة المعلومات التي حوتها الأوراق فليس هناك أي شك فيها.‘) وهذا نص الخطاب كما يأتي:

’وإنك تسألني عن تفاصيل مقابلتي لمؤسس هذه الفرقة المعروفة بالبابية. لم يحصل في هذه المقابلة أمر مهم لأن الباب كان يعلم أني أرسلت مع اثنين من الأطباء الإيرانيين لفحص قواه العقلية حتى يمكن الفصل في إمكان إعدامه من عدمه، ولذلك كان يكره الإجابة عن أسئلتنا. وردًا على كافة الأسئلة كان ينظر إلينا نظرة هادئة وهو يتلو، على ما أعتقد، مناجاة بصوت منخفض موسيقي. وكان يوجد معه سيّدان من الأشراف من أعز أصحابه، وأعدما أيضًا فيما بعد، وكان عنده أيضًا اثنان من موظفي الحكومة. ولم يجبني سوى مرة واحدة عندما قلت له إنني لست مسلمًا وأريد أن أعلم شيئًا عن ديانته لأني ربما اعتنقتها. فدقق النظر فيّ إذ ذاك وأجاب إنه لاشك عنده أن جميع الأوروپيين سوف يؤمنون بدينه. فقدمنا تقريرنا إلى الشاه وقتئذ يوصي بعدم إعدامه. ولكنه أعدم فيما بعد بأمر أمير النظام، ميرزا تقي خان. وأما بعد تقديم تقريرنا مباشرة فقد أوقعوا عليه فقط عقوبة الجلد على قدميه، وفي أثناء ذلك ضربه الفرّاش على وجهه، سواء قصدًا أو دون قصد، فأحدث كدمًا كبيرًا في الوجه. ولما سُئل هل يرغب في حضور طبيب إيراني فأبدى إنه يرغب حضوري أنا لمعالجته. فعالجته بضعة أيام ولكنه في هذه المقابلات لم يمكن التكلم معه سرًا لأن بعض موظفي الحكومة كانوا دائمًا حاضرين للمراقبة لأنه كان سجينًا. وكان شاكرًا جدًا لعنايتي به. كان لطيفًا جدًا ورقيق الملامح ذا جسم نحيف أبيض البشرة بالنسبة لإيراني، وله صوت ناعم موسيقي أثّر فيّ كثيرًا. ولما كان سيدًا كان يرتدي ملابس الأشراف كعادة هذه الفئة، وكذلك كان صاحباه. وعلى وجه العموم كانت هيئته وتصرفه على شأن يجعل المرء يميل إليه. ولم أسمع منه شيئًا خاصًا بديانته ولو أنه شاع أن في دينه شبهًا كبيرًا بالمسيحية. وقد رآه كثير من النجارين الأرمن، الذين أرسلوا لإجراء صيانة في السجن، وكان يقرأ الكتاب المقدس ولم يجتهد في إخفائه بل بالعكس كان يتكلم معهم بخصوصه. وبكل تأكيد لا يوجد في دينه ذلك التعصب الإسلامي بالنسبة للديانة المسيحية ولا فيه ذلك التقييد المفرط للمرأة.‘ وبخصوص هذه الوثيقة كتب الپروفسور براون ما يلي: ’إن أولى هاتين الوثيقتين مهم جدًا إذ فيها انطباع عن الباب وقت حبسه وآلامه وتأثيره على عقل أوروپي مهذب محايد. وقليل جدًا من المسيحيين الغربيين تمكنوا من مقابلة الباب أو أتيحت له فرصة التحدث معهم ولا أعلم أحدًا خلافه كتب شيئًا عن ملحوظاته بالنسبة إليه.‘ ("مواد لدراسة الدين البابي" لبراون، الصفحات 260-262، 264)

الضمير من معاملة مواطنيهم بالقسوة الغادرة. وبعد وفاته ألغيت وظيفة شيخ الإسلام في تبريز. واشتد الخزي الذي لحق به لدرجة إنه ألصق العار بالوظيفة حتى مقتها الناس، فتقرر إلغاؤها.

ورغم مسلكه الدنيء الغادر، إلا أنه كان أنموذجًا واحدًا فقط من السلوك الشرير الذي طبع موقف قادة علماء الدين من مواطنيه تجاه حضرة الباب. فما أبعدهم وأضلهم عن طريق العدل والإنصاف! فكم ازدروا نصائح رسول الله ﷺ ومواعظ أئمة الدين! ألم يعلن أولئك صراحة أنه إذا ظهر شاب من بني هاشم(1) ودعا الناس إلى كتاب جديد وشرع جديد، فعلى كل الناس أن يسرعوا إليه ويعتنقوا أمره؟ ومع أن هؤلاء الأئمة قد بينوا بوضوح أن أكبر أعدائه سيكونون من العلماء، فإن هؤلاء القوم الجهلة العمي اختاروا أن يتبعوهم ويطيعوا أوامرهم ويوافقوهم على باطلهم بل يطبعونه بطابع الحق والعدل ويسيرون على منوالهم ويظنون أنهم هم وحدهم "الفرقة الناجية" وأنهم "المختارون" الذين اختارهم الله وأنهم هم "الأمناء على الحق".

وأعيد حضرة الباب من تبريز إلى چهريق وأوكلوا لحراسته يحيى خان مرة أخرى. وظن مضطهدوه أنه سوف يترك ادعاءه من جراء تهديده في مجلسهم. إلا أن ذلك الاجتماع الذي أعدوه له وأحضروه فيه كان قد مكّنه من أن يبين حقيقة مدعاه علنًا وبكل جسارة أمام أكبر هيئة دينية في عاصمة آذربيجان وأن يتغلب بكلام مختصر مفيد على كل حجج معترضيه. وكانت أنباء إعلان الدعوة ذات النتائج بعيدة المدى قد انتشرت في طول بلاد إيران وعرضها وحركت مرة أخرى إحساسات المؤمنين على نحو أعمق وأهاجت فيهم حماسًا شديدًا وقوّت مركزهم وكانت مقدمة للحوادث العظيمة التي سوف تجتاح البلاد قريبًا.

وما كاد حضرة الباب يعود إلى چهريق حتى كتب، بلغة جريئة محركة للمشاعر، لوحًا يندد فيه بالحاج ميرزا آقاسي وأفعاله. وفي الفصول الافتتاحية لذلك اللوح الذي سمّاه

________________________
(1) هاشم هو جد النبي محمد ﷺ.

ﺑ"الخطبة القهرية" يخاطب رئيس وزراء محمد شاه بقوله: "يا من كفر بالله وأعرض بوجهه عن آياته." وهذا اللوح المطول قد سُلم للحجة وكان في تلك الأيام محبوسًا في طهران، وقد أمر أن يسلمه بنفسه إلى الحاج ميرزا آقاسي.

وقد تشرفت بأن أسمع من فم حضرة بهاءالله، بينما كان في سجن عكاء، ما يلي: ’إن الملاّ محمد علي الزنجاني بعد أن سلّم اللوح إلى الحاج ميرزا آقاسي، حضر وزارني، وكان بصحبتي ميرزا مسيح النوري وعدد من المؤمنين عند وصوله. وحكى كيفية تسليم اللوح وقرأه أمامنا بأكمله وكان نحو ثلاث صحفات وقد حفظه عن ظهر قلب.‘ وكانت لهجة حضرة بهاءالله في إشارته إلى الحجة تنبئ عن عظيم امتنانه من طهارة ونبل حياته وكم كان يعجب بشهامته وجرأته وإرادته التي لا تقهر وزهده في الدنيا واستقامته التي لا تتزعزع.

***
الفصل التاسع عشر
ملحمة مازندران

وفي شهر شعبان نفسه الذي وقعت فيه الإهانة على حضرة الباب في تبريز ونزلت فيه المصائب على حضرة بهاءالله وأصحابه في نيالا، رجع الملاّ حسين من معسكر الأمير حمزة ميرزا إلى مشهد، على أن يسافر بعد سبعة أيام إلى كربلاء مصحوبًا بمن أراد. وقد عرض عليه الأمير مبلغًا من المال ليستعين به على مصاريف السفر، ولكنه رفض قبوله وأعاد إليه النقود طالبًا منه أن يصرفها على الفقراء والمحتاجين. كذلك تبرع عبد العلي خان بكافة الاحتياجات اللازمة لسفر الملاّ حسين، وأظهر رغبته في دفع مصاريف الذين يختارهم لصحبته، فلم يقبل من جميع ذلك سوى سيفًا وجوادًا قدر له أن يستخدمهما بشجاعة ومهارة تامة لصد هجوم عدو غادر.

وإن قلمي ليعجز عن أن يصف الإخلاص والإيمان اللذين أوقدهما الملاّ حسين في قلوب أهل مشهد ولا مدى تأثيره عليهم. فكان منزله في تلك الأوقات دائمًا حافلاً بجموع تواقة ليسمح لهم بمصاحبته في السفر. وكانت النسوة يحضرن أبناءهن والأخوات إخوانهن ويتضرعن إليه بدموع منهمرة أن يقبلهم فداء على محراب التضحية.

وكان الملاّ حسين لا يزال في مشهد إذ وصله رسول يحمل عمامة حضرة الباب مع لقب جديد أنعم به عليه مولاه وهو "السيد علي". وقال للرسول: ’قُل له زيّن رأسك بعمامتي الخضراء علامة نسبي وانشر الراية السوداء(1) أمامك وأسرع إلى الجزيرة الخضراء وساعد حبيبي القدوس.‘

________________________
(1) انظر الصفحة 324.

وبمجرد وصول هذه الرسالة قام الملاّ حسين على تنفيذ إرادة مولاه وترك مشهد لمحل يبعد عنها فرسخًا واحدًا، ورفع فيه الراية السوداء ووضع عمامة حضرة الباب على رأسه وجمع أصحابه وركب جواده وأعطى الإشارة بتوجههم إلى الجزيرة الخضراء، وتبعه أصحابه بحماس، وكان عددهم مائتين واثنين. وكان ذلك اليوم التاريخي في 19 شعبان سنة 1264ﻫ.(1) وعند نزولهم في أي قرية أو ناحية يمرون عليها كان الملاّ حسين وأصحابه ينادون دون خوف ولا وجل بظهور اليوم الجديد ويدعون الناس لاعتناق أمر الحق، وينتخبون نفرًا قليلاً من بين الذين استجابوا لندائهم ليصاحبوهم في رحلتهم.

وفي بلدة نيشاپور درج اسم الحاج عبد المجيد والد بديع(2) الذي كان تاجرًا مشهورًا، تحت لواء الملاّ حسين. ومع أن والده كان له احترام لا يدانى لأنه كان مالك أشهر منجم فيروز في نيشاپور، فإنه ترك هذا الجاه وهذه المنافع المادية التي درّتها عليه بلدته وتعهد بالولاء التام للملاّ حسين. وفي قرية ميامى اعتنق أمر الله من بين الأهالي ثلاثون نفرًا وانضموا إلى جماعته. وجميعهم استشهدوا في قلعة الشيخ الطبرسي ما عدا الملاّ عيسى.(3)

ولما وصلوا إلى "چشمه علي" وهي محلة تقع قرب بلدة دامغان وعلى الطريق الرئيس المؤدي إلى مازندران، عزم الملاّ حسين أن يتوقف بضعة أيام، ونصب خيامه تحت ظل شجرة كبيرة بالقرب من جدولٍ جارٍ، وقال لأصحابه: ’نحن الآن على مفترق طرق

________________________
(1) 21 يوليو/تموز سنة 1848م.
(2) بديع هو حامل لوح بهاءالله إلى ناصر الدين شاه.

(3) ’وقد وصل (الملاّ حسين) أولاً إلى ميامى وهناك انضم ثانية إلى ثلاثين بابيًا وكان رئيسهم ميرزا زين العابدين تلميذ المرحوم الشيخ أحمد الأحسائي، وكان شيخًا وقورًا صالحًا. وكان حماسه قويًا لدرجة أنه كان يصطحب معه نسيبه وهو شاب عمره 18 عامًا ولم يكن قد تزوج بابنته إلا منذ بضعة أيام فقط. فقال له: ’’احضر معي لنقضي سويًا آخر الأسفار. ولأكون لك أبًا حقيقيًا وتشترك معنا في أفراح السلام.‘‘ فغادرا بعدها وكان ذلك الرجل المسن يرغب بالسير على الأقدام في الطريق الذي أوصله إلى الشهادة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 290)

صورة 118
قرية نيشاپور

وسننتظر من العلي القدير الأمر بالرحيل إلى الجهة التي نتوجه إليها.‘ وفي آواخر شهر شوال(1) قامت عاصفة شديدة وقطعت غصنًا كبيرًا من تلك الشجرة، فلاحظ الملاّ حسين قائلاً: ’إن شجرة سلطنة محمد شاه قد اقتلعت ووقعت على الأرض بإرادة الله.‘ وفي اليوم الثالث من تنبؤه وصل رسول كان في طريقه من طهران إلى مشهد وأعلن وفاة مليكه.(2) وفي اليوم التالي عزمت الجماعة على الرحيل إلى مازندران. ولما قام قائدهم استعدادًا للرحيل، أشار إلى جهة مازندران قائلاً: ’هذا هو الطريق الذي يؤدي إلى كربلائنا، فكل من لم يأنس في نفسه الاستعداد للامتحانات العظيمة المتوقع حصولها لنا فليعد إلى منزله ولا يستأنف الرحلة.‘ وكرر هذا الإنذار جملة مرات، ولما اقترب من سواد كوه، صرح لهم قائلاً: ’إني عزمت مع اثنين وسبعين من أصحابي على أن نضحي بحياتنا

________________________
(1) 31 أغسطس/آب - 29 سپتمبر/أيلول سنة 1848م.

(2) وتوفي محمد شاه في السادس من شوال. (4 سپتمبر/أيلول سنة 1848م) ’وكانت هناك فترة حكومية لمدة شهرين وتكونت حكومة موقتة مكونة من أربعة مديرين تحت رياسة أرملة الشاه المتوفى. وأخيرًا وبعد تردد طويل سمح للوارث الشرعي الأمير الصغير حاكم آذربيجان ناصر الدين ميرزا أن يرتقي للعرش.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 367)

لأجل المحبوب، فالذي لا قدرة له على رفض الدنيا فليتركنا في هذه اللحظة، لأنه في المستقبل لا يقدر على الفرار.‘ فاختار عشرون من أصحابه العودة لأنهم شعروا بأنهم غير قادرين على تحمل الامتحانات التي كان رئيسهم دائمًا يشير إليها.

وأزعجت أخبار اقترابهم من بلدة بارفروش سعيد العلماء. وكان ازدياد شهرة الملاّ حسين وظروف مغادرته مشهد والراية السوداء التي رفعها أمامه، وفوق كل شيء عدد المؤمنين الذين معه وانتظامهم وحماسهم - كل تلك الأسباب اجتمعت لتشعل حقد المجتهد المتكبر الظالم وتثير غيظه الذي لا يشفى. فأمر المنادي أن ينادي بأهالي بارفروش ليجتمعوا في المسجد وأعلن لهم أنه سيلقي في الجامع خطبة خطيرة وأنه لا يسع أي مسلم حقيقي في تلك الأنحاء أن يتجاهلها. فماج المسجد بالجموع المحتشدة من الرجال والنساء التي شاهدته يصعد المنبر ويطرح عمامته على الأرض ويمزق صدر ردائه ويندب الحظ الذي وقع فيه الدين ويرعد ويبرق من المنبر قائلاً: ’تيقظوا لأن أعداءنا واقفون على عتبات أبوابنا متربصون ومترصدون لإلغاء ونقض كل ما نعتبره مقدسًا وطاهرًا في الإسلام! وإذا لم نقدر على مقاومتهم فلا يذرون أحدًا يفلت من بطشهم. وقد جاء رئيس تلك العصبة إلى مجلس درسي ذات يوم وحيدًا فتجاهلني واحتقرني في محضر تلاميذي المجتمعين. فلما لم أعطه الاحترام الذي كان يتوقعه قام غاضبًا وألقى عليّ التحدي. فهذا الرجل لم يخشَ أن يهجم عليّ هجومًا عنيفًا في الوقت الذي كان فيه محمد شاه متبوءًا سرير السلطنة وفي أوج قوته. فما الذي يا ترى يفعله الآن هذا الثائر الذي يتقدم ومعه عصبته من المتوحشين إذ رأى أن يد محمد شاه التي كانت تحمينا قد اختفت فجأة! فيجب على كل سكان بارفروش رجالاً ونساء وشبانًا وشيوخًا أن يتسلحوا ضد هؤلاء المحتقرين المخربين للإسلام وأن يقاوموا حملتهم بكل ما أوتوا من قوة، وعليكم باكرًا عند الفجر أن تخرجوا جميعًا لاستئصال شأفتهم ومحوهم.‘

فنهضت الجموع المحتشدة بأسرها تلبية لندائه. وأثرت على سكان المدينة بلاغته المهيجة وسلطته التي لا ينازعه فيها أحد والخوف من ضياع الأموال والأنفس، واستعدوا لعمل كل ما يمكنهم لخوض المعركة الآتية. فتسلحوا بكل آلة وجدوها

صورة 119
منظر قرية ميامى
صورة 120
خارج المسجد
صورة 121
داخل المسجد الذي صلى فيه الملاّ حسين وأصحابه

وخرجوا في الصباح الباكر من مدينة بارفروش عازمين على ذبح أعداء دينهم ونهب ممتلكاتهم.(1)

وما كاد الملاّ حسين يعزم على السير في الطريق المؤدي إلى مازندران، حتى أمر أصحابه، بعد أن أدى صلاة الصبح، أن يتركوا كل ما عندهم، وقال لهم: ’اتركوا ممتلكاتكم واكتفوا بجيادكم وسلاحكم واتركوا ما عداها حتى يعلم الكل بأن هؤلاء الجماعة من أحباء الله لا يرغبون في حفظ ممتلكاتهم فكيف في الرغبة في أخذ ممتلكات غيرهم.‘ فأطاعوا جميعًا الأمر وأنزلوا أحمال جيادهم وتبعوه بفرح عظيم. وكان والد بديع أول من طرح خرجه وكان محتويًا على مقدار عظيم من الفيروز الذي أخذه معه من منجم يمتلكه والده. وكانت كلمة واحدة من الملاّ حسين كافية لأن يطرح ما كان بلا شك أعزّ ممتلكاته على جانب الطريق مفضلاً عليها إرادة رئيسه.

وتقابل الملاّ حسين وأصحابه مع أعدائهم على مسافة فرسخ من بارفروش واعترض جمهور من الناس مسلحين ومعهم الذخيرة والعدّة وسدّوا عليه الطريق وكانت تظهر على وجوههم غبرة الافتراس والتوحش وتصدر من أفواههم عظائم الشتائم. وعزم الأصحاب على سلِّ سيوفهم إذ رأوا هذا الهجوم الوحشي، فأمرهم رئيسهم قائلاً: ’لم يحِن الوقت، لذلك فانتظروا حتى تلجئنا القوات المعادية أن ندافع عن أنفسنا فنستل إذ ذاك سيوفنا من

________________________

(1) ’أصدر الوزير (ميرزا تقي خان) بالاستقلال التام دون استشارة ولا استئذان الأمر إلى أطراف إيران بتأديب البابيين وتعذيبهم فألْفَت الحكام وولاة الأمور سبيلاً إلى الاكتساب ووجد المأجورون وسيلة لاغتنام المنافع. وقام العلماء المعروفون على رؤوس المنابر يحضون ويحرضون الناس عمومًا على القيام بهجوم عام. فتحاضنت قوتا التشريع والتنفيذ واصطلحا على مقاومة وقمع تلك الطائفة التي لم تكن بعد واقفة على قواعد وأسرار مبادئ الباب وتعاليمه كما يليق وينبغي وما كان لها إلمام بتكاليف نفسها، وكانت تصوراتها وأفكارها حسب العوائد الماضية وسيرها وسلوكها طبق التقاليد القديمة. وطريق الوصول إلى الباب والاقتباس منه مسدود ونار الفتنة مشتعلة مشهودة من كل الجهات. وباقتناء مشاهير العلماء شرع الحكام والولاة بل الغوغاء والعامة في جميع الأنحاء بشدة البطش والقهر تشن الغارات عليهم وتغتصب أموالهم وتنكل بهم وتستبيح دماءهم ظنًا أن ذلك يطفئ من لهب هذه النار ويخمد أنفاسهم. وفي البلدان التي كان تعدادهم فيها قليلاً غلت أيديهم وصاروا برمتهم طعمة السيف. أما في البلدان التي كان عددهم فيها كثيرًا فإنهم قاموا إلى الدفاع حسب العقائد السابقة إذ كان السؤال عما هو الواجب عليهم غير ميسور وجميع أبواب النجاة مسدودة.‘ ("مقالة سائح"، الصفحتان 23-24، في الترجمة العربية)

أغمادها.‘ وما كاد ينطق بذلك حتى صوبت نيران العدو عليهم، فسقط ستة من الأحباء شهداء. وصاح أحد الأصحاب قائلاً: ’أيها الرئيس المحبوب نحن قمنا معك وتبعناك بلا قصد سوى تضحية نفوسنا في سبيل الأمر المبارك الذي اعتنقناه فنرجو أن تسمح لنا بأن ندافع عن أنفسنا ولا تدعنا نقع بهذه الحالة فريسة مُهانة بنيران الأعداء.‘ فأجاب الملاّ حسين: ’لم يحِن الوقت بعد، لأن عدد الشهداء لم يكتمل.‘ وعلى الفور جاء مقذوف واخترق صدر أحد أصحابه وهو سيد من يزد(1) جاء ماشيًا على قدميه طول الطريق من مشهد إلى ذلك المكان، وكان من أقوى معاضديه الثابتين. ولما رأى الملاّ حسين صديقه الحميم وقع ميتًا عند قدميه، رفع عينيه إلى السماء وناجى ربه قائلاً: ’إلهي إلهي ترى نصيب أحبائك المختارين وتشهد ما قابل به هؤلاء القوم أحباءك، وإنك تعلم أنّنا ما قصدنا شيئًا سوى هدايتهم إلى ساحة قدسك وإعلامهم بظهور أمرك. وإنك أمرتنا أن ندافع عن أنفسنا ضد الهاجمين من أعدائنا. واتباعًا لأمرك أقوم الآن مع أصحابي لصد هجومهم الذي شنوه ضدنا.‘(2)

واستل سيفه من غمده وهمز جواده في وسط الأعداء واقتفى أثر قاتل صاحبه بإقدام مدهش، فخاف ذلك العدو أن يواجهه واحتمى خلف شجرة ورفع بندقيته للدفاع عن نفسه، فعرفه الملاّ حسين فورًا وانطلق نحوه، وبضربة واحدة من سيفه قطع كلاً من جذع الشجرة وماسورة البندقية وجسد عدوه إلى شطرين.(3) وكانت قوة هذه الضربة المدهشة

________________________

(1) ’أصابت الرصاصة السيد رضا في صدره وأردته صريعًا على الفور. وكان دمث الأخلاق صادق الاعتقاد متحمسًا. واحترامًا لسيده كان دائمًا يمشي بجانب جواده مستعدًا لخدمته عند أي إشارة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 294)

(2) "لا تقتل النفس من أجل الاعتقاد. لأن قتل النفس محرم في دين الله. ومن يأمر بقتل النفس فما كان ولن يكون من أهل البيان فليس ذنب أكبر منه." (كتاب "البيان". انظر "مجلة الجمعية الآسيوية الملكية" أكتوبر/تشرين الأول سنة 1889م، المقالة 12، الصفحتان 927-928)

(3) ’وكان الألم والغضب قد ضاعفا قوة الملاّ حسين حتى ضرب عدوّه ضربة واحدة فقطعه هو والشجرة والبندقية شطرين. (وزاد الميرزا جاني أن البشروئي استعمل يسراه في الضربة، ولم ينقض هذه الرواية مؤرخو الإسلام.)‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 295، الحاشية 215) ’استدار باب الباب على نفسه وقال: ’’الآن هم الذين ألجأونا أن ندافع عن أنفسنا.‘‘ واستل سيفه وأخذ يدافع عن نفسه معترفًا بما ↓

قد أربكت العدو وشلت حركته، وهربوا جميعهم مذعورين أمام هذه المهارة والقوة والبسالة. وكانت هذه الحادثة الأولى من نوعها وتشهد بشهامة الملاّ حسين وبطولته واكتسبت مدح حضرة الباب وكذلك أثنى القدوس على الثبات والشجاعة التي أظهرها فيها، وروي أنه لما سمع بها تلا الآيتين القرآنيتين الآتيتين: "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنون منه بلاء حسنًا إن الله سميع عليم. ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين."(1)

وكنتُ بنفسي في طهران سنة 1265ﻫ(2) وسمعت من ميرزا أحمد بعد مرور شهر على انتهاء واقعة الطبرسي، وكان يقصّ هذه الحادثة على مجمع من الأحباء ومن بينهم ميرزا محمد حسين حكيم الكرماني والحاج الملاّ إسماعيل الفراهاني وميرزا حبيب الله الإصفهاني والسيد محمد الإصفهاني.

ولما زرت خراسان فيما بعد وكنت في منزل الملاّ صادق الخراساني في مشهد حيث دُعيت لتبليغ أمر الله، سألت الملاّ محمد الفروغي في محضر عدد من الأحباء كان النبيل الأكبر ووالد بديع من بينهم، أن يروي كيفية حصول هذه الحادثة. فأكد لي ميرزا محمد قائلاً: ’إني كنتُ شاهدًا على فعلة الملاّ حسين البطولية، ولولا إني شاهدت الواقعة بعينَي ما كنت أصدقها أبدًا.‘ وبهذا الخصوص حكى ميرزا محمد نفسه أيضًا الرواية الآتية: ﴿بعد حصول حادثة وَسْكَس التي هزم فيها الأمير مهدي قلي ميرزا هزيمة نكراء وهرب

_____________________________________________________________________

أمر به الله. ورغمًا عن نحافته وضعف جسمه ويده المرتعشة فقد كانت قوته وبسالته في ذلك اليوم بدرجة أن كل منصف يرى ويعلم أن هذه الشجاعة لم تكن إلا من الله لأنها فاقت الحدود البشرية... ثم رأيت الملاّ حسين يستل سيفه ويرفع وجهه نحو السماء ويصيح: ’’يا إلهي قد أتممت الحجة على هذا الجيش ولكنها لم تنفع.‘‘ وابتدأ يهجم علينا من الميمنة والميسرة وإني أقسم بالله إنه في ذلك اليوم استخدم سيفه ببراعة تفوق القوة البشرية. ولم يبق في الميدان أمامه سوى خيالة مازندران الذين أبوا أن يهربوا. ولما حمي وطيس القتال في الملاّ حسين، لحق عسكريًا التجأ خلف شجرة واحتمى ببندقيته فضربه الملاّ حسين ضربة بسيفه فقطعه هو والشجرة والبندقية إلى ست قطع.‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 49، 107-108)

(1) سورة الأنفال، الآيتان 17-18.
(2) سنة 1848-1849م.

حافي القدمين من وجه أصحاب حضرة الباب، وبّخه أمير النظام(1) بشدة وكتب إليه قائلاً: ’إني عهدتُ إليك أن تخضع نفرًا من التلاميذ الشبان المحتقرين وسلّمتك جيش الشاه، ومع ذلك سَمَحتَ أن تنزل به هذه الهزيمة المخجلة، فماذا يا ترى يكون مصيرك لو كنت عهدت إليك أن تحارب قوات حكومات الروس والترك مجتمعة؟‘ فاستحسن الأمير أن يرسل له مع رسول أجزاء البندقية التي قطعت نصفين بسيف الملاّ حسين، وأمره أن يعرضها بنفسه أمام أمير النظام ويقول له:’انظر هذه الشجاعة التي تحتقرها وهذا ما حصل من مبارز بابي، فبضربة واحدة من سيفه شطر الشجرة والبندقية وحاملها إلى ست قطع.‘

ولقد كانت شهادة العدو صريحة عن حصول هذه الحادثة على هذه الكيفية، وأصبح الموضوع جديرًا باهتمام أمير النظام الذي عرف إنه لا يمكن لرجل في مثل وظيفته أو نفوذه أن يتجاهل الحادثة أو ينقص من قدرها، إلا أنه عزم على أن يخضع هذه القوة التي قاومت جيشه. فعمد إلى الحيلة الدنيئة والغدر لأنه كان غير قادر على إخضاع الملاّ حسين وصحبه رغم وجود العدد الغفير الذي معه. فأمر الأمير أن يضع ختمه على القرآن

________________________

(1) كان ميرزا تقي خان اعتماد الدولة رئيس الوزارة خلفًا للحاج ميرزا آقاسي. وقد أشير إليه في "مقالة سائح" (الصفحتان 22-23، في الترجمة العربية) بما يأتي: ’وصحب هذا استقرار أمير النظام، ميرزا تقي خان، على عرش الصدارة العظمى والوزارة الكبرى. ووقوع أزمّة أمور الجمهور في قبضة اقتداره ومحض تصريفه فأخذ يجري جواد همته في مضمار الاستقلال بالحكم والاستبداد بالأمر والنهي. ولقد كان هذا الوزير ممن لم تحنكهم التجارب ولا من أبطال هذا الميدان ومن لا يحسبون لعواقب الأمور حسابًا. وإنما كان رجلاً مقدامًا على سفك الدماء غير هياب ولا وجل. وكان يعتقد صرامة السياسة وشراسة الأوامر مصلحة الحكومة وإنها الحكمة الناجعة، ويزعم أن صعوبة الأحكام والأخذ بالإرهاب والتضييق وتهديد الجمهور وإرعابه مما يرفع شأن السلطنة ويزيد أبهة الملك. ولما كانت الحضرة العلية الملكية في عنفوان الشباب وقع الوزير في أوهام غريبة ولم يبال بنشر استبداده بل ضرب طبل الاستقلال في الأمور. وأصدر الأمر باعتراض البابيين دون استئذان من الحضور الهمايوني وأقدم على هذا بعزم وجزم بلا أدنى استشارة من عقلاء الوزراء. وظن أن قوة القهر والتجبر تمكنه من اقتلاع هذه الأمور وقمعها. وأن الشدة والغلظة تثمر هذه الثمرة وغرب عن علمه أن التصدي للأمور الوجدانية لا يأتي إلا بنفوقها ورواج سوقها وأن نارها تزداد التهابًا واشتعالاً كلما أريد إطفاؤها لا سيما الأمور الدينية والمذهبية فإنها بمجرد التعرض لها بسفك الدماء تنتشر وتنفذ وتترك في القلوب أثرًا ثابتًا. هذا ما شهدت به التجربة.‘

وأن يحلف بشرف ضباطه إنه سيمتنع عن أي عمل عدائي لسكان القلعة، وبهذه الطريقة تمكن من إقناعهم بترك أسلحتهم. وإذ ذاك أنزل هزيمة ساحقة غير مشرفة بهم وهم عزل من السلاح.﴾

وكان الكثيرون ممن لم تتدنّس أفكارهم بالتعصب والشرور دائمًا متذكرين بإعجاب تلك الحادثة، فلم تغب عن أذهانهم تلك المهارة والقوة التي ظهرت من هذا الشجاع والتي أثارت حماس الشعراء في مختلف الجهات في إيران. فنظموا القصائد لإشهار مآثر صاحب هذا العمل الجريء المجيد وساعدت أشعارهم في نشر أخباره وإخلاد ذكره. وكان من يدعى رضا قلي خان لَلِه باشي مؤلف كتاب "تاريخ الناصري" ممن امتدح شهامة الملاّ حسين وأطرى على شجاعته المدهشة ومهارته الفائقة التي بها نفّذ ضربته تلك.

وتجاسرتُ أن أسأل ميرزا محمد الفروغي عن رأيه فيما ذكره صاحب "ناسخ التواريخ" من أن الملاّ حسين تعلّم في صغره الفروسية، وأنه تدرّب في هذه الصناعة مدة مديدة. فأجاب ميرزا محمد قائلاً: ’إن ذلك محض اختلاق، لأني عرفته منذ صباه وكنت أصاحبه كصديق وزميل دراسة مدة طويلة، ولم أعلم مطلقًا أنه كانت عنده أي قوة. بل كنت أظن نفسي أقوى منه جسمًا وكانت يده ترتعش وهو يكتب، وكثيرًا ما كان يظهر منه عدم القدرة على الكتابة بالسرعة والكمال الذي يرغبه، وكانت تعوزه القدرة في ذلك ويتألم من تأثير ذلك فيه إلى أن سافر إلى مازندران، وفي اللحظة التي استل فيها سيفه لصد ذلك الهجوم الوحشي، بدا وكأن قوة غيبية غيّرته فجأة. وكذلك في جميع المعارك التالية كان أول من يحرّك ركابه ويهجم بجواده وسط معسكر الأعداء. ودون أي مُعين كان يحارب القوات المجتمعة من أعدائه ويحمل عليهم بنفسه وينتصر عليهم. وكنا نحن نتبعه في المؤخرة ونكتفي أن نضرب الذين عجزوا وضعفوا من أثر ضرباته عليهم، فكان اسمه وحده كافيًا لأن يلقي الرعب في قلوب أعدائه، فيهربون عند ذكره ويرتعدون عند لقائه. حتى الذين كانوا من مرافقيه الدائمين انعقدت ألسنهم لفرط تعجبهم. وكنا مندهشين من ظهور عجائب قوته وإرادته التي لا تقهر وبطشه وبسالته، واقتنعنا جميعًا أنه لم يكن الملاّ حسين الذي نعرفه بل إن روحًا تملكته والتي لا يقدر أحد أن يهبها له إلا الله.‘

وحكى لي ميرزا محمد الفروغي نفسه قال: ’ما كاد الملاّ حسين يضرب خصمه تلك الضربة التاريخية حتى اختفى من أمامنا ولم نعلم أين ذهب ولم يتعقبه أحد سوى خادمه الوفي قمبر علي الذي أخبرنا فيما بعد أن سيده هجم على أعدائه وكان يمكنه بضربة واحدة من سيفه أن يجندل كل من يجرؤ أن يواجهه. فشق طريقه وسط صفوف أعدائه غير عابئ بما يمطر عليه من المقذوفات، وذهب توًا إلى بارفروش وتوجه إلى منزل سعيد العلماء وطاف حول منزله ثلاثًا، وصاح قائلاً: ’’فلينزل هذا الجبان الحقير الذي حرّض أهالي هذه المدينة لإشهار الجهاد علينا وخبأ نفسه بكل جبن ونذالة بين حوائط منزله، فليخرج من مخبئه وليتقدم حتى يكون مثالاً لغيره إن كانت دعوته صادقة. فهل نسي أن الذي يشهر حربًا دينية يجب عليه أن يكون على رأس أتباعه وبأعماله يثير حماسهم وإخلاصهم؟‘‘ ‘

وكان صوت الملاّ حسين قد أسكت أصوات الجماهير وأخضع أهالي بارفروش فرفعوا أصواتهم منادين: ’الأمان، الأمان!‘ وما كادت أصوات الخضوع والتسليم ترتفع حتى ظهر من كل الجهات صياح أتباع الملاّ حسين الذين هرعوا نحو بارفروش. وكانت صيحة "يا صاحب الزمان" التي صدرت منهم بأعلى أصواتهم قد أحدثت ارتباكًا في قلوب الذين سمعوها. وكان أتباع الملاّ حسين الذين يئسوا من العثور عليه حيًا، قد دهشوا إذ رأوه ممتطيًا جواده ولم يصبه أي ضرر من حملته. واقتربوا جميعهم منه وقبّلوا ركابه.

وفي عصر ذلك اليوم منح الملاّ حسين أهالي بارفروش الأمان الذي طلبوه، وفاه بالكلمات الآتية للجموع الملتفة حوله: ’يا أمة رسول الله وشيعة علي! لماذا قمتم ضدنا؟ لماذا اعتبرتم سفك دمائنا عملاً محمودًا عند الله؟ هل بدر منّا أي إنكار لصحة دينكم؟ هل هذا هو التكريم الذي أمركم به رسول الله تجاه المؤمن والكافر على حد سواء؟ فما الذي فعلناه حتى نستحق هذا الاضطهاد؟ تأملوا كيف أني بمفردي قابلت الرصاص الذي صبّه علينا الأهالي ولم يكن معي سوى سيفي. وقد نجوت وسط النيران التي أحاطوني بها وتخلصت أنا وجوادي سالمين من هجومكم العنيف. ولم تقدروا على إحداث أي جرح فيّ

صورة 122
منزل سعيد العلماء في بارفروش، مازندران

سوى خدش بسيط في وجهي وقد حفظني ربي وأراد أن يثبت أمام عيونكم علو أمره.‘

وذهب الملاّ حسين توًا إلى خان "سبزه ميدان" وترجل عن صهوة جواده ووقف عند باب الخان وانتظر وصول أصحابه. ولما تجمعوا واستضيفوا في ذلك المكان، أرسل ليحضر لهم خبزًا وماء. ولكن الرسل الذين كلفوا بتلك المهمة عادوا وأخبروه بعدم إمكانهم الحصول على خبز من الخباز ولا ماء من الميدان العام، وقالوا له: ’إنك وعظتنا أن نتكل على الله وأن نجعل فيه ثقتنا "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون."‘(1)

فأمر الملاّ حسين بإغلاق أبواب الخان وجمع أصحابه ورجاهم أن يبقوا مجتمعين معه إلى ساعة الغروب. وإذ اقترب المساء سأل، إذا كان أحد منهم يفدي نفسه في سبيل دينه ويصعد إلى سطح الخان ويرفع الأذان.(2) فأجاب طلبه شاب بفرح عظيم. وما كاد هذا

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 51.

(2) ’وكان باب الباب كما يقول المؤلف في نفس الوقت الذي يؤدي فيه واجبًا دينيًا، أراد أن يعطي مثالاً على ثبات الاعتقاد لدى الأتباع واحتقارهم الحياة وأن يظهر عدم تقوى الأعداء وعدم تديّن الذين يدعون أنهم مسلمون لذلك أمر أحد أتباعه أن يصعد على ربوة ويرفع الأذان.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 295-296) وكتبت الليدي شيل: ’كنا في مرند حين سمعت الأذان لأول مرة وهو مهيب ومؤثر جدًا خاصة إذا أجيد رفعه مرتلاً... وتوجه المؤذن نحو مكة ووضع كفيه المبسوطتين على جانبي رأسه ونادى بصوت عال "الله أكبر"، أربع مرات، ثم "أشهد أن لا إله إلا الله"، مرتين، ثم "أشهد أن محمدًا رسول الله"، مرتين، ثم "أشهد أن عليًا أمير المؤمنين حبيب الله."‘ ’ودق الجرس وقت دفن الجثمان ربما يؤثر في النفوس بعض الهيبة كما تؤثر نفخة البوق في الجيش لإنزال الجندي إلى القبر في الجبال والأودية وهي تنذر بأن عسكريًا سيلحق آباءه إلا أن الأذان له تأثير مختلف فهو يوجب في العقل تأثيرات مختلفة عن المهابة والخضوع ↓

صورة 123
صورة 124
صورة 125
مناظر خان سبزه ميدان في مازندران

الشاب ينطق بالأذان ويقول "الله أكبر" حتى وافاه مقذوف ناري أوقعه قتيلاً. فقال الملاّ حسين: ’ليقم أحد منكم خلافه، وبنفس التضحية يكمل الأذان الذي لم يقدر الشاب على إكماله.‘ فقام شاب آخر بدله، وما كاد ينطق بعبارة "أشهد أن محمدًا رسول الله" حتى أصابه مقذوف من العدو، وقام شاب ثالث بناء على طلب رئيسه لإكمال الأذان ولكنه لاقى نفس المصير، وما كاد يتم الأذان بقوله "لا إله إلا الله" حتى وقع صريعًا بدوره.

وكان وقوع صاحبه الثالث سببًا في أن يفتح الملاّ حسين باب الخان وأن يقوم مع أصحابه لرد هذا الهجوم غير المنتظر من العدو الخائن. وإذ امتطى جواده أعطى إشارة لضرب المهاجمين الذين اجتمعوا أمام الباب وملأوا "سبزه ميدان" ونجح في تشتيتهم وهو شاهر سيفه بيده وخلفه أصحابه. والذين نجوا من سيفه هربوا من أمامه بذعر أو عادوا طالبين الأمان ثانية متضرعين للرحمة. وعند اقتراب المساء اختفى الجمع المحتشد وأصبح "سبزه ميدان" خاليًا بعد أن كان يموج بجماهير الأعداء المتحمسة. وسكنت ضوضاؤهم وانتشرت جثث القتلى في الميدان وما حوله، وكان المنظر مهيبًا محزنًا يشهد بنصر الله على أعدائه.

وكان النصر مفاجئًا لدرجة(1) أن عددًا من أعيان المدينة وزعماءها تدخلوا وطلبوا الرحمة والأمان من الملاّ حسين نيابة عن مواطنيهم، وجاءوا مشيًا على الأقدام وقدموا

_____________________________________________________________________

وبالنسبة إليها يكون دق الجرس أمرًا وضيعًا. وإنه لمن المؤثرات العجيبة أن نسمع في سكون الليل أصوات المؤذنين بقولهم "الله أكبر وأشهد أن لا إله إلا الله". فإن القديس بطرس والقديس بولص لا يقدران أن يظهرا شبيهًا لهذا التأثير.‘ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران"، الصفحتان 84-85)

(1) ’ورغبة من سعيد العلماء في إنهاء الموضوع بأي ثمن، فقد جمع أكبر عدد ممكن من الناس وعاود الهجوم على واجهة الخان. واستمرت المعركة نحوًا من خمسة أو ستة أيام إلى أن ظهر عباس قلي خان السردار اللاريجاني. وفي تلك الأثناء ومنذ بداية النزاع، كان علماء بارفروش غاضبين من نجاح القدوس في تبليغ جموع كثيرة من أهالي المدينة (300 نفر في أسبوع، كما يعترف بذلك المؤرخون المسلمون على مضض) فشكوا إلى حاكم الإقليم الأمير خانلار ميرزا ولكنه لم يهتم بشكواهم لأنه كان مشغولاً بأمور أخرى هامة. وسبب موت محمد شاه قلقًا عظيمًا له أكثر من مشاحنات الملاّوات وتأهب للسفر إلى طهران لتقديم فروض الطاعة للشاه الجديد آملاً في نيل حظوته. ولما لم ينجحوا في تلك المحاولة، وتحت ضغط الأحداث، فقد كتب العلماء خطابًا ملحًا إلى رئيس العسكر في المقاطعة المدعو عباس قلي خان اللاريجاني. ولما كان المذكور لا يريد أن يتعب نفسه، فقد أرسل محمد بيك الياور (النقيب) على رأس ثلاثمائة رجل بقصد إعادة النظام وتسكين الهياج. وعلى هذا النحو بدأ المسلمون بمهاجمة الخان. واستمر النزاع، ولكن إذا قتل ↓

إلتماسهم قائلين: ’يشهد الله أننا لا نضمر أي غرض سوى تأسيس الصلح والسلام بيننا. فلا تنزل من ظهر جوادك حتى نبين لك مقصودنا.‘ فلما شاهد الملاّ حسين صدق نواياهم ترجل ودعاهم إلى الدخول معه في الخان. وقال لهم: ’نحن نعرف كيف نضيف الغرباء بيننا ولسنا في هذا الصدد كسكان هذه المدينة.‘ ثم دعاهم للجلوس بجانبه وطلب لهم الشاي. فأجابوه: ’إن سعيد العلماء هو المسؤول الوحيد عن إشعال نيران هذه الفتنة ولا يصح إدماج أهالي بارفروش في الجريمة التي اقترفها، فلننسَ الآن الماضي ونقترح لمصلحة الطرفين أن تسافر مع أصحابك إلى بلدة "آمل" باكرًا لأن بارفروش تتمخض الآن باضطراب عظيم ونخشى أن يحرضوا على هجوم جديد ضدكم.‘ فوافق الملاّ حسين على اقتراحهم ولو أنه أشار إلى عدم وفاء الأهالي. وبناء على ذلك قام عباس قلي خان اللاريجاني(1) ومعه الحاج مصطفى خان وحلفا معًا على المصحف الذي أحضراه معهما أن قصدهما لم يكن إلا أن يضيفا الأصحاب عندهما تلك الليلة، وأنهما في اليوم التالي سيأمران خسرو القاديكلائي(2) ومعه مائة من الخيالة أن يضمنوا سلامتهم عبر شيرگاه. وأضافا: ’لينزل علينا غضب الله وأنبيائه في هذه الدنيا والآخرة إذا كنا نسمح بحصول أي تعدًّ عليك أو على صحبك.‘

وما كادوا يتممون حديثهم حتى حضر أصحابهم الذين ذهبوا لإحضار الطعام للجماعة والعلف للخيول. وأمر الملاّ حسين أصحابه بتناول طعام الإفطار لأنه كان في ذلك اليوم

__________________________________________________________________

من البابيين عشرة أنفار، خرّ عدد أكبر بكثير من المعتدين قتلى. ولما طال الأمد فكّر عباس قلي خان في الحضور لتقدير الأمور بنفسه.‘ ("السيد على محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 296-297)

(1) ويصفه جوبينو بالعبارات التالية: ’يمضي البدو الأتراك والإيرانيون حياتهم في الصيد وكذلك في الاقتتال وفوق كل شيء في الحديث عن الصيد والاقتتال. وهم بواسل ولكنهم ليسوا كذلك دائمًا، وقد أحسن برانتوم وصف بسالتهم بأنها "بسالة ليوم واحد". وكان المذكور قد صادف ذلك النوع من البسالة مرارًا في غمار حروبه. ولكن في الواقع يمكن وصفهم بأنهم على نحو مستمر ليسوا سوى متحدثين عظماء، هادمين عظماء للمدن، قتلة عظماء للأبطال، مبيدين عظماء للجماهير. وبالاختصار إنهم بسطاء فصحاء في مشاعرهم، عنيفون في التعبير حيال ما يثيرهم وكذلك مسلون جدًا. ولو كان عباس قلي خان اللاريجاني قد ولد في عائلة مرموقة، إلا أنه كان نموذجًا مثاليًا للبدوي.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى"، لجوبينو، الصفحة 171)

(2) رجل من الأشرار ثائر دائمًا على الحكومة.

وهو الثاني عشر من ذي القعدة،(1) لم يتناول أي طعام أو شراب منذ الفجر، هو أو أصحابه، وازدحم الخان بالأعيان والخدم والحشم في ذلك اليوم، حتى إنه لم يتمكن هو ولا أحد من أصحابه أن يتناولوا شيئًا من الشاي الذي أعدوه لزائريهم.

وفي تلك الليلة بعد الغروب بنحو أربع ساعات تناول الملاّ حسين مع أحبابه طعام العشاء عند عباس قلي خان والحاج مصطفى خان. وعند منتصف الليل نادى سعيد العلماء على خسرو القاديكلائي وأسرّ إليه رغبته في أن يغدر بالجماعة أثناء سيره معهم ويستولي على ما يملكوه، وأن يقتلهم عن بكرة أبيهم عند سنوح الفرصة حتى لا يفلت منهم أحد. فأجاب خسرو قائلاً: ’أليس هؤلاء من أتباع الإسلام؟ ألم يفضلوا استشهاد ثلاثة منهم على قطع الأذان الذي بدأوه؟ فهل يليق بنا ونحن ندعى بهذا الاسم أن نرتكب معهم مثل هذه الأعمال أو نفكر في مثل هذه التدابير؟‘ إلا أن ذلك الفاجر أمرَه في غير خجل أن يتبع أوامره بكل دقة، وقال له وهو يشير بيده إلى رقبته: ’اذبحهم، ولا تخَف، فإني مسؤول عن عملك، وأنا أجيب الله عنك إذا سُئلت في يوم القيامة، ونحن الذين نسيطر على السلطة الدينية نعلم أكثر منكم كيف نستأصل هذه البدعة.‘

وبمجرد طلوع الشمس طلب عباس قلي خان أن يحضر خسرو أمامه، وأمره أن يظهر كل احترام للملاّ حسين وأصحابه، وأن يسهل لهم السفر عبر شيرگاه، وأن لا يقبل منه أي مكافأة تعرض عليه. وتظاهر خسرو بإطاعة الأمر وأكد له أنه هو وأتباعه لن يألوا جهدًا في حراستهم ولن يقصروا في تأدية الواجب نحوهم وقال: ’عند عودتنا سنريك خطابًا منه مكتوبًا للتعبير عن رضائه بالخدمات التي سنؤديها إليه.‘

ولما مثل خسرو ومعه رؤساء وأعيان بارفروش بواسطة عباس قلي خان والحاج مصطفى خان أمام الملاّ حسين، أشار الأخير إليهم قائلاً: ’"إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها."(2) فإذا كان هذا الرجل (خسرو) يحسن معاملتنا فسيكون له أجر عظيم، وأما

________________________
(1) موافق 10 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1848م.
(2) القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 7.

إذا نوى الغدر بنا فسيكون جزاؤه شديدًا، إنا فوضنا أمرنا إلى الله ربنا وتوكلنا عليه وعلى الله فليتوكل المؤمنون.‘

وإذ تكلم الملاّ حسين بذلك أذن لأصحابه بالرحيل. وسُمع قنبر علي مرة أخرى ينادي الأصحاب بأمر مولاه بقوله: ’امتطوا خيولكم يا فرسان الله.‘ وكانت عادته أن ينادي بمثل هذا في هذه المواقف، فأسرع الأصحاب إلى خيولهم عند سماع النداء، وسارت في الأمام بعض خيالة خسرو، وتبعهم خسرو والملاّ حسين جنبًا لجنب في الوسط، وركب في المؤخرة باقي الأصحاب وعن يمينهم ويسارهم باقي الخيالة من أتباع خسرو الذين أعدهم وجهزهم بالأسلحة اللازمة ليكونوا آلة تحت أمره لتنفيذ تدابيره. واتفقوا على أن يكون قيامهم من بارفروش مبكرًا في الصباح والوصول إلى شيرگاه في ظهر اليوم نفسه. فقاموا من بارفروش بعد ساعتين من طلوع الشمس، واتجه خسرو في رحلته إلى طريق الغابة قصدًا، وكان ذلك أوفق له لتنفيذ مآربه وأغراضه.

وبمجرد ولوج الجماعة في ذلك الطريق، أعطى إشارة للهجوم. فوقع رجاله على الجماعة بكل توحش وغدروا بهم واستولوا على مقتنياتهم وقتلوا عددًا منهم. وكان أخو الملاّ صادق الخراساني من بين القتلى، أما الباقون فأسروهم. ولما سمع الملاّ حسين صيحات الألم والأسى ترجل واحتج على غدر خسرو بهم قائلاً: ’إن ساعة الظهر قد مضت وللآن لم نصل إلى مقرنا فلا أصحبك بعد هذا وأنا غير محتاج لمعونتك ومستغنٍ عنك وعن رجالك.‘ والتفت إلى قنبر علي وطلب منه أن يبسط له الحصير للصلاة. وبينما كان يتوضأ، ترجل خسرو ونادى أحد أتباعه وأمره أن يخبر الملاّ حسين إنه إذا أراد أن يصل سالمًا إلى مقره فعليه أن يسلم سيفه وجواده، فرفض الملاّ حسين أن يجيبه وأخذ في الصلاة. وبعد ذلك بقليل ذهب ميرزا محمد تقي الجويني السبزواري، وهو رجل مثقف وذو شجاعة غير هياب إلى الخادم الذي كان مشغولاً بتحضير القليان (النارجيلة) وطلب إليه أن يستنيبه في توصيلها شخصيًا إلى خسرو، فأجاب الخادم طلبه. وبينما كان الميرزا محمد تقي منحنيًا لإشعال نار القليان، مد يده فجأة إلى صدر خسرو واستل خنجره من ملابسه وطعنه به في أحشائه طعنة نجلاء.(1)

________________________

(1) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 25، في الترجمة العربية) كان ميرزا لطف علي المستوفي هو الذي استل خنجره وطعن خسرو.

وبينما كان الملاّ حسين يؤدي الصلاة، ارتفع صياح أصحابه ثانية بنداء: "يا صاحب الزمان" هاجمين على أعدائهم الذين غدروا بهم وأردوهم جميعًا قتلى، ولم ينجُ منهم أحد سوى الخادم الذي كان يهيئ القليان، وكان قد أخذه الرعب من الحادثة ووقع على أقدام الملاّ حسين وهو أعزل من السلاح وطلب حمايته، فأعطاه الملاّ حسين القليان المرصع بالجواهر المتعلق بسيده، وأمره أن يعود إلى بارفروش ويحكي تفصيل ما وقع وما شاهده بنفسه إلى عباس قلي خان، وقال له: ’أخبره كيف نفذ خسرو المأمورية بالأمانة، فإن هذا الفاجر تصور بحمقه أن رسالتي قد انتهت وأن سيفي وجوادي قد أديا مأموريتهما. ولم يعلم أن عملهما لم يكن للآن قد ابتدأ، وأنه لا يقدر هو أو خلافه أن ينزعهما مني قبل إتمام مهمتهما.‘

وإذ اقترب الليل عزمت الجماعة على الانتظار في ذلك المكان إلى ساعة الفجر. وعند طلوع النهار وبعد إتمام الصلاة، جمع الملاّ حسين أصحابه وقال: ’إننا نقترب من كربلائنا التي هي مقرنا الأخير.‘ وشرع في السير منتحيًا تلك الجهة وتبعه الأصحاب. إلا أنه لما رأى أن بعض الأصحاب أراد أن يصحب معه ممتلكات خسرو ورجاله، أمرهم أن يتركوا كل شيء وراءهم عدا سيوفهم وجيادهم وقال: ’عليكم أن تصلوا إلى تلك البقعة المقدسة بحالة تجرد تام مقدسين عن كل ما يتعلق بهذا العالم.‘(1) ولما ساروا مسافة ميدان(2) وصلوا إلى ضريح الشيخ الطبرسي.(3) وكان الشيخ أحد رواة الحديث عن أئمة الدين، وأما مدفنه

________________________

(1) ’والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ’’لا يحق لنا أن نجعل الأموال الفانية سببًا في انقسامنا في تلك الأيام القليلة التي نقضيها في هذا العالم. فلتكن جميعها شركة بيننا ينتفع منها الجميع.‘‘ فوافق البابيون على ذلك بسرور تام. ومن هذه التضحية العجيبة وهذا الإنكار الذاتي التام يتضح السبب في اتهام البابيين بأنهم ينادون بالاشتراك في الأموال وحتى في النساء.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 299)

(2) جزء من فرسخ.

(3) ويقع ضريح الشيخ أحمد ابن أبي طالب الطبرسي على بعد أربعة عشر ميلاً جنوب شرق بارفروش وزار الضريح الپروفسور براون من كلية كامبردج في 26 سپتمبر/أيلول سنة 1888م ورأى اسم الشيخ المدفون منقوشًا على لوحة على شكل كلمات الزيارة. وكانت اللوحة معلقة على السور الحديدي المحيط بالقبر. وكتب براون: ’وهو الآن عبارة عن حظيرة محاطة بسور وتنبت في أرضها الحشائش وفيها الضريح وبناء آخر عند البوابة مقابل المنزل الذي يقيم فيه المتولي (راعي شؤون الضريح) ولا يوجد في المكان سوى شجرتين أو ثلاث من البرتقال وبضعة مقابر بسيطة عليها ألواح من الحجر يقال أنها مقابر بعض البابيين المدافعين. أما ↓

فمزار السكان المجاورين. ولما وصل إلى هذا المكان تلا الآية القرآنيةالتالية: "وقل رب أنزلني منزلاً مباركًا وأنت خير المنزلين."(1)

وكان حارس ضريح الشيخ الطبرسي رأى في الرؤيا في الليلة التي سبقت وصولهم، أن سيد الشهداء الإمام الحسين وصل إلى مقام الشيخ الطبرسي مصحوبًا بعدد من المحاربين لا يقلّون عن اثنين وسبعين مقاتلاً، وكثير من أتباعه. ورأى أنهم نزلوا في ذلك المكان واشتغلوا فيه بالمحاربة واقتحام غمار الملاحم ببسالة عظيمة، وأنهم كانوا منصورين في كل موقعة على قوات الأعداء، وأن رسول الله بنفسه حضر ذات ليلة واجتمع بهؤلاء الأبرار. فلما جاء الملاّ حسين في اليوم التالي، عرفه حارس الضريح توًا بأنه هو البطل الذي رآه في رؤياه، فارتمى على قدميه يقبّلهما بكل إخلاص، فأخذه الملاّ حسين وأجلسه بجانبه وسمع منه حكايته. ثم أكد للحارس قائلاً: ’إن كل ما رأيته سوف يتحقق وتشاهد بعينيك وقوع كل هذه الحوادث العظيمة.‘ فكان نصيب هذا الحارس أنه اندمج في جماعة المدافعين في القلعة ووقع شهيدًا بين أسوارها.

وفي يوم وصولهم وهو في الرابع عشر من ذي القعدة،(2) أعطى الملاّ حسين التعلميات الأولية لتخطيط القلعة التي أراد تشييدها للدفاع، إلى ميرزا محمد باقر، الذي بنى "البابية". وعند مساء اليوم نفسه وجدوا أنفسهم محاطين بفرقة غير منتظمة من الخيالة خرجوا من الغابة واستعدوا لإطلاق النار عليهم وصاحوا: ’نحن سكان قاديكلا جئنا لنثأر لدم خسرو ولا نقنع إلا بأن نجعلكم جميعًا طعمة للسيف.‘ فاضطر الأصحاب لسلّ السيوف مرة

_____________________________________________________________________

البناء الموجود عند البوابة فهو مكون من طبقتين وفيه المدخل إلى الحظيرة ومسقوف بالطوب الأحمر. أما بنايات الضريح في الطرف البعيد من الحظيرة فهي أنظم وأفخم ويبلغ طولها نحو عشرين خطوة وتمتد شرقًا وغربًا وأما عرضها فنحو عشر خطوات، وبالإضافة إلى ذلك يحوي الممر المسقوف قرب البوابة غرفتين يدخل إليهما ضوء خافت عبر فاصل خشبي مشبك على الأبواب. أما قبر الشيخ الذي يحمل المكان اسمه فيقع في وسط الغرفة الداخلية ويمكن الوصول إليه إما من باب يتصل بالغرفة الخارجية أو من باب يطل على الحظيرة الخارجية.‘ (للإطلاع على الخرائط والرسوم، انظر ترجمة كتاب "التاريخ الجديد" للمؤلف). ("سنة بين الإيرانيين" لبراون، الصفحة 565)

(1) سورة المؤمنون، الآية 29.
(2) 12 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1848م.
صورة 126
ضريح الشيخ الطبرسي

أخرى للدفاع عن أنفسهم أمام هؤلاء الغوغاء المتوحشين الذين شنوا عليهم الغارة، ووثبوا عليهم صائحين "يا صاحب الزمان" وصدوا هجومهم إلى أن اضطروهم للفرار. وكان الصياح شديدًا حتى إن الخيالة اختفت فجأة كما ظهرت. وكان ميرزا محمد تقي الجويني قد ترأس هذه الموقعة بناء على طلبه.

وخشية أن يعيد هؤلاء المهاجمون الكرّة عليهم ويلجأوا إلى الذبح العام، فقد تتبعوهم حتى وصلوا إلى قرية ظنوها أنها قرية قاديكلا. فلما رآهم أهلها فروا هاربين مذعورين، وأثناء ذلك قتلت والدة نَظَر خان، صاحب القرية في ظلام الليل بغير قصد وسط الهرج والاضطراب، وصاحت النسوة بالاحتجاج على هذا التعدي قائلات: ’إن هذه القرية لا علاقة لها بأهالي قاديكلا.‘ فلما وصل ذلك إلى مسامع ميرزا محمد تقي، أمر أصحابه أن يكفوا أيديهم حتى يتبينوا اسم القرية، وسرعان ما وجدوا أن القرية هي ملك نظر خان، وأن المرأة المقتولة هي والدته. وإذ اكتشف هذا الخطأ الذي وقع من أصحابه، اضطرب لحصوله، وصاح بحزن قائلاً: ’لم نكن نقصد ايقاع الضرر برجال هذه القرية ولا بنسائها، بل كان غرضنا الوحيد منع هجوم أهالي قاديكلا الذين هاجمونا وقصدوا أن يقتلونا

جميعًا.‘ واعتذر بصدق عن الكارثة التي حصلت على أيدي أصحابه دون قصد.

وتأكد نظر خان وهو مختبئ في منزله من صدق تأسفات ميرزا محمد تقي، ومع أنه كان متألمًا من حادثة فقد والدته، إلا أنه قام للحال ودعاه للحضور إلى منزله، وطلب إليه أن يقدمه إلى الملاّ حسين، وأظهر رغبة شديدة في أن يطّلع على تفاصيل الأمر الذي يشعل في صدور أتباعه مثل هذا الحماس.

وفي الفجر وصل ميرزا محمد تقي مصحوبًا بنظر خان إلى ضريح الشيخ الطبرسي، ووجد الملاّ حسين يؤم الأتباع في الصلاة، وكان السرور باديًا على وجهه، بدرجة أن نظر خان شعر بدافع لا يقاوم لأن يجتمع مع المصلين ويكرر نفس الصلاة التي كانت تخرج من أفواههم. وبعد إتمام الصلاة، أخطروا الملاّ حسين بالكارثة التي وقعت على نظر خان. فأظهر عطفه بعبارات بليغة مؤثرة وتكلم عن تأثره وأصحابه جميعًا في مصابه الجسيم، وأكد له قائلاً: ’يعلم الله أن قصدنا الوحيد إنما كان حماية أرواحنا لا تعكير صفو الجيران.‘ ثم أخذ الملاّ حسين في سرد الحوادث التي سببت هجوم أهالي بارفروش عليهم، وحكى تفاصيل خيانة خسرو، ثم عاد وأكد له حزنه لوفاة والدته. فأجاب نظر خان فورًا: ’لا تكدّر خاطرك، فلو أن لي مائة ولد لفديتهم تحت أقدامك فداء وتضحية لصاحب الزمان.‘ وأكد للملاّ حسين في نفس اللحظة خضوعه التام له، وأسرع في العودة إلى قريته ليجلب لجماعة الأصحاب ما يقدر عليه من المؤن.

وأمر الملاّ حسين أصحابه بالبدء في بناء القلعة حسب التصميم المقرر. وخصص لكل مجموعة جزءًا من العمل، وشجعهم على إتمامه. وكانوا أثناء انهماكهم بالعمل كثيرًا ما يباغتهم العدو بهجوم من أهالي القرى المجاورة بتحريض مستمر من سعيد العلماء. وكان كل هجوم منهم يرد ويهزم شر هزيمة. وكان الأصحاب يقاومون هجومهم ببسالة تامة ولم تكن تلك الكرّات الوحشية توقفهم عن العمل، حتى نجحوا أخيرًا في إخضاع جميع القوات التي أحاطتهم من كل الجهات لفترة مؤقتة. ولما تم البناء عمل الملاّ حسين الترتيبات للحصار الذي أعدت القلعة لمقاومته. وأعد فيها كل ما يلزم لسلامة سكانها رغم الصعوبات التي اعترضته.

صورة 127
قبر الشيخ الطبرسي

وما كاد يتم البناء، حتى وصل الشيخ أبو تراب ومعه أخبار وصول حضرة بهاءالله لقرية نظر خان، وأخبر الملاّ حسين أنه مرسل من قبل حضرة بهاءالله لإعلامهم أنهم سيكونون جميعًا ضيوفه في تلك الليلة، وأنه سوف يجتمع بهم بعد ظهر ذلك اليوم نفسه. وسمعت الملاّ ميرزا محمد الفروغي يحكي الآتي: ﴿إن الأخبار التي أتى بها الشيخ أبو تراب جلبت فرحًا لا يقدّر إلى قلب الملاّ حسين، وأسرع توًا إلى أصحابه وأمرهم أن يهيئوا أنفسهم لاستقبال حضرة بهاءالله. وانضم إليهم في عملية الكنس والرش حول المقام، وكان بنفسه يلاحظ كل شيء يراه ضروريًا لاستقبال ضيفه المحبوب. وبمجرد أن رآه حاضرًا مع نظر خان، تقدم نحوه وعانقه بكل لطف وأوصله إلى المقام الجليل الذي أعده لاستقباله.

وكنا في تلك الأيام نجهل مجد ذاك الذي كان قائدنا يسدي إليه مثل هذا الاحترام

صورة 128
موقع الحصن الذي ضم الضريح

والإجلال، وكنا عاجزين عن إدراك ما شاهده الملاّ حسين فيه. فما كان أعظم شوقه إذ تلقاه بين ذراعيه! وما كان أعظم اغتباطه وفرح قلبه عند لقائه! فكأنه كان غارقًا في بحر من الإعجاب به غير شاعر بنا جميعًا. وكان يتأمل في طلعته بدرجة أخذت بمجامع لبه، حتى إننا مكثنا واقفين بجانبه مدة منتظرين صدور الإذن لنا بالجلوس، ولكنه كان مشغولاً عنا، ولم يصدر لنا إذن بالجلوس أخيرًا إلا من حضرة بهاءالله نفسه. وكان سحر بيانه قد أثر في نفوسنا رغمًا عن إننا ما كنا نعرف تلك القوة الفائقة التي كانت مستورة في طي كلماته.

وأثناء تلك الزيارة تفقد حضرة بهاءالله القلعة وأظهر رضاءه على العمل الذي تم فيها. وأثناء محادثته مع الملاّ حسين، بيّن له بالتفصيل المسائل الحيوية التي تؤدي إلى سلامة أصحابه وصلاحهم، وقال له: ’إن الشيء الوحيد الذي ينقص هذه القلعة والأصحاب هو وجود القدوس، فاجتماعه بالجماعة يجعلها تامة كاملة.‘ وأشار على الملاّ حسين أن يرسل الملاّ مهدي الخوئي ومعه ستة أشخاص إلى "ساري"، ويطلب من ميرزا محمد تقي أن يسلمه القدوس فورًا. وأكد للملاّ حسين قائلاً: ’إن خوف الله واتقاء عقابه سيلجئانه أن يسلم أسيره دون تردد.‘

وأمر حضرة بهاءالله الأصحاب قبل مبارحته القلعة بالصبر والإنابة إلى إرادة القدير، وقال لهم: ’إن شاء الله سوف نزوركم مرة أخرى في هذه البقعة نفسها ونسدي إليكم مساعدتنا. فقد انتخبكم الله أن تكونوا طليعة جيشه وجنده ومؤسسي دينه. وعنكم قال تعالى "وإن جندنا لهم الغالبون"(1) فمهما يحدث فالنصر مضمون لكم.‘ وبهذه الكلمات ودّع هؤلاء الشجعان وأوكلهم لحفظ الله، ورجع إلى القرية مع نظر خان والشيخ أبو تراب، ثم عاد من هناك بطريق نور إلى طهران.﴾

وكان الملاّ حسين قد بدأ فورًا في تنفيذ التعليمات والإرشادات التي أعطيت له. فاستدعى الملاّ مهدي وأمره أن يذهب مع ستة من رفاقه إلى ساري، ويطلب من المجتهد أن يطلق سراح سجينه. وبمجرد وصول الرسالة إلى ميرزا محمد تقي حتى سلّم بما جاء

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الصافات، الآية 173.
صورة 129
مدخل ضريح الشيخ الطبرسي في مازندران

فيها، لأن قوتها أخذت بمجامع لبه، وأكد للرسول بقوله: ’إني اعتبرته ضيفًا محترمًا بل إنه قاطن في منزله، ولا يليق أن أدعى لإطلاق سراحه أو فك قيده، لأنه مخيّر في البقاء أو الذهاب كما يشاء، وإذا فضّل الذهاب، فإني أرغب في مرافقته أيضًا إلى حيث يذهب.‘

وفي تلك الأثناء أخبر الملاّ حسين رفاقه بقرب حضور القدوس، وأمرهم أن يظهروا له من الاحترام ما لا يقل عن احترام حضرة الباب. وقال لهم: ’أما أنا فاعتبروني أقل عبيده شأنًا، فعليكم بالطاعة له دون تردد بحيث لو أمركم بقتلي لا تترددون في إطاعته. وإذا ترددتم أو تأخرتم، فإنكم تظهرون عدم الطاعة لدينكم. ولا تتجاسروا بالحضور أمامه إلا إذا دعاكم، وعليكم بترك جميع رغائبكم والتعلق برغبته ورضائه، وأن تمتنعوا عن تقبيل يديه أو قدميه، لأن قلبه الطاهر يكره مثل هذه العلائم للدلالة على الخلوص والمحبة، وليكن سلوككم نحوه بكيفية تجعلني فخورًا بكم. فعلى الجميع حتى أصغر الأتباع أن

صورة 130
مخططات ورسوم قلعة الشيخ الطبرسي

يعترف بسلطته ومجده الذي اختص به، وأما مَن يحيد عن نصيحتي حرفيًا أو ضمنيًا، فسيأخذه عذاب عظيم.‘

وكان حبس القدوس في منزل ميرزا محمد تقي، أعظم مجتهدي ساري، والذي كان من أقربائه، قد استمر 95 يومًا، وكان المجتهد يعامله بكل احترام رغم حبسه، ويسمح له بمقابلة معظم الأصحاب الذين حضروا اجتماع بدشت. ولكن القدوس لم يأذن لأحد منهم أن يقيم في ساري، وكان يأمر كل من يزوره، بأن ينخرط في سلك أصحاب الراية السوداء التي رفعها الملاّ حسين. وكانت هذه الراية هي التي تكلم عنها رسول الله ﷺ

بقوله: "إذا رأيتم الرايات السود أقبلت من خراسان فأسرعوا إليها ولو حبوًا على الثلج، فإنها بشيرة بظهور خليفة الله المهدي." وكان رفع هذه الراية بأمر من حضرة الباب باسم القدوس وبأيدي الملاّ حسين. ونشرت على طول الطريق من مشهد إلى ضريح الشيخ الطبرسي. ولمدة أحد عشر شهرًا، من أول شعبان سنة 1264ﻫ(1) إلى آخر جمادى الآخرة سنة 1265ﻫ (2) كانت هذه الراية رمزًا ماديًا يشير إلى ملكوت السماء، وتتموّج باستمرار فوق رؤوس تلك العصبة الصغيرة من الفرسان الأشاوس، وتنادي الذين يشاهدوها أن ينبذوا هذا العالم ويعتنقوا أمر الله.

وكان القدوس أثناء إقامته في ساري، يجتهد أن يقنع ميرزا محمد تقي بحقيقة الأمر الإلهي ويحادثه بكل حرية فيما يختص بالأمور الجوهرية المتعلقة برسالة حضرة الباب. ويصوغ عباراته وكلامه باللطف واللين، وكان كل من يسمعه لا يشعر بأقل تحدٍ، لأنهم يحملون إشاراته للكتاب على أنها ملاحظات يقصد بها تسلية السامعين. وكان ميرزا محمد تقي يشعر بأمر باطني يمنعه من عدم احترام القدوس أثناء اعتقاله في منزله، بل كان يمنع أهالي ساري من ايذائه أو الإساءة إليه، وكثيرًا ما كان يوبّخهم على رغبتهم في التعدي عليه، وذلك رغم قسوته وشروره التي كان يخفيها في قلبه وما ظهر منه أخيرًا، حيث أصر على رغبته في استئصال البقية الباقية من الأبطال المدافعين عن قلعة الشيخ الطبرسي.

وكانت أخبار قرب حضور القدوس قد حركت أهل قلعة الطبرسي، ولما اقترب منها، أرسل رسولاً لإعلان مجيئه، فأحدثت هذه الأنباء المفرحة فيهم حماسًا وجدّدت قواهم، وقام الملاّ حسين بحماس متقد لم يقدر على مقاومته برفقة نحو مائة من أصحابه وأسرع لمقابلة زائره المنتظر، ووضع شمعتين في يدَي كل واحد، وأوقدها بنفسه وأمرهم جميعًا بالتقدم على هذه الصورة لملاقاة القدوس. فاستنار الليل بالضياء الذي انبعث في قلوبهم المبتهجة بينما كانوا يسيرون لمقابلة محبوبهم. وابتهجت قلوبهم

________________________
(1) 3 يوليو/تموز - 1 أغسطس/آب سنة 1848م.
(2) 24 أبريل/نيسان - 23 مايو/أيار سنة 1849م.
صورة 131
منزل ميرزا محمد تقي، المجتهد،
في ساري، مازندران

من ملاقاته، وفي وسط غابة مازندران، رأوا طلعة الذي كانوا مشتاقين لرؤياه، فتقدموا نحوه بشوق غامر، وأحاطوا بجواده، وأظهروا له طاعتهم الدائمة بكل خضوع واحترام ومحبة. وتبعوه وهم يحملون الشموع في أيديهم سائرين خلفه على الأقدام، حتى وصلوا إلى مقرهم، وكان وجه القدوس وهو يمر في وسطهم، يضيء كالكوكب الدري الذي أحاطته النجوم من كل الجهات. وبينما الجمع المتحمس يسير ببطء نحو القلعة، كانوا ينشدون نشيد الترحيب والتمجيد والمديح. وارتفعت أصواتهم حوله بفرح قائلين: ’سبوحٌ قدوسٌ ربّنا ورب الملائكة والروح!‘ وكان الملاّ حسين يبدأ بالنداء ويردّد نداءه جميع الأصحاب. وكانت غابة مازندران تردد صدى ندائهم بدورها.

وعلى هذا المنوال وصلوا إلى ضريح الشيخ الطبرسي. وكانت أول الكلمات التي تفوّه بها القدوس بعد أن ترجل واستند إلى الضريح: "بقيَّةُ الله خير لكم إن كنتم مؤمنين."(1) وبهذه العبارة تمت نبوة محمد ﷺ، حيث يقول في الحديث الآتي: ’وعند ظهور المهدي يسند ظهره إلى الكعبة ويخاطب أتباعه الثلاثمائة والثلاثة عشر الذين يلتفون حوله ويقول "بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين."‘ ولم يقصد القدوس ﺑ"بقية الله" أحدًا خلاف حضرة بهاءالله. وللدلالة على ذلك، حكى ميرزا محمد الفروغي الرواية الآتية: ﴿كنت موجودًا عندما ترجّل القدوس وأسند ظهره إلى الضريح، وسمعته يتفوه بهذه الكلمات نفسها، وما كاد ينطق بها حتى ذكر اسم حضرة بهاءالله، ثم التفت إلى الملاّ حسين وسأله عنه.

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة هود، الآية 86.

فأخبره بأنه أبدى عزمه على العودة إلى هذا المكان قبل أول محرم(1) إلا أن يشأ الله غير ذلك.

وبعد قليل أعطى القدوس للملاّ حسين عددًا من المواعظ وأمره أن يقرأها على أصحابه المجتمعين. وكانت الأولى خاصة بحضرة الباب، والثانية بحضرة بهاءالله، والثالثة بالطاهرة. وتجاسرنا بالسؤال من الملاّ حسين، وأظهرنا له شكوكنا من أن تكون الإشارات في الموعظة الثانية خاصة بحضرة بهاءالله الذي ظهر بملابس النبلاء.(2) وأعلم القدوس بالمسألة، فأكد لنا أن سر الأمر سينكشف في الوقت المناسب بإذن الله. وكنا في تلك الأيام لا نعلم شيئًا عن رسالة حضرة بهاءالله ولا نعرف مغزى تلك الإشارات. وأخذت منا الظنون كل مأخذ بالنسبة لدلالة معانيها وبيان مراميها. وكثيرًا ما كنت أسأل القدوس أثناء بحثي عن غوامض الأحاديث الخاصة بالقائم الموعود. ومع أنه تردد في بادئ الأمر، إلا أنه أخيرًا أجاب طلبي. وكانت طريقة إجابته وبياناته الشافية المقنعة باعثة على ازدياد الحيثية والاحترام اللائق لمقامه، فكان يمحو كل شك من أفئدتنا. واقتنعنا أنه كانت له قدرة على قراءة ضمائرنا وتهدئة خواطرنا.

وكنت أرى الملاّ حسين كثيرًا من الليالي يدور حول الضريح الذي ينام فيه القدوس، فكم كان ينسل في جنح الليل من غرفته ويتقدم بكل هدوء إلى تلك الجهة ويناجي الضيف المحبوب بنفس العبارة التي رحّبنا بها بحضرته عند وصوله! ولن أنسى تلك الليالي ولا ما كان يخالجني من الإحساس العميق عندما كان يتقدم إليّ في هدوء ساعات الليل التي كنت أخصصها للصلاة والمناجاة ويهمس في أذني قائلاً: ’أفرغ عقلك يا ملاّ ميرزا محمد من هذه الأمور المحيرة، وتعالَ معي مخلصًا لوجه الله لنشرب كأس الشهادة، لتقدر إذ ذاك أن تفهم المعنى المقصود من سنة 80(3) التي سوف تظهر فيها للعالم أحب الأمور والأشياء التي هي الآن مستورة عنك.‘﴾

________________________
(1) 27 نوڤمبر /تشرين الثاني سنة 1848م.

(2) أي إنه لم يكن من طائفة الملاّوات الذين لهم لباس خاص بهم.

(3) إشارة إلى سنة 1280ﻫ (1863-1864م) والتي أعلن فيها بهاءالله دعوته في بغداد.

ولما وصل القدوس إلى ضريح الشيخ الطبرسي، طلب من الملاّ حسين أن يحصي عدد الأصحاب المجتمعين، فعدّهم فردًا فردًا، وجعلهم يمرون من بوابة القلعة فكانوا ثلاثمائة واثني عشر، وإذ كان على وشك الدخول إلى القلعة لإخبار القدوس بعدّتهم، ظهر فجأة شاب مسرع قادم من جهة بارفروش سائرًا على الأقدام وأمسك بطرف ردائه، وطلب منه أن يثبته ضمن الأصحاب وأن يسمح له أن يفدي حياته في سبيل المحبوب متى تطلب الأمر ذلك. فأجيب إلى ملتمسه في الحال. فلما علم القدوس بعدة المؤمنين قال: ’قد تم كل ما وعد به رسول الله خاصًا بالقائم الموعود،(1) ولكي تكون الحجة كاملة على علماء الدين الذين يظنون أنفسهم إنهم وحدهم المفسرون لشريعة الإسلام وأحاديثه، وبها يعرف الناس صدق تلك الأحاديث ويعترفون بتحققها.‘(2)

________________________

(1) ’اجتماع ثلاثمائة وثلاثة عشر من مناصري الإمام في طالقان بخراسان هو من علامات مجيء القائم.‘ ("تاريخ الأدب الفارسي في العصور الحديثة" [1500-1924م]، لبراون، الصفحة 399)

(2) ﴿وكان من بينهم رضا خان ابن محمد خان التركماني متحفظ الخيل عند المرحوم جلالة محمد شاه. وكان شابًا وسيمًا ومتحليًا بكل الكمالات والفضائل لطيفًا كريمًا شجاعًا. وبسبب محبته وتقديسه لحضرة الأعلى ترك منصبه ومرتبه وأغلق عينيه عن الرتبة والشهرة وتوبيخ الأحباء وشماتة الأعداء. وفي أول خطوة ترك الاعتبار والثروة والوظيفة وكل الاحترام والامتيازات التي كان يتمتع بها وصرف مبالغ طائلة على الأمر (بين أربعة وخمسة آلاف تومان على الأقل) وفي عدة مناسبات أظهر رغبته في تضحية حياته. ومن تلك المناسبات عندما كان متشرفًا بمحضر حضرة الأعلى في قرية خانلق قرب طهران، إذ قال حضرته امتحانًا لأتباعه: ’لو إنه يوجد بعض خيالة لإنقاذي من أسر الأشرار وتخليصي من مكرهم لكان أولى.‘ ولدى سماع تلك الكلمات تطوع جملة من الخيالة المتمرسين المسلحين لهذا الغرض وتركوا كل شيء وراءهم مسرعين للتشرف بمحضره. وكان من بينهم ميرزا قربان علي من استراباد ورضا خان فلما مثلوا أمام حضرته قال وهو يبتسم: ’إن جبال آذربيجان أيضًا لها حقوق.‘ وأمرهم بالرجوع. وبعد عودة رضا خان كرس حياته لخدمة أحباء الله، وكان منزله غالبًا محل اجتماعهم وكان القدوس وباب الباب ضمن الذين استضافهم في منزله مدة معينة. ولم يقصر أبدًا في هذه الخدمة تجاه أي من الأحباء. ورغمًا عن مركزه العالي اجتهد قلبًا وقالبًا في تنفيذ رغباتهم. وعلى سبيل المثال لما شرع القدوس يدعو للأمر في مازندران وقام عليه سعيد العلماء بالأذى، أسرع رضا خان إلى مازندران وأخذ على عاتقه مصاحبة القدوس وحمايته، فكان كلما خرج القدوس من منزله مشى بجوار جواده كالحارس حاملاً سيفه على كتفه رغمًا عن علو مقامه والاحترام الذي اعتاده حتى أوجب ذلك ابتعاد الأشرار عنه والخوف منه... ومكث رضا خان على هذا المنوال مدة في مازندران إلى أن رافق القدوس سائرًا معه إلى مشهد. ولدى عودته من هناك شهد مآسي بدشت، فكان يُرسَل في المهام العظيمة ويوثق به فيها. ولما تفرق الجمع من بدشت وقع مريضًا وعاد إلى طهران وبصحبته ميرزا سليمان قلي من نور ↓

وفي تلك الأيام كان القدوس في كل صباح ومساء يطلب حضور الملاّ حسين ونخبة من الأصحاب المميزين، ويسألهم أن يرتلوا كتابات حضرة الباب. فكان يجلس في الميدان أمام القلعة يحيط به أخص الأحباب وهو يستمع لأقوال سيده، وكثيرًا ما كان يعلّق عليها. ولم تكن تهديدات الأعداء ولا وحشية هجومهم بكافية لأن ترجعه عن حماسه أو تقطع عليه مداومة مجهوداته وإخلاصه. وكان يحتقر كل خطر وشدة ويتناسى احتياجاته وطلباته. واستمر على مناجاته اليومية مع محبوبه حتى في أشد الأحوال وأفجعها، فكان يكتب مدائحه ويقوم على تنشيط المدافعين في القلعة. ولم تمنعه وحشية هجوم الأعداء من أن يثابر على أعماله بسكون وهدوء تام. ورغمًا عن أنه كان هدفًا لقنابل الأعداء التي كانت تصب دون انقطاع، كان دائمًا يبتهل قائلاً: ’إن روحي مقترنة بذكرك الذي هو

____________________________________________________________________

(ابن المرحوم شاطر باشي المشهور أيضًا بعلمه وفضله). وطالت مدة مرض رضا خان ولما شفي كان حصار قلعة الطبرسي قد اشتد. فعزم فورًا على الالتحاق بالحامية لمساعدتها. ولما كان من الرجال المشهورين ذوي المكانة لم يقدر على ترك العاصمة دون إبداء عذر مقبول، فتظاهر بالتوبة من أعماله السابقة وطلب أن يرسل ليشترك في الحرب في مازندران ليتدارك ما فاته. فأجابه الملك إلى ذلك وتعين لمرافقة القوة المرسلة تحت إمرة الأمير مهدي قلي ميرزا لمحاربة أهل القلعة. وفي الطريق كان يقول للأمير سأعمل كذا وكذا ولذلك كان أمل الأمير فيه عظيمًا ووعده بالتعيين في وظيفة كبيرة مكافأة له على خدماته، ولغاية اليوم الذي بدت فيه المعركة وشيكة وأخفقت مساعي الصلح كان مرموقًا في الجيش ونشطًا جدًا في إدارة شؤونه. إلا أنه في أول يوم من أيام المحاربة أخذ يجري بجواده ويقفز به في حركات تدريبية إلى أن طرد الشكوك وفجأة أطلق له العنان وبهذه الوسيلة انضم إلى إخوان الصفا. ولما وصل بينهم قبّل ركبة القدوس وخضع أمامه شاكرًا. ثم عاد إلى ميدان القتال وابتدأ يشتم الأمير وهو يقول: ’من منكم يرتقي برجوليته ويرفض أبهة وفخر هذا العالم ويضعهما تحت الأقدام ويتخلص من قيود الشهوات وينضم كما فعلت إلى أولياء الله؟ أما أنا فأفتخر برأسي عندما يسقط في هذا الميدان ملطخًا بالدماء والتراب.‘ ثم هجم كالأسد الغضنفر بسيفه وأبلى بلاء عظيمًا حتى إن الضباط الملكيين تعجبوا وقالوا: ’لقد أعطي من العلي بسالة فائقة لم تكن معه في البداية وإن روحًا جديدة نفخت فيه.‘ فكم مرة قتل صاحب مدفع في الوقت الذي كان يحاول إطلاقه! وكم من الضباط العظام وقعوا صرعى تحت أقدامه! ولذلك اهتم الأمير وباقي الضباط للانتقام منه أكثر من باقي البابيين. وفي اليوم المعين لتسليم القدوس نفسه إلى المعسكر الملكي علم رضا خان أن الأعداء سوف يذبحونه ويمثلون به نظرًا لعدائهم الكامن، فذهب ليلاً إلى أحد أصحابه من الضباط من كبار السن وكان صاحبه ورفيقه المخلص، وبعد ذبح باقي البابيين بحثوا عن رضا خان حتى عثروا عليه أخيرًا، فأراد صاحبه أن يفديه بألفي تومان فلم يقبل منه ثم أراد زيادة المبلغ لينقذ صديقه فلم يقبل أيضًا لأن الأمير، نظرًا للحقد العظيم عليه أمر أن يقطعوه إربًا إربًا.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 96-101)

سلوان حياتي وسكونها وإني أفتخر بأن أكون أول من اضطهد في سبيلك في شيراز وأرجو أن أكون أول مَن يفدي روحه فداءً لائقًا لأمرك.‘

وأحيانًا كان يطلب من بعض رفاقه العراقيين أن يرتلوا بعض الآيات من القرآن الكريم، وكان ينصت لها بكل التفات ثم يتأثر أحيانًا بحيث يفسّر معناها. ومرة أثناء التلاوة وردت الآية: "ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين."(1) فقال القدوس: ’نزلت هذه الآية أصلاً في أيوب وما أصابه. وفي هذه الأيام تنطبق علينا. فسوف تصيبنا كل هذه الآلام. وستعم البلوى بدرجة أن مَن لم يتعوّد الصبر والثبات لن يقدر على تحمّلها.‘

وكان علم القدوس وحكمته اللذان ظهرا في تلك المناسبات، واليقين الذي كان يتكلم به، والمراجع التي يبيّنها في تعليمه للأصحاب، قد زادت في رفعة شأنه ومكّنت من سلطته في نظر الذين كانوا يظنون أن احترام الملاّ حسين له، استوجبته ظروف الأحوال وضرورة الموقف، لا عن احساس اختياري لشخصه، إلا أن مقدرته الكتابية واستقامته قد نفتا كل شك في إعلاء شأنه، فأصبح له المقام الأول المحترم في أعين جميع الأصحاب حتى لم يشك فيه أحد. وكان في أيام حبسه في بلدة ساري، كتب تفسيرًا لسورة الإخلاص (ومطلعها "قل هو الله أحد") بناء على طلب ميرزا محمد تقي، وحرر في تفسير "صاد الصمد" وحده ما يقرب من ثلاثة أمثال حجم القرآن. وكان ميرزا محمد تقي قد انجذب من البيان العالي الشامل الذي ظهر منه في ذلك التفسير، حتى إنه أوجب عليه شدة احترامه، رغمًا عن أنه في النهاية انضم إلى سعيد العلماء في تنفيذ خطة إعدام شهداء قلعة الشيخ الطبرسي. وكان القدوس أثناء حصاره في تلك القلعة دائبًا على كتابة باقي تفسيره لتلك السورة. وتمكن بالرغم من اشتداد وطأة هجوم الأعداء من إكمال تفسير ذلك الحرف، بكتابة ما يوازي مقدار التفسير الأول الذي حرره في ساري. وكانت سرعة إنشائه وغزارة مادته وما تظهره كتاباته من فك الرموز وإظهار الكنوز، قد جعلت الأصحاب يعجبون به ويعتبرونه مستحقًا للرياسة في

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 155.

نظرهم. وكانوا يقرأون بشوق تلك الصحائف التي كان الملاّ حسين يحضرها لهم في كل يوم والتي كان يُسدي إليها نصيبه الوافر من الإجلال والاعتبار.

وكان إكمال بناء القلعة وتموينها بكل ما يلزمها للدفاع، قد أحيا حماس أصحاب الملاّ حسين وأثار اندهاش الأهالي المجاورين.(1) وكان الكثيرون يحضرون إلى القلعة ويطلبون السماح لهم بالدخول داخل أسوارها، رغبة منهم إما في الإطلاع أو لأي غرض مادي آخر، وآخرون يدفعهم حبهم وإخلاصهم للدين الذي يمثله ذلك البناء إلى طلب الدخول داخل أسواره، وكانوا يعجبون بالسرعة الفائقة التي تم بها بناؤه. وإذ تيقن القدوس من إتمام عدد القاطنين في القلعة، أمر أن لا يدخل إليها أي زائر. وكان كل من سبق له رؤيتها يمتدحها، وانتقل المدح من فم إلى آخر حتى وصل إلى آذان سعيد العلماء، فاشتعلت في صدره نيران الحسد الشديد. ولشدة كراهيته لأولئك المسؤولين عن بنائها، أصدر أمره بمنع أي شخص من الاقتراب منها، وأمر الجميع بمقاطعة أصحاب الملاّ حسين. ورغمًا عن صدور أوامره المشددة، كان البعض لا يعبؤون بها ويعملون كل ما في وسعهم لمساعدة الذين اضطهدوا بغير ذنب. وحلت المصاعب والشدائد على المحصورين على شأن إنهم ما كانوا يجدون أبسط ضروريات الحياة. إلا أنهم كانوا في أحلك ساعات المحنة، يستنيرون بنور النجدة الإلهية فجأة ويفتح لهم باب الخلاص على غير انتظار.

وكانت الطريقة التي تفتح بها العناية الإلهية لهم بابًا للخلاص من الضيق والحصار سببًا في انزعاج سعيد العلماء واشتعال غضب ذلك الطاغية العاتي المتمرد. فكتب إلى ناصر

________________________

(1) ’طبقًا للوصف الذي سمعته فإن القلعة التي بناها الملاّ حسين سرعان ما أصبحت بناءً منيعًا. فكانت أسوارها تعلو عشرة أمتار وشيدت من الحجارة الكبيرة. وعلى هذه القاعدة شيد بناء من جذوع الأشجار الضخمة وجعلت في وسطه كوّات للرمي منها، ثم حفر خندقًا عميقًا حولها. وفي الواقع كانت بمثابة برج عظيم ذي قاعدة حجرية والطوابق العلوية من الخشب لها ثلاثة صفوف من الكوّات بحيث يمكن أن يقف عندها أي عدد من حملة البنادق، أو العدد الذي توفر لهم. وصنعوا فتحات لعدة أبواب ومخارج خلفية ليتمكنوا من الدخول والخروج بسهولة. وحفروا آبارًا للماء وبذلك ضمنوا وفرة منه، وجعلوا فيها مسالك تحت الأرض للالتجاء إليها وقت الحاجة، وبنيت مخازن ملئت بكل أنواع المؤن التي اشتريت أو أخذت من القرى المجاورة. وأخيرًا وضع الحراس على الأبواب من البابيين المشهود لهم بالإخلاص والحماس.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 156)

الدين شاه الذي تبوأ العرش حديثًا، مسوقًا بحقده الذي لا يطفأ، وأسهب له في الكلام عن الأخطار التي تتهدد السلالة المالكة، لا بل النظام الملكي نفسه وقال له: ’إن شيعة البابية الحقيرة قد رفعت علم الثورة وتجاسر هؤلاء التعساء المهيجين غير المسؤولين على تقويض أساس السلطة التي تتمتع بها جلالتكم، حتى إن كثيرًا من أهالي القرى المجاورة قد انضموا تحت لوائها وحلفوا يمين الطاعة لأمرها، وبنوا قلعة لأنفسهم وحفروا في هذا المعقل خندقًا ليكونوا على استعداد لمقاومتك ومحاربتك، وعزموا بعناد لا يشق له غبار على المناداة بسلطتهم المستقلة تلك السلطة التي تذل التاج الملكي الموروث عن آبائك العظام وترديه إلى الحضيض. فأنت تقف على أعتاب حكمك، ولا يوجد نصر مؤكد لتبدأ به حكمك غير محو هذا الدين الممقوت الذي تجاسر أن يثور في وجهك، وفي ذلك توطيد الحكم لجلالتك في قلوب أهل المملكة وإعلاء الشأن لعظمتك واحترامك وصيتك وتكليل تاجك بالفخر الأبدي. وأما إذا ترددت في سياستك وأظهرت لهم أقل تسامح، فإني أشعر بواجبي في تحذيرك بأنه سوف يأتي قريبًا ذلك اليوم الذي فيه لا يقتصر الأمر على خضوع أهل مازندران وحدهم، بل أن جميع إيران من أقصاها إلى أقصاها سوف ترفض سلطتك وتخضع لأمرهم.‘

ولما كان ناصر الدين شاه غير مدرب على أمور المملكة، أحال الموضوع إلى الضباط ورؤساء الجيش في مازندران الذين كانوا ماثلين أمامه،(1) وأمرهم أن يتخذوا أي تدبير يرونه صالحًا للقضاء على هؤلاء الذين عكروا صفو مملكته. فأبدى الحاج مصطفى خان

________________________

(1) ’ولهوس أمير النظام باستتباب الأمن فقد أنهى مسألة مازندران. فلما حضر كبار تلك المقاطعة إلى طهران لتقديم احترامهم للملك أمرهم أن يتخذوا عند رجوعهم إلى بلادهم كل احتياط لمنع امتداد فتنة البابيين. فوعدوه بذلك وبأنهم يقومون بكل جهدهم على هذا الأمر وحصل فعلاً إنه لدى عودة الرؤساء إلى مازندران جمعوا قواتهم وأخذوا يفكرون ويتباحثون. وحرر كل منهم مكتوبًا لأهله للإسراع بالحضور. وطلب الحاج مصطفى خان أخاه عبد الله، وكذلك عباس قلي خان اللاريجاني طلب محمد سلطان وعلي خان من سواد كوه. واتفق الجميع على مهاجمة البابيين في قلعتهم قبل أن يقوموا ضدهم بهجوم. ولما رأى الضباط الملكيين حسن استعداد الرؤساء عقدوا اجتماعًا عظيمًا حضره المذكورون أعلاه وكذلك ميرزا آقا مستوفي مازندران، ومدير المالية، ورئيس العلماء وغيرهم من الأعيان والأكابر.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 160-161)

التركماني رأيه لمليكه قائلاً: ’إني حضرت بنفسي من مازندران وتمكنت من معرفة عددهم وقوتهم. وإن هذه الحفنة هم من أهل العلم والدرس الضعفاء من الذين لا قوة لهم على مقاومة قوات جلالتك، ولا لزوم للجيش الذي تنوي إرساله إلى هناك، بل تكفي مفرزة صغيرة منه لمحوهم، وهم غير مستحقين لاهتمام مليكي وعنايته. ولو أردتم جلالتكم إنفاذ رغبتكم، فاكتب أمرًا ملكيًا إلى أخي عبد الله خان التركماني، أن تكون له السلطة التامة لإخماد هؤلاء الجماعة، واني متيقن إنه في ظرف يومين سوف يُمحى أثرهم وتبيد آمالهم وتخمد ثورتهم.‘

فوافق الشاه وأصدر فرمانًا بذلك إلى عبد الله خان، وأمره أن يجمع من أي طرف من أطراف المملكة القوة اللازمة لتنفيذ أغراضه دون أي تأخير. وأرسل مع خطابه وسامًا ملكيًا أنعم به عليه إشارة إلى ثقته في المقدرة على إجراء هذا العمل. وكان لوصول هذا الفرمان والوسام أثره في تحريك الخان على تنفيذ ما أمر به على الوجه الكامل. وفي مدة قصيرة جمع جيشًا جرارًا مكونًا من اثني عشر ألف نفر من جماعات الأوسانلو والأفغان والكودار.(1) وأعطاهم المؤونة اللازمة، وأنزلهم في قرية "أفرا"، التي هي ملك نظر خان وتشرف على قلعة الطبرسي. وما كاد المعسكر يستقر، حتى شدد الحصار ومنع إرسال الخبز الذي يورد يوميًا إلى أصحاب الملاّ حسين، حتى إنه قطع أيضًا الماء عنهم. وكان من المستحيل على المحصورين أن يخرجوا من القلعة تحت نيران الأعداء.

وتلقى الجيش أمرًا ببناء عدد من الاستحكامات أمام القلعة، وبإطلاق النار على كل من يتجرأ من الأصحاب على الخروج خارج القلعة لجلب الماء. فمنع القدوس أصحابه من الخروج لجلب الماء من الجوار. فاشتكى رسول البهنِميري قائلاً: ’إن الأعداء منعوا عنا الخبز. وماذا يصيبنا لو منعونا الماء أيضًا؟‘ وكان القدوس إذ ذاك عند غروب الشمس

________________________

(1) ’ومن جهته، جمع مدير المالية عسكرًا من بين الأفغان المقيمين في ساري وأضاف عليهم العديد من الرجال من القبائل التركية تحت إدارته. وأما قرية علي آباد، التي عاقبها البابيون بشدة وأرادت الانتقام، فقد وفرت للحملة ما أمكنها وعُززت بمجموعة من الرجال من قرية قادي المقيمين بالجوار والذين أبدوا رغبتهم بالانخراط في الحملة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 161)

صورة 132
قرية أفرا

ينظر إلى جيش الأعداء من شرفة القلعة مع الملاّ حسين، فالتفت إليه وقال: ’إن قلة الماء قد أزعجت أصحابنا وإن شاء الله ستهطل السماء بوابلٍ منهمر من الأمطار هذه الليلة يحيط بالأعداء ويتبعه سقوط الثلج الشديد ويساعد ذلك في صد هجومهم المدبر.‘

ففي تلك الليلة فوجئ جيش عبد الله خان بسيل من المطر جرف الكتائب التي كانت ملاصقة للقلعة، وأتلف كثيرًا من الذخيرة إتلافًا تامًا. وتجمّع داخل القلعة ماء يكفي للشرب مدة طويلة. وفي الليلة التالية سقط ثلج غزير لم يشاهد مثله في تلك البلاد، حتى في أشد ليالي الشتاء بردًا، فزاد ذلك في الارتباك الذي أحدثه المطر. وفي الليلة التالية وهي السابقة على الخامس من محرم سنة 1265ﻫ (1) عزم القدوس على الخروج من القلعة، وقال لرسول البهنميري وهو يتقدم نحو الباب بسكون وهدوء تام: ’الحمد لله الذي أجاب دعاءنا وسبب سقوط المطر والثلج للإيقاع بأعدائنا وتخريب معسكرهم وإنعاش قلعتنا.‘

________________________
(1) 1 ديسمبر/كانون الأول سنة 1848م.
صورة 133
قرية شيرگاه

فلما حانت الساعة المعدة للهجوم من ذلك الجيش الجرار رغمًا عن الخسائر التي أصابته، كان القدوس قد عزم على شن الغارة على الأعداء وتشتيت قواتهم. فامتطى جواده بعد شروق الشمس بساعتين وخرج من بوابة القلعة ومعه الملاّ حسين وثلاثة آخرون من أصحابه راكبين الخيول ويتبعهم باقي الأصحاب مترجلين. وبمجرد خروجهم صاحوا قائلين: "يا صاحب الزمان" فأوجبت هذه الصيحة ذعرًا في معسكر الأعداء واشتد زئير ضراغمة البابيين وتردد صداه وسط غابة مازندران حتى شتت شمل الأعداء الذين كانوا رابضين في أنحائها من الخوف، فكان بريق الأسلحة يخطف أبصارهم وكان تهديدهم كافيًا لهزيمتهم وصرعهم، فهربوا مشتتين بطريقة مزرية وتركوا جميع ممتلكاتهم وراءهم، وفي ظرف خمسة وأربعين دقيقة، ارتفع نداء النصر من جانب الأصحاب. وتمكن الملاّ حسين والقدوس من أسر بقية الجيش المهزوم. وقتل في هذه الموقعة عبد الله خان التركماني واثنان من ضباطه وحبيب الله خان الأفغاني ونور الله خان الأفغاني، وقتل معهم ما لا يقل عن أربعمائة وثلاثين من رجالهم.

فرجع القدوس إلى القلعة بينما كان الملاّ حسين مشغولاً بإتمام العمل الذي ابتدأه بهذه الشهامة، إذ سمع نداء السيد عبد العظيم الخوئي يطلبه للرجوع فورًا للقلعة بناء على

أمر القدوس الذي قال: ’لقد هزمنا صفوف أعدائنا فلا داعي لأن نزيد في عقابهم لأن غرضنا هو الدفاع عن أنفسنا، وأن نواصل السعي في إحياء النفوس ولا غرض لنا مطلقًا في الإضرار بأحد وما صدر منا وعملناه يكفي للشهادة على قوة الله التي لا تغلب، فنحن فئة قليلة من أحبائه تمكنّا بدعم عنايته أن نغلب جيشًا منظمًا مدربًا من الأعداء.‘

ولم يفقد أحد من أتباع حضرة الباب حياته في هذه المعركة رغم الإنكسار الذي داهم العدو، وفقط جرح رجل اسمه قُلي جرحًا بليغًا، وكان يحارب أمام القدوس، وصدر الأمر للجميع أن لا يأخذوا شيئًا من ممتلكات ومتعلقات الأعداء سوى سيوفهم وخيولهم.

ولما شوهدت بوادر إعادة تجمع القوات التي كان يقودها عبد الله خان، أمر القدوس أصحابه أن يحفروا خندقًا حول القلعة لحمايتها من هجوم جديد. ومضت مدة تسعة عشر يومًا بذلوا فيها جهدهم حتى أتموا المهمة التي كلفوا بها، واشتغلوا ليل نهار بالفرح حتى أتموا ما أمروا بعمله. وبعد إتمام العمل، أُعلن أن الأمير مهدي قلي ميرزا(1) حضر باتجاه القلعة على رأس جحفل عظيم، وأنه عسكر في شيرگاه، ثم انتقل بعد بضعة أيام إلى وَسْكَس. وعند وصوله أرسل رسولاً إلى الملاّ حسين يخطره أنه حضر بناء على أمر الشاه، لكي يعلم ما هو المقصود من مجهوداته ويستعلم عن الغرض الذي يتوخاه. فأجاب الملاّ حسين: ’أخبر سيدك، أننا لا غرض لنا في قلب أسس المملكة أو في اغتصاب ملك ناصر الدين شاه. وأن أمرنا يختص بظهور القائم الموعود، ولا يخص سوى علماء الدين

________________________

(1) ’وغضب أمير النظام غضبًا شديدًا لدى سماعه بما حصل. وكان وصف الأهوال قد أثار حفيظته، ولكونه كان بعيدًا عن مجريات الأمور حتى يقدّر الحماس الغامر لدى الثوار (البابيين)، فإن النتيجة الوحيدة التي وصل إليها هي ضرورة محو البابيين قبل أن تؤدي بسالتهم إلى مزيد من الانتصارات الحقيقية. وأعطيت للأمير مهدي قلي ميرزا صلاحيات واسعة، وهو الذي عينه الملك نائبًا عنه في المقاطعة المهددة (مازندران). وأعطيت التعليمات بوضع قائمة بأسماء الرجال الذين قتلوا في الهجوم على قلعة البابيين وفي نهب قرية أفرا ووعدوا بصرف رواتب للناجين. وتلقى الحاج مصطفى خان، أخا عبد الله، قدرًا وفيرًا من الحظوة الملكية، وبالاختصار، فقد عملوا ما في وسعهم لرفع معنويات المسلمين.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 164-165)

صورة 134
قرية ريزآب
صورة 135
قرية فيروزكوه
صورة 136
قرية وسكس

في هذه المملكة، وأننا يمكننا أن نثبت حقيقة الرسالة بكل الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة.‘ فتأثر الرسول من صدق دفاع الملاّ حسين عن الأمر ومن البراهين التي دلل بها على صحة ادعائه بدرجة أنه بكى، ثم قال له: ’ماذا نفعل؟‘ فأجابه: ’قل للأمير، إنه من الأفضل أن يأمر علماء ساري وبارفروش أن يحضروا إلى هذا المكان، ويطلبوا منّا البراهين على صحة الدعوة التي جاء بها الباب، بحيث يكون القرآن هو الحكم الفصل بيننا، ثم بعد ذلك يحكم الأمير بنفسه أيضًا في أمرنا ويأمر بما يراه. فإذا لم نقدر أن نثبت له صحة الأمر من الآيات والأحاديث، فليحكم فينا بما يشاء.‘ فاقتنع الرسول تمامًا بالجواب ووعد أنه في ظرف ثلاثة أيام يستدعي رؤساء الدين بالكيفية المقترحة.

ولكن الوعد الذي ذكره الرسول لم يقدّر له أن يتحقق. وبعد ثلاثة أيام استعد الأمير مهدي قلي ميرزا في تدبير الهجوم على أهل القلعة على نطاق لم يعهد من قبل. وعلى رأس ثلاثة أفواج من المشاة والعديد من أفواج الفرسان، وقف بجيشه على أكمة مشرفة على القلعة وأمر بإطلاق النيران من تلك الناحية.

ولم يكن النهار قد طلع عندما صدر الأمر من القدوس للأصحاب: ’امتطوا خيولكم يا فرسان الله.‘ وأمر بفتح أبواب القلعة، وخرج إلى جهة وسكس وتبعه الملاّ حسين ومعه مائتان واثنان من أصحابه. ولم يمنعهم الثلج ولا الأوحال المتراكمة على طول الطريق ولا كثرة القوات المحيطة بهم من الهجوم في ظلام الليل واقتحام الاستحكام الذي جعله العدو قاعدة لعملياته.

وكان الأمير الذي يراقب حركات الملاّ حسين، قد شاهده يقترب من قلعته فأمر رجاله بتصويب النيران عليه. ولكن الرصاصات التي أطلقوها عليه كانت عاجزة عن صد تقدمه. فاقتحم طريقه عبر البوابة واندفع داخل غرفة الأمير الخصوصية، فلما رأى الأمير أن حياته في خطر، رمى بنفسه من نافذة خلفية في الخندق وهرب حافي القدمين.(1) وإذ فقد الجيش قائده وانتابه الجزع والخوف، ولى الأدبار مخزيًا أمام هذه الجماعة القليلة

________________________

(1) ’وتركنا مهدي قلي ميرزا يعدو بعيدًا عن مسكنه المحترق وولج الريف وحيدًا تحت الثلوج في ظلام الليل الدامس. وعند الفجر وجد نفسه في ممر جبلي غير معروف تائهًا في أماكن موحشة ولكنه في الواقع لم يبعد ↓

التي لم تخضعها الجحافل الكثيرة ولا الأموال الوفيرة التي وضعتها الحكومة تحت تصرفهم.(1)

وأثناء اقتحام المنتصرين طريقهم عبر ذلك الجزء من القلعة المخصص للأمير، سقط اثنان من الأمراء(2) في محاولة لصد خصومهما. وأثناء اقتحام غرف الأمير الخاصة، عثروا في إحداها على صناديق مملوءة بالذهب والفضة، ولكنهم لم يمسّوها ولم يأخذوا من كل ما وجدوه سوى صندوق من البارود وسيف للأمير كعلامة للانتصار، وسلموه للملاّ حسين، ولم يعبأ الأصحاب بالأثاث الفاخر الذي تركه صاحبه يائسًا. ولما أخذوه للملاّ حسين وجدوه قد استبدل سيفه بسيف القدوس حيث إن سيفه كان قد أصيب بمقذوف أثناء مقاتلته للعدو.

_____________________________________________________________________

عن مذبحة المعركة إلا مسافة قصيرة. وكانت الرياح تحمل إليه ضوضاء رميات البنادق. وقابله على هذه الحالة المحزنة مازندراني ممتطيًا جوادًا جيدًا وتعرف عليه وترجل عن جواده وأركب الأمير عليه وعرض أن يدلّه على الطريق. فقاده إلى كوخ أحد المزارعين وأدخله في الحظيرة (وهي لا تعتبر مكانًا حقيرًا في بلاد الفرس) وأثناء ما كان الأمير يأكل ويستريح امتطى المازندراني جواده وذهب وأخبر العسكر بأن الأمير حي وفي صحة جيدة ومكان أمين ثم أحضر كل جماعة الأمير على دفعات صغيرة. ولو كان الأمير من ذوي النفوس العالية الذين لا تزعزعهم الحوادث، لاستعاد موقفه وعاد إلى معسكره ولاعتبر أن انكساره في الليلة الماضية كان نتيجة مباغتة. ومع ذلك فإن البابيين كانوا قد رجعوا إلى قلعتهم ولم يبق منهم أحد خارجها، فكان يمكنه المقاومة ولو ظاهرًا، إلا أنه بسبب ضعف روحه لم يستطع الثبات، واذ رأى أنه في حراسة آمنة خرج من الحظيرة وهرع إلى قرية قاديكلا ومنها أسرع للعودة إلى ساري. وكان سلوكه ذاك قد دعم الانطباع في كافة أنحاء المقاطعة بالهزيمة في وسكس. فانتشر الرعب وظن أهالي البلدات المفتوحة أنفسهم معرضين للمخاطر، ورغم قسوة الطقس كان من الممكن رؤية قوافل من المدنيين المرتعبين حاملين معهم زوجاتهم وأطفالهم إلى براري دماوند راجين إنقاذهم من المخاطر المزرية التي بدا أن سلوك الأمير يتنبأ بها. فمتى يفقد أهالي آسيا صوابهم فإنهم يفقدونه بالكلية.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى"، لجوبينو، الصفحتان 169-170)

(1) ’وحصل الهرج في جيشه وتشتت في برهة قصيرة من هجوم ثلاثمائة من رجال الملاّ حسين. أفليس هذا من تأثير سيف الله وجدعون؟ [انظر الكتاب المقدس، سفر القضاة، الأصحاح 7، الآية 14].‘("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 167)

(2) وذكر جوبينو (المصدر السابق، الصفحة 167) أنهما كانا سلطان حسين ميرزا ابن فتح علي شاه، وداود ميرزا ابن ظل السلطان عم الشاه، وزاد نقولاس في كتابه "السيد علي محمد الباب" (الصفحة 308) اسم المستوفي ميرزا عبد الباقي.

وبينما كانوا يفتحون بوابة السجن الذي كان تحت يد الأعداء، سمعوا صوت الملاّ يوسف الأردبيلي الذي وقع أسيرًا وهو في طريقه إلى القلعة. وكان قد هزل بين المسجونين. وتوسط هو بدوره بطلب الإفراج عن أقرانه الذين قاسوا معه ألم السجن، فأطلق سراح الجميع حالاً.

وفي صباح ذلك اليوم التاريخي الذي تم فيه هذا النصر، جمع الملاّ حسين أصحابه حول القدوس في نواحي وسكس، وبقي ممتطيًا جواده تأهبًا لهجوم جديد من الأعداء. وبينما كان يلاحظ حركاتهم فوجئ بهجوم جديد من جهتين من جيش جرار، فقام جميع الأصحاب وصاحوا: "يا صاحب الزمان" وتقدموا لمواجهة التحدي، وهمز الملاّ حسين جواده مسرعًا من ناحية وكذلك القدوس وأصحابه من ناحية أخرى، فمالت الكتيبة التي كانت تحارب الملاّ حسين إلى الناحية الأخرى وولت الأدبار منضمّة إلى باقي الجيش حيث أحاطوا بالقدوس وباقي الأصحاب، وأطلقوا عليهم ألف رصاصة، أصابت إحداها القدوس في فمه وكسرت بعض أسنانه وجرحت لسانه وحلقه. وكان الصوت المرتفع الناتج من إطلاق الألف رصاصة قد دوى على بعد 10 فراسخ، فسمعه الملاّ حسين الذي أسرع لإنقاذ إخوانه وهو في قلق عليهم. وما كاد يصل إلى ناحيتهم حتى ترجل من جواده وسلّمه لخادمه قمبر علي، وأسرع نحو القدوس، فلما شاهد الدماء تقطر من فم رئيسه المحبوب بغزارة، حصل له فزع كبير ورفع يديه ليضرب بهما رأسه، ولكن القدوس منعه، فأطاعه حالاً ورجاه أن يستلم منه سيفه، فأخذه واستله للحال، وأخذ يضرب في الأعداء المحيطين به ويتبعه مائة وعشرة من الأصحاب. وكان قابضًا على سيف رئيسه في يد، وسيف عدوه في اليد الأخرى، هاجمًا على الأعداء. ودارت معركة حامية بينه وبينهم، حتى إنه أخيرًا وفي ظرف ثلاثين دقيقة، نجح في تشتيت العدو وألجأه إلى الهرب بعد أن أظهر بسالة ومقدرة فائقة.

وتمكن الملاّ حسين بعد انتصاره على عدوه واندحار جيش الأمير مهدي قلي ميرزا بالذلة، أن يعود هو والجماعة إلى القلعة لإصلاحها وأعادوا إليها القدوس جريحًا وبحالة يؤسف عليها، ولكنه كتب أمرًا إلى الأحباب الذين كانوا يبكون، أن يكفوا عن بكائهم،

صورة 137
منظر آمل
صورة 138
منزل حاكم آمل

وبتأثير كلماته المفرحة أزال حزنهم وكتب لهم: ’علينا أن نرضى بإرادة الله وأن نكون ثابتين في ساعة الامتحان، فقد كسرت رباعية الرسول من أحجار الكفار، وكذلك وقع لي مثل ذلك من رصاص العدو. ولو أن جسمي يتألم، ولكن روحي مستبشرة متنعمة

بالسرور وشكري لله لا حد له. وإن كنتم تحبونني فلا تحجبوا عني هذا السرور بمنظر التأوه والحزن.‘

وكان حصول هذه الحادثة الشهيرة في الخامس والعشرين من شهر محرم سنة 1265ﻫ،(1) وفي مستهل ذلك الشهر نفسه، قام حضرة بهاءالله بوفاء ما وعد به للملاّ حسين وخرج من نور إلى قلعة الطبرسي مع عدد من أصحابه. وكان بين الذين رافقوه الحاج ميرزا جاني الكاشاني والملاّ باقر التبريزي أحد حروف الحيّ وميرزا يحيى أخوه، وأظهر حضرة بهاءالله رغبته أن يسافروا فورًا إلى المقر المذكور وأن لا يتوقفوا في الطريق. وكان هدفه الوصول إلى وجهته ليلاً، لأن الأوامر الصارمة صدرت من عبد الله خان منذ أن استلم القيادة أن تكون القلعة تحت الحصار، فلا يصلها أي مدد ولا تسدى إليها أية معونة، وجعل حرسًا شديدًا على الطرق الموصلة إليها. ولكن أصحاب حضرة بهاءالله ألحوا عليه للتوقف بضع ساعات للراحة. وأخيرًا رضخ لإلحاحهم الشديد مع علمه أن التأخير يسبب مفاجأة العدو لهم، فنزلوا في منزل منعزل على جانب الطريق. ورقد الأصحاب بعد تناول طعام العشاء وبقى وحده متيقظًا رغم المصاعب التي تحمّلها وهو عالم بالمخاطر التي يتعرض لها مع أصحابه من ذلك التأخير، وكان يرجو من مواصلة السير الإسراع في الوصول إلى القرية مبكرًا.

وبينما كان مترقبًا بجانبهم، اطلع الجواسيس على أمرهم، وأصدروا للحراس الأمر بالقبض عليهم وضبط كل ما معهم، وقالوا لحضرة بهاءالله الذي عرفوه فورًا بأنه رئيس الجماعة: ’وصلتنا أوامر مشددة للقبض على كل شخص نقابله في هذه الجهة ونرسله إلى آمل ونسلمه ليد الحاكم.‘ فأجاب حضرة بهاءالله: ’إن الأمر اشتبه عليكم لأنكم تجهلون أمرنا وإني أنصحكم أن لا تفعلوا ما قد تندمون عليه.‘ وأثرت هذه النصيحة التي أسداها لهم بكل هدوء وسكينة في رئيس الحراس حتى ألجأته أن يعامل بالأدب والاحترام المقبوض عليهم، وأمرهم أن يركبوا خيولهم ويسيروا معه إلى آمل. ولما اقتربوا من ضفة أحد الأنهار،

________________________
(1) 21 ديسمبر/كانون الأول سنة 1848م.

أمر حضرة بهاءالله أصحابه بإشارة منه أن يقذفوا فيه كل ما معهم من المخطوطات، وكانوا وقتئذ يسيرون بعيدًا عن الحراس.

ولما اقتربوا في الصباح من البلدة ذهب رسول وسبق الحرس في السير وأخبر الحاكم المنتدب بأمر وصول جماعة مقبوض عليهم وجدوا في الطريق الموصل إلى قلعة الطبرسي. أما الحاكم نفسه فقد انضم مع عدد من حرسه الخاص إلى جيش الأمير مهدي قلي ميرزا، ولذلك انتدب أحد أقربائه للعمل مكانه مدة غيابه. وما كادت تصل الرسالة لذلك الأخير، حتى ذهب إلى مسجد آمل وطلب العلماء والأسياد والمشاهير للاجتماع فيه ومقابلة المقبوض عليهم. ولكن لما وقع نظره على حضرة بهاءالله، حصلت له دهشة وتأسف تأسفًا بالغًا على صدور الأمر منه. وتظاهر أنه يوبخه على العمل الذي أتاه آملاً في تهدئة الخواطر وتخفيف الوطأة على الذين حضروا واجتمعوا في المسجد. فقال حضرة بهاءالله: ’نحن براء من التهم التي تلصقونها بنا وإن براءتنا ستتضح أخيرًا أمام أعينكم، وإني أنصحك أن لا تفعل ما يجلب لك الندم فيما بعد.‘ فطلب الحاكم من العلماء أن يسألوه في أي أمر أرادوا، فكان حضرة بهاءالله يجيبهم بكل صراحة ووضوح. وبينما كانوا يستجوبونه عثروا مع أحد الأصحاب على كتاب خطي من كتابات حضرة الباب، فقدموه إلى رئيس العلماء، وما كاد يقرأ بعض فقرات منه حتى وضعه جانبًا والتفت إلى من حوله وصاح قائلاً: ’إن هؤلاء الجماعة الذين يتغالون في دعوتهم قد أبانوا في الفقرة التي قرأتها عن جهلهم بأبسط قواعد الهجاء.‘ فأجاب حضرة بهاءالله: ’أيها العالم المحترم إن هذه العبارات التي تنتقدها ليست من كلمات حضرة الباب بل هي صادرة من الإمام علي أمير المؤمنين في جوابه لكميل ابن زياد الذي اختاره صاحبًا له.‘

وكانت الطريقة التي وضح بها حضرة بهاءالله الموضوع وما لابسها من الظروف قد أقنعت ذلك المجتهد العاتي وعرّفته جهله وحمقه، ولما عجز عن الرد على جوابه السديد ظل ساكتًا. فتدخل سيد من الأشراف غاضبًا وقال: ’إن هذه العبارة تدل دلالة صريحة على أن واضعها بابي لا أقل ولا أكثر، فهي صادرة من مفسري مذهبهم.‘ وألح بلهجة حازمة بإعدام الأصحاب وقال: ’إن أمثال هؤلاء أعداء الحكومة وأعداء الإسلام وعلينا

على أي حال أن نمحوَ هذه البدعة.‘ وأيده في رأيه أسياد آخرون. وإذ تشجعوا بما صدر من الشتائم في هذا الاجتماع، أصروا على أن ينفذ الحاكم دون توان رغباتهم.

فحصل ارتباك كبير للحاكم المنتدب، وأدرك أنه لو أظهر أي تسامح من جانبه، فانه يكون معرضًا لأخطر النتائج فيما يختص بسلامة موقفه. فاجتهد أن يصد النزاعات الثائرة في صدور العلماء، وأمر أتباعه أن يحضروا العصي لإيقاع عقاب لائق على المقبوض عليهم، وقال: ’سنحبسهم بعد ذلك حتى يعود الحاكم ليرسلهم إلى طهران وهناك يوقع عليهم العقاب اللائق بهم من يد الملك.‘

وكان أول من رُبط لتلقي العقاب الملاّ باقر، فصاح قائلاً: ’أنا لم أكن إلا سائسًا عند بهاءالله، وكنت ذاهبًا في طريقي إلى مشهد فقبضوا عليّ فجأة وأحضروني إلى هذا المكان.‘ فتدخّل حضرة بهاءالله ونجح في منع مضطهديه من ضربه، وكذلك تدخّل في مسألة الحاج ميرزا جاني وقال لهم: ’هو تاجر كان في ضيافتنا.‘ وكذلك عندما بادروا لربط ميرزا يحيى قال لهم حضرة بهاءالله إنه خادمه، ثم أشار إلى الحاكم المنتدب قائلاً: ’إنه لم يكن أحد من هؤلاء الرجال مقترفًا لأي ذنب وإذا صممت على العقاب فإني مستعد لأن أتحمله وحدي وبرضاي.‘ فاضطر الحاكم المنتدب بعد تردد، أن يصدر أمره أن لا يوقع العقاب إلا على حضرة بهاءالله وحده رغم إنه كان يقصد ايقاعه على أصحابه دونه.(1)

وتحمّل حضرة بهاءالله على أيدي علماء آمل المجتمعين الاضطهاد نفسه الذي أصاب حضرة الباب في تبريز قبل خمسة أشهر، وكما كان أول حبس لحضرة الباب على أيدي أعدائه في منزل عبد الحميد خان رئيس الشرطة في شيراز، كذلك كان أول حبس لحضرة بهاءالله في منزل كدخدا طهران، وكما كان حبس حضرة الباب الثاني في قلعة ماه كو،

________________________

(1) "يا شيخ قد ورد على هذا المظلوم ما لم يكن له شبه ولا مثيل وتحملنا كل ذلك بكمال التسليم والرضا لأجل تهذيب النفوس وارتفاع كلمة الله. ولما كنا في سجن أرض الميم (مازندران) سلمونا ذات يوم إلى أيدي العلماء وبعد ذلك فإن ما حصل منهم لنا مما لا تقدر أن تتصوره." (بهاءالله – "لوح ابن الذئب"، طبعة مصر، صفحة 57)

كذلك كانت إقامة حضرة بهاءالله الجبرية في منزل حاكم آمل. وكما ضرب حضرة الباب في مصلى شيخ الإسلام في تبريز، كذلك ضرب حضرة بهاءالله في مصلى مجتهد آمل. وكما كان حبس حضرة الباب الثالث في چهريق، كذلك حبس حضرة بهاءالله في سياه چال(1) في طهران. وكان حضرة الباب يقصد من سبق تحمل جميع هذه الآلام على آلام حضرة بهاءالله أولاً، فداء محبوبه من المخاطر التي ربما تودي بحياته الغالية، بينما كان حضرة بهاءالله لا يرضى أن يكون حبيبه الأعظم متحملاً وحده الآلام بغير أن يشاركه في كل كأس شربه. فلم ترَ العيون شبهًا لمثل هذا الحب المتبادل. ولم يشعر قلب بمثل هذا الإخلاص المشترك. ولو أن كل ما في العالم من شجر أقلام وكل البحور مداد وكل السموات والأرضين مطوية في سجل واحد، لن تقدر أن تصف ذلك الحب المتبادل، بل يبقى سرًا غير مكشوف ولا يصل أحد إلى قرار ذلك الإخلاص المشهود.

صورة 139
المكان (x) الذي فتحت فيه ثغرة في حائط المسجد
________________________
(1) الحفرة السوداء.
صورة 140
مسجد آمل

وبقي حضرة بهاءالله وأصحابه محبوسين مدة في إحدى الغرف التي يتكون منها المسجد، وأراد الحاكم المنتدب أن يحفظ المسجون من هجوم العدو اللدود، فأمر أتباعه سرًا أن يحدثوا ثغرة في حائط الغرفة التي حبس فيها الأتباع في ساعة غير متوقعة، ثم يخرجوه منها ويأتوا به إلى منزله. وبينما كان يقوده بنفسه إلى منزله، ظهر فجأة سيد من العلماء ووجّه له أحط أنواع السباب ورفع عصاه ليضربه، فتدخل الحاكم المنتدب في الحال، وحال بنفسه دون وقوع الضرب، والتفت إلى المهاجم قائلاً: ’استحلفك برسول الله أن تكف يدك.‘ فانبرى له السيد قائلاً: ’كيف ذلك؟ وهل تجرؤ أن تخلص رجلاً هو ألد أعداء دين آبائنا؟‘وفي الأثناء اجتمع حوله لفيف من الغوغاء وزادوا صياحًا وضجيجًا وسخرية واستهزاء، فاشتد بذلك الهياج الذي أثاره ذلك السيد، ورغمًا عن ازدياد الهرج والاضطراب، فإن أتباع الحاكم المنتدب تمكنوا من إيصال حضرة بهاءالله سالمًا إلى منزل سيدهم وأظهروا بهذه المناسبة شجاعة ورويّة مدهشتين.

ورغمًا عن احتجاج الغوغاء، أخذ باقي المسجونين إلى مقر الحكومة وبذلك نجوا من المهالك التي كانوا معرضين لها. وأظهر الحاكم المنتدب اعتذارات عديدة لحضرة بهاءالله للقسوة التي قابله بها أهالي آمل وقال: ’لولا تقدير الله ما كان يمكن لأي قوة أن تخلصك من أيدي هؤلاء الطغاة. ولولا اليمين الذي اقسمته لأن أخاطر بحياتي لأجلك ما كنت أنا أيضًا أقدر أن أنجو من شرورهم بل كنت أقع فريسة لهم مدوسًا تحت الأقدام.‘ وكان يشكو مرّ الشكوى من سلوك أشراف آمل العاتي، وذم انحطاط أخلاقهم، وصرح بأنهم يؤذونه دائمًا بتدابيرهم الشريرة. واستمر على خدمة حضرة

بهاءالله بالإخلاص والشفقة، وكثيرًا ما كان يسمع منه أثناء محادثته مع حضرة بهاءالله: ’أنا بعيد عن أن أعتبرك مسجونًا في منزلي، وإني أعتقد أن هذا المنزل لم يبنَ إلا بقصد إيوائك من تدابير أعدائك.‘

وسمعت حضرة بهاءالله نفسه يحكي ما يأتي: ﴿لم يسمح لأي مسجون غيري بأن يُعامل بالمعاملة التي لقيتها من وكيل حاكم آمل، فكان يعاملني بمنتهى اللطف والاحترام، وكثيرًا ما كان يحادثني ويحرص جدًا على ما يضمن راحتي وسلامتي، إلا أني كنت غير قادر على مغادرة باب المنزل. وكان مضيفي شديد الخوف من وقوع الأذى بي عند عودة الحاكم، الذي هو قريب عباس قلي خان اللاريجاني، من قلعة الطبرسي، فكنت أجتهد أن أنفي عنه هذا الوهم. وأكّدت له قائلاً: ’إن القدرة الإلهية التي خلصتني من أيدي أشرار آمل والتي جعلتني أعامل بهذا الكرم في منزلك، هي نفسها التي تقلب قلب الحاكم وتجعله يعاملنا بالاحترام والمحبة.‘

وذات ليلة استيقظنا فجأة على أصوات الذين اجتمعوا على باب المنزل. وكان أصحابنا ينتظرون هجومًا جديدًا، فلما فتح الباب وأعلن رجوع الحاكم إلى آمل تعجب هؤلاء الأصحاب لأنهم سمعوا الحاكم يوبخ الذين اضطهدونا من أول يوم وصولنا، فكان يقول لهم بصوت عال موبخًا: ’لأي داعٍ يختار هؤلاء الأشرار أن يعاملوا بالقسوة ضيفًا مغلول الأيدي لم يتمكن من الدفاع عن نفسه؟ وما هو المبرر الذي جعلهم يحكمون عليه بالإعدام فورًا؟ فما هو الدليل الذي أتوا به لتثبيت ادعائهم. ولو كانوا صادقين في ادعائهم بأنهم حماة الإسلام والمتمسكين بأحكامه، فليذهبوا إلى قلعة الشيخ الطبرسي وهناك يظهرون قوتهم في حماية الدين الذي يدّعون الدفاع عنه.‘﴾

وكان قلب حاكم آمل وعقله قد تغيرا مما شاهده من شجاعة المدافعين عن القلعة، وعاد يملؤه الإعجاب بالأمر الذي كان يحتقره في البداية، ويجهد لعرقلة تقدمه وانتشاره. ولكن ما رآه من الوقائع في القلعة أبدل غضبه وأدّب كبرياءه. فذهب إلى حضرة بهاءالله بغاية الخشوع والاحترام واعتذر عن وقاحة سكان هذه البلدة التي اختير لحكمها. وكان يخدمه بكل إخلاص متجاهلاً مقام نفسه ووظيفته، وكان يمتدح الملاّ حسين مدحًا فائقًا

ويسهب في ذكر مواهبه ومهارته وبسالته وكرامة نفسه. وبعد بضعة أيام نجح في اتخاذ الإجراءات لنقل حضرة بهاءالله وأصحابه إلى طهران.

وعلى هذا النحو قدر لرغبة حضرة بهاءالله في الانضمام إلى المدافعين في قلعة الشيخ الطبرسي أن لا تتحقق. فمع أنه كان شديد الرغبة في إسداء كل ما يمكن من المساعدة للمحاصرين، فإنه بتقديرٍ إلهي خفي خلص من النصيب المحزن الذي كان قريب الوقوع على المشتركين في هذا النضال التاريخي. ولو تمكن من الوصول إلى القلعة وسمح له أن ينضم إلى أعضاء هذه الفئة من الأبطال، فكيف كان يمكنه أن يضطلع بدوره في الأمر العظيم الذي قدر له أن يكشفه؟ وكيف كان ليتم ذلك العمل الجليل الذي أنجزه بتلك العظمة وأسسه بتلك المهارة؟ ولقد كان في ريعان شبابه وربيع حياته إذ وصله النداء من شيراز. فقام في سن السابعة والعشرين وخصص حياته لخدمة أمر الله ودون خوف أعلن تمسكه بتعاليمه وامتاز بأنه المثل الأعلى في نشره وترويجه. ولم يألُ جهدًا في بذل ما أوتي من الحيوية ولم تؤثر أي تضحية بذلها في الإخلاص الذي أوجده إيمانه فيه. فطرح كل اعتبار للشهرة والثروة والمقام لأجل تنفيذ العمل الذي كرس نفسه لتحقيقه. ولم يجد في تعنيف الأصحاب ولا في تهديد الأعداء ما يثنيه عن عزمه على الدفاع عن أمر اعتبره الصديق والعدو أنه شأن فئة ضالة كافرة.

وكان أول حبس تعرض إليه نتيجة مد يد المساعدة إلى أسراء قزوين؛ وقدرته على إنقاذ الطاهرة؛ والطريقة المثلى التي ساس بها الأمور في مجريات أعمال بدشت المضطربة؛ والطريقة التي أنقذ بها حياة القدوس في نيالا؛ والحكمة التي عالج بها الوضع الدقيق الذي سببه اندفاع الطاهرة؛ والاحتياط الذي اتخذه في حمايتها؛ والنصائح التي أسداها للمدافعين في قلعة الطبرسي؛ والخطة التي عزم على تنفيذها لضم قوات القدوس إلى قوات الملاّ حسين وأصحابه؛ والتلقائية التي أبداها في قيامه على دعم مجهودات أولئك المدافعين البواسل؛ والشهامة التي دفعته لفداء أصحابه ويقدم نفسه للجلد والإهانات بدلاً عنهم؛ والسكون الذي تجمّل به حيال القسوة التي عومل بها في حادثة الشروع في اغتيال ناصر الدين شاه؛ والإهانات التي صبت عليه في طريقه من لواسان إلى مقر الجيش

الملكي ومنه إلى العاصمة؛ وثقل الأغلال المروعة التي تحمّلها بينما كان في ظلمات سجن سياه چال في طهران - كل هذه لم تكن إلا بعض الأمثلة التي تشهد بأفصح عبارة على المقام الأوحد الذي تفرد به بصفته المحرك الرئيس لجميع القوى التي قدر لها أن تعيد تشكيل مجرى الحياة في موطنه. وكان هو الذي أطلق هذه القوى وأدار دفتها ونظّم أعمالها وأوصلها أخيرًا إلى أسمى درجات تحققها في الأمر الجليل الذي قُدّر له أن يُظهره فيما بعد.

***
الفصل العشرون
ملحمة مازندران
(تكملة)

واستجمعت قوات الأمير مهدي قُلي ميرزا في هذه الأثناء قواها بعد الانهزام التام الذي أصابها، وعادت لتنظيم مجهوداتها للهجوم على سكان قلعة الطبرسي. فوجد الأصحاب أنفسهم مرة أخرى محاصرين بجحفل عظيم بقيادة عباس قلي خان اللاريجاني وسليمان خان أفشار الشهرياري اللذين أسرعا وأحضرا عدة أفواج من المشاة والخيّالة لتعزيز عسكر الأمير.(1) وضربت القوات المجتمعة خيامها في جوار القلعة،(2) وابتدأت بإنشاء سلسلة من

________________________

(1) ’ارتبك الشاهزاده (ابن الملك) ولم يعرف هذا المسكين ماذا يعمل. وأخيرًا أصدر أمره لجمع قوة جديدة وجيش جديد. ولم يكن الأهالي راغبين في الخدمة تحت إمرة رئيس لم ينجح في إثبات قدرته عند الامتحان. إلا أنه بإغراء المال ومن خلال الوعود وخاصة من الملاّوات الذين لم يفتهم النظر إلى مصالحهم المادية فقد قاموا بكل حماس ونجحوا في جمع بعض الرماة. أما الخيالة الذين جاءوا من قبائل متعددة فبمجرد أن يروا رؤساءهم يمتطون الخيول فإنهم يتبعونهم دون أن يعرفوا السبب. وأجاب عباس قلي خان اللاريجاني طلب المدد دون تردد وأرسل قوة. ولكنه في هذه المرة لم يقبل أن يركن قيادتها للأمير لعدم ثقته فيه ونظرًا لعدم أهليته، وخوفًا من حصول خطر على أقربائه ومواطنيه، أو من الرغبة في الظهور، ولذلك قادها بنفسه ولم يأتمن أحدًا في ذلك. بل ذهب وحده مع القوة في تحرك جريء دون أن ينضم إلى الجيش الملكي وسار لمهاجمة البابيين في معقلهم. ثم أعلن للأمير عن وصوله إلى قلعة الشيخ الطبرسي وأنه فرض الحصار عليها. وإضافة إلى ذلك أخبره أنه لا يريد أي عون لأن ما معه من الرجال يكفي وأكثر، وأخبر صاحب السمو أنه إذا أراد الحضور بنفسه ليرى ما يعمله هو، عباس قلي اللاريجاني، مع الثوار فإن ذلك يكون من دواعي سروره وتشرفه.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 170-171)

(2) ’ولم يظهر مهدي قلي ميرزا نفسه بأنه البطل الحربي الجسور، كما رأينا للتو، وبدلاً من إظهار درجة شجاعته، فضل عدم ذكر أكاذيب قواده ورؤساء عسكره ولم يضعها كحاشية في ذيل خطابه وخوفًا من أن يصل أي أذى إلى ذلك البدوي الغبي أرسل إليه التعزيزات فورًا. وهكذا انطلق محسن خان أشرفي ومعه خيالته ↓

سبعة متاريس حولها. وأرادوا في البداية إظهار حجم قواتهم بغرور تام، فانهمكوا في إجراء تمرينات يومية بأسلحتهم بحماس متعاظم.

وألجأت قلة المياه المحاصرين لحفر بئر داخل نطاق القلعة، وكان إكمال حفرها في الثامن من شهر ربيع الأول(1) فقال الملاّ حسين لأصحابه وهو يشاهد إتمام عملهم: ’سيكون اليوم عندنا ماءٌ كافٍ لاستحمامنا. ونطهر من كل الأدران الأرضية ونسرع إلى مقرنا الأبدي في ساحة القدير، ومن شاء أن يشرب من كأس الشهادة فليستعد وينتظر الساعة التي يقدر أن يختم بدم حياته شهادة إيمانه بدينه. ففي هذه الليلة قبل الفجر على كل من يريد أن ينضم لي أن يستعد للخروج من خلف هذه الأسوار لنشتت مرة أخرى جموع الظلام التي اعترضت طريقنا ونصعد إلى مكامن العزّ مكرمين.‘

وفي عصر ذلك اليوم توضأ الملاّ حسين وارتدى ملابس جديدة وزين رأسه بعمامة حضرة الباب واستعد للقتال المرتقب. وكان وجهه يضيء بفرح غامر وكأنما يشير إلى ساعة فراقه، واستمر لآخر لحظة يحث أصحابه ويذكي فيهم الحماس. واختلى مع القدوس الذي ذكّره بمحبوبه وشجّعه وأفضى إليه وهو جالس عند قدميه، وفي أواخر ساعات حياته بكل ما أوتيه من كشف روحي، وبعد منتصف الليل بقليل واقتراب طلوع نجمة الصباح التي بشّرته بنور فجر الاجتماع الأبدي بمحبوبه، نشط على قدميه وامتطى جواده وأعطى الإشارة لفتح بوابة القلعة. وخرج مع ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه للقاء العدو، وترددت ثانية صيحة "يا صاحب الزمان" شديدة قوية وسط الغابة والقلعة برنين عظيم.

وهجم الملاّ حسين أولاً على الاستحكام الذي كان يدافع عنه زكريا القاديكلائي أحد أشجع ضباط العدو. فاخترقه في وقت قصير وقتل قائده وشتت شمل رجاله. وانطلق هاجمًا بالسرعة نفسها على الاستحكامين الثاني والثالث واخترقهما بسرعة وبسالة، وكلما

_____________________________________________________________________

بكل سرعة مع فرقة من الأفغان ومحمد كريم خان أشرفي ومعه رماة البنادق من المدينة وخليل خان من سواد كوه ومعه رجال قاديكلا.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 171)

(1) 1 فبراير/شباط سنة 1849م.
صورة 141
الشجرة التي أصيب منها الملاّ
حسين بمقذوف

تقدم وقع الرعب بين صفوف الأعداء وحل فيهم اليأس والذعر وأخذتهم الدهشة، فلم يعِقه ما انصب عليه وعلى أصحابه من وابل الرصاص واستمروا حتى اخترقوا باقي الاستحكامات ودمروها. وفي وسط المعمعة التي تلت ذلك تسلق عباس قلي خان اللاريجاني شجرة وأخفى نفسه بين أغصانها وانتظر مختبئًا مترصدًا خصومه. وإذ احتمى في الظلام الذي أحاط به تمكن من مراقبة حركات الملاّ حسين وأصحابه الذين كانوا معرضين لضوء المشاعل التي أشعلوها. وكان جواد الملاّ حسين قد تعثر بحبل خيمة مجاورة، وقبل أن يتمكن من تخليصه، أصابته رصاصة في صدره من عدوه الخائن. ومع أن الضربة كانت صائبة إلا أن عباس قلي خان كان غير عالم بالفارس الذي أصابه، وترجل الملاّ حسين من جواده وجراحه تدمي بغزارة، وتقدم بضعة خطوات ثم وقع على الأرض منهك القوى. وجاء لنجدته شابان من أصحابه من أهالي خراسان، وهما قلي وحسن وحملاه إلى القلعة.(1)

وسمعت الرواية الآتية من الملاّ صادق والملاّ ميرزا محمد الفروغي قالا: ﴿كنا ضمن الذين بقوا في القلعة مع القدوس، وبمجرد دخول الملاّ حسين أمرنا بالخروج لأن الملاّ، كان قد أغمي عليه، وقال القدوس ’اتركوني معه وحدي،‘ وأمر ميرزا محمد باقر أن يغلق الباب ولا يسمح بدخول أحد يريد رؤيته، وقال له: ’إن هناك أمورًا سرية أريد أن أعلمه وحده

________________________

(1) ’ورغم جرح الزعيم البابي إلا أنه استمر في إصدار الأوامر ورفع معنويات رجاله وقيادتهم، حتى إذا علم بأن المقصود تم، أمرهم بالعودة وبقي في الصفوف الخلفية.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 174)

بها.‘ وبعد لحظة قصيرة دهشنا لدى سماعنا صوت الملاّ حسين يجيب عن أسئلة القدوس. وتحادثا معًا مدة ساعتين. ثم أخذنا العجب إذ رأينا ميرزا محمد باقر متهيجًا. ثم قال لنا فيما بعد: ’إني كنت ألاحظ القدوس من ثقب الباب، وبمجرد أن سمع الملاّ حسين اسمه، رأيته قد قام وجلس حسب عادته راكعًا بجانبه، وكان رأسه منحنيًا وعيناه تنظران للأسفل، وهو يستمع لكل كلمة تخرج من فم القدوس ويجيب عن أسئلته، وسمعت القدوس يقول له: ’’لقد أسرعتَ ساعة فراقك وتركتني لرحمة أعدائي فلا يمضي وقت كبير حتى إن شاء الله ألحقك وأجتمع بك وأتذوق حلاوة النعم الإلهية التي تفوق الوصف.‘‘ وتمكنت من سماع رد الملاّ حسين بقوله ’’أفديك بحياتي، هل أنت راضٍ عني؟‘‘ ‘

ومضى وقت طويل قبل أن يأمر القدوس ميرزا محمد باقر بفتح الباب وإدخال أصحابه. فقال القدوس: ’لقد ودّعته الوداع الأخير وشاركته في الأمور التي لم يكن مصرحًا بالنطق بها من قبل.‘ ووجدنا لدى وصولنا أن الملاّ حسين توفي وبدا على وجهه طيف ابتسامة واطمئنان كأنه كان نائمًا. وقام القدوس بمراسم الدفن فألبسه قميصه هو وأمر بوضعه في الجهة الجنوبية الملاصقة لضريح الشيخ الطبرسي،(1) وبينما كان يقبّله في وجهه وعينيه قال مودّعًا: ’طوبى لك بما ثبتَّ على ميثاق الله وعهده لآخر ساعة من حياتك، أرجو الله أن لا يجعل بيني وبينك حائلاً أبدًا‘ وكان يتكلم بحرقة حتى إن الأصحاب السبعة الذين كانوا حوله بكوا بكاء مرًا وودوا لو فدوه بأرواحهم. ووضع القدوس الجثمان في القبر بيديه. وأمر الذين كانوا بالقرب منه أن يكتموا محل دفنه ويخفوه حتى عن أصحابهم. ثم أمرهم فيما بعد بدفن ستة وثلاثين شهيدًا سقطوا في تلك المعركة في الجهة الشمالية من ضريح الشيخ الطبرسي في قبر واحد وبينما كان يضع جثامينهم في القبر كان يقول: ’ليعتبر أحباء الله بمثال هؤلاء الشهداء في ديننا فليكونوا في حياتهم متحدين كاتحاد هؤلاء في مماتهم.‘﴾

________________________

(1) ’ولا تزال رفاته مدفونة في الغرفة الصغيرة الداخلية من ضريح الشيخ الطبرسي حيث وضعت هناك بتعليمات الملاّ محمد علي البارفروشي بأيدي أقرانه الحزانى بكل إجلال في مستهل سنة 1849م.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية ف، الصفحة 245)

وكان عدد الجرحى في تلك الليلة لا يقل عن تسعين من الأصحاب، توفي معظمهم. فمن يوم وصولهم إلى بارفروش إلى أول يوم هوجموا فيه، والواقع في الثاني عشر من ذي القعدة سنة 1264ﻫ(1) إلى يوم وفاة الملاّ حسين في التاسع من ربيع الأول سنة 1265ﻫ(2) ساعة الفجر، كان عدد الشهداء حسب تعداد ميرزا محمد باقر قد بلغ اثنين وسبعين.

وكان عدد الأيام من يوم أن هوجم الملاّ حسين من أعدائه، ليوم استشهاده مائة وستة عشر يومًا، وهي فترة مفعمة بالأعمال البطولية التي بلغت فيها الشجاعة إلى حد أن ألد الأعداء اضطروا للاعتراف بها وللدهشة منها. وفي أربع مرات بلغ الملاّ حسين أقصى ذرى الشجاعة والبسالة التي لا يبلغها مثله إلا قليل. وقعت أول معركة في الثاني عشر من ذي القعدة(3) في جوار بارفروش، والثانية في جوار قلعة الشيخ الطبرسي في الخامس من محرم(4) ضد قوات عبد الله خان التركماني، والثالثة في وسكس في الخامس والعشرين من محرم،(5) وكانت ضد جيش الأمير مهدي قلي ميرزا. وآخرها وأهمها كانت ضد قوات عباس قلي خان والأمير مهدي قلي ميرزا وسليمان خان أفشار مجتمعين ويساعدهم خمسة وأربعون ضابطًا معروفين بمقدرتهم وخبرتهم الناضجة. وكان الملاّ حسين يخرج من جميع هذه المواقع حامية الوطيس ظافرًا سالمًا رغم احتشاد القوات والجحافل العظيمة المنظمة ضده. وكان في كل معركة يظهر من الشجاعة والبسالة والمهارة والقوة أنواعًا وأشكالاً تكفي كل واحدة منها لإثبات طبيعة الدين فائق المجد الذي قام لحمايته وجاهد لأجله بمثل هذه البسالة، إلى أن استشهد في سبيله بعزة تامة. وكانت علائم النجابة وحسن الخلق بادية عليه منذ صباه مع اتساع دائرة علمه وقوة إيمانه بدينه وإخلاصه في مقاصده وعلو مشاعره تجاه العدل وثباته في يقينه. فهذه الصفات ميزته وجعلت له

________________________
(1) 10 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1848م.
(2) 2 فبراير/شباط سنة 1849م.
(3) 10 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1848م.
(4) 1 ديسمبر/كانون الأول سنة 1848م.
(5) 21 ديسمبر/كانون الأول سنة 1848م.

شخصية بارزة بين الذين شهدوا لعظمة وقوة الدين الجديد بتضحية أرواحهم. وكان عمره ستة وثلاثين عامًا وقت تجرع كأس الشهادة. وكان له من العمر ثمانية عشر عامًا وقت أن تعرف في كربلاء بالسيد كاظم الرشتي وجلس عند قدميه مدة تسع سنوات، يتلقى من الدروس ما أهّله لقبول رسالة حضرة الباب وصرف باقي سني حياته التسع وسط معمعان المجهودات الواقعة في الملاحم الحماسية التي أوصلته أخيرًا إلى ميدان الشهادة في ظروف ألقت بأنوارها على صفحات تاريخ بلاده.(1)

________________________

(1) "فمن جملتهم الملاّ حسين الذي أصبح محلاً لإشراق شمس الظهور. لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيته وما استقر على كرسي صمدانيته." ("كتاب الإيقان"، الصفحتان 188-189) انظر الحاشية رقم 2 في الصفحة 21. ’وكان هيكله نحيفًا ولكنه كان عسكريًا باسلاً ومحبًا لله حبًا خالصًا، وجمع بين الصفات والخصائص التي قلما توجد متحدة في شخص واحد من الأرستقراطية الروحية في إيران.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحة 83). ’وأخيرًا توفي وفقدت الديانة الجديدة أول شهدائها رجلاً قوي الشخصية وصاحب قدرة كبيرة كان يقدر أن يكون أكبر عون لها لو طال أجله. وكان المسلمون بطبيعة الحال يمقتون ذكرى ذلك القائد بقدر ما أحبه واحترمه البابيون. وكلا الطرفين مصيب في وجهة نظره. ومما لا ريب فيه أن الملاّ حسين البشروئي كان أول من وهب الدين البابي، في المملكة الإيرانية، مكانة يطمح لها أي دين أو هيئة سياسية في نظر الشعب وذلك بعد أن أظهرت (البابية) مقدرتها القتالية.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 176). وكتب المرحوم الحاج ميرزا جاني: ﴿وقابلته بنفسي (ميرزا محمد حسن، الأخ الأصغر للملاّ حسين) في الوقت الذي أحضر فيه والدته وأخته من كربلاء إلى قزوين ثم إلى طهران. وكانت أخته زوجة الشيخ أبو تراب القزويني، وهو فيلسوف وعالم قلَّ أن يوجد مثله، ومؤمن مخلص طاهر محب لحضرة الباب لدرجة إنه كان يذرف الدمع مدرارًا إذا ذكر أحد اسم حضرته (روح من سواه فداه). وغالبًا ما رأيته يقرأ كتاباته المقدسة وهو ممتلئ بالفرح والغبطة. ومما حكاه عن زوجته قال: ’تزوجتها منذ ثلاث سنين في كربلاء وكانت أولاً تلميذة لا تهتم بشيء حتى بالفارسية ولكنها الآن قادرة على تفسير الآيات القرآنية وحل معضلات أكبر مسائل التوحيد بدرجة لم أجد مثيلاً لها في الرجال في ذلك المجال أو في سرعة البديهة. وحصلت لها هذه المواهب ببركة حضرة الباب ومن المحادثة مع حضرة الطاهرة قرة العين. فرأيت فيها إخلاصًا وصبرًا مما يندر وجوده في الرجال المنقطعين، ففي مدة الثلاث سنوات لم أرسل لها دينارًا واحدًا لمصاريفها ومع ذلك سيرت أمورها بصعوبة بالغة. ولم تفتح فمها بكلمة واحدة، ولما حضرت لطهران لم تشأ أن تتكلم بكلمة واحدة مطلقًا عن الزمن الماضي. ولما أرادت السفر إلى خراسان تلبيةً لرغبة باب الباب، لم يكن لديها سوى رداء واحد ولم تطلب لباسًا خلافه ولا مصاريف السفر. وهي دائمًا تتذرع بالأسباب التي تجعلني في راحة تامة وحتى لا تكون سببًا في خجلتي. أما طهارتها وعفتها وفضائلها فلا توصف. وفي طوال هذه المدة لم يسمع أحد من العامة صوتها.‘ وكانت الوالدة تفوق كريمتها في أخلاقها الفاضلة وكانت لها مواهب نادرة وأنشأت جملة مراثي لأولادها، ومع أن باب الباب أخبرها بقرب استشهاده وبالمصائب اللاحقة فإنها كانت مع ذلك مستبشرة وفرحة بأن الله قد قبل شهادة أولادها ودائمًا تتضرع إلى ↓

وكان انهزام العدو تامًا واندحاره مخجلاً بدرجة شلّت حركاته ولم يتمكن من جمع قواته المشتتة وتجديد هجومه إلا بعد مضي خمسة وأربعين يومًا. وأثناء تلك الأيام التي انتهت بيوم النوروز، كانت شدة البرد قد ألجأتهم إلى تأجيل عزمهم على مقاومة خصم ملأهم خجلاً ورعبًا. ومع أن هجومهم أوقف مدة، إلا أن الضباط المسؤولين عن البقية الباقية من الجيش الملكي، أصدروا الأوامر الشديدة بمنع وصول أي نجدة للقلعة. ولما كادت المؤونة تفرغ من القلعة، أمر القدوس ميرزا محمد باقر أن يوزع جميع الأرز الذي كان الملاّ حسين خزّنه لوقت الحاجة على الأصحاب، ولما استلم كلٌ حصته منه، طلبهم القدوس وقال لهم: ’كل من يشعر في نفسه القوة على ملاقاة المصائب التي سوف تنزل علينا قريبًا فليمكث معنا في هذه القلعة، والذي يجد في نفسه أقل خوف أو تردد، فعليه أن يترك هذا المكان وليتركه سريعًا قبل أن يجمع العدو قواته ويهجم علينا. فسرعان ما يغلق الطريق أمام وجوهنا ونلاقي أشد الصعاب ونكون فريسة آلام مبرحة.‘

وفي الليلة نفسها التي كان القدوس ينذر فيها أصحابه، قام سيد من قُم يدعى ميرزا حسين المتولي، وخان بقية الأصحاب في القلعة، وكتب إلى عباس قلي خان اللاريجاني ’لماذا تركتم عملكم الذي ابتدأتموه وقد سبق لكم أن قضيتم على حياة عدو رهيب بموت الملاّ حسين الذي كان القوة المحركة داخل القلعة، وقد هدمتم العماد الذي ترتكز عليه قوتها. ولو صبرتم يومًا واحدًا آخر لكنتم أحرزتم النصر التام لأنفسكم. وإني أشهدكم أنكم لا تحتاجون الآن إلا إلى مائة محارب، وهؤلاء يمكنهم في ظرف يومين أن يستولوا على القلعة ويتمكنوا من إخضاع سكانها بلا قيد ولا شرط، فقد ضربت فيهم المجاعة

_____________________________________________________________________

الله أن لا يحرمها من هذا الشرف العظيم. ومن موجبات العجب والدهشة التفكر في حالة هذه الأسرة العفيفة المقدسة وفي إخلاص الأنجال وتضحيتهم وفي صبر الوالدة والأخت وتوكلهما على الله. ففي الوقت الذي قابلتُ فيه (أنا ميرزا جاني) ميرزا محمد حسن، كان يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا فقط ولاحظت فيه من الوقار والسكون والثبوت ما حيرني. وبعد استشهاد باب الباب أعطاه حضرة القدوس سيف الشهيد الخالد وعمامته وجعله رئيسًا على المحاربين في سبيل الملك الحق. واختلفت الأقوال بالنسبة لاستشهاده هل كان وقت تناوله طعام الإفطار في المعسكر وذبحه إذ ذاك أو أن استشهاده كان مع القدوس في ميدان بارفروش.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 93-95). ’وكان لقب أخت الملاّ حسين "ورقة الفردوس" وكانت صاحبة مقربة لقرة العين في كربلاء.‘ ("تذكرة الوفاء"، لحضرة عبدالبهاء، الصفحة 204 في الترجمة العربية)

وهم الآن في مشقة عظيمة.‘ ودفع الخطاب المختوم إلى السيد علي زرگر الذي هرب من القلعة في نصف الليل وأخذ معه نصيبه من الأرز الذي أخذه من القدوس وأوصل الخطاب إلى عباس قلي خان الذي كانت له به سابقة معرفة، ووصلته الرسالة في وقت كان ملتجئًا في قرية على بعد أربعة فراسخ من القلعة. وكان عباس المذكور، مترددًا بين أن يرجع إلى العاصمة ويتقدم بنفسه إلى مليكه بعد هذه الهزيمة المخجلة أو يعود إلى موطنه في لاريجان وفيها ينتظر أن يقابله أهله وأصدقاؤه بالتوبيخ.

ولما استيقظ ساعة شروق الشمس، جاءه السيد بالخطاب، ولما علم منه وفاة الملاّ حسين تحرك بعزم جديد. وخوفًا من انتشار الخبر عن وفاة المبارز العظيم من الرسول، قتله فورًا وأبعد تهمة القتل عن نفسه بحيلة عجيبة. ورغبةً منه في انتهاز الضيق الحاصل للمحاصرين والنقص في قواتهم، أخذ في إعداد الترتيبات اللازمة لمعاودة الهجوم. وقبل النوروز بعشرة أيام ضرب خيامه على مسافة نصف فرسخ من القلعة وتحقق من صدق الرسالة التي أرسلها له ذلك السيد الخائن، وأملاً في الحصول لنفسه على قصب السبق في إخضاع أخصامه، امتنع من أن يبوح بالمعلومات التي تلقاها حتى لأخص ضباطه.

وما كاد النهار يلوح حتى رفع العلم(1) وتقدم وحاصر القلعة على رأس فوجين من المشاة والخيالة، وأمر رجاله أن يطلقوا النار على الحراس الواقفين على الأسوار. وأسرع

________________________

(1) ’وفي هذه المرة بلغ الخوف أشده في تلك المقاطعة، وزاد تأثر الأهالي من جراء الانكسارات المتتالية الواقعة على المسلمين وابتدأوا يميلون إلى الدين الجديد. وشعر رؤساء الحربية بتزعزع مركزهم وفقد الرشد وضياع الأمل من الرؤساء الدينيين حيث طفح الكيل، وبحركة قليلة كادت مازندران تقع كلها تحت تأثير المصلح.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 315). ﴿ولما أخبروا سعيد العلماء بذلك، أخذه الرعب والخوف من دخول البابية في بارفروش والاقتصاص منه قصاصًا يستحقه، وكتب جملة خطابات إلى عباس قلي خان قال فيها: ’أهنئكم على شجاعتكم وحصافتكم، ولكن الذي يؤسف له أنكم بعد أن تجشمتم كل هذه المشقات وبعد أن ضاع كل هذا العدد الغفير من الرجال لم تتابعوا العمل بعد أن أخذت الجماهير طعمة للسيف ولم يبق سوى العجائز منكم، وإنكم ويا للأسف بعد كل هذه المكافحات لم تستعدوا لإعادة الكرّة لأسر هذه البقية الباقية من هؤلاء المساكين كي تحوزوا قصب السبق والفخر بالانتصار النهائي وحدكم وتستولوا على أموال المغلوبين، فعليك أنت والحالة هذه أن تجعل أقصى همتك الرجوع إلى القلعة قبل أن ينطلق هو إليها، للحصول بنفسك على النصر النهائي وتكمل ما ابتدأت به لأن حكومة مقاطعة مثل مازندران ليست بالأمر الهين.‘ ثم كتب بعد ذلك مسهبًا إلى علماء آمل ليبذلوا الهمة في قيام عباس قلي خان بلا توانِ. ↓

ميرزا محمد باقر بإخبار القدوس بحرج الموقف، فقال له القدوس: ’إن الخائن أعلن وفاة الملاّ حسين لعباس قلي خان، فلما تشجع بغيابه عن الميدان، عزم على فتح معقلنا ليفوز بشرف النصر علينا دون غيره، فاهجم عليه ومعك ثمانية عشر رجلاً وأنزل به وبرهطه عقابًا لائقًا. وليعلم أنه ولو أن الملاّ حسين غير موجود، إلا أن قوة الله التي لا تغلب تستمر بعضد أصحابه على الدوام وتمكنهم من إحراز النصر على قوات أعدائهم.‘

وبمجرد أن انتخب ميرزا محمد باقر أصحابه، أمر بفتح بوابة القلعة وامتطى هو وأصحابه الجياد وصاحوا "يا صاحب الزمان" وانطلقوا إلى معسكر العدو. فهرب الجيش بأجمعه بارتباك عظيم أمام هذه الهجمة العنيفة، ولم يبق منهم إلا القليل ممن وصل إلى بارفروش خائر العزم محملاً بالخجل. واشتد ذعر عباس قلي خان حتى إنه سقط من جواده وهرب تاركًا أحد نعليه معلقًا في الركاب، وقصد إلى الجهة التي هرب فيها جيشه، وهو منتعل في إحدى قدميه وقدمه الأخرى عارية. وأسرع إلى الأمير واعترف بالانكسار الذي وقع وهو ممتلئ رعبًا.(1) وعاد ميرزا محمد باقر سالمًا إلى القلعة ومعه أصحابه الثمانية عشر دون أي جرح،

_____________________________________________________________________

فكانوا يذكرونه دائمًا بواجبه في التحرك بكل سرعة إلى القلعة. وكان هذا الحاكم يعلم أن ما كتبه له سعيد العلماء محض اختلاق لا أساس له، إلا أنه فكّر في إمكان الرجوع للقلعة حتى يخلص من العار الذي لحقه في نظر نساء لاريجان اللائي ضحى هو برجالهن في هذه الحرب وكذلك في نظر الحكومة. إلا أنه كان في باطنه يحترق خوفًا ويرتعد فزعًا لئلا يفشل كما فشل في الحملة السابقة. وكان أغلب رجاله جرحى والكثيرون هربوا مختبئين في القرى المجاورة على بعد أربعة فراسخ أو خمسة من المدينة. ولذلك كتب إلى علماء آمل مقترحًا بديلاً مؤقتًا ما يلي: ’إذا كانت هذه الحرب دينية، فعليكم أن تتأهبوا أنتم أيضًا للحرب والقيادة لأن الناس ينظرون إليكم بأنكم مثلهم الأعلى المتحمسون للدين فتحركوا أولاً حتى تكونوا قدوة لغيركم من الناس أنفسهم.‘ وإذ كان العلماء غير مستعدين لإجابة مناسبة، وإذ وجدوا أنفسهم عاجزين عن الاعتذار فاضطروا لإرسال رسالة مفادها أن الحرب حرب دينية. واجتمع جمهور كبير من التجار والعامة والغوغاء وانضموا إلى التلاميذ والفقهاء متظاهرين بأداء فرض ديني، بينما هم في الحقيقة لا يبتغون سوى النهب والسلب، وذهب معظمهم إلى بارفروش وهناك اجتمعوا بطلائع جيش الأمير مهدي قلي ميرزا الذي بمجرد وصوله إلى حصن يبعد فرسخًا عن القلعة، أرسل بعض الجواسيس لاستكشاف تحركات الحامية البابية.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحتان 72-73)

(1) ﴿وكان العلماء المبجلون وتلاميذهم الذين حضروا للاشتراك في الجهاد المقدس غير قادرين على النوم خوفًا وفزعًا (مع أنهم عسكروا على بعد فرسخين من القلعة)، وكانوا دائمًا في أحاديثهم يسبون الأمير وعباس قلي خان وسعيد العلماء قائلين: ’إنهم أخرجونا من ديارنا وأبعدونا عن دروسنا بلا سبب وأجبرونا على ترك معاشنا ↓

وحمل بيده الراية التي تركها العدو الهارب، ودخل القلعة بفرح عظيم وسلّم الراية لرئيسه الذي أحيى فيه روح الشهامة التي أدت به للانتصار مرة أخرى بقوة الإيمان الموهوبة لهم.

وكان انهزام العدو التام أحدث فرجًا فوريًا عند الأصحاب وقوّى رابطتهم وذكّرهم مرة أخرى بكفاية القوة التي منحها لهم إيمانهم. ولما نفد الطعام من عندهم، أكلوا لحوم الخيل التي غنموها من معسكر الأعداء المهجور، وتحملوا بكل شجاعة وثبات جميع المصاعب التي أحاطتهم من كل الجهات. وكانت همتهم متوجهة لتنفيذ رغبات القدوس، فلم يهتموا بما عداها. ولم تثنهم وطأة الحصار ولا تهديدات الأعداء المتواصلة قيد شعرة عن السبيل الذي سلكه أصحابهم السابقون بكل استقامة وشجاعة. نعم، عثر وارتد البعض من ضعاف القلوب في أظلم ساعات البلاء، ولكنهم تلاشوا وبقيت عظمة

____________________________________________________________________

وأحضرونا لاقتحام هذا الخطر الداهم لأن الذين نحاربهم نبذوا الدنيا وجعلوا أرواحهم على أكفّهم فداء لأمرهم.‘ وأصبحت الآية: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" مقولتهم اليومية. وقال أحدهم: ’توجد أسباب معينة تعفيني من خوض هذه الحرب في الوقت الراهن.‘ وقال آخر (مبينًا ثلاثين عذرًا مختلفًا): ’إني معفى شرعًا ومضطر للعودة إلى موطني.‘ وقال ثالث: ’عندي أطفال صغار أعيلهم فماذا أعمل؟‘ وقال رابع: ’إني لم أترك نفقة لزوجتي، لذلك عليّ الذهاب، وسأعود إن لزم الأمر.‘ وقال خامس: ’إني أريد أن أصفي حسابي مع شركائي وإذ وقعت شهيدًا تهدر ثروتي ويحصل الضرر لزوجتي وأطفالي، والهدر والضرر كلاهما لا يرضى بهما الدين ولا الله.‘ وقال سادس: ’إني لم أوفِ ديون الناس ولا يوجد من يوفي بديوني. وإذا وقعت شهيدًا فلن يمكنني دَيني من اجتياز الصراط يوم القيامة.‘ وقال سابع: ’إني حضرت دون علم والدتي ورغم إرادتها وكانت قد قالت لي: ’’إذا خرجت يكون اللبن الذي رضعته حرامًا عليك.‘‘ وأخاف أن أكون عاقًا لوالدتي.‘ وقال ثامن وهو يبكي: ’إني نذرت أن أزور كربلاء هذه السنة، والطواف مرة حول قبر سيد الشهداء يوازي أجر مائة ألف شهيد وألف حج إلى مكة، وأخاف أن لا أوفي بهذا النذر وأحرم من هذه العناية العظيمة.‘ وقال آخرون: ’إننا لم نرَ في هؤلاء القوم ما يدل على أنهم كفار لأنهم أيضًا يقولون "لا إله إلا الله محمد رسول الله وعليّ حبيب الله"، وفقط يدّعون أن المهدي ظهر، فليكن ذلك، فهم لا يكونون ألعن من أهل السنة الذين رفضوا الاعتراف بالأئمة الاثني عشر والأربعة عشر المعصومين ويعتبرون شخصًا مثل عمر خليفة الرسول. ويفضلون عثمان على عليّ ابن أبي طالب، ويعتبرون أبا بكر خليفة رسول الله أيضًا، فلماذا يتركهم علماؤنا ويحاربون الذين لا يعلمون صدقهم من كذبهم على وجه اليقين؟‘ وبالاختصار فقد ارتفعت الشكوى في معسكرهم واحتج كل شخص بحجة وانتظر الجميع فرصة ليولوا الأدبار ويهربوا من ميدان القتال. ولما رأى عباس قلي خان هذه الروح متفشية فيهم خاف من سريانها في معسكره، فاضطر لقبول أعذار أولئك العلماء وتلاميذهم وأتباعهم فخرجوا من الميدان متهللين فرحين بعودتهم إلى وطنهم داعين للسرتيب (الرئيس) بالنصر.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 74-76)

أولئك الأبطال أصحاب القلوب الثابتة القويمة الذين أشرق نورهم وضياؤهم في ساعة القضاء ومحت ظلام غدر هؤلاء الخائنين.

وكان الأمير مهدي قلي ميرزا الذي عسكر في ساري، قد ابتهج من أخبار الاندحار الذي أصاب القوات التي تأتمر بزميله عباس قلي خان. ورغمًا عن رغبته الشخصية في محو هذه الفئة التي تحصنت خلف أسوار القلعة، فقد فرح لعدم نجاح غريمه بإحراز النصر الذي كان يطمع هو فيه وحده.(1) فكتب توًا إلى طهران مستنجدًا وطالبًا إرسال المدافع والهجانة مع جميع المعدات دون تأخير لحصار القلعة، وعزم في هذه الدفعة على إخضاع سكان القلعة العنودين إخضاعًا تامًا.

وبينما كان أعداؤهم يستعدون لهجوم أعنف على القلعة، كان أصحاب القدوس غير مبالين بالمصاعب الطاحنة التي انتابتهم، وكانوا يهيئون ما يلزم من الترتيبات لاستقبال النوروز بالفرح والابتهاج. وفي أثناء الاحتفال بذلك العيد أطلقوا العنان لشعورهم بالشكر والامتنان للبركات العديدة التي أنعم بها القدير عليهم. ومع أنهم كانوا في شدة من الجوع، فإنهم كانوا يترنمون بالأناشيد والأفراح متناسين بالكلية الأخطار التي تهددهم. فكانت القلعة تدوي بعبارات الثناء التي تتصاعد منها آناء الليل وأطراف النهار سيّما عبارة "سبّوح قدّوس ربّنا وربّ الملائكة والروح" التي كانت تتقاطر من أفواههم دون انقطاع وكانت تشعل فيهم الحماس وتحيي فيهم روح الشجاعة.

ولم يبقَ عندهم من الماشية التي أتوا بها إلى القلعة، سوى بقرة، كان الحاج نصير الدين القزويني قد أفردها ليأخذ حليبها ويطبخه مع الأرز ويقدمه كحلوى كل يوم للقدوس.

________________________

(1) ’وفوجئ مهدي قلي ميرزا بعض الشيء. وشعر بخيبة أمل عميقة، ولكن ما أثر فيه بشكل أكبر هو أنه أمكن اعتبار السردار قد هزم مثل ما هزم هو، وهذه الفكرة، بما حققت من عزاء نفسي لأنانيته وحبه لنفسه، جلبت له سرورًا بالغًا. فلم يعد يشعر بالخوف من أن أحد معاونيه حقق مجدًا خالدًا وانفرد بالاستيلاء على قلعة البابيين، وكذلك لم يعد هو المنهزم وحده بل أصبح له شريك في التعاسة ورفيق له في تحمل مسؤولية الهزيمتين. فلما ابتهج بهذه الأفكار، جمع أركان جيشه، كبارًا وصغارًا، وأعلمهم بالأنباء وأظهر التأسف على المصير المفجع للسردار وأبدى أمله المخلص بأن يلقى ذلك الجندي الباسل حظًا أوفر في المستقبل.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 179)

وكان القدوس لا يضن على أصحابه الجائعين أن يشاركوه في ذلك الطعام، فكان بعد أن يتناول قليلاً منه، يوزع الباقي عليهم ويقول: ’منذ افتراقي عن الملاّ حسين لا أستلذ أي لحم أو شراب مما يقدم لي. لأن قلبي يحترق إذ أرى أصحابي يتضورون جوعًا وهم منهوكو القوى حولي.‘ ورغمًا عن هذه الظروف القاسية، استمر في تفسير صاد الصمد وفي نصح أحبائه على الثبات للنهاية في جهودهم الشجاعة. وكان ميرزا محمد باقر، يقرأ صباحًا ومساء في محضر الأحباء المجتمعين بضع فقرات من التفسير، وكانت تلاوتها تشعل فيهم الحماس وتـنعش فيهم الآمال.

وسمعت الملاّ ميرزا محمد الفروغي يشهد بالآتي: ’يعلم الله أننا توقفنا عن الجوع للطعام ولم تعد أفكارنا تتجه لأمور تتعلق بطعامنا اليومي. فخلب لبّنا سحر ترتيل الآيات على شأن لو تُركنا كذلك سنين عدة، ما كان يظهر علينا آثار الملل أو التعب أو يؤثر ذلك في إخماد حماسنا أو تكدير صفو سرورنا. وكلما كانت قلة الطعام تبتدئ أن تعمل في خور عزائمنا وإضعاف قوتنا، كان ميرزا محمد باقر يسرع للقدوس ويعلمه بالحالة، فما يكاد يمر في وسطنا حتى تبدل طلعة وجهه وسحر كلماته قنوطنا بالحبور وترحنا بالسرور. فنشعر بقوة وقدرة على شأن نعتقد أنه لو ظهرت جموع الأعداء لنا فجأة، لكنا قادرين على هزيمتهم.‘

وفي يوم النوروز الذي وقع في الرابع والعشرين من ربيع الثاني سنة 1265ﻫ،(1) أشار القدوس في رسالة موجهة لأصحابه بقرب مجيء امتحانات تجلب في أثرها استشهاد جماعة كبيرة من أصدقائه. وبعد مرور بضعة أيام عسكرت بالقرب من القلعة فيالق عظيمة(2)

________________________
(1) سنة 1849م.

(2) ’وحدد الأمير الموقع المخصص لكل واحد في الحصار وأوكل إلى الحاج خان النوري وميرزا عبد الله نويّ مسؤولية توفير اللوازم الكافية. وعين لقيادة العسكر السردار عباس قلي خان اللاريجاني، الذي بدأ يشعر نحوه بعطف أكبر منذ فشله الأخير، وعيّن نصر الله خان البنديبي وهو زعيم قبيلة، ومصطفى خان من "أشرف" الذي جعله رئيسًا على التفنگچية (رماة البنادق) الشجعان من تلك المدينة، وكذلك رئيسًا على السورتيس. وعين رؤساء ثانويين على الدودانكه والبالارستاق وبعض البدو الرحل من الترك والكرد الذين لم يشملوا في فرق الرؤساء الكبار. وكان هؤلاء البدو الرحل مكلفين بمهمة خاصة وهي مراقبة كل حركة من تحركات العدو. فقد علمتهم التجربة أن يكونوا أكثر يقظة في المستقبل. لذلك أعطيت للترك والكرد مسؤولية متابعة ↓

بقيادة الأمير مهدي قلي ميرزا(1) مردفة بقوات سليمان خان أفشار وعباس قلي خان اللاريجاني وجعفر قلي خان، ومسندة بأربعين ضابطًا آخرين. وابتدأوا في تجهيز سلسلة من الخنادق والاستحكامات في الأراضي المجاورة للقلعة(2) وفي اليوم التاسع من شهر البهاء(3) أعطى رئيس الحملة أوامره لضباط المدفعية بإطلاق نيرانهم باتجاه المحاصرين. وبينما كان القصف مستمرًا، خرج القدوس من غرفته ومشى إلى وسط القلعة، وكانت الابتسامات تعلو وجهه، ويظهر على هيئته كمال السكون. وبينما كان يسير وقعت قنبلة مدفع فجأة أمامه. فقال بهدوء وهو يدحرج القنبلة بقدمه: ’ما أجهل هؤلاء الطغاة بقوة غضب الله المنتقم. ألم يعلموا أن مخلوقًا ضعيفًا كالبعوضة تقدر على قتل نمرود الجبار؟ ألم يسمعوا أن ريحًا صرصرًا كانت كافية لإهلاك قوم عاد وثمود ومحو قواتهم؟ فهل يسعون إلى تخويف أبطال الله، الذين لا يعتبرون أبّهة الملك إلا كظل زائل، بمثل هذه الدلائل التافهة على قسوتهم؟‘ والتفت إلى أصحابه وأضاف: ’أنتم أولئك الأصحاب

_____________________________________________________________________

عمليات العدو ليل نهار، وأن يكونوا متأهبين دومًا لمنع أي مفاجآت محتملة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 180-181)

(1) ’وأراد مهدي قلي ميرزا أن يضيف استراتيجيات حديثة إلى التقنيات الحربية القديمة، فأمر بأن يُحضروا من طهران مدفعين وقطعتين من مدافع المورتر مع العتاد اللازم. واستمد المعونة أيضًا من رجل من هرات كان قد اكتشف مادة مفرقعة يمكنها قذف لهب إلى مسافة سبعمائة متر لتحرق كل مادة قابلة للاشتعال في نطاق تلك المسافة. فأجريت تجربة أدت إلى نتيجة مرضية، فقذفت هذه المادة الحارقة إلى داخل القلعة فشب حريق على الفور أحال كل المساكن والملاجئ، سواء المصنوعة من الخشب أو القصب أو التبن، إلى رماد. وكان البابيون قد بنوا تلك المنشآت داخل القلعة وعلى الأسوار. وفي خضم ذلك الدمار، دمرت قنابل مدافع المورتر بشكل كبير بناءً بناه رجال لم يكونوا معماريين ولا مهندسين ولا كانوا يتوقعون هجومًا بالمدافع. وفي وقت قصير تفككت الدفاعات الخارجية للقلعة ولم يتبقَ منها سوى عوارض ساقطة وأخشاب محترقة وأحجار متناثرة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 181-182)

(2) ’وبعد أن اتخذوا تلك الاحتياطات، حفروا حفرًا وخنادق ووضعوا فيها التفنگچية (رماة البنادق) وأعطوهم أوامر بإطلاق النار على من يظهر للعيان من البابيين. وأقاموا أبراجًا كبيرة بارتفاعات مماثلة لأبنية القلعة أو أعلى منها، ومن خلال القصف المتواصل، غدا تحرك البابيين داخل قلعتهم خطرًا جدًا. وكانت هذه أفضلية مؤكدة للقوات التي حاصرت القلعة، إلا أنه بعد أيام استثمر زعماء البابيين الليالي الطويلة ليرفعوا مستوى استحكاماتهم وتصبح أعلى من أبراج أعدائهم المهاجمة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 181)

(3) اليوم التاسع بعد النوروز.

أنفسهم الذين تكلم عنهم محمد رسول الله قائلاً: "وا شوقاه لرؤية إخواني الذين يأتون في آخر الزمان، طوبى لنا وطوبى لهم، وطوباهم أفضل من طوبانا." فاحذروا لئلا يفسد مقامكم الجليل باتّباع النفس والهوى، فلا تخافوا من تهديد الأشرار ولا تخشوا من سطوة الكفار. ولكل منكم ساعة معلومة وأجل مسمى، فإذا جاء الأجل فلن يؤثر هجوم الأعداء أو جهود الأحباء في أن يُستقدم الأجل أو يُستأخر. بل إذا اجتمعت قوات الأرض ضدكم لن يقدروا قبل مجيء الساعة أن ينقصوا من حياتكم دقيقة واحدة، وأما لو سمحتم لقلوبكم أن تضطرب ولو لحظة واحدة من إطلاق هذه المدافع التي ستستمر في صبّ قنابلها بشدة على هذه القلعة، فإنكم تطرحون أنفسكم خارج معقل الحماية الربانية.‘

ولم يفشل ذلك النداء النافذ في بث روح الثقة في قلوب الذين سمعوه عدا القليل ممن ظهر على وجوههم التذبذب والخوف فأخذوا يأتمرون مع بعضهم في زاوية مستورة من القلعة ناظرين إلى الحماس الذي أنشط إخوانهم بعين الحسد والدهشة.(1)

________________________

(1) ﴿وبالفعل خرج ذات مرة عدد صغير منهم في محاولة للحصول على قليل من الشاي والسكر للقدوس. وكان أشهرهم الملاّ سعيد من زركناد. وكان رجلاً ضليعًا في العلوم حتى إن بعض العلماء من أقرباء الملاّ محمد تقي من "نور" سأل القدوس كتابة بعض أسئلة خاصة بعلوم الجفر والتنجيم، فأحال القدوس الخطاب إلى الملاّ سعيد قائلاً: ’اكتب لهم سريعًا جوابًا مختصرًا موجزًا حتى لا ينتظر رسولهم طويلاً وفيما بعد اكتب لهم جوابًا مفصلاً.‘ ورغم استعجاله لوجود الرسول، وارتباكه من الحصار، كتب الملاّ سعيد بسرعة جوابًا في غاية البلاغة أورد فيه، بالإضافة إلى الإجابات عن الأسئلة المطروحة، نحوًا من مائة حديث صحيح للدلالة على الظهور الجديد، وكذلك العديد من الأحاديث المنبئة عن توقف أولئك المؤمنين بربهم في الطبرسي واستشهادهم. فدهش علماء نور دهشة عظيمة من هذه المعرفة الفائقة وقالوا: ’تجبرنا الصراحة على الاعتراف بأن عرض مثل هذه المسائل لهو معجزة كبيرة وأن هذا العلم والبلاغة فوق مقدرة الملاّ سعيد الذي نعرفه. فلا بد إذًا أنهما صدرا بوحي سماوي وأظهرهما هو بدوره لنا.‘ والآن بينما كان الملاّ سعيد وأصحابه خارج القلعة، وقعوا في أيدي العسكر الملكي الذين أحضروهم أمام الأمير. وحاول الأخير بكل وسيلة ممكنة أن يستقي المعلومات منهم عن حالة الحامية البابية وعدد أفرادها وما عندهم من الذخيرة، ولكنهم امتنعوا عن الإدلاء بأي معلومات. ولما عرف أن الملاّ سعيد رجل ذو موهبة قال له: ’تُب وأنا أطلق سراحك وأنجيك من الذبح.‘ فأجابه الملاّ سعيد: ’لا يمكن لأي إنسان أن يتوب عن الطاعة لأمر الله، فلماذا أفعل أنا ذلك؟ بل الأولى لك أن تتوب أنت لأنك تعمل على خلاف رضاه وشرٌ مما عمله السابقون للآن.‘ وتكلم كثيرًا بهذه الكيفية، ولذلك أرسلوه إلى ساري مقيدًا بالسلاسل وهناك ذبحوه بطريقة وحشية وبأقسى ما يمكن هو وأصحابه الذين كانوا على ما يبدو خمسة أشخاص.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحتان 79-80)

وكان جيش الأمير مهدي قلي ميرزا قد استمر بإطلاق النار باتجاه القلعة لبضعة أيام. ودهش رجاله من أن دوي مدافعهم لم ينجح في إسكات تلاوات الدعاء وصيحات الابتهاج التي كان المحاصرون يرفعونها ردًا على تهديداتهم. وبدلاً من تسليم القلعة تسليمًا تامًا كما كانوا ينتظرون، فإن أذان المؤذن وتلاوة الآيات القرآنية ونغمات الأفراح والمناجاة بالشكر والامتنان كانت تصل إلى آذانهم دون انقطاع.

وكانت شواهد هذا الحماس التي لا تنقطع قد أغضبت جعفر قلي خان الذي كان قلبه يغلي حنقًا ورغبة في محو هذا الحماس الذي اشتعل في قلوب أعدائه. فقام بإنشاء برج ونصب عليه مدفعًا،(1) وأخذ يصب نيرانه من ذلك الموقع الشامخ على قلب القلعة. فدعا القدوس على الفور ميرزا محمد باقر وأمره أن يخرج مرة أخرى وينزل بذلك "الدخيل الجديد المتكبر" إذلالاً لا يقل عما سبق ايقاعه بعباس قلي خان، وأضاف: ’دعه يعلم أن أبطال الله الذين تشجعت قلوبهم، هم كالأسود إذا اضطروا ودفعهم الجوع يظهر منهم من الشجاعة والشهامة ما لا يقوى مخلوق على مثله. ودعه يعلم أنه كلما اشتد جوعهم كلما ازدادت ضراوة سخطهم.‘

فأمر ميرزا محمد باقر ثمانية عشر من أصحابه أن يهرعوا إلى خيولهم ويتبعوه. وفتحت بوابات القلعة على مصاريعها وارتفع نداء "يا صاحب الزمان" أشد رنينًا وأعظم إثارة عن ذي قبل ما أوقع الرعب والوجل في صفوف الأعداء، ووقع جعفر قلي خان وثلاثون من

________________________

(1) ’وكان هذا الأخير قد شيّد أربعة أبراج على جوانب القلعة الأربعة على ارتفاع عظيم يمكنه من السيطرة على ما بداخل الحصن وإمكان ضربه بالمدافع وجعل الحامية هدفًا لمقذوفاتها. ولما رأى المؤمنون ذلك حفروا أنفاقًا للالتجاء إليها. ولما كانت أرض مازندران قريبة من المياه كانت الأنفاق رطبة وزادت على رطوبتها الأمطار الغزيرة التي هطلت على الدوام فزادت في الأضرار حتى أن هؤلاء المنكوبين المساكين كانوا يعيشون في الأوحال والمياه حتى بليت ملابسهم ورثت من الرطوبة... وكلما شرب أحدهم كأس الشهادة أمام أعينهم كان باقي الأصحاب يبتهجون بدلاً من أن يحزنوا. فمثلاً وقعت قنبلة على سقف كوخ فشبت فيه النار، ولما ذهب الشيخ صالح الشيرازي لإطفائها، أصابته رصاصة في رأسه ومزقت جمجمته إربًا. وحتى عندما كان الأصحاب ينقلون جثمانه أصابت رصاصة ثانية يد آقا ميرزا محمد علي، ابن السيد أحمد الذي هو والد آقا سيد حسين "المحبوب". وكذلك قتل آقا سيد حسين "المحبوب" وعمره عشر سنوات أمام أعين والده، وتدحرج جسده في الأوحال وأعضاؤه ترتجف وتهتز كما يرقص الطائر المذبوح.‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 81-83)

أصحابه صرعى تحت سيوف خصومهم الذين هجموا على البرج واستولوا على المدافع وأسقطوها أرضًا. ثم رموا بأنفسهم على الاستحكامات التي نصبت، وحطموا عددًا منها، ولولا حلول ظلام الليل لكانوا استولوا على ما تبقى منها ودمّروها.

وعادوا إلى القلعة ظافرين غانمين ولم يصابوا بأذى وأخذوا معهم عددًا من أفضل الجياد التي تركها العدو. ومضت أيام عديدة لم تظهر فيها دلائل هجوم مضاد.(1) وبسبب حصول انفجار فجائي في إحدى مستودعات الذخيرة عند العدو، ومقتل عدة ضباط من سلاح المدفعية وعدد من زملائهم الجنود، اضطروا لإيقاف الهجوم على الحامية(2) مدة شهر كامل. وكان هذا السكون سببًا في تمكين الكثيرين من الأصحاب من الخروج من معقلهم أحيانًا لجمع الحشائش التي يجدونها في الحقول القريبة ليسدوا بها رمقهم. وكانت لحوم الخيل قد نفدت واضطروا لأكل الجلود المنزوعة من السروج من شدة الجوع. وكانوا يغلون الحشائش ويلتهمونها بشراهة تستوجب الشفقة.(3) ولما خارت

________________________

(1) ’واستمرت هذه الحالة أربعة أشهر حتى فقد الشاه صبره. وأشعل نجاح البابيين غضبه، وعبّر عنه، كما روى المؤرخ الفارسي، بما يلي: ’’كنا نظن أن جيشنا يقتحم النيران والماء بلا تردد وأنه يناضل الأسد أو الحوت بلا خوف ولا وجل. ولكننا أرسلناه ليحارب جماعة قليلة من الناس الضعفاء، الذين لا حول لهم ولا قوة، فلم يحقق شيئًا! فهل يظن عظماء مازندران أننا نوافق على هذا التأخير؟ وهل من خطتهم أن يسمحوا لهذا النزاع أن يمتد وتعظم بذلك أهميتهم (البابيين) ثم يضعوا حدًا له فيما بعد؟ حسنًا، ولكن ليعلموا أني سوف أعمل على إبادة أهل مازندران قاطبة حتى يصبحوا كأن الله لم يخلقهم.‘‘ ‘("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 322)

(2) ’واستمر الحصار مدة أربعة أشهر ومع ذلك لم يحرز أي تقدم منظور. ومع أن الاستحكامات القديمة دمرت، ولكن البابيين اشتغلوا ليل نهار في إصلاحها وترميمها بهمة لا تفتر، ووسعوا رقعتها. وكان من المستحيل التكهن بنتيجة هذا الوضع، خاصة لأنه، كما سبق أن قلت، لم تكن مازندران هي المنطقة الوحيدة التي أظهر فيها الأتباع المخلصون للدين الجديد دلائل حماستهم وشجاعتهم. ولشدة قلق الشاه ورئيس وزرائه فقد انفجرا بالسباب والشتائم على مرؤوسيهما. ولم يكتفيا باتهامهم بالعجز، بأشد عبارات اللوم والتقريع، بل هدداهم بأن يعاملاهم بمثل المعاملة التي خصصاها للبابيين إذا لم ينته الحصار في أقرب فرصة. وبالتالي رفعت القيادة من مهدي قلي ميرزا وأعطيت إلى سليمان خان أفشار، وهو رجل ذو ثبات مشهور ونفوذ عظيم ليس فقط في قبيلته التي هي من أنبل القبائل في إيران، بل هو أيضًا صاحب نفوذ في الدوائر العسكرية وله احترام عظيم فيها. فأعطيت إليه الأوامر المشددة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 183-184)

(3) ’وأشار عبدالبهاء في "تذكرة الوفاء" (الصفحتين 16-17 من النسخة الفارسية) إلى المصائب والآلام التي تحملها المدافعون الأبطال في قلعة الشيخ الطبرسي وأشاد بما أظهروه من الثبات والحمية والشجاعة ومدحهم ↓

قواهم ونحلت أجسامهم داخل أسوار القلعة، ضاعف القدوس زياراته لهم واجتهد أن يبهجهم بكلماته وينعش آمالهم لتخفيف وطأة آلامهم.

ومع بداية شهر جمادى الآخرة،(1) سمعت مدفعية العدو تصب قذائفها على القلعة. وهجمت في الوقت نفسه مع دوي المدافع أفواج عديدة من الفرسان والمشاة بإمرة عدد من الضباط لأجل الاستيلاء على القلعة عنوة. واضطر القدوس إذ سمع أصوات اقترابهم أن يستدعي مساعده ميرزا محمد باقر على الفور ويأمره بالخروج مع ستة وثلاثين من الأصحاب لصد هجومهم. وقال له: ’منذ أن نزلنا في هذه القلعة، لم نقبل بأي حال أن نسعى في التعدي على أعدائنا، ولم نقم للدفاع عن حياتنا، حتى بدأونا بالهجوم. ولو كان غرضنا الطمع في إعلان الجهاد ضدهم أو كان عندنا أقل قصد في الحصول على السيادة بقوة أسلحتنا على الكفار، ما كنا نبقى محصورين داخل أسوار هذه القلعة إلى هذا اليوم. ولكانت قوة أسلحتنا قد غلبت الأمم كما كان الحال مع أصحاب محمد في الأيام السالفة، وكنا أجبرناهم على قبول الدعوة. ومنذ التجأنا إلى القلعة كان قصدنا الوحيد الذي

_____________________________________________________________________

عليها مدحًا فائقًا وخاصة الملاّ صادق المقدس فقال: "إنه لمدة ثمانية عشر يومًا مكثوا دون طعام فعاشوا على جلود نعالهم. وسرعان ما نفدت هذه أيضًا ولم يبق عندهم إلا الماء. كانوا يشربون في كل صباح جرعة ماء ثم يمكثون في القلعة جائعين متعبين. أما إذا هوجموا قاموا على أرجلهم حالاً وأظهروا في وجه عدوهم شجاعة باهرة ومقاومة مدهشة... وفي مثل هذه الظروف يكون الثبات على الإيمان الذي لا يتزعزع والصبر على غاية من المضض وتحمل هذه الآلام من الظواهر النادرة." وكان الذين ثبتوا في القلعة قد التهموا آخر ما عندهم من الزاد ثم أخذوا يأكلون بعض الحشائش التي يجمعونها داخل الحصن وكذلك قشور الأشجار. ولم يبق عندهم سوى جلود أحزمتهم وأغمدة سيوفهم. وعمدوا بعد ذلك إلى الطريقة التي نصح بها سفير إسبانيا جنود العصبة المحاصرين في پاريس، فإنهم سحقوا عظام الموتى وصنعوا منها نوعًا من الدقيق. وأخيرًا في ساعة اليأس عمدوا إلى الرفات. وكان جواد الملاّ حسين قد قتل من الجراح أثناء المعركة التي وقعت في تلك الليلة المحتومة التي استشهد فيها صاحبه. واحترامًا لقائدهم المقدس، دفن البابيون جواده وأولوا بعض التبجيل الذي كنّوه له لقبر الجواد المسكين. واجتمعوا للتداول فيما إذا كانت الضرورة الملحة تبيح لهم استخراج الجواد المبجل وإعداده كطعام، فقرروا مع الحزن الشديد بأن الضرورة تبيح هذا المحظور. فطبخوا بقايا الجواد مع دقيق عظام الموتى وأكلوا هذ المزيج الغريب ثم عادوا لحمل أسلحتهم.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 186-187)

(1) 24 أبريل/نيسان-23 مايو/أيار سنة 1849م.

لم يتغير هو إثبات سمو الدعوة بأعمالنا واستعدادنا للتضحية وسفك دمائنا في سبيل ديننا. وإن الساعة لآتية قريبًا عندما تكمل أعمالنا.‘

فامتطى ميرزا محمد باقر صهوة جواده مرة أخرى مع ستة وثلاثين ممن انتخبهم من الأصحاب وقابل الأعداء المترصدين وشتت شملهم، وعاد للقلعة ظافرًا ومعه الراية التي تركها العدو مذعورًا بمجرد أن رنّ في آذانهم نداء "يا صاحب الزمان". واستشهد في تلك الملحمة خمسة من أصحابه، فحملوهم إلى القلعة ودفنوهم في قبر واحد قرب قبور إخوانهم الشهداء.

وكان الأمير مهدي قلي ميرزا قد أخذته الحيرة بما شاهده مجددًا من قوة خصومه التي لا حد لها، وعقد مجلس شورى مع أركان جيشه وحرضهم على أن يحتالوا بأي وسيلة تمكنهم من إنهاء هذه المأمورية باهظة التكلفة بأسرع وقت. وأخذ في البحث والمشاورة مدة ثلاثة أيام، وانتهى أخيرًا إلى أن أحسن وسيلة لذلك هي إيقاف كل أنواع الاعتداء بضعة أيام أملاً في أن المحصورين يسلمون قلعتهم دون قيد ولا شرط لاشتداد وطأة الجوع فيهم واستيلاء اليأس عليهم.

وبينما كان الأمير ينتظر إتمام ما عزم عليه إذ وصله رسول من طهران يحمل مرسومًا من مليكه. كان هذا الرسول من سكان قرية "كَنْد" غير البعيدة عن العاصمة. وقد نجح في الحصول على إذن من الأمير لدخول القلعة ليجتهد في إقناع اثنين من سكانها وهما الملاّ مهدي الكندي وأخوه الملاّ باقر الكندي على أن يهربا من الخطر المحدق بحياتهما. وإذ اقترب من أسوار القلعة أخبر الحراس أن يبلغوا الملاّ مهدي الكندي أن صاحبًا له حضر ويريد رؤيته. فأعلم الملاّ مهدي القدوس بالأمر فصرّح له بالمقابلة.

وسمعت آقا كليم يروي الخبر الآتي، كما أخبره به ذلك الرسول نفسه عندما قابله في طهران: ﴿قال لي: ’رأيت الملاّ مهدي يظهر لي فوق سور القلعة وكان يلوح على وجهه العبوس بتصميم يفوق الوصف، وبدا شرسًا كالأسد، وكان سيفه معلقًا فوق قميص أبيض طويل كالذي يرتديه العرب، وربط رأسه بمنديل أبيض. وسألني بانزعاج: ’’ما الذي تطلبه مني؟ تكلّم بسرعة لأني أخشى أن يناديني سيدي فيجدني غائبًا.‘‘ وكان العزم الظاهر على

محياه والقوة المتلألئة من عينيه قد حيّراني، فصعقت من نظراته وهيئته وجال بخاطري فجأة أن أوقظ في قلبه شعورًا مكنونًا، فذكّرته بطفله "رحمن" الذي تركه في القرية حين اشتاق للانضمام لراية الملاّ حسين. ومن شدة حبه للطفل كان قد نظم شعرًا يترنم به وهو يهز مهده ليحمله على النوم. وقلت له: ’’إن محبوبك رحمن يشتاق لذلك الحنان الذي كنت تغدقه عليه فيما مضى. وهو وحيد ومتروك ويحن أن يراك.‘‘ فكان جوابه حالاً: ’’أخبره نيابة عني أن محبة الرحمن الحقيقي التي تفوق كل العواطف الأرضية قد ملأت قلبي، فلم تترك مكانًا لغيرها.‘‘ وكانت إجابته وكلماته قد أذرفت الدمع من عينَي. وصحت في دهشة: ’’ملعون كل من يعتبرك أنت وأصحابك ضالين عن طريق الحق.‘‘ وسألته: ’’ماذا لو تجاسرت ودخلت القلعة وانضممت إليك؟‘‘ فأجابني بهدوء: ’’إذا كان غرضك أن تبحث عن الحق وتجاهد فيه، فبكل سرور أرشدك إلى الطريق، وإذا أردت زيارتي لأنك صاحب قديم عاشرتني طول حياتك، فإني أرحب بك كما قال رسول الله: "أكرموا ضيوفكم ولو كانوا كفارًا" وإني أقدم لك للضيافة كل ما استطيعه وهي الحشائش المغلية والعظام المطبوخة التي تغنيني عن اللحم. ولكن إذا كان قصدك إيذائي، فإني أحذرك بأني سأدافع عن نفسي وأرمي بك من أعلى هذه الأسوار.‘‘ وكان ثباته الذي لا يتزعزع أقنعني بعدم جدوى مساعيّ. وكنت أشعر أنه اشتعل بحماس لو اجتمع علماء المملكة أن يحولوه عن طريقه لأمكنه بمفرده أن يمحق مجهوداتهم. واقتنعت أنه لو اجتمع طغاة ملوك الأرض بأسرهم على أن يزحزحوه عن مرغوب قلبه المحبوب، لن يقدروا. ودفعني هاجس لأقول له: ’’هنيئًا لك على الشرب من الكأس التي جلبت عليك بمذاقها كل هذه البركات، وإن الأمير قد أقسم أن كل من يخرج من القلعة يكون آمنًا من الخطر، ويمكنه أن يمر بسلام بإذنه ويعطيه مصاريف عودته إلى مقره.‘‘ وإذ ذاك وعد أن يوصل رسالة الأمير إلى أقرانه ثم قال: ’’هل عندك أمر آخر تريد إعلامي به، فإني أريد العودة إلى سيدي حالاً ولا صبر لي معك أكثر من ذلك.‘‘ فأجابه قائلاً: ’’أيدك الله على إتمام مقصدك.‘‘ فابتهج قائلاً: ’’حقًا قد أيدني الله وإلا فكيف تمكنت من التخلص من ظلام سجن منزلي في كند والوصول إلى هذا المعقل السامي؟‘‘ وما كاد يتم التفوه بهذه الكلمات حتى اختفى من أمامي.‘﴾

وبمجرد انضمام الملاّ مهدي إلى أصحابه بلّغهم رسالة الأمير، فخرج السيد ميرزا حسين المتولي مصحوبًا بخادمه في عصر ذلك اليوم وترك القلعة وذهب إلى معسكر الأمير للانضمام إليه. وفي ثاني يوم خرج المدعو رسول البهنميري وعدد قليل معه إذ لم يقدروا على تحمل مشقة المجاعة وانفصلوا من اخوانهم بحزن وتردد متشجعين بوعد الأمير وتأكيداته الصريحة، وما كادوا يخرجون من القلعة حتى ذبحوا فورًا بأمر عباس قلي خان اللاريجاني.

وفي الأيام القليلة التالية لهذه الحادثة امتنع العدو المرابط بجوار القلعة عن أعمال الاعتداء على القدوس وأصحابه. وفي صبيحة الأربعاء السادس عشر من جمادى الآخرة(1) وصل رسول من الأمير وطلب أن يُنتدب اثنان من طرف المحاصرين للتفاوض معهما بسرية، بأمل الوصول إلى حل سلمي للمسائل المعلّقة بين الطرفين.(2)

فعيّن القدوس الملاّ يوسف الأردبيلي والسيد رضا الخراساني مندوبين عنه وأمرهما أن يخبرا الأمير أنه مستعد لإجابة طلبه. فأحسن مهدي قلي ميرزا استقبالهما وطلب منهما تناول الشاي الذي أعدّه لهما، فلم يقبلا قائلين: ’إننا نشعر بأن ذلك يكون عملاً منافيًا للطاعة إذا تناولنا طعامًا أو شرابًا بينما رئيسنا المحبوب يتضور جوعًا في القلعة.‘ فقال الأمير: ’إن العداء بيننا قد استمر طويلاً بلا موجب. وقد تحارب الطرفان مدة وانهُكت قواهما. وإني أرغب بكل تأكيد للوصول إلى حل سلمي لفض الخلافات التي بيننا.‘ ثم تناول نسخة من القرآن الكريم كانت بجواره وكتب بخط يده على هامش الفاتحة الكلمات الآتية للقدوس تأييدًا لكلماته: ’أقسم بهذا الكتاب المقدس وبحق من أنزله وبرسالة من أُلهم بهذه الآيات، أنه لا قصد لي سوى توطيد السلام والمحبة بيننا. فاخرجوا

________________________
(1) 9 مايو/أيار سنة 1849م.

(2) ’وكانت هذه الشجاعة الخالصة اليائسة والحماس الذي لا يطفى، على نحو أقلق قادة الجيش الملكي قلقاُ بالغًا. ولما يئسوا من فتح المعاقل بعد هزائم متلاحقة، عمدوا إلى الحيلة. وكان الأمير بطبيعته بارعًا في الحيل، وكان سليمان خان أفشار، الذي أرسله الشاه حديثًا، يحث على هذه الطريقة خوفًا من أن أي تأخير جديد يعرّض سمعته وحياته للخطر.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 325)

من معقلكم وتأكدوا أنه لن تمتد لايذائكم أي يد، وأنكم ستكونون أنتم وأصحابكم في حفظ الله ومحمد رسوله وناصر الدين شاه مليكنا. وأقسم لكم بشرفي أنه لن يعتدي عليكم أي شخص سواء في الجيش أو الجهات المجاورة، وإذا كان لي غرض آخر أضمره في نفسي خلاف ما بينت، فعليّ غضب الله المنتقم الجبار.‘

ثم ختم بيانه بختمه وأعطى المصحف الشريف وفيه الإقرار إلى الملاّ يوسف وسأله أن يبلغ رئيسه تحياته ويسلمه التعهد الكتابي الرسمي. وزاد بقوله: ’سأرسل في عصر هذا اليوم تنفيذًا لهذا الإقرار بعض الجياد إلى بوابة القلعة وأرجو أن يقبلها هو وأصحابه فيمتطوها ويأتون إلى أطراف هذا المعسكر حيث تنصب لهم خيمة خاصة لاستقبالهم. وسأطلب منهم أن يكونوا في ضيافتي إلى حين عمل الترتيب لنقلهم إلى موطنهم على نفقتي الخاصة.‘

صورة 142
قرية ديزوا

واستلم القدوس القرآن الكريم من يد مندوبه وقبّله باحترام وقال: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين."(1) ثم أمر باقي أصحابه توًا أن يستعدوا لمبارحة القلعة قائلاً: ’إننا بإجابتنا لدعوتهم نمكنهم من إظهار صدق نواياهم.‘

ولما حانت ساعة الرحيل لبس القدوس العمامة الخضراء التي أرسلها له حضرة الباب في الوقت الذي أرسل فيه العمامة الأخرى التي لبسها الملاّ حسين يوم شهادته. وامتطوا الجياد التي وضعت تحت تصرفهم عند بوابة القلعة، وامتطى القدوس جواد الأمير المفضل الذي أرسل له، وسار خلفه باقي أصحابه وأغلبهم من الأشراف والعلماء. وتبعهم الباقون مترجلين ومعهم كل ما تبقى لديهم من الأسلحة والممتلكات، وبلغت عدتهم مائتي نفر واثنين. ولما وصلوا إلى الخيمة التي أعدها الأمير للقدوس في جوار حمّام عام في قرية "ديزوا" المشرفة على معسكر العدو، نزلوا للاستراحة في أماكنهم المخصصة لهم بجوار تلك الخيمة.

وبعد وصولهم بقليل خرج القدوس من خيمته وجمع حوله أصحابه ونصحهم بهذه الكلمات: ’عليكم أن تظهروا الانقطاع الكلي وتكونوا مثالاً لغيركم وبذلك يرتفع صيت الأمر ويعلو مجده، وما يقع مخالفًا لهذا الانقطاع التام إنما يساعد على تلويث سمعته ويحجب بهاءه، وإني أسأل القدير أن يمنحكم ذلك ويساعدكم إلى آخر ساعة من حياتكم على أن تكملوا نصيبكم في ارتفاع شأن دينه.‘

وبعد الغروب ببضع ساعات أحضروا لهم طعام العشاء من معسكر الأمير وكان الطعام قد أُعدّ في صوانٍ متعددة وخصصت كل صينية لثلاثين من الأصحاب، ولكن الطعام كان رديئًا نزرًا غير كافٍ لهم. وفيما بعد روى بعض الأصحاب ممن كانوا مع القدوس قائلين: ’طلب القدوس تسعة منا لمشاركته في الطعام المقدم إليه في خيمته، فلما امتنع عن تناول الطعام امتنعنا نحن أيضًا مثله. وفرح الخدم بذلك والتهموا الطعام الذي أبينا أن نمسّه وأكلوه باستحسان وشراهة.‘ وسمع بعض الأصحاب ممن كانوا يتناولون الطعام

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 89.

خارج الخيمة يتجادلون مع بعض خدّام الأمير بصدد شراء ما يريدون من الخبز بأي ثمن مهما كان باهظًا. ولكن القدوس تكدّر من سلوكهم بهذه الكيفية ووبّخهم على هذا الطلب الذي قدموه. ولولا تدخّل ميرزا محمد باقر لأوقع بهم عقابًا لعدم إطاعتهم نصائحه المؤكدة.

وفي الصباح جاء رسول وطلب ميرزا محمد باقر لمقابلة الأمير، فأجاب الطلب بعد استئذان القدوس، وعاد بعد ساعة وأخبر رئيسه أن الأمير أعاد تأكيد تعهداته في محضر سليمان خان أفشار وأنه عامله بحفاوة وإجلال كبيرين، وأكد له قائلاً: ’إن اليمين التي حلفتها مقدسة ولن أحنث بها.‘ واستشهد بحالة جعفر قلي خان الذي رغم مذبحته المخزية لآلاف من جنود الجيش الملكي خلال ثورة السالار، سامحه مليكه وأنعم عليه محمد شاه بإنعامات جديدة. وزاد محمد باقر بقوله: ’ينوي الأمير أن يرافقك صباح غد إلى الحمّام العام، ثم يعود إلى خيمتك ثم يجهز الخيول لنقل الجماعة بأسرها إلى "سنگسر"، ومن هناك يتفرق الأصحاب ويعود بعضهم إلى العراق والبعض الآخر إلى خراسان. وبناء على طلب سليمان خان الذي قرر أن وجود مثل هذا العدد الغفير في بلدة حصينة مثل سنگسر، يكون محفوفًا بالأخطار، فأمر الأمير أن يكون تفرّق الأصحاب في "فيروز كوه" بدلاً عنها. واني أظن أن كل ما يقوله الأمير بلسانه لا يصادق عليه بقلبه أبدًا.‘ فوافق القدوس على أقوال ميرزا محمد باقر وأمر أصحابه أن يتفرقوا في نفس تلك الليلة، وقال لهم إنه بنفسه سيذهب إلى بارفروش. فتضرعوا إليه أن لا يفارقهم، وطلبوا إليه أن يسمح لهم ببركة استمرار مرافقته. فنصحهم بالسكون والهدوء وأن يتجملوا بالصبر والأناة، وأكد لهم إنهم سوف يلقونه مرة أخرى مهما خبأ لهم المستقبل من المصائب. وفي كلمات وداعه قال لهم: ’لا تبكوا فإن الاجتماع الذي سوف يعقب هذا الافتراق سيكون اجتماعًا أبديًا فقد وكّلنا أمرنا لله ومهما كانت إرادته وأمره فإننا نتقبله بكل سرور ورضا.‘

أما الأمير فلم يوفِ بوعده وبدلاً من الذهاب إلى خيمة القدوس دعاه مع الكثيرين من الأصحاب إلى الحضور إلى مقره في المعسكر. وبمجرد وصولهم إلى خيمة "الفراش

باشي"، أعلمه إنه سوف يطلبه إلى محضره عند الظهر. وبعد برهة ذهب بعض خدّام الأمير وأخبروا باقي الأصحاب، أن القدوس يأذن لهم في الانضمام إليه في مقر الجيش. وانخدع الكثيرون بهذا التقرير ووقعوا أسرى وفيما بعد بيعوا كالعبيد. وكان هؤلاء الضحايا التعساء هم البقية الباقية من المعركة العنيفة التي وقعت في قلعة الشيخ الطبرسي، وكانت نجاتهم سببًا لأن ينشروا بين مواطنيهم رواية الآلام والامتحانات القاسية التي تعرضوا لها.

وبعد فترة قصيرة قامت حاشية الأمير بالضغط على الملاّ يوسف ليُخطر باقي زملائه بأن رغبة القدوس هي أن يتجرّدوا من السلاح حالاً. فغادر الملاّ يوسف المعسكر، وأثناء سيره لحق به بعض الحاشية وسألوه: بماذا تنوي إبلاغهم؟ فأجابهم بكل جسارة: ’سوف أحذّرهم أن لا يصدقوا أي رسالة تصدر منكم على لسان الرئيس لأنها تكون كاذبة باطلة.‘ وما كاد يتفوه بهذه الكلمات حتى انقضوا عليه وقتلوه بلا رحمة.

وبعد هذا العمل الوحشي، قاموا إلى القلعة ونهبوا كل ما وجدوه فيها وقصفوها وهدموها نهائيًا(1) ثم أحاطوا بباقي الأصحاب وأطلقوا عليهم النار، وكل من نجا من الرصاص قُتل بسيوف الضباط وحراب رجالهم.(2) وفي سكرات الموت كان يُسمع من أفواههم "سبّوح قدّوس ربنا وربّ الملائكة والروح." وهي الكلمات نفسها التي كانت تخرج من أفواههم بحماس وقت أفراحهم وهي التي كانوا يرددونها في آخر ساعات حياتهم بحماس لا يفتر.

________________________

(1) ’وهدموا جميع الأبنية التي أقامها البابيون وسووا بها الأرض حتى لا يكون لها أي أثر وتنمحي كل علامات الدفاع المجيد الباسل الذي فدى فيه الأبطال البواسل حياتهم لأجل الدين. وظنوا أنهم بعملهم هذا يطمسون التاريخ.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 327)

(2) ’وقد جعلوهم صفوفًا وأخذوا ببقر بطونهم كأنهم يمارسون نوعًا من الرياضة، وأعجبهم ذلك وضحكوا لرؤية الأمعاء المليئة بالحشائش التي لم تهضم بعد، وذلك دليل سافر على البلاء الشديد الذي تعرضوا له والإيمان الذي سندهم. ولم يفلت منهم إلا القليل ممن هرب إلى الغابة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 327)

وبينما كانت هذه الفضائع ترتكب، أمر الأمير أن يحضروا أمامه الأسرى واحدًا بعد آخر. ومن كان منهم ذا مقام مرموق، أمر مرافقيه بإرسالهم إلى طهران ليدفعوا فدية مالية مقابل الإفراج عنهم تناسب مركز كل منهم وثروته. من هؤلاء كان أبو بديع(1) والملاّ ميرزا محمد الفروغي والحاج نصير القزويني.(2) وأصدر أمره إلى أتباعه وجلاديه بإعدام الباقين فورًا. فقطع بعض منهم بالسيوف(3) وبعضهم ربط في الشجر ومزق بالرصاص وآخرون أطلقوا من فوهات المدافع.

________________________

(1) الحاج عبد المجيد النيشاپوري الذي استشهد لاحقًا في خراسان.

(2) ويقول ميرزا جاني: ’وفي ذلك الحين أظهر علماء الإسلام للعالم منظرًا مخجلاً. وأراد المنتصرون، إذا أمكن تسميتهم بهذا الاسم، الاستمتاع بسُكر انتصارهم. فوضعوا القدوس في السلاسل وكذلك ميرزا محمد حسن خان، أخا باب الباب، والآخوند الملاّ محمد صادق الخراساني وميرزا محمد صادق الخراساني والحاج ميرزا حسن الخراساني والشيخ نعمت الله الآمُلي والحاج نصير القزويني والملاّ يوسف الأردبيلي وآقا سيد عبد العظيم الخوئي وكثيرين غيرهم. ووضعوا تلك المجموعة في وسط موكب انطلق على أصوات الأبواق، وعند مرورهم بمكان مأهول بالسكان يقومون على ضربهم.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 327-328). ’ولم تنتهِ الوحشية عند هذا الحد، فإذا سلم بعضهم من الموت، بيعوا كالعبيد، وعذّب غيرهم إلى أن قتلوا. ومن الذين وجدوا أسيادًا رحماء الآخوند الملاّ محمد صادق الخراساني والملاّ محمد محولاتي الدوغ آبادي وآقا سيد عظيم الخوئي والحاج نصير القزويني والحاج عبد المجيد النيشاپوري وميرزا حسين متولي القمي، واستشهد أربعة بابيين في بارفروش وأرسل اثنان إلى آمل وكان أحدهما الملاّ نعمت الله الآمُلي والآخر ميرزا محمد باقر الخراساني القائني ابن عم المؤلف البابي. وكان القائني يعيش قبل ذلك في مشهد في شارع يدعى خيابان بالا، وكان منزله المسمى ﺑ"البابية" محل اجتماع أمناء السر وكذلك محل نزول الأحباء الزوار. وهناك كان نزول القدوس وباب الباب في طريقهم إلى خراسان. وكان القائني فضلاً عن علومه الدينية ماهرًا في الصناعة اليدوية وإليه تعزى تصاميم التحصينات في قلعة الشيخ الطبرسي.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 329)

(3) ’وأما بقية السجناء فطرحوهم أرضًا جنبًا إلى جنب وبقر الجلادون بطونهم. ولوحظ وجود أعشاب نيئة في أمعاء الكثيرين من أولئك المساكين. ولما انتهت المذبحة وجدوا أن هناك المزيد من العمل فعمدوا إلى قتل الملتجئين ممن صدر العفو عنهم. وكان بينهم نساء وأطفال ولم يسلم خمسون شخصًا من القتل ذبحًا.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 189). ’ولما وصل الملاّ نعمت الله إلى آمل عذبوه بقسوة زائدة ويبدو أن هذا المنظر أثار غضب القائني للغاية. وعلى أي حال عندما اقترب منه الجلاد قطع رباطه وهجم عليه وانتزع السيف من يده وضربه على أم ناصيته بعنف حتى إن رأسه طار مسافة خمسة عشر قدمًا. فاكتظ الناس عليه ولكنه كان شديدًا في قوته بحيث أردى كل من كان في متناول يده فاضطروا إذ ذاك إلى قتله ببندقية للسيطرة عليه. وبعد قتله وجدوا في جيبه قطعة مشوية من لحم الخيل دليلاً على الشقاء الذي تحمله لأجل دينه!‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 329-330)

ولما تمت هذه المجزرة الفظيعة،(1) أحضروا أمام الأمير ثلاثة من أصحاب القدوس كانوا قاطنين في سنگسر، وأحدهم السيد أحمد كان ابن مير محمد علي، أحد تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي، ومن أشد المعجبين به ومن كبار العلماء البارزين. وسافر والده مير محمد علي إلى كربلاء في السنة التي سبقت ظهور حضرة الباب، ومعه ابناه السيد أحمد المذكور وأخوه مير أبو القاسم الذي لقي حتفه في نفس الليلة التي استشهد فيها الملاّ حسين. وقصد مير محمد علي من ذلك السفر تقديمهما إلى السيد كاظم، وتصادف أن كان السيد كاظم قد فارق الحياة قبل وصوله، فاستعد أن يذهب توًا إلى النجف. وبينما هو في تلك المدينة، رأى الرسول ﷺ في الرؤيا ذات ليلة وهو يأمر الإمام علي أمير المؤمنين أن يخبر مير محمد علي أن نجليه السيد أحمد ومير أبو القاسم سيلتقيان بالقائم الموعود ويستشهدان كلاهما في سبيله. وبمجرد أن استيقظ نادى نجله السيد أحمد وأوصاه بما أراد، وفي اليوم السابع بعد تلك الرؤيا توفي.

وكان يوجد في سنگسر شخصان آخران، وهما الكربلائي علي والكربلائي أبو محمد، وهما مشهوران بالتقوى والبصيرة الروحانية، وكانا يجتهدان في إعداد الناس لقبول الظهور الموعود الذي شعرا بقرب مجيئه. وفي سنة 1264ﻫ(2) أعلنا لعموم الناس أن في تلك السنة سيظهر رجل اسمه السيد علي ويسير خلف راية سوداء من خراسان إلى مازندران ومعه نخبة من أصحابه، وحرّضا كل تابع أمين للإسلام أن يقوم ويمد يده بكل ما أمكن من المساعدة. وأعلنا قائلين: ’إن الراية التي سيرفعها هي راية القائم الموعود

________________________

(1) ﴿والذين تحيّر العالم كافة من بذلهم أرواحهم ونفوسهم... على نحو تاهت العقول من أفعالهم وتحيرت النفوس في اصطبارهم، وبما حملت أجسادهم... ولكن هذه الأنوار المقدسة قد قضت ثمانية عشر عامًا، والبلايا نازلة عليهم كالمطر من جميع الجهات. وهم ينفقون الروح بكل ارتياح في سبيل السبحان، بمنتهى العشق والذوق والحب والمحبة كما هو واضح ومثبوت للجميع، فكيف مع هذا يعدّون هذا الأمر سهلاً؟ هل ظهر في أي عصر مثل هذا الأمر الخطير؟ وإذا لم يكن هؤلاء الأصحاب مجاهدين في الله، فمن غيرهم يكون مجاهدًا؟ وهل هؤلاء كانوا طلاّب عزّة ومكانة وثروة؟ وهل كان لديهم مقصد غير رضاء الله؟ وإذا كان كل هؤلاء الأصحاب، مع ما لهم من هذه الآثار العجيبة والأفعال الغريبة على الباطل، فمن غيرهم يكون لائقًا لدعوى الحق؟ قسمًا بالله إن فعلهم هذا لحجة كافية ودليل وافٍ لجميع من على الأرض، لو كان الناس في أسرار الأمر يتفكرون. "وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون." [سورة الشعراء، الآية 227]﴾ ("كتاب الإيقان"، الصفحات 189-192)

(2) سنة 1847-1848م.

والذي ينشرها هو نائبه وأعظم مروج لأمره. ومن يتبعه سوف ينجو ومن يعرض عنه يكون من الهالكين.‘ وكان الكربلائي أبو محمد يحرض نجليه أبو القاسم ومحمد علي ليقوما على نصرة الظهور الجديد وأن يضحيا بكل مصلحة مادية للوصول إلى هذه الغاية. وتوفي كل من الكربلائي أبو محمد والكربلائي علي في ربيع تلك السنة.

وكان نجلا الكربلائي أبو محمد، هما اللذان أدخلا إلى محضر الأمير مع السيد أحمد سابق الذكر، لأن الملاّ زين العابدين الشهميرزادي أحد العلماء وأحد مستشاري الحكومة الموثوق بهم، كان قد أعلم الأمير بقصتهما وأخبره بخبرات ونشاطات والد كل منهما. وشرع الأمير يسأل السيد أحمد بقوله: ’لماذا اخترت السير في هذا الطريق الذي جلب عليك وعلى مواطنيك أسوأ العواقب وأشنعها؟ ألا تكتفي بالعدد الغفير من العلماء والفقهاء المشهورين الموجودين في هذه البلاد وفي العراق؟‘ فكان جوابه بلا وجل: ’إن إيماني بهذا الأمر لم يكن موروثًا من تقليد أعمى، بل بناء على تفحص الأمر دون تحيز ونتيجة اقتناعي بصحته. ولما كنت في النجف تجاسرت على أن أطلب من المجتهد الشهير الموجود في تلك المدينة وهو الشيخ محمد حسن النجفي حل بعض المسائل الثانوية في التعاليم الإسلامية، فامتنع من إجابة الطلب، وأعدت الكرّة عليه، ولكنه وبخني غاضبًا واستمر على امتناعه. فكيف مع تلك التجربة يمكنني أن أستنير بخصوص مسائل الإسلام الغامضة من عالم شهير يرفض أن يجيب عن أسئلة بسيطة في الأمور العادية ويظهر تعجبه من طرحي لهذه الأسئلة ؟‘ فسأله الأمير: ’وما هو اعتقادك في الحاج محمد علي؟‘ فأجابه: ’نحن نعتقد أن الملاّ حسين حامل اللواء الذي تكلم عنه محمد رسول الله ﷺ بقوله: "إذا رأيتم الرايات السود مقبلة من خراسان فاسرعوا إليها ولو حبوًا على الثلج". ولذلك تركنا الدنيا وأسرعنا إلى رايته وهي لم تكن سوى رمز لديننا. فإذا أردت أن تعمل معي معروفًا فأمر جلادك لينهي حياتي ويمكنني من الالتحاق بجماعة رفاقي الخالدين. لأن الدنيا بجميع ملاذّها لا يمكن أن تغريني، وإني أتوق لأن أفارق هذه الحياة وأرجع إلى ربي.‘ وكان الأمير مترددًا أن يقتل سيدًا ورفض الأمر بإعدامه. ولكنه أعدم كِلا رفيقيه في الحال. وسلمه هو وأخوه السيد أبو طالب ليد الملاّ زين العابدين وأمره بأن يأخذهما إلى سنگسر.

وفي هذه الأثناء، كان ميرزا محمد تقي قد خرج مع سبعة من علماء ساري من تلك البلدة ليشتركوا في إيقاع عقوبة الإعدام على أصحاب القدوس لينالوا بذلك أجرًا. ولما وجد أنهم أعدموا قبل وصوله، ألح على الأمير أن يعيد النظر في حكمه، وأن يأمر بإعدام السيد أحمد فورًا، مدّعيًا أن وصوله إلى ساري سوف يكون سببًا في إعادة الاضطراب أكثر من السابق. فرضخ الأمير أخيرًا إلى طلب الملاّ واشترط أن يبقي السيد أحمد ضيفًا عنده لحين وروده في ساري، وهناك يتخذ معه من الإجراءات ما يكون كفيلاً بعدم اضطراب الأمن في تلك الجهات.

وما كاد ميرزا محمد تقي يسير في طريقه إلى ساري، حتى ابتدأ يشتم السيد أحمد ووالده، فسأله سجينه: ’لماذا تسيء إلى ضيفك الذي عهد به الأمير إليك؟ ولماذا تتجاهل حكم النبي القائل: "أكرموا الضيف ولو كان كافرًا؟‘ فحمي غضب ميرزا محمد تقي واستل هو ورفاقه السبعة سيوفهم وقطعوا جسده إربًا. وكان آخر نفس تلفظ به السيد أحمد هو نداؤه للعون من صاحب الزمان. أما أخوه السيد أبو طالب، فرحّلوه إلى سنگسر سالمًا بواسطة الملاّ زين العابدين، وهو موجود للآن وقاطن مع أخيه السيد محمد رضا في مازندران، ويشتغل الاثنان في خدمة أمر الله وهما معدودان من أكبر دُعاته.

ولما أكمل الأمير عمله، رجع إلى بارفروش مصحوبًا بالقدوس، ووصلاها يوم الجمعة بعد الظهر في الثامن عشر من جمادى الآخرة،(1) وخرج سعيد العلماء مع كافة العلماء في المدينة للترحيب بالأمير ولتهنئته بعودته منصورًا. وهرع الأهالي للاحتفال بالنصر وأشعلوا المشاعل التي أضيئت في الليل لاستقبال الأمير ودلالة من السكان الممتنين بفرحهم لعودته. وبعد مرور ثلاثة أيام من الاحتفال لم تظهر رغبة الأمير فيما يختص بمصير القدوس، بل كان مترددًا في سياسته نحوه ويمانع في إيصال أي أذى إليه. فأولاً منع الأهالي من إشباع شهوتهم الجامحة وإحساس بغضهم العظيم، فنجح في منعهم من

________________________
(1) 11 مايو/أيار سنة 1849م.

التعدي وإثارة غضبهم. وكان أصلاً يؤمل إيفاده إلى طهران لتسليمه ليد مليكه ليتخلص من المسئولية التي أثقلت كاهله.

أما عداوة سعيد العلماء التي لا تخبو نارها، فقد أثرت في خططه بهذا الخصوص وأشعلت نيران حقده للقدوس وأمره، وازداد لهيبها وسعيرها إذ رأى ميل الأمير متجهًا نحو إفلات مثل هذا الخصم القوي من قبضة يده. فسعى لديه ليل نهار وبكل حيلة اخترعها عقله الماكر لأن يقنع الأمير للعدول عن رأيه وعن السياسة التي يريد اتّباعها في شأنه، واعتبرها مخيفة وصادرة عن جُبن. ومن شدة حنقه أهاج إحساس الجمهور وأثار أحط شعور الانتقام في صدورهم وأشعل نيران التعصب في قلوبهم. فهاج أهالي بارفروش من ندائه اللحوح وتمكن بمهارته الشيطانية من تأليب الجماهير وإثارتهم لمساعدته. واحتج بكل وقاحة قائلاً: ’قد حلفت أن لا أتناول طعامًا ولا أنام حتى أتمكن من إنهاء حياة الحاج محمد علي بيدَي!‘ وساعدت تهديدات الغوغاء على دعم طلبه وتدبيره وإثارة مخاوف الأمير. وخوفًا على حياته من الخطر، دعا الأمير كبار علماء بارفروش للحضور والتشاور فيما يجب أن يتخذ من الإجراءات لتخفيف وطأة الضوضاء الحادثة عن الهياج العام. فأجاب المدعوون الدعوة عدا الملاّ محمد حمزة الذي اعتذر عن عدم حضور الاجتماع، وكان قبل ذلك في مواقف كثيرة يقنع الأهالي أثناء حصار القلعة بعدم الإقدام على أعمال القسوة. وكان القدوس قبل مبارحته القلعة، قد سلّم له بواسطة أحد أصحابه من مازندران من الموثوق بهم، خرجه المختوم الذي يحتوي على تفسيره لصاد الصمد وغيره من الكتابات والأوراق التي كانت تحت يده والتي لم يعرف مصيرها للآن.

وما كاد العلماء يجتمعون، حتى أمر الأمير أن يحضر القدوس، ولم يكن قد حضر أمامه منذ تسليم القلعة إذ كان في عهدة الفراش باشي. وبمجرد وصوله، قام الأمير وطلب من القدوس الجلوس بجانبه. والتفت إلى سعيد العلماء وطلب منه التحدث بحياد وإنصاف. وقال له: ’إن مباحثاتك يجب أن تكون مستندة إلى آيات القرآن وأحاديث الرسول، وبهما وحدهما يمكنك أن تثبت صدق أو بطلان احتجاجك.‘ فوجه سعيد العلماء كلامه للقدوس بوقاحة سائلاً: ’لأي سبب وضعت العمامة الخضراء على رأسك،

وانتحلت مقامًا لا يدعيه إلا مَن كان من سلالة الرسول حقًا؟ ألا تعلم أن من يزدري هذا العرف المقدس يستحق غضب الله؟‘ فأجابه القدوس بهدوء: ’وهل كان السيد مرتضى الذي يحترمه ويجلّه جميع العلماء المشهورين من سلالة الرسول من طريق أبيه أو من طريق والدته؟‘ فأجاب أحد الحاضرين بأنه كان سيدًا عن طريق والدته. فردّ القدوس قائلاً: ’فلماذا تعترض إذًا عليّ، ووالدتي معروفة لجميع سكان هذه المدينة بأنها من نسل الإمام الحسن؟ ألم تكُ محترمة موقرة من الجميع بسبب شرف هذا النسب؟‘

فلم يقدر أحد على الاعتراض عليه. وانفجر سعيد العلماء في نوبة من السخط واليأس. وألقى بعمامته على الأرض بغضب ونهض ليترك المجلس وهو يرعد قائلاً: ’إن هذا الرجل تمكّن أن يبرهن لكم أنه من سلالة الإمام الحسن، ولن يمض إلا وقت قليل حتى يثبت لكم أنه الناطق بلسان الله ومُظهر إرادته.‘ فتحرك الأمير وقرر ما يأتي: ’إني أغسل يدَي من كل مسئولية لإيصال الأذى بهذا الرجل، فأنتم أحرار بأن تفعلوا به ما شئتم، وأنتم تكونون مسئولين أمام الله عن ذلك يوم القيامة.‘ وبمجرد أن نطق بتلك الكلمات، طلب ليحضروا له جواده وارتحل إلى ساري مع خدامه. وإذ خوّفته سطوة العلماء، تناسى يمينه الذي حلفه، وسلّم القدوس بالامتهان إلى يد عدوه القاسي. وكان أولئك الذئاب الكاسرة يلهثون متحفزين للحظة التي ينقضّون فيها على فريستهم بكل وحشية ليشبعوا أشد شهوات انتقامهم وحقدهم.

وما كاد الأمير يحررهم من القيود التي وضعها عليهم حتى هجم علماء بارفروش وسكانها بأمر سعيد العلماء(1) وأوقعوا على جسد ضحيتهم من أنواع التعذيب ما لا يقدر القلم على وصفه. وبشهادة حضرة بهاءالله، تحمّل هذا الشاب، الذي كان في مقتبل عمره، من الآلام والتعذيب ما لا يوصف، وتجرع الموت بكيفية لم يلاقها أحد في ساعة

________________________

(1) ’ويشير البابيون إلى أنه بعد ما حدث بفترة قصيرة أصيب سعيد العلماء بمرض غريب. فإنه رغمًا عن كساء الفرو الذي كان ملتفًا به والنار الموقدة على الدوام في غرفته. كان يرتعد من شدة إحساسه بالبرودة، وفي نفس الوقت أصابته حمى وارتفعت حرارته بحيث بات من المتعذر إطفاء ظمئه المتواصل. فمات وترك منزله الجميل وهجره الناس فيما بعد حتى تهدم. وأصبح بالتدريج محل طرح القمامة والأقذار بعد أن كان شامخًا. وقد تأثر أهل مازندران بما حصل حتى إنهم إذا تعاركوا فيما بينهم كانوا يقولون: ’إن شاء الله يخرب بيتك مثل ما خرب بيت سعيد العلماء ويلقي مثل ما لاقاه.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 330)

صورة 143
صورة 144
مناظر مدرسة ميرزا زكي في بارفروش وهي مرقد القدوس

أجله حتى ولا المسيح في أشد حالات آلامه. ولما رفعت الحكومة حمايتها عن القدوس، تحركت أيدي الطغاة وتجلّت وحشية أشرار بارفروش وساعد على ذلك شدة التعصب المشتعل في صدور أهل الشيعة والتعضيد المعنوي الذي أسداه علماء وأعيان الدولة في العاصمة لهم، فضلاً عن الرغبة في الانتقام من أعمال الفروسية والبطولة التي ظهرت من هؤلاء المؤمنين، فاجتمعت كل هذه العوامل لتحريك عصبة الأشرار وزادت في الوحشية الشيطانية التي قضوا بها عليه وقت استشهاده.

وكان وقوع هذه الحادثة من الفظاعة بمكان حتى إن حضرة الباب في حبسه في قلعة چهريق كان غير قادر على الكتابة أو الإملاء مدة ستة أشهر. فحزنه العميق الذي شعر به أوقف صوت الوحي وأسكت قلمه طوال هذه المدة. فكم كان يندب هذا الفقدان الجسيم! وكم كان ضجيجه عندما كانت تُتلى عليه وتتمثل أمام عينيه قصة الحصار وما قاساه الأصحاب من الآلام المبرحة وخداع الأعداء لهم وذبح المؤمنين جملة واحدة في قلعة الشيخ الطبرسي! وما كان أشد تفجعه وحزنه عندما علم بالمعاملة المخزية التي عومل بها محبوبه القدوس في ساعة الاستشهاد بيد أهالي بارفروش، وكيف جرّدوه من ملابسه وأوقعوا عن رأسه عمامته التي أرسلها إليه، وكيف ساروا به في الشوارع حافي الأقدام عاري الرأس مكبلاً بالحديد ويتبعه جميع أهالي البلدة بالتوبيخ والتأنيب، وكيف كان يشتمه ويبصق عليه الجمهور المتهيج وكيف هجموا عليه بالسنان، حتى حثالة نسائهم بالسكاكين والفؤوس، وكيف قطّعوا جسده إربًا وكيف أشعلوا النار فيه أخيرًا!

وفي خضم عذابه كان القدوس ينطق بمسامحة أعدائه ويقول: ’اغفر يا إلهي لهؤلاء المعتدين وعاملهم برحمتك لأنهم لا يعلمون بالأمر الذي آمنا وتعلقنا به. وإني اجتهدت أن أظهر لهم طريق نجاتهم، فانظر كيف قاموا عند ذلك على سحقي وقتلي! فاظهر لهم يا إلهي طريق الحق وبدل جهلهم بالإيمان.‘ وأثناء تعذيبه كان السيد القُمي الذي خانه وترك القلعة، يمرّ بجانبه، ولما رأى حالة مسكنته صفعه على وجهه قائلاً بكل استهزاء ووقاحة: ’لقد زعمت أن صوتك هو صوت الله، فإذا كنت صادقًا، فاكسر قيودك وخلّص نفسك من أيدي أعدائك.‘ فحدّق القدوس في وجهه بثبات وتأوه عميقًا وقال: ’جازاك الله على عملك بقدر ما

زدت في آلامي.‘ ولما اقترب من سبزه ميدان صاح قائلاً: ’ليت أمي كانت معي لتشهد بعينها بهاء عرسي.‘ وما كاد يتم هذه الكلمات حتى انقض عليه الجمهور الغاضب وقطعوا جسمه إربًا، ورموا أعضاءه المتناثرة في النار التي أشعلوها لهذا الغرض. وفي منتصف الليل جمع أحد أصحابه الأوفياء(1) ما تبقي من جسده ودفنه في محل لا يبعد عن مكان استشهاده.(2)

________________________

(1) ’وعلى كل حال، يظهر أن أحد العلماء الأتقياء وهو الحاج محمد علي حمزة الذي كان متبحرًا في المواهب الروحانية والتأويل، أرسل سرًا بعد استشهاد القدوس عدة أشخاص لدفن الرفات الممزقة في المدرسة المتهدمة سالفة الذكر. ولم يكن هذا العالم يخالف سعيد العلماء في أعماله فحسب، بل كان أيضًا يلعنه ويحتقره، ولم يقبل في حياته أن يصدر حكم إعدام على أي بابي، بل على العكس كان دائمًا يبذل جهده في دفن الذين يذبحهم سعيد العلماء. وإذا سأله أحد بخصوص أهل القلعة كان يقول: ’’إني لا أدينهم ولا أتكلم عنهم بسوء.‘‘ ولهذا السبب كان نصف أهالي بارفروش على الحياد. لأنه كان في بدء الأمر يمنع الناس من شتمهم وايذائهم ولكنه فيما بعد عند تفاقم الأوضاع، رأى من الحكمة أن يلزم الصمت ويبقى في بيته. وكانت تقواه وزهده وعلمه وفضائله معروفة عند أهل مازندران، كما كان سعيد العلماء موصوفًا بالفسق وطلب الدنيا.‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحة 92)

(2) "إن الذي عرف القدوس ورافقه في الحج هو الذي مرت عليه ثماني سنين وشرّفه الله بين ملائكته في السموات العلى بسبب الكيفية التي انقطع بها عن الجميع ولخلوه من أي عيب في نظر الله." ("البيان" الفارسي، الجزء 2، الصفحة 164). وأعجب من كل تلك الأحداث الموصوفة أعلاه، ذلك الوصف الذي كتبه عباس قلي خان للأمير أحمد ميرزا، ذلك الوصف المقرون بعلامات الإعجاب. فقد كتب المرحوم الحاج ميرزا جاني قال: ﴿بعد مرور سنتين على كارثة الشيخ الطبرسي سمعت شخصًا يروي الرواية الآتية، وكان صادقًا بالرغم من أنه لم يكن بابيًا: ’كنا جالسين معًا إذ ورد ذكر الحرب التي أثارها بعض الحاضرين ضد حضرة القدوس وحضرة باب الباب. وكان ضمن الحاضرين أيضًا الأمير أحمد ميرزا وعباس قلي خان. فاستفسر الأمير عن المسألة من عباس قلي، فأجابه بقوله: ’’إن حقيقة الموضوع هو إن الذي لم يشاهد ما حدث في كربلاء ويريد رؤية ما كان فيها، فلا يمكنه ذلك إلا إذا شاهد ما وقع في الطبرسي. وإذ ذاك لا يعجب من وقوع أمثال وقائع كربلاء. فإذا رأى الملاّ حسين البشروئي اقتنع تمامًا أن سيد الشهداء قد رجع إلى الأرض، وإذا رأى أعمالي يقول حقًا أن "الشمر" قد رجع إلى العالم ومعه سيفه وحربته. وإني أحلف بشرف جلالة مركز الكون أن الملاّ حسين لبس يومًا عمامة خضراء والتحف بشال على كتفه وخرج من القلعة إلى العراء مرتكزًا على رمحه في يده وقال: [أيها الناس لماذا تعاملوننا بهذه القسوة دون بحث أو تحرٍّ بل لمجرد الهوى النفساني والتعصب الأعمى، ولماذا تجتهدون في سفك دماء الأبرياء؟ فاخجلوا أمام خالق الكون وامنحونا على الأقل طريقًا لنخرج من هذه الأرض.] ولما رأيت العسكر قد تأثروا من كلامه أطلقت النار وأمرت الجنود بأن يصيحوا حتى يحتجب صوته فلا يسمع بعد. ولكني رأيته مرة أخرى يرتكز على رمحه ويصيح قائلاً: [هل من ناصر ينصرني؟] ثلاث مرات، حتى سمعه كل العسكر. وفي تلك اللحظة صمتوا جميعًا وأخذ بعضهم ينتحب وكثير من الخيالة تأثروا. وخوفًا من خروج الجيش عن الطاعة، أمرت مرة أخرى بإطلاق النار وبالصياح. وبعد ذلك رأيت الملاّ حسين يجرد سيفه ويرفع ↓

وقد رأيت من المستحسن هنا أن أذكر أسماء الشهداء الذين اشتركوا في الدفاع عن قلعة الطبرسي حتى إن الأجيال القادمة تذكر هؤلاء الرواد الأوائل بما يليق بهم من الفخر والإطراء، فقد زينوا بحياتهم ومماتهم تاريخ دين الله الأبدي. وقد جمعت هذه الأسماء من مصادر مختلفة، خصوصًا ما تفضل به اسم الله الميم واسم الله الجواد واسم الله الأسد، مما أنا مدين لهم به. والآن أشرع في تعداد أسمائهم لتكون باقية على الألسنة في هذا العالم بمثل ما تكون أرواحهم باقية في العالم الآخر متمتعة بأنوار المجد السرمدي. ولكي تحرك ذكراهم روح الحماس والإخلاص في قلوب الذين تسلموا هذا الميراث منقطع النظير. ولم أقتصر على ذكر أسماء الذين قتلوا في ذلك الحصار التاريخي، بل حصلت أيضًا على قائمة شاملة ولو أنها غير كاملة بأسماء الذين استشهدوا وأسلموا حياتهم في سبيل الله منذ سنة 60 (1260ﻫ) لغاية الآن، أي أواخر شهر ربيع الأول سنة 1306ﻫ. ومن عزمي أن أذكر اسم كل واحد منهم مع ذكر الحادثة الخاصة التي وقعت

____________________________________________________________________

رأسه إلى السماء ويصيح قائلاً: [يا إلهي قد أتممت الحجة على هذا الجيش ولكن دون جدوى.] وابتدأ يهجم علينا من اليمين واليسار. وأقسم بالله إنه في ذلك اليوم استعمل سيفه بطريقة تفوق قدرة البشر ولم يبق في الميدان من لم يفر من أمامه سوى خيالة مازندران الذين أبوا على أنفسهم الهرب، ولما حمي الوطيس رأيت الملاّ حسين لحق جنديًا هاربًا احتمى خلف شجرة واضعًا بندقيته أمامه، فضربه الملاّ حسين ضربة بسيفه قطعته هو والشجرة والبندقية إلى ست قطع. ولم يخطئ سيفه طوال مدة الحرب، فكل ضربة به كانت صائبة ومن طبيعة الجراح كنت أميز كل من طعنهم الملاّ حسين بسيفه، لأني أعلم أنه لا يقدر أحد أن يستعمل سيفه بهذه الكيفية سوى أمير المؤمنين (علي) ومن المحال على أي سيف آخر أن يقطع بهذه الكيفية وعلى هذا النحو. ولذلك منعت كل من يعلم هذا الأمر أن يفشيه في المعسكر حتى لا يحصل فتور بينهم ويحجمون عن القتال. وحقًا إني لم أدرك ما الذي كان يظهر لهؤلاء القوم (البابيين) وماذا كانوا يشاهدونه، فإنهم كانوا يخرجون للمعركة بغاية الفرح والنشاط، ويشتبكون في العراك بشوق وسرور، ولم يظهر على وجوههم أي أثر للخوف أو القلق. ويخيل للمرء أنهم ينظرون إلى السيف الباتر والخنجر الذي يقطر دمًا كوسائل للحصول على الحياة الأبدية، فكانت أعناقهم وصدورهم ترحب بها وهم يموجون حول وابل الرصاص. والغريب أن كل أولئك الرجال كانوا من التلاميذ أو العلماء كثيري الجلوس في المدارس والأروقة الدينية وضعفاء البنية الجسمانية. وإن كانوا معتادين على المكاره، إلا أنهم لم يعتادوا أصوات المدافع وقرقعة البنادق وميادين القتال. وخلال الثلاثة أشهر الأخيرة من الحصار كانوا بلا خبز ولا ماء ونحلت أجسامهم من انعدام القوت الضروري للحياة. ومع ذلك كانوا وقت المعركة يظهرون كأن روحًا جديدة نفخت في أبدانهم، لدرجة لا يقدر معها الفكر البشري أن يفهم شدة بسالتهم وشجاعتهم. فكانوا يعرضون أجسامهم إلى الرصاص وقنابل المدافع وليس فقط بشجاعة وبسالة، بل أيضًا بشوق وفرح وهم يعدون ميدان القتال مأدبة، جاهدين لبذل أرواحهم فداء.‘‘ ‘﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 106-109)

له. أما الذين شربوا كأس الشهادة وهم يدافعون عن قلعة الطبرسي، فأسماؤهم كما يأتي:

1. أسبقهم وأولهم، القدوس الذي سمّاه حضرة الباب "اسم الله الآخر" وهو آخر حرف من حروف الحيّ، واختص من بين أصحاب حضرة الباب بمصاحبته في حجه إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. وكان أول من قاسى الاضطهاد في أرض إيران لأمر الله مع الملاّ صادق والملاّ علي أكبر الأردستاني. وكان عمره ثمانية عشر عامًا، إذ ترك بلدته بارفروش إلى كربلاء. وتعلم عند السيد كاظم مدة أربع سنوات. ولما بلغ اثنين وعشرين عامًا، قابل وعرف محبوبه حضرة الباب في شيراز. وفي الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1265ﻫ، أي بعد مرور خمس سنوات قدر له أن يستشهد في سبزه ميدان ويقع فريسة لأقسى أنواع الوحشية على أيدي الأعداء. وكان حضرة الباب ومن بعده حضرة بهاءالله، قد أنزلا ألواحًا لا تُحصى في الرثاء والثناء عليه. وكان مدح حضرة بهاءالله وتشريفه له بدرجة أنه سمّاه في لوح أنزله في تفسير آية "كل الطعام"(1) ﺑ"النقطة الأخرى"، وهو مقام لا يفوقه سوى مقام حضرة الباب نفسه.(2)

2. الملاّ حسين، الملقب ﺑ"باب الباب"، أول من آمن واعترف بالأمر الجديد، ولمّا بلغ ثماني عشرة سنة، غادر هو أيضًا موطنه في بشرويه من أعمال خراسان إلى كربلاء، ولمدة تسع سنوات كان ملازمًا للسيد كاظم. وقبل إعلان دعوة حضرة الباب بأربع سنوات، قابل في إصفهان العالم المجتهد السيد محمد باقر الرشتي، وقابل في مشهد ميرزا عسكري، بناء على أمر السيد كاظم وأوصل إلى كل منهما الرسالة التي أوكله السيد بتوصيلها وتكلم معهما بوقار وفصاحة. وحركت ظروف استشهاده حزن السيد الباب حزنًا عميقًا لا يوصف بالعبارة وأطلق قلمه في مدحه في ألواح شتى يزيد حجمها على ثلاثة أضعاف القرآن الكريم. وفي أحد هذه الألواح يقرر حضرة الباب أن تراب الأرض التي دفن فيها الملاّ حسين له خاصية جلب

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 93.
(2) انظر الحاشية رقم (2) في الصفحة 381.

الفرح للحزانى والبرء للمرضى. وفي "كتاب الإيقان" امتدح حضرة بهاءالله خصائل الملاّ حسين وفضائله وكتب عنه "لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيته وما استقر على كرسي صمدانيته."(1)

3. ميرزا محمد حسن أخو الملاّ حسين.

4. ميرزا محمد باقر ابن خال الملاّ حسين، وهو كميرزا محمد حسن، صحب الملاّ حسين من بارفروش إلى كربلاء ومنها إلى شيراز، وهناك اعتنقا أمر حضرة الباب وأدرجا ضمن حروف الحيّ، وكانا ملازمين له في جميع الأوقات لغاية استشهادهما في قلعة الطبرسي، عدا فترة سياحة الملاّ حسين في قلعة ماه كو.

5. صهر الملاّ حسين، والد ميرزا أبو الحسن وميرزا محمد حسين، وكلاهما الآن في بشرويه. وكانت رعاية أخت الملاّ حسين "ورقة الفردوس" قد سلِّمت إليهما، وكلاهما من الثابتين المخلصين لأمر الله.

6. ابن الملاّ أحمد، الأخ الأكبر للملاّ ميرزا محمد الفروغي. وخلافًا لعمه الملاّ ميرزا محمد، وقع شهيدًا، وكان كما شهد له هذا الأخير شابًا شديد التقوى ومميزًا بعلمه وحسن أخلاقه.

7. ميرزا محمد باقر المسمى ﺑ"الهراتي"، ولو أن أصله من سكان قائن فإنه كان من أقرب أقرباء والد النبيل الأكبر، وكان أول من آمن في مدينة مشهد. وهو الذي بنى "البابية" وخدم القدوس بكل إخلاص أثناء سياحته في تلك المدينة. ولما رفع الملاّ حسين الراية السوداء، انضم تحت لوائه ومعه نجله الصغير ميرزا محمد كاظم وذهبا سويًا إلى مازندران. وأخيرًا نجا نجله وصار من دعاة الأمر الغيورين في مشهد. وكان ميرزا محمد باقر حامل لواء الجماعة الذين بنوا القلعة وأسوارها وأبراجها والخندق الذي حولها، وهو الذي خلف الملاّ حسين في تنظيم قوات أصحابه وتولى قيادة الهجوم على الأعداء وكان موضع ثقة القدوس وصاحبه الأمين لغاية الساعة التي وقع فيها شهيدًا في سبيل أمر الله.

________________________
(1) انظر الحاشية رقم (1) في الصفحة 354.
8.

ميرزا محمد تقي الجويني من سكان سبزوار، اشتهر بمؤلفاته العلمية وكان الملاّ حسين كثيرًا ما يوكل إليه قيادة الحملة على الأعداء المهاجمين، وقد رُفع رأسه ورأس ميرزا محمد باقر صاحبه على الرماح وساروا بهما في شوارع بارفروش وسط ضوضاء وصياح السكان المهتاجين.

9. قمبر علي، خادم الملاّ حسين الشجاع الذي رافقه في سفره إلى ماه كو والذي استشهد في نفس الليلة التي استشهد فيها سيده برصاص العدو.

10. حسن ومعه

11. قلي، اللذان حملا الملاّ حسين مع رجل يدعى إسكندر من سكان زنجان إلى القلعة ليلة استشهاده ووضعاه أمام القدوس. وحسن هذا هو الذي رُبط برسن وساروا به في شوارع مدينة مشهد بأمر رئيس شرطة تلك المدينة.

12. محمد حسن، أخو الملاّ صادق، وهو الذي ذبحه أتباع خسرو في الطريق بين بارفروش وقلعة الطبرسي. وكان ممتازًا بثباته الذي لا يتزعزع، وكان أحد خدّام ضريح الإمام الرضا.

13. السيد رضا الذي أرسله القدوس مع الملاّ يوسف الأردبيلي لمقابلة الأمير، والذي عاد حاملاً نسخة من القرآن الكريم مختومة بختم الأمير كتب فيها تعهده بخط يده وأقسم عليه. وكان من الأشراف والأسياد المعروفين في خراسان. واشتهر بعلمه ودماثة أخلاقه.

14. الملاّ مَردان علي، أحد مشاهر الأصحاب من خراسان ومن سكان قرية ميامى وهي موقع قلعة حصينة تقع بين سبزوار وشاهرود. وانضم مع ثلاثة وثلاثين من الأصحاب إلى الملاّ حسين يوم دخوله تلك القرية. وكان في مسجد ميامى الذي لجأ إليه الملاّ حسين لصلاة الجمعة وخطب خطبته المشهورة المثيرة للأرواح والتي أشار فيها إلى تحقق الأحاديث الخاصة برفع الراية السوداء في خراسان، وقرر إنه هو حاملها. وأثّر خطابه الفصيح في سامعيه حتى إن أغلب الحاضرين في ذلك اليوم قاموا واتبعوه مع أن أغلبهم كان من علية القوم. ولم يبقَ من الثلاثة والثلاثين

حيًا، سوى الملاّ عيسى وأولاده الآن في قرية ميامى وهم يشتغلون في خدمة أمر الله. وأسماء هؤلاء الأصحاب الشهداء هي:

15. الملاّ محمد مهدي،
16. الملاّ محمد جعفر،
17. الملاّ محمد ابن الملاّ محمد،
18. الملاّ رحيم،
19. الملاّ محمد رضا،
20. الملاّ محمد حسين،
21. الملاّ محمد،
22. الملاّ يوسف،
23. الملاّ يعقوب،
24. الملاّ علي،
25. الملاّ زين العابدين،
26. الملاّ محمد ابن الملاّ زين العابدين،
27. الملاّ باقر،
28. الملاّ عبد المحمد،
29. الملاّ أبو الحسن،
30. الملاّ إسماعيل،
31. الملاّ عبد العلي،
32. الملاّ آقا بابا،
33. الملاّ عبد الجواد،
34. الملاّ محمد حسين،
35. الملاّ محمد باقر،
36. الملاّ محمد،
37. الحاج حسن،
38. الكربلائي علي،
39. الملاّ الكربلائي علي،
40. الكربلائي نور محمد،
41. محمد إبراهيم،
42. محمد صائم،
43. محمد هادي،
44. السيد مهدي،
45. أبو محمد.

ومن بين الأصحاب من قرية سنگسر وهي جزء من أقليم سمنان سقط ثمانية عشر شهيدًا، وهم:

46. السيد أحمد الذي قطع جسده إربًا بيد ميرزا محمد تقي وسبعة من علماء ساري، وكان عالمًا مشهورًا ومحترمًا لفصاحته وتقواه.

47. مير أبو القاسم، أخو السيد أحمد ونال تاج الشهادة في الليلة التي استشهد فيها الملاّ حسين.

48. مير مهدي، عم السيد أحمد،
49. مير إبراهيم، صهر السيد أحمد،

50. صفر علي، ابن الكربلائي علي، الذي جاهد جهاد الأبطال هو والكربلائي محمد في إيقاظ أهالي سنگسر من رقاد غفلتهم، وكان كلاهما غير قادر على الانضمام إلى قلعة الطبرسي بسبب ما عندهما من الأمراض.

51. محمد علي، ابن الكربلائي أبو محمد،
52. أبو القاسم، أخو محمد علي،
53. الكربلائي إبراهيم،
54. علي أحمد،
55. الملاّ علي أكبر،
56. الملاّ حسين علي،
57. عباس علي،
58. حسين علي،
59. الملاّ علي أصغر،
60. الكربلائي إسماعيل،
61. علي خان،
62. محمد إبراهيم،
63. عبد العظيم.

ومن قرية شهميرزاد سقط اثنان في الدفاع عن القلعة هما:

64. الملاّ أبو رحيم،
65. الكربلائي كاظم.

ومن أتباع أمر الله في مازندران دونت للآن أسماء سبعة وعشرين شهيدًا هم:

66. الملاّ رضا شاه،
67. عظيم،
68. الكربلائي محمد جعفر،
69. السيد حسين،
70. محمد باقر،
71. السيد رزاق،
72. الأستاذ إبراهيم،
73. الملاّ سعيد الزركناري،
74. رضا العربي،
75. رسول البهنميري،
76. محمد حسين أخو رسول البهنميري،
77. طاهر،
78. شفيع،
79. قاسم،
80. الملاّ محمد جان،
81. مسيح، أخو الملاّ محمد جان،
82. عطا بابا،
83. يوسف،
84. فضل الله،
85. بابا،
86. صفي قلي،
87. نظام،
88. روح الله،
89. علي قلي،
90. سلطان،
91. جعفر،
92. خليل.

ومن بين المؤمنين في سواد كوه، علمت أسماء خمسة شهداء هم:

93. الكربلائي قمبر كالش،
94. الملاّ ناد علي المتولي،
95. عبد الحق،
96. إتابكي ﭼوپان،
97. ابن إتابكي ﭼوپان.
ومن بين أهالي أردستان استشهد الآتي:
98. ميرزا علي محمد، ابن ميرزا محمد سعيد،
99. ميرزا عبد الواسع، ابن الحاج عبد الوهاب،
100. محمد حسين، ابن الحاج محمد صادق،
101. محمد مهدي، ابن الحاج محمد إبراهيم،
102. ميرزا أحمد مير محسن،
103. ميرزا محمد، ابن مير محمد تقي.

ومن مدينة إصفهان تم التوصل لأسماء ثلاثين من المؤمنين حتى الآن وهم:

104. الملاّ جعفر مغربل القمح الذي ذكر حضرة الباب اسمه في "البيان" الفارسي.

105. الأستاذ آقا الملقب بزرگ البنّاء،
106. الأستاذ حسن، ابن الأستاذ آقا،
107. الأستاذ محمد، ابن الأستاذ آقا،

108. محمد حسين، ابن الأستاذ آقا البنّاء الذي بيع أخوه الأصغر الأستاذ جعفر مرارًا بواسطة أعدائه إلى أن وصل إلى بلدته التي يقطن فيها الآن.

109. الأستاذ قربان علي البنّاء،
110. علي أكبر، ابن الأستاذ علي البناّء،
111. عبد الله، ابن الأستاذ قربان علي البنّاء،

112. محمد باقر نقش، خال السيد يحيى، ابن ميرزا محمد علي النهري، وكان عمره أربع عشرة سنة واستشهد في الليلة التي استشهد فيها الملاّ حسين.

113. الملاّ محمد تقي،

114. الملاّ محمد رضا وهما أخوا المرحوم عبد الصالح، البستاني في حديقة الرضوان بعكاء.

115. الملاّ أحمد الصفّار،
116. الملاّ حسين مسگر،
117. أحمد پيوندي،
118. حسن شعر باف اليزدي،
119. محمد تقي،
120. محمد عطار أخو حسن شعر باف،

121. الملاّ عبد الخالق الذي قطع حنجره في بدشت وسمته الطاهرة ﺑ"الذبيح".

122. حسين،
123. أبو القاسم، أخو حسين،
124. ميرزا محمد رضا،
125. الملاّ حيدر، أخو ميرزا محمد رضا،
126. ميرزا مهدي،
127. محمد إبراهيم،
128. محمد حسين الملقب دستمال ﮔره زن،

129. محمد حسين چيت ساز وهو صانع أقمشة معروف توصل إلى لقاء حضرة الباب.

130. محمد حسن العطار،
131. الأستاذ الحاج محمد البنّاء،

132. محمد "مقارئي" وهو بائع قماش معروف، وكان حديث التزوج وتشرف بلقاء حضرة الباب في قلعة چهريق، فأمره حضرته أن يسرع إلى الجزيرة الخضراء وأن يقدم مساعدته للقدوس. وبينما كان في طهران وصله خطاب من أخيه يعلمه فيه بولادة ابن له ويطلب منه أن يسرع بالرجوع إلى إصفهان لرؤيته ثم يذهب إلى أي محل شاء فيما بعد، فأجابه: ’إني مشتغل جدًا بمحبة هذا الأمر بدرجة إني غير قادر على تخصيص أي اهتمام لنجلي. وإني بفارغ الصبر أريد أن أنضم إلى القدوس وأسير تحت لوائه.‘

133. السيد محمد رضا پا قلعة وهو سيد مشهور وعالم محترم جدًا ولما صرح بأن غرضه الانضمام لراية الملاّ حسين حصلت ضجة كبيرة بين علماء إصفهان.

ومن بين مؤمني شيراز نال التالية أسماؤهم مقام الشهادة:

134. الملاّ عبد الله المعروف أيضًا باسم ميرزا صالح،

135. الملاّ زين العابدين،
136. ميرزا محمد.

ومن بين المؤمنين من يزد دونت للآن أسماء أربعة فقط وهم:

137. السيد الذي مشى طول الطريق من خراسان إلى بارفروش وفيها وقع ضحية لرصاص العدو.

138. السيد أحمد، والد السيد حسين عزيز كاتب حضرة الباب،

139. ميرزا محمد علي، ابن السيد أحمد الذي أطاحت برأسه قذيفة مدفع بينما كان واقفًا على مدخل القلعة والذي كان بسبب صغر سنه محبوبًا جدًا من القدوس.

140. الشيخ علي، ابن الشيخ عبد الخالق اليزدي وموطنه مشهد وكان شابًا متحمسًا نشطًا نال مديحًا وافرًا وإعجابًا كبيرًا من الملاّ حسين والقدوس.

ومن أحباء قزوين استشهد التالية أسماؤهم:

141. ميرزا محمد علي، عالم شهير كان والده الحاج الملاّ عبد الوهاب من أبرز المجتهدين في قزوين وتشرف بلقاء حضرة الباب في شيراز، وأدرج اسمه بين حروف الحيّ.

142. محمد هادي، تاجر شهير، ابن الحاج عبد الكريم الملقب ﺑ"باغبان باشي".

143. السيد أحمد،
144. ميرزا عبد الجليل، عالم شهير،
145. ميرزا مهدي،

146. رجل من قرية لاهارد اسمه الحاج محمد علي اشتد تعذيبه على أثر مقتل الملاّ تقي في قزوين.

ومن أحباء خوي استشهد التالية أسماؤهم:

147. الملاّ مهدي، وهو عالم شهير كان من أخص وأعلى تلاميذ السيد كاظم واشتهر بعلمه وفصاحته وشدة ثباته في الدين.

148. الملاّ محمود الخوئي أخو الملاّ مهدي أحد حروف الحيّ، وعالم شهير.

149. الملاّ يوسف الأردبيلي أحد حروف الحيّ اشتهر بعلمه وحماسه وفصاحته. وكان هو الذي أثار مخاوف الحاج كريم خان عند وصوله إلى كرمان وأوقع الرعب في قلوب أعدائه. وكان الحاج كريم خان يقول عنه لمريديه: ’إن هذا الرجل يجب أن يطرد من هذه البلدة لأنه إذا سمح له بالإقامة فيها فإنه يثير في كرمان هياجًا مؤكدًا مثل ما أثاره في شيراز. وتكون الخسارة التي تقع لا تعوض. فإن سحر بيانه وفصاحته وقوة شخصيته إن لم تزِد على قوى الملاّ حسين فإنها لا تقل عنها.‘ وبهذه الوسيلة أمكنه أن يجبره على اختصار مدة إقامته في كرمان ومنعه من إلقاء الخطب من المنبر. وكان حضرة الباب قد أعطاه التعليمات الآتية: ’عليك أن تزور بلدات ومدن إيران وتدعو أهاليها لاعتناق أمر الله. ففي أول يوم من شهر محرم سنة 1265ﻫ(1) عليك أن تكون في مازندران وتساعد القدوس بكل ما أمكنك من قوة.‘ وكان الملاّ يوسف أمينًا في اتباع نصائح مولاه فلم يقبل أن يطيل اقامته في أي بلد أو مدينة أكثر من أسبوع واحد، وعند وصوله إلى مازندران أسرته قوات الأمير مهدي قلي ميرزا، الذين عرفوه للحال وأصدروا الأوامر بحبسه. وأطلق سراحه فيما بعد كما سبق لنا بيانه بواسطة أصحاب الملاّ حسين يوم معركة وسكس.

150. الملاّ جليل الأرومي، أحد حروف الحيّ اشتهر بعلمه وفصاحته وثباته في دينه.

151. الملاّ أحمد، من سكان مراغه، أحد حروف الحيّ وأحد تلاميذ السيد كاظم المشهورين.

152. الملاّ مهدي الكندي، أحد رفقاء حضرة بهاءالله ومعلم الأطفال في منزله.

153. الملاّ باقر، أخو الملاّ مهدي، وهما مشهوران بالعلم الغزير، وشهد حضرة بهاءالله في "كتاب الإيقان" بعلو كعبهما في العلم.

154. السيد كاظم من سكان زنجان وأحد مشاهير التجار فيها. وتشرف بلقاء حضرة الباب في شيراز ورافقه إلى إصفهان. كان أخوه السيد مرتضى أحد شهداء طهران السبعة.

________________________
(1) 27 نوڤمبر /تشرين الثاني سنة 1848م.

155. إسكندر، أيضًا من سكان زنجان الذي حمل جسد الملاّ حسين إلى القلعة مع حسن وقلي.

156. إسماعيل،
157. الكربلائي عبد العلي،
158. عبد المحمد،
159. الحاج عباس،
160. السيد أحمد، وجميعهم من سكان زنجان.

161. السيد حسين كلاه دوز، أحد سكان بارفروش الذي نصب رأسه على قناة وداروا به في شوارعها.

162. الملاّ حسن الرشتي،
صورة 145
محمد رضا (أحد أصحاب القدوس الذي نجا
من ملحمة الشيخ الطبرسي)
163. الملاّ حسن البيارجمندي،
164. الملاّ نعمت الله البارفروشي،
165. الملاّ محمد تقي القراخيلي،
166. الأستاذ زين العابدين،
167. الأستاذ قاسم، ابن الأستاذ زين العابدين،

168. الأستاذ علي أكبر، أخو الأستاذ زين العابدين، وكان الثلاثة الأخيرون بنّائين من أهالي كرمان وقاطنين في قائن من أعمال خراسان.

169 و 170. الملاّ رضا شاه وشاب من بهنمير، وذبح الاثنان بعد ترك القدوس للقلعة بيومين في "پنجشنبه بازار" (سوق الخميس) في بارفروش. ونجح الحاج الملاّ محمد حمزة الملقب ﺑ"شريعت مدار"، في دفن جثتيهما في جوار مسجد كاظم بك وفي إقناع قاتلهما بالندم وطلب المغفرة.

171. الملاّ محمد المعلم النوري، أحد أصحاب حضرة بهاءالله المقربين وكان ملازمًا له في نور وطهران ومازندران. كان مشهورًا بذكائه وعلمه، وتعرض لأقسى أنواع التعذيب التي لم يلاقها أحد مثله من المدافعين عن قلعة الطبرسي عدا القدوس. وكان الأمير قد وعده أن يطلق سراحه بشرط أن يسبّ القدوس وأقسم بأنه إذا تاب ورجع عن دينه، يأخذه معه إلى طهران ويجعله معلمًا لأولاده، فأجابه: ’أنا لا أرضى أبدًا أن أسبّ محبوب الله بأمر رجل مثلك ولو أعطيتني كل ملك إيران لا ألفت وجهي عن وجه رئيسي المحبوب ولو لحظة واحدة. إن جسمي تحت رحمتك ولكن روحي لا تقدر أنت على إخضاعها. فعذبني كما تريد لأقدر أن أثبت لك صحة الآية: "فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين."‘(1) وقد أغضب جوابه الأمير لدرجة أنه أمر أتباعه بتقطيع جسمه إربًا وأن لا يألوا جهدًا في إيقاع أخس أنواع العقاب به.

172. الحاج محمد الكرّادي الذي كان منزله في بستان نخيل قريبًا من مدينة بغداد القديمة، وكان رجلاً ذا شجاعة عظيمة وحارب وقاد مائة رجل في محاربة إبراهيم

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 94.
صورة 146
ميرزا أبو طالب (أحد أصحاب القدوس الذي نجا
من ملحمة الشيخ الطبرسي)

باشا والي مصر، وكان من أخص أتباع السيد كاظم، ومؤلّف قصيدة طويلة في مدح خصائل وفضائل السيد. وكان قد بلغ من العمر 75 سنة عندما آمن بحضرة الباب ومدحه بقصيدة أخرى مفصلة. وكان ممتازًا بأعمال الفروسية أثناء الحصار في القلعة وأخيرًا سقط ضحية رصاص العدو.

173. سعيد الجبّاوي، أحد أهالي بغداد، أظهر شجاعة باهرة أثناء الحصار وأصيب في بطنه، ومع أن جرحه كان بليغًا فإنه مشى حتى وصل إلى القدوس ووقع بفرح على قدميه وأسلم الروح.

وقد حكى السيد أبو طالب السنگسري الذي نجا من الحصار التاريخي في رسالة إلى حضرة بهاءالله، عن أحوال استشهاد هذين الشهيدين الأخيرين. وفيها روى فصلاً عن حكايته وحكاية أخويه السيد أحمد ومير أبو القاسم وكلاهما استشهدا أثناء الدفاع عن

القلعة، قال: ’في اليوم الذي قُتل فيه خسرو، كنت ضيفًا على شخص يدعى الكربلائي علي جان، وهو كدخدا إحدى القرى القريبة من القلعة. وقد ذهب للمساعدة في حماية خسرو، ثم عاد وحكى لي كيفية موته. وفي ذلك اليوم نفسه جاء رسول وأخبرني أن اثنين من العرب حضرا ووصلا إلى تلك القرية وكانا تواقين للانضمام لسكانها. وكانا يظهران خوفهما من أهالي قرية قاديكلا، ووعدا بمكافأة كل من يمكنه توصيلهما إلى وجهتهما. وكنت في ذلك الوقت قد تذكرت نصائح والدي مير محمد علي، الذي أمرني بأن أقوم على شد أزر أمر حضرة الباب. فعزمت على انتهاز الفرصة التي أتيحت لي، وبمساعدة الكدخدا أوصلت الأعرابيين إلى القلعة وقابلنا الملاّ حسين وعزمت على أن أخصص باقي أيام حياتي لخدمة الأمر الذي قرر الملاّ أن يتبعه.‘

أما أسماء بعض الضباط الذين تميزوا بين أعداء أصحاب القدوس فهم:

1. الأمير مهدي قلي ميرزا، أخو المرحوم محمد شاه،
2. سليمان خان أفشار،
3. الحاج مصطفى خان سورتيج،
4. عبد الله خان أخو الحاج مصطفى خان،

5. عباس قلي خان اللاريجاني الذي أصاب الملاّ حسين،

6. نور الله خان الأفغاني،
7. حبيب الله خان الأفغاني،
8. ذو الفقار خان الكراولي،
9. علي أصغر خان دو دنگه ئي،
10. خدا مراد خان الكردي،
11. خليل خان السواد كوهي،
12. جعفر قلي خان سرخ كره ئي،
13. سرتيب فوج كلبات،
14. زكريا القاديكلائي ابن عم خسرو وخليفته.

وأما أسماء الأحباء الذين اشتركوا في الدفاع عن القلعة ونجوا من القتل، ولم أتمكن من حصر أسمائهم ولا عددهم ولم أتمكن من سرد بقية الأسماء على الكامل على وجه التحقيق، واكتفيت بهذه القائمة ولو أنها لا تشمل أسماء الشهداء جميعهم. وفي اعتقادي إنه في مستقبل الأيام سيقوم من بين مروجي أمر الله من يملأ هذا الفراغ ويتمكن بسعيه وبحثه من الوصول لإصلاح الخلل لهذا الوصف غير التام لحادثة من أكثر الحوادث تأثيرًا في العصور الحديثة.

***
الفصل الحادي والعشرون
شهداء طهران السبعة

إن أخبار مصير أبطال قلعة الطبرسي المفجع قد جلبت الحزن العميق لقلب حضرة الباب. وإذ كان محبوسًا في سجنه في قلعة چهريق منفصلاً عن عصبة تلاميذه المحاربين، كان يراقب بقلق بالغ تطورات أعمالهم ويدعو لهم بالنصر بحمية وحماس. فما كان أعظم حزنه عندما علم في أوائل شعبان سنة 1265ﻫ(1) ما اعترض طريقهم من الامتحانات، وما أصابهم من مصائب وآلام، والخيانة التي اضطر إليها أعداؤهم الحانقون، والمجزرة الفظيعة التي أنهت حياتهم.

وروى السيد حسين عزيز فيما بعد ما يلي: ’وتفطّر قلب حضرة الباب أسىً عند وصول هذه الأخبار غير المنتظرة. وأخذه الحزن على شأن أسكت صوته وأوقف قلمه. ولمدة تسعة أيام رفض أن يقابل أحدًا من أصحابه. ولم يسمح لي بالمقابلة رغم أني كنت مرافقه الحميم باستمرار. وكان يرفض ما يقدم له من الطعام والشراب ولا يمسه. كانت الدموع تنهمر من عينيه باستمرار وتنطق شفتاه بعبارات الحزن والأسى دون انقطاع. وكنت أسمعه من خلف الستارة وهو يناجي محبوبه في غرفته الخصوصية ويبث أحزانه له. واجتهدت أن أدوّن عبارات أحزانه وهي خارجة من قلبه المجروح. وإذ ارتاب أني مُجدّ في حفظ المراثي التي نطق بها، أمرني أن أمزق كل ما دونته. فلم يبقَ لديّ شيء من المراثي التي سمح لقلبه

________________________
(1) 22 يونيو/حزيران - 21 يوليو/تموز سنة 1849م.

المكروب أن ينفس بها عن آلامه التي ملكته. ومكث مدة خمسة أشهر وهو مضنى من الحزن وغرق في بحر من القنوط.‘

وبحلول محرم سنة 1266ﻫ،(1) عاد حضرة الباب إلى عمله الذي اضطر لتعطيله. وأول صحيفة كتبها بعد ذلك خصصها لذكرى الملاّ حسين. ففي لوح الزيارة الذي أنزله تكريمًا له امتدح بعبارات مؤثرة أمانته ووفاءه وخدماته للقدوس في كافة مراحل حصار قلعة الطبرسي، وأطنب في مراثيه في مدح شهامة سلوكه وتعداد مآثره وتأكيد اجتماعه في العالم الآخر برئيسه الذي خدمه بنبل وأمانة. وكتب أنه نفسه سوف يلحق هذين التوأمين الخالدين اللذين أنارا دين الله بضياء أبدي سواء في حياتهما أو مماتهما. واستمر يكتب مدة أسبوع كامل في مديح فضائل القدوس والملاّ حسين وأصحابه الآخرين الذين تتوّجوا بتاج الشهادة في قلعة الطبرسي.

وما كاد يتمم مراثيه في ذكرى الشهداء الذين خلّدوا أسماءهم في الدفاع عن القلعة، حتى استدعى في يوم عاشوراء(2) الملاّ آدي گُزَل(3) أحد أحباء مراغه الذي كان يعمل على خدمته مدة الشهرين الأخيرين بدلاً من السيد حسن أخي السيد حسين عزيز. وقابله بكل لطف ولقّبه ﺑ"السيّاح" وائتمنه بألواح الزيارة التي دوّنها في ذكرى شهداء قلعة الطبرسي، وأمره أن يزور تلك البقعة نيابة عنه وحفزه قائلاً: ’قُم وسِر بانقطاع تام وفي لباس السائح إلى مازندران وهناك زُرْ بالنيابة عني البقعة التي تحوي أجساد أولئك الأحباء الخالدين الذين شهدت دماؤهم على إيمانهم بأمري. وإذ تقترب من نواحي تلك الأرض المقدسة اخلع نعليك واحن رأسك إجلالاً لذكراهم ونادهم بأسمائهم ودُرْ حول مقامهم بتبتل وخشوع. ثم أحضر لي قبضة من ذلك التراب المقدس الذي يغطي بقايا أجساد حبيبَي

________________________

(1) 17 نوڤمبر/تشرين الثاني - 17 ديسمبر/كانون الأول سنة 1849م.

(2) هو اليوم العاشر من محرم، وهو يوم ذكرى استشهاد الإمام الحسين. الذي وقع في تلك السنة في 26 نوڤمبر/تشرين الثاني سنة 1849م.

(3) وقال في كشف الغطاء (الصفحة 241) أن اسمه الكامل ميرزا علي السيّاح المراغي، وكان يشتغل خادمًا للباب في ماه كو، وكان معدودًا من كبار أصحابه وفيما بعد آمن بدعوة بهاءالله.

القدوس والملاّ حسين ليكون تذكارًا لزيارتك. واجتهد أن ترجع قبل يوم النوروز حتى نحتفل سويًا بهذا العيد وهو العيد الوحيد الذي ربما لا أحضر خلافه في هذا العالم.‘

وقام السيّاح للزيارة في مازندران ونفّذ تعليماته بالدقة. ووصل إلى وجهته المنشودة في أول ربيع الأول سنة 1266ﻫ،(1) وفي اليوم التاسع(2) من ذلك الشهر وهو الذكرى الأولى لاستشهاد الملاّ حسين، قام بالزيارة وأتم المأمورية التي عهدت إليه ومن هناك سافر إلى طهران.

وسمعت من آقا كليم الذي استقبل السيّاح في منزل حضرة بهاءالله في طهران يحكي الرواية الآتية: ’كان الشتاء أتى بقضّه وقضيضه حين عاد السيّاح من زيارته ليقابل حضرة بهاءالله. ورغمًا عن نزول الثلج واشتداد البرد في شتاء قارس كان يرتدي عباءة كالدراويش وثيابه رثّة وحافي القدمين أشعث الشعر. وكان قلبه مشتعلاً من تأثير الزيارة، وما كاد السيد يحيى الدارابي، الملقب ﺑ"وحيد"، والذي كان ضيفًا عند حضرة بهاءالله، يعلم بمجيء السيّاح من قلعة الطبرسي حتى تناسى العظمة والمركز الذي يشغله رجل مثله، وأسرع إليه وارتمى على قدميه وأمسك برجليه اللتين كانتا ملوثتين بالطين حتى الركبة وحضنهما بين ذراعيه وأخذ يقبلهما بكل شوق. واندهشت في ذلك اليوم من دلائل العناية التي كان حضرة بهاءالله يُظهرها لوحيد. فقد أظهر له من الحظوة ما لم أر مثلها تجاه أي شخص آخر. وكانت طريقة محادثة حضرته معه بحيث لم يبق مجال للشك عندي أنه في يوم من الأيام سيمتاز وحيد بأعمال لا تقل عظمة وإجلالاً عن تلك التي خلدت المدافعين عن قلعة الطبرسي.‘

ومكث السيّاح بضعة أيام في ذلك المنزل، ولكنه لم يتمكن من إدراك طبيعة تلك القوة المكنونة في مضيفه كما فعل وحيد. ومع أنه كان نفسه موضع عناية بالغة من حضرة بهاءالله، ولكن لم يفقه معنى تلك الألطاف النازلة عليه. ومما سمعته منه أثناء سياحته في

________________________
(1) 15 يناير/كانون الثاني سنة 1850م.
(2) 23 يناير/كانون الثاني سنة 1850م.

فماغوستا(1) عن تجاربه قال السيّاح: ’أظهر لي حضرة بهاءالله عناياته وأفضاله، أما وحيد فمع علو مقامه كان يفضلني على نفسه أمام مضيفه. وفي يوم وصولي من مازندران، جاء وقبّل قدمَي. ودهشت من تلك الطريقة الذي استقبلت بها في ذلك المنزل. ولو إني كنت غريقًا في بحر الكرم واللطف إلا إني في تلك الأيام ما كنت أقدّر ذلك المقام الذي كان حضرة بهاءالله يتمتع به ولم أتمكن من الاطلاع ولو جزئيًا على طبيعة الرسالة التي كان سيضطلع بها.‘

وقبل مبارحة السيّاح من طهران، سلّمه حضرة بهاءالله رسالة كان قد أملاها على ميرزا يحيى(2) وأرسلها باسمه. وبعد فترة قصيرة وصل الرد بشكل خطاب بخط يد حضرة الباب وفيه يوصي ميرزا يحيى أن يكون في حفظ وحماية حضرة بهاءالله ويحث على الاهتمام بتعليمه وتثقيفه. واتخذ أهل "البيان"(3) ذلك الخطاب دليلاً لإثبات دعاويهم(4)المبالغ فيها التي قدّموها في صالح رئيسهم. ومع أن نص الخطاب خالٍ من كل هذه الادعاءات ومن أي إشارة إلى المقام المزعوم، ولم يكُن فيه إلا مدح حضرة بهاءالله والطلب منه تربية ميرزا يحيى، فقد ظن أتباعه أنه يحتوي على تأكيد السلطة التي منحوها له.(5)

________________________
(1) في جزيرة قبرص.
(2) ولقبه صبح الأزل.
(3) أتباع صبح الأزل.

(4) ’وكانت دعاوى هذا الشاب ترتكز على خطاب تعيين موجود الآن في حيازة الپروفسور براون وتعزز بخطاب توجد صورته باللغة الفرنسية مع السيد نقولاس. إلا أن التزوير لعب دورًا كبيرًا في الوثائق الخطية في الشرق، حتى إني أتردد في أن أعترف بصحة خطاب التعيين ذاك. وأعتقد أنه من غير المحتمل أن مثل هذه الوثيقة تقبل من أي جماعة من الأحباء الثابتين لأنه لا يمكنهم أن يتجاهلوا ما علموه شخصيًا من قلة مواهب صبح الأزل... ومن الجائز أن يكون الاتفاق قد تم على أن بهاءالله يكتفي بالأعمال الخاصة ويستعمل مواهبه كمعلم، بينما صبح الأزل -وهو شاب مغرور- يشهر اسمه كرئيس صوري وخاصة بالنسبة للأجانب ولأعضاء الحكومة.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحتان 118-119)

(5) "أقسمك بالله الفرد الواحد المقتدر القدير أن تنظر في المكاتيب التي أرسلت باسمه [ميرزا يحيى] للنقطة الأولى حتى تشاهد وتميز آثار الحق كالشمس في رابعة النهار." ("لوح ابن الذئب"، طبعة مصر، الصفحة 125)

وفي هذه المرحلة من تدويني للتاريخ، وبعد أن أتممت رواية الوقائع الهامة التي حصلت سنة 1265ﻫ(1)، فإن ذلك يذكرني بأن تلك السنة نفسها شهدت أعظم واقعة في تاريخ حياتي وهي حادثة ولادتي ولادة روحانية وخلاصي من قيود الماضي وقبولي رسالة هذا الظهور. وإني استسمح لطف القارئ إذا أطلت الكتابة في تدوين ظروف بداية حياتي وحكيت بالتفصيل الحوادث التي أدت إلى إيماني. فقد كان أبي من قبيلة طاهري، وكان يعيش عيشة البدو في مقاطعة خراسان. كان اسمه غلام علي، ابن حسين العربي. وتزوج بابنة "كلب علي" وكان له منها ثلاثة أبناء وثلاث بنات، وكنت ثاني أبنائه، وسميت "يار محمد". وكانت ولادتي في الثامن عشر من صفر سنة 1247ﻫ(2) في قرية زرند، وكانت مهنتي راعيًا، وتعلمت تعليمًا سطحيًا في أيام طفولتي. وكنت أتوق لتخصيص وقت أطول للدراسة، ولكني لم أتمكن من ذلك لظروفي الخاصة. وكنت أقرأ القرآن الكريم بشوق وأحفظ منه الكثير وأرتله بينما أسير مع الأغنام في الحقول. وكنت أحب الوحدة وأنظر إلى النجوم ليلاً بفرح وتعجب. وفي هدوء البيداء كنت أتلو بعض المناجاة المنسوبة للإمام علي أمير المؤمنين. وبينما كنت أتوجه للقبلة كنت أطلب من الله أن يسدد خطاي ويمكنني من اكتشاف الحقيقة.

وكثيرًا ما كان والدي يأخذني معه إلى قُم، وهناك أصبحت ملمًا بتعاليم الإسلام وطرائق علمائه وأنماطهم. وكان والدي من الأتباع المخلصين للدين ومصاحب وثيق للعلماء الذين يجتمعون في تلك المدينة، وكنت ألاحظه وهو يصلي في مسجد الإمام الحسن، ويلتزم بكافة الفرائض المنصوصة في دينه بحرص شديد وتقوى متناهية. وكنت أسمع خطب الكثيرين من المجتهدين المرموقين الذين وصلوا من النجف وأحضر دروسهم وأستمع إلى مجادلاتهم. وابتدأت أدرك بالتدريج عدم إخلاصهم وأمقت انحطاط أخلاقهم. ورغم أني كنت تواقًا للتثبت من صحة العقائد والأصول التي كانوا يرومون فرضها عليّ، إلا أنني كنت لا أرى عندي سعة من الوقت تكفي للتثبت منها ولا ما يسهّل لي أمرها.

________________________
(1) سنة 1848-1849م.
(2) 29 يوليو/تموز سنة 1831م.

وكان والدي يوبّخني مرارًا على تهوري واضطرابي ويقول: ’أخاف أن تورطك كراهيتك للمجتهدين يومًا في مصاعب جمة أو تجلب عليك العار والشنار.‘

وكنت في قرية "رباط كريم" لزيارة خالي إذ سمعت مصادفة، في مسجد تلك القرية في الثاني عشر من نوروز سنة 1263ﻫ(1)، حديثًا دار بين اثنين وهو ما جعلني أعرف أمر حضرة الباب. وكان أحدهما يقول لصاحبه ’هل سمعت أن السيد الباب قد أخذ إلى قرية كنارﮔرد وأنه الآن في طريقه إلى طهران؟‘ وإذ وجد صاحبه جاهلاً بهذا الموضوع، أخذ في سرد حكاية حضرة الباب بكاملها، وذكر له تفاصيل دعوته والقبض عليه في شيراز وخروجه إلى إصفهان واستقباله من قبل إمام الجمعة ومنوچهر خان، وما ظهر عنه من عجائب ومعجزات، وما حكم به علماء إصفهان ضده. وكانت تفاصيل هذه الحوادث جميعها قد أثارت تعجبي وحركت فيّ إعجابًا كبيرًا بالرجل الذي تمكن من بسط نفوذ كبير على مواطنيه. وظهر لي أن نوره قد أفاض على روحي وشعرت كأني صرت من أتباع أمره.

ورجعت من "رباط كريم" إلى زرند. وكان والدي يلاحظ عليّ اضطرابي ويظهر تعجبه من سلوكي. وقد فقدت شهيتي للطعام وجفاني النوم، وكنت أسعى في إخفاء سرّ اضطرابي عن والدي لئلا يتدخل لمنعي من بلوغ أمانيّ في النهاية. وبقيتُ على هذه الحال إلى أن وصل السيد حسين الزواري إلى زرند، وتمكنت منه أن أقف على حقيقة الموضوع الذي كان متسلطًا على حياتي. وانقلبت معرفتي به إلى صداقة شجعتني على أن أفاتحه بمرغوب قلبي. ولفرط دهشتي وجدته أسيرًا في شباك الأمر الذي أردت أن أتحدث فيه. وحكى لي قائلاً: ’إن أحد أبناء عمومتي المدعو السيد إسماعيل الزواري أقنعني بصحة الرسالة التي أتى بها السيد الباب. وأخبرني أنه قابل حضرته مرارًا في منزل إمام جمعة إصفهان، ورآه فعلاً ينزل تفسيرًا لسورة "والعصر" في محضر مضيفه، وكانت سرعة إنشائه وقوة بيانه ومتانة أسلوبه قد أثارت دهشته وإعجابه. وتعجّب عندما اكتشف أنه أثناء

________________________
(1) سنة 1847م.

تنزيل تفسيره يقدر أن يجيب عن جميع الأسئلة التي يسألها الحاضرون دون إنقاص لسرعة تحريره. ولما قام ابن عمي على الدعوة للأمر دون وجل، ثارت عليه عداوة الكدخداوات وأسياد "زواره" الذين أجبروه على العودة إلى إصفهان حيث اختار الإقامة فيها. ورحلت أنا أيضًا إلى كاشان لأنه لم يتيسر لي البقاء في "زواره". وأمضيت الشتاء في كاشان وقابلت الحاج ميرزا جاني الذي تكلم عنه ابن عمي والذي أعطاني رسالة كتبها حضرة الباب بعنوان "الرسالة العدلية" وألح عليّ في قراءتها بعناية وإعادتها إليه بعد بضعة أيام. وسحرت بموضوع الرسالة واللغة التي كتبت بها، حتى إني اشتغلت توًا في نسخها بأكملها. ولما أعدتها لصاحبها، أخبرني أنه قد فاتتني وللأسف الكبير فرصة اللقاء بمؤلفها، وقال: ’’إن السيد الباب نفسه وصل في مساء يوم النوروز وصرف ثلاث ليال كضيف في منزلي، وهو الآن في طريقه إلى طهران، وإنك لو أسرعت ستلحق به.‘‘ فنهضت على الفور وسافرت ماشيًا كل الطريق من كاشان إلى قلعة في جوار كنارگرد. وكنت جالسًا في ظل أسوارها إذ شاهدت رجلاً وسيم الطلعة يخرج من القلعة وسألني عن اسمي وعن الجهة التي أقصدها، فقلت له: ’’إني سيد مسكين وغريب وعابر سبيل‘‘ فأخذني إلى منزله ودعاني لقضاء الليلة ضيفًا عليه. وفي أثناء حديثه معي قال: ’’إني أظن أنك من أتباع السيد الذي مكث في هذه القلعة بضعة أيام ونقل منها إلى قرية كُلين وتركها منذ ثلاثة أيام إلى آذربيجان. وإني أعتبر نفسي أحد أتباعه واسمي الحاج زين العابدين. وكنت عزمتُ على مرافقته، ولكنه أمرني أن أبقى في هذا المكان وأن أوصل تحياته وأشواقه لأي شخص من أصحابه، وأن أقنعه بعدم اللحاق به، وقال لي أيضًا: "أخبرهم أن يخصصوا حياتهم لخدمة أمري لعل تزول العوائق التي تمنع ترقّي هذا الدين، ويتمكنوا أن يعبدوا ربهم بكل حرية واطمئنان وأن يسيروا طبقًا لتعاليمه." وتركت توًا الرغبة في تتبعه، وبدلاً من العودة إلى قُم، عزمتُ على الحضور إلى هذا المكان.‘‘ ‘

وكانت الرواية التي رواها لي السيد حسين الزواري قد خففت من اضطرابي. وأشركني بقراءة نسخة من "الرسالة العدلية" التي أحضرها معه، وقد منحتني قراءتها قوة ونشاطًا روحيًا. وكنت في تلك الأيام تلميذًا لسيد علّمني القرآن الكريم، وكان عجزه عن تفسير

صورة 147
صورة 148
مناظر مسجد الشاه في طهران

بعض حقائق دينه يزداد وضوحًا أمام عيني شيئًا فشيئًا. ولما سألت السيد حسين عن بعض المعلومات عن الأمر الجديد، نصحني أن أقابل السيد إسماعيل الزواري الذي اعتاد زيارة أضرحة أبناء الأئمة في قُم كل ربيع بلا انقطاع. فطلبت من والدي الذي كان لا يرغب في مفارقتي أن يرسلني إلى تلك المدينة لأجل إتقان اللغة العربية. وكنت أحرص على إخفاء غرضي الحقيقي لئلا لو فاتحته به، أخاف أن يحرج أمام قاضي زرند وعلمائها ويمنعوني من الحصول على بغيتي.

وأثناء إقامتي في قُم، جاءت أمي وأختي وأخي لزيارتي بمناسبة الاحتفال بالنوروز، ومكثوا معي نحو شهر. وأثناء هذه الزيارة أطلعت والدتي وأختي على الأمر الجديد ونجحت في إشعال محبة صاحبه في قلبيهما. وبعد رجوعهم إلى زرند ببضعة أيام، كان السيد إسماعيل الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر قد وصل وتمكن أن يذكر لي كل ما أمكنه من التفصيل ليجذبني إلى الأمر أثناء بحثي معه، ونوّه بصفة خاصة إلى استمرار الوحي الإلهي وأن أمر الأنبياء جميعهم واحد، وارتباطهم الوثيق برسالة حضرة الباب. وكذلك بيّن لي طبيعة أعمال الشيخ أحمد الأحسائي والسيد كاظم الرشتي اللذين لم أكن قد سمعت بهما من قبل. وسألته عن الواجب المفروض على كل تابعٍ أمين للدين. فقال لي: ’إن حضرة الباب أمر بأن الواجب على كل مَن يقبل أمره أن يقوم حالاً إلى مازندران ويساعد القدوس المحاصر بقوات عدو لا يرحم.‘ فأظهرت رغبتي في اللحاق به وكان هو يرغب أيضًا بالسفر إلى قلعة الطبرسي. ولكنه نصحني أن أبقى في قُم مع ميرزا فتح الله الحكاك، وهو صبي من سنّي أرشده حديثًا للأمر، وأن أنتظر لحين تأتيني رسالته من طهران.

وانتظرت تلك الرسالة دون جدوى، ولما لم يرسل شيئًا عزمت على السفر إذ ذاك للعاصمة. وتبعني ميرزا فتح الله لاحقًا، ولكنهم قبضوا عليه وكان نصيبه نصيب الذين قتلوا سنة 1268ﻫ(1) نتيجة حادثة الاعتداء على الشاه. وإذ وصلت إلى طهران توجهت رأسًا

________________________
(1) سنة 1851-1852م.

إلى مسجد الشاه الكائن مقابل المدرسة، وقابلت قرب مدخله فيما بعد السيد إسماعيل الزواري فجأة، وأخبرني بأنه أعدّ الرسالة وكان على وشك إرسالها إلى قُم.

وكنا نهيء أنفسنا للرحيل إلى مازندران، إذ وردت الأخبار بأن المدافعين في قلعة الطبرسي ذُبحوا غدرًا، وأن القلعة هُدمت وسُويت بالأرض. فامتلأنا أسى وحزنًا عند وصول هذه الأخبار المفجعة ورثينا الذين قاموا بالدفاع عن دينهم المحبوب بمثل هذه الشجاعة. وذات يوم تصادف أن قابلتُ خالي "نوروز علي" الذي جاء خصيصًا ليبحث عني. فأخبرت السيد إسماعيل، فنصحني أن أعود إلى زرند وأن لا أثير ضجة حول الرغبة في عودتي، لئلا يستوجب ذلك عداوة الذين رغبوا بعودتي.

وبمجرد وصولي إلى قريتي تمكنتُ من جذب أخي إلى الأمر بعد إيمان والدتي وأختي، وتمكنت من التأثير على والدي ليأذن لي بالسفر إلى طهران ثانية. وذهبت وسكنت في المدرسة التي كنت مكثت فيها في زيارتي الأولى. وهناك قابلت الملاّ عبد الكريم الذي علمت فيما بعد أن حضرة بهاءالله سمّاه ميرزا أحمد. فقابلني بكل محبة وأخبرني أن السيد إسماعيل أوصاه بي ورغب أن أبقى في صحبته لحين رجوع الأول إلى طهران، ولن أنسى أيام صحبتي مع ميرزا أحمد لأني وجدته مثال المحبة واللطف. وقد نقشت كلماته على صفحات قلبي إلى الأبد لأنها ألهمتني وأحيت إيماني.

وبواسطته تعرفت على تلاميذ حضرة الباب، وكنت أعاشرهم وحصلت منهم على معلومات أشمل حول تعاليم الأمر. وكان ميرزا أحمد يكسب رزقه من الكتابة، وكرس أمسياته لنسخ "البيان" الفارسي وغيره من كتب حضرة الباب. وكان يهدي أصحابه نسخًا من الكتاب يعدّها بعشق. وكنت كثيرًا ما أحمل مثل هذه الهدايا إلى زوجة الملاّ مهدي الكندي الذي ترك طفله الرضيع وأسرع للانضمام إلى سكان قلعة الطبرسي.

وفي تلك الأيام علمت أن الطاهرة، التي قطنت في بلدة نور بعد انفضاض الجمع في بدشت، قد وصلت إلى طهران وحُبست في منزل محمود خان الكلانتر. ومع أنها كانت مسجونة وأسيرة إلا أنها كانت تعامل بالاحترام والاعتبار.

صورة 149
مدرسة ميرزا صالح في طهران

وذات مرة أخذني ميرزا أحمد إلى منزل حضرة بهاءالله، وكانت حرمه، حضرة الورقة العليا، والدة الغصن الأعظم،(1) قد أبرأت عيني بدهن أعدّته بنفسها وأرسلته لي بواسطة ميرزا أحمد نفسه. وكان ابنها المحبوب أول شخص قابلته في ذلك المنزل وعمره إذ ذاك ست سنوات، وتبّسم مُرحّبًا بي وهو واقف على باب الغرفة التي شغلها حضرة بهاءالله. فمررت عن الباب ودخلت الغرفة المجاورة وكان فيها ميرزا يحيى، وكنت أجهل تمامًا مقام الشخص الذي شغل الغرفة التي مررت عنها. ولما وقفت وجهًا لوجه أمام ميرزا يحيى دهشت إذ لاحظت هيئته وعلمت من محادثته أنه غير جدير بالمركز الذي يُسند إليه.

وفي مناسبة أخرى، عندما زرت ذلك المنزل نفسه، كنت على وشك دخول غرفة ميرزا يحيى، فاقترب مني آقا كليم الذي سبق لي لقاؤه قبل ذلك، وطلب مني أن أرشد "الآقا"(2) إلى مدرسة ميرزا صالح، لأن إسفنديار خادمهم توجه إلى السوق ولم يعُد،

________________________
(1) لقب حضرة عبدالبهاء.
(2) لقب حضرة عبدالبهاء ومعناه السيد.

وطلب مني أن أنوب عنه في هذه المأمورية ثم أعود إلى المنزل. فقبلت ذلك بكل سرور، ولما تهيأت للذهاب، رأيت "الغصن الأعظم"، وهو شاب ذو جمال فائق يلبس الكلاه والجبة الهزاري، يخرج من الغرفة التي كان والده يشغلها وينزل الدرجات إلى بوابة المنزل. فتقدمتُ ومددتُ إليه يديْ لحمله، فقال لي: ’نمشي سويًا.‘ وأخذ يدي وخرجنا من المنزل. وكنا نتحادث أثناء السير وأيدينا متشابكة إلى جهة المدرسة التي كانت تُعرف إذ ذاك باسم "پامنار". ولما وصلنا إلى غرفة صفه، التفت إليّ وقال: ’احضر عصرًا وخذني إلى منزلي، لأن إسفنديار لن يتمكن من الحضور، فوالدي يحتاجه اليوم.‘ فقبلت ذلك بفرح ورجعت توًا إلى منزل حضرة بهاءالله. وهناك قابلت ميرزا يحيى الذي أعطاني خطابًا وسألني أن آخذه إلى مدرسة الصدر وأسلمه إلى حضرة بهاءالله الذي يقطن في غرفة الملاّ باقر البسطامي وطلب مني أن أحضر له الرد حالاً. فأتممت المأمورية وعُدتُ إلى المدرسة في الوقت المحدد لإحضار الغصن الأعظم إلى منزله.

صورة 150

مدرسة الصدر في طهران، تظهر الغرفة (x) التي شغلها حضرة بهاءالله

وذات يوم، دعاني ميرزا أحمد لمقابلة الحاج ميرزا سيد علي، خال حضرة الباب، الذي رجع حديثًا من چهريق، وكان يمكث في منزل محمد بيك چاپارچي(1) بالقرب من بوابة شميران. وبمجرد أن نظرت إلى وجهه، سحرت بنبل ملامحه ووقار طلعته. وفي زياراتي اللاحقة ازددت إعجابًا بلطف طبعه وشدة تقواه وقوة شخصيته. وأتذكر جيدًا كيف أن آقا كليم ذات مرة ألح عليه في مجلس أن يترك طهران التي كانت إذ ذاك في غليان شديد وأن يهرب من أوضاعها الخطيرة، فأجاب بكل هدوء: ’ولماذا أخاف على نفسي؟ فيا ليت يكون نصيبي أيضًا أن أشترك في المأدبة التي بسطتها يد العناية الإلهية للمختارين من عباده!‘

وبعد فترة قصيرة أصبح بوسع محركي الفتن والقلاقل إثارة الاضطرابات الخطيرة في تلك المدينة، وكان سببها الرئيس تصرّف سيد من كاشان كان قاطنًا في مدرسة دار الشفاء، وكان السيد محمد المشهور قد ظنّه أهلاً لأن يوصل إليه الرسالة وادعى أنه اعتنق أمر حضرة الباب. وكان ميرزا محمد حسين الكرماني يقطن في المدرسة نفسها، وكان يحاضر في المسائل الفلسفية والباطنية الإسلامية، وكثيرًا ما اجتهد في أن يقنع السيد محمد الذي هو أحد تلاميذه في أن يقطع علاقاته مع ذلك السيد الذي اعتقد أنه غير أهل للثقة، بمنعه من الحضور في مجمع الأحباء، ولكن السيد محمد لم يشأ أن يستمع إلى هذا التحذير واستمر في صحبته معه إلى ابتداء شهر ربيع الثاني سنة 1266ﻫ(2) عندما ذهب ذلك السيد الخائن إلى السيد حسين أحد علماء كاشان وسلّمه أسماء وعناوين نحو خمسين من الأحباء القاطنين في طهران، والذي بدوره سلّمها إلى محمود خان الكلانتر الذي أمر بالقبض عليهم جميعًا. فقبض على أربعة عشر منهم وأحضروا أمام أرباب السلطة.

وتصادف يوم القبض عليهم أني كنت مع أخي وخالي الذي حضر من زرند ونزل في خان خارج بوابة نوّ. وفي صباح اليوم التالي انتقلا إلى زرند، ولما عدت إلى مدرسة دار الشفاء وجدت في غرفتي رزمة أوراق وعليها خطاب باسمي من ميرزا أحمد. فهمت

________________________
(1) حامل البريد.
(2) 14 فبراير/شباط - 15 مارس/آذار سنة 1850م.
صورة 151
مدرسة دار الشفاء بمسجد
الشاه في طهران

منه أن ذلك السيد الخائن قد وشى بنا وأثار ضجة عنيفة في العاصمة. وكتب ميرزا أحمد في الخطاب: ’إن الرزمة التي تركتها في هذه الغرفة تحوي جميع الكتابات المقدسة التي أمتلكها، فإذا وصلت إلى هذا المكان بسلام فخُذها إلى خان الحاج ناد علي، فتجد في إحدى غرفها شخصًا بهذا الاسم من أهالي قزوين فسلّمها إليه ومعها الخطاب المرفق بها، ثم تقوم مباشرة إلى مسجد الشاه وهناك أرجو أن أتمكن من مقابلتك.‘ واتّباعًا لتعليماته سلمت الرزمة إلى الحاج، ووصلت المسجد حيث قابلت ميرزا أحمد، وسمعته يحكي كيف هوجم والتجأ إلى المسجد، وكان آمنًا في حرمه من أي هجوم آخر.

وفي تلك الأثناء أرسل حضرة بهاءالله من مدرسة الصدر رسالة إلى ميرزا أحمد يعلمه فيها بتدابير أمير النظام الذي طلب من إمام الجمعة إلقاء القبض عليه (ميرزا أحمد) في ثلاث مناسبات مختلفة. وكذلك حُذّر أن الأمير قد تجاهل حرمة المسجد وعزم على

إلقاء القبض على كل الملتجئين فيه وحرّض ميرزا أحمد أن يتركه متخفيًا ويذهب إلى قُم، وطلب منه أيضًا أن يأمرني بالرجوع إلى منزلي في زرند.

وفي تلك الفترة ألحّ عليّ أقربائي الذين تعرّفوا عليّ في مسجد الشاه بالرجوع إلى زرند، وقالوا إن أبي قد بلغه كذبًا أمر القبض عليّ وقرب تنفيذ الحكم بإعدامي ووقع في حزن شديد، وأن واجبي هو الإسراع إليه وتخليصه من آلامه. وعملاً بنصيحة ميرزا أحمد الذي نصحني بانتهاز هذه الفرصة التي أرسلتها العناية الإلهية، سافرتُ إلى زرند واحتفلت بعيد النوروز مع أسرتي، وكان هذا العيد مباركًا لسببين إذ طابق اليوم الخامس من جمادى الأولى سنة 1266ﻫ،(1) وهو يوم إعلان دعوة حضرة الباب. وذكر حضرته هذا العيد في كتاب "پنج شأن"،(2) أحد أواخر كتبه. وكتب فيه ’إن النوروز السادس بعد إعلان دعوة نقطة "البيان"(3) طابق اليوم الخامس من جمادى الأولى في السنة القمرية السابعة بعد ذلك الإعلان.‘ وفي نفس الفقرة أشار حضرة الباب إلى أن نوروز تلك السنة هو آخر نوروز قدر له أن يحتفل به على هذه الأرض.

وأثناء الأعياد التي احتفل بها أقربائي في زرند، كان قلبي متوجهًا إلى طهران وحامت أفكاري حول المصير الذي ربما واجهه أصحابي في تلك المدينة المضطربة. وكنت أشتاق أن أسمع أخبار سلامتهم. ومع إني كنت في منزل والدي ومحاطًا بعناية والدَي، إلا أني شعرت بتعب فكري لأني انفصلت عن الجماعة الصغيرة التي كان بمقدوري تخيل المخاطر التي يتعرضون لها وكنت أود أن أشاركهم في مصائبهم. وعلى غير انتظار، زال الترقب المقلق الذي لازمني أثناء بقائي في منزل والدي عندما وصل صادق التبريزي من طهران ونزل في منزل والدي. ومع أنه خلّصني من آلام الانتظار التي كانت تثقل قلبي، إلا أنه روى لي حكاية عن القسوة المرعبة التي تلاشت أمامها متاعب الترقب. وألقت تلك الرواية المفجعة على قلبي ظلالاً مخيفة.

________________________
(1) سنة 1850م.
(2) الشؤون الخمسة.
(3) أحد ألقاب حضرة الباب.

وأما ظروف استشهاد أقراني المقبوض عليهم في طهران –إذ كان ذلك مصيرهم- فسوف أسردها الآن. فقد استمر حبس تلاميذ حضرة الباب الأربعة عشر، الذين قبض عليهم، في منزل محمود خان الكلانتر من اليوم الأول إلى اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الثاني.(1) وكانت الطاهرة أيضًا محبوسة في الطابق الأعلى من المنزل نفسه. وقد لاقوا أسوأ أشكال الاضطهاد. وكان مضطهدوهم يطلبون منهم الاعتراف الذي يرغبونه، وعملوا كل حيلة لتنفيذ مطلوبهم، ولكنهم لم ينجحوا في الحصول على ردود مرضية. وكان بين الأسرى من يدعى محمد حسين المراغي الذي امتنع أن يتفوه بأي كلمة رغم التشديد عليه. فعذبوه وعملوا جهدهم أن يحصلوا على أي اعتراف منه لخدمة مآربهم، ولكن سعيهم خاب في النهاية. ولم يفلح إصرار المضطهدين، واستمر على الصمت حتى ظنّ معذبوه أنه أخرس. وسألوا الحاج الملاّ إسماعيل الذي بلّغه أمر الله إن كان قادرًا على النطق، فقال لهم: ’أنه صامت وليس أخرس وهو ينطق بلا عائق.‘ وما كاد يناديه باسمه حتى أجابه وأكد له أنه لا يخالف له أمرًا.

ولما اقتنعوا بعجزهم عن تطويع إرادة المقبوض عليهم، وكلوا الأمر إلى محمود خان الذي أحال الموضوع بدوره إلى أمير النظام، ميرزا تقي خان،(2) رئيس وزراء ناصر الدين شاه. وكان السلطان في تلك الأيام لا يتدخل مباشرة في أمور الدولة الخاصة بالطائفة المعذبة ولا يعلم بالقرارات المتخذة فيما يتعلق بأفرادها. وكان لرئيس الوزراء سلطة تامة لينفذ فيهم ما يراه مناسبًا. ولم يراجعه أحد في قراراته، أو يجرؤ على الاعتراض على الطريقة التي يمارس بها سلطاته. فأصدر أمره الفوري مهددًا المساجين الأربعة عشر بالإعدام إذا لم يرجعوا عن معتقدهم. واضطر سبعة منهم للرضوخ أمام الضغوط التي تعرضوا لها وأفرج عنهم حالاً. وأما السبعة الباقون فهم شهداء طهران السبعة:

1. الحاج ميرزا سيد علي، والملقب ﺑ"الخال الأعظم"، وهو خال حضرة الباب وأحد مشاهير التجار في شيراز. وكان هذا الخال هو الذي تكفل بتربية حضرة الباب بعد وفاة والده، وهو الذي تكفل ابن أخته بتعهد خطي عند عودته من الحج للحجاز والقبض عليه

________________________
(1) 14 فبراير/شباط - 15 مارس/آذار سنة 1850م.

(2) هو ابن قربان رئيس طباخي القائم مقام، سلف الحاج ميرزا آقاسي.

على يد حسين خان. وكان هو الذي أحاط حضرته، بينما كان تحت وصايته، بخالص محبته وخدمه بإخلاص تام، وكان الوسيط بينه وبين جموع الأتباع الذين جاءوا لشيراز لرؤيته. وتوفي نجله الوحيد السيد جواد وهو صغير. وفي أواسط سنة 1265ﻫ(1) غادر الحاج ميرزا سيد علي شيراز وزار حضرة الباب في قلعة چهريق. ومنها توجه رأسًا إلى طهران وبقي هناك غير مشتغل بعمل لغاية ظهور تلك الخيانة التي أدت أخيرًا إلى استشهاده.

ومع إن أصحابه طلبوا منه أن يهرب من الاضطراب القادم بسرعة، إلا إنه امتنع عن الإصغاء إلى نصحهم، وواجه الاضطهاد الذي تعرض له بتسليم تام إلى آخر ساعة من حياته. وعرض كثير من التجار ذوي الثروة من معارفه دفع مبلغ كفداء لخلاصه، ولكنه رفض قبوله. وأخيرًا أحضروه أمام أمير النظام، فقال له رئيس الوزراء: ’إن قاضي قضاة هذه البلدة يكره أن يوقع أقل أذى على سلالة الرسول. ويريد مشاهير التجار في طهران وشيراز، بل يودون من صميم قلوبهم، أن يدفعوا فديتك. وتدخل "ملك التجار" وتوسط لأجلك. وتكفي كلمة منك بإنكار عقيدتك لأن تجعلك حرًا طليقًا فترجع إلى موطنك محفوفًا بالإجلال. وإني أتعهد، إذا قبلت، أن تصرف باقي أيام حياتك بالشرف والفخر في ظل مليكك.‘ فأجاب الحاج ميرزا سيد علي بجسارة: ’يا صاحب السعادة، إذا كان غيري ممن شرب كأس الشهادة قبلي بفرح قد رفض قبول مثل هذا العرض، فأعلم بأني لست بأقل منهم رغبة في رفضه، لأن إنكاري للحقائق الكامنة في هذا الدين بمثابة إنكار كل الأديان التي سبقته. إن الإعراض عن رسالة السيد الباب هو بعينه الارتداد عن دين آبائي وإنكار للرسالة الإلهية التي أتى بها كل من محمد وعيسى وموسى وجميع الأنبياء السابقين. يعلم الله أن كل ما سمعته وقرأته من أقوال وأعمال الرسل السابقين، كان لي الشرف بأن أشاهده بنفسي من ذلك الشاب، ذلك القريب المحبوب، منذ حداثته لغاية بلوغه سن الثلاثين من عمره الآن. وتذكّرني صفاته بسلفه العظيم وبأئمة دينه الذين تدونت تواريخ حياتهم عندنا في الأحاديث المكتوبة، ولا أطلب منك إلا أن تسمح لي بأن أكون أول من يهب حياته فداء في سبيل قريبي المحبوب.‘

________________________
(1) سنة 1848-1849م.

وذهل الأمير من هذا الجواب وحصل له يأس، ودون أن يتكلم كلمة، أشار بأن يؤخذ خارجًا ويقطع رأسه. وإذ أخذوا الضحية للقتل، سُمع وهو يتلو كلمات الشاعر حافظ: ’لك الشكر يا الهي على ما أعطيتني بجودك ما طلبت منك.‘ ونادى الجمهور الذين هجموا حوله قائلاً: ’اسمعوا مني أيها الناس إني قد أسلمت نفسي كفداء في سبيل أمر الله. وإن جميع أهالي فارس والعراق فيما وراء حدود إيران، يشهدون باستقامتي وتقواي وشرف أرومتي وانتسابي للرسول. ولمدة ألف سنة دعوتم وكررتم الدعاء أن يظهر القائم الموعود. وعند ذكر اسمه تصيحون من أعماق قلوبكم وتقولون ’’عجّل اللّهم فرجه وأزل كل عائق في سبيل ظهوره!‘‘ والآن إذ أتى الموعود أبعدتموه في المنفى بلا معين في أقصى وأبعد ركن من أركان آذربيجان محبوسًا، وقمتم على قتل ومحو أصحابه. وإني إذا دعوت الله عليكم لأجاب دعوتي وبغضبه ينتقم منكم ويوقع بكم العذاب، ولكن ليس هذا دعائي. بل إلى آخر نفس من حياتي أدعوه أن يمحو وصمة ذنوبكم ويرشدكم أن تنتبهوا من رقاد غفلتكم.‘(1)

وقد مسّت هذه الكلمات أعماق قلب الجلاد، حتى إنه ادّعى أن السيف الذي في يده يحتاج إلى الشحذ، فخرج مصممًا أن لا يعود ثانيًا. وكان يُسمع منه وهو يشكو ويبكي مُرّ البكاء ويقول: ’إني عندما تعينت لهذه المهمة، كنت أظن أنهم لا يسلمون لي للقتل سوى مجرم قاتل أو قاطع طريق. والآن يأمرونني بسفك دم رجل لا يقل قداسة عن الإمام موسى الكاظم نفسه!‘(1) وسافر بعد ذلك بقليل إلى خراسان وهناك اشتغل حمّالاً ومناديًا. وكان يقص رواية هذه الحادثة المحزنة للأحباء في ذلك الإقليم ويظهر توبته عن العمل الذي اضطر لإجرائه، وكلما تذكر هذه الحادثة أو جاء ذكر الحاج ميرزا سيد علي، كانت دموعه تجري من عينيه كشاهد للمحبة التي أوقدها هذا الرجل المقدس في قلبه.

________________________

(1) وخلع عمامته وتوجه بوجهه إلى السماء صائحًا: ’يا إلهي أنت ترى وتشاهد كيف أنهم يذبحون ابن رسولك الكريم دون ذنب جناه.‘ ثم اتجه إلى الجلاد وتلى قول المولوي: "إلى متى أذبح من ألم الانفصال فاقطع رأسي حتى يعطيني الحب رأسًا." (من كتاب المثنوي في "مقالة سائح"، الحاشية ب، الصفحة 174)

(2) الإمام السابع.

2. ميرزا قربان علي،(1) من أهالي بارفروش في مقاطعة مازندران، وشخصيته بارزة في طائفة "نعمت اللّهي" (نعمة الله). كان ذا تقوى صادقة وطبيعة نبيلة. وكانت طهارة حياته على شأن أن عددًا كبيرًا من بين أعيان مازندران وخراسان اعترفوا له وأذعنوا له بالطاعة واعتبروه رمز الفضيلة. وكان اعتباره بين أهل وطنه عظيمًا لدرجة أنه لما عزم على الحج إلى كربلاء احتشد الناس من المخلصين له والمعجبين به على جانبي الطريق ليؤدوا له التحية اللازمة. وفي همدان كما في كرمانشاه تأثر عدد كبير من الأهالي بشخصيته وانضموا إلى جماعة أتباعه. وأينما حل كان الناس يحيّونه بالتهليل وكانت مظاهرات الحماس العامة غير مرغوبة عنده فكان يتحاشى الزحام ويتجنب أبهة الرئاسة واحتفالاتها. وفي طريقه إلى كربلاء بينما كان يمر وسط "مندليج" انجذب إليه شيخ ذو اعتبار عظيم لدرجة إنه ترك ميوله السابقة وترك أصحابه وتلاميذه وتبعه لغاية اليعقوبية. ولكن ميرزا قربان علي اجتهد في أن يقنعه بالرجوع إلى مندليج وأن يعود إلى العمل الذي تركه.

وسبق أن قابل ميرزا قربان علي لدى عودته من الحج، الملاّ حسين البشروئي، واعتنق الأمر بواسطته. ولمرضه لم يتمكن من الانضمام إلى المدافعين في قلعة الطبرسي ولولا عدم تمكنه من السفر لمازندران لأسرع في الانضمام إليهم. وكان "وحيد" هو شخصيته المفضلة بين تلاميذ حضرة الباب بعد الملاّ حسين. وأثناء زيارتي لطهران سمعت أنه خصص حياته لخدمة الأمر وقام بمنتهى الإخلاص لنشره في جميع الجهات. وكان يشكو من مرضه وهو في العاصمة، وسمعته مرارًا يقول: ’كم تأسفت على حرماني من نصيبي في الكأس التي شربها الملاّ حسين وأصحابه! وإني أتوق للانضمام إلى وحيد والانضواء تحت رايته، وأن أصلح سابق تقصيري.‘ وبينما كان يريد مبارحة طهران قُبض عليه فجأة. وكان لباسه البسيط يدل على مقدار زهده، فكان يلبس قفطانًا أبيض كهيئة العرب وفوقه عباءة من الصوف الخشن وفوق رأسه لباس أهل العراق، ويظهر إذ يمشي في الأسواق كأنه عنوان الانقطاع ويحافظ على التمسك بفرائض الدين بتقوى بالغة. وكان

________________________

(1) وحسب تاريخ الحاج معين السلطنة (الصفحة 131)، فإن الدرويش ميرزا قربان علي قابل حضرة الباب في قرية خانلق.

يقول: ’إن حضرة الباب نفسه يلاحظ ويعمل فرائض دينه بكل دقة، فكيف أهمل الأمور التي يقوم رئيسي بعملها؟‘

ولما قبض على ميرزا قربان علي وأحضر أمام أمير النظام، قامت ضجة كبيرة في طهران لم ترَ المدينة مثلها، وازدحمت جماهير غفيرة بالقرب من مقر الحكومة لمعرفة ما يحصل له. وقال له الأمير حالما رآه: ’منذ الليلة الماضية تزاحم حولي مسؤولو الحكومة من كل الرتب للتوسط في مسألتك.(1) ومما علمته أن المقام الذي تشغله أنت ليس أقل بكثير من مقام السيد الباب نفسه، وكذلك تأثير كلماتك. فإذا ادعيت لنفسك مقام الرئاسة لكان أحسن لك من أن تصرح بتبعيتك لمن هو أقل منك علمًا.‘ فأجابه بكل جسارة: ’إن العلم الذي تحصلت عليه هو الذي جعلني أنحني طاعة أمام من عرفت إنه مولاي ورئيسي. ومنذ أن بلغت سن الرجال كان العدل والإنصاف رائدَي حياتي، وقد حكمت بالإنصاف في أمره ووصلت إلى نتيجة وهي إنه إذا كان أمر هذا الشاب الذي يشهد بتأثيره الأعداء قبل الأحباء باطلاً، فإن كل نبي من الأول الذي لا أول له إلى هذا اليوم يكون عنوان الباطل أيضًا. وإن لي زهاء ألف من الأتباع جميعهم يخلصون لي إخلاصًا لا شك فيه، وإني عاجز أن أغير قلب واحد فيهم، ولكن هذا الشاب أثبت أنه قادر على تغيير أرواح أتباعه بإكسير محبته. وله تأثير على ألوف مثلي ممن لم يروه ولم يحظوا بلقائه، وهو وحيد لا معين له، وجميعهم تركوا أهواءهم وتعلقوا به وأطاعوه، وهم عالمون تمامًا بعدم كفاية ما قاموا به من جلائل الأعمال. ويحبون أن

________________________

(1) ﴿كان ميرزا قربان علي مشهورًا بين المتصوفين والدراويش، وله أصدقاء كثيرون وتلاميذ في طهران. كما كان معروفًا لجميع الأعيان والكبراء حتى لوالدة الشاه. وبسبب معرفتها به والرحمة التي شعرت بها في مسألته، قالت لجلالة الملك: ’إنه لم يكن بابيًا ولكنهم اتهموه كذبًا بذلك.‘ فأرسلوا وأحضروه وقالوا له: ’إنك درويش ومتعلم وإنك لا تمت إلى هذه الفئة الضالة بصلة وقد وصلتنا ادعاءات باطلة عليك.‘ فأجاب: ’إنني أعد نفسي أحد أتباع وخدام حضرته القدسية، ولا أعرف إن كان قد قبلني بهذه الصفة من عدمه.‘ ولما أرادوا إقناعه، وبعد وعده براتبٍ مغرٍ. قال: ’إن هذه الحياة وهذه القطرات من دمائي هي تافهة، ولو كانت الدنيا جميعها ملكي، ولو كانت لي ألف حياة لفديتها تحت أقدام أحبائه. فإن تضحية رأسي لمحبوبي في نظري أمر بسيط حقًا. فأقفلوا أفواهكم ولا تتكلموا هذا الكلام وامتنعوا عن العذل لأن العذل لا يقبله المحبون.‘ وأخيرًا رجعوا عنه يائسين وأمروا بقتله.﴾ ("التاريخ الجديد" للحاج ميرزا جاني، الصفحة 254)

يضحوا حياتهم لأجله أملاً في أن تكون شهادة على إخلاصهم، ومستحقة لأن تذكر أمام ساحة عظمته.‘

فقال أمير النظام: ’إني متردد في الحكم بالإعدام على صاحب مثل هذا المقام الرفيع سواء كان كلامه من الله أم لا.‘ فأجابه الضحية وقد نفد صبره: ’ولماذا تتردد؟ ألا تعلم أن الأسماء تنزل من السماء؟ ومن كان اسمه عليّ،(1) وهو الذي أضع حياتي في سبيله، سمّاني "قربان علي" من أزل الآزال، وطبعه على لوح الشهداء المختارين. حقًا هذا هو اليوم الذي احتفل فيه بالقربان "التضحية" وفيه أختم إيماني بأمره بدمي وحياتي. فلا تتوانَ إذًا في أمري وتأكد إني لا ألومك على فعلتك، فكلما أسرعت في قطع رأسي كلما ازددت لك شكرًا.‘ فصاح الأمير: ’خذوه بعيدًا عني، فإذا مرّت لحظة أخرى فإن هذا الدرويش يؤثر عليّ بسحره.‘ فأجاب قربان علي: ’إنك محصن من نفوذ السحر الذي لا يؤثر إلا على طاهري القلوب. أما أنت وأمثالك فلا يمكن أن يفهموا القوة السحرية للإكسير الإلهي الذي في أقل من لمح البصر يقلّب قلوب الرجال.‘

فاهتز أمير النظام غضبًا من الجواب وقال: ’لا شيء يسكت هؤلاء إلا السيف‘ والتفت إلى الجلادين الذين حوله وقال: ’لا داعي أن تحضروا أمامي أحدًا من هذه الطائفة الممقوتة، فإن الكلمات تعجز عن التغلب على عنادهم المتأصل. وكل من تمكنتم من إقناعه أن يعدل عن دينه، أطلقوا سراحه وإلا فاقطعوا عنقه.‘

ولما اقترب قربان علي من مكان استشهاده وهو ثمل من نشوة الأمل بالاجتماع القريب بمحبوبه، صاح بنبرات الفرح والسرور، وقال بفرح لا مزيد عليه:

’اقتلوني اقتلوني يا ثقاة
إن في قتلي حياة في حياة

ولو إنكم الآن تطفئون هذا النفس الضئيل فإن محبوبي سيكافئني بآلاف عديدة من حياة غيرها مما لا يقدر أحد على تصورها!‘ والتفت إلى الجمهور الملتفين حوله وقال: ’استمعوا لكلماتي أنتم الذين تدّعون أنكم أتباع رسول الله فإن محمدًا شمس الهداية الذي

________________________
(1) إشارة إلى حضرة الباب.

أشرق في سابق العصر من أفق الحجاز قد قام ثانية اليوم في شخص علي محمد من أفق شيراز ومنه أشرقت نفس الأنوار وأضاء بذات الضياء. والوردة هي وردة في أي حديقة أزهرت وفي أي وقت ظهرت وتفتحت.‘ ولما رأى الجموع حوله صمًا بكمًا تلقاء ندائه، صاح بأعلى صوته: ’أيها الجيل الفاسق! ما أغفلكم عن رائحة ذلك الورد التي انتشرت! ولو أن روحي قد امتلأت منها بالفرح والسرور، إلا أني لا أجد وللأسف قلبًا يشاركني في الابتهاج بها ولا عقلاً يدرك مجدها.‘

وإذ رأى جسد الحاج ميرزا سيد علي مقطوع الرأس ينزف دمًا قرب قدميه، أخذ هياجه وهو منفعل يرتفع إلى أقصى حد، وصاح إذ رمى نفسه على الجسد وقال: ’حيّ على يوم لقائنا معًا بالفرح والسرور، حيّ على يوم اجتماعنا بالمحبوب.‘ وقال للجلاد وهو يحتضن الجسد بين ذراعيه: ’اقترب وعجّل بضربتك لأن زميلي لا يريد أن يتركني من حضنه ويدعوني أن أعجل معه إلى ساحة قرب المحبوب.‘ فوقعت الضربة حالاً على عنقه من الجلاد، وبعد برهة فاضت روح هذا الرجل العظيم. وكانت تلك الضربة القاسية قد حركت في الحاضرين شعور النقمة الممزوج بالعطف. وعلت أصوات النحيب والبكاء من قلوب الجماهير، وزاد في الأنين والحنين الذي ذكّر الناس بأحزان يوم عاشوراء(1) الذي ينتحب فيه الأهالي كل سنة.

3. ثم جاء دور الحاج الملاّ إسماعيل القمي، الذي كان أحد سكان فراهان. ففي صباه سافر إلى كربلاء للبحث عن الحقيقة التي كان يجتهد في كشفها وصاحَبَ جميع علماء النجف وكربلاء وجلس عند قدمَي السيد كاظم وسمع منه العلوم التي مكنته من الاعتراف بأمر حضرة الباب في شيراز بعد بضع سنوات. وامتاز بقوة إيمانه وشدة إخلاصه. وبمجرد أن سمع نداء حضرة الباب لأحبائه بالتوجه إلى خراسان، أجاب بكل حماس وانضم إلى

________________________

(1) ’لما أحضر عند مقعد التنفيذ، رفع الجلاد سيفه وضربه على قفاه من الخلف، ولكن الضربة أمالت رأسه فقط وأوقعت عمامة الدرويش ودارت أمامه بضعة خطوات على الأرض. وفي آخر نسمة من حياته أثار شعور جميع الحاضرين بتلاوة الشعر الآتي: "حقًا إنه لسعيد من أسكره الحب حتى لم يعلم إن كانت العمامة أم رأسه هي التي وقعت تحت أقدام المحبوب."‘ ("التاريخ الجديد" للحاج ميرزا جاني، الصفحتان 254-255)

الأصحاب الذين أسرعوا إلى بدشت وهناك لُقب ﺑ"سِرّ الوجود". وبينما كان في صحبة الأحباء زادت معرفته بالأمر وتأججت لديه بالتالي الرغبة في ترويج مصالحه. وأصبح عنوان الانقطاع وزاد شعوره يومًا فيومًا في الرغبة في إظهار الروح التي تجلت عليه بصورة فائقة. وكان يظهر براعة وفراسة لا يقدر على مثلها إلا القليل في تفسير معاني الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية. وكانت الفصاحة التي يظهرها أثناء ذلك مما تستوجب إعجاب زملائه. وفي الأيام التي كانت فيها قلعة الطبرسي تموج بجموع المؤمنين، كان راقدًا على فراش المرض وغير قادر على إسداء المعونة في الدفاع عنها. وما كاد يشفى من مرضه حتى وجد أن الحصار التاريخي الشهير قد انتهى بمقتل زملائه الأصحاب، فقام بعزم لتدارك ما فاته من التضحية لهذا الأمر وساقه ذلك العزم أخيرًا إلى ميدان الشهادة ونال تاجها.

وإذ سيق إلى التنفيذ وانتظار اللحظة الأخيرة التفت إلى زميليه اللذين تقدماه واللذين بقيا في حالة احتضان وصاح وهو يحدق بنظره إلى رأسيهما المضرجين بالدماء: ’نِعْم ما فعلتما أيها الأخوين الحبيبين! فإنكما قلبتما طهران إلى جنة! فيا ليت سبقتكما!‘ ووضع يده في جيبه وأعطى الجلاد قطعة من النقود ورجاه أن يشتري له شيئًا يحلّي فمه. تناول بعضًا منها وأعطى الباقي للجلاد وقال: ’إني قد سامحتك لفعلتك فاقترب مني واضرب ضربتك لأني منذ ثلاثين سنة كنت أتمنى وأحن إلى أن أشاهد هذا اليوم المبارك، وكنت أخشى أن أنزل القبر ولا تتحقق رغبتي.‘ ورفع عينيه إلى السماء وصاح قائلاً: ’اقبلني يا إلهي، ولو أني غير مستحق، واكتب اسمي ضمن كتاب الأبرار الذين بذلوا حياتهم على مذبح التضحية.‘ وكان يتلو المناجاة حين ضربه الجلاد كطلبه وقطعها عليه.(1)

________________________

(1) ﴿والآن ابتدأوا في المذبحة وقطع الرؤوس. فلما جاء دور الحاج الملاّ إسماعيل لإعدامه، جاءه رجل وقال له: ’إن بعض أصحابك يريد أن يفديك بمبلغ من المال على شرط توبتك ليوقفوا التنفيذ عليك. وإذا كان الأمر للضرورة ولإنقاذ حياتك، فما هو الضرر في أنك تذكر باللسان فقط وتقول: ’’لست بابيًا‘‘ حتى يوجد أمامهم سبب لتركك.‘ فأجابه: ’إذا كنت أريد الرجوع فلا يقدر أحد أن يمسني حتى مع عدم دفع أي نقود.‘ ولما ألحوا عليه بشدة، قام منتصبًا وصاح وسط الجمع المحتشد حتى يسمعوا وقال: ’أيها النسيم احمل عني رسالة إلى إسماعيل الذي لم يذبح وقل له: الحب لا يسمح بالتراجع في طريق المحبوب.‘﴾ ("التاريخ الجديد" الصفحتان 253-254)

4. وما أن فاضت روحه، حتى ساقوا السيد حسين الترشيزي المجتهد بدوره إلى المذبح. كان من أهالي ترشيز وهي قرية في خراسان وكان مشهورًا بالتقوى واستقامة الخلق. وتلقى الدرس سنين عديدة في النجف وأرسله إخوانه المجتهدون إلى خراسان لنشر التعاليم التي تلقاها. ولما وصل إلى الكاظمين، قابل الحاج محمد تقي الكرماني أحد معارفه القدماء ومن أكابر التجار في كرمان، وكان قد فتح فرعًا لتجارته في خراسان. وعزم على صحبته إذ كان في طريقه إلى إيران. وكان الحاج محمد تقي هذا صديقًا للحاج ميرزا سيد علي، خال حضرة الباب، وبواسطته اعتنق الأمر سنة 1264ﻫ(1) عندما كان يستعد للذهاب من شيراز للحج إلى كربلاء. وإذ سمع بعزم الحاج ميرزا سيد علي على الرحيل إلى چهريق لأجل زيارة حضرة الباب، أظهر رغبة أكيدة في مرافقته. فنصحه الحاج ميرزا سيد علي أن يتبع خطته الأصلية ويتجه إلى كربلاء وهناك ينتظر منه خطابًا يعلمه فيه إن كان من الحكمة الحضور من عدمه. ومن چهريق صدر الأمر للحاج ميرزا سيد علي أن يرحل إلى طهران بأمل أنه بعد المكث فيها برهة قصيرة، يتمكن من تجديد زيارته لابن أخته. وبينما كان في چهريق أظهر عدم ميله إلى العودة لشيراز نظرًا لصلف أهلها المتزايد الذي لا يقدر على تحمله. وبمجرد أن وصل إلى طهران طلب من الحاج محمد تقي أن ينضم إليه. ورافقه السيد حسين من بغداد إلى العاصمة وبواسطته اعتنق الأمر.

ولما واجه الجمهور المحتشد حوله ليشهدوا استشهاده، رفع السيد حسين صوته وقال: ’استمعوا إليّ يا أتباع الإسلام، إن اسمي حسين، وأنا من نسل سيد الشهداء الذي حمل الاسم نفسه، ويشهد كل مجتهدي المدينتين المقدستين، النجف وكربلاء، بالإجماع أني حجة في التفسير وشرائع الدين. ولم أسمع باسم السيد الباب إلا حديثًا، وكانت الدرجة السامية التي حصلت عليها في تفسير معضلات التعاليم الإسلامية قد مكنتني أن أقدّر الرسالة التي جاء بها السيد الباب. وإني مقتنع إني لو أنكرت الحق الذي جاء به، فإني بنفس العمل أكون قد نبذت ولائي لكل دين سبقه. وإني أتوسل من كل واحد منكم أن يطلب من علماء هذه البلدة ومجتهديها أن يعقدوا اجتماعًا وأنا أتعهد أن أثبت أمامهم

________________________
(1) سنة 1847-1848م.

حقيقة هذا الأمر. ثم بعد ذلك فليحكموا إن كنت قادرًا على إثبات صحة دعوى الباب أم لا. وإذا اقتنعوا بالحجج والبراهين التي أدلي لهم بها، فليمتنعوا عن سفك دم الأبرياء. وإذا عجزت عن ذلك فليوقعوا بي من العقاب ما أستحقه.‘ وما كادت هذه الكلمات تخرج من فمه حتى تدخل ضابط يعمل في خدمة أمير النظام وقال متكبرًا: ’إني أحمل معي حكم الإعدام عليك ممهورًا من سبعة من كبار المجتهدين في طهران وقرروا فيه بخط أيديهم أنك كافر. وإذا سئلنا عن دمك أمام الله يوم القيامة، فإني أجيب أمام الله وأضع المسئولية على أكتاف هؤلاء الرؤساء الذين وثقنا بهم وطلبنا منهم الحكم والذين نضطر لإجراء حكمهم.‘ وبهذه الكلمات استل خنجره وطعنه بقوة فوقع ميتًا عند قدميه.

5. وبعده بقليل اقتيد الحاج محمد تقي الكرماني إلى مكان التنفيذ. فراعته فظاعة المنظر الذي كان أمامه وصاح وهو ينظر إلى الجلاد: ’تقدم أيها الطاغية القاسي التعس وأسرع بذبحي لأني لا أصبر على الانضمام إلى حسيني المحبوب. فإن الحياة بعده عذاب لا أقدر أن أتحمله.‘

صورة 152
سبزه ميدان في طهران حيث استشهد العديد من الأحباء

6. وما كاد الحاج محمد تقي يتلفظ بتلك الكلمات، حتى أسرع السيد مرتضى الذي كان أحد مشاهير التجار في زنجان ليسبق أقرانه، وارتمى على جسد الحاج محمد تقي وتوسل بأنه من السادة الأشراف، وأن قتله يكسبهم ثوابًا أكبر عند الله من قتل الحاج محمد تقي. وبينما كان الجلاد يستل سيفه، إذ تذكر السيد مرتضى أخاه الشهيد الذي دافع جنبًا لجنب مع الملاّ حسين. وهكذا كانت إشارته إليه حتى إن المجتمعين والمشاهدين أعجبوا بقوة إيمانه التي لا تقهر.

7- وفي خضم الجلبة التي أثارتها كلمات السيد مرتضى، انطلق محمد حسين المراغي للأمام وتوسل أن يسمح له بالاستشهد فورًا قبل أن يذبح زملاؤه. وما كادت عيناه تقعان على جسد الحاج الملاّ إسماعيل القمي الذي كان يحبه محبة فائقة، حتى ارتمى عليه عفويًا واحتضنه قائلاً: ’لن أسمح أبدًا أن أفترق عن محبوبي العزيز الذي وضعت فيه كل ثقتي والذي طالما أغدقني بشواهد عديدة دلالة على حبه العميق وصداقته.‘

وكان هذا الشوق في التسابق إلى ميدان الشهادة قد أدهش الجماهير الحاضرة وكانوا يتعجبون ويتساءلون من ستكون له الحظوة من الثلاثة في الشهادة قبل غيره. فكانوا جميعًا يطلبون ذلك حتى إنهم قطعت رؤوسهم دفعة واحدة وفي لحظة واحدة.

صورة 153
بوابة نوّ، طهران

ولم تشهد عين البشر إلا نادرًا مثل هذا الإيمان العظيم ولا مثل هذه الدلائل على القسوة الجامحة. ومع أن الشهداء كانوا قليلين، إلا أننا إذ نتأمل في حوادث استشهادهم، نجبر على الاعتراف بخاصية تلك القوة القاهرة التي نفخت مثل هذه الروح النادرة التي تضحي بالنفس. فإذا تذكرنا المقام الرفيع الذي سما إليه هؤلاء الشهداء، ولاحظنا درجة انقطاعهم وحيوية إيمانهم، وإذا تذكرنا الضغوط التي بذلها أصحاب المقامات الرئيسة والمتنفذة لإنقاذهم من الخطر الذي يهدد حياتهم، وفوق ذلك إذا تصورنا تلك الروح العالية التي ازدرت بالفظائع الصادرة من أعداء لا قلب لهم ينحطون لتوقيعها عليهم، فإننا نرى في هذه الحادثة أعظم مأساة في سجلات تاريخ هذا الأمر.(1)

وفي هذه المرحلة من تأريخي، كان لي الشرف أن أقدم لحضرة بهاءالله بعض قطع مما راجعت وأتممت. فكم كانت مكافأتي لأتعابي من ذلكم الذي كنت دائمًا أتطلع لرضاه وحده وأوكلت لنفسي إتمام العمل لأجله! فبكل لطف طلبني لمحضره وأولاني بركاته، وكنت في منزلي في مدينة السجن في عكاء، في جوار منزل آقا كليم حينما طلبني

________________________

(1) ’وبعد ذكر الحوادث السابقة، أراد المؤرخ البابي أن يذكر أهمية شهادة الشهداء السبعة الفريدة. فإنهم كانوا رجالاً يمثلون طبقات مهمة في إيران، أي من العلماء والدراويش والتجار وأصحاب المتاجر وموظفي الحكومة، وكانوا رجالاً محترمين ذوي مكانة عند العموم وماتوا طواعية بلا خوف ولا وجل بل بشوق كبير رافضين أن يشتروا هذه الحياة بمجرد الإنكار الشفوي تحت اسم الكتمان أو التقية التي يعترف الشيعة أنها جائزة في حالة الخطر. فلم يكونوا يائسين من أمل الرحمة كما كان الذين قتلوا في قلعة الشيخ الطبرسي وزنجان، وقد ختموا حياتهم بدمائهم في الميدان العام في عاصمة إيران التي هي مقر سفراء الدول الأجنبية المعتمدين لدى بلاط الشاه. وهنا صدق المؤرخ البابي، حتى الذين يعيبون البابية بأنها اشتراكية تهدم كل نظام وآداب، يظهرون الرحمة والشفقة لهؤلاء الشهداء الذين لا ذنب لهم. ويمكننا أن نطبق قول جوبينو الفصيح وفكره الصائب على مأساة مماثلة حصلت بعد عامين قال: ’وكانت هذه الحادثة قد كسبت للباب أنصارًا مخفيين، ما لم تنجح المواعظ في ضمهم وإرشادهم. وقد كان ذلك من التأثير الشديد الذي أحدثه على الجمهور بسالة الشهداء وثباتهم. وكثيرًا ما سمعت بعض الناس يحكون حوادث ذلك اليوم، وكانوا شهود عيان ورجالاً من الحكومة وبعضهم في مراكز مرموقة. وبسماعها كان الاعتقاد السائد بين الجميع أنهم كلهم بابيون حيث إنهم كانوا يظهرون إعجابهم الشديد بمثالهم الذي لم يظهر مثله في الإسلام. وكانوا يتكلمون بالثناء الكبير على ما لهذه الطائفة الجديدة من سعة تدبير وعلى آمالها وسبل نجاحها.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية ب، الصفحتان 175-176)

المحبوب. وكان ذلك يوم السابع من شهر ربيع الثاني سنة 1306ﻫ(1) وهو ما لا أنساه أبدًا، وأذكر هنا خلاصة كلماته المباركة لي في تلك المناسبة التاريخية، تفضل قائلاً:

﴿في لوحٍ أنزلناه البارحة فسّرنا المعنى من "غضوا أبصاركم"(2) أثناء إشارتنا للظروف المرتبطة باجتماع بدشت. وقد كنا نحتفل، في مجمع الأصحاب من الأعيان والعظماء بعرس أحد الأمراء من العائلة المالكة في طهران، إذ ظهر فجأة على باب المنزل السيد أحمد اليزدي والد السيد حسين كاتب وحي حضرة الباب، وأشار إلينا أنه يحمل رسالة مهمة يريد تبليغها حالاً. وكنا غير قادرين مع ذلك على ترك الاحتفال في تلك اللحظة وأشرنا عليه بالانتظار. ولما انفض الجمع أخبرنا أن الطاهرة قد حبست في قزوين حبسًا مشددًا وأن حياتها أصبحت في خطر عظيم. فاستدعينا محمد هادي الفرهادي توًا وأعطيناه التعليمات الخاصة بإنقاذها من حبسها ومرافقتها إلى العاصمة. ولما كان الأعداء قد استولوا على منزلنا، لم نقدر على استضافتها في مسكننا على الدوام. وبناء على ذلك عملنا ترتيبًا لنقلها من منزلنا إلى منزل وزير الحربية(3) الذي غضب عليه مليكه ونفاه إلى كاشان. وطلبنا من أخته التي كانت لا تزال من ضمن أحبائنا أن تعتني بالطاهرة وتكون مضيفتها.

وبقيتْ في صحبتها إلى أن جاء أمر حضرة الباب لنا بالتوجه إلى خراسان، فقررنا أن تقوم الطاهرة حالاً بالتوجه إلى تلك المقاطعة ووكلنا ميرزا(4) أن يوصلها إلى محل خارج بوابة المدينة ومنه إلى أي جهة يراها مناسبة لها في الأماكن المجاورة. فأخذت إلى بستان يقع بجواره منزل مهجور فيه حارس مسن. ورجع ميرزا موسى وأخبرنا بانتقالها إلى المحل الذي تهيأ لها ومدح المناظر المحيطة به. وعملنا بعد ذلك على ترحيلها إلى خراسان ووعدنا باللحاق بها في ظرف بضعة أيام.

________________________
(1) 11 ديسمبر/كانون الأول سنة 1888م.

(2) ورد في الأحاديث الإسلامية أن فاطمة بنت الرسول ﷺ ستظهر وهي تمر على الصراط في يوم القيامة مكشوفة الوجه، وعند ظهورها ينادي مناد من السماء: ’غضوا أبصاركم أيها الملأ.‘

(3) ميرزا آقا خان النوري الذي خلف أمير النظام رئيس وزراء ناصر الدين شاه.

(4) آقا كليم أخو حضرة بهاءالله.

ولم تمضِ مدة حتى لحقنا بها في بدشت واستأجرنا لها حديقة خاصة. وعيّنا محمد هادي الفرهادي نفسه الذي تمكن من تخليصها ليكون حارسًا لها، وكان معنا نحو سبعين من الأصحاب سكنوا في محل قريب من تلك الحديقة.

ومرضنا ذات يوم ولازمنا الفراش. وكانت الطاهرة قد أرسلت طلبًا لتزورنا، ودهشنا لطلبها وتحيرنا كيف نجيب عليها. وفجأة وجدناها على الباب ووجهها مكشوف أمامنا، ونوّه عن هذه الحادثة ميرزا آقا جان(1) ببيان حسن، إذ قال: ’إن وجه فاطمة يجب أن ينكشف يوم القيامة وتظهر أمام أعين الناس سافرة، وفي تلك اللحظة ينادي منادي الغيب ويقول: "غضوا أبصاركم عما رأيتم".‘

كم كانت الدهشة والاضطراب اللذين سيطرا على الأصحاب في ذلك اليوم! وامتلأت قلوبهم خوفًا ووجلاً. ولما لم يتحمل بعضهم أن يرى مثل هذه المخالفة الصريحة للعوائد الإسلامية المقررة، هربوا في انزعاج من أمام وجهها والتجأوا في ذهولهم إلى حصن مهجور في جوار ذلك المكان، ومن الذين تزلزلوا من عملها وسلوكها وقاطعوها كلية السيد النهري(2) وأخوه ميرزا هادي، وقد أرسلنا لهما كلمة بأنه لم يكن من الضروري لهما هجر إخوانهما والالتجاء إلى حصن.

وتفرق الأصحاب أخيرًا وتركونا تحت رحمة أعدائنا. ولما ذهبنا فيما بعد إلى آمل، كان ضجيج الناس قد ارتفع لدرجة أن أربعة آلاف نفر اجتمعوا في المسجد وتزاحموا على أسقف المنازل وقام علينا رئيس الملاّوات في البلدة وقاومنا بشدة وصاح قائلاً بلهجة مازندران: ’إنكم أفسدتم دين الإسلام وثلمتم صيته! ففي الليلة الماضية رأيتكم في الرؤيا دخلتم المسجد الذي كان يموج بالجماهير المنتظرة والمجتمعة لمشاهدة وصولكم. وإذ اشتد الزحام حولكم، شاهدت القائم واقفًا في ركن ووجهه في وجهكم وهيئته تدل على فرط التعجب. وإني أعتبر الرؤيا دليلاً على أنكم انحرفتم عن سبيل الحق.‘ فأكدنا له أن علامة

________________________
(1) كاتب وحي حضرة بهاءالله.
(2) ميرزا محمد علي النهري.
صورة 154
منظر عام ليزد

التعجب التي شاهدها على وجهه إنما تدل على عدم موافقته على معاملة أبناء بلدته لنا. وسألَنا بعد ذلك عن رسالة الباب، فأخبرناه بأننا وإن لم نقابله وجهًا لوجه، إلا أننا نكنّ له المحبة العظيمة. وأكدنا له اعتقادنا الجازم بأنه بأي حال لا يعمل ما يخالف دين الإسلام.

ولكن الملاّ وأتباعه أبوا أن يصدقونا ورفضوا قبول شهادتنا واعتبروها تلفيقًا. وبناء على ذلك حبسونا أخيرًا ومنعوا أصحابنا من لقائنا. وكان حاكم آمل المنتدب قد نجح في إطلاق سراحنا من الحبس، ذلك بأن أمر أتباعه أن ينقبوا الحائط، ومنه تمكنا أن نترك الغرفة وأخذنا إلى منزله. وما كاد الأهالي يعلمون بذلك حتى تجمهروا وحاصروا منزل الحاكم ورجمونا بالحجارة وصاحوا في وجهنا بكل طعن قبيح.

وفي الوقت الذي قررنا فيه إرسال محمد هادي الفرهادي إلى قزوين لتخليص الطاهرة والتوجه بها إلى طهران، كتب إلينا الشيخ أبو تراب بأن مثل هذا العمل محفوف بأعظم الأخطار وربما يسبب هياجًا غير منتظر. ولكنا أبينا أن نرجع عن عزمنا. وكان ذلك الشيخ رقيق القلب وبسيطًا ومتواضع الخلق ذا سيرة شريفة. كانت تنقصه الشجاعة والحزم وأظهر ضعفًا في مناسبات معينة.﴾

ويجدر هنا إضافة كلمة بخصوص الفصول الختامية لهذه المأساة التي شهدت بطولة شهداء طهران السبعة. فقد تركت جثامينهم في "سبزه ميدان" المجاور للقصر الملكي لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، معرضة لجميع الفظائع التي أوقعها عليهم عدوّ طاغٍ وآلاف من الشيعة المتحمسين تجتمع حول أجسادهم، يركلونها بأرجلهم ويبصقون على وجوههم. وقد رُجموا ولُعنوا واستُهزيء بهم من قبل جمهور حاشد غاضب. وألقى المارة الأقذار على رفاتهم ومُثّل بها بأقسى أنواع التمثيل. ولم يرتفع أي صوت للاحتجاج، ولم تمتد أي يد لمنع الظالمين المتوحشين.

وبعد أن شفوا غليلهم دفنوهم خارج بوابة العاصمة في محل يقع خارج حدود المقبرة العامة الملاصقة للخندق بين بوابتَي نوّ والشاه عبد العظيم. ووضعوا جميعًا في قبر واحد وبقوا متحدين في أجسادهم كما كانوا متحدين في الروح أيام حياتهم الدنيوية.(1)

وقد زادت أخبار اسشهادهم في آلام حضرة الباب الذي كان غارقًا في حزنه على مصير أبطال قلعة الطبرسي. ففي اللوح المفصل الذي أنزله في حقهم، والذي تشهد كل كلمة منه على المقام الرفيع الذي ارتقوا إليه في نظره، أشار إليهم بأنهم "الأغنام السبعة" الذين يمشون أمام القائم الموعود في يوم القيامة، كما ورد في الأحاديث الإسلامية. فهم يمثلون بحياتهم أنبل روح للبطولة، ويظهرون بتضحية حياتهم رضاهم التام بأمره واستسلامهم لإرادته. والمعنى في مشيهم أمام القائم، كما فسّر حضرة الباب، أنهم يستشهدون قبل القائم نفسه الذي هو راعيهم. فوقع فعلاً ما تنبأ به حضرة الباب، لأن استشهاده وقع في تبريز بعد ذلك بأربعة أشهر.

________________________

(1) ’ولما أتم الجلادون عملهم الدموي ارتاع المتفرجون الرعاع من شجاعة هؤلاء الشهداء وصبرهم، ثم بعد برهة سمحوا لأنفسهم بتعصبهم الوحشي أن ينزلوا على بقايا أجساد الضحايا اللعن والشتم رغمًا عن أن أرواح هؤلاء قد صعدت وعلت عن أن يلحقوها بأذى. فكانوا يرمون الأحجار والأقذار على الأجساد الهامدة وهم يصيحون: ’هذا جزاء أهل العشق والذين يسيرون في طريق الحكمة والحق!‘ ولم يقبلوا أن يدفنوا هذه الأجساد، بل قذفوا بها في حفرة خارج بوابة الشاه عبد العظيم ثم ردموها.‘ ("مقالة سائح"، الحاشية ب، الصفحتان 174-175)

وشهدت تلك السنة التاريخية، بالإضافة إلى استشهاد حضرة الباب وسبعة من أصحابه في طهران، حوادث نيريز البارزة التي انتهت بمقتل وحيد. وفي نهاية السنة نفسها كانت زنجان مركز زوبعة اضطربت فيها جميع الأقاليم المجاورة، وهبت بقسوة زائدة خارجة عن الوصف وانتهت بذبح عدد غفير من أخلص أتباع حضرة الباب وأشجعهم. واشتهرت هذه السنة بالشهامة الفذة التي ظهرت من هؤلاء المؤمنين الأبطال، فضلاً عن الأحوال العجيبة التي شوهدت في حادثة استشهاد حضرة الباب. وبجملتها كوّنت أبهى صحائف خالدة في تاريخ ذلك الدين الذي أحاطت به الدماء من كل الجهات. واسود وجه الأرض بالفظائع التي ارتكبها ذلك العدو الطاغي القاسي الذي لم يكن له من رادع. وكانت المملكة من خراسان على حدود إيران الغربية لغاية تبريز، مكان استشهاد حضرة الباب، ومن المدن الشمالية في زنجان وطهران إلى المدن الجنوبية التي امتدت لغاية نيريز في مقاطعة فارس، في اضطراب وظلام حالك مما ينبئ بطلوع أنوار الأمر الذي سيعلنه الحسين المنتظر، وهو أقوى وأبهى مما أعلنه حضرة الباب نفسه.(1)

***
________________________

(1) ’وبينما كانت هذه الحوادث تجري في شمال إيران، كانت المقاطعات الوسطى والجنوبية مضطربة من آثار تبليغ المبلغين للدين الجديد. وكان الناس على ما هم عليه من البساطة والجهل والسذاجة والوهم يقفون حائرين من سماع المعجزات المستمرة. وكان الملاّوات قلقين إذ رأوا أتباعهم يميلون عنهم ويتركونهم. وأخذوا فوق الشتم يروجون الأكاذيب الفظيعة عنهم. فانتشرت الأخبار السيئة في جميع أنحاء البلاد وبين الأهالي المتحيرين، وزادت الأراجيف عن توحشهم الدموي وذاعت هذه الأنباء بين عاملَي الارتياع والإعجاب.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 387)

الفصل الثاني والعشرون
ملحمة نيريز

كان وحيد مشغولاً في الأيام الأولى من حصار قلعة الطبرسي في نشر تعاليم الأمر في بُروجِرد وفي مقاطعة كردستان أيضًا. وعزم أن يجذب أغلبية سكان تلك الجهات إلى أمر حضرة الباب، ومن ثم يسافر إلى فارس ويستمر في عمله. وبمجرد أن علم برحلة الملاّ حسين لمازندران أسرع إلى العاصمة وأخذ في عمل الترتيبات اللازمة للسفر إلى قلعة الطبرسي. وبينما كان يستعد للرحيل، إذ وصل حضرة بهاءالله من مازندران وأخبره بعدم إمكانه الانضمام إلى إخوانه. فأحزنته هذه الأخبار جدًا، وكانت سلوته الوحيدة في تلك الأيام أن يكثر من زيارة حضرة بهاءالله ويحصل منه على نصائحه الثمينة الحكيمة.(1)

وعزم وحيد أخيرًا أن يذهب إلى قزوين ويستمر في العمل الذي كان مشغولاً به. ثم سافر إلى قُم وكاشان، وقابل أقرانه من الأتباع وتمكن من شد أزرهم وتقوية عزائمهم. واستمر في رحلته إلى إصفهان وأردستان وأردكان، وفي كل هذه المدن أعلن التعاليم

________________________

(1) وكتب الحاج ميرزا جاني: ’إنه بعد مرور بعض الوقت تشرفت ثانيًا بمقابلة آقا سيد يحيى في طهران، فرأيت في وجهه العظيم علامات القوة والمجد مما لم ألاحظه عليه وقت سفري الأول معه إلى العاصمة ولا في أي وقت آخر، وعلمت أن هذه العلامات تدل على قرب مفارقته لهذا العالم. وكان يقول فيما بعد مرارًا في أثناء حديثه: ’’هذا هو سفري الأخير ولن تروني بعد ذلك.‘‘ وكان كثيرًا ما يبدي هذه الفكرة إما صراحة أو بالإشارة، وأحيانًا إذ نكون مع بعضنا ويسترسل بنا الحديث، يقول: ’’إن أولياء الله يقدرون على التنبؤ بحوادث المستقبل، وإني أقسم بذلك المحبوب الذي روحي في قبضة قدرته، أني أقدر أن أقول وأعرف المكان والكيفية التي بها أذبح، ومن الذي يذبحني. وما أكبر وأعظم هذه التضحية أن أذبح ويُسفك دمي في سبيل ارتفاع كلمة الحق!‘‘ ‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحة 115)

الأساسية التي أتى بها مولاه بحماس وجرأة، ونجح في ضم عدد غفير من الأتباع القادرين إلى أمر الله. ووصل إلى يزد في الوقت المناسب للاحتفال بالنوروز مع إخوانه الذين أظهروا سرورهم من حضوره وتشجعوا جدًا بوجوده بينهم. ولما كان رجلاً ذا نفوذ واسع، فقد امتلك، بالإضافة إلى منزل في يزد تسكن فيه زوجته وأبناؤها الأربعة، منزلاً في داراب كان مسكنًا لأجداده، وآخر في نيريز يحتوي على أثاث فاخر.

وكان وصوله إلى يزد في اليوم الأول من شهر جمادى الأولى سنة 1266ﻫ(1) والذي يحتفل في اليوم الخامس منه بذكرى إعلان دعوة حضرة الباب، وتصادف في تلك السنة مع عيد النوروز. وجاء العلماء المشهورون والأعيان في المدينة لاستقباله وتهنئته. وكان نوّاب رضوي، أرذل معانديه وأشهرهم، حاضرًا في تلك المناسبة ولمّح بخبث إلى الإسراف والأبهة في الاحتفال باستقباله. ومما قاله: ’إن وليمة الشاه الملكية لا تضارع المائدة التي بسطتها أمامنا، وإني أشك في أنكم تحتفلون اليوم بعيد آخر إلى جانب العيد الوطني الذي نحتفل به اليوم.‘ فردّ عليه وحيد ردًا تهكميًا قاسيًا أوجب ضحك الحاضرين

صورة 155
منزل وحيد في يزد
________________________
(1) سنة 1850م.

جميعهم. وصفّقوا كلهم نظرًا لغرور نواب وشروره وموافقة الرد للصواب. ولم يكن نواب قد تعرض لمثل هذه السخرية من هذا العدد الكبير من عليّة القوم، فلسعه رد وحيد وتأججت في ذهنه نار الحقد الكامنة ضد خصمه، ودفعته ليشفي غليله بالانتقام.

واستثمر وحيد المناسبة وأبلغ الجمع الحاضر، بجرأة ودون تحفظ، المبادئ الأساسية لدينه وبرهن على صحتها. وكان معظم الذين سمعوها لم يسبق لهم معرفة الخصائص المميزة للأمر إلا معرفة جزئية، وكانوا يجهلون أهميته ودلالته الكلية. وانجذب بعضهم انجذابًا كليًا واعتنقوا الأمر حالاً ولم يقدر الباقون على مقاومته علنًا بل أبغضوه في قلوبهم وأخذوا على أنفسهم أن يستأصلوه بكل قوتهم. وكانت فصاحته وجرأته في بيان الحقيقة قد أشعلت نيران عدائهم وعززت عزمهم على المبادرة بهدم سلطته دون تأخير. وشهد ذلك اليوم نفسه تكاتف قواهم ضده وكان علامة البداية للمأساة التي قدر لها أن تجرّ في أذيالها كثيرًا من العذاب والأسى.(1)

وأصبح هدفهم الأول والأهم في مساعيهم القضاء على وحيد. وأشاعوا الأنباء بأن في يوم النوروز، وبين أعيان المدينة وأعلامها سواء كانوا من العلماء الدينيين أو الحكام الإداريين، تجاسر السيد يحيى الدارابي وكشف الحجاب عن جميع أحكام حضرة الباب المتحدية، وعزّز حججه ببراهين ودلائل مقتبسة من القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية. وقالوا: ’مع أن المستمعين إليه كانوا من أكابر مجتهدي المدينة فلم يوجد بين ذلك الجمع من يجرؤ على الاحتجاج على تأكيداته الملتهبة على أحقية عقيدته. وكان سكوت أولئك الذين استمعوا إليه سببًا في موجة الحماس التي غمرت المدينة لمصلحته، وجعلت نصف سكان المدينة يركعون عند قدميه وسرعان ما ينجذب إليه الباقون.‘

________________________

(1) ’وإذ انجرف بحماسه وامتلأ بمحبة الله، أراد أن يعرّف إيران مجد الحقيقة الأبدية وبهجتها. ويقول الشاعر: "الحب والكتمان أمران لا يجتمعان." فكذلك كان هذا السيد يدعو الناس علنًا في الجوامع والشوارع والأسواق وفي الساحات العامة وكذلك في كل جهة يلقى فيها مستمعين. وكان لهذا الحماس ثمرته وكان الناس يدخلون أفواجًا في الدين الجديد بإخلاص. وكان الملاّوات يضطربون ويشكون إلى حاكم المدينة تعدّيه على الدين.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 390)

فانتشر هذا التقرير كانتشار النار في الهشيم في سائر أنحاء يزد والإقليم المحيط بها. وأشعل نيران الحقد والغل من جهة، وكان سببًا في انضمام عدد كبير من المؤمنين إلى أولئك الذين اعتنقوا الأمر، من جهة أخرى. فمن أردكان ومشهد، وكذلك من البلدات والقرى الأبعد، هرعت جموع من الناس إلى منزل وحيد ليسمعوا عن الرسالة الجديدة. وكانوا يسألونه: ’ماذا نفعل؟ وما هي الطريقة التي تنصحنا أن نسلك فيها لإظهار إيماننا بهذا الأمر وإخلاصنا له؟‘ وكان وحيد يحل لهم مشكلاتهم من الصباح إلى المساء ويعلمهم ويرشد خطاهم في درب الخدمة.

واستمر هذا النشاط المحموم مدة أربعين يومًا بين مؤيديه الغيورين، نساءً ورجالاً. وأصبح منزل وحيد مركز تجمع جيش عرمرم من المخلصين التواقين لأن يُظهروا بجدارة روح الإيمان التي ألهبت نفوسهم. وكان الهياج الحاصل في المدينة قد وفّر لنوّاب رضوي ذريعة جديدة ليكسب دعم حاكم المدينة،(1) والذي كان شابًا قليل الخبرة في أمور الدولة، في جهوده ضد خصمه. فوقع الحاكم فريسة لتدابير هذا المتآمر الشرير ومكائده، إذ نجح في حمله على إرسال مجموعة من الرجال المسلحين لحصار منزل وحيد. وبينما انطلق فوج من الجيش إلى ذلك المكان، كان جمهور من الغوغاء من رعاع المدينة يوجهون خطاهم إلى ذلك المنزل نفسه، بتحريض من نوّاب، مصممين على إخافة ساكنيه بتهديداتهم وسبابهم.

ورغم أن وحيد كان محاطًا بالقوات المعادية من كل الجهات، إلا أنه كان يذكي حماس مؤيديه من نافذة إحدى غرف الطابق العلوي من منزله، ويفسر لهم كل ما غمض في أذهانهم. ولما رأى أصحابه أن فوجًا كاملاً من الجيش مسندًا بجمهور غاضب، مستعدين للهجوم عليهم، التفتوا إلى وحيد جزعين وطلبوا أن يرشدهم إلى ما يعملونه. فكان جوابه لهم وهو جالس قرب النافذة: ’إن السيف الذي أمامي قد أعطاه لي القائم بنفسه، والله يعلم أنه لو أوكلني بإشهار حرب دينية على هؤلاء الناس لكنت قد شتّت

________________________
(1) كان اسمه آقا خان.

شملهم بمفردي دون معين، ولكني مع ذلك أُمرت أن أمتنع من مثل هذا العمل.‘ وأضاف وهو ينظر إلى الجواد الذي كان خادمه حسن قد أعده له وجلبه أمام باب المنزل: ’إن هذا الجواد سلمني إياه المرحوم محمد شاه لأقوم بالرسالة التي عهد بها إليّ لفحص أمر السيد الباب فحصًا خاليًا من الغرض. وأمرني أن أوافيه شخصيًا بنتائج تحقيقي لأني كنت الوحيد

صورة 156
صورة 157
مناظر قلعة نارين، يزد

من بين رؤساء طهران الدينيين محط ثقته. فشرعت في المأمورية بالعزم الأكيد على دحض حجج وبراهين ذلك السيد وحمله على أن يترك مثل هذه الأفكار ويعترف برئاستي وأكون إذ ذاك مقتدرًا على ترحليه معي إلى طهران كشاهد على النصر الذي سأحرزه. ولكن لما دخلت محضره وسمعت كلماته، حصل لي عكس ما تخيلته. ففي سياق أول مقابلة مع حضرته حصل لي ارتباك وخجل، وفي آخر المقابلة الثانية شعرت بأني عاجز أمامه وأجهل من صبي، وفي المقابلة الثالثة كنت أحط من التراب تحت قدميه. فلم يعد بعد ذلك في نظري ذلك السيد الذي ظننته حقيرًا. بل تجلى لي كمظهر الله نفسه وروح القدس في جسد حيّ. ومنذ ذلك اليوم أتوق لأن أضحي بحياتي لأجله. وإني أبتهج لأن اليوم الذي كنت انتظره بفارغ الصبر يأتي سريعًا.‘

ولما رأى الاضطراب واقعًا بين أصحابه، نصحهم بالهدوء والصبر، وأن يتأكدوا أن المنتقم القدير سوف يوقع، بيد غيبه، هزيمة ساحقة بالقوات المحتشدة ضد أحبائه. وما كاد ينطق بذلك حتى وصلت أنباء بأن شخصًا يدعى محمد عبد الله، الذي ما كان أحد يظن أنه لا يزال حيًا، ظهر فجأة مع عدد من أصحابه الذين اختفوا مثله عن الأنظار، وإذ صاحوا بصيحة "يا صاحب الزمان" شنوا الغارة على مهاجميهم وشتتوا قواتهم. وأظهر من الشجاعة ما جعل الفرقة المحاصِرة تترك أسلحتها وتلوذ بالفرار مع الحاكم إلى قلعة نارين طلبًا للأمان.

وفي تلك الليلة طلب محمد عبد الله أن يحظى بلقاء وحيد. وأكد له إيمانه بالأمر، وشاركه بخططه التي دبرها لإخضاع العدو. فأجاب وحيد: ’ولو أن تدخلك اليوم قد دفع عن هذا المنزل خطر مصيبة غير متوقعة، ولكن عليك أن تعلم أن عداءنا مع هؤلاء القوم لغاية الآن لم يتجاوز المجادلة حول ظهور صاحب الزمان. وسوف يهيّج نوّابُ الناسَ ضدنا مدعيًا أني قمت لتثبيت دعائم سلطتي على المقاطعة بأجمعها وإني عازم على بسطها في سائر أنحاء إيران.‘ ونصحه وحيد أن يترك المدينة حالاً ويوكل أمره لحفظ الله القدير. وأكد له قائلاً: ’لا يقدر العدو على إيصال أقل أذى إلينا حتى تحين ساعتنا المقررة.‘

ولكن محمد عبد الله فضّل مع ذلك أن يتجاهل نصيحة وحيد. وسمع يقول وهو خارج من عنده: ’إني أكون جبانًا إذا تركت أصحابي لرحمة عدوّ سفّاك معتد. وإلا فما يكون الفرق بيني وبين الذين تركوا سيد الشهداء(1) في يوم عاشوراء(2) وحيدًا في ميدان كربلاء؟ وسوف يغفر لي الرب الرحيم ويسامحني على عملي.‘

وبهذه الكلمات وجّه خطاه نحو قلعة نارين وأجبر القوات التي تجمعت بجوارها أن يلتجئوا داخل أسوار القلعة بنحو مهين، ونجح في جعل الحاكم محاصرًا مع أتباعه. وصار يراقبهم بنفسه واستعد لمنع أي مدد يأتي لهم من الخارج.

وفي هذه الأثناء نجح نوّاب في إثارة اضطراب عام شارك فيه جمهور السكان. وكانوا يستعدون للهجوم على منزل وحيد الذي استدعى السيد عبد العظيم الخوئي، الملقب ﺑ"السيد خالدار"، والذي سبق أن اشترك لبضعة أيام في الدفاع عن قلعة الطبرسي وكان ذائع الصيت بوقار هيئته في أنحاء البلاد، وأمره أن يمتطي جواده الخاص ويخطب في الناس علنًا في الشوارع والأسواق ويدعو السكان جميعهم إلى اعتناق أمر صاحب الزمان، وزاد بقوله: ’ليعلموا إني لا أنوي أن أثير حربًا دينية ضدهم. وليحذروا أنهم إذا أصروا على حصار منزلي واستمروا في هجومهم عليه، منكرين حرمة مقامي وشرف نسبي، فإني أكون مضطرًا للدفاع عن نفسي وأن أقاوم قواتهم وأشتت شملهم. وإذا اختاروا تجاهل نصحي والرضوخ لهمزات نوّاب الماكر، فإني آمر سبعة من أتباعي بأن يصدوا قواتهم في عار وخزي وأن يبددوا آمالهم.‘

فامتطى السيد خالدار الجواد وخرج بحراسة أربعة من إخوانه المنتخبين وسار وسط السوق وتفوه بالإنذار الذي كلف به بجلال وعظمة، ولم يقتنع بذلك بل زاد عليه من عنده بما رأى أنه يزيد في قوة الدعوة التي وجهها. فكان ينادي ويقول: ’الويل لكم إذا احتقرتم دعوتنا، فأحذركم أن ارتفاع صوتي وحده كاف لأن يجعل أسوار قلعتكم تهتز وأما قوة ساعدي فتقدر أن تسقط مقاومة بواباتها.‘

________________________
(1) الإمام الحسين.
(2) عاشر محرم الذي استشهد فيه الإمام الحسين.

ودوّى صوته الجهوري كالبوق وأوقع الرعب في قلوب الذين سمعوه. وبصوت واحد أعلن الأهالي الخائفون ترك أسلحتهم والامتناع عن إيذاء وحيد، وقالوا إنهم سيعترفون بنسبه ويحترموه.

وإذ وجد نوّاب نفسه مقيدًا بامتناع الأهالي امتناعًا صريحًا عن محاربة وحيد، أقنعهم أن يوجهوا هجومهم ضد محمد عبد الله وأصحابه الذين تمركزوا بجوار القلعة. وشجع اصطدام الجمعين الحاكم للخروج من مخبئه وتوجيه القوات المحاصَرة للانضمام إلى القوات التي جمعها نواب. وكان محمد عبد الله قد ابتدأ في تشتيت الغوغاء الذين جاءوا من المدينة لمحاربته، إذ بدأت النيران تطلق عليه فجأة من قبل الجنود بأمر الحاكم. وأصابت رصاصة قدمه وطرحته أرضًا. كما جرح عدد من أصحابه، فأسرع أخوه ونقله إلى مكان آمن، ثم نقله من هناك بناء على طلبه إلى منزل وحيد.

وتبعه العدو إلى ذلك المنزل وهو عازم على الإمساك به وذبحه. وكان ضجيج الغوغاء حول المنزل قد أجبر وحيدًا أن يأمر الملاّ محمد رضا المنشادي، وهو من أكثر علماء منشاد ثقافة، والذي كان قد خلع عمامته وتطوع ليكون بوابًا لمنزل وحيد، بالخروج مع ستة من أصحابه يختارهم بنفسه، ويشتت القوات المهاجمة. وأمرهم قائلاً: ’على كل واحد منكم أن يرفع صوته مناديًا "الله أكبر" سبعًا وفي السابعة ينقض مع إخوانه في اللحظة نفسها وسط مهاجميكم.‘

وكان الملاّ محمد رضا، الذي سماه حضرة بهاءالله "رضي الروح"، قد قام هو وأصحابه لتنفيذ الأوامر التي أمر بها وحيد. ومع أن أصحابه كانوا ضعفاء الأجسام ولا خبرة لهم بحمل السيوف، إلا أن أرواحهم كانت مشتعلة بإيمان جعلهم رعبًا لأعدائهم. وقتل في ذلك اليوم سبعة من أشد الأعداء، وهو اليوم السابع والعشرون من شهر جمادى الآخرة(1) ومما رواه الملاّ محمد رضا: ’ما كدنا نشتت شمل الأعداء ونرجع إلى منزل وحيد حتى وجدنا محمد عبد الله مطروحًا أمامنا وهو جريح، فحملناه إلى رئيسنا وتناول

________________________
(1) 10 مايو/أيار سنة 1850م.

معه الطعام الذي زود به. وفيما بعد أُخذ إلى مخبأ مكث فيه حتى التأم جرحه. وفي النهاية أمسك به العدو وذبحه.‘

وفي تلك الليلة نفسها، أمر وحيد أصحابه أن يتفرقوا ويحرصوا على اليقظة لضمان سلامتهم. ونصح زوجته أن تنتقل بأولادها وجميع متعلقاتها إلى منزل والدها وأن تترك وراءها متعلقاته الشخصية. وقال لها: ’لقد شيدت هذا المنزل الفخم حتى يهدم أخيرًا في سبيل أمر الله، والأثاث الفاخر الذي زينته به كنت قد اشتريته بأمل أن أتمكن يومًا ما من التضحية به لأجل محبوبي. وإذ ذاك يعلم الحبيب والعدو أن الذي ملك هذا المنزل كان ذا موهبة عظيمة مما لا عدل لها وأن ليس لأي منزل أرضي، مهما كان مزينًا أو مؤثثًا بفخامة، أي قيمة في نظره، وأنه هبط في نظره ليصبح مثل كومة من العظام البالية التي لا تلتفت إليها سوى كلاب الأرض. ولعل هذه الدلائل القاطعة على روح التضحية تفتح أعين هؤلاء القوم الضالين وتوحي في ضمائرهم الرغبة في تتبع خطوات من ظهرت فيه هذه الروح.‘

وفي جنح الليلة ذاتها قام وحيد وجمع كتابات حضرة الباب التي كانت بعهدته والكتابات التي حررها وأنشأها بنفسه ووكل بها خادمه حسن وأمره أن يأخذها إلى محل خارج بوابة المدينة عند مفترق الطريق إلى جهة مهريز. وأمره أن ينتظر وصوله، وحذّره من أن يخالف تعليماته لأنه لن يقدر إذ ذاك أن يقابله مرة أخرى.

وما كاد حسن يمتطي الجواد مستعدًا للرحيل حتى سمع أصوات الحرس الذين كانوا واقفين على بوابات القلعة. وخوفًا من أن يقبضوا عليه ويضعوا أيديهم على الوثائق الثمينة التي في حيازته، عزم على أن يتجه اتجاهًا آخر غير الذي أمره سيده بالسير فيه، وبينما هو يسير خلف القلعة عرفه الحراس وأطلقوا النار على جواده وقبضوا عليه.

وفي تلك الأثناء استعد وحيد لمبارحة يزد. وترك ابنيه السيد إسماعيل والسيد علي محمد، في رعاية والدتهم وأخذ معه نجليه الآخرين وهما السيد أحمد والسيد مهدي واثنين من أصحابه كانا قاطنين في يزد وسألاه الإذن في مرافقته في سفره، وكان الأول اسمه غلام رضا وهو رجل مقدام والآخر غلام رضا كوﭼك، كان ماهرًا في الرماية.

واختار وحيد الطريق نفسه الذي أخبر خادمه أن ينتظره فيه. ولما وصل إلى المكان المعهود بسلام تعجب لما لم يجده، فعلم وحيد أنه لم يتخذ الطريق المذكور وأن العدو قبض عليه، فتحسر على نصيبه وتذكر أيضًا عمل محمد عبد الله ومخالفته أمره والضرر الذي أصابه. وسمعوا لاحقًا أنه في صباح ذلك اليوم نفسه قتل حسن بإطلاقه من فوهة مدفع(1) وأن شخصًا آخر اسمه ميرزا حسن، والذي كان إمامًا تقيًا في أحد أحياء يزد، قبض عليه أيضًا بعد ساعة وأصابه ما أصاب رفيقه.

وأهاج رحيل وحيد من يزد حماس الأعداء للقيام بجهود جديدة، فانطلقوا إلى منزله ونهبوا ممتلكاته ودمروه تدميرًا تامًا.(2) وفي تلك الأثناء كان وحيد يسير في الطريق المؤدي إلى نيريز، ومع أنه كان غير معتاد على المشي فإنه قطع في تلك الليلة سبعة فراسخ، وكان صاحباه يحملان أولاده في بعض مراحل الطريق. وفي اليوم الثاني خبأ نفسه في تجاويف جبل مجاور، ولما علم بمجيئه أخوه الذي كان قاطنًا في تلك الجهة والذي يكنّ له محبة أكيدة، أرسل إليه ما يحتاج من المؤونة سرًا. وفي اليوم نفسه وصلت إلى تلك القرية مجموعة من الخيالة يعملون في خدمة الحاكم وكانوا يقتفون أثر وحيد وفتشوا منزل أخيه الذي شكّوا أنه مختبئ فيه، ونهبوا جزءًا كبيرًا من ممتلكاته. ولما لم يجدوه هناك عادوا أدراجهم إلى يزد.

واستمر وحيد في تلك الأثناء سائرًا بين الجبال حتى وصل إلى منطقة بوانات فارس. وكان أكثر أهاليها من أتباعه المعجبين به فاعتنقوا الأمر، وكان من بينهم الحاج السيد

________________________

(1) ولما ربطوه وظهره مقابل المدفع، قال لهم: ’أرجوكم أن تربطوني ووجهي إلى المدفع حتى أراه يطلق أمامي.‘ فدهش لذلك طاقم المدفع وجميع الواقفين الذين كانوا ينظرونه وتعجبوا من ثباته وفرحه. والحق يقال أن شخصًا يكون مبتهجًا في ظروف مثل هذه يكون شديد الإيمان والثبات. ("التاريخ الجديد"، الصفحة 117)

(2) ’ولما رأى آقا خان هروب الثائر، تنفس الصعداء. كما شعر أن تتبع الهاربين ربما يؤدي إلى بعض الصعوبات وأن الأوفق والأسلم والأنفع والأقل خطرًا هو تعذيب البابيين، أو الذين يعتقد أنهم بابيون، على أن يكونوا من الأغنياء الذين يبقون في هذه المدينة. فبحث عن أغناهم وأمر بقتلهم وصادر ممتلكاتهم، وبذلك انتقم لدينه الذي أسيء إليه، ولو أن ذلك لم يعنيه كثيرًا لولا أن ذلك الفعل قد ملأ خزائنه بالأموال، مما أسرّه جدًا.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 391)

إسماعيل المعروف وهو شيخ الإسلام في بوانات. وكثير من هؤلاء الأتباع رافقوه في سفره إلى قرية فَسا التي أبى أهلها أن يعتنقوا الأمر الذي دعاهم إليه.

وكان كلما استراح في طريقه، وبعد أن ينزل عن جواده، يكون أول ما يخطر بباله الذهاب إلى المسجد المجاور ليدعو الناس إلى الاستماع إليه وهو يعلن بشائر مجيء اليوم الجديد. ويطلع فوق المنبر متناسيًا مشاق الطريق وبلا وجل ولا خوف يعلن للناس طبيعة الأمر الذي قام على ترويجه. وكان إذا نجح في محل في جذب بعض النفوس إليه ممن يركن إليهم في ترويج الأمر، يمكث معهم ليلة واحدة ثم يفارقهم، وإلا فإنه يستمر في سيره ولا يعاشرهم بعدها. وكان كثيرًا ما يقول: ’إذا مررت بقرية ولم أستشم من أهلها نفحات الإيمان فلا أستسيغ تناول طعامها ولا شرب مائها.‘

ولما وصل إلى قرية رونيز في إقليم فسا، قرر وحيد أن يمكث فيها بضعة أيام. واجتهد في أن يشعل نار محبة الله في قلوب الذين وجد فيهم استعدادًا لسماع ندائه. ولما وصلت أخبار وصوله إلى نيريز خرج أهالي چنار سوخته بأسرهم مسرعين للقائه. وانضم إليهم غيرهم من سكان المناطق الأخرى مدفوعين بمحبتهم وإعجابهم به، وكان خروج أغلب الأهالي من نيريز ليلاً خوفًا من أن حاكمها زين العابدين خان يعارض زيارتهم. ومن حي ﭼنار سوخته وحده خرج أكثر من مائة تلميذ يتقدمهم رئيسهم الحاج الشيخ عبد العلي، نسيب وحيد، وقاضٍ مشهور في ذلك الإقليم، وانضم هؤلاء جميعًا إلى أعيان نيريز لتحية الزائر المنتظر قبل وصوله إلى بلدتهم. وبرز من بينهم الملاّ عبد الحسين، وهو رجل مشهور بالعلم والتقوى وعمره ثمانون عامًا؛ والملاّ باقر إمام حيّ ﭼنار سوخته؛ وميرزا حسين قطب، الكدخدا المسؤول عن منطقة السوق، ومعه كل أقاربه؛ وميرزا أبو القاسم، أحد أقارب الحاكم؛ والحاج محمد تقي الذي ذكره حضرة بهاءالله في "سورة أيوب"، ومعه نسيبه ميرزا نَوْراء وميرزا علي رضا وكلاهما من حي "السادات".(1)

________________________

(1) ’وقابل أهل نيريز السيد يحيى بكل حماس ولم يمض يومان على وصوله حتى جاءت جموع كثيرة من الناس لرؤيته ليلاً خوفًا من الحكومة (كما ذكر في كتاب فارس نامه) وقدموا خدماتهم لأنهم كانوا يكرهون حكامهم. واعتنق الأمر آخرون، خاصة في حي ﭼنار سوخته. وبسبب إيمانهم جلبوا آخرين حتى عد طلاب ↓

وذهب جميع هؤلاء، بعضهم ليلاً وبعضهم نهارًا، لغاية قرية رونيز ليرحبوا بالزائر ويؤكدوا له إخلاصهم الذي لا يتزعزع. ورغمًا من أن حضرة الباب كتب لوحًا عامًا خصيصًا للذين اعتنقوا الأمر حديثًا في نيريز، إلا أنهم بقوا غير عالمين بأحكامه وأصوله، وكانت مأمورية وحيد أن ينيرهم فيما يختص بأهدافه الحقيقية وخصائصه المميزة.

وما كاد زين العابدين خان الحاكم، يعلم بالخروج الكبير للأهالي للترحيب بوحيد، حتى أرسل رسولاً خاصًا ليلحق بالذين خرجوا ويحذرهم بعزمه على قتل كل من يصر على الطاعة لوحيد، وبأنه سوف يسبي نساءهم ويصادر أملاكهم. فلم يعبأ أحد ممن خرج

صورة 158
منظر عام لنيريز

_____________________________________________________________________

ﭼنار سوخته من البابيين فكانوا نحو مائة، وكان شيخهم الحاج الشيخ عبد العلي والد زوجة السيد يحيى، والمرحوم الآخوند الملاّ عبد الحسين رجل متقدم في العمر ومتفقه في الدين، والآخوند الملاّ باقر پيش نماز (إمام) محلة الملاّ علي الكاتب، ورجل آخر اسمه الملاّ علي مع إخوته الأربعة، والكدخدا، وريش سفيد وآخرون من حي البازار مثل المرحوم المشهدي ميرزا حسين الملقب ﺑ"القطب" مع جميع أسرته وأقاربه، وميرزا أبو القاسم ابن أخي الحاكم! والحاج محمد تقي الملقب ﺑ"أيوب" وصهره ميرزا حسين، وكثيرون غيرهم من حي "السادات"، وابن ميرزا نوراء، وميرزا علي رضا ابن ميرزا حسين وابن الحاج علي وغير هؤلاء. وكلهم آمنوا، بعضهم وهم خائفون في الظلام والآخرون دون أي خوف وفي وضح النهار.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 293)

بإنذاره، وبالعكس اشتد تمسكهم وولاؤهم لرئيسهم. وكان احتقارهم لرسول الحاكم وعزمهم الذي لا ينثني قد ملأ الحاكم رعبًا وتحيرًا. وخوفًا من أن يثور عليه الناس نقل مسكنه إلى قرية قُطْرِه حيث سكنه الأصلي، وتبعد عن نيريز مسافة ثمانية فراسخ. واختار هذه القرية لوجود قلعة كبيرة قربها يمكنه أن يلجأ إليها في حالة الخطر. كما كان متأكدًا بأن الأهالي يجيدون فن الرماية ويعول عليهم وقت الحاجة للدفاع عنه.

وفي تلك الأثناء كان وحيد قد ترك رونيز إلى ضريح "پير مراد" الذي يقع خارج قرية اصطهبنات. ورغمًا عن الأمر الذي أصدره علماء تلك المدينة بمنعه من الدخول إليها، فإن نحو عشرين نفرًا من السكان خرجوا لمقابلته والترحيب به ورافقوه لغاية نيريز. ولما وصلوا في صدر نهار يوم الخامس عشر من رجب(1) كان أول شيء عمله وحيد بمجرد وصوله إلى موطنه الأصلي في حي چنار سوخته، أن ذهب إلى المسجد، حتى قبل دخوله منزله، وخطب في الجموع وطلب منهم أن يعترفوا برسالة حضرة الباب، ولم يصبر بل صعد المنبر وهو في ملابسه التي تحمل غبار السفر، وتكلم بفصاحة وبلاغة جعلت الحاضرين متكهربين من ندائه.(2) وكانوا لا يقلون عن ألف نسمة وجميعهم من أهالي حي چنار سوخته ونحو خمسمائة من باقي أحياء نيريز، واكتظوا في المسجد وأجابوا بصوت واحد ’سمعنا وأطعنا!‘ بحماس مندفع وجاءوا إليه زرافات يؤكدون له ولاءهم وشكرهم وهم فرحون مستبشرون. وكانت الخطابة قد أثرت في الناس تأثيرًا سحريًا لم يعهد مثله أهالي نيريز من قبل. وبعد أن هدأت أصوات الحاضرين وسكنت ضوضاؤهم، قال لهم

________________________
(1) 27 مايو/أيار سنة 1850م.

(2) ’واعتلى المنبر وصاح قائلاً: ’’ألست أنا الذي اعتبرتموه دائمًا راعيكم ومرشدكم؟ ألم تعتمدون دائمًا على تعليمي في توجيه ضمائركم على درب الخلاص؟ ألست أنا الذي كنتم دائمًا تطيعون نصائحي؟ فماذا جرى الآن حتى اعتبرتموني عدوًا لكم ولدينكم؟ فهل حرمت عليكم شيئًا مباحًا أو حللت لكم حرامًا؟ فما هو الكفر الذي أتيته؟ هل أرشدتكم إلى خطأ قط؟ والآن لأني أقول لكم الحق ولأني بكل صدق أردت أن أعلمكم، لذلك يظلمونني ويعذبونني! إن قلبي يحترق حبًا لكم، وها أنتم تضطهدونني! تذكروا! تذكروا جيدًا بأن كل من يحزنني فإنه يحزن جدّي محمد رسول الله الماجد وكل من يأتي لمساعدتي يساعده أيضًا. فباسم كل ما هو مقدس عندكم ليتبعني كل من يحب الرسول!‘‘ ‘("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 395)

صورة 159
منزل وحيد في نيريز

وحيد: ’إن غرضي الوحيد من المجيء لنيريز هو إعلان أمر الله وإني أشكره تعالى وأمجده لأنه مكنني أن أنفث في قلوبكم رسالته. فلا داعي أن أطيل سكني بعد ذلك بينكم لأني أخشى أن الحاكم يسيء معاملتكم من أجلي. وربما طلب تعزيزات من شيراز ليخرب بيوتكم ويسومكم سوء العذاب.‘ فأجابوه بنفس واحد: ’إننا مستعدون ومتوكلون على الله وهو يرحمنا إذا نزلت بنا النوائب ولا نرغب في أن نفترق عنك بهذه السرعة ولما نمض معك زمنًا طويلاً.‘

وما كادوا ينطقون بهذه الكلمات حتى تشابكت أيدي الرجال والنساء وساروا جميعًا بوحيد إلى منزله منتصرين وأخذ منهم الانجذاب كل مأخذ وساد بينهم الوله والسرور واكتظوا حوله بالتهليل والتكبير وحرسوه لغاية مدخل منزله.

وكانت الأيام القلائل التي وافق وحيد على قضائها في نيريز قد صرف جلها في المسجد، وبفصاحته المعهودة ودون تحفظ استمر في بيان التعاليم الأساسية التي تلقاها من مولاه. وشهد كل يوم ازدياد عدد مستمعيه، وظهور دلائل تأثيره العجيب.

صورة 160
قلعة خواجه
صورة 161
غرفة وحيد في القلعة

وما كان قبول الدعوة من الجمهور والتأثير السحري الذي وقعوا فيه بمانع من إثارة عداوة زين العابدين خان الكامنة. فلجأ إلى تدابير جديدة وأمر بحشد جيش بقصد محو الأمر الذي رأى أنه يقوض مركزه سريعًا. وسرعان ما نجح في تجنيد ألف رجل من الخيالة والمشاة مدربين على فن الحرب، ومجهزين بمخزون وافر من العتاد. وكانت خطته ترمي لأخذ وحيد أسيرًا بهجوم مباغت.

ولما علم وحيد بتدابير الحاكم أمر عشرين من الأصحاب، من الذين غادروا اصطهبنات للترحيب به، والذين رافقوه لغاية نيريز، أن يحتلوا قلعة خواجه(1) الواقعة بالقرب من حي چنار سوخته. وعيّن الشيخ هادي ابن الشيخ محسن قائدًا للمجموعة. وحثّ أتباعه القاطنين في ذلك الحيّ أن يحصّنوا البوابات والأبراج والأسوار في تلك القلعة المنيعة.

وفي تلك الأثناء نقل الحاكم مقره الرسمي إلى منزله في حي السوق، ورافقته القوة التي جندها ونزلت في القلعة المجاورة. وكانت أبراجها وأسوارها التي شرع في تحصينها مشرفة على البلدة بأكملها. وبعد أن أجبر السيدَ أبو طالب الكدخدا في ذلك الحيّ، وأحد أصحاب وحيد، أن يُخلي منزله، حصّن سقفه وجعل عليه عددًا من رجاله تحت إمرة محمد علي خان، وأمرهم أن يطلقوا النيران على خصمه. وكان أول من أصيب الملاّ عبد الحسين نفسه، الذي رغمًا عن كبر سنه خرج ماشيًا للترحيب بوحيد. وكان يصلي على سقف منزله إذ أصابته رصاصة في قدمه اليمنى، فنزفت دمًا كثيرًا. وكانت هذه الضربة القاسية قد أثارت عطف وحيد الذي أسرع بكتابة رسالة للمصاب يظهر له فيها حزنه للضرر الذي أصابه ويبشره بأنه مع كبر سنه كان أول من اختاره الله ليعاني في سبيل أمره.

وكان الهجوم المفاجيء قد روع فريقًا من الأصحاب ممن أسرعوا في اعتناق الدعوة قبل أن يدركوا مغزاها بالكامل. فاهتز إيمانهم بحيث فارقوا إخوانهم وخرجوا في جنح الليل وانضموا للأعداء. وما أن علم وحيد بتصرفهم حتى قام في الفجر وركب جواده ومعه عدد من أصحابه وخرج إلى قلعة خواجه وجعلها مقره.

________________________
(1) تكتب خواجه وتلفظ خاجه.

وكان وصوله إليها إيذانًا بهجوم جديد عليه. فأرسل زين العابدين خان فورًا أخاه الأكبر المدعو علي أصغر خان ومعه ألف رجل مسلحين ومدربين على القتال وطلب إليه أن يحاصر تلك القلعة التي التجأ إليها اثنان وسبعون من الأصحاب. وعند طلوع الشمس خرجت جماعة منهم بتعليمات من وحيد وبسرعة فائقة شتتوا شمل المحاصِرين.

ولم يلق حتفه في تلك الموقعة من الأصحاب سوى ثلاثة، أولهم تاج الدين، رجل مشهور بالجرأة يشتغل بتجارة الكلاه الصوفية، والثاني زينِل، ابن إسكندر، وكان يمتهن الزراعة، والثالث ميرزا أبو القاسم وكان رجلاً بارزًا مميزًا.

وأثارت هذه الهزيمة التامة الفجائية مخاوف الأمير فيروز ميرزا، نصرة الدولة، حاكم شيراز، الذي أصدر أوامره المشددة باستئصال شأفة الذين احتلوا القلعة، فأرسل زين العابدين خان، أحد أتباع الأمير إلى وحيد وطلب منه بإلحاح أن يترك نيريز لتوتر العلاقات بينهما، أملاً في إطفاء نيران الهياج التي اشتعلت، بأسرع وقت ممكن. وكان جواب وحيد للرسول: ’أخبره بأن نجلَي ومعهما اثنان من خدمهما، هم كل من معي، فإذا كان وجودي في هذه المدينة هو سبب الهياج فإني مستعد للرحيل. ولماذا منع الماء عنا وحرض رجاله على محاصرتنا والهجوم علينا بدلاً من الترحيب اللائق بأحد من سلالة الرسول؟ فإذا أصر على إنكار حقنا في ضروريات الحياة، فإني أحذره بأن سبعة من أصحابي ممن يعدهم أحقر الرجال سوف يوقعون بقواته المجتمعة شر هزيمة.‘

ولما رأى وحيد أن زين العابدين خان تجاهل تحذيره، أمر أتباعه أن يخرجوا من القلعة وأن يعاقبوا المهاجمين. ومع أنهم كانوا شبانًا فقد نجحوا بشجاعتهم المدهشة وإيمانهم الثابت في هزيمة الجيش المدرب مع أنهم لم يكونوا معتادين على الحرب والقتال. وقتل في المعركة علي أصغر خان وأُسر ابناه وتقهقر زين العابدين خان بكل امتهان، مع الذين نجوا من قواته المشتتة إلى قرية قُطْرِه، وأخبروا الأمير بخطورة الموقف وتوسلوا إليه أن يرسل تعزيزات في الحال، وأكدوا خاصة في طلب المدفعية الثقيلة وفيلق كبير من المشاة والخيالة.

ومن جهته، لما رأى وحيد عزم الأعداء على إبادتهم أمر بتقوية دفاعات القلعة وبإنشاء خزان للماء داخل أسوارها، وبنصب الخيام التي غنموها خارج بواباتها. وفي ذلك اليوم

توزعت الواجبات والوظائف على بعض الأصحاب. فعيّن الكربلائي ميرزا محمد بوابًا للقلعة، والشيخ يوسف أمينًا على الأموال، والكربلائي محمد ابن شمس الدين مشرفًا على الحدائق الملاصقة للقلعة وحصونها، وميرزا أحمد خال علي السردار ضابطًا في برج الطاحون المعروف باسم چنار الكائن بجوار القلعة، والشيخ "گيوه كَش" جلاّدًا، وميرزا محمد جعفر ابن عم زين العابدين كاتبًا للوقائع، وميرزا فضل الله قارئًا لتلك الوقائع، والمشهدي تقي البقال سجانًا، والحاج محمد تقي صاحب السجل، وغلام رضا اليزدي قائدًا للقوات. وزيادة عن الاثنين وسبعين من الأصحاب الذين كانوا داخل القلعة والذين رافقوه من اصطهبنات إلى نيريز، أضاف وحيد إليهم عددًا من سكان حي السوق مع فريق من أقاربه بناء على طلب السيد جعفر اليزدي العالم الشهير والشيخ عبد العلي نسيبه.

وجدد زين العابدين خان توسله إلى الأمير بإرسال تعزيزات كافية وبسرعة، وأرفق هذه المرة عريضته بمبلغ خمسة آلاف تومان كهدية شخصية منه. وأعطى الخطاب لأحد أصحابه الموثوق بهم وهو الملاّ باقر، وسمح له أن يمتطي جواده الخاص وأمره أن يسلم الخطاب إلى الأمير شخصيًا. وكان قد ائتمنه لبسالته وطلاقة لسانه ولباقته. فسار الملاّ باقر في طريق شبه مهجور وبعد مسيرة يوم وصل إلى محل يدعى "هذشتك" وفي جواره قلعة تنزل قربها القبائل الرحل وتنصب فيها خيامها.

فنزل الملاّ باقر عند إحدى هذه الخيام. وبينما كان يتكلم مع أصحابها، وصل الحاج السيد إسماعيل شيخ الإسلام في بوانات، وكان قد استأذن من وحيد ليذهب إلى قريته في مأمورية عاجلة والعودة توًا إلى نيريز. وبعد تناول الغداء، وجد أن جوادًا مطّهمًا مربوطًا بحبال إحدى الخيام المجاورة. ولما علم أنه مملوك لأحد أصحاب زين العابدين خان، الذي حضر من نيريز وكان في طريقه إلى شيراز، ذهب الحاج السيد إسماعيل، الذي كان معروفًا بالشجاعة الفذّة، إلى تلك الخيمة فورًا وامتطى الجواد واستلّ سيفه وخاطب صاحب الخيمة الذي كان يحادثه الملاّ باقر، قائلاً بحزم: ’اقبض على هذا النذل الذي هرب من وجه صاحب الزمان، واربط يديه وسلمه لي.‘ وإذ خاف أصحاب الخيمة من كلمات الحاج الملاّ إسماعيل ونبرته، أطاعوا الأمر حالاً. وقيدوا يديه وسلموه الحبل الذي

أوثقوه به، فأخذه وهمز جواده باتجاه نيريز مجبرًا أسيره على اللحاق به. وعلى مسافة فرسخين من تلك البلدة، وصل إلى قرية رستاق، فسلّم الأسير إلى الكدخدا المدعو الحاج أكبر، وألح عليه أن يأخذه إلى محضر وحيد. ولما جيء به أمامه، سأله وحيد عن غايته من السفر إلى شيراز، فصرّح له عن خبره تفصيليًا، ومع أن وحيد كان يميل إلى العفو عنه، إلا أن أصحابه قتلوه أخيرًا نظرًا لموقفه من وحيد.

ولم يكلّ عزم زين العابدين خان في طلب النجدة من شيراز، والتجأ هذه المرة إلى الأمير وتوسل إليه في أن يضاعف مجهوداته لإبادة ما يعتبره أعظم خطر على سلامة مقاطعته. ولما كان غير قانع بالتماسه الملح، أرسل إلى شيراز عددًا من رجاله المؤتمنين حاملين هدايا للأمير أملاً في إقناعه بالإسراع في العمل. وزيادة في التأكد من نجاح مجهوداته، أرسل خطابات إلى أشهر علماء شيراز وساداتها، وفيها شوّه مقاصد وحيد وأسهب في ذكر أعماله الثورية وحرضهم على التوسط لدى الأمير والتوسل إليه للإسراع بإرسال التعزيزات.

فأجاب الأمير طلبهم حالاً وأصدر تعليمات لعبد الله خان شجاع المُلك، أن يقوم توًا إلى نيريز ويصحب معه فوجَي الهمداني و"سيلا خوري" يرأسهم عدد من الضباط وما يلزم من المدفعية. وأرسل التعليمات إلى مندوبه في نيريز بأن يجند كل الرجال القادرين من المناطق المجاورة بما فيها قرى اصطهبنات وإيرج وپنج معادن وقطره وبَشْنِه ودِهْچاه ومُشْكان ورستاق. وأضاف إلى هؤلاء قبيلة ويسبكلريّه، الذين أمرهم أن ينضموا إلى جيش زين العابدين خان.

وفجأة حاصرت جموع لا حصر لها القلعة التي كان وحيد وأصحابه محاصرين فيها. فابتدأ في حفر خنادق حولها وإقامة المتاريس عليها.(1) وما كاد هذا العمل يتم، حتى أُطلقت النيران نحوهم وجاءت طلقة نارية أصابت جواد أحد أتباع وحيد الذي كان يحرس

________________________

(1) ’ويؤكد مؤلف "ناسخ التواريخ" دون أي أسف أن القوات الملكية كانت رديئة التدريب غير تواقة للقتال، وإذ لم تتوفر أي نية للهجوم فقد أنشأوا معسكرًا وشرعوا في تحصينه فورًا.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 401)

بوابة القلعة، وتبعتها أخرى اخترقت البرج الموجود فوق البوابة. وأثناء القصف أطلق أحد الأحباء طلقًا ناريًا على الضابط المكلف بالمدفعية، فأرداه قتيلاً على الفور. وبذلك وقف إطلاق المدافع حالاً ورجع المهاجمون واختبأوا داخل خنادقهم. وفي تلك الليلة لم يخرج أحد من المحاصرين ولا المهاجمين من مخابئهم.

وفي الليلة الثانية استدعى وحيد من يدعى غلام رضا اليزدي وأمره مع أربعة عشر من الأصحاب أن يخرجوا من القلعة ويطردوا العدو. وكان أكثر المأمورين بذلك من المتقدمين في السن، ولم يكن أحد يظن أنهم قادرون على مثل هذه المحاربة الشديدة. وكان بينهم صانع أحذية لا يقل عمره عن تسعين عامًا، وتظهر منه قوة وحماس لا تظهر عادة من الشبان، وباقي الأربعة عشر كانوا شبانًا لم يتعودوا مخاطر غارة كتلك. فلم يكن العمر بالأمر المهم عند هؤلاء الأبطال الذي وطّدوا العزم بإيمان لا يتزعزع على إعلاء شأن الأمر. وأمرهم الرئيس أن ينتشروا بمجرد خروجهم من القلعة ويهجموا وسط الأعداء وهم يصيحون بنفس واحد "الله أكبر".

وما كادت الإشارة تُعطى إليهم حتى قاموا وامتطوا جيادهم وتسلحوا ببنادقهم وخرجوا من بوابة القلعة وهجموا وسط أعدائهم غير مبالين بقنابل المدافع ولا رصاص البنادق الهاطلة فوق رؤوسهم. ودامت هذه المعركة الفجائية نحوًا من ثماني ساعات وكان يظهر من هذه الفئة الباسلة شهامة ومهارة أدهشت المخضرمين من جند الأعداء. وكانت النجدات تأتي من نيريز تباعًا ومن القلاع المحيطة، لمساعدة الفئة الصغيرة التي قاومت ببسالة قوات الأعداء المجتمعة بما يعادل جيشًا كاملاً. وإذ امتد نطاق الحرب والقتال، ارتفعت من كل الجهات أصوات نساء نيريز من أعالي المنازل مهللات بالشجاعة والإقدام الذي ظهر بكل جلاء من الأحباء، واختلطت هذه الأصوات المرتفعة من النسوة بزمجرة المدافع وصيحات "الله أكبر" المرتفعة من الأصحاب وسط الهياج والضجيج. وزادت جلبة النسوة وجرأتهن وشدة إيمانهن في توهين عزائم الأعداء وشلت حركاتهم حتى خلا معسكرهم، وكان منظره موحشًا مهجورًا عندما رجع المنصورون إلى القلعة ظافرين حاملين معهم الجرحى وما يربو على الستين شهيدًا، كان من بينهم:

1. غلام رضا اليزدي (يحمل نفس اسم رئيس قوات الأصحاب)،

2. أخو غلام رضا اليزدي،
3. علي، ابن خير الله،
4. خواجه حسين القنّاد، ابن خواجه غني،
5. أصغر، ابن الملاّ مهدي،
6. الكربلائي عبد الكريم،
7. حسين، ابن المشهدي محمد،
8. زين العابدين، ابن المشهدي باقر الصباغ،
9. الملاّ جعفر المُذهِّب،
10. عبد الله، ابن الملاّ موسى،
11. محمد، ابن المشهدي رجب الحدّاد،

12. الكربلائي حسن، ابن الكربلائي شمس الدين ملكي دوز،

13. الكربلائي ميرزا محمد زارع،
14. الكربلائي باقر كفش دوز،
15. ميرزا أحمد، ابن ميرزا حسين كاشي ساز،
16. الملاّ حسن، ابن الملاّ عبد الله،
17. المشهدي الحاج محمد،
18. أبو طالب، ابن مير أحمد نخود بريز،
19. أكبر، ابن محمد عاشور،
20. تقي اليزدي،
21. الملاّ علي، ابن الملاّ جعفر،
22. الكربلائي ميرزا حسين،
23. حسين خان، ابن شريف،
24. الكربلائي قربان،
25. خواجه كاظم، ابن خواجه علي،
26. آقا، ابن الحاج علي،
27. ميرزا نوراء ابن ميرزا معينا.

وكانت تلك الهزيمة التامة قد أقنعت زين العابدين خان وأصحابه بعدم فائدة أي مجهود يبذل لإخضاع أعدائه بطريق المحاربة المباشرة.(1) فالتجأوا أخيرًا إلى طرق أخرى، كما حصل لجيش الأمير مهدي قلي ميرزا الذي عجز عن إخضاع خصومه في الميدان بطريقة مشروعة. فلجأ إلى الخداع والغش وهي أسلحة الجبناء التي بها غلبوا عدوهم الذي لا يقهر. ومع أن جميع موارد البلاد كانت تحت يد زين العابدين خان فضلاً عن مساعدة وإمداد حاكم فارس وأهالي البلاد جميعهم، فقد عجز عن قهر الأحباء الذين كانوا في نظره فئة ضئيلة غير متدربة على القتال ومحتقرة. وقد علم وتأكد هو وجميع المحاربين أن وراء الأكمة وخلف أسوار القلعة رجالاً أبسالاً أشداء لا يمكن لأي قوة إخضاعهم أو هزيمتهم.

فلم يروا بُدًا من رفع صوت السلام وقصدوا من ذلك المكر الدنيء أن يخدعوا هذه القلوب الطاهرة الشريفة. فأوقفوا كافة الأعمال العدوانية لبضعة أيام وأرسلوا بعد ذلك خطابًا مهيبًا يناشدون فيه المحاصَرين ويتلخص فيما يلي: ’إننا كنا لغاية الآن جاهلين حقيقة معتقدكم، ولذلك سمحنا للأشرار ليحملونا على أن نعتقد أن كل واحد منكم خرق حرمة تعاليم الإسلام. فقمنا ضدكم وأردنا إبادة دينكم. وفي الأيام الأخيرة علمنا أن حركتكم لم يقصد بها أي غرض سياسي وأنه لا يوجد بينكم من يرغب في قلب أساسات الدولة. وقد اقتنعنا بحقيقة أن تعاليمكم لا تحوي خلافًا كبيرًا لتعاليم الإسلام. وأن كل ما تريدون إعلانه على ما يبدو هو أن شخصًا ظهر وأن كلماته موحى بها وأن أقواله صادقة وأنه يجب على جميع أتباع الإسلام أن يعترفوا به ويعضدوه. ونحن لا يمكننا أن نقتنع

________________________

(1) ومع أن الخسائر في هذه المرة كانت متكافئة تقريبًا، إلا أن القوات الملكية كانت مرتعبة. فإن الأمر طال وربما انتهى بالارتباك للمسلمين، فاضطر هؤلاء إلى الركون للحيلة. ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 403)

بصدق هذه المزاعم إلا إذا ركنتم إلى وضع ثقتكم فينا وأن تقبلوا أن يخرج إلينا مندوبون منكم خارج القلعة ويقابلونا في هذا المعسكر حيث يمكننا في ظرف بضعة أيام أن نتحقق من صدق دعواكم. فإذا أثبتم بأنكم قادرون على بيان صدق دعاوى دينكم فإننا نحن أيضًا مستعدون أن نقبلها لأننا لسنا أعداء الحقيقة ولا يريد أحد منا أن ينكرها. ونحن كنا دائمًا نعترف لرئيسكم أنه من أكبر وأقدر أنصار الإسلام وننظر إليه كمثال وعلم للهداية. وهذا القرآن الذي نختم عليه بأختامنا هو أكبر شاهد على صدق مرادنا. فليحكم ذلك الكتاب المقدس إذا كانت دعواكم صادقة أم باطلة. ولينزل غضب الله ورسوله علينا إذا كنا نقصد أن نخدعكم. وإن قبولكم لدعوتنا يخلص جيشًا بأكمله من الدمار، وأما رفضكم فيجعله في موقف الشك والحذر. ونحن نقسم لكم أنه بمجرد أن نقتنع بصدق دعوتكم فإننا سنظهر من الحماس والإخلاص ما ظهر مثله منكم بهذه الكيفية العجيبة. فيكون إذ ذاك أحباؤكم أحباءنا وأعداؤكم أعداءنا، ونقسم لكم أن الذي يأمر به رئيسكم فإننا نطيعه. وبالعكس إذا لم نقتنع بصحة دعوتكم فإننا نعدكم أننا لا نتدخل في رجوعكم سالمين إلى القلعة ونعاود القتال معكم. ونحن نتوسل إليكم أن لا تسفكوا دمًا بعد ذلك قبل أن تجتهدوا في إثبات صحة أمركم.‘

فتسلّم وحيد القرآن الكريم بكل احترام وقبّله بإخلاص. وقال: ’إن الساعة الموعودة لنا قد دقت وقبولنا لدعوتهم يجعلهم يشعرون بسفالة خدعتهم.‘ وزاد على ذلك وهو يخاطب أصحابه: ’ومع إني عالم تمامًا بخداعهم ولكني أرى من واجبي أن أجيب طلبهم وانتهز الفرصة في أن أكشف مرة أخرى عن حقائق الأمر المحبوب أمامهم.‘ وأمرهم أن يستمروا في أداء واجباتهم وأن لا يثقوا مطلقًا بما يدّعيه أعداؤهم. وفضلاً عن ذلك أمرهم أن يوقفوا كافة النشاطات القتالية إلى أن يخطرهم.

وبهذه الكلمات ودّع أصحابه وخرج مع خمسة من أتباعه، منهم الملاّ علي المذهِّب والخائن الحاج السيد عابد إلى معسكر العدو. وخرج زين العابدين خان مصحوبًا بشجاع الملك وكل موظفيه لمقابلته والترحيب به. وقابلوه بالإكرام ورافقوه إلى خيمة أعدت خصيصًا له وقدّموه لباقي الضباط، وجلس على كرسي وباقي الجماعة واقفون أمامه

صورة 162
صورة 163
المسجد الجامع في نيريز

عدا زين العابدين خان وشجاع الملك وضابط آخر وهم الذين أمرهم بالجلوس. وكانت الكلمات التي خاطبهم بها من القوة والتأثير بحيث لا يسع أي إنسان متحجر القلب إلا أن يشعر بها. وقد خلّد حضرة بهاءالله تلك الكلمات النبيلة لاحقًا في "سورة الصبر" وبيّن مقاصدها. ومما قاله وحيد: ’إني حضرت لكم مسلحًا بالشهادة التي عهد بها إليّ ربي، ألست من سلالة رسول الله؟ فلماذا تقومون إذًا لذبحي ولأي سبب حكمتم عليّ بالقتل ورفضتم الاعتراف بالحقوق التي يقتضيها شرف انتسابي؟‘

وكان جلال هيئته وفصاحته المؤثرة قد أدهشا سامعيه. وبقي ضيفًا عندهم ثلاثة أيام وثلاث ليال، استضافوه بالإكرام واظهروا له منتهى الاحترام. وكانوا يأتمّون به في صلاتهم ويستمعون لمواعظه. ومع أنهم في الظاهر كانوا يبدون التسليم لإرادته، إلا أنهم كانوا في سرّهم يخططون لقتله ويتآمرون لإبادة باقي أصحابه. وكانوا يعلمون حق العلم أنهم لو أوقعوا عليه أقل ضرر بينما أصحابه متحصنون خلف أسوار قلعتهم، فإنهم يعرضون أنفسهم لخطر أكبر من الخطر الذي اضطروا لمواجهته. وكانوا يرتعدون من هياج نسائهم وانتقامهن كخوفهم من شجاعة رجالهم ومهارتهم. وقد علموا أن جميع قوات الجيوش ومواردها عاجزة عن إخضاع فئة من الشبان القاصرين والشيوخ المسنين. بحيث لا يمكن إحراز النصر عليهم نصرًا مؤكدًا بغير تدبير الحيلة. وكان الخوف الذي ملأ القلوب منهم ناتجًا عن أن زين العابدين خان كان دائمًا يحرّض أتباعه حتى لا تخبو نيران الحقد التي أشعلها في صدورهم. وقد أثارت نصائح وحيد المتكررة مخاوف زين العابدين خان في أن ينجح وحيد بسحر كلماته المعهود بتحويل ولائهم إلى خصم بمثل هذه البلاغة.

وقرر زين العابدين خان وأصحابه أخيرًا الطلب من وحيد أن يرسل بخط يده رسالة لأصحابه المقيمين في القلعة يخبرهم فيها بحصول تسوية للخلاف القائم بين الفريقين وإنهم مخيرون إما أن ينضموا إليه في المعسكر أو يرجعوا إلى منازلهم. ومع أن وحيد كان مترددًا في قبول مثل هذا الطلب، إلا أنه اضطر أخيرًا للموافقة. وفي رسالة أخرى أرسلها سرًا أخبر أصحابه أن لا ينخدعوا بتدابير الأعداء، وحذّرهم من انطلاء الخدعة

عليهم. وأعطى الخطابين إلى الحاج السيد عابد وأمره أن يمزق الخطاب الأول ويرسل الثاني إلى أصحابه. وأمره أن يطلب من الشجعان منهم أن يخرجوا في جنح الليل ويشتتوا شمل العدو.

وما كاد الحاج السيد عابد يستلم هذه التعليمات حتى سلّمها بكل غدر وخيانة إلى زين العابدين خان، فحرضه على إقناع المقيمين في القلعة، باسم رئيسهم، بالتفرق ووعده بمكافأة عظيمة. فسلّم الرسول الخائن الخطاب الأول إلى أصحاب وحيد وأخبرهم أن رئيسهم استطاع أن يقنع الجيش بأكمله باعتناق الأمر، وأنه بناءً على ذلك ينصحهم أن يرحلوا عائدين إلى مَواطنهم.

ومع إنهم تحيروا من هذه الرسالة، إلا أنهم شعروا أنفسهم عاجزين من مخالفة أمر وحيد الواضح. فتفرقوا مترددين وتركوا الدفاعات دون حراسة. وإطاعة لأمر رئيسهم الكتابي طرح الكثيرون أسلحتهم ووجهوا خطاهم نحو نيريز.

ولما كان زين العابدين خان متوقعًا إخلاء القلعة على الفور، أرسل كتيبة من جنده ليمنعوا الأصحاب من دخول المدينة. وسرعان ما حاصرتهم جموع من الرجال المسلحين الذين كانوا يُرسلون من مقر الجيش باستمرار. وإذ رأوا أنفسهم محاصرين جاهدوا بكل قواهم أن يصدوا الهجوم وأن يدخلوا المسجد الجامع بأسرع ما يمكن. وبما كان مع بعضهم من السيوف والبنادق، وبالعصي والحجارة التي كانت مع بعضهم الآخر، اجتهدوا في اقتحام المدينة. وارتفع مرة أخرى نداء "الله أكبر" أقوى وأشد من المرات السابقة. وكانت النتيجة أن استشهد بعضهم أثناء قيامهم باختراق صفوف أعدائهم الخونة. وتمكن الباقون أخيرًا من الالتجاء إلى المسجد، رغم جراحهم ومهاجمتهم من قبل التعزيزات الجديدة التي انقضت عليهم من كل جانب.

وفي هذه الأثناء كان الملاّ حسن، سيء السمعة، وهو ابن الملاّ محمد علي، أحد ضباط جيش زين العابدين خان، قد سبق أخصامه وكمن لهم مختبئًا في إحدى منارات ذلك المسجد، منتظرًا ورود الهاربين. فلما اقترب الأصحاب المشتتين إلى المسجد أطلق عليهم الرصاص. فعرفه أحد الأصحاب وهو الملاّ حسين، ورفع نداء "الله أكبر" وصعد

إلى أعلى المنارة وصوب بندقيته على ذلك الضابط الجبان وألقاه أرضًا. وأخذه رفاقه إلى مكان آمن حيث تمكن فيه من إشفاء جرحه.

ولما لم يجد الأصحاب حماية في المسجد اضطروا إلى الاختباء في أي مكان يجدوه حتى يتحققوا من مصير رئيسهم. وأول ما خطر لهم بعد أن خُدعوا أن يبحثوا عنه وينفذوا ما يأمرهم به. إلا أنهم لم يتمكنوا من معرفة ما حصل له، وخشوا أن يكون قد قتل.

وفي تلك الأثناء كان زين العابدين خان وضباطه قد تشجعوا بسبب تشتت الأصحاب، وجهدوا بكل وسيلة ليكتشفوا طريقة تخلصهم من اليمين التي حلفوها وأن يشرعوا في ذبح خصمهم الرئيس دون عائق. فسعوا بحيلة ما ليضعوا جانبًا وعودهم المقدسة، ويسرعوا في تحقيق غرضهم الذي طالما تمنّوه. وأثناء مداولاتهم، قام رجل اسمه عباس قلي خان، وهو مشهور بالقسوة والغلظة، وأكد لزملائه أنه إذا كان اليمين الذي حلفوه يزعجهم، فإنه مستعد لتنفيذ ما لا يقدرون عليه، لأنه لم يشترك معهم في هذا الحلف. وانفجر في سورة غضبه قائلاً: ’إني أقدر أن أقبض على أي شخص أجده مذنبًا بمخالفة شريعة البلاد وأن أقتله.‘ ونادى في الحال جميع الذين قُتل أقاربهم لتنفيذ حكم القتل الذي صدر على وحيد. فكان أول من تقدم الملاّ رضا، الذي قبض شيخ الإسلام في بوانات على أخيه الملاّ باقر، وتقدم آخر اسمه صَفَر كان أخوه شعبان قد قُتل، ثم ثالث يدعى آقا خان كان أبوه علي أصغر خان، وهو أخو زين العابدين خان الأكبر، قد لاقى المصير نفسه.

وفي لهفتهم لتنفيذ اقتراح عباس قلي خان، جاء هؤلاء الثلاثة وطرحوا العمامة من رأس وحيد ولفوها على رقبته وأوثقوه بجواد وسحبوه بهذه الكيفية المهينة في الشوارع.(1) وتذكّر الناس إذ رأوا وقوع هذه الإهانات على وحيد، المأساة التي وقعت بالإمام الحسين الذي ترك جسده للعدو الطاغي وداسته سنابك جمهرة من الخيالة دون رحمة. وكانت

________________________

(1) ’وأمسك بحزام يحيى الأخضر الذي هو علامة الشرف ولفه على عنقه وعقده وسحبه على الأرض. ثم جاء صفر أخو شعبان الذي قتل في الحرب ثم آقا جان ابن علي أصغر خان، أخو زين العابدين خان. وكان المسلمون قد أهاجهم المنظر فرجموا المسكين بالأحجار وضربوه حتى الموت. ثم قطعوا رأسه وسلخوا الجلد وحشوه تبنًا، ثم أرسلوه كتذكار نصر إلى شيراز.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 406)

صورة 164
موقع استشهاد الأصحاب في نيريز
صورة 165
قبور الشهداء في نيريز

النسوة في نيريز، المتهيجات بصرخات النصر التي أطلقها عدو قاتل، قد اجتمعن حول جثمان وحيد من كل جانب. وأخذن في الرقص والفرح وسط دق الطبول والدفوف وعبّرن بحرية عن تعصبهن. وكن يهزأن بالكلمات التي كان يتفوه بها وحيد في لحظة ألمه، وهي الكلمات التي نطق بها الإمام الحسين في ظروف مماثلة: ’أنت تعلم يا محبوبي إني تركت العالم لأجلك، واتكلت عليك وحدك. ولا صبر لي إلا أن ألتحق بك لأن جمال وجهك قد انكشف لعينَي. وإنك تشهد تدابير عدوي الشرير التي حاكها ضدي. ولكن لا سبيل أبدًا لأن أخضع لرغبته أو أكرس ولائي له.‘

وبهذه الكيفية انتهت حياة نبيلة باسلة. وكانت حياته الساطعة المفعمة بالحوادث والتي امتازت بسعة العلم(1) والشهامة الفائقة وروح التضحية نادرة المثال جديرة أن تتوج بمثل هذا النهاية الذي أتم به شهادته.(2) وكان انطفاء تلك الحياة إشارة انطلاق للهجوم الشرس والفتك الذريع الذي وقع على كل من تعلق به واعتقد في دينه. وتخصص لهذا العمل الفظيع أكثر من خمسة آلاف رجل. فكانوا يقبضون على الرجال ويكبلون أيديهم بالأغلال ويعذبونهم ثم أخيرًا يذبحونهم. وكذلك كانوا يأسرون النساء والأطفال ويعاملونهم بوحشية لا يجرؤ قلم على وصفها. وصودرت أملاكهم ونهبت بيوتهم وخربت. وأُحرقت قلعة خواجه وسويت بالأرض. وأرسل أغلب الرجال إلى شيراز مكبلين بالحديد، وفي معظم الحالات قتلوهم هناك أشنع

________________________

(1) وتبعًا لشهادة حضرة عبدالبهاء، كان يحفظ غيبًا ما لا يقل عن ثلاثين ألف حديث. (من مخطوطة بعنوان "الشهداء البهائيين")

(2) يشير إليه بهاءالله في "الإيقان" (الصفحة 189) بقوله: "كان وحيد عصره وفريد زمانه." وقال الباب في "الدلائل السبعة" عنه: "وانظر أيضًا عدد اسم الله (السيد يحيى) فهذا الرجل كان يعيش ساكنًا طاهرًا على شأن لم ينكر أحد علمه ومعرفته وتقواه من الأحباب أو الأعداء وكان الكل يجلونه ويعظمونه لعلومه وعلو كعبه في الفلسفة، فانظر في تفسير سورة الكوثر وغيرها من الكتب التي حررت من أجله التي تشهد بارتفاع درجته وقرب منزلته عند الله." ("الدلائل السبعة" ترجمة نقولاس، الصفحتان 54-55)

قتل.(1) وأما الذين كان زين العابدين خان يرجو الانتفاع ماديًا منهم، فكان يطرحهم في سراديب مظلمة تحت الأرض وبعد الحصول منهم على المبالغ اللازمة يسلمهم لأيدي الجلادين الذين يرتكبون بحقهم أقسى أنواع التعذيب.(2) وكانوا في البداية يعرضونهم في شوارع نيريز في موكب ثم يعذبونهم بكل ما في الاستطاعة ليسلبوا منهم كل ما لم يمكن سلبه أولاً، حتى إذا أشبعوا مطامعهم يقتلونهم بأفظع كيفية. واستخدموا في التعذيب كل الوسائل المتاحة ليطفئوا غليل قلوبهم بالانتقام. فكانوا

________________________

(1) ’وقد خنقوا السيد يحيى بشاله. وكان الذي خنقه أخًا لرجلين قتلا في الحصار، وأما باقي البابيين فقتلوا بيد الجلاد. وقد ملئت رؤوس الضحايا بالتبن ونقلوا هذه التذكارات معهم للدلالة على شجاعتهم وغلظتهم ومعهم نحوًا من أربعين أو خمسين امرأة بابية وصبي غض كأسرى، وبهذه الكيفية رجع الجيش المنصور إلى شيراز. وكان يوم دخولهم في تلك المدينة يوم فرح عام واصطف الأسرى في الشوارع والأسواق ثم أحضروا أمام الأمير فيروز ميرزا الذي كان يتناول الطعام في منزل صيفي يسمى كلاهي فرنجي. وتلا مِهْر علي خان وميرزا نعيم والضباط تفاصيل نصرهم وهنأهم الحاضرون وامتدحوهم لأجل ذلك. وأما النسوة الأسارى فوضعوهن في خان خارج بوابة إصفهان وحبسوهن فيه. وأما كيفية معاملتهن من قبل من قبض عليهن فتترك للتخمين. ("مقالة سائح"، الحاشية ﻫ، الصفحة 190) وحكى شاهد عيان قال: ’إن ذلك اليوم كان يوم فرح عام وسرور، وكان الأهالي قد انتشروا في المزارع المجاورة ومعهم طعامهم وكثير منهم شربوا زجاجات كاملة من الخمر سرًا. وكان الجو يدوي بأصوات الموسيقى والأغاني من العازفين وعلت أصوات الضحك من بنات الهوى، وكانت الأسواق مزينة بالأعلام والفرح في كل مكان. وحدث فجأة سكوت عام. ورأى الناس 32 جملاً محملاً كل واحد بامرأة مسجونة أو طفل مربوطين ومطروحين على السرج كالحزم، وحولهم عساكر يحملون حرابًا طويلة على كل منها رأس من رؤوس البابيين المقتولين في نيريز. وكانت بشاعة المنظر قد هالت أهالي شيراز بشدة وعاد كل منهم حزينًا إلى منزله. ومر الموكب البشع مخترقًا الأسواق لغاية سراي الحاكم. وكان المذكور جالسًا في حديقته وقد اجتمع في كشكه المسمى كلاهي فرنجي كل من كان في شيراز من الرجال الأغنياء والمشاهير. وقد سكتت الموسيقى وتوقفت الراقصات عن رقصهن. ثم ابتدأ محمد علي خان وميرزا نعيم من أصاغر رؤساء قبيلة اشتركت في الميدان يشرحان تفاصيل أعمالهم الباسلة وهم يسمّون المساجين واحدًا بعد الآخر.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 407)

(2) ’ويظهر، ويا للأسف، أن هذا السفك للدماء لم يكن كافيًا لإشباع ضغينة الأعداء وشرهم. فكان ميرزا زين العابدين خان يظن أنه مهدد بالرغبة في الانتقام من الذين قُهروا، فلم يترك البقية الباقية من الطائفة على راحة. وتأصّل حقده الذي لا ينتهي طالما بقي على قيد الحياة. ولم يرسل إلى شيراز سوى الفقراء من الطائفة، أما الأغنياء فقد حبسهم عنده وأعطاهم زين العابدين خان لشخص مكلف بتسييرهم في شوارع المدينة وضربهم. وكان أهالي نيريز يجدون في ذلك تسلية، وكانوا يصلبون البابيين بأربعة مسامير، وكل شخص يأتي بدوره ليسخر منهم. وكانوا يضعون قصبات محروقة تحت أظافر أولئك الشهداء المساكين ويحمون الحديد حتى يكون أحمرًا كالنار ويكوونهم أو يمنعونهم من الأكل والشرب ويخزمون أنوفهم ويجرّونهم بالحبال كما يجرّ الدب.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 408)

صورة 166
مرقد وحيد في نيريز

يكوونهم بالنار ويقلعون أظافرهم ويجلدونهم ويخزمون أنوفهم ويدخلون فيها حبالاً يجرونهم بها ويدقون المسامير في أيديهم وأقدامهم بهذه الكيفية الشنيعة ويسيرون بهم عبر الشوارع عرضة لاحتقار الجمهور وسخريته.

وكان من بين هؤلاء السيد جعفر اليزدي، الذي كان في الأيام السابقة ذا نفوذ كبير محترمًا من الناس. وكان احترامه بالغًا الحد الذي جعل زين العابدين خان يفضله على نفسه ويعامله بالاحترام الفائق. ولكنه أمر بأن تُداس عمامته وتُلقى في النار. وإذ تجرد من سيماء الشرف سيّروه في الطريق أمام أعين الجمهور الذي مشى أمامه وصب عليه الإهانة والسخرية.(1)

________________________

(1) ’وقد رأى آقا سيد جعفر اليزدي الجلادين يحرقون عمامته ثم أداروه على الأبواب ليطلب نقود الصدقة من كل بيت.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 408)

وضحية أخرى لطغيانهم كان الحاج محمد تقي، الذي اشتهر في السابق بأمانته وإنصافه بحيث كانت آراؤه تعتبر في نظر كافة قضاة المحكمة بمثابة الكلمة النهائية والقول الفصل. وقد جرّدوا مثل هذا الرجل العظيم المحترم من ثيابه في الشتاء القارس ورموه في بركة وجلدوه بقسوة. وكذلك كان نصيب كل من السيد جعفر والشيخ عبد العلي، وهو والد زوجة وحيد وأكبر علماء نيريز وقاض من أشهر قضاة الشرع، ومعهما السيد حسين أحد أعيان مدينة نيريز. فبينما كان هؤلاء يرتعدون من شدة البرد، استؤجر رعاع الناس ليسلطوا على أجسادهم المرتجفة أنواع العذاب المخيفة. وكم من فقير ذهب ليحصل على أجر لمثل هذا العمل، رفض تنفيذه لمّا علم بكيفيته ورفض أن يأخذ أجره وعاد مشمئزًا ساخطًا.(1) وكانت شهادة وحيد في الثامن عشر من شهر شعبان سنة 1266 هجرية.(2) وبعد عشرة أيام أطلق الرصاص على حضرة الباب في تبريز.

***
________________________

(1) ’وجاءوا بآقا سيد أبو طالب، الذي كان غنيًا، مكبلاً بالسلاسل وأرسله حاكم نيريز إلى "معدن"، ودسّ له السم بمعرفة الحاج ميرزا ناصر وهو الذي في شيراز أمر الباب بتقبيل يد الشيخ أبو تراب. وفضّلت اثنتان من نساء البابية رمي أنفسهن في بئر حتى لا يؤخذن أسيرات، فهلكن فيه. ولرغبة بعض البابيين في أن يقع العقاب اللائق بميرزا زين العابدين خان، ذهبوا إلى طهران واشتكوا إلى جلالة السلطان الفظائع التي ارتكبها. ولما كانوا على بُعد محطتين أو ثلاث من طهران، نزلوا للاستراحة إذ قابلتهم قافلة من أهل شيراز فقبضت عليهم وأوقفتهم جميعًا عدا شخص يدعى زين العابدين الذي وصل إلى طهران. وأما الآخرون فقد أُرسلوا إلى شيراز وأمر الأمير بقتلهم. وهكذا قتل لأجل الدين كل من الكربلائي أبو الحسن، وكان يعمل في تجارة الفخار، وآقا شيخ هادي عم زوجة وحيد، وميرزا علي، وأبو القاسم ابن الحاج زينا، وأكبر ابن عابد، وميرزا حسن وأخوه ميرزا بابا.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 408-409)

(2) 29 يونيو/حزيران سنة 1850م.
الفصل الثالث والعشرون
استشهاد حضرة الباب
صورة 167
ميرزا تقي خان، أمير النظام

وانتشرت أخبار المأساة التي ختمت بها المراحل الأخيرة من ملحمة نيريز في طول إيران وعرضها وأشعلت حماسًا مروعًا في قلوب الذين سمعوها. وأوقعت أرباب السلطة في العاصمة في حيرة وارتباك وحركت فيهم عِرق اليأس. وكان أمير النظام، رئيس وزراء ناصر الدين شاه، مرعوبًا بالذات من مظاهر الإرادة والعزيمة المتكررة ومن قوة الإيمان الشديدة التي لا تتزعزع. ومع أن الجيوش الملوكية انتصرت في كل مكان وأفنت أتباع الملاّ حسين

ووحيد وقضت عليهم قتلاً وذبحًا على يد الضباط، ولكن في نظر حكام طهران الماكرين كان من الواضح الجلي أن الروح المحركة لهذه البسالة النادرة بقيت غير مقهورة وشوكتها لم تكسر بعد. وكان ولاء الأحباء المنتشرين هنا وهناك لقائدهم المسجون لا يزال باقيًا على حاله ولم يتزعزع. ولم ينجح أي تدبير في إضعاف ذلك الولاء أو تقويض دعائم ذلك الإيمان، رغمًا عن الخسائر الفادحة التي تكبدوها. وعلى العكس بدلاً من إخمادها زادت تلك الروح اشتعالاً ونفوذًا أكثر من ذي قبل. وإذ أغضبتها ذكرى الفظاعات التي ارتكبت بحقهم، زاد تعلق تلك العصبة المضطهدة بعقيدتها ورنت إلى رئيسها بشوق أعظم وأمل أقوى.(1) وفضلاً عن ذلك كان الذي أوقد تلك الشعلة وغذّى تلك الروح لا يزال حيًا، ورغمًا عن وحدته وعزلته كان قادرًا على نشر نفوذه لأقصى حد. وكانت الرقابة المستمرة عاجزة عن صد الطوفان الذي غمر وجه البلاد بأسرها، والذي كان منبعه المتدفق يتمثل في استمرار وجود حضرة الباب. فلينطفئ ذلك النور، وليحسر ذلك الينبوع من منبعه، بذلك يجف الطوفان الذي جلب هذا القدر من الدمار في أذياله. كانت هذه هي الأفكار التي سيطرت على رئيس وزراء ناصر الدين شاه. ولذلك رأى هذا الوزير الأحمق أن أحسن وسيلة لمحو العار الذي ظن أنه لحق ببلاده، هي قتل حضرة الباب.(2)

________________________

(1) ’ومن المعروف جيدًا أن البابيين موجودون في كل مكان. وكانت إيران مليئة بهم، فلو أن أصحاب العقول المهتمة بالمسائل المبهمة، والفلاسفة الباحثين عن وصفات جديدة، والنفوس المضطربة الملتاعة من مظالم الأوقات الراهنة ونقائصها – لو أن كل هؤلاء رحبوا بحرارة بفكرة نظم عالمي جديد بكل دلائله وبشائره، لكان من الصواب الاعتقاد بأن أصحاب العقول المضطربة المتحمسة للعمل، وحتى مع احتمال دفع ثمن الفشل، ومعهم أيضًا أصحاب القلوب الجريئة الثورية، وأخيرًا الرجال الجسورون، يمكن لكل هؤلاء أن يتم إغراؤهم بسهولة لينضموا إلى الجيش الذي أظهر نفسه مزودًا جيدًا بالجند المؤهل لتشكيل كتائب مهيبة. وكان ميرزا تقي خان يلعن ذلك اللين الذي كان سلفه الحاج ميرزا آقاسي سائرًا عليه حتى تفاقم الخطر وأدرك أنه لا يصح بحال استمرار هذه الخطة الضعيفة، وصمم أن يقطع الضرر من جذوره. واقتنع أن المنبع هو نفس الباب، المحرك الأوحد لجميع العقائد التي أثارت الناس، فقرر أن يزيل ذلك المسبب.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 210-211)

(2) ’وفي هذه الأثناء عزم الحاج ميرزا تقي أن يقطع رأس الوحش المتمثل بالبابية وظن أنه بعد تلك الضربة التي ستمحو مثير ذلك الاضطراب وتسكت نداءه، فإن النظام القديم سيعود مجددًا. ولكن مع كل ذلك، فإن ما حصل كان ظاهرة غريبة في حكومة آسيوية، وخاصة مع رجل دولة مثل ميرزا تقي خان، الذي كان بإمكانه ↓

ولما عزم على إجراء ذلك، دعا مستشاريه وشاركهم بمخاوفه وآماله، وأطلعهم على طبيعة تدابيره. وقال لهم: ’انظروا إلى تلك الزوبعة التي أثارها أمر السيد الباب في قلوب مواطني بلادي! فلا يمكن في نظري إعادة الاطمئنان والسلام إلى هذه البلاد الذاهلة إلا إعدامه علنًا. فمن ذا الذي يجرؤ على حصر عدد القوات التي هلكت في خضم معارك الشيخ الطبرسي؟ ومن يقدر أن يحصر الجهود التي بذلت في سبيل تحقيق ذلك النصر؟ فما كادت تنخمد الفتنة التي اشتعلت في مازندران حتى اندلعت نيران فتنة أخرى في مقاطعة فارس جرّت في أذيالها عذابًا كبيرًا لشعبي. وما كدنا ننجح في إخماد الثورة التي اجتاحت الجنوب حتى اشتعل اضطراب آخر في الشمال ابتلع في دوامته زنجان وما

_____________________________________________________________________

إطلاق العنان لقسوته الزائدة دون تأنيب ضمير. فلم يأمر هذا الوزير بإعدام المصلح! واعتقد بأن أنجع وسيلة للقضاء عليه هي في تدميره معنويًا، وأن يأتي به من عزلته في چهريق، حيث أحاطت برأسه هالة من المعاناة والقداسة والعلم والبلاغة جعلته يشع كالشمس، وأن يعرضه أمام الناس كما هو –أو كما ظن هو- ورأى أن ذلك أفضل وسيلة لتجريده من نفوذه هي في تدمير سمعته ومكانته. فكان يصوره كدجال بذيء، وحالم واهن لا يملك الشجاعة الكافية لإدارة الحملات الجريئة لدعاته الثلاثة، ناهيك عن التخطيط لها، أو الاشتراك فيها بنفسه. وظن أن إحضار رجل مثله إلى طهران ليواجه أقدر المحاورين من علماء المسلمين، سيؤدي به إلى الاستسلام المهين. وظن أن نفوذه سيتلاشى بطريقة أسرع مما لو قضى عليه جسديًا وتركت ذكراه في مخيلة الناس شبحًا من التفوق يرسخه الموت. فتقرر إحضاره إلى طهران مكبلاً بالحديد في طريقه إليها أمام أنظار العموم بغاية الذلة. وأن يتناقش مع الملاّوات في كل مكان، فيسكتوه كلما زادت جرأته، وأن يشغلوه لفترة قصيرة بلقاءات غير متكافئة يكون الخاسر فيها بالتأكيد كما يكون في السابق مدحورًا كسير الفؤاد. والذي أرادوا أن يفقدوه شجاعته كان أسدًا سعوا لربطه بسلسلة وخلع مخالبه وأنيابه ليرمى للكلاب ليظهروا للناس كيف تغلبوا عليه. ومتى غلب مرة فلا يهم بعد ذلك أمره. ولم يكن ذلك التدبير خاليًا من المنطق، ولكنه اعتمد على مقدمات لم تثبت بتاتًا. فلا يكفي التصور بأن الباب افتقر للشجاعة والثبات، بل كان من الضروري لهم التأكد بأنه كذلك. ولكن مسلكه في قلعة چهريق لم يدل على ذلك. وكان دائم التعبد والعمل، وحلمه لا يخبو. وكان الذين يقابلونه يخضعون، رغمًا عنهم، لتأثير وجهه الساحر وخلقه وكلامه، وحتى حراسه لم ينجوا من ذلك التأثير. وشعر حضرته بدنو أجله وكان يشير إلى ذلك مرارًا كفكرة ليست مألوفة فحسب بل محببة أيضًا. وافترض للحظة أنه لو سحب في شوارع إيران، فهل يبقى على شجاعته؟ وافترض أنه لا يُظهر غرورًا ولا جزعًا بل يسمو فوق محنه ومصائبه؟ وماذا لو نجح في إرباك العلماء والحاذقين والبلغاء والمجتهدين الذين استدعوه للمحاكمة؟ وافترض أنه سيبقى أكثر من أي وقت مضى ذلك السيد الباب بالنسبة لأتباعه وكذلك بالنسبة للمحايدين أو حتى لأعدائه؟ وهنا يكمن عنصر المجازفة بالكثير لكسب الكثير، دون شك، ولكن مع احتمال فقدان الكثير أيضًا. وبمقارنة المكاسب مقابل المخاسر بكل عناية وحذر، لم يجرؤوا على المجازفة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحات 211-213)

صورة 168
صورة 169
سبحة حضرة الباب وخاتمه
صورة 170
صورة 171
مصحف حضرة الباب

حولها. فإذا كان بإمكانكم وصف علاج لهذا الداء عرّفوني به، لأن غرضي الوحيد هو ضمان السلام والشرف لأهل بلادي.‘

فلم ينبس الحاضرون ببنت شفة، سوى ميرزا آقا خان النوري وزير الحرب الذي ردّ بأن قتل سيد منفي لأجل أعمال ارتكبها بعض الثائرين عديمي المسؤولية، هو عمل بادي القسوة. واستذكر مثال المرحوم محمد شاه الذي كان نهجه الثابت تجاهل الوشايات الدنيئة التي كان يأتيه بها أعداء هذا السيد باستمرار. فغضب أمير النظام غضبًا شديدًا واحتج قائلاً: ’إن مثل هذه الاعتبارات لا تتفق مع المسألة التي تواجهنا. فإن مصالح الدولة في خطر، ولا نقدر أن نسمح بمثل هذه الانقلابات المتكررة بأي شكل من الأشكال. ألم تُلجئ الضرورة القصوى والحرص على وحدة المملكة إلى قتل الإمام الحسين على يد الذين رأوا مرارًا وتكرارًا أنه موضع المحبة الفائقة من جدّه محمد؟ ألم يرفضوا في مثل تلك الظروف الاعتراف بالحقوق المرتبطة بنسبه الشريف؟ فلا يوجد أي علاج خلاف ما اقترحته لقلع هذا الفساد وإعادة السلام الذي نتوق إليه.‘

وإذ لم يعبأ بنصيحة مستشاره، أصدر أمير النظام أوامره إلى نواب حمزة ميرزا، حاكم آذربيجان باستدعاء حضرة الباب إلى تبريز.(1) وكان نواب حمزة مشهورًا بين أمراء العائلة المالكة، برقّة قلبه ودماثة أخلاقه. وكان أمير النظام حريصًا على كتم غرضه الحقيقي عن الأمير. ولما كان نواب قد ظن أن غرض الوزير هو تمكين السجين من العودة إلى موطنه، أرسل على الفور أحد ضباطه الموثوق بهم، بحراسة مرافقين من الخيالة، مع تعليمات بالتوجه إلى چهريق، حيث كان حضرة الباب لا يزال مسجونًا، والعودة به إلى تبريز. وأوصاهم برعايته وحثّهم على إسداء أقصى حد من الاحترام إليه.

وكان حضرة الباب قبل وصول ذلك الضابط بأربعين يومًا إلى چهريق قد جمع كافة أوراقه والألواح التي بحوزته ووضعها مع مقلمته وأختامه وخواتيمه العقيقية في صندوق

________________________

(1) ’وكان رئيس الوزراء قد استدعى سليمان خان أفشار وطلب منه حمل مرسومه إلى الأمير حمزة ميرزا في تبريز، والذي كان حاكمًا في آذربيجان، لينقل الباب من قلعة چهريق إلى قلعة تبريز وهناك ينتظر الحكم عليه.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 213)

وائتمنها إلى الملاّ باقر، أحد حروف الحيّ. وسلّمه أيضًا خطابًا موجهًا لميرزا أحمد، كاتب وحيه، وأرفق به مفتاح ذلك الصندوق. وحثّه على الاعتناء الشديد بتلك الوديعة، وأكد له قداسة طبيعتها، وأمره أن يخفي محتوياتها عن أي شخص خلاف ميرزا أحمد.

ورحل الملاّ باقر توًا إلى قزوين ووصل تلك المدينة بعد ثمانية عشر يومًا، وعلم أن ميرزا أحمد رحل منها إلى قُم، فتبعه إليها حالاً ووصلها في أواسط شهر شعبان.(1) وكنت وقتها في قُم مع المدعو صادق التبريزي الذي أرسله ميرزا أحمد لإحضاري من زرند. وكنت أقطن في المنزل نفسه مع ميرزا أحمد والذي استأجره في محلة "باغ پنبه". وكان يقطن معنا في تلك الأيام الشيخ عظيم والسيد إسماعيل وعدد غيرهم من الأصحاب. فسلّم الملاّ باقر الوديعة إلى ميرزا أحمد، وهذا فتحها أمامنا بعد إصرار الشيخ عظيم. وقد عجبنا إذ رأينا، بين محتويات الصندوق، لفيفة من ورق أزرق اللون من أرق الأصناف، وقد دبج عليها حضرة الباب بخط يده البديع من طراز الشكسته وعلى شكل مثمّن نحوًا من خمسمائة آية تتألف جميعها من اشتقاقات من كلمة "بهاء".(2) وكانت اللفيفة محفوظة بحالة مثالية ونظافة فائقة ويظهر من أول نظرة عليها أنها صفحة مطبوعة لا مخطوطة. وكان الخط غاية في الدقة والأناقة بحيث إذا نظرت من بُعد تظهر كأنها بقعة واحدة من الحبر على الورق. وقد أخذنا الإعجاب بهذه المخطوطة الفنية التي لا يقدر أي كاتب، باعتقادنا، أن يأتي بمثلها. فأرجعت تلك اللفيفة إلى مكانها في الصندوق الذي أعيد لميرزا أحمد وقد توجه إلى طهران في اليوم نفسه. وقبل ارتحاله أخبرنا أن كل ما يمكنه أن يبوح به عن الرسالة، أن عليه إيصال الأمانة إلى يد "جناب البهاء" في طهران.(3) أما أنا فأمرني ميرزا أحمد أن أتوجه إلى زرند وأنضم إلى والدي الذي كان ينتظر عودتي بشوق وقلق.

________________________
(1) 12 يونيو/حزيران - 11 يوليو/تموز سنة 1850م.

(2) وفي "مقالة سائح" (الصفحة 29، في الترجمة العربية) ذكر الباب ما لا يقل عن ثلثمائة وستين اشتقاقًا من كلمة "بهاء".

(3) ’وكانت أيام الباب على الأرض قد اقتربت من نهايتها. وكان يعلم بحصولها من قبل ولم يحزن لهذا الشعور. وكان قد رتب أحوال منزله، أما الأمور الروحانية للطائفة البابية، فقد أوكلها على غالب الظن إلى حكمة بهاءالله. وهذا هو الأقرب للصواب من الفكرة القائلة بأن صبح الأزل هو الذي عُيّن قيّمًا للكتابات المقدسة ↓

ونفذ ذلك الضابط الأوامر التي وصلته من نواب حمزة ميرزا، وأوصل حضرة الباب إلى تبريز وعامله بمنتهى العناية والاحترام. وكان الأمير قد أمر أحد أصحابه باستضافة حضرته في منزله وأن يعامله بغاية الإجلال. وبعد وصول حضرة الباب بثلاثة أيام، جاء أمر جديد من رئيس الوزراء للأمير أن ينفذ حكم الإعدام بسجينه يوم وصول المرسوم إليه. وأن أي شخص يعلن بأنه تابع له يحكم عليه بالإعدام أيضًا. وصدر الأمر إلى الفوج الأرمني في أروميه بقيادة العقيد سام خان، أن يطلق عليه النار في ساحة الثكنات في تبريز الكائنة وسط المدينة.

وأبدى الأمير رعبه لحامل المرسوم، ميرزا حسن خان وزير النظام، وأخي رئيس الوزراء، وقال له: ’كان الأجدر بالأمير أن يأمرني بإجراء خدمات أعظم ثوابًا من التي يطلبها مني الآن. فالمهمة التي أوكلها بي مهمة لا ينفذها إلا الأنذال. فلست ابن زياد ولا ابن سعد(1) حتى يأمرني أن أذبح سليلاً بريئًا من عترة رسول الله.‘ فأبلغ ميرزا حسن خان أخاه بأقوال الأمير، فأمره أخوه أن ينفذ بنفسه التعليمات التي أصدرها بتمامها دون توانٍ، وحثّ الوزير أخاه قائلاً: ’خلّصنا من هذا الانتظار الذي أثقل قلوبنا وانْهِ هذه المسألة قبل حلول شهر رمضان حتى ندخل فترة الصيام بهدوء البال والخاطر.‘ وحاول ميرزا حسن خان أن يوصل هذه التعليمات الجديدة إلى الأمير ويعلمه بها، ولكنه خاب في مسعاه لأن الأمير رفض مقابلته بالكلية مدعيًا المرض. فلم يمنعه ذلك الرفض وأصدر تعليماته بنقل حضرة الباب فورًا وكل من معه من المنزل الذي كان فيه إلى إحدى غرف الثكنة العسكرية. وكذلك أمر سام خان أن يرسل عشرة من رجاله ليحرسوا مدخل الغرفة التي سيحبس فيها.

وإذ جُرّد من عمامته ونطاقه وهما علامتا نسبه الشريف، أخذوا حضرة الباب مع السيد حسين، كاتب وحيه، إلى حبس جديد آخر كان يعلم حضرته جيدًا بأنه مجرد خطوة أخرى في الطريق المؤدي به إلى تحقيق هدفه الذي وطد عزمه عليه. وشهد ذلك اليوم في

_____________________________________________________________________

ومنظمًا لمرقد الجدث المطهر. وأخشى أن يكون الأزليون على غالب الظن قد حرفوا الكتابات لصالح فئتهم.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحتان 65-66)

(1) اثنان من مضطهدي عترة الرسول ﷺ .

مدينة تبريز هياجًا واضطرابًا شديدين. وبدا كأن الطامة الكبرى التي تظهر يوم القيامة حسب اعتقاد سكانها، قد حلّت عليهم. فلم تشهد تلك المدينة مطلقًا يومًا عبوسًا قمطريرًا أخذ فيه الاضطراب الأهالي بأسرهم، مثل ذلك اليوم الذي أحضر فيه حضرة الباب إلى مكان استشهاده. وإذ اقترب حضرته من ساحة الثكنات، ظهر فجأة شاب اخترق الحشود في لهفته للوصول لحضرته، مقتحمًا الصعاب والمخاطر المترتبة على محاولة كتلك. كان شاحب الوجه، حافي القدمين وأشعث الشعر. وبأنفاس محبوسة بالشوق، وجسد منهك بالتعب، رمى بنفسه على قدمَي حضرة الباب وأمسك بطرف ردائه وتضرع إليه بحرقة قائلاً: ’لا تبعدني عنك يا سيدي. وأينما ذهبت اجعلني أتبعك.‘ فأجابه حضرة الباب: ’يا محمد علي! انهض وتأكد أنك ستكون معي.(1) وغَدًا ستشاهد ما يقضي به الله.‘ واندفع اثنان آخران من الأتباع لم يقدرا أن يكبحا مشاعرهما وأكدا لحضرته ولاءهما الثابت له. فقبض على هذين الشخصين ومعهما ميرزا محمد علي الزنوزي ووضعوا في الزنزانة نفسها التي حبس فيها حضرة الباب والسيد حسين.

وسمعت السيد حسين يقرر الآتي: ’في تلك الليلة أضاء وجه حضرة الباب فرحًا وتهلل سرورًا لم يشاهد على طلعته من قبل. وكان يتكلم معنا بالفرح والانبساط غير مبال بالعاصفة التي أثيرت حوله. واختفى الحزن الذي كان يثقل عليه، وبدا أنه ذاب أمام اليقين بالنصر الآتي. وقال لنا: ’’باكر سيكون يوم استشهادي، فمن منكم يقوم الآن وبيديه ينهي حياتي، فإني أفضل أن أذبح بيد حبيب بدلاً من العدو.‘‘ فانهمرت الدموع من أعيننا عندما سمعناه يعبر عن تلك الرغبة. إلا أننا ارتعنا من فكرة إنهاء حياة ثمينة مثل حياته بأيدينا. وامتنعنا وبقينا ساكتين. ولكن ميرزا محمد علي قام فجأة وأعلن استعداده بإطاعة كل ما يرغبه حضرة الباب. فقُمنا وأجبرناه على هجر تلك الأفكار، فقال حضرة الباب: ’’إن هذا الشاب الذي قام لينفذ رغبتي سوف يحصل معي على الشهادة. وهو الذي أختاره ليشاركني بتاجها.‘‘ ‘

________________________

(1) ’وإنه من عجيب المصادفات أن يذكر كل من علي محمد والمسيح لتلميذيهما نفس العبارة الآتية: "إنك اليوم تكون معي في الفردوس."‘ [إنجيل لوقا، الأصحاح 23، الآية 43]("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحة 185)

وفي الصباح الباكر، أمر ميرزا حسن خان رئيس مأموريه (الفرّاش باشي) أن يأتي بحضرة الباب أمام كبار مجتهدي المدينة ويحصل منهم على التفويض المطلوب لإعدامه.(1) ولما شرع حضرة الباب في مغادرة الثكنات، سأله السيد حسين ماذا يعمل. فنصحه قائلاً: ’لا تظهر إيمانك حتى يمكنك في الوقت المعلوم أن تخبر الذين قدر لهم سماع الأمور التي لا يعرفها أحد سواك.‘ وكان السيد حسين مشتغلاً بمحادثة سرية معه، إذ جاء الفراش باشي فجأة لأخذه، وقطع عليهما الحديث وأمسك السيد حسين من يده وسحبه جانبًا ووبخه بقسوة. فأصدر حضرة الباب تحذيره للفراش باشي قائلاً: ’إلى أن أكون قد أتممت كل ما أريد أن أقوله للسيد حسين، لا تقدر أي قوة أرضية أن تسكتني، ولو تسلح العالم كله ضدي فإنه يكون عاجزًا عن منعي من إتمام أقوالي إلى آخر كلمة.‘ فدهش الفراش باشي من مثل هذا التأكيد الجريء، إلا أنه لم يقل شيئًا، بل أمر السيد حسين أن ينهض ويتبعه.

ولما أدخل ميرزا محمد علي إلى محضر المجتهدين، ألحوا عليه أن يرتد عن إيمانه، نظرًا للمقام الذي يحتله زوج أمه، السيد علي الزنوزي. فصاح قائلاً: ’لا يمكن أبدًا أن أنكر سيدي. فهو جوهر إيماني وهو مقصود عبادتي الحقة. وفيه وجدت جنتي وفي اتّباع شريعته استدللت على سفينة نجاتي.‘ فأرعد الملاّ محمد الممقاني، الذي أُحضر ذلك

________________________

(1) ’وفي الصباح الباكر من اليوم التالي فتح رجال حمزة ميرزا أبواب السجن وأخرجوا الباب مع تلاميذه. وتأكدوا من إحكام السلاسل التي كانت على رقابهم وأيديهم، وزادوا عليها طوقًا حديديًا لكل واحد، وربطوا فيه حبلاً طويلاً يمسك طرفه أحد الفراشين. ولكي يتسنى لكل شخص رؤيتهم والتعرف عليهم، ساروا بهم في شوارع المدينة وأسواقها وانهالوا عليهم ضربًا بالعصي وأهانوهم بالشتائم. فامتلأت الشوارع بالناس وأخذوا يزحمون أكتاف بعضهم البعض لرؤية الرجل الذي كثر حوله الكلام. وانتشر البابيون في كل الجهات وجهدوا في محاولة كسب تعاطف بعض المتفرجين وشفقتهم بما قد يساعدهم على إنقاذ سيدهم. وكان المحايدون والفلاسفة والشيخية والصوفية قد أشاحوا بوجوهم عن الموكب باشمئزاز ورجعوا إلى منازلهم، أو على العكس، وقفوا على أركان الشوارع ينتظرون مرور الباب ونظروا إليه بتعجب وصمت. وأما الغوغاء فكانوا يصيحون ويضجون ويعاملون الشهداء الثلاثة بغاية الغلظة، ولكنهم كانوا مستعدين لتغيير رأيهم عند سنوح الفرصة إذا سمعوا إحساسًا مخالفًا من بعض الناس. وأخيرًا لحق المسلمون المنتصرون سجناءهم بالسباب والشتائم، محاولين اختراق صفوف الحرس ليصفعوا السجناء على وجوههم أو على رؤوسهم. وإذا نجحوا في ذلك أو إذا رمى طفل مقذوفًا فأصاب الباب أو أحد أصحابه في وجهه، كان الحراس والغوغاء يضحكون ويقهقهون.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 220)

صورة 172
أطلال منزل الملاّ محمد الممقاني، مجتهد تبريز

الشاب أمامه، قائلاً: ’اسكت! إن مثل هذه الكلمات تدل على جنونك، وإني أغفر لك هذه الكلمات التي لست مسئولاً عنها.‘ فأجابه قائلاً: ’لست مجنونًا، بل إنك أولى بهذه التهمة يا من حَكم بالقتل على من لا يقل قداسة عن القائم الموعود. فليس مجنونًا من اتّبع دينه ويشتاق أن يسفك دمه في سبيله.‘

ثم أُحضر حضرة الباب بدوره أمام الملاّ محمد الممقاني. وما كاد يتعرف عليه حتى اختطف حكم الإعدام الذي سبق أن كتبه بنفسه، وناوله لخادمه ليسلّمه للفراش باشي، وصاح قائلاً: ’لا حاجة لإحضار السيد الباب أمامي. فإن حكم الإعدام هذا كتبته بيدي منذ أول يوم قابلته في الاجتماع الذي ترأسه ولي العهد. فهو بكل تأكيد الرجل نفسه الذي رأيته في تلك المناسبة، ولم يتنازل منذ ذلك الوقت عن أي شيء من ادعاءاته.‘

ومن هناك أخذوا حضرة الباب إلى منزل ميرزا باقر، ابن ميرزا أحمد الذي خلفه حديثاّ. ولما وصلوا، وجدوا خادمه واقفًا على الباب وبيده حكم إعدام حضرة الباب، وقال لهم: ’لا داعي للدخول، فإن سيدي قد اقتنع بالحكم الذي أصدره والده بالإعدام وهو لا يقدر أن يعمل شيئًا أفضل من الموافقة عليه.‘

واقتفى الملاّ مرتضى قلي، أثر المجتهدين الآخرين وسبق أن كتب شهادته الشخصية، ورفض أن يقابل خصمه اللدود وجهًا لوجه. وما كاد الفراش باشي يحصل على الوثائق الضرورية، حتى سلّم سجينه إلى سام خان وأكد له أنه يمكنه مباشرة تنفيذ مهمته بعد أن حصل على تفويض السلطات المدنية والدينية في المملكة.

وكان السيد حسين قد مكث محبوسًا في نفس الغرفة التي صرف فيها الليلة السابقة مع حضرة الباب، ولما همّوا بوضع ميرزا محمد علي في الغرفة نفسها، انهمرت عيناه بالبكاء وتوسل إليهم أن يسمحوا له بالبقاء مع سيده. فسلّموه إلى سام خان، الذي أُمر بأن ينفذ فيه حكم الإعدام أيضًا، إذا أصر على رفض الارتداد عن دينه.

ووجد سام خان في تلك الأثناء نفسه متأثرًا جدًا من مسلك سجينه ومن المعاملة التي لقيها. وإذ خشي أن يكون عمله جالبًا لغضب الله، شرح موقفه لحضرة الباب قائلاً: ’إني أعتنق الديانة المسيحية ولا أحمل لك أي ضغينة. فإذا كان أمرك الحق، فمكنّي من تحرير نفسي من سفك دمك.‘ فأجاب حضرة الباب: ’اتبع التعليمات التي أعطيت لك، وإذا كان مقصدك صادقًا فإن القدير يمكّنك أن تتخلص من اضطرابك.‘

أمر سام خان رجاله أن يدقّوا مسمارًا في العمود الذي يفصل باب الغرفة التي يشغلها السيد حسين عن مدخل الغرفة المجاورة، وأن يربط حبلان في هذا المسمار ويعلق حضرة الباب وصاحبه، كل واحد في حبل مفترقين.(1) فتوسل ميرزا محمد علي إلى سام خان أن يوضع بطريقة يكون جسده درعًا لجسد حضرة الباب.(2) فعلق أخيرًا بحيث كان

________________________

(1) ’والتزم الباب الصمت، وكان وجهه الشاحب الجميل مزينًا بلحية سوداء وشارب صغير، وهيئته وسلوكه الممتاز ويداه البيضاوان الرقيقتان وملابسه البسيطة فائقة النظافة، كل ذلك أوجب في قلوب الناظرين الرحمة والشفقة.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 378)

(2) ’والبرهان على صدق هذا الرجل النبيل وثباته، ظاهر من خطاب أرسله بخط يده الشريفة إلى أخيه قبل شهادته بثلاثة أيام أو يومين من السجن. والخطاب في حوزة أخي المذكور المدعو الملاّ عبد الله من أهالي تبريز. وكان ذلك ردًا على خطاب الأخ المذكور الذي طلب منه فيه الرجوع عن الإخلاص لهذا الأمر الذي سبب له السجن الذي هو فيه. وفي هذا الخطاب يبسط الشهيد أوجه عذره. ولما كان هو الأخ الأصغر، لذلك حرر الخطاب بالاحترام اللازم. وكان مضمون الخطاب كالآتي: "هو الرحيم. يا من هو قبلتي، أحمد الله إني ↓

رأسه على صدر سيده. وبمجرد ربطهما اصطف جنود الفوج في ثلاثة صفوف، وفي كل صف مائتين وخمسين رجلاً، وأمر كل صف أن يطلق الرصاص بدوره، إلى أن يتم إطلاق رصاص الفوج بأكمله.(1) فارتفع دخان الرصاص من سبعمائة وخمسين بندقية وامتلأ الجو بالدخان حتى أظلمت الظهيرة. وكان قد تجمهر على سقف الثكنات وأسقف المنازل المجاورة، نحو عشرة آلاف شخص شهدوا جميعهم ذلك المشهد المحزن المؤثر.

وما كاد الدخان ينقشع، حتى دهش الجمهور لرؤية منظر لم تصدقه أعينهم. إذ كان رفيق حضرة الباب واقفًا حيًا أمامهم ولم يصب بأي ضرر، وأما حضرة الباب فاختفى من أمامهم دون أن يصاب بأذى. ومع أن الحبال التي ربطا بها تقطعت إربًا بالرصاص، إلا أن جسديهما نجيا من المقذوفات بأعجوبة.(2) وحتى الرداء الذي كان يلبسه ميرزا محمد

_____________________________________________________________________

لم أجد خطأً في أموري، ولكل مجتهد نصيب. أما ما كتبت لي بأن هذا الأمر ليس له آخر، فأي أمر إذًا يكون له آخر؟ وإنّا لم نأسف لوقوعه بل حقًا إنّا عاجزون عن شكر هذه النعمة. وأقصى ما في الأمر هو أن أُذبح في سبيل الله. فوا فرحي لذلك! وإن إرادة الله نافذة عن طريق عباده ولن تقدر التدابير أن تمنع المقدور. فما أراده الله يكون ولا حول ولا قوة إلا بالله. فيا قبلتي أن نهاية هذه الحياة الموت. كل نفس ذائقة الموت. فإذا شاء الله ونفذ المقدور الذي أراده جل وعلا لأجلي، فالله ولي أمر أسرتي وإنك تكون وصيًا عليهم وتعمل معهم بما يرضي الله. فسامحني إذا قصرت في واجب الاحترام أو الحقوق نحو أخ أكبر، واطلب لي الغفران من جميع أهل بيتي واتركني لحراسة الله، فهو نصيبي وهو خير الحافظين!‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 301-303)

(1) ’عندما ينفذ حكم الإعدام بإطلاق الرصاص على شخص في إيران، يربطونه إلى عمود ويجعلون ظهره نحو جهة الجمهور حتى لا يرى إشارة الضابط بإطلاق النار.‘ ("المجلة الآسيوية" سنة 1866م، الجزء 7، الصفحة 377)

(2) ’فارتفعت ضوضاء كبيرة من الجموع المحتشدة في تلك اللحظة. ذلك لأنهم رأوا الباب بعد أن خلص من الوثاق تقدم نحوهم وهو طليق، فأخذ القوم دهشة عميقة لأنهم علموا أنه لم يصب بأي رصاصة، مع أن الحبال التي ربط بها قد تقطعت. فكانت هذه الحادثة معجزة حقيقية، والله يعلم ماذا كان ليحصل لولا إخلاص الفوج المسيحي وهدوئه في تلك الحادثة. وكان جنود الفوج، لأجل إخماد هيجان الجمهور الذي بدا مستعدًا للاعتقاد في صحة الدين الذي أثبت صحته، أظهروا لهم الحبال المتقطعة للدلالة على عدم وقوع معجزة. وفي الوقت نفسه قبضوا على الباب وربطوه مرة أخرى إلى الحائط المشؤوم. وفي هذه المرة نجحت عملية الإعدام، وترسخت العدالة الإسلامية والقانون الديني. ولكن أفراد الجمهور الذين شاهدوا هذا المنظر بأعينهم رجعوا إلى بيوتهم ببطء غير مصدقين أن الباب مجرم. ذلك أن جرمه في نظرهم كان جرمًا في نظر أصحاب القانون، وأن العالم يغض النظر عن تلك الجرائم التي لا يفهمها.‘ ("دين الباب"، لهوارت، الصفحتان 3-4) ’ووقعت حادثة من الغرابة بمكان وهي فريدة في تاريخ البشرية. وهي أن الرصاص قطع ↓

صورة 173

ساحة ثكنة تبريز حيث استشهد حضرة الباب والمكان (x) الذي علّق فيه وأطلق عليه الرصاص

علي، بقي نظيفًا رغم كثافة الدخان. ودوت أصوات الجماهير المتحيرة: ’إن السيد الباب اختفى عن أبصارنا.‘ وبدأوا بحثهم المحموم عنه. وأخيرًا وجدوه جالسًا في الغرفة نفسها التي كان فيها الليلة الماضية مشغولاً بإكمال الحديث الذي كان يريد إكماله والإفاضة به للسيد حسين حينما قطع عليهما. وكانت تظهر على وجهه أمارات الهدوء والسكينة وكان جسمه قد بقي سليمًا من وابل الرصاص الذي صوبه عليه الفوج. وقال حضرة الباب إذ ذاك للفراش باشي: ’إن حديثي مع السيد حسين قد انتهى، فتقدم الآن وكمّل مقصدك.‘ وكان الرجل يرتعش بقوة منعته من معاودة تنفيذ مقصده. وإذ رفض أن يؤدي واجبه، ترك المكان في تلك اللحظة واستعفى من وظيفته. وأخبر بكل ما رآه لأحد جيرانه المدعو ميرزا سيد محسن، أحد أعيان تبريز، الذي بمجرد سماعه للرواية آمن بالأمر.

وفيما بعد كان لي امتياز مقابلة ميرزا سيد محسن هذا، وقد أرشدني إلى مكان استشهاد حضرة الباب ودلّني على الحائط التي علق عليه. وأخذني إلى الغرفة التي وجدوه فيها يتحدث مع السيد حسين، وأراني المكان نفسه الذي كان جالسًا فيه. ورأيتُ المسمار نفسه الذي دقه الأعداء بالحائط وبه ربط الحبل الذي أوثق به.

وكان سام خان أيضًا قد صعق من قوة هذه الظاهرة العظيمة. فأمر رجاله أن يتركوا الثكنات في الحال، وامتنع أن يتدخل منذ ذلك الحين هو أو كتيبته في أي عمل يحصل منه أي ضرر لحضرة الباب. وحلف وهو يترك الساحة إنه لا يستأنف تلك المهمة ولو أدى ذلك لفقدانه حياته.

وما كاد سام خان يغادر المكان، حتى تقدم آقا جان خان الخمسي، وهو عقيد فيما يعرف بحرس الخمسة أو الحرس الناصري، وتطوع لتنفيذ أمر الإعدام. فعلق حضرة الباب وصاحبه مرة أخرى بالكيفية السابقة نفسها وعلى الحائط نفسه، واصطف الفوج صفوفًا

_____________________________________________________________________

الحبال الموثق بها ووقع الباب على قدميه دون أن يصاب بأي خدش.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 375) ’وبأعجوبة خارقة للعادة لم تمس الرصاص سوى الحبال والتي كان الباب موثقًا بها، فتمزقت وأصبح طليقًا. وارتفع الضجيج والصياح من جميع الجهات وما كان يعلم أحد في البداية ماذا حصل.‘ (المصدر السابق، الصفحة 379)

واستعدوا لإطلاق النار عليهما. وعلى العكس من المرة الأولى التي قُطعت فيها الحبال فقط، فقد تمزق الجسدان إربًا هذه المرة واختلطا كتلة واحدة لحمًا وعظمًا.(1) وكانت آخر كلمات حضرة الباب للحشد المحدق، حينما كان الفوج على شفا إطلاق الوابل الأخير: ’أيها الجيل الملتوي، لو آمنتم بي لسار كل واحد منكم على درب هذا الشاب الذي هو في درجة أعلى من معظمكم، يضحي بنفسه في سبيلي. وسيأتي اليوم الذي سوف تعترفون بي فيه وفي ذلك اليوم لا أكون معكم.(2)

________________________

(1) ورد في "مقالة سائح" (الصفحة 31، في الترجمة العربية) ’صار صدر الباب شبكة وجميع أعضائه ممزقة عدا وجهه فإنه لم يصبه إلا خدش خفيف.‘

(2) "والحمد لله الذي أظهر النقطة [حضرة الباب] وفصّل منها علم ما كان وما يكون... إنها هي النقطة التي جعلها الله بحر النور للمخلصين من عباده وكرة النار للمعرضين من خلقه والملحدين من بريته." (لوح الإشراقات، لحضرة بهاءالله، الصفحة 4) "وكذلك في تفسير حرف الهاء تمنى الشهادة لنفسه قائلاً: "كأني سمعت مناديًا ينادي في سرّي افدِ أحب الأشياء إليك في سبيل الله كما فدى الحسين عليه السلام في سبيلي. ولولا كنت ناظرًا بذلك السر الواقع، فوالذي نفسي بيده لو اجتمع ملوك الأرض لن يقدروا أن يأخذوا مني حرفًا، فكيف العبيد الذين ليس لهم شأن بذلك وإنهم مطرودون... ليعلم الكل مقام صبري ورضائي وفدائي في سبيل الله." ("كتاب الإيقان"، الصفحة 196) "ولقد أصدر حضرة الباب الرب الأعلى، روح ما سواه فداه، توقيعًا مخصوصًا لجميع علماء كل بلد، ذكر في توقيع كل منهم مراتب إعراضه وإغماضه بالتفصيل. فاعتبروا يا أولي الأبصار." (المصدر السابق، الصفحة 194) "ولقد ظهرت هذه الذات العلية بقوة زلزلت أركان شرائع الإيرانيين وآدابهم وأحوالهم وأخلاقهم وتقاليدهم... ومهد السبيل لشريعة ودين وقوانين جديدة. ومع أن عظماء الدولة ورؤساء الدين وعموم الأمة عملوا جميعًا على محوه وإعدامه، فإن حضرته قام منفردًا وأوجد حركة اهتزت لها إيران... وربّى بالتربية الإلهية جمًا غفيرًا وأثّر في أفكار الإيرانيين وأخلاقهم وأطوارهم وأحوالهم تأثيرًا عجيبًا." ("مفاوضات عبدالبهاء"، الصفحة 31) ’يعتقد المسيحيون أنه لو أراد السيد المسيح أن ينزل حيًا من الصليب لفعل ذلك بكل سهولة، وأن موته كان برضائه ولأن ذلك كان قدره وليتم النبوات. وكذلك كان الحال بالنسبة للباب، كما يقول البابيون، فبعمله ذاك أوضح طبيعة تعالميه، فقد توفي برضائه لأن بموته نجاة الإنسانية. فمن ذا الذي يحكي لنا الكلمات التي قالها الباب وسط الضوضاء غير المسبوقة التي نجمت عند صعوده عن هذا العالم؟ ومن يمكنه أن يعرف الخواطر التي حركت روحه النبيلة؟ ومن سيكشف لنا أسرار وفاته...؟ وكانت الشناعة والقباحة والشرور والأكاذيب الصادرة عن علماء الدين قد أثارت روحه الطاهرة النقية فشعر بضرورة إصلاح عميق في الأخلاق العامة، ولا بد أنه تردد أكثر من مرة بفكرة الثورة، التي بدت محتومة، بهدف تحرير الأجساد كما العقول من نير التوحش والعنف الذي أثقل كاهل إيران بأسرها لمنفعة أقلية من الأنانيين والمستمتعين، مما يوصم دين الرسول بالعار والخزي. ولا بد أنه كان متحيرًا قلقًا يلزمه ↓

_____________________________________________________________________

الدرع الثلاثي الذي تكلم عنه هوريس لأجل أن يغمس رأسه في بحر من الأوهام والضغائن التي كان عليه أن يتحملها حتى الموت. فحياته مثال من أمثلة الشجاعة المجيدة الذي أعطاها للإنسانية ليتأملوها وهذا برهان عظيم على المحبة التي ملأت قلبه تجاه مواطنيه. فقد ضحى بنفسه لأجل الإنسانية. ولها أسلم جسده وروحه وتحمل الآلام والتعذيب والحرمان والاستشهاد. وختم على معاهدة الأخوة العامة بدمائه. ومثل المسيح، فدى بحياته لإعلان حكم الصلح والسلام والعدالة والمحبة الأخوية. وكان يعرف أكثر من غيره تلك الأخطار التي هددته والتي تتابعت على رأسه. وأمكنه أن يرى بنفسه درجة اليأس التي يمكن أن يصلها التعصب إذا أثير بمكر. ولكن جميع هذه الأمور المنتظرة لم تثنه عن السير في الطريق الذي اعتزم السير فيه رغمًا عن ذلك ولم يكن للخوف أي تأثير على روحه ودخل في ذلك الأتون المتقد وهو في غاية السكون ولم يلتفت إلى الوراء وهو متمالك لنفسه.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحات 203-204، 376) ’وإذ توفي رئيس الديانة الجديدة، وتبعًا لحسابات رئيس الوزراء، فإن أرواح الناس ارتاحت ولم يعد هناك من مجال للقلق من جديد، على الأقل من ذلك المصدر. لكن الحكمة السياسية كانت في هذه الدفعة مخطئة، فبدلاً من إطفاء النيران زاد اشتعالها بشدة. وكما سنرى قريبًا، عندما أتفحص العقائد الدينية التي أتى بها الباب، أن دوام الطائفة واستمرار وجودها لا يتوقف على وجوده المادي، بل العكس ما زالت مستمرة في طريقها وآخذة في الزيادة رغم غيابه. ولو كان رئيس الوزراء يعلم هذه النقطة الأساسية في دين عدوه، كان من الجائز أن لا يتعجل في إهلاك الرجل الذي لا يهم وجوده من عدمه.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 224-225) ’نبي كهذا كان الباب، ونحن نسميه نبيًا لأننا لا نجد كلمة أصلح. لعمر الحق أقول لكم إنه نبي وأكبر من نبي. فجمعه بين الحلم والقوة والقدرة أمر نادر بين البشر، فلذلك كان علينا أن نضعه في صف الذين هم فوق البشر العادي، فقد عرفنا أنه في كثير من أوقات حياته وبينما هو في غمرة النشوة الروحية، كان يلمع من وجهه شعاع القوة والجلالة حتى إنه لا يقدر أحد أن ينظر إلى وجهه وإلى لمحات الجلال والضياء الساطع منه. وحتى إنه لم يكن من الحوادث النادرة أن كثيرًا من الذين لم يكونوا مصدقين كانوا ينحنون أمامه عندما يرونه، بينما الساكنون في القلعة، وأغلبهم من المسيحيين أو السنة، كانوا يركعون أمامه كلما رأوا طلعة حضرته. ومثل هذا التغيير في الصورة معروف عند الأولياء، فكان ذلك بمثابة وضع الختم الإلهي على حقيقة الباب وكمال انقطاعه.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحتان 8-9) ’فمن ذا الذي لم ينجذب من لطف روح ميرزا علي محمد؟ فحياته المملوءة بالأحزان والاضطهاد، وطهارة خلقه، وشبابه الغض، وشجاعته، وصبره بصمت في المصائب والآلام، وإنكاره للذات إنكارًا تامًا، واعتقاده بإمكان تحقق نظام جديد تبعًا للأقوال والأحكام التي تنبأ بها في "البيان"، كل ذلك يجعلنا نسجل عطفنا على نبي شيراز وفوق كل ما ذكر، مأساة وفاته. ويستمر تأثير سحر شخصه، الذي أكسبه كل ذلك العشق في أيام حياته، حتى بعد وفاته، على عقول الشعب الإيراني.‘ (من مقالة لبراون عنوانها "البابيون في إيران" منشورة في "المجلة الآسيوية الملكية" سنة 1889م، الصفحة 933) ’ويعتقد قليل من الناس أن الأحكام البابية تتعطل من أثر هذه الإجراءات الدموية، فهناك في إيران حركة تجديد تحفظ طريقته فضلاً عن أن أحكامه جاذبة للطبائع الإيرانية وموافقة لها. وإنهم ولو كانوا قد غُلبوا ومكثوا في البلاد مختفين فإنه من الموثوق به أن أحكام دين الباب فضلاً عن عدم إمكان محوها فإنها أخذت في الزيادة يومًا فيومًا.‘ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران" لليدي شيل، الصفحة 181) ↓

وفي اللحظة نفسها التي أطلق فيها الرصاص، هبت زوبعة نادرة الشدة وعمّت أنحاء المدينة بأسرها. وحجبت نورَ الشمس رياحٌ دوامية تحمل أتربة كثيفة أعمت عيون الناس. وبقيت المدينة بأكملها في تلك الظلمة الحالكة من الظهر إلى الليل. وحتى تلك الظاهرة العجيبة، التي أعقبت مباشرة حادثة أخرى أغرب تمثلت في عجز فوج سام خان عن إيصال الضرر بحضرة الباب، لم تتمكن من تحريك قلوب أهالي تبريز، وتجعلهم ينتبهون أو يعتبرون بدلالة تلك الأحداث الخطيرة. فقد شاهدوا تأثير تلك الحادثة العجيبة على سام خان، ورأوا انصعاق الفراش باشي وتصميمه النهائي الذي لا رجوع فيه، وكان يمكنهم أيضًا أن يتفحصوا ذلك الرداء الذي بقي سليمًا نظيفًا رغم إطلاق مئات الرصاصات عليه، وكانوا يقدرون أن يقرءوا في وجه حضرة الباب، الذي خرج من هذه العاصفة سليمًا لم يصب بأقل ضرر، ذلك الاطمئنان

_____________________________________________________________________

’إن حكاية الباب، كما يسمي ميرزا علي محمد نفسه، هي حكاية البطولة الروحية التي لم يصل إليها سواه حسب معرفة "سوابهاوا"، وروحه المغامِرة قد اشتعلت بها. فإن شابًا ليس له نفوذ اجتماعي ولا هو متعلم، ومع ذلك يتمكن بمجرد قوة البصيرة من اختراق حقائق الأمور ويشاهد الحقيقة المحضة، فيتمسك بها بثبات ويقين ثم يقدمها للناس بدرجة عالية من الإيمان فيتمكن من إقناع الناس أنه هو المخلّص ويجعلهم يتبعونه حتى إلى الموت نفسه، إن ذلك من أعجب الوقائع في تاريخ البشرية حتى إن "سوابهاوا" كان يحبّ أن يتأمل فيها. فكانت مصداقية الباب لا يتطرق إليها الشك لأنه سلم بروحه لأجل معتقده. ولابد وأن يكون في دعوة أمره شيء ما جذب الناس حتى ضحى آلاف منهم بأرواحهم لأجله ويتبع الآن دينه الملايين منهم. وإذا تمكن شاب في غضون ست سنوات، هي فترة ولايته، وبنبالة مقصده وجاذبية شخصيته، أن يوحي إلى الناس من مختلف الأوساط، من فقراء وأغنياء ومتعلمين وغير متعلمين على السواء، بالاعتقاد في شخصه وفي أحكامه، حتى إنهم يكونون ثابتين في دينهم رغمًا عن اضطهادهم والحكم عليهم بالإعدام دون أي تحقيق أو إجراءات ويخنقون وينشرون نصفين ويطلق عليهم الرصاص ويطلقون من فوهات المدافع. وإذا كان يتبعه عدد غفير من أرباب المناصب العالية في إيران وتركيا ومصر وهم ثابتون على عقيدتهم، فإن حياته تعد من الوقائع العجيبة التي حصلت في المائة سنة الماضية والتي تستحق النظر والدراسة.‘ ("الومضة" للسير فرانسيس يونگهزبند، الصفحتان 183-184) ’وهكذا لما بلغ الثلاثين من العمر أي سنة 1850م تمّت الحياة البطولية لرجل يحمل الصفات الإلهية الحقة. وأما صدق اعتقاده بأنه معيّن من الله فإن طريقة موته أعظم برهان على ذلك. فإنه ضحى بحياته عن طيب خاطر معتقدًا بأنه بذلك يخلص الكثيرين من خطأ معتقداتهم الحالية. وأما بالنسبة إلى قوة جذبه للناس لدعوته، فإن إخلاص المئات بل الآلاف من الرجال الذين فدوا بحياتهم لأجل أمره، هو أكبر برهان على ذلك.‘ (المصدر السابق، الصفحة 210) ’ومات الباب، ولكن لم تمت البابية. فلم يكن هو الأول ولا الأخير في سلسلة شهداء أثبتوا أنه في مملكة كإيران التي استشرى فيها وباء الفساد وضمرت بداء عدم المبالاة، فإن روح الأمة ما زال حيًا ولو أنه ممتنع على التعبير، وربما عاجز شيئًا ما، إلا أنه لا يزال قادرًا على بث نبضات مفاجئة من النشاط.‘ ("مسألة الشرق الأوسط" لڤالنتين شيرول، الصفحة 120)

صورة 174

موقع الخندق الذي أحاط بتبريز، حيث طرح جثمان حضرة الباب

الكلي والهدوء والسكينة التي أكمل بها حديثه مع السيد حسين، ولكن مع كل ذلك لم يحمّل أحد منهم نفسه عبء البحث في دلالة هذه العلامات والإشارات غير العادية.

وقد وقع استشهاد حضرة الباب في يوم الأحد ظهرًا في الثامن والعشرين من شهر شعبان سنة 1266 هجرية،(1) وكان عمره إذ ذاك واحدًا وثلاثين سنة قمرية وسبعة أشهر وسبعة وعشرين يومًا من يوم ميلاده في شيراز.

وفي مساء اليوم نفسه كان جسدا حضرة الباب وصاحبه المختلطان قد نقلا من ساحة الثكنات إلى طرف الخندق خارج بوابة المدينة. وأمرت بحراستهما أربع سرايا، كل واحدة مكونة من عشرة حراس تعمل بالتناوب. وفي صبيحة اليوم التالي للاستشهاد، ذهب قنصل روسيا في تبريز ومعه رسّام إلى تلك البقعة وأمر بعمل رسم لبقايا الجسدين الموجودة على طرف الخندق بالكيفية التي وجدوها.(2)

________________________
(1) 9 يوليو/تموز سنة 1850م.

(2) يقول الحاج ميرزا جاني، إن إمبراطور روسيا، أرسل إلى قنصله في تبريز أمرًا بتحري مسألة حضرة الباب ويرسل تقريرًا بما يجده. وبمجرد وصول هذه الأخبار، أمرت السلطات الإيرانية بقتل الباب. فاستدعى قنصلُ ↓

وسمعت الحاج علي عسكر يحكي الآتي: ’أطلعني موظف في السفارة الروسية على الرسم ذاته في اليوم نفسه الذي رُسم فيه، وكان رسمًا واقعيًا لحضرة الباب ذلك الذي رأيته! فلم تصب جبهته بأي رصاصة ولا خداه ولا شفتاه. وشاهدتُ ابتسامة كانت لا تزال باقية على محياه. أما جسمه فقد تشوه بشدة، وأمكنني التعرف على ذراعَي صاحبه ورأسه وبدا أنه كان يحتضن مولاه. وإذ حدقت مرعوبًا في ذلك الرسم الذي تلازم ذكراه المرء طويلاً، ورأيت كيف أن هذه السمات الشريفة قد تشوهت، انقطع نياط قلبي بداخلي وأشحت وجهي من شدة الكرب وعُدت إلى منزلي وأغلقت على نفسي باب غرفتي. ومكثت ثلاثة أيام لم أتمكن فيها من النوم أو الأكل، بما غمرتني المشاعر. إن حياته القصيرة المضطربة، بكل أحزانها وتقلباتها وما صحبها من نفي، والتي انتهت أخيرًا بذلك الاستشهاد المروع الذي تتوجت به، بدت وكأن مشاهدها تتكرر ثانية أمام عينَي. وتقلبت على فراشي أتلوّى من الكرب والألم.‘

وفي عصر اليوم التالي بعد استشهاد حضرة الباب، وصل الحاج سليمان خان، ابن يحيى خان، إلى باغ ميشه، وهي ضاحية من ضواحي تبريز، ونزل ضيفًا على الكلانتر، أحد أصدقائه وموضع ثقته، والذي كان درويشًا تابعًا للطائفة الصوفية. وما كاد الحاج سليمان خان يعلم بالخطر المحدق بحياة حضرة الباب حتى ترك طهران بقصد تخليصه. وكم كان رعبه إذ علم أنه وصل متأخرًا لتنفيذ مأربه. ولما أخبره مضيفه بالأحداث التي أدت إلى اعتقال حضرة الباب والحكم عليه، وروى له وقائع استشهاده، عزم حالاً أن ينقل جسدَي الضحيتين، حتى لو تسبب ذلك في خطر على حياته. فنصحه الكلانتر أن ينتظر ويعمل برأيه بدلاً من تعريض نفسه

_____________________________________________________________________

الروس آقا سيد محمد حسين، كاتب وحي الباب، الذي كان مسجونًا في تبريز، إلى محضره وسأله عن علامات ظهور الباب وظروفه. ولوجود مسلمين في المجلس لم يتمكن آقا سيد حسين أن يتكلم بالصراحة التامة بخصوص مولاه، ولكنه لمح بإشارات عن بعض المسائل المختلفة وأعطاه بعض كتابات الباب. ومما يثبت صحة هذه الرواية، جزئيًا على الأقل، ما شهد به المدعو "دورن" في وصف كتاب من كتب الباب وهو أحد تفاسيره لأسماء الله الحسنى (ويسميه "قرآن البابية") فهو يقول في "مجلة الأكاديمية الملكية للعلوم" في سان بطرسبرج (الصفحة 248 من الجزء 8)، إن ذلك الكتاب أخذ من يد كاتب الباب الخاص أثناء حبسه في تبريز، والذي سلمه إلى أيدي الأوروپيين. ("التاريخ الجديد"، الصفحتان 395-396)

صورة 175
صورة 176

مناظر إمام زاده حسن في طهران، حيث حفظت رفات حضرة الباب

إلى قتل محقق حسب اعتقاده. وحثّه أن ينقل إقامته إلى منزل آخر وينتظر وصول الحاج الله يار في ذلك المساء، وأعلمه أن الحاج سيقبل أن ينفذ كل ما يطلب منه. وفي الساعة المعينة تقابل الحاج سليمان خان بالحاج الله يار، والذي نجح في منتصف الليلة نفسها في نقل الجسدين من طرف الخندق إلى معمل حرير يملكه أحد أحباء ميلان، ووضعهما في اليوم التالي في صندوق خشبي صنع خصيصًا لذلك الغرض، ثم نقلهما، حسب تعليمات الحاج سليمان خان، إلى محل آمن. وفي تلك الأثناء أراد الحراس أن يبرروا موقفهم، فتظاهروا أنهم بينما كانوا نيامًا، حملت الوحوش الجسدين بعيدًا،(1) وكذلك رؤساؤهم فإنهم بدورهم أخفوا الحقيقة ليحافظوا على شرفهم ولم يظهروها لأرباب السلطة.(2)

وكتب الحاج سليمان خان بالموضوع فورًا إلى حضرة بهاءالله، الذي كان في طهران، والذي أمر آقا كليم أن يوفد رسولاً خاصًا إلى تبريز لنقل الجسدين إلى العاصمة. وكان ذلك القرار بناء على رغبة حضرة الباب نفسه، كما أبداها في لوح "زيارة الشاه عبد العظيم"، والذي نزل في جوار ذلك الضريح، وسلّمه حضرته إلى ميرزا سليمان الخطيب، وأمره أن يتوجه مع بعض الأحباء إلى ذلك المكان ويرتله داخل الضريح.(3) وخاطب حضرة

________________________

(1) ’إنه تبعًا للعادة المتبعة من قديم الأزمان في الشرق، كما حصل في حصار بيتهولي، وكما حصل عند قبر سيدنا (المسيح)، فإن الحارس هو جندي ينام نومًا عميقًا عند المكان الذي يتوقع منه حراسته.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 166) ’وأمكننا أن نعرف طيلة هذا التاريخ من هم الحراس الإيرانيون. فينحصر عملهم في النوم قرب المكان الذي يقومون على حراسته.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 378)

(2) ’ويتفق الكونت دي جوبينو مع مؤلفي كتاب "ناسخ التواريخ" وكتاب "روضة الصفا" وكتاب "مرآة البلدان" وكذلك مع سائر المؤرخين الرسميين، ويروي أنه بعد تنفيذ الإعدام طرح جسد الباب في خندق في المدينة وأكلته الكلاب. والحقيقة هي بخلاف ذلك، وسنرى لماذا أذاعت هذه الإشاعة سلطات تبريز (وهم غير متشوقين لتحمّل تعنيف الحكومة لأجل معروف يكلف باهظًا) وكذلك أشاعها البابيون أنفسهم لرغبتهم في منع تحريات من قبل الشرطة. إن أوثق مصدر لشهود عيان لتلك الدراما أو ممثليها لا يترك مجالاً للشك بأن جسد السيد علي محمد أخذ بعيدًا بالأيدي التقية، وأخيرًا وبعد عدة أحداث مختلفة سأقوم بروايتها، توصل إلى دفن لائق بحضرته.‘ (المصدر السابق، الصفحة 377)

(3) ’تتمتع طهران بوجود ضريح الشاه عبد العظيم فيها. ويرقد جدث ذلك الشخص المقدس تحت قبة مطلية بالذهب. وقد رأيت لمعانها على بعد عندما اقتربت من المدينة. ويزور الضريح كل سنة ما ينوف عن 300 ألف ↓

الباب الرجل المقدس المدفون هناك في الفقرات الأخيرة من اللوح بقوله: "طوبى لك بما وجدت في مستقرك ومرقدك في الري تحت ظلال المحبوب. فوا شوقي أن أدفن في هذه الأرض المقدسة."

وكنت بنفسي في طهران بصحبة ميرزا أحمد إذ وصل جثمانَي حضرة الباب ورفيقه. وكان حضرة بهاءالله في هذه الأثناء قد غادر إلى كربلاء حسب تعليمات أمير النظام. وكان آقا كليم وميرزا أحمد قد نقلا الجثمانين من إمام زاده حسن،(1) وهو المكان الذي كانا فيه في البداية، إلى مكان لم يكن معلومًا لأي شخص غيرهما. وبقي هذا المكان مجهولاً إلى أن غادر حضرة بهاءالله إلى أدرنة، وفي ذلك الحين أمر آقا كليم أن يخبر منير، أحد الأحباء، بالمحل الحقيقي الذي فيه الجثمانان. فبحث هذا الأخير عنهما كثيرًا ولم يجدهما، وأخيرًا عثر عليهما أحد قدماء الأحباء المدعو جمال الذي كان قد كشف له عن مكانهما المستور إذ كان حضرة بهاءالله في أدرنة. وهذه البقعة هي للآن غير معروفة للأحباء ولا يعلم المحل الذي سوف تنتقلان إليه أخيرًا.

وكان ميرزا آقا خان النوري أول من سمع في طهران بأحوال الاستشهاد القاسية بعد رئيس الوزراء. وكان محمد شاه قد نفاه إلى كاشان حينما كان حضرة الباب مارًا في تلك المدينة. وكان ميرزا آقا خان النوري قد أكد للحاج ميرزا جاني الذي بلّغه الأمر، إنه لو

____________________________________________________________________

زائر. وقد وجدت أغلب الكتّاب يخفون جهلهم بهوية الوليّ صاحب القبر ويصفونه بالوليّ المسلم، والذي يزوره أتقياء أهل طهران. ولكن يظهر أن هذا المكان قبل ظهور الإسلام بفترة طويلة كان مقدسًا ومعروفًا بأنه قبر امرأة صالحة ذات قداسة عظيمة. ولذلك تؤمه للآن في الغالب النساء. وبعد الغزو الإسلامي دفن فيه إمام زاده حمزة ابن الإمام السابع، موسى الكاظم. والتجأ إلى الضريح شخص وليّ اسمه أبو القاسم عبد العظيم هربًا من الخليفة المتوكل ومكث مختفيًا في الري إلى أن حانت وفاته نحو سنة 861م. (وهذه هي رواية كتاب المجلسي الإيراني، مستندًا إلى الشيخ النجاشي، مستندًا إلى البرقي). ومع مرور الأزمان طغى صيته على صيت سلفه الألمع منه. وكان الملوك المتوالون وخاصة من الأسرة الحاكمة الحالية قد زادوا في عمارته ووسعوها وزينوها. ومن اتساع شهرته ازدهرت قرية حول الموقع المقدس. ويقع المسجد في سهل على بعد ستة أميال إلى الجنوب الشرقي من العاصمة بعد خرائب الري مباشرة وعلى أطراف أنف الجبل الذي يحيط بسهل طهران في الجنوب الشرقي.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الصفحات 345-347)

(1) ضريح محلي في طهران.

كانت المحبة التي يكنّها لهذا الأمر تكون سببًا في عودته إلى وظيفته، فإنه سيبذل جهده في ضمان سلامة الفئة المظلومة ورفاهيتها. فأخبر الحاج ميرزا جاني مولاه بالأمر، فأمره أن يؤكد للوزير المعزول إنه سوف يُدعى في القريب العاجل إلى طهران، وينعم عليه الملك بالرتبة والمقام الذي لا يعلوه سوى مقام الملك نفسه، وحذره من أن ينسى وعده وأن يجتهد في تنفيذ عهده. ففرح بالرسالة وجدد العهد الذي أخذه على نفسه.

فلما جاءته أخبار استشهاد حضرة الباب كان قد ترقى وتلقب بلقب "اعتماد الدولة" وكان يطمح في الترقي إلى رتبة رئاسة الوزراء، فأسرع لإخبار حضرة بهاءالله الذي توثقت عرى المودة بينهما بالأخبار التي وصلته وأظهر اغتباطه بأن النار التي كان يخشى أن تنزل المصائب المفجعة عليه بسببها قد خمدت أخيرًا. فأجابه حضرة بهاءالله: ’ليس الأمر كما تظن، بل تأكد أن الشعلة التي أوقدت سوف يزداد لهيبها ويذكو أوارها واصطلاؤها بدرجة أن جميع ساسة هذه البلاد لن يقدروا على إخمادها ولا إطفائها.‘ وكان ميرزا آقا خان قد أدرك فيما بعد مدلول هذه الكلمات. وما كان يظن وقت النطق بها أن الدين الذي ابتلي بمثل هذه الطعنة النجلاء سوف يبقى بعد موت رئيسه. وذات مرة أبرأه حضرة بهاءالله من مرض كان قد قطع كل أمل من الشفاء منه.

وسأله ابنه نظام المُلك ذات يوم، إذا كان يظن أن حضرة بهاءالله، من بين كل أبناء الوزير المرحوم الذي أظهر كفاءة ممتازة، يقبل أن يقتفي أثر والده في تقلّد وظيفته، أو إنه أضاع كل الآمال التي كانت معلّقة عليه. فأجابه أبوه قائلاً: ’يا بني هل تظنه ابنًا غير لائق بأبيه؟ ألا فاعلم أن كل الأماني إنما هي مؤقتة زائلة تنمحي بانتهاء هذه الحياة التي لا تخلو من موانع وعقبات تحول دون تحقيق هذه الأطماع الأرضية. فلو قُدر لنا النجاح في هذه الحياة الدنيا، فما يدرينا لعل أسماءنا وذكرانا تتدنس باللعنة وتنمحي أعمالنا وتصبح كأنها لم تكن، وكأنها لم تُغنِ بالأمس، حتى إن الذين يكرموننا بألسنتهم وأفواههم ونحن أحياء يلعنوننا في قلوبهم لو إننا أهملنا مصلحتهم لحظة واحدة. ولكن الحال ليس كذلك مع بهاءالله. فهو ليس كباقي العظماء في الأرض من أي جنس أو ملة، وإنما هو موضع محبة ومودة بما لا يقدر الوقت أن يمحوه ولا العدو أن يزيله. فلا تحجب سلطته وسطوته

ظلالُ الموت ولا يقوض أركانها لسانُ الحسود. وأما قوة نفوذه فبدرجة لا تدع أحدًا من أحبابه يفكر لحظة واحدة حتى في أظلم ساعات الليل بأقل رغبة في مخالفة مراده وأمره ولو بإشارة بعيدة، وأحباؤه دائمًا في ازدياد. والمحبة التي يسدونها إليه لا تنقص بل تنتقل من جيل إلى جيل إلى أن ينتشر صيت عظمتها في العالم بأسره.‘

إن الإصرار الشرير الذي أراد به العدو المتوحش إيقاع الأذى بحضرة الباب وأدى أخيرًا لإنهاء حياته، قد جلب في أعقابه مصاعب لا تحصى على إيران وسكانها. فالذين اقترفوا هذه المظالم وقعوا فريسة للفواجع المبرحة، وفي زمن قصير جدًا أصابهم الموت بأبشع أشكاله. أما بالنسبة للأغلبية الساحقة من سكانها، الذين وقفوا متفرجين غير مبالين يشاهدون المأساة تجري أمام أعينهم، وفشلوا في رفع إصبع واحد بالاحتجاج على فظاعة هذه المظالم وقسوتها، فقد وقعوا أنفسهم ضحايا بؤس لم تقدر جميع موارد البلاد وحيوية ساستها أن تخفف من وطأته. وهبت عليهم زعازع المصائب حتى اهتزت أسس السعادة المادية. فمنذ اليوم الذي امتدت فيه يد الجور إلى حضرة الباب لتضرب أمره الضربة القاضية، توالت على ظالميه الآفات ومحقت أرواحهم الشريرة وجعلتهم على شفا الإفلاس العام. وأصابهم الطاعون وغيره من الأوبئة بشدة وسحقتهم ونشرت فيهم الخراب أينما حلت، مع أنها ما كانت في القديم تعرف بينهم إلا في غابر الأزمان، ولم تذكر في الأسفار إلا نادرًا. وأحس بلسعتها الأمير مثل الفلاح وانحنوا تحت نيرها. فأخذت عموم الناس في قبضتها ولم تزل متفشية فيهم ولم ترفع يدها عن وثاقهم. واستمرت هذه الآفات المفاجئة تجتاح البلاد، وكما حُصدت الأرواح في مقاطعة گيلان من آفة الحمى، كذلك استمرت هذه البلايا المفاجئة في تدمير الأرض. ومع شدة وطأة تلك المحن، لم يتوقف الغضب الإلهي عند الفتك بأناس فاسدين عديمي الإيمان، بل تعداه إلى الزرع والحيوان على حد سواء، وجعل الناس يشعرون بثقل وطأتها. وزادت المجاعة من ثقل الأعباء التي رزح تحتها الناس وهم يأنّون. وخرج شبح المجاعة الكئيب يتمشى بينهم، وسيطر على مخيلتهم احتمال الموت البطيء المؤلم. وتنهد بحسرة الشعب والحكومة على حد سواء مترقبين الفرج الذي لم يجدوه في أي مكان. فشربوا كأس العذاب حتى الثمالة دون أن

يشعروا باليد الغيبية التي رفعت تلك الكأس إلى شفاههم، ولا بالشخص الذي من أجله جاءهم الجزاء.

إن أول من قام على أذية حضرة الباب لم يكن سوى حسين خان، حاكم شيراز. فتسببت معاملته المهينة لسجينه بفقدان حياة الآلاف من رعيته كان موكلاً بحمايتهم ورعايتهم، والذين تغاضوا عن أفعاله. فاجتاح الطاعون مقاطعته وأودى بها إلى شفا الهاوية. وترنحت مقاطعة فارس فقيرة متعبة تحت وطأته، فاستجدت صدقة جيرانها من المقاطعات وعون أصدقائها في النكبات. وشاهد حسين خان بمرارة أن جميع أعماله قد ذهبت هباءً منثورًا وأصبح منبوذًا في أواخر أيامه وترنح إلى قبره مدحورًا منسيًا من الأحباب والأعداء على السواء.

وأما الشخص الثاني الذي قام على مقاومة أمر حضرة الباب ووقف في سبيل تقدمه، فكان الحاج ميرزا آقاسي. فكان هو الذي حال بين حضرة الباب ومحمد شاه وسعى لمنع لقائهما، بسبب أنانيته ولكي يحوز رضاء علماء الزمان الأدنياء. وهو الذي أمر بنفي سجينه إلى أحد أركان آذربيجان القصية وشدد على عزلته بمراقبة حثيثة. وهو الذي نزّل بحقه لوح قهري تنبأ له فيه سجينه بهلاكه وفضح عاره. ولم تمضِ إلا سنة وستة أشهر على وصول حضرة الباب إلى ضواحي طهران حتى انقض على الوزير الانتقام الإلهي وأنزله من سلطانه وجبروته وقاده للبحث عن ملجأ في ضريح الشاه عبد العظيم هربًا من غضب رعيته. ومن هناك طردته يد المنتقم القهار منفيًا إلى خارج حدود وطنه وألقته في بحر المصائب والآلام إلى أن لقي حتفه بغاية الذلة والفقر المدقع.

أما الفوج الذي تطوع لإعادة رمي حضرة الباب بالرصاص، رغم فشل سام خان ورجاله في إنهاء حياة حضرته، والذي أمطره أخيرًا بوابل مقذوفاته، فإن مائتين وخمسين منهم لقوا حتفهم في السنة نفسها ومعهم ضباطهم في زلزال عنيف. فبينما كانوا يستريحون في يوم قيظ تحت ظل حائط في طريقهم بين أردبيل وتبريز، وهم يمرحون ويلعبون، انهار ذلك الحائط بأكمله عليهم فجأة، ولم يبق منهم أحد حيًا. أما الخمسمائة الباقون، فقد لقوا حتفهم بالطريقة نفسها التي اتّبعوها مع حضرة الباب، فبعد استشهاده بثلاث سنوات، أعلن فوجهم

العصيان، فضُربوا جميعًا بالرصاص بأمر من ميرزا صادق خان النوري. ولم يكتف بالطلقة الأولى بل أمر بإطلاق طلقة أخرى حتى يضمن أن لا يبقى منهم بقية، ومزقت بعد ذلك أجسادهم بالحراب والسنان وتُركت معرضة لأنظار أهالي تبريز. وفي ذلك اليوم تعجب أهالي تلك المدينة من أن يكون نصيب الذين قتلوا حضرة الباب نفس ما عملوه به، وسمع بعضهم يتساءلون فيما بينهم قائلين: ’هل يمكن أن يكون الانتقام الإلهي هو الذي أودى بحياة الفوج بأكمله وأطاح بهم إلى هذه النهاية المخزية المفجعة، أم كان ذلك مصادفة؟ فإذا كان ذلك الشاب مدع كاذب، فلماذا نال قاتليه عقابًا شديدًا؟‘ وقد وصلت هذه الهواجس إلى أسماع كبار المجتهدين في المدينة والذين أخذ الخوف منهم كل مأخذ، وأمروا أن يُعاقب بشدة، كل من يعبر عن مثل تلك الشكوك. فضُرب بعضهم وغُرم آخرون وحُذّر جميعهم من الهمس بهذه الأقاويل التي تحيي ذكرى خصم لدود وتعيد إشعال الحماس لأمره.

أما المحرك الرئيس لتلك القوى التي أدت لاستشهاد حضرة الباب، وهو أمير النظام، وكذلك أخوه، وزير النظام، شريكه في الجريمة، فوقع عليهما في ظرف سنتين من فعلتهما الشنيعة عقاب صارم انتهى بموتهما أشنع ميتة. وتلطخ حائط حمّام فين(1) بدم أمير النظام. وإلى اليوم يشاهد ذلك دليلاً على المظالم التي اقترفتها يده.(2)

***
________________________

(1) وكتب اللورد كرزون: ’يصح القول أن حكمه (ناصر الدين شاه) تشوه بعملين وحشيين كان أفظعهما هو قتل أول رئيس لوزرائه، ميرزا تقي خان، أمير النظام... وهو صهر الشاه وأخ زوجته وأعلى أفراد رعيته في المملكة، ويرجع حبه للانتقام والتآمر في البلاط الملكي إلى الحسد الخبيث الأكال الذي عرف به مليكه الشاب. ذلك العار الذي لم يرضِ أعداءه حتى بموت غريمهم الذي وإن سقط إلا أنه بقي مهابًا.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 1، الصفحة 402)

(2) ’وكان الكل يعلم أن البابيين تنبأوا بمصرع رئيس الوزراء والكيفية التي يقتل بها. ويقال أن ذلك حصل بالضبط كما أعلن شهداء زنجان، ميرزا رضا، والحاج محمد علي، والحاج محسن. فبعد أن فقد حظوته لدى مليكه ونال نقمته وكراهيته، قطعت شرايينه في قرية "فين"قرب كاشان، كما قطعت شرايين ضحاياه. وكان خلفه ميرزا آقا خان النوري من قبيلة شريفة من مازندران، وكان في ذلك الوقت وزيرًا للحربية. وتسمى هذا الوزير الجديد بالصدر الأعظم وهو لقب رئيس وزراء الإمبراطورية العثمانية. وكان ذلك سنة 1852م.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 230)

الفصل الرابع والعشرون
ملحمة زنجان
صورة 177
منظر زنجان

إن الشرارة التي أشعلت الاضطرابات العظيمة في مازندران ونيريز هي بعينها التي أشعلتها في زنجان(1) وما حولها عندما استشهد حضرة الباب في تبريز. ولم تكن أخبار وحيد وأصحابه

________________________

(1) ’عاصمة إقليم خمسة، وهو إقليم صغير شرقي كفلان كوه أو جبل النمر، بين العراق وآذربيجان. والعاصمة زنجان ذات منظر بديع ومحاطة بسور محصن بالقلاع كأغلب المدن الإيرانية. وينتمي السكان إلى أصول تركية، ولا تستعمل اللغة الفارسية إلا من قبل موظفي الحكومة. وتحيط بالمدينة قرى كثيرة غنية نوعًا ما. وتزورهم قبائل قوية الشكيمة في فصلي الربيع والصيف.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 191)

بأقل إزعاجًا له من حزنه على نصيب أبطال الشيخ الطبرسي المفعم بالمصائب، فأضافت تلك الحوادث ضربة جديدة إلى قلبه المثقل بالأحزان الكثيرة. ولم تكن المتاعب التي انتابته في أواخر أيام حياته بقاصرة على المخاطر التي أحاطته ولا على الإهانة التي تحمّلها عند نقله إلى تبريز ولا على اشتداد وطأة الحبس الشديد المديد بين جبال آذربيجان، ولا على المذابح الوحشية التي ختمت بها حوادث ملاحم مازندران ونيريز، ولا على وحشية الذين ارتكبوا المظالم والقبائح على الشهداء السبعة في طهران. بل كانت أخبار حوادث زنجان وما آل إليه أمرها المحزن قد زادته حزنًا على حزنه وكذلك الفواجع التي أنهكت قواه في أواخر حياته بكروب متنوعة، فكم غصّة تجرعها في الوقت الذي كانت مخالب الموت تريد أن تنشب أظفارها فيه! ومع ما انتاب أنصار دينه في كل ساحة، سواء في الشمال أو الجنوب من الاضطهادات بلا ذنب، وما خُدعوا به من مكر وخيانة حتى سُلبت منهم ممتلكاتهم وذُبحوا دون رحمة. فطفحت كأس الآلام والمصائب بهبوب عاصفة زنجان التي هي أشنع وأفظع من جميع ما سبقها من النكبات.(1)

والآن أشرع في سرد ظروف تلك المأساة التي هي من أكثر المآسي إثارة في تاريخ هذا الأمر. وكان بطلها الحُجّة الزنجاني، واسمه الملاّ محمد علي(2) وهو من أقدر علماء

________________________

(1) ’... في سنتَي ست وستين وسبع وستين (1266-1267ﻫ) أضرمت نيران البلاء في كل نحو من أنحاء إيران بالعائلات البابية وممتلكاتها بحيث أن أي نفس في أية قرية تُهِمَ أنه بابي عرضت رقبته على السيف. وبلغت قتلى الطائفة إلى ما فوق أربعة آلاف نفس وأصاب كثيرًا من النساء والأطفال رزء البؤس والفاقة إذ أصبحوا لا عائل لهم ولا من ينظر إلى حالهم حتى تلفوا جميعًا.‘ ("مقالة سائح"، الصفحتان 32-33، في الترجمة العربية)

(2) ’وكان في تلك المدينة مجتهد يدعى الملاّ محمد علي الزنجاني، وهو من أهالي مازندران وتلقى دروسه على يد عالم شهير. وعندما تلقب الملاّ محمد علي بلقب "شريف العلماء" ركز اهتمامه على الفقه العقائدي والشريعة وأصبح عالمًا مرموقًا. ويؤكد المسلمون أنه في وظيفته كمجتهد، كان متململاً مضطربًا. ولم تكن أي مسألة بالنسبة له قد دُرست كفاية أو حُلّت بالشكل الصحيح. وكانت فتاويه المتكررة قد أزعجت نفوس المؤمنين وأربكت ممارساتهم. وفي لهفه للتجديد، لم يكن متسامحًا في مناقشاته ولا معتدلاً في محاوراته. فكان تارة يزيد في صوم رمضان لأسباب لم يذكرها أي إنسان قبله. وطورًا يرتب شعيرة الصلاة بترتيب جديد. فكان مبغوضًا من المسالمين وممقوتًا من التقليديين. ولكن يُعترف له بأنه كان له مريدون عديدون ممن كانوا يعدونه من الأولياء، وكانوا يجلون حماسته ويثقون به. ويمكن للحكم المحايد أن يرى فيه رجلاً مسلمًا في المظهر، ولكنه مدفوع للعمل بإيمان مشتعل وحماس ديني وافر يجتهدون أن يجدوا له مجالاً. ومن ↓

صورة 178
صورة 179
مناظر المسجد الذي بناه أصحاب الحجة له

_____________________________________________________________________

سوء حظّه أنه اكتشف، أو ظن أنه اكتشف، طريقة لاستخدام قواه في الإطاحة بالتقاليد ذات الأهمية الضئيلة التي لا تستدعي القلق بشأنها.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 191-192)

عصره، وبلا ريب من أكبر ناصري الأمر. وكان والده الملاّ رحيم الزنجاني من المجتهدين البارزين في زنجان ومحترم لتقواه وعلمه وقوة شخصيته. وُلد الملاّ محمد علي، الملقب ﺑ"الحُجّة"، في سنة 1227ﻫ.(1) ومنذ صباه أظهر كفاءة جعلت والده يعتني بتهذيبه عناية فائقة، وأرسله إلى النجف وتميز فيها بفراسته ومقدرته وحماسه المتقد.(2) وكان أصحابه قد أعجبوا أيّما إعجاب بعلمه وذكائه الحاد، بينما جعلته قوة تعبيره وسمو أخلاقه مصدر رعب لأعدائه. ونصحه والده أن لا يعود إلى زنجان، حيث يتآمر عليه أعداؤه. وبالتالي صمم على أن يجعل إقامته في همدان،(3) وفيها تزوج إحدى قريباته، وعاش هناك سنتين ونصف حتى وافته أخبار وفاة والده، فصمم على ترك المدينة والعودة إلى موطنه الأصلي. وكان الاحتفاء به عند وصوله قد أشعل العداء في صدور العلماء الذين، رغم تصميمهم على مقاومته، لقوا منه كل علامات التوقير والمحبة.(4)

ولما اعتلى منبر المسجد الذي شيده أصدقاؤه تكريمًا له، خطب في الجماهير المحتشدة للاستماع إليه، ناصحًا إياهم بترك النفس والهوى وأن يكون الاعتدال رائدهم في كل الأعمال.(5) وقمع بشدة كل أشكال الظلم والأذى، وشجع الناس بسلوكه ومثاله

________________________
(1) سنة 1812-1813م.

(2) ’وكان من بين علماء تلك المدينة عالم يسمى الآخوند الملاّ عبد الرحيم، المشهور بتقواه. وكان له ابن عاش في النجف وفي كربلاء وكان يحضر محاضرات شريف العلماء المازندراني الشهير. وكان هذا الشاب ذا طبيعة مضطربة، قليل الصبر تجاه محدودية المذهب الشيعي.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 332)

(3) ’وفي طريق عودته من زيارة الأماكن المقدسة، توقف في همدان، حيث رحب به الأهالي باحترام وتوسلوا إليه أن يبقى.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 336)

(4) ’وجاء علماء المدينة بأجمعهم لزيارته ورجعوا وهم قلقون من الكلمات القليلة التي تفوه بها، والتي تدل على تغيير في التفكير. وفي الحقيقة كان سلوك الوافد الجديد قد أثبت سريعًا لهؤلاء الأتقياء بأنهم لم يكونوا مخطئين في تخميناتهم.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 336)

(5) ’وكان يوجد خان، من زمن الشاه عباس تحول بالتدريج إلى "صيغه خانه" (مكتب مأذون). ولمنع كسر القانون الشيعي، اتخذه الملاّ دوست محمد مسكنًا، وكان يبارك الزواج المؤقت بين الزوار من الرجال وبين المقيمات في الخان. ولكن حجة الإسلام - وهو اللقب الذي اتخذه صاحبنا – أمر بإغلاق المكتب، وزوّج أغلب النساء ووجد عملاً للبقية لدى الأسر المحترمة. وتسبب أيضًا في جلد بائع خمور وهدم منزله.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 332-333)

باتّباع الأحكام المنصوصة في القرآن الكريم بكل دقة. وعلّم تلاميذه بكل عناية ومقدرة حتى إنهم فاقوا علماء زنجان المعروفين في الفهم والمعرفة. واستمر في أعماله المبرورة سبع عشرة سنة، وتمكن من تخليص عقول مواطنيه وقلوبهم من كل ما يبدو مخالفًا لروح الدين وتعاليمه.(1)

ولما وصله النداء من شيراز، أرسل موفده المؤتمن، الملاّ إسكندر، لتفحص دعاوى الظهور الجديد، وكانت استجابته لتلك الرسالة بحيث حرّك أعداءه لمضاعفة تهجماتهم عليه. وإذ كانوا عاجزين عن توهينه في أعين الحكومة وأعين الناس، عزموا على إدانته بترويج بدعة جديدة وأنه رافض كل ما هو مقدس وعزيز في الإسلام. وتهامسوا فيما بينهم قائلين: ’أما شهرته بالعدل والتقوى والحكمة والعلم، فتجعلنا عاجزين عن زعزعة مركزه. ألم يتمكن، عندما طلبه محمد شاه إلى طهران، بفصاحته السحرية، أن يؤثر عليه ويجعله ضمن المعجبين به والمخلصين له؟ والآن ما دام أنه قد اعتنق أمر السيد الباب علانية، فيمكننا أن نحصل من الحكومة على أمر بالقبض عليه ونفيه من مدينتنا.‘

وبناء على ذلك حرروا عريضة لمحمد شاه وفيها سعوا لتلويث سمعته بكل وسيلة ابتكرتها عقولهم السقيمة الماكرة. وشكوه قائلين: ’ومع أنه لا يزال يزعم أنه أحد أتباع ديننا، إلا أنه استهان بسلطتنا بمساعدة تلاميذه. والآن اعتنق أمر السيد الباب وجعل ثلثي أهالي زنجان ينتمون إلى هذه العقيدة البغيضة، فما تبقى من الإهانات التي سيوقعها بنا! وترى الجماهير المحتشدة على أبوابه أكثر عددًا مما يتسع له المسجد. وبلغت قوة

________________________

(1) ’وتوقف نشاطه عند هذا الحد. وكان دائمًا مشغولاً بالمسائل الدينية التي بنيت على أحاديث متناقضة في الغالب، وبذلك تحيرت أفكار مريديه بالفتاوى الغريبة التي كان يصدرها والتي كانت تقلب التقاليد المسلم بها رأسًا على عقب. فأيد الحديث النبوي القائل بأن شهور رمضان كاملة، دون تحري أصل الحديث أو التأكد من جدارة الرواة. وأوصى باتّباع الحديث حرفيًا وصوم يوم الفطر، الذي هو معصية عظمى. وأجاز الركوع بإسناد الرأس على حجر من البلور. وكل هذه التجديدات جلبت إليه الأنصار العديدين المعجبين بعلمه ونشاطه، ولكنها أغضبت العلماء الرسميين، والذين سرعان ما تجاوز غضبهم عليه كل الحدود، نظرًا لقلقهم وتخوفهم.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 333)

تأثيره بحيث أن مسجد والده، والمسجد الذي بُني تكريمًا له قد جرى ضمهما ببعضهما ليصبحا بناء واحدًا يستقبل العدد المتزايد من المتلهفين ليأتموا به في الصلاة. ولن يمضِ وقت طويل حتى لا تكون زنجان فقط بل جميع القرى المجاورة من أنصاره.‘

فتعجب الشاه كثيرًا من لهجة العريضة ولغتها، والتي قصد بها أصحابها النيل من مقام الحجة. وأظهر تعجبه لميرزا نظر علي الحكيم باشي، وتذكر أقوال كثيرين من زوار زنجان الذين كانوا يتغنون بمقدرة المتهم واستقامته. وصمم الشاه على أن يطلبه هو وخصومه إلى طهران. فاجتمعوا في مجلس خاص حضره مع جلالته، الحاج ميرزا آقاسي وموظفو الحكومة المشهورون ومشاهير علماء طهران، وأحضروا رؤساء الدين في زنجان، وطلب الشاه منهم أن يدعموا ادعاءاتهم بالبراهين، فأخذوا يستجوبون الحجة. وما من سؤال سألوه بخصوص تعاليم دينهم إلا أجاب عليه بكيفية تخلب ألباب المستمعين وتثبت للمليك يقينه في براءته. فعبّر الشاه عن رضائه عن الحجة وكافأه على الطريقة الممتازة التي نجح بها في دحض مفتريات أعدائه، وأمره بالرجوع إلى زنجان والعودة للقيام بالخدمات الجليلة التي يؤديها للشعب، وأكد له إنه سيساعده في كل الأحوال، وسأله أن يخطره بأي صعوبة يلاقيها في سبيله في المستقبل.(1)

وكان وصوله إلى زنجان إشارة لانطلاق هيجان عنيف من جانب خصومه المذلولين. وكلما تضاعفت دلائل عداوتهم، كلما تعاظمت علائم إخلاص أصحابه ومؤيديه بالنسبة نفسها.(2) واستمر في عمله بحماس لا يتوانى، غاضًا طرفه بالكلية عن

________________________

(1) ’وجاء الحجة، وتمكن بلطفه وجاذبية شخصيته في وقت قصير، من إقناع كل شخص يتصل به، حتى جلالة الشاه. وذات يوم، كما يروى عنه، بينما كان في قصر الشاه مع العديد من أقرانه، عرض أحدهم، وهو عالم من كاشان، وثيقة على الشاه ليمضيها. وكانت الوثيقة عبارة عن مرسوم ملكي يضمن بعض الرواتب. فقام الحجة وأدان العالم الذي يتوسل الحكومة لدفع راتب. واستند إلى الأحاديث وإلى القرآن الكريم ليبين حقارة مثل تلك الممارسات التي بدأها بنو أمية. فاستشاط أقرانه غيظًا منه، ولكن الشاه الذي أعجبته هذه الصراحة، التفت إلى بطلنا وأعطاه عصىً وخاتمًا، وأذنه في الرجوع إلى زنجان.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 333-334)

(2) ’وقد أتت لمقابلته من أهالي زنجان جماهير غفيرة وقدموا قرابين من الثيران والدجاج والخراف. وقد لف اثنا عشر شابًا، كل منهم يبلغ اثني عشر عامًا، مناديل حمراء على رقابهم للدلالة على إنهم مستعدون لفداء كل ↓

تدابيرهم.(1) وكانت مبادئ التسامح والتحرر التي كان يعلّمها وينشرها بغير انقطاع وبلا وجل، قد هدمت أساس البناء الذي اجتهد أعداؤه في تشييده. ونظروا بغضب العاجز تمزق سلطتهم وانهيار مؤسساتهم.

وحدث في تلك الأيام أن مبعوثه الخاص، المشهدي أحمد، الذي كان قد بعثه سرًا إلى شيراز حاملاً عريضة وهدايا إلى حضرة الباب، قد عاد إلى زنجان وسلّمه خطابًا مختومًا من محبوبه، بينما هو يخاطب تلاميذه. وفي اللوح الذي استلمه لقّبه حضرة الباب بلقب "الحجّة". وحرّضه على أن يعلن من المنبر دون تردد تعاليمه الأساسية. وما كاد يطّلع على رغبة مولاه، حتى أعلن عزمه على تنفيذ كل ما أمره في هذا اللوح. وصرف في الحال تلاميذه وأمرهم أن يتركوا كتبهم وأعلمهم بعزمه على عدم متابعة التدريس، وقال: ’طلب العلم بعد حصول المعلوم مذموم!‘ ويقصد: ما الفائدة في الدرس والبحث للذين وجدوا الحق؟ ولماذا الجهد في طلب العلم بعد أن ظهر المعلوم الذي هو المقصود من جميع العلوم؟

وما كاد يؤم جماعة المصلين في يوم الجمعة كما أمره بذلك حضرة الباب(2) حتى اعترض عليه بشدة إمام الجمعة الذي كان يؤدي هذه الوظيفة حتى الوقت والساعة، وقال

____________________________________________________________________

شيء، وساروا في وسط الموكب. وكان دخوله في المدينة دخول المنتصرين.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 334)

(1) ’وقد حوّل تلاميذه إلى أمثلة للعفة وضبط النفس، فارتوت النفوس من ينبوع الحياة الروحية، وكانوا يصومون ثلاثة أشهر ويطيلون صلاتهم يوميًا بإضافة دعاء جعفر الطيار، ويتوضأون في كل يوم بماء قُرّ (بارد، دلالة على الطهارة) مرة واحدة، وأخيرًا يملأون المساجد في يوم الجمعة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 334)

(2) ’وأخيرًا قرأ صلاة الجمعة بصوت واضح، وصلاة الجمعة تتلى بدلاً عن الصلاة اليومية التي تتلى عندما يحضر الإمام. ثم فسر بعضًا من بيانات الباب وختم الكلام بقوله: ’’إن الغاية التي يسعى إليها العالم هي الآن بين أيدينا دون حجاب أو عائق. فقد أشرقت شمس الحقيقة وانطفأت مصابيح الأوهام والتقليد. لتكن أعينكم ناظرة إلى الباب وليس إليّ، لأني أدنى عبيده. ومعرفتي بالنسبة إلى علمه كشمعة مطفأة أمام شمس الضحى. فاعرفوا الله بالله والشمس بأشعتها. لذا في هذا اليوم ظهر صاحب الزمان وحُيّ سلطان الإمكان.‘‘ ولا حاجة للتأكيد على التأثير العميق لهذه الكلمات على المستمعين. وقد قبل جميعهم تقريبًا هذه الرسالة وتحادثوا فيما بينهم بشأن طبيعة الباب الحقيقية.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 335)

له إن هذا الحق هو امتياز مطلق له ولآبائه من قبل، وإنه أخذ الولاية بذلك من السلطان، ولا يمكن لأحد مهما علت منزلته أن يغتصبه منه. فأجابه الحجة: ’إن هذا الحق قد استُبدل الآن بالولاية التي منحت لي من القائم نفسه، وقد أمرني أن أؤدي هذه الوظيفة علنًا ولا أسمح لأي شخص أن يعتدي على هذا الحق. وإذا هوجمت، فإني آخذ العدة للدفاع عن نفسي وعن حياة أصحابي.‘

وكان إصراره الجريء على إتمام المأمورية التي وكّله بها حضرة الباب، قد ألجأ علماء زنجان أن يتفقوا مع إمام الجمعة(1) ويعرضوا شكواهم للحاج ميرزا آقاسي، مدعين أن الحجة تحدى صلاحية مؤسسة دينية راسخة، وتعدى على حقوقهم، وقالوا: ’إما أن نهرب من هذه المدينة بأُسرنا وممتلكاتنا ونتركه مسؤولاً وحيدًا عن مصائر الأهالي، أو نحصل من محمد شاه على مرسوم بطرده حالاً من هذه المملكة، لأننا نعتقد بقوة أن في تركه والسماح له بالبقاء في أرضها خطر داهم.‘ وأخيرًا اضطر الحاج ميرزا آقاسي نظرًا لإلحاحهم أن يعرض الأمر على محمد شاه، ولو أنه كان في قلبه لا يثق بالنظام الديني السائد في المملكة ويبغض معتقداتهم وشعائرهم. فأمر محمد شاه بنقل الحجة من زنجان إلى العاصمة.

وأرسل الشاه مبعوثًا كرديًا اسمه قِليج خان إلى الحجة حاملاً المرسوم الملكي باستدعائه. وفي الأثناء كان حضرة الباب قد وصل إلى مشارف طهران في طريقه إلى تبريز. وقبل وصول المبعوث الملكي إلى زنجان، كان الحجة قد أرسل أحد أصحابه المدعو خان محمد توبچي إلى مولاه (حضرة الباب) مع عريضة يطلب فيها أن يسمح له بتخليصه من يد الأعداء. فأكدّ له حضرة الباب أن تخليصه لا يقدر عليه سوى القدير وحده وأن الإنسان لا يمكنه أن يفرّ من إرادته أو يتجنب حكمه.‘ وزاد بقوله: ’أما عن اجتماعك بي فسوف يحصل قريبًا في العالم الآخر، مقام العزة الأبدية.‘

________________________

(1) ’وكان إيمان الملاّ محمد علي، وأنصاره العديدين قد أفقد إمام الجمعة وشيخ الإسلام صبرهما. فكتبا خطابات ساخطة إلى جلالته الذي أجابهما بإصدار الأمر بالقبض على المذنب.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 336)

وفي اليوم الذي استلم فيه تلك الرسالة، وصل قليج خان إلى زنجان، وأطلعه على الأوامر التي صدرت إليه، فسافرا معًا إلى العاصمة. وتصادف وصولهما هناك مع رحيل حضرة الباب من قرية كُلَين التي مكث فيها بضعة أيام.

وكانت السلطات قد عملت ترتيبها لضمان غياب الحجة عن زنجان في الوقت الذي يمر فيه حضرة الباب في تلك المدينة خوفًا من حصول ما لا تُحمد عُقباه، إذا اجتمع الحجة مع حضرة الباب. أما الأصحاب الذين تبعوا الحجة في طريقه إلى العاصمة، فقد أمرهم أن يعودوا إلى المدينة ويسعوا لمقابلة مولاهم وأن يؤكدوا له استعداده لإنقاذ حضرته. وإذ كانوا قافلين إلى المدينة تقابلوا مع حضرة الباب الذي أكد لهم رغبته في أن لا يسعى أحد منهم في إنقاذه من حبسه، بل أمرهم أن يخبروا أتباعه من أهالي بلدتهم أن لا يزدحموا حوله وأن يمتنعوا عن تعقبه أينما ذهب.

وما كادت تصل هذه الرسالة إلى آذان الأهالي الذين خرجوا للترحيب به، حتى أخذوا يندبون حظهم ويحزنون، ولكنهم لم يقدروا على مقاومة الحافز الذي دفعهم للخروج للقائه، متناسين الرغبة التي أبداها.

وما كادوا يتقابلون مع الحرس الذي تقدم موكب سجينهم، حتى فرّقهم الحرس بلا شفقة. وعند الوصول إلى مفترق طرق، حصلت مشادة ما بين محمد بيك چاپارچي وبين زميله الذي أرسل من طهران ليساعده في نقل حضرة الباب إلى تبريز، وكان محمد بيك مصممًا أن يأخذ المسجون إلى المدينة ويسمح له قبل مواصلة الرحيل إلى آذربيجان بالمبيت تلك الليلة في خان ميرزا معصوم الطبيب، والد ميرزا محمد علي الطبيب، أحد شهداء الأمر. وقال بأنه لو أمضى الليلة خارج المدينة فإنه يعرض نفسه للخطر ويشجع خصومه على الفتك به. وأخيرًا نجح في إقناع زميله بأخذ حضرة الباب إلى ذلك الخان، وإذ كانوا يمرون في شوارع المدينة، دهشوا إذ رأوا الجماهير محتشدة على أسطح المنازل بشوق زائد لرؤية وجه المسجون.

وكان ميرزا معصوم مالك الخان الأصيل قد توفي حديثًا، وجاء نجله الأكبر ميرزا محمد علي، الذي كان من كبار أطباء همدان، إلى زنجان لإقامة مأتم والده. ومع

صورة 180
صورة 181

خان ميرزا معصوم الطبيب في زنجان، والغرفة (x) التي شغلها حضرة الباب

أنه لم يكن من الأحباء، إلا إنه كان محبًا لحضرة الباب. فاستقبله في الخان بالمحبة والحفاوة بعد أن أعده مسبقًا. وفي تلك الليلة بقي مع حضرة الباب إلى ساعة متأخرة وآمن به.

وسمعته فيما بعد يروي ما يلي: ’في الليلة التي اعتنقت فيها الأمر قمت مبكرًا في الفجر، وأوقدت المصباح وأخذت خادم أبي وتوجهت إلى الخان. وقد عرفني الحراس الذين كانوا على الأبواب وصرحوا لي بالدخول. وكان حضرة الباب يؤدي فرائض الوضوء عندما أدخلت إلى محضره. وتأثرت تأثرًا عميقًا إذ رأيته منهمكًا في أداء تلك الفرائض. وإذ وقفت أصلي خلفه، ملأ الفرح جوانحي وقُمت وأعددت الشاي بنفسي وقدمته له، فالتفت إليّ وأمرني أن أرحل إلى همدان قائلاً: ’’إن هذه المدينة سوف تقع في اضطراب عظيم وتجري شوارعها بالدماء.‘‘ فأظهرتُ رغبة شديدة في الاستشهاد في سبيله، فأكد لي أن ساعة شهادتي لم تأتِ بعد وأمرني أن أتكل على الله في كل ما يأمر به. وفي ساعة الشروق إذ كان يمتطي جواده استعدادًا للرحيل، رجوته أن يسمح لي بمرافقته، ولكنه نصحني بالبقاء وأكد لي دعواته الحارة. فرضخت لإرادته ورمقته حتى غاب عن عيني وأنا متأسف لفراقه.‘

ولما وصل الحجة إلى طهران، أحضروه أمام الحاج ميرزا آقاسي، وأظهر له بالنيابة عن الشاه وعن نفسه، اشمئزازه من العداء الكبير الذي أثاره سلوكه بين علماء زنجان، وقال له: ’لقد أقلقنا العلماء بالاحتجاجات المستمرة التحريرية والشفهية ضدك، وإني شخصيًا لا أصدق ادعاءهم بأنك قد تركت دين آبائك، ولا يميل الشاه إلى تصديق ذلك. وقد أمرني أن أدعوك إلى العاصمة لدحض هذه الافتراءات، فإنه ليحزنني أن أسمع أن رجلاً في اعتقادي أسمى في المعرفة والمكانة من السيد الباب، قد اختار أن ينضم إليه.‘ فأجابه الحجة بقوله: ’ليس كذلك، ويعلم الله، إنه لو أوكلني السيد الباب إلى أحط عمل في منزله، كنت أعتبره الشرف الذي لا يبلغه أسمى وأعلى الإنعامات الملكية.‘ فصاح الحاج ميرزا آقاسي غاضبًا: ’ذلك لن يكون أبدًا.‘ فأكد له الحجة بقوله: ’إن اعتقادي الراسخ المتين هو أن ذلك السيد من شيراز هو نفس الذي تنتظره أنت وجميع من على الأرض بشوق، فهو مولانا وهو مخلّصنا الموعود.‘

فنقل الحاج ميرزا آقاسي الموضوع إلى محمد شاه، وأظهر له خوفه من أن يسمح المليك لهذا المعاند القوي والذي يعتقد فيه المليك أنه أكفأ علماء المملكة، بالاستمرار

في مساعيه وجهوده بغير إعاقة ، لأن في ذلك خطرًا عظيمًا على الدولة. ولما كان الشاه غير ميّال لتصديق مثل هذه التقارير التي نسبها إلى الحسد والغيرة الصادرة من أعداء المتهم، أمر بعقد اجتماع خاص يسأله فيه أن يدعم رأيه بالبرهان التام أمام مجمع من علماء العاصمة.

فالتأمت لذلك جملة اجتماعات كان الحجة يظهر فيها صحة الدعوة بكل فصاحة مبطلاً احتجاجات الذين حاولوا معارضته. وأعلن بجرأة: ’أليس من الحديث المتفق عليه بين أهل السنة والشيعة الذي قال الرسول الأكرم فيه: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي." وما دام أحد الثقلين قد غاب وتولى حسب اعتقادكم، فإن الآخر، وهو الكتاب، موجود وهو الواسطة الوحيدة بيننا للهداية. فأطلب إليكم أن تجعلوا الكتاب رائدكم وأن نعتبره المثل الأعلى، وبالميزان المذكور نقيس أي دعوى من دعاوينا.‘ فلما عجزوا عن الدفاع لم يجدوا مخرجًا إلا أن يتجاسروا على طلب معجزة ليثبت بها مدعاه. فصاح فيهم قائلاً: ’أي معجزة أكبر من أنه مكنني دون مساعدة وبقوة حجتي أن أنتصر وحدي عليكم وعلى جميع المجتهدين والعلماء في طهران؟‘

وكانت الطريقة الفائقة التي دحض بها الحجة مزاعم خصومه الواهية قد أكسبته حظوة مليكه الذي لم يعبأ فيما بعد بتمويهات أعدائه. ورغم أن جماعة علماء زنجان وعددًا كبيرًا من علماء طهران حكموا بكفره وأمروا بإعدامه، فإن محمد شاه استمر في منحه الإنعامات وأكد له القول بأنه يكون دائمًا واثقًا من مساعدته. ومع أن الحاج ميرزا آقاسي كان في الباطن معاديًا للحجة، إلا أنه لم يجرؤ على مقاومة نفوذه علنًا أمام الشواهد الواضحة للحظوة الملكية. واجتهد أن يخفي حسده وحقده وبدأ بتملقه عن طريق زياراته المتكررة لمنزله وبالهدايا التي كان يقدمها إليه.

وكان الحجة في الواقع سجينًا في طهران، فلم يكن يقدر على مغادرة بوابات العاصمة، ولم يُسمح له بمحادثة من يريد من أصحابه أو مقابلتهم. أما المؤمنون في بلدته، فعزموا على أن يرسلوا له رسالة ويطلبوا منه أن يصدر إليهم الأوامر فيما يختص بتعاليم دينهم. فأمرهم أن يتبعوا بكل إخلاص النصائح التي وصلتهم من حضرة الباب بواسطة الرسل الذين أرسلهم

(الحجة) للتحقق من الأمر الجديد. وعدّد لهم سلسلة أوامر كان بعضها يخالف التقاليد الإسلامية، وأكد لهم قائلاً: ’إن السيد كاظم الزنجاني كانت له علاقة متينة بمولاي في شيراز وفي إصفهان. وكان هو والملاّ إسكندر والمشهدي أحمد اللذان أرسلتهما لمقابلة حضرة الباب يقولون، بأن حضرة الباب نفسه أول من يقوم على أداء الفرائض التي تقررت على المؤمنين في الآيات الإلهية والألواح، فعلينا نحن الأنصار أن نتبع مثاله النبيل.‘

وما كادت هذه التعليمات الصريحة تُقرأ على الأصحاب، حتى بدت منهم الرغبة الشديدة في العمل بأوامره. وبدأوا العمل بتطبيق أحكام الدورة الجديدة بكل حماس، تاركين تقاليدهم وعاداتهم القديمة، ناسبين أنفسهم دون تردد إلى دعاويه. وشجعوا حتى الأطفال ليتعلموا اتّباع نصائح حضرة الباب بدقة. وعلّموهم أن يقولوا: ’إن مولانا المحبوب كان نفسه أول من يتبعها، فلماذا نتردد، نحن أتباعه الممتازون، في أن نجعل هذه القواعد نبراس حياتنا؟‘

وكان الحجة لا يزال مسجونًا في طهران، إذ وردته أخبار حصار قلعة الطبرسي. وكان يتمنى أن يكون نصيبه مع الأقران الذين كانوا يحاربون لأجل تحرير دينهم بشهامة فائقة، وكان يأسف لعجزه عن ذلك. وكانت تعزيته الوحيدة في تلك الأيام، اتصاله الدائم بحضرة بهاءالله، مستمدًا منه القوة التي مكّنته في مستقبل الأيام أن يمتاز بأعمال لا تقل شهامة عن أعمال هؤلاء الأصحاب في أظلم ساعات ذلك النزاع الخطير.

وكان مقيمًا في طهران حينما وافت محمد شاه منيته تاركًا عرشه لابنه ناصر الدين شاه.(1) وكان ميرزا تقي خان، أمير النظام، رئيس الوزراء الجديد، قد وطّد العزم على أن يشدد في حبس الحجة والبحث عن طريقة للقضاء عليه. ولما علم سجينه بالخطر الذي يهدد حياته، عزم على مغادرة طهران متنكرًا والانضمام لأقرانه الذين كانوا يشتاقون إلى رجوعه.

________________________

(1) ’وبقي في طهران إلى يوم تعيين الأمير أرسلان خان، مجد الدولة، أحد أعمام ناصر الدين شاه، حاكمًا لزنجان. وجاء هذا التعيين فور وفاة محمد شاه وتقلد ناصر الدين ميرزا الحكم. وقبل ذلك كان الأمير المذكور يعمل في وظيفة "إشِق آقاسي" [رئيس الديوان] في القصر.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 337)

وأذاع المدعو الكربلائي ولي عطّار إلى أصحابه خبر وصول الحجة إلى موطنه، فكان ذلك إشارة لانطلاق مظاهر الطاعة والإخلاص من جانب مريديه العديدين. فهرعوا رجالاً ونساءً وأطفالاً للترحيب به ولتجديد تأكيد ولائهم ومحبتهم التي لا تخبو.(1) وكان حاكم زنجان، مجد الدولة،(2) خال ناصر الدين شاه، قد صعق من عفوية مظاهر تلك الحفاوة. وإذ اشتد غضبه ويأسه، أمر أن يُقطع لسان الكربلائي ولي عطار في الحال. ومع أنه كان في الباطن يكره الحجة، إلا أنه تظاهر بأنه صديقه ويتمنى له الخير. فكان كثيرًا ما يزوره ويُظهر له الاحترام الفائق، ومع ذلك كان يتآمر على حياته سرًا وينتهز الفرصة ليكيل له الضربة القاضية.

وكان لجمرات عدائه الكامنة أن تشتد اشتعالاً بهبوب أرياح حادثة ذات أهمية ضئيلة بحد ذاتها. فسنحت الفرصة عندما نشبت فجأة مشاجرة بين طفلين من زنجان، أحدهما ابن أحد أصحاب الحجة. فأمر الحاكم حالاً أن يُقبض على الطفل ويوضع في الحبس المشدد. فتقدم الأحباء للحاكم راجين أن يفرج عن المسجون الصغير بمقابل دفع مبلغ من المال،

________________________

(1) ’ودخل مدينة موطنه دخول المنتصر. والآن إذ أصبح بابيًا، أضاف إلى أصحابه القدماء كل من اعتنق الأمر الجديد. فجاء لملاقاته جم غفير، من الأغنياء والمرموقين، والجنود، والتجار، وحتى الملاّوات. وقابلوه على بعد محطة أو محطتين من المدينة، ورافقوه إلى منزله، لا كلاجئ عائد، ولا متوسل يطلب الراحة ولا خصم له من القوة ما يوجب الاحترام، بل دخل سيدًا.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى لجوبينو، الصفحة 193). ’ويؤكد مؤلف "ناسخ التواريخ" نفسه أن كثيرًا من أهالي زنجان، من بينهم كبار موظفي المدينة، خرجوا مسافة محطتين لمقابلته خارج المدينة. واستقبلوه كفاتح منتصر، وذبحوا عددًا من الخراف تكريمًا له. ولم يجسر أحد من أعدائه أن يسأله عن مغادرته طهران وعودته إلى زنجان. ولكن الإسلام كان موضع امتحان، لأن الزنجانيين كانوا يدعون إلى الدين الجديد في مختلف أنحاء المدينة. ويذكر المؤلف المذكور أن الزنجانيين بسطاء ووقعوا في الشرك، ولكنه ناقض نفسه إذ قرر إن الذين التفوا حول الزعيم الجديد لم يكونوا سوى الماكرين الطامعين في الممتلكات الدنيوية، وكذلك الأشخاص غير الأتقياء. إلا أنهم كانوا كثيرين، وحسب روايته، بلغ عددهم نحو خمسة عشر ألفًا، ولكن يبدو أن العدد مبالغ فيه.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 337-338)

(2) ’وكان مجد الدولة، حاكم المدينة، الرجل القاسي متحجر القلب، قد غضب إذ سمع خبر عودة رجل مثير للمتاعب كالحجة. فأمر بجلد محمد بيك وقطع لسان الكربلائي ولي.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 337)

ولكنه رفض عرضهم، فشكوا للحجة الذي كتب للحاكم يقول: ’إن ذلك الطفل صغير جدًا ليكون مسؤولاً عن تصرفه. فإذا كان مستحقًا للعقاب، فليعاقب والده بدلاً عنه.‘

ولما وجد الحجة أن التماسه رفض، جدد احتجاجه وأوكله لأحد أصحابه من ذوي النفوذ، وهو مير جليل، والد السيد أشرف الزنجاني، وأحد شهداء الأمر، وأمره أن يقدمه بنفسه للحاكم. وفي البداية رفض الحراس الواقفون عند مدخل المنزل السماح له بالدخول، فاستشاط غضبًا من رفضهم وهددهم باقتحام البوابة بالقوة، وتمكن بالتهديد بسَلّ سيفه من التغلب على مقاومتهم وأن يجبر الحاكم الغاضب بالإفراج عن الطفل.

وأثارت موافقة الحاكم لطلب مير جليل، دون قيد أو شرط، غضب العلماء الشديد. فاحتجوا بعنف واستنكروا خضوعه للتهديدات التي أراد خصومه أن يخيفوه بها. وعبّروا له عن خشيتهم بأن مثل ذلك الاستسلام من جانبه سيشجعهم على فرض مطالب أخرى أعظم عليه، ويمكنهم بذلك قبل مرور وقت طويل من الاستيلاء على زمام السلطة وحرمانه من أي مشاركة في إدارة الحكومة. وأخيرًا تمكنوا أن يقنعوه بالموافقة على القبض على الحجة، مقتنعين بأن ذلك العمل سينجح في صد تقدم تأثيره ونفوذه.

فوافق الحاكم على مضض. وأكد العلماء له مرارًا أن ليس في عمله أي خطر على الأمن والسلام في المدينة بأي حال من الأحوال. وتطوع اثنان من أنصارهم وهما، پهلوان أسد الله وپهلوان صفر علي،(1) وهما مشهوران بوحشيتهما وقوتهما المذهلة، بأن يقبضا على الحجة ويسلّماه للحاكم مغلول اليدين. فوعد كلا منهما بمكافأة جزيلة لتلك الخدمة. وقاما مدرعين والخوذ على رأسيهما وتبعتهما عصبة من الأوباش من أحط طبقات الأهالي لتنفيذ غرضهما. وكان العلماء في تلك الأثناء منهمكين في تحريض الناس وتشجيعهم على دعم جهودهم.

وما كاد المبعوثان يصلان إلى الحيّ الذي يقيم فيه الحجة، حتى واجههما فجأة مير صلاح، أحد أنصاره الأقوياء مع سبعة من الأصحاب المسلحين، وصدوا هجومهما،

________________________

(1) "پهلوان" تعني رياضي أو بطل. عبارة تطلق على الرجل الشجاع مفتول العضلات.

وسأل أسد الله إلى أين يريد التوجه، فلما سمع منه ردًا مهينًا، استل سيفه وصاح قائلاً: ’يا صاحب الزمان‘، وانقض عليه وجرحه في جبهته. وكانت جسارة مير صلاح، بالرغم من درع عدوه الثقيل، قد أخافت العصبة بأسرها وألجأتهم إلى الهرب في جهات مختلفة.(1)

وكانت الصيحة التي صدرت من صاحب هذا القلب القوي المدافع عن الدين، قد سمعت لأول مرة في مدينة زنجان وأحدثت رعبًا انتشر في أنحائها وارتعب الحاكم من قوتها وشدتها. وسأل عن هذه الصيحة ومعناها ومن الذي اقتدر عليها. وارتعد رعبًا عندما علم أنها العبارة التي يطلب بواسطتها الأصحاب مساعدة القائم في ساعة الخطر.

أما باقي العصبة الخائفين، فقابلوا فيما بعد الشيخ محمد توبچي، ولما عرفوا أنه من خصومهم الأقوياء، وأنه غير مسلح، انقضوا عليه وضربوه على رأسه بفأس كان يحملها أحدهم، فكسروه ونقلوه إلى مقر الحاكم، وما كادوا يضعون الجريح أمامه حتى قفز أحد مجتهدي زنجان الذي كان حاضرًا واسمه السيد أبو القاسم وطعنه بمطواة في صدره. وكذلك الحاكم، مجد الدولة، استل سيفه وضربه على فمه، وأعقبه المأمورون وضربوه بالأسلحة التي كانت معهم وأكملوا الجريمة بحق ضحيتهم سيء الطالع. وكان يُسمع منه، وهو يتلقى الضربات، غير مكترث بآلامه: ’لك الحمد يا الهي بما أنعمت عليّ بتاج الشهادة.‘ فكان أول من أسلم حياته في سبيل الأمر من بين المؤمنين في زنجان. وكانت وفاته يوم الجمعة الموافق للرابع من رجب سنة 1266ﻫ،(2) قبل شهادة وحيد في نيريز بخمسة وأربعين يومًا، وقبل شهادة حضرة الباب في تبريز بخمسة وخمسين يومًا.

وبدلاً من أن يطفئ الدم الذي سفك في ذلك اليوم، نار ضغينة الأعداء، فإنه ساهم في تأجيج انفعالهم وتعزيز تصميمهم على إيقاع العقاب نفسه على باقي الأصحاب. وإذ تشجعوا بموافقة الحاكم الضمنية على نواياهم الواضحة، عزموا على قتل كل من يمكنهم أن يقبضوا عليه دون استئذان مسبق من مسؤولي الحكومة. وتعاهدوا فيما بينهم ألا يستريحوا

________________________

(1) ’وإزاء ذلك المنظر، ولّى المسلمون الأدبار. وأما الجريح فقد اعتنت به عمة المير صلاح في منزلها.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 341)

(2) 16 مايو/أيار سنة 1850م.

حتى يطفئوا تلك النار الموقدة التي يعتبرونها كفرًا شنيعًا.(1) وأجبروا الحاكم على أن يطلق مناديًا في أنحاء زنجان، ليعلن بأن كل من يريد أن ينضم إلى الحجة وأصحابه، فإنه يجعل حياته في خطر ويفقد أملاكه ويعرض زوجته وأولاده للذلّ والإهانة. ومن يحب أن يضمن الراحة والشرف لنفسه ولعائلته فليهجر الحيّ الذي تسكنه تلك الجماعة، ويطلب حماية السلطان.

وكان من جراء هذا الإنذار، أن انقسم الأهالي فورًا إلى معسكرين منفصلين، وكان بمثابة امتحان شديد لإيمان الذين كانوا مترددين في ولائهم للأمر. وسبّب أعظم الحوادث المؤثرة، وأوجب تفريق الآباء عن أبنائهم وتباعد الأخوة والأقارب. وبدا أن روابط الاتصال والمحبة الدنيوية قد انفصمت في ذلك اليوم، ونسيت العهود والطاعات الأرضية لطاعة أقوى وأقدس. ووقعت زنجان فريسة لأقسى هياج، وارتفع الضجيج من أفراد الأسر المنقسمة إلى عنان السماء من شدة اليأس الممزوج بصيحات الكفر التي يطلقها العدو في تهديداته لهم. وتقابلها صيحات الفرح الصادرة من الذين نبذوا منازلهم وأقرباءهم وانضموا لنصرة أمر الحجة عن طيب خاطر. وكان معسكر العدو يدوي بالاستعدادات الحامية للمعركة القادمة التي عزموا سرًا على خوض غمارها، وجاءتهم التعزيزات من القرى المجاورة بأمر الحاكم وتحريض المجتهدين والأشراف والعلماء الذين دعموه.(2)

________________________

(1) ’وكتب الحاكم والعلماء إلى جلالته تقارير أظهروا فيها تخوفهم وحيرتهم. وكان الشاه، الذي انتهى لتوه من الحرب في مازندران، قد اشتعل غضبه من فكرة اندلاع عصيان آخر في مقاطعة أخرى من إمبراطوريته، وإذ حرضه ابنه، الصدر الأعظم، والعلماء الذين أعلنوا الجهاد، أصدر أمره بقتل البابيين ونهب ممتلكاتهم. وكان وصول هذا الأمر إلى زنجان في يوم الجمعة الثالث من رجب.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 341-342)

(2) ’وسادت الفوضى والاضطراب في كل مكان. وتدافع المسلمون في كل الاتجاهات، يبحثون عن زوجاتهم أو أطفالهم أو ممتلكاتهم، يأتون ويذهبون كالمجانين، ذاهلين ضائعين، يبكون على ترك ما لم يقدروا على حمله. وتفرقت العائلات، ودفع الآباء أبناءهم للخلف، والزوجات أزواجهن، والأطفال أمهاتهم. وتركت منازل بأكملها مقفرة، وهكذا كان الاستعجال واللهفة. وأرسل الحاكم جنوده إلى القرى المجاورة لجمع الرجال للحرب المقدسة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 342)

ولم يعِق الحجة ما شاهده من الهياج المتعاظم، بل صعد المنبر وبصوت جهوري خطب في الجموع المحتشدة قائلاً: ’إن يد القدرة قد فصلت في هذا اليوم، الحق من الباطل، وفرّقت بين نور الهداية وظلمة الضلالة، ولا أريد أن تتحملوا ضررًا بسببي، وإن غرض الحاكم الوحيد وغرض العلماء الذين يساعدونه هو القبض عليّ وقتلي، وليس لهم مطمع في شيء آخر، فليس لهم ظمأ إلا لشرب دمي ولا يقصدون إيذاء أحد سواي، فكل من يبغي منكم أن يحفظ نفسه من الأخطار التي نحن معرضون لها أو يتردد في أن يضحي بحياته لأجل الأمر، فليرجع من هذا المكان إلى حيث أتى قبل أن تفوته الفرصة.‘(1)

وفي ذلك اليوم جنّد الحاكم أكثر من ثلاثة آلاف رجل من القرى المجاورة لزنجان، وفي أثناء هذا شاهد مير صلاح ومعه بعض أقرانه قلق الأعداء المتزايد، فطلبوا مقابلة الحجة وحرّضوه على أن ينقل مقره إلى قلعة "علي مردان خان"(2) في جوار الحيّ الذي يقطنه،

________________________

(1) ’وفي المقابل، لم يقف البابيون مكتوفي الأيدي، فنظموا أمورهم واستعدوا للدفاع عن أنفسهم. وكان الحجة ينصحهم أن لا يتعدوا على أحد قط، بل يدافعون عن أنفسهم. فكان يقول لهم: ’’يا إخواني، لا تخجلوا مني. ولا تظنوا لأنكم أصحاب صاحب الزمان، ستقهرون العالم بحد السيف. فاعلموا، والله يشهد على كلامي، أنهم سوف يقتلونكم ويحرقونكم ويرسلون رؤوسكم من مدينة إلى أخرى. إن نصركم الحق هو في استعدادكم المستمر للتضحية بأنفسسكم وبنسائكم وبممتلكاتكم. فمشيئة الله في كل زمان أن يجعل دم المخلصين دهنًا لمصباح الدين. وقد سمعتم بالتعذيب الذي تحمّله شهداء مازندران الأبرار. فقد قُتلوا لأنهم أكدوا أن المهدي الموعود قد جاء. وإني أقول لكم بأن من لم يكن منكم مستعدًا لتحمل مثل ذلك العذاب فليذهب إلى الجانب الآخر لأننا كلنا سنستشهد. أليس سيدنا ومولانا في قبضة يدهم؟‘‘ ‘("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 342-343)

(2) ’تصور لنفسك مدينة إيرانية! شوارع ضيقة لا يزيد عرضها عادة عن أربعة أو خمسة أو ثمانية أقدام على الأكثر. وهي غير مرصوفة وممتلئة بالحفر الكثيرة بحيث يجدر السير فيها باحتراس شديد لئلا تنكسر الأرجل. أما المنازل فليس لها نوافذ على الشارع، وعلى جانبيها جدران متصلة ببعضها ترتفع خمسة عشر قدمًا في الغالب، وتعلوها شرفة بلا حاجز، وأحيانًا تتوّج بما يسمى "بالا خانة" أو مقصورة مفتوحة، فتدل على منزل أحد الأغنياء. وكل ذلك مبني من اللَبِن أو الطوب المجفف تحت أشعة الشمس. أما أعمدتها فهي مصنوعة من طوب الأفران. وهذا النوع من البناء قديم ومعروف في مدن بلاد ما بين النهرين القديمة، وله مزايا عديدة، فهو رخيص التكلفة وصحي ويتكيف مع البناء المتواضع البسيط، ويمكن بناء كوخ منه، أو قصر مغطى بالكامل بالفسيفساء، ومزين باللوحات البراقة المذهبة. ولكن، كما هو حال كثير من الأمور في هذا العالم، فإن مقابل هذه الامتيازات تجد المنازل المذكورة سريعة العطب تحت أقل تأثير. فلا تحتاج إلى مدفع بل إن مطرًا بسيطًا يكفي لهدمها. وهكذا يمكننا أن نتخيل كيف أن المدن العظيمة التي كانت مشيدة على هذا الطراز، لم يبق ↓

وذلك كإجراء احترازي. فوافق الحجة على ذلك وأمر بنقل النساء والأطفال والمؤونة التي يحتاجونها إلى القلعة. ولما وجدوا القلعة مسكونة، رجوا أصحابها بالانسحاب منها وأعطوهم بدلها منازلهم التي أخلوها والتي كانوا يقطنون فيها.

وكان العدو في تلك الأثناء يستعد لشن هجوم عنيف عليهم. ولم تكد فرقة من القوات تطلق النيران على الاستحكامات التي أنشأها الأصحاب، حتى طلب مير رضا، وهو سيد ذو شجاعة فائقة، من الحجة أن يسمح له بأن يقبض على الحاكم ويأتي به سجينًا إلى القلعة. فلم يوافق الحجة على هذا الطلب ونصحه أن لا يجازف بحياته في هذا السبيل.

وإذ سمع الحاكم بعزم ذلك السيد، أخذ منه الخوف كل مأخذ وعزم على ترك زنجان في الحال، ولكن سيدًا آخر أقنعه بالعدول عن هذا المسلك خوفًا من حدوث اضطرابات جسيمة على أثر ذلك تستوجب احتقاره في نظر رؤسائه، وقرر السيد أنه سوف يهجم بنفسه على القاطنين في القلعة كشهادة منه على أنه جاد في قوله. وما كاد يهجم ومعه ثلاثون من أقرانه، حتى قابل فجأة اثنين من خصومه شاهرين سيفيهما، فظن أنهما يريدان الهجوم عليه وعلى أقرانه، وأخذه الخوف ورجع توًا إلى منزله ونسي العهود التي قدمها للحاكم وبقى في منزله وأغلق عليه الغرفة بقية ذلك النهار. وأما الذين كانوا معه، فتفرقوا وتركوا العزم على متابعة الهجوم وفهموا فيما بعد أن الاثنين اللذين قابلوهما لم يكونا يقصدان أي هجوم عليهم. بل كانا في طريقهما لإتمام مأمورية كُلفا بها.

وسرعان ما وقعت بعد تلك الحادثة المخجلة جملة مناوشات من مؤيدي الحاكم، انتهت كلها بالخيبة والفشل في تحقيق غايتها. وكلما هجموا على القلعة، يأمر الحجة بعضًا من أصحابه الذين كان مجموع عددهم ثلاثة آلاف أن يخرجوا من مكمنهم ويشتتوا

_____________________________________________________________________

منها سوى بعض بقايا من المعابد والقصور والأكوام متناثرة في السهول. ففي بضع سنين تختفي أحياء بالكلية دون ترك أي أثر إذا كانت المنازل فيها تترك بلا صيانة. ولما كانت جميع مدن إيران مبنية على هذا الطراز ومن المواد نفسها، فمن السهل تصور زنجان بأسوارها المزودة بفتحات لإطلاق النار، والأبراج الشامخة، ثم شوارعها الملتوية غير المرصوفة والمليئة بالحفر. وفي وسط كل ذلك تشمخ قلعة حصينة تدعى قلعة علي مردان خان.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 197-198)

شملهم. ولكنه لم يفته أن ينبّههم في كل مرة أن لا يسفكوا دماء أعدائهم دون مبرر، وأن تكون مهمتهم الوحيدة قاصرة على الدفاع والمحافظة على عدم خرق حرمة النساء والأطفال. وكان يسمع مرارًا يقول لهم: ’إننا مأمورون أن لا نثير حربًا دينية بأي حال من الأحوال على غير المؤمنين مهما كان موقفهم تجاهنا.‘

واستمر الحال على هذا المنوال(1) إلى أن صدرت أوامر أمير النظام إلى أحد قادة الجيش الملكي المدعو صدر الدولة الإصفهاني(2) الذي خرج على رأس فوجين قاصدًا آذربيجان. وقد وصلته الأوامر الكتابية من رئيس الوزراء في بلدة "خمسة" بأن يلغي سفره المقرر ويتجه فورًا إلى زنجان لمساعدة القوات التي حشدتها الحكومة. ومما كتبه أمير النظام: ’إنك مأمور من مليكك أن تخضع فئة المفسدين التي اجتمعت في زنجان وما حولها.

________________________

(1) ﴿وكان [حاكم زنجان] خائفًا على نفسه فاتخذ الاحتياطات للمحافظة على سلطته وقدم لميرزا محمد تقي خان، الأمير الكبير، تقريرًا كاذبًا عن سير الأحداث، لأنه خشى أن يأتي آخر أقوى منه وينتزع السلطة من يده ويضعف نفوذه. وبناء على تقاريره صدر الأمر الملكي إلى السيد علي خان، المقدّم في فيروز كوه بأن يزحف مع جحفل من الخيالة والمشاة إلى زنجان ويقبض على الملاّ محمد علي الذي كان قد لجأ إلى القلعة مع أتباعه (نحو خمسة آلاف). وبمجرد وصوله حاصر السيد علي خان القلعة، وبهذه الكيفية اشتعل فتيل النزاع، وازداد يومًا بعد يوم عدد القتلى من الجانبين إلى أن انهزم هزيمة مخجلة، واضطر لطلب التعزيزات من العاصمة. فأرادت الحكومة أن ترسل المقدّم جعفر قلي خان، أخا اعتماد الدولة، ولكنه اعتذر وقال لميرزا تقي خان، الأمير الكبير: ’إني لست ابن زياد لأشهر الحرب على طائفة من الأسياد ورجال العلم الذين لا أعلم شيئًا عن معتقداتهم، ولكني مستعد لمقاتلة الروس أو اليهود أو غيرهم من المشركين.‘ وكذلك امتنع غيره من الضباط أن يدخلوا في هذه الحرب. وكان منهم مير سيد حسين خان من فيروز كوه الذي طرده الأمير ميرزا تقي خان وأذله إذ علم بميوله. وكذلك العديد من الضباط التابعين لطائفة "العلي اللهيين" الذين، ولو أنهم ذهبوا للحرب، لكنهم انسحبوا منها عندما عرفوا الموضوع بصورة أوضح. لأن رئيسهم أمرهم بالامتناع عن المحاربة، ولذلك هربوا. لأنه مكتوب في كتبهم إنه عند حضور عسكر جوران إلى عاصمة الملك، يظهر رب الزمان (يدعونه الله)، وقد تحققت هذه النبوة الآن. وكذلك لديهم من الأشعار ما يدل على تاريخ الظهور، وهذه أيضًا انطبقت على ذلك الزمان. فكانوا لذلك مقتنعين بأن ذلك هو الحق الذي ظهر، وطلبوا أن يعفوا من الانضمام إلى الحرب لأنهم غير قادرين على خوضها. وقد قالوا للبابيين: ’في الحروب المقبلة، وعندما يكون نسيج دينكم قد تقوّى، فسوف نساعدكم.‘ وبالاختصار عندما لم يشاهد ضباط الجيش في أعدائهم سوى الإخلاص والتقوى والتدين، تردد بعضهم سرًا ولم يستعملوا كل قوتهم في الحرب.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 138-143)

(2) وقال جوبينو (الصفحة 198) إنه كان حفيد الحاج محمد حسين خان الإصفهاني.

ومن موجبات الشرف لكم أن تسحق آمالهم وتبيد قواتهم، ومثل هذه الخدمة الفريدة تستوجب لك أكبر كرامة في نظر الشاه وأعظم احترام وإجلال في نظر الناس.‘

وكان هذا الفرمان المشجع قد أثار مخيلة صدر الدولة الطموح، فقام للحال إلى زنجان على رأس فوجين من جنوده ونظم القوات التي وضعها الحاكم في تصرفه وأمر بشن هجوم مشترك على القلعة والمدافعين عنها.(1) ودامت المعركة في جوار القلعة ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وفيها كان المحاصرون يدافعون ويقاومون هجوم أعدائهم الشديد ببسالة رائعة بتوجيه من الحجة. فلم تفلح كثرة القوات ولا أسلحتهم المتفوقة ولا تدريبهم المتميز في إخضاع هؤلاء الأصحاب الأبطال أو في استسلامهم دون قيد أو شرط.(2) ولم يُثنِهم

________________________

(1) ’وفي اليوم الرابع رأى المسلمون لفرط فرحهم أن صدر الدولة، حفيد الحاج محمد حسين خان الإصفهاني، دخل الحيّ الذي كانوا يقطنونه في المدينة، على رأس قبيلة "خمسة"، قادمًا من مدينة "سلطانية". وجاءت التعزيزات لعدة أيام بعد ذلك بأعداد ضخمة. فوصل أولاً السيد علي خان من فيروز كوه، وشاهبار خان من مراغه ومعهما مائتان من الخيالة من قبيلتيهما. ثم وصل بعدهم محمد علي خان شاهسون ومعه مائتان من خيالة الأفشار وخمسون من رجال المدفعية ومعهم مدفعيّ ميدان ومدفعيّ هاون. وبذلك تزود الحاكم بكل ما رغبه من المساعدة وأحيط بزعماء قبائل من مشاهير العسكر في البلاد.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 198-199). ’وكان يوم الخامس من رمضان من أشد أيام القتال التي سجلت في يوميات الحصار. فإن مصطفى خان القاجار ومعه الفوج الخامس عشر من شگاغي، وكذلك صدر الدولة ومعه خيالة الخمسة، والسيد علي خان من فيروز كوه ومعه فوجه الخاص، والعقيد محمد آقا ومعه فوج الناصر وهو فوج الشاه، ومحمد علي خان ومعه خيالة الأفشار والرائد نبي بيك ومعه خيالته، ومجموعة من أهالي زنجان المخلصين، كل هؤلاء تجمعوا وهاجموا البابيين عند الفجر. وكان دفاع البابيين رائعًا ولكنه كارثيًا. فشاهدوا أفضل قادتهم يسقطون في الميدان واحدًا تلو الآخر، قادة شجعان أوفياء أولياء ممن لا يمكن تعويضهم. فمنهم نور علي القناص، وبخش علي النجار، وخدا داد وفتح الله بيك وجميعهم أساسيون لتحقيق النصر. وقد سقطوا جميعهم، بعضهم صباحًا وآخرون مساء.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 200)

(2) ’وقد رأيت في زنجان الخرائب الناتجة عن ذلك القتال العنيف، وكانت أحياء بكاملها من المدينة لم يُعَدْ بناؤها ومن المرجح أن لا يعاد أبدًا. وقد روى لي بعض المشاركين في المأساة، وفي الموقع نفسه، بأن البابيين كانوا يصعدون إلى الشرفات وينزلون عنها حاملين مدافعهم. وكانت الأرض أحيانًا غير متماسكة لأنها صنعت من الطين فتتهاوى، فيضطرون إلى رفع المدفع الثقيل بأيدي الرجال ويدعمون الأرض بالجسور الخشبية. فإذا اقترب العدو يتجمهر الأصحاب حول المدافع بكل حماس وتمتد الأيدي جميعها لرفعها، وعندما يسقط الحاملون برصاص المهاجمين يتبارى المئات من زملائهم لنيل شرف استبدالهم. ويقينًا أن ذلك من قوة الإيمان.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 200-201)

قصف المدافع الذي غمرهم ولا قلة النوم ولا الجوع عن أن يخرجوا من القلعة ويهجموا وسط الأعداء غير مبالين بالخطر الناجم عن هذه الغارات. وفي هجومهم يردون على استهزاء الأعداء بصيحة "يا صاحب الزمان" ويتغلغلون في قلب جموعهم بذلك التأثير السحري الذي تلقيه فيهم تلك الصيحة، ويتمكنون بذلك من تشتيتهم. وكانت كثرة هذه الغارات ونجاحها على شأن وهنت قلوب الأعداء وأقنعتهم بعبث جهودهم حتى أقروا بعجزهم عن نيل النصر النهائي. واعترف صدر الدولة أخيرًا بأنه بعد مرور تسعة أشهر في المحاربات المستمرة لم يبقَ معه من رجال الفوجين اللذين كانا معه سوى ثلاثين رجلاً من العاجزين ليقوموا على مساعدته. وإذ غمرته المذلة، اضطر أخيرًا للاعتراف بعجزه عن إخضاع تلك الروح التي يحاربه خصومه بها. فأنزل من رتبته ووجّه له توبيخ شديد من مليكه. وضاعت منه نهائيًا، بسبب تلك الهزيمة، الآمال التي كان يمني نفسه بها بشغف.

ووقع الرعب في قلوب أهالي زنجان بسبب الهزيمة المخجلة. وبعد تلك الكارثة ندر وجود أحد مستعد للمخاطرة بحياته في معارك غير مجدية. ولم يتجدد الهجوم على المحاصرين إلا ممن أجبروا على المحاربة. وتحملت الأفواج المرسلة تباعًا من طهران وطأة القتال في الغالب. وبينما انتفع أهالي المدينة كثيرًا، وخاصة طبقة التجار، من ورود قوات كبيرة إليها فجأة، فإن أصحاب الحجة كانت تنقصهم المؤونة وعانوا من العوز داخل أسوار القلعة. فنقصت مواردهم بسرعة ولم يبقَ لهم أمل في الحصول على القوت الذي احتاجوه بشدة إلا من بعض النسوة اللائي كن يقتربن من القلعة بحجج مختلفة لبيع ما معهن بأثمان باهظة، وغالبًا لا يتمكّنّ من ذلك.

ومع أن المحاصَرين كانوا في شدة الجوع ومعرضين دائمًا لهجمات فجائية قاسية، فإنهم ثبتوا في الدفاع عن القلعة بعزم لا ينثني. وإذ تسلحوا بالأمل الذي لا يفتر من أي عدوان، نجحوا في إقامة متاريس لا يقل عددها عن ثمانية وعشرين وأوكلوا كل منها إلى حماية مجموعة من تسعة عشر من الأتباع وكذلك وضعوا تسعة عشر حارسًا على كل منها وكانت وظيفتهم مراقبة حركات العدو والإخبار عنها.

وكانوا كثيرًا ما يدهشون من صوت المنادي الذي يرسله العدو في جوار القلعة لإقناع سكانها بأن يهجروا الحجّة وأمره. وهو يقول: ’إن حاكم الإقليم وقائد الجيش مستعدان للصفح عن كل من يعزم منكم على ترك القلعة والارتداد عن دينه ويسهل له المرور والرجوع إلى موطنه. والرجل الذي يفعل ذلك يكافئه الملك وينعم عليه برتبة نبيلة فضلاً عن العطايا التي يهديها له. وحلف الشاه ونائبه على ذلك بشرفهما أن لا يحنثا في يمينهما.‘ فكان المحاصَرون يقابلون بالإجماع هذا النداء بالرفض والاستهزاء والاحتقار.

ومن الدلائل الأخرى على روح الانقطاع العالية التي حركت هؤلاء الأصحاب الأبطال، قيام قروية اختارت أن تكون بين النساء والأطفال الذين انضموا إلى المدافعين عن القلعة. كان اسمها زينب وكانت تقطن في مزرعة صغيرة في جوار زنجان. وكانت صبيحة الوجه متأججة بنار الإيمان العالي وذات شجاعة فائقة. وأثر فيها منظر المتاعب والآلام التي قاساها أصحابها الرجال وأثارت حماسًا لا تنطفئ نيرانه. فتنكرت في زي الرجال وشاركتهم في دفع الهجمات المتوالية من الأعداء. وارتدت جبّة ووضعت على رأسها قلنسوة كالرجال وقصت شعرها وتقلّدت سيفًا وأمسكت بندقية ودرعًا ودخلت في صفوف الأحباء. ولم يشكّ أحد أنها فتاة وهي تقفز لتأخذ محلها خلف المتاريس، وبمجرد أن تسمع إطلاق الرصاص من الأعداء، تستلّ سيفها بجسارة لا تكاد تصدق وتهجم وسط الأعداء وهي تصيح "يا صاحب الزمان" غير مبالية بما أمامها من الصفوف. واندهش الصديق والعدو في ذلك اليوم من جرأتها وسعة حيلتها مما لم يشاهدوا لهما مثيلاً. وكان أعداؤها يقولون أنها اللعنة التي أرسلها عليهم الغضب الإلهي، فكانوا يهربون أمامها مرعوبين قانطين تاركين استحكاماتهم بانهزام مخجل.

وكان الحجة يراقب تحركات العدو من أحد الأبراج، إذ رأى هذه القروية وهي تهاجم الأعداء فعرفها وأعجب بالبسالة التي أظهرتها. وكانت تطارد مهاجميها عندما أمر رجاله أن يدعوها للرجوع إلى القلعة وأن توقف محاولتها. وإذ رآها لا تبالي بالنيران التي أطلقت عليها قال: ’لم تظهر مثل هذه الحيوية والشجاعة من أحد حتى ولا من الرجال.‘ ولما سألها عن بغيتها من هذا المسلك انفجرت في البكاء وقالت: ’لقد تألم قلبي بالشفقة والأسى عندما

شاهدت آلام أقراني ومعاناتهم، فتقدمت بحافز داخلي لا أقدر على منعه. وكنت أخشى أنك لا توافق أن تهبني هذا الامتياز في أن يكون نصيبي مع أقراني الرجال.‘ فقال الحجة: ’لا شك أنكِ نفس زينب التي تطوعت في الانضمام إلى سكان القلعة.‘ فأجابت قائلة: ’نعم أنا هي، وإني أؤكد لك أنه لم يطّلع أحد على حقيقتي سواك، وأنا استحلفك بحضرة الباب أن لا تحرمني من هذا الفخر الذي لا يدانيه فخر، فإن تاج الشهادة هو مرغوب حياتي الوحيد.‘

وتأثر الحجة تأثرًا شديدًا من لهجة طلبها ونمطه. وسعى لتهدئة خاطرها، وأكد لها أنه دائم الدعاء لها، وسمّاها "رستم علي" للدلالة على نبل شجاعتها. وقال لها: ’إن هذا اليوم هو يوم القيامة. "يوم تبلى السرائر."(1) فالله يحكم على عباده حسب طبيعة معتقدهم وأسلوب حياتهم وليس حسب مظهرهم الخارجي، سواء كانوا رجالاً أو نساء. فمع أنك فتاة صغيرة السن قليلة التجربة، ولكنك أظهرت من الحيوية والدهاء ما لا يأمل إلا قليل من الرجال بالإتيان بهما.‘ وأجاب طلبها للحال وحذرها من أن تتعدى الحدود التي فرضها عليها دينهم، وذكّرها قائلاً: ’علينا أن ندافع عن حياتنا ضد المهاجمين الغادرين وليس لنا أن نثير حربًا دينية ضدهم.‘

واستمرت هذه الفتاة مدة لا تقل عن خمسة أشهر وهي تقاوم قوات العدو ببطولة لا مثيل لها. وكانت تعمل بجد ونشاط للأمر الذي أحبته، متناسية الطعام والنوم. فبمثال جسارتها المدهشة أحيت الشجاعة في قلوب قلة من المتزلزلين، وذكّرتهم بواجب كل منهم. وكان الحسام الذي تشهره معلقًا دائمًا بجانبها، تتوسده في الفترات القصيرة التي تنام فيها وتغطي جسمها بالدرع. وكان كل واحد من الأصحاب موكلاً بنقطة يحرسها ويدافع عنها، بينما كانت تلك الفتاة الجريئة حرّة تتنقل حيث تشاء، وكانت دائمًا في المقدمة وفي قلب المعمعة الدائرة حولها، مستعدة دومًا لحماية أي نقطة مهددة من العدو المهاجم وتحضر توًا إلى الأصحاب الذين يطلبون مساعدتها أو تشجيعها. ولما

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الطارق، الآية 9.

قاربت حياتها على الانتهاء عرف أعداؤها سرها واستمرت ترهبهم بتأثيرها وترعبهم بقوة هجومها رغم علمهم بأنها فتاة. وكان صوتها الجهوري كافيًا لإيقاع الرعب في قلوب الأعداء وملئها باليأس.

وذات يوم، إذ رأت زينب أن أصحابها قد أحاط بهم الأعداء فجأة، أسرعت مضطربة إلى الحجة، ورمت بنفسها على قدميه وتضرعت له وهي تبكي أن يسمح لها أن تذهب لإنقاذهم، وأضافت: ’أشعر أن حياتي قاربت الانتهاء، وربما أسقط تحت سيف المهاجم. فأتضرع إليك أن تغفر لي تجاوزاتي وتتوسط لي عند مولاي الذي لأجله أحنُّ أن أفدي بحياتي.‘

فلم يقدر الحجة على الجواب من شدة تأثره. وإذ تشجعت بسكوته الذي اعتبرته علامة الرضا، وثبتْ خارجة من بوابة القلعة، وصاحت سبع مرات "يا صاحب الزمان" وهجمت لوقف اليد التي امتدت وقتلت عددًا من زملائها، وانقضت عليهم وهي تصرخ: ’لماذا تدنّسون اسم الإسلام الشريف بأعمالكم؟ ولماذا تهربون من أمامي بهذه الذلة إن كنتم صادقين؟‘ وجرت إلى الاستحكامات التي أقامها العدو وقتلت حراس أول ثلاثة من الدفاعات، وكانت تقاتل للتغلب على الرابع إذ سقطت تحت وابل من الرصاص على الأرض وفارقت الحياة. فلم ينبس أحد من الأعداء ببنت شفة فيما يتعلق بطهارتها أو يتجاهل سمو اعتقادها وميزات أخلاقها الخالدة. ونظرًا لولائها وإخلاصها فقد آمن بأمر حضرة الباب نحوًا من عشرين امرأة من معارفها. ولم تكن هي التي عرفوها من قبل في نظرهم تلك الفتاة القروية، بل كانت عنوان كل الفضائل الإنسانية النبيلة ومثال الأخلاق ومظهرًا ناطقًا للروح التي لا يقدر على خلقها سوى الدين الذي اعتنقته.

وكان الأصحاب العاملون كوسطاء بين الحجة وأتباعه قد تلقوا أمره في أحد الأيام أن يخطروا حراس الاستحكامات باتّباع وصية حضرة الباب ويكرروا تسع عشرة مرة كل ليلة "الله أكبر. الله أعظم. الله أجمل. الله أبهى. الله أطهر." وفي نفس الليلة التي وصل لهم فيها ذلك الأمر، اجتمع المدافعون عن الاستحكامات وكرروا هذه العبارة بصوت واحد.

وكانت الصيحة شديدة مدوية لدرجة أن الأعداء استيقظوا من نومهم وهربوا من المعسكر مرعوبين. وإذ أسرعوا إلى جوار مسكن الحاكم طلبوا الالتجاء والاحتماء في المنازل المجاورة. وسقط بعضهم ميتًا من شدة رعبه واستولى الخوف على كثير من سكان زنجان، حتى ألجأهم إلى الهرب إلى القرى المجاورة، وظن الكثيرون بأن هذه الصيحة إن هي إلا علامة على ظهور يوم القيامة، وآخرون ظنوا أنها إشارة من الحجة لهجوم مفاجيء عليهم بنحو أشد هولاً مما خبروه من قبل.

ولما سمع الحجة بالاضطراب الذي وقع على الأعداء من جراء ذلك النداء، قال: ’فكيف يكون الحال لو كان سيدي قد صرح لي أن أشهر جهادًا على هؤلاء الكفار الجبناء! فقد أمرني أن أثبت في قلوب الناس أصول المحبة والإحسان السامية وأن يمتنعوا عن كل عنف لا توجبه الضرورة. فغرضي وغرض أصحابي أن نخدم مليكنا بإخلاص وولاء ونتمنى الخير لرعيته. ولو اتبعت مثال علماء زنجان لكنت طيلة أيام حياتي معبودًا من هؤلاء العامة، ولكني لن أقبل أبدًا أن أبدل طاعتي الدائمة وولائي لأمره بكنوز الأرض كلها ولا بأبهة الدنيا وزخارفها.‘

ولا تزال ذكرى تلك الليلة عالقة بأذهان الذين جربوا هولها ورعبها. وسمعت شهود عيان يذكرون بعبارت التمجيد والإعجاب، الفرق بين الجلبة والاضطراب الحاصل في معسكر العدو وبين حالة الخشوع والتعبد التي كان عليها أهل القلعة. فبينما كان أهل القلعة يذكرون اسم الله ويطلبون هدايته ورحمته، كان خصومهم من الضباط والجنود منغمسين في أعمال الشهوات الدنيئة. ورغم الإرهاق واللغب، داوم سكان القلعة على صلوات المساء وتلاوة الترنيمات التي كان يأمرهم بترديدها حضرة الباب. وكان معسكر العدو في تلك الساعات نفسها يدوي بأصوات الضحك الصاخب الممزوج بألفاظ الشتم والسباب. وفي تلك الليلة على الخصوص حينما دوى صوت النداء، هرع الضباط الفجار، الذين كانوا قابضين على كؤوس الخمر في أيديهم، فرموها على الأرض وهربوا حفاة كأنهم صعقوا من الصيحة الجهورية. وانقلبت موائد القمار في خضم الهلع الناجم. وهرب بعضهم إلى البرية أنصاف عراة، مكشوفي الرؤوس وأسرع بعضهم الآخر إلى منازل العلماء

وأيقظوهم من نومهم. فأخذ هؤلاء، في غمرة الفزع والعجب، يلعنون بعضهم بعضًا بأبشع الألفاظ لأنهم تسبّبوا في إشعال هذه الفتنة الهوجاء.

وبمجرد أن علم العدو بالغرض المقصود من الصيحة المدوية، عادوا إلى مواقعهم مطمئنين ولكن بمذلة كبيرة جراء تجربتهم. وأمر الضباط عددًا من الرجال أن يكمنوا ويطلقوا النار على الجهة التي يسمع منها الصوت مرة أخرى. ونجحوا في كل ليلة بهذه الطريقة بقتل عدد من الأصحاب. ولم تُعِق تلك الخسائر المستمرة أصحاب الحجة على أن يستمروا ويرفعوا أصواتهم بحماس لا ينقطع بالتهليل والتكبير محتقرين الأخطار التي تنتابهم بسبب تلاوة هذه الترانيم. وكلما نقص عددهم زاد ارتفاع أصواتهم وتجلجلت صيحاتهم. حتى إن خطر الموت لم يردع هؤلاء الأبطال المدافعين ولم يمنعهم من تأدية ما اعتقدوه أنبل وأقوى تذكير بمحبوبهم.

وكان النزال مستعرًا عندما قرر الحجة إرسال خطابه إلى ناصر الدين شاه كتب فيه: ’إن أتباع جلالتك الشاهانية يعتبرونك الحاكم الدنيوي والمحافظ الأعظم على الدين. وهم يلجأون إليك طلبًا للعدل، وينظرون إليك بأنك المدافع الأكبر لحقوقهم. ومسألتنا أولاً تخص علماء زنجان فقط ولم تقحم مطلقًا حكومتكم ولا رعيتكم. وقد دعاني سلفكم إلى طهران وأمرني أن أبين دعاوى ديني، وأقتنع المرحوم الشاه تمامًا وامتدح جهودي. وعمدت إلى ترك موطني والإقامة في طهران، ولم يكن لي من قصد سوى إخماد تلك الضجة التي أثاروها حول شخصي وإطفاء النيران التي أشعلها أهل السوء. ومع أني كنت حرًا في العودة إلى موطني، إلا أني فضلت أن أبقى في العاصمة متكلاً بالكامل على عدل مليكي. وفي ابتداء حكمكم شك أمير النظام بأنني خائن أثناء ملحمة مازندران وعزم على قتلي. ولما لم أجد أحدًا في طهران قادرًا على حمايتي، قررت للدفاع عن نفسي أن ألجأ لزنجان حيث عدت إلى بذل مجهوداتي لترويج مصالح الإسلام الحقة. وأثناء اشتغالي بذلك قام مجد الدولة ضدي، وكثيرًا ما طلبت منه العدل والإنصاف في أمري، فلم يقبل، وحرّضه علماء زنجان، وبسبب تملقهم إليه عزم على القبض عليّ. فتدخل أصحابي واجتهدوا أن يمنعوه من ذلك ولكنه استمر على إثارة الناس ضدي، والذين

بدورهم تصرفوا بطريقة أدت بالحال إلى ما نحن فيه. وللآن امتنعتم جلالتكم عن مد يد عونكم الكريمة لصالحنا نحن الأبرياء الذين وقعوا فريسة لقسوة وحشية. واجتهد أعداؤنا أن يصوروا الأمر في أعين جلالتكم بأنه مؤامرة ضد السلطة المخولة لكم. مع أننا لا نضمر في قلوبنا سوءًا أو خيانة كما يعرف ذلك كل منصف بصير. ولا غرض لنا إلا تقدم مصالح حكومتكم ومصالح العباد. وإني ونخبة من أصحابي مستعدون أن نحضر إلى طهران وفي محضركم نجتمع مع خصومنا ونثبت صحة أمرنا.‘

ولم يكتف بعريضته الشخصية هذه بل طلب أيضًا من كبار أصحابه أن يحرروا مثل هذا الرجاء إلى الشاه وأن يلحوا عليه في طلب العدل والإنصاف.

وما كاد المبعوث الذي حمل هذه العرائض إلى طهران ينطلق في طريقه، حتى قُبض عليه وأحضر أمام الحاكم. وإذ غضب من عمل خصومه، أمر بإعدام المبعوث فورًا ومزق العرائض وكتب بدلاً عنها عرائض أخرى شحنها بالشتائم والإهانات وأمضاها بإمضاءات مزورة للحجة وأصحابه وأرسلها إلى طهران.

وغضب الشاه لدى اطلاعه على تلك العرائض، وأمر في الحال بإرسال فوجين مجهزين بالمدافع والمؤن إلى زنجان، وأمر أن لا يسمح لأي صاحب من أصحاب الحجة أن يبقى على قيد الحياة.

وكانت أخبار استشهاد حضرة الباب قد وصلت إلى مسامع أهل القلعة المحاصرين، بواسطة السيد حسن، أخي السيد حسين، كاتب وحي حضرة الباب، الذي وصل من آذربيجان في طريقه إلى قزوين. وزاد ذلك في غمهم وانتشر الخبر بين الأعداء وقابلوه بالترحيب وارتفعت أصواتهم بالفرح والانبساط وأخذوا في الاستهزاء بأتباعه ومجهوداتهم، وصاحوا بغطرسة وتكبر قائلين: ’لماذا تريدون أن تضحوا بأنفسكم؟ فإن الذي تريدون أن تضحوا بأنفسكم في سبيله قد وقع فريسة لقذائف عدوّه المنتصر. وفقد جسده من بين أعدائه وأحبائه. فلماذا تصرون على العناد في حين أن كلمة واحدة منكم تكفي لخلاصكم من جميع آلامكم؟‘ ورغم كل مساعيهم لزعزعة ثقة جامعة الأحباء المنكوبة، ولكنهم عجزوا في النهاية أن يقنعوا أضعف شخص منهم أن يهجر القلعة أو يرتد عن دينه.

وكان أمير النظام في تلك الأثناء يحرض مليكه على أن يرسل تعزيزات إضافية إلى زنجان. فأرسلوا أخيرًا محمد خان، الأمير تومان، على رأس خمسة أفواج مجهزة بكميات كبيرة من الأسلحة والمؤن لتدمير القلعة وإهلاك سكانها.

وخلال العشرين يومًا التي أوقفت فيها الأعمال العدائية، وصل عزيز خان المُكْري، المسمى "سردار الكل"، إلى زنجان أثناء سيره في مهمة حربية إلى إيراوان،(1) ونجح في مقابلة الحجة بواسطة مضيفه السيد علي خان. وحكى الأخير لعزيز خان أحوال مقابلته المؤثرة مع الحجة. وبعد أن حصل على جميع المعلومات، سأل الحجة عن مقاصد وأغراض المحاصَرين، فأخبره الحجة: ’إنه لو امتنعت الحكومة عن إجابة طلبي فأريد أن تسمح لي بأن أرحل أنا وعائلتي إلى مكان خارج حدود هذه البلاد. فإذا لم تقبل حتى هذا الطلب فنحن مضطرون لأن ندافع عن أنفسنا.‘ فأكد عزيز خان للسيد علي خان، أنه سيعمل جهده لإقناع أرباب السلطة لإيجاد حل سريع لهذه المسألة. وما كاد السيد علي خان يعود إلى منزله حتى جاء فجأة فرّاش (مأمور) من طرف أمير النظام إلى عزيز خان، خصيصًا للقبض على السيد علي خان ونقله إلى العاصمة. ولشدة خوفه ولإبعاد كل تهمة عن نفسه شرع في سّب الحجة وإنكاره أمام الفراش. وبهذه الوسيلة تمكّن من أن يمنع عن نفسه الخطر الذي كان يهدد حياته.

وكان وصول الأمير تومان إشارة لاستئناف القتال بكيفية لم تشهد زنجان مثلها مطلقًا. فانضم تحت لوائه سبعة عشر فوجًا من الخيالة والمشاة حاربت بإمرته.(2) وصوبت بأمره ما

________________________

(1) وقال جوبينو (الصفحة 202) أن عزيز خان كان قائد جيوش آذربيجان، ثم أول أركان حرب الملك. ومر بزنجان في طريقه إلى تفليس لتهنئة ولي عهد روسيا، الدوق الكبير، بمناسبة وصوله إلى القوقاز.

(2) ’وانضم محمد خان، الذي كان في ذلك الوقت برتبة "بگليربجي" ثم "مير پنج" أو قائد الفرقة وأصبح اليوم الأمير تومان، إلى العسكر المحاربين في هذه المدينة. وجلب معه ثلاثة آلاف رجل من أفواج شگاغي وأفواج خاصة من الحرس ومعهم ستة مدافع ومدفعيّ هاون. وفي الوقت نفسه تقريبًا دخل المدينة من حيّ آخر، قاسم خان آتيًا من حدود كَرَباغ، والرائد أرسلان خان ومعه الخيالة من خيرگان، وعلي أكبر نقيب خوي ومعه المشاة. وكان كل منهم قد وصله أمر من الملك فسارعوا للطاعة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 201)

لا يقل عن أربعة عشر مدفعًا نحو القلعة. وجنّد الأمير من الجهات المجاورة خمسة أفواج إضافية بدأت بالتدريب كجنود احتياط. وفي الليلة نفسها التي وصل فيها، أمر أن تطلق الأبواق إشارة للهجوم. وأمر ضباط المدفعية أن يطلقوا النار على القلعة في الحال. وما كاد صوت المدافع، الذي يسمع على بعد أربعة عشر فرسخًا يدوي، حتى أمر الحجة أصحابه أن يطلقوا مدفعين صنعوهما بأنفسهم، وكان أحدهما قد نقل إلى مكان عال يشرف على معسكر الأمير. فأصابت قنبلة خيمة الأمير وجرحت جواده جرحًا مميتًا. وكان العدو قد صوب نيرانه على القلعة بحنق زائد، ونجح في قتل عدد كبير من سكانها.

وبمرور الأيام اتضح بشكل واضح أن قوات الأمير تومان عجزت عن إحراز النصر الذي كانوا يتوقعونه بشوق بالغ، رغمًا عن تفوقهم في العدد والعدة والتدريب. وكانت وفاة فَرّخ خان، ابن يحيى خان، وأخو الحاج سليمان خان، أحد قادة جيش الأعداء، قد أثار دهشة أمير النظام الذي أرسل خطابًا شديد اللهجة إلى القائد العام يوبخه فيه على عجزه عن إجبار المحاصرين على التسليم بلا قيد ولا شرط. وكتب إليه قائلاً: ’لقد شوّهتَ اسم مملكتنا، وأوهنت الجيش حتى ضاعت قوته المعنوية، وضيعت حياة أقدر ضباطه.‘ وأمره أن يشدد على تطبيق نظام صارم بين مرؤوسيه ويطهر المعسكر من كل رذيلة وفجور. وحرضه كذلك على التشاور مع رؤساء سكان زنجان، وحذره إذا لم ينجح في ذلك كله، فإنه سوف ينزل رتبته. وزاد على ذلك بقوله: ’وإذا كانت جميع القوى المجتمعة تحت أمرك عاجزة عن إخضاعهم، فإني سأضطر للمجيء بنفسي إلى زنجان، وآمر بذبح أهاليها بأسرهم بغضّ النظر عن مراكزهم أو اعتقادهم. فان مدينة تجلب كل هذا العار على الشاه والأسى لأهل مملكته غير جديرة برحمة مليكنا.‘

وفي سورة اليأس، دعا الأمير تومان جميع الكدخداوات ورؤساء الناس وأظهر لهم نص الخطاب. وبتحريضه الحثيث تمكن من تحفيزهم للعمل في الحال. وفي اليوم التالي تطوع كل رجل قادر في زنجان للانضواء تحت لواء الأمير تومان. وسار إلى طريق القلعة جحفل عظيم، يرأسه الكدخداوات وتتقدمه أربعة أفواج من الجنود تصحبهم أصوات الأبواق ودق الطبول. وصاح أصحاب الحجة دفعة واحدة صيحة "يا صاحب الزمان"

غير مبالين بالضجيج، وانطلقوا خارجين من البوابات وانقضوا عليهم. وكان هذا النزال أشد وأقسى محاربة وقعت بين الفريقين. وسقط خيرة أتباع الحجة في هذا اليوم فريسة لمجزرة وحشية. فكم من ابن ذبح بقسوة مطلقة تحت نظر والدته، بينما الأخوات ينظرن بالهلع والحزن رؤوس إخوانهن مرفوعة على الرماح ومشوهة بأسلحة أعدائهم. وفي وسط معمعان الحماس الهائج من أصحاب الحجة لمواجهة وحشية الأعداء وهياجهم، ارتفعت أصوات النسوة اللائي كُن يحاربن جنبًا لجنب مع رجالهن وهن يشجعنهم ويحمسنهم. وساعد على النصرة التي حازها الأصحاب بأعجوبة، ذلك التهليل والابتهاج الذي ارتفع من أصوات النسوة في وجه العدو القوي، وزادت أصواتهن المرتفعة في شجاعة رجالهن، وكن يختفين بملابس الرجال هاجمات للحلول محل الأخوة الذين قتلوا، بينما الكثيرات يحملن قرب الماء يسقين العطشى من المحاربين ويعدن القوة للجرحى. وفي تلك الأثناء دب الارتباك في معسكر العدو واختلت صفوفه وكانوا يحاربون حربًا خاسرة نظرًا لقلة الماء عندهم، ولفرار عدد من قواتهم وأصبحوا عاجزين عن إحراز النصر، وفي الوقت نفسه غير قادرين على التقهقر. وفي ذلك اليوم شرب كأس الشهادة ما لا يقل عن ثلاثمائة من الأصحاب.

وكان أحد أصحاب الحجة رجل يدعى محسن، ووظيفته رفع الأذان. وكان لصوته ميزة الدفء والعمق والقوة مما لم يتوفر لغيره في المناطق المجاورة. وكان يسمع رنينه في القرى المجاورة وهو يدعو المؤمنين للصلاة ويخترق قلوب سامعيه. وكثيرًا ما اندهش المصلون، الذين يطرق صوته أسماعهم، من إلصاق تهمة الكفر إلى الحجة وأصحابه. وعلا احتجاجهم حتى وصل في زنجان إلى أسماع المجتهد الأكبر، ولما لم يقدر أن يسكتهم، تضرع إلى الأمير تومان أن يتذرع بأي وسيلة ليمحو من قلوب الناس اعتقادهم في تقوى واستقامة الحجة وأصحابه. وكان يشكو إليه قائلاً: ’إنني ليل نهار اجتهدت في أن أثبت في عقول الناس في محادثاتي معهم بأن هذه الطائفة أعداء الرسول وأعداء دينه، ولكن صوت هذا المؤذن محسن الشرير، يضيع تأثير كلماتي ويفسد مجهوداتي. فإهلاك هذا النذل هو أول واجباتك.‘

وكان الأمير قد امتنع في البداية عن إجابة طلبه، وأجابه على ذلك بقوله: ’أنت وأمثالك مسؤولون عن إثارة حرب دينية عليهم. ونحن لسنا سوى خدام الحكومة، وواجباتنا إطاعة الأوامر التي تصلنا. فإذا رغبتم في إنهاء حياته، فاستعدوا للتضحية إذًا.‘ ففهم السيد للحال مقصود الأمير. وما كاد يعود إلى منزله، حتى أرسل إلى الأمير مع مبعوث مائة تومان بصفة هدية.

فأمر الأمير في الحال عددًا من رجاله المشهورين بالرماية أن يكمنوا لمحسن ويطلقوا عليه النار وهو يؤذن. وفي وقت الفجر بينما كان يصيح قائلاً: "لا إله إلا الله" إذ أصابته رصاصة في فمه وقتلته للحال. ولما سمع الحجة بذلك العمل الوحشي أمر أن يصعد خلافه على البرج ويكمل الأذان من حيث تركه محسن. ومع أنه لم يصب حتى انتهاء القتال، فإنه مع كثيرين من إخوانه قتلوا أخيرًا بكيفية لا تقل شناعة عن مقتل زميلهم.

وإذ اقتربت أيام الحصار من الانتهاء، حثّ الحجة جميع الخاطبين بإتمام زفافهم، واختار لكل شاب أعزب من بين المحاصرين زوجة، وأنفق من جيبه الخاص على قدر استطاعته بما يزيد في رفاهية المتزوجين وسعادتهم. وباع جميع الجواهر التي كانت تملكها زوجته واشترى لكل عروسين ما يجلب لهما الراحة والسعادة في زواجهما. واستمرت الأفراح أكثر من ثلاثة أشهر، وكانت ممزوجة بالمصاعب والمتاعب الناتجة عن الحصار الطويل. فكم من مرة هدد ضجيج العدو القادم أفراح العروسين في وقت مقابلتهما! ولما كان نداء "يا صاحب الزمان" يرتفع إذ ذاك لمناداة الأصحاب لرد العدو الهاجم. وإذ كانت العروس تطلب من زوجها برفق أن يطيل مكثه معها قليلاً، كان يتركها ويهجم على العدو طلبًا لتاج الشهادة ويقول لها: ’ليس عندي وقت، بل يجب عليّ أن أحصل على تاج هذا الفخر، فسنلتقي مرة أخرى على شواطئ الأبدية مكان النعيم وموطن الحياة الأزلية.‘

وعقد قران نحو مائتي شاب أثناء هذه الأيام الصاخبة. وتمكن بعضهم من أن يمكثوا مع زوجاتهم في أمان مدة شهر، وآخرون بضعة أيام، أو حتى لحظات قصيرة. ولم يتأخر أي أحد منهم عند سماع دق الطبول ليجيب الداعي بفرح، ويتقدم كل واحد بنفسه فداء

لمحبوبه دون تذمر. وأخيرًا شربوا جميعهم كأس الشهادة. فلا عجب أن المكان الذي كان مشهدًا لأعظم الآلام والذي كان ميدانًا لمثل هذه البطولة، سمّاه حضرة الباب "الأرض الأعلى"،(1) وهو لقب يبقى دائمًا مقترنًا باسمه الشريف.

وكان من بين الأصحاب شخص يدعى الكربلائي عبد الباقي، والد لسبعة أبناء، زوّج منهم الحجة خمسة. وما كادت حفلة الزفاف تتم حتى علت صيحة الفزع فجأة للدلالة على هجوم جديد عليهم. فقاموا عن بكرة أبيهم وتركوا زوجاتهم وهجموا للحال لرد العدو المهاجم. وقتل الخمسة جميعهم واحدًا تلو الآخر في ذلك النزال، وكان أكبرهم سنًا شاب مشهور بالذكاء والشجاعة النادرة، أخذوه أسيرًا، وأدخل أمام الأمير تومان، فصاح عليه ذلك الأمير الغاضب قائلاً: ’اطرحوه أرضًا واحرقوا صدره الذي ضم حبًا عظيمًا مثل هذا للحجة.‘ فاندفع الشاب قائلاً: ’أيها الرجل النذل، لا تقدر أي نار تشعلها

صورة 182
قبر أشرف (1) وقبر والدته (2)
________________________
(1) لقب أعطاه حضرة الباب لزنجان.

يد رجالك أن تحرق الحب الذي يتوهج في قلبي.‘ وكان مدح محبوبه قد بقي على لسانه لآخر لحظة من حياته.

ومن بين النساء اللائي امتزن بقوة إيمانهن كانت واحدة تدعى أم أشرف، والتي كانت قد تزوجت حديثًا إذ هبّت عاصفة زنجان. وكانت داخل القلعة عندما أنجبت ابنها أشرف. وكانا من الناجين من المذبحة التي انتهت بها أحداث تلك المأساة. ولما ترعرع ابنها بعد سنوات، وصار شابًا ذا مواهب واعدة، شملته الاضطهادات التي لاقت إخوانه في الدين. ولما عجز أعداؤه عن إقناعه في الارتداد عن دينه، اجتهدوا أن يخيفوا والدته ويقنعوها بضرورة إنقاذه قبل فوات الوقت. فلما أحضروها وجهًا لوجه أمامه، صاحت الأم قائلة: ’إني أبرأ إلى الله أن تكون ولدي إذا كنت تميل بقلبك إلى مثل هذه الوساوس الشريرة وتمكنهم أن يصدوك عن الحق.‘ وقابل أشرف موته بكل سكون واطمئنان باتّباعه لنصيحة والدته. ورغم مشاهدتها أعمال القسوة التي وقعت على ابنها، فإنها لم تجزع ولم تدمع عينها. وأظهرت هذه الأم العجيبة، شجاعة وثباتًا أدهشا أولئك الذين ارتكبوا تلك الفعلة المخزية. وحين نظرت إلى جثة ابنها لآخر مرة صاحت قائلة: ’أستذكر الآن ذلك القسم الذي أقسمته يوم ولادتك، إذ كنت محاصرة في قلعة علي مردان خان. وإني أبتهج الآن أن الولد الوحيد الذي أعطاني الله قد حقق آمالي بالوفاء بالنذر.‘

وإن قلمي ليعجز عن أن يصف أو يذكر بالاحترام اللائق ذلك الحماس الملتهب الذي تجلى في تلك القلوب الباسلة. فكانت أرياح البغضاء على اشتدادها غير قادرة على إطفاء لهيبها. وكان الرجال والنساء يشتغلون بحماس لا يفتر لتقوية استحكامات القلعة وإعادة بناء ما دمره العدو. ويصرفون أوقات الفراغ في الصلاة. وطوعوا أفكارهم ورغباتهم لتحقيق الهدف الأهم وهو حراسة معقلهم ضد هجوم عدوهم. ولم يكن دور النساء في ذلك الحصار أقل أهمية من دور الرجال. وساهمت كل النسوة، بغضّ النظر عن سنهن ومقامهن، في الواجب المشترك. فكن يخطن الثياب ويخبزن الخبز ويعنين بالمرضى والجرحى ويصلحن الاستحكامات ويرفعن ما وقع في الساحات والشرفات من القنابل والمقذوفات التي كان الأعداء يطلقونها، وفضلاً عن ذلك كن يبعثن الأمل في قلوب

المترددين والضعفاء ويحيين إيمانهم.(1) وحتى الأطفال كانوا يساعدون بكل ما فيهم من قوة للصالح العام، وكان يظهر فيهم حماس لا يقل عن حماس الأمهات والآباء.

وكانت روح التضامن التي امتازت بها أعمالهم، وبطولة إقداماتهم على نحو جعل الأعداء يعتقدون أن عددهم لا يقل عن عشرة آلاف شخص. وكان من الأمور المسلم بها أن المؤونة ترد للقلعة باستمرار بطريقة غير معلومة، وإن التعزيزات تصلهم من كل مكان، من نيريز ومن خراسان ومن تبريز، فكانت قوة المحاصرين تظهر كأنها لا يمكن أن تتزعزع إلى الأبد وأن مواردهم لا تفنى.

واشتد حنق الأمير تومان من عناد تصميمهم ومن توبيخ السلطات واحتجاجاتهم الواردة من طهران، فعزم أن يلجأ إلى إخضاع المحاصرين إخضاعًا كليًا بوسائل الخداع الدنيئة.(2) ومع اعتقاده اليقين بعبث المجهودات التي يقوم بها في محاربة خصومه في ميدان النزال بشرف، أوقف القتال بمكر وأشاع أن الشاه عزم على وقف الحملة كليًا. وأظهر مليكه بمظهر الشخص الذي كان غير ميال منذ الابتداء لمساعدة القوات التي حاربت في مازندران ونيريز، وأنه تأسف كثيرًا على سفك كل تلك الدماء لسبب تافه مثل هذا. فاعتقد أهالي زنجان والقرى المحيطة أن ناصر الدين شاه قد أمر الأمير تومان بالمفاوضة للتوصل إلى تسوية ودية بينه وبين الحجة، وأنه عزم على إنهاء الحالة التعيسة الراهنة بأسرع ما يمكن.

________________________

(1) ’ويجب أن تعزى المقاومة المستميتة التي بذلها البابيون، بدرجة أقل، إلى حصانة قلعتهم التي شغلوها، ولكن بدرجة أكبر إلى شجاعتهم وبسالتهم في الدفاع عن أنفسهم، حتى النساء اشتركن في الدفاع. وسمعت من مصدر ثقة أنهن كن كنساء قرطاجة القديمة، يقطعن شعورهن الطويلة ويربطن بها البنادق المحطمة لتقويتها.‘ ("سنة بين الإيرانيين" لبراون، الصفحة 74)

(2) ’ومن المحقق أن الأحوال اضطربت بين صفوف المسلمين وظهر أنهم لا يمكنهم التغلب على تلك المقاومة العنيدة. وفضلاً عن ذلك، فما الفائدة المرجوة؟ لِمَ يعرضون الأرواح للخطر –لا نعني أرواح الجنود، فهذه مجرد طعمة للمدافع- ولكن أرواح الضباط والألوية؟ ولماذا يعرّض المرء نفسه يوميًا للسخرية والهزيمة؟ ولماذا لا يتبع مثال الشيخ الطبرسي؟ لماذا لا نلجأ إلى الخديعة؟ لماذا لا نعدهم الوعود المقدسة، والتي قد تصبح ضرورية فيما بعد، لنذبح هؤلاء الحمقى الذين يثقون بها.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 350)

ولما تأكد أن الناس قد خدعوا بخطته الماكرة، كتب وثيقة للصلح، وأكد فيها للحجة صدق نيته للحصول على تسوية بينه وبين أصحابه، وأرفق بالوثيقة نسخة مختومة من القرآن الكريم كشهادة على صدق نيته وعهده. وقال: ’لقد سامحك مليكي. وإني أعلن وأقسم أنك وأتباعك في حفظ وحماية المليك. وهذا كتاب الله شاهدي على أنه إذا أراد أي أحد الخروج من القلعة، فإنه يكون آمنًا من أي خطر.‘

فاستلم الحجة القرآن الكريم بالاحترام من يد المبعوث، وبمجرد أن قرأ الوثيقة، أمر المبعوث أن يخبر سيده بأنه سيرد الجواب في اليوم التالي. وفي تلك الليلة جمع كبار أصحابه وأطلعهم على شكه في صدق نوايا الأعداء، وقال: ’إن خيانات مازندران ونيريز لا تزال عالقة في أذهاننا. فما فعلوه معهم يريدون أن يفعلوه معنا. ولكن مع ذلك نجيبهم إلى طلبهم احترامًا للقرآن الكريم ونرسل إلى معسكرهم عددًا من الأصحاب حتى ينكشف غدرهم وخيانتهم.‘

وسمعت من الأستاذ مهر علي الحداد، الذي نجا من مذبحة زنجان ما يأتي: ﴿كنت أحد تسعة من الغلمان الذين لم يزِد عمر أي منهم على عشر سنوات، والذين رافقوا الوفد الذي أرسله الحجة إلى الأمير تومان، وكان الباقون يزيد عمر كل منهم على ثمانين. ومنهم الكربلائي مولا قلي، وآقا داداش، والدرويش صلاح، ومحمد رحيم، ومحمد. وكان الدرويش صلاح ذا هيبة ووقار، طويل القامة أبيض اللحية جميل المحيا. وكان محترمًا للغاية لأخلاقه وإنصافه. وكان توسطه لنصرة المستضعفين قد أكسبه احترام أصحاب السلطة وعطفهم. وبمجرد أن اعتنق الأمر رفض قبول جميع الإنعامات التي أنعموا بها عليه، ومع أنه كان متقدمًا في السن، انضم إلى جماعة المدافعين عن القلعة. وسار أمامنا وهو حامل المصحف المختوم، حينما أدخلونا إلى محضر الأمير تومان.

وإذ وصلنا إلى الخيمة، وقفنا عند مدخلها منتظرين أوامره. ولم يرد على تحيتنا له بشيء، وعاملنا باحتقار ملحوظ، وجعلنا ننتظره واقفين نصف ساعة قبل أن يعتني بمخاطبتنا بلهجة التأنيب الشديد. وصاح باحتقار وصلف: ’إني لم أرَ طائفة أرذل ولا أحقر منكم.‘ وبينما هو يكيل لنا الشتائم، إذ تقدم أكبرنا سنًا وأضعفنا، وطلب أن يسمح

له بأن يخاطبه بكلمات قليلة. وإذ أذن له، تكلم بطريقة أثارت إعجابنا جميعًا، ولو أنه كان أميًا، ومما قاله: ’يعلم الله أننا أناس موالون لمليكنا محترمين للقانون، وسنبقى كذلك. ولا غاية لنا سوى تقدم مصالح مملكته ورعيته، ولكن أولو البغضاء قاموا علينا وأظهرونا بمظهر غير مظهرنا، ولم نجد أحدًا من أعوان الشاه يميل إلى مساعدتنا أو يحامي عنا عنده. وقد توسلنا له مرارًا ولكنه تجاهل توسلاتنا وصم آذانه عن ندائنا. فتشجع أعداؤنا إذ رأوا عدم الاهتمام من جانب السلطة الحاكمة، فهجموا علينا من كل الجهات ونهبوا أملاكنا وهتكوا حرمة نسائنا وبناتنا وقبضوا على أطفالنا. وإذ رأينا أنفسنا غير محميين من حكومتنا ومحاطين بأعدائنا، شعرنا بضرورة قيامنا للدفاع عن حياتنا.‘

فالتفت الأمير تومان إلى نائبه وسأله نصيحته فيما ينبغي له عمله في هذه المسألة، وأضاف الأمير قائلاً: ’إني أجد نفسي حائرًا في الإجابة التي أعطيها لهذا الرجل. ولو كنت في قلبي متدينًا فلن أتوانى في اعتناق دينه.‘ فأجاب نائبه: ’ليس هناك إلا السيف، فهو يخلصنا من هذه الضلالة البغيضة.‘ فأجاب الدرويش صلاح: ’إني أحمل المصحف في يدي وفيه الإقرار الذي اخترتم بأنفسكم كتابته. فهل ما نسمعه الآن هو مكافأتنا على الإستجابة لطلبكم؟‘

وإذ حمي غضب الأمير تومان، أمر بنتف لحية الدرويش صلاح، وأن يطرح هو ومن معه في زنزانة. وفزعت أنا وباقي الغلمان الذين كانوا معي وعزمنا على الهرب وصحنا: "يا صاحب الزمان" وجرينا باتجاه استحكاماتنا. ولحق بنا الأعداء وتمكنوا من الإمساك ببعضنا أسرى. وبينما كنت أركض أمسك الرجل الذي طاردني بطرف ردائي فحررت نفسي منه وتمكنت من الوصول إلى البوابة التي تؤدي إلى مشارف القلعة، وأنا في حالة الإرهاق التام. فكم كانت دهشتي عندما رأيت أحد الأصحاب واسمه إمام قلي يقطعه الأعداء بوحشية. وحصل لي رعب شديد إذ نظرت إلى ذلك المشهد مع علمي بأنه في ذلك اليوم أعلنت الهدنة بين الطرفين بيمين مغلّظة مبنية على وقف كل أعمال العنف. وعلمت سريعًا أن القتيل خدعه أخوه الذي احتج بأنه يريد مقابلته للتكلم معه، وأسلمه بهذه الطريقة لأيدي مضطهديه.

فأسرعتُ توًا إلى الحجة الذي قابلني بالمحبة وأزال الغبار عن وجهي وأعطاني ملابس جديدة ودعاني للجلوس بجانبه لأخبره بنصيب أصحابه. فوصفت له كل ما رأيته. ففسر لي قائلاً: ’إن هذا هو اضطراب يوم القيامة، ذلك الاضطراب الذي ما شهد العالم مثله أبدًا، فهذا هو اليوم الذي "يفر المرء فيه من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه."(1) وهذا هو اليوم الذي لا يقتنع الإنسان فيه أن يترك أخاه فحسب، بل يضحي بماله ليسفك دم أقرب أقربائه، وهذا هو اليوم الذي فيه "تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد."‘﴾(2)

وكان الحجة جالسًا وسط الميدان إذ دعا أصحابه وقام في وسطهم وخاطبهم بهذه الكلمات: ’إني مسرور من عزائمكم التي لا تثبط أيها الأصحاب الأحباء، فإن أعداءنا صمموا على إبادتنا. فليس لهم قصد خلاف ذلك. وكان غرضهم أن يخرجوكم بالحيلة خارج القلعة، وهناك يذبحونكم حسب مرغوب قلوبهم. وإذ علموا أن غدرهم ظهر وأن خديعتهم انكشفت لذلك قاموا، في سورة غضبهم، على حبس أكبركم سنًا وحبس الصغار. والظاهر أنهم لن يتركوا أسلحتهم أو ينتهوا من سفك دمائكم حتى يستولوا على هذه القلعة ويشتتوكم. وإن استمرار وجودكم في هذه القلعة سيؤول حتمًا في النهاية إلى أن العدو يأخذكم أسرى. وبعد ذلك يهتكون حرمة زوجاتكم ويذبحون أبناءكم. فالأحسن لكم إذًا أن تهربوا في جنح الليل وأن تأخذوا زوجاتكم وأطفالكم معكم. وليبحث كل منكم عن محل آمن إلى أن يحين الوقت الذي فيه تأمنوا هذه المظالم. وسأبقى وحدي لمجابهة العدو، وحبذا لو كان قتلي يشفي غليل انتقامهم بدلا عن هلاككم بأجمعكم.‘

فتأثر الأصحاب من هذا الخطاب إلى أعماق قلوبهم وأعلنوا، والدموع تفيض من عيونهم، عزمهم على البقاء بجانبه إلى النهاية وصاحوا: ’لا نقبل أبدا أن نتركك لقسوة العدو القاتل! وحياتنا ليست أثمن من حياتك، ولا عائلاتنا أشرف سلالة من أقربائك. وإنا نرحب بكل مصيبة تصيبنا معك.‘

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة عبس، الآيات 34-36.
(2) القرآن الكريم، سورة الحج، الآية 2.

فبقي الأصحاب جميعهم أوفياء لعهدهم، عدا بعض منهم ممن لم يتحملوا ضيق الحصار المتواصل، وإذ تشجعوا بنصيحة الحجة التي نصحهم بها بنفسه، انسحبوا إلى محل آمن خارج القلعة، وبذلك انفصلوا عن بقية الأصحاب.

وكان الأمير تومان من شدة يأسه قد أمر كل الرجال الأشداء في زنجان بالاجتماع في جوار معسكره والتأهب لتلقي تعليماته. فأعاد تننظيم قوات أفواجه وعيّن ضباطهم وزاد عليهم جحافل المجندين حديثًا الذي تجمهروا في المدينة. وأمر ستة عشر فوجًا، كل منها مزود بعشرة مدافع، بالزحف صوب القلعة. وخصص ثمانية أفواج منها للهجوم علي القلعة كل يوم قبل الظهر، وبعدها تأتي الأفواج الثمانية الأخرى لتستبدلها في الهجوم حتى اقتراب المساء. وحضر الأمير بنفسه إلى الميدان وكان يوجه عمليات جيشه قبل ظهر كل يوم، مؤكدًا لجنوده المكافأة المنتظرة إذا انتصروا، ومتوعدًا بالعقاب الذي يوقعه عليهم مليكهم إذا خذلوا.

واستمر الحصار مدة شهر كامل. ولم يكتف العدو بالهجوم نهارًا، بل كان يهجم في كثير من الأحيان ليلاً أيضًا. وكان اشتداد هجومهم ووفرة عددهم قد أضعف صفوف الأصحاب وزاد في ضيقهم. وكانت التعزيزات تتوالى للعدو من كل الجهات، بينما المحاصرون يتضورون جوعًا وتزداد آلامهم.(1)

وفي هذه الأثناء، عزم أمير النظام أن يقوي موقف الأمير تومان بتعيين حسن علي خان الكرّوسي، الذي تلقى الأمر بالزحف على رأس فوجين من أهل السنة إلى زنجان. وكان وصوله إشارة لتركيز مدفعية العدو على القلعة. وشكل إطلاق المدافع الكثيف تهديدًا للقلعة بالتخريب الفوري. ولكنها مكثت بضعة أيام تقاوم رغم اشتداد إطلاق النار عليها. وظهر في تلك الأيام من أصحاب الحجة من البسالة والمهارة ما دفع ألد أعدائهم إلى الإعجاب بهما.

________________________

(1) ’وأخيرًا، ونتيجة لتهديدات البلاط الملكي وتعزيز القوات بالتشجيع والإمدادات بسرعة عظيمة، رجحت كفة المحاصِرين، بالنسبة للعدد والعدة، على كفة البابيين، فكانت النتيجة واضحة حتمية.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 203)

وفي ذات يوم بينما كان القصف مستمرًا، أصابت رصاصة الذراع اليمنى للحجة بينما كان يتوضأ. ومع أنه أخبر خادمه أن لا يخطر زوجته بالجرح الذي أصابه، ولكن جزع الرجل كان شديدًا بحيث لم يتمكن من إخفاء عواطفه، وكشفت دموعه المنهمرة مدى جزعه. وما كاد الخبر يصل إلى زوجته، حتى جرت إليه حزينة ووجدته منهمكًا في صلاته بكل سكون وهدوء. ومع أن جرحه كان ينزف بغزارة، إلا أن وجهه بدا واثقًا. وسُمع يقول: ’اغفر يا إلهي لهؤلاء القوم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون وارحمهم يا إلهي لأن الذين أضلوهم هم وحدهم المسؤولون عن هذه الأعمال التي ارتكبتها أيدي هؤلاء.‘

وسعى الحجة في تهدئة الاضطراب الذي أصاب الزوجة والأقارب من منظر الدماء على جسمه، وقال: ’افرحوا لأنني لا أزال معكم وأطلب منكم أن تتكلوا كلية على إرادة الله.

صورة 183
مدخل منزل الحجة المتهدم في زنجان

فالذي ترونه الآن لم يكن إلا كنقطة بالنسبة لمحيط الآلام التي سوف تنسكب عليّ في ساعة منيتي، فعلينا أن نرضخ لحكم الله ونرضى بما قسم لنا.‘

وما كاد خبر إصابته يصل إلى أسماع الأصحاب، حتى تركوا أسلحتهم وأسرعوا إليه. وانتهز العدو إذ ذاك فرصة تغيب مقاوميهم المؤقت وضاعفوا هجومهم على القلعة وتمكنوا من اكتشاف منفذ خلال بوابتها.(1) وأسروا في ذلك اليوم من النساء والأطفال ما لا يقل عن مائة ونهبوا كل ممتلكاتهم. ورغمًا عن اشتداد برد ذلك الشتاء، ترك هؤلاء الأسرى دون كساء مدة لا تقل عن خمسة عشر يومًا معرضين في الليل للبرد القارس الذي لم تشهد زنجان مثله إلا نادرًا. كانوا في العراء بثيابهم الخفيفة دون غطاء ولا طعام أو مأوى، ولم يكن ليقيهم شر البرد سوى قطع من القماش الخفيف كان يغطي رؤوسهم وبه يجتهدون عبثًا اتقاء لفحة البرد القارس الثلجي الذي كان يهب عليهم بلا شفقة. وتجمع حول مكان حجزهم عدد كبير من النسوة من أحياء متعددة من زنجان، وأخذن في كيل الازدراء والسخرية عليهن. وإذ كن يرقصن حولهن بجنون، كن يوبخنهن صائحات: ’لقد وجدتن الآن ربكنَّ الذي كافأكنَّ مكافأة عظيمة.‘ وبصقن على وجوههن وأوسعنهن أرذل الشتائم.

وكان الاستيلاء على القلعة قد حرم أصحاب الحجة من أكبر وسائل الدفاع عندهم، إلا أنه فشل في توهين أرواحهم أو إضعاف مجهوداتهم. وقد نهب العدو كل ما طالته يده من الممتلكات، وأخذوا أغلب النساء والأطفال أسرى بعد أن تُركوا دون حماية. وأما باقي الأصحاب ومعهم النسوة والأطفال الباقون فقد اجتمعوا في المنازل القريبة من مسكن الحجة، وقسّموا أنفسهم إلى خمس سرايا، كل سرية مؤلفة من ثلاثمائة وواحد وستين (19X19) من الأصحاب، ويقوم تسعة عشر من كل سرية ويهجمون معًا صائحين "يا

________________________

(1) ’وكان فوج الكرّوس، تحت قيادة رئيس القبيلة حسن علي خان (وهو الآن وزير مفوض في پاريس)، قد استولى على قلعة علي مردان خان، واقتحم الفوج الرابع منزل آقا عزيز، وهو أحد الأمكنة الحصينة في المدينة، وحرقه بالكامل. ونسف فوجُ الحرس الخانَ الموجود قرب بوابة همدان، ورغم فقدان ضابط برتبة نقيب والعديد من الجنود إلا أن الفوج بقي مسيطرًا على الموقع.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 203)

صاحب الزمان" بصوت واحد وينقضون على العدو وينجحون في تشتيت صفوف قواته. وكان تعالي أصوات هؤلاء الخمسة وتسعين نفرًا من المهاجمين كافيًا لشل مجهودات الأعداء وسحق أرواحهم.

واستمر الحال على هذا المنوال بضعة أيام جلبت في أعقابها عارًا وخسارة لعدو كان يظن أنه قادر على تحقيق نصر مؤكد فوري. وقتل الكثيرون أثناء هذه الملاحم. وهجر كثير من الضباط مواقعهم، مما أزعج رؤساءهم. وترك ضباط المدفعية مدافعهم، وساءت الحال في صفوف الجيش وانهكت قواهم. وكان الأمير تومان قد أعيته الوسائل التي لجأ إليها للمحافظة على رجاله وضمان مستوى نشاطهم ومقدرتهم الحربية. واضطر مرة أخرى أن يستشير بقية ضباطه للبحث عن علاج حاسم للوضع الخطير الذي يهدد حياته أولاً، وحياة أهالي زنجان ثانيًا. واعترف قائلاً: ’إني متعب من المقاومة الشرسة لهذه الطائفة. وهم بلا شك مسوقون بروح لا يقدر ملكنا أن يبث مثلها في رجالنا. ولا يوجد عند أي رجل في جيشنا روح التضحية الموجودة عندهم. ولا تقدر أي قوة تحت تصرفي أن تخلص رجال جيشنا من خيبة الأمل التي وقعوا فيها. فهم يعتقدون بأنه حكم عليهم بالهلاك الأبدي سواء انتصروا أو خابوا.‘

واستقر رأيهم بعد المشورة على حفر سراديب من موقع معسكرهم إلى مكان أسفل الحيّ الذي توجد فيه مساكن أصحاب الحجة. وعزموا على نسف هذه المنازل حتى يجبروهم على التسليم بلا قيد ولا شرط. واستمروا على العمل مدة شهر، واجتهدوا أن يملأوا السراديب بالمفرقعات ويهدموا بقسوة شيطانية ما تبقى من المنازل التي لم تزل قائمة. ورغبة في الإسراع بالهدم، أمر الأمير تومان الضباط الموكلين بالمدفعية أن يصوبوا نيرانهم على مسكن الحجة، لأن المنازل التي كانت حائلة بين مسكنه وبين المعسكر قد سويت بالتراب بحيث لم يبق أي عائق في طريق الهدم النهائي.

وكان جزء من منزل الحجة قد تهدم أثناء محادثته مع زوجته خديجة التي كانت تحمل طفلها هادي على ذراعيها، وكان يحذرها بأن اليوم سوف يأتي قريبًا حينما تؤخذ هي وطفلها أسرى، وأمرها أن تستعد لذلك الوقت. وبينما كانت في حال جزعها، إذ أصابتها

قذيفة مدفع قتلتها في الحال، ووقع طفلها في الموقد وتوفي بعدها بقليل متأثرًا بجراحه، في منزل ميرزا أبو القاسم، مجتهد زنجان.

ورغم حزنه الشديد، إلا أن الحجة لم يسلم نفسه للجزع، وصاح قائلاً: ’يا إلهي منذ اليوم الذي فيه وجدت محبوبي وعرفت فيه مظهر روحك الأبدية، كنت أدرك مدى الآلام التي سوف تنتابني. ومع أن أحزاني للآن عظيمة، فإنها لا يمكن مقارنتها بالآلام التي أنا مستعد لتلقيها لأجل اسمك. فلن تُقاس حياتي الباطلة ولا فقد زوجتي وابني ولا تضحية أصحابي وأقربائي بنعمة معرفة مظهرك الذي أنعمت بها عليّ! ولو كان عندي آلاف من الأرواح، وكل كنوز الأرض وسلطانها، لفديتها كلها في سبيلك عن طيب خاطر وبكل فرح وابتهاج.‘

وكان لفقد زوجة الرئيس وابنه، وجرحه البليغ الذي أصابه، أكبر أسى في نفوس أصحابه الذين احترقت قلوبهم، وعزموا على بذل أقصى الجهد والقيام بآخر مجهود في الانتقام لدم إخوانهم المذبوحين. ولكن الحجة نصحهم بعدم الإقدام على مثل هذا العمل وأن لا يسرعوا في إشعال النزاع. وأمرهم أن يوكلوا الأمر لإرادة الله وأن يستمروا في السكون والثبات للنهاية مهما طالت.

وكان عددهم يقل كل يوم وزادت مصائبهم ونقصت مساحة الأرض التي كانوا يشعرون أنهم في مأمن فيها. وفي صباح اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1267ﻫ،(1) توفي الحجة فجأة وهو ساجد على وجهه في الصلاة، ذاكرًا اسم حضرة الباب، وبعد أن قاسى آلامًا شديدة من جرحه مدة تسعة عشر يومًا.

وكانت وفاته الفجائية صدمة قوية لأقربائه وأصحابه. وكان الأسى على فراق مثل هذا الرئيس القدير الملهِم عميقًا، والخسارة فادحة لا تعوض. وعزم اثنان من أصحابه وهما دين محمد الوزير ومير رضاي السردار، أن يسرعا بدفن الجثة في مكان لا يعلمه أحد من الأقرباء ولا من الأصحاب قبل أن يعلم الأعداء بوفاته. فأخذا الجثمان في جنح الليل إلى

________________________
(1) 8 يناير/كانون الثاني سنة 1851م.

غرفة دين محمد الوزير، وهناك دفناها. وهدما الغرفة حتى يضمنا سلامة البقايا من التمثيل بها، وبذلا الجهد في كتم سر الموضع.

واجتمع ما ينوف على خمسمائة امرأة، ممن نجين من تلك المأساة الرهيبة، في منزل الحجة بعد وفاته مباشرة. وأما أصحابه، فبالرغم من وفاة قائدهم، استمروا في مواجهة قوات الأعداء بحماس لا يكل. ولم يبق من الجمع العظيم الذي انضم إلى راية الحجة سوى مائتين من الرجال الأشداء. والباقون إما توفوا أو أقعدتهم الجروح التي أصابتهم.

ولما علم الأعداء بوفاة القائد الملهِم، تحركوا للهجوم والمقاومة وعزموا على أن يبيدوا البقية الباقية من هذه الفئة الراسخة التي لم يتمكنوا من إخضاعها. فشنوا هجومًا عامًا أقوى وأشد من كل هجوم سابق، متشجعين بدق الطبول ونفخ الأبواق ومتشددين بصيحات الفرح الصادرة من الأهالي. وانقضوا على الأصحاب بوحشية فائقة، عازمين على أن لا يستريحوا حتى يقضوا على باقي الجماعة. وتلقاء هذا الهجوم العنيف، صاح الأصحاب صيحة "يا صاحب الزمان" واشتبكوا معهم في القتال مستميتين غير وجلين، واستمروا في معمعتهم حتى غلبت عليهم الجموع فوقعوا جميعهم بين قتلى وأسرى.

وأعطى الأعداء إشارة النهب، وابتدأت المذبحة على شكل لم يسبق له مثيل لا في اتساع نطاقها ولا في قسوتها ووحشيتها. ولولا أن الأمير تومان أعطى الأوامر أن يتركوا ما تبقى من منزل الحجة وممتلكاته وأن يمتنعوا عن استعمال القسوة مع أقربائه لكان هذا الجيش السفاك قد ارتكب فظائع أشد وأنكى. وكان مقصده أن يخطر السلطة في طهران وينتظر منها النصيحة، ولكنه عجز عن منع رجاله من القسوة التي سادت عليهم. وفرح علماء زنجان بالنصر الذي كلفهم هذا المجهود العظيم وفقد حياة العديدين الذين أثروا على شهرتهم وكرامتهم، بدرجة ليس لها في السابق مثيل، وحرضوا الأهالي على ارتكاب كل فظاعة والتمثيل بأسراهم وانتهاك حرمة نسائهم. وابتدأ النهب والسلب حتى إن العامة في هجومهم زحزحوا الحراس الذين كانوا واقفين عند مدخل منزل الحجة، وشاركوا الجند في القضاء على الرجال الذين بقوا بعد ذلك القتال العنيف. ولم يقدر الأمير تومان ولا الحاكم على إيقافهم عن وحشيتهم أو منعهم من النهب والسلب الذي تملّك

مشاعر جميع أهالي المدينة. ولم يكن بالإمكان حفظ النظام أمام الاضطراب الذي لحق بالواقعة، بل عمل الأهالي كل ما في وسعهم ليشفوا غليل انتقامهم.

وتمكن حاكم المقاطعة أن يقنع الضباط أن يجمعوا الأسرى في منزل شخص يدعى الحاج غلام، وأن يحافظوا عليهم إلى أن تصل تعليمات جديدة بخصوصهم من طهران. فحشروا الجماعة بأسرها كالأغنام في ذلك المحل الحقير معرضين لبرد شتاء قارس. وكانت الحظيرة التي أدخلوا فيها بلا سقف أو فرش أو أثاث. ومكثوا بضعة أيام دون طعام. ومن هناك نقلوا النسوة إلى منزل مجتهد اسمه ميرزا أبو القاسم، أملاً في أن يتمكن من أن يردهن عن دينهن، وفي مقابل ذلك يطلق سراحهن. إلا أن هذا المجتهد الطمّاع تمكن بواسطة نسائه وأخواته وبناته، من سلبهن كل ما سمح لهن بحمله، وجردهن من ملابسهن وألبسهن أحقر لباس، واستولى على ما معهن من أشياء ثمينة بين أمتعتهن.

وبعد تحمل المشاق والصعاب الجسيمة، سمح للأسيرات أن يلحقن بأقربائهن على شرط أن يكون هؤلاء مسؤولون عن سلوكهن في المستقبل، ووزعت الباقيات على القرى المجاورة، وقابلهن الأهالي بالعطف والمشاعر الصادقة على خلاف أهالي زنجان. أما أسرة الحجة، فحجزت في زنجان حتى تصل أوامر محددة من طهران بخصوصها.

أما الجرحى فبقوا مخفورين إلى أن تأتي التعليمات من العاصمة عن كيفية التصرف معهم. وفي الأثناء كان ما تعرضوا له من شدة البرد قد أودى بحياتهم جميعهم في ظرف بضعة أيام، وخاصة مع القسوة التي عوملوا بها.

وأما باقي الأسرى، فسلموا من الأمير تومان إلى أيدي الكرّوسي والخمسة والأفواج العراقية، مع تعليمات بإعدامهم جميعهم. وساروا بهم في موكب مصحوبين بالطبول والأبواق إلى موقع معسكر الجيش.(1) واجتمعت كل هذه الأفواج لإيقاع الأعمال

________________________

(1) ’وكان محمد خان البگليربجي، والأمير أرسلان خان وآخرون من الضباط قد ضمنوا بشرفهم الحياة للبابيين، ولكنهم جمعوهم أمام عسكرهم، وعلى صوت الطبول والأبواق، أعطوا الأوامر إلى مائة من ↓

الوحشية بهؤلاء المظلومين. فقاموا بالسيوف والسنان على الباقين من الأصحاب، وعددهم ستة وسبعون رجلاً، وقطّعوا أجسادهم إربًا بوحشية قاسية فاقت أظلم أعمال الجلادين والمعذبين. وكانت روح الانتقام عند هؤلاء المتوحشين قد فاقت كل حد. وتسابق كل فوج مع الآخر في ارتكاب أكبر القبائح والتوحش التي اخترعتها عقولهم. وأثناء انقضاضهم على ضحاياهم وثب الحاج محمد حسين والد أبو بصير على قدميه وصاح بالأذان، فأرعب الجموع التي التفّت حوله. ومع أنه كان قريبًا من ساعة الوفاة، فاه بالأذان بقوله، "الله أكبر" بحماس وعظمة جعلت كل أفراد الفوج العراقي يعلنون فورًا امتناعهم عن الاستمرار في أعمال القسوة المخجلة. فتركوا مواقعهم صائحين: ’يا علي!‘ وفرّوا في فزع واشمئزاز. وكانوا يصيحون وهم يولون أدبارهم من مناظر الفظاعة وسفك الدماء ويقولون: ’ملعون الأمير تومان الذي خدعنا وكان قد اجتهد بإصراره الشيطاني أن

____________________________________________________________________

العسكر المنتخبين من الأفواج المختلفة بأن يحضروا الأسرى ويضعوهم صفًا أمامهم. ثم أصدروا الأمر بقتلهم بالحراب. وقد نفذوا ما أمروا به. ثم أخذوا زعيمين بابيين، سليمان، صانع الأحذية، والحاج كاظم الگلتوغي وأطلقوهما من فوهة مدفع هاون. وهذا النوع من الإعدام ابتكر في آسيا واستعمله الجنود الإنگليز أيضًا أثناء التمرد في الهند ولكن بذلك التحسين الذي جلبته العلوم الأوروپية والذكاء الذي يطبقونه على كل ما يفعلونه. وتنحصر طريقتهم في ربط المحكوم عليه أمام فوهة المدفع المحشو بالبارود. وعند إطلاقه، تتطاير قطع جسد القتيل وتتبعثر شذر مذر، ويعتمد حجم كل قطعة على كمية البارود المستعملة. ولما تمت عملية الإعدام صنّفوا باقي الأسرى، حيث اختاروا ميرزا رضا، معاون الملاّ محمد علي، وغيره من أصحاب المنزلة الرفيعة والأهمية ووضعوا الأغلال في رقابهم والقيود في أيديهم. ثم قرروا تجاهل المرسوم الملكي وأخذوهم إلى طهران علامة على الانتصار. وأما بالنسبة لبعض التعساء الباقين، الذين لا يهم موتهم أو حياتهم أحدًا، فتركوهم، ورجع الجيش المنصور إلى العاصمة يجرّ معه أسراه الذين كانوا يسيرون أمام خيول الألوية المظفرين. وإذ وصلوا إلى طهران وجد أمير النظام، رئيس الوزراء، أن من الضروري أن يبتدع نوعًا جديدًا من الإعدام، فأمر بقطع عروق ميرزا رضا والحاج محمد علي والحاج محسن. فاستقبل الثلاثة هذا الخبر برباطة جأش، ولكنهم أعلنوا أن الخيانة التي تدان بها السلطات ليست من الجرائم التي يرضى الله العلي أن يعاقب أصحابها بالطريقة العادية. بل إنه لا شك قد أفرد عقابًا أشد تأثيرًا وترويعًا لمضطهدي أوليائه. وبالتالي فقد تنبأوا بأن يعاقَب رئيس الوزراء قريبًا بنفس الطريقة التي قرر إعدامهم بها. وقد سمعت من أشار إلى تلك النبوة، وإني لا أشك لحظة بأن من أخبرني بها متأكدون من تحققها. ولكن ينبغي لي أن أذكر أنه عندما سمعت عنها، كان قد مر من الزمن أربع سنوات على أمر الشاه بقطع شرايين أمير النظام. لذا فإن الشيء المؤكد الوحيد عندي هو أني تلقيت الضمانات الأكيدة بأن النبوءة صدرت فعلاً من شهداء زنجان.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحات 207-209)

صورة 184

الميدان في زنجان الذي ترك فيه جثمان الحجة معروضًا ثلاثة أيام

يقنعنا بأن هذه الفئة هم أعداء الإمام علي وآله. فلن نقبل بعد الآن أبدًا أن نشترك في هذه الأعمال الإجرامية ولو ذبحنا عن آخرنا.‘

وكان عدد من الأسرى قد أطلقوا من المدافع وبعضهم جردوا من ملابسهم وصبت على أجسادهم المياه المثلجة ثم جلدوا. وآخرون لطخوا بالعسل وتركوا ليهلكوا في الثلج، ورغمًا عن كل هذه الإهانات والقسوة، لم يسمع أن أحدًا من هؤلاء الأسرى رجع عن دينه أو تكلم بكلمة غضب واحدة ضد معذبيه. ولم تخرج من شفاههم همسة استياء ولم يظهر على وجوههم أي أثر للأسف والأسى. فلم تفلح أي محنة في إطفاء تلك الشعلة التي أضاءت أنوارها في وجوههم ولم تؤثر أي كلمة مهما كانت قبيحة في تحريك السكون البادي على سيماهم.(1)

________________________

(1) ’وبعد تنفيذ الإعدام اقتحم المشاهدون ميدان الاستشهاد، بعضهم ليبحث عن جثمان صاحب يدفنه، وبعضهم الآخر يدفعهم الفضول الرهيب. ويروى أن مسلمًا اسمه ولي محمد، جاء إلى جسد أحد جيرانه ورأى أنه لم يمت. فقال له: ’أنا جارك ولي محمد. فإذا أردت أي شيء قل لي.‘ فأشار له بأنه عطشان، فذهب المسلم ↓

صورة 185
الحاج ايمان (x) أحد الناجين من ملحمة زنجان

ولما انتهى هؤلاء الطغاة من عملهم، ابتدأوا يبحثون عن جثمان الحجة وكشف الموقع الذي أخفاها فيه الأصحاب بكل حرص. فلم تنجح أعظم أنواع التعذيب والوحشية التي أوقعوها بأصحابه في الكشف عن ذلك الموقع. وعجز الحاكم في البحث والتنقيب. وأخيرًا أحضر ابن الحجة وعمره لا يزيد عن سبع سنوات واسمه حسين، واجتهد أن يقنعه ليبوح بالسر.(1) وقال له وهو يلاطفه: ’يا بني إنني ممتلئ حزنًا لعلمي بالمصائب التي وقعت

_____________________________________________________________________

وأحضر حجرًا كبيرًا وعاد إلى جاره وقال له: ’’افتح فمك، فقد أحضرت لك الماء.‘‘ ولما أطاعه الجريح المسكين رماه بالحجر وسحق به رأسه. وأخيرًا سار البگليربجي إلى طهران ومعه أربعة وأربعون مسجونًا كان من بينهم ابن ميرزا رضا، والحاج محمد علي، والحاج محسن الجراح. وهؤلاء الثلاثة استشهدوا بمجرد وصولهم، وترك الباقون ليتعفنوا في السجن.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 363)

(1) ’ولم يكفهم أنهم انتصروا، بل أرادوا إهانة أجساد أعدائهم. وكانوا متلهفين لاستجواب البابيين، ولكن رغم قسوة التعذيب الذي هددوا بإيقاعه عليهم، فقد رفض البابيون الكلام. فصبّوا الزيت المغلي على آقا دين ↓

على والديك، ولست أنا المسؤول، بل مجتهدو زنجان هم المسؤولون عن القبائح التي ارتكبت. وأنا الآن موافق على دفن رفات والدك في مدفن لائق به، وآمل بذلك أن أكفر عن الأعمال المخجلة التي ارتكبت ضده.‘ وبهذه الطريقة نجح في كشف السر من الغلام وأرسل رجاله معه لجلب الرفات. وما كادوا يحضرونها ويتم له مرغوب فؤاده، حتى أمر بربطها بحبل وسحبها على أصوات الطبول والأبواق في شوارع زنجان. ولمدة ثلاثة أيام بلياليها وقع على جسده من التمثيل والإهانة ما لا يقدر الوصف عليه، وكان متروكًا في الميدان معرضًا لأنظار العامة. ويروى أنه في الليلة الثالثة، جاء عدد من الخيالة ونجحوا في نقل الجثمان إلى محل آمن في طريق قزوين. وأما أقارب الحجة فقد جاءت التعليمات من طهران أن يرسلوا إلى شيراز ويسلَّموا لأيدي الحاكم. وهناك ابتلوا بالفقر والامتهان. وأخذ الحاكم لنفسه ما بقى معهم من الممتلكات وحكم على ضحايا جشعه بالسكن في منزل خرب. وتوفي مهدي، نجل الحجة الأصغر، من الآلام والمصائب التي انتابته هو وأسرته، ودفن في وسط تلك الخرائب التي كان يأوي إليها.

وكان لي الشرف بعد مضي تسع سنين على حوادث هذا الكفاح الشهير، أن زرت زنجان وشاهدت مواقع هذه المجازر الفظيعة. وشاهدت بمشاعر الحزن والرعب أطلال قلعة علي مردان خان ووطئت الأرض المشبعة بدماء مُدافعيها الخالدين، وشاهدت على أبوابها وأبراجها آثار المذابح التي اقترفت عندما استلمها العدو، وعلى نفس الأحجار التي استعملت كمتاريس كانت بقع الدماء التي سفكت بغزارة في تلك الأنحاء.

أما عدد الذين سقطوا في خضم هذه المعارك فلا إحصاء دقيق لهم للآن. وكان عدد الذين اشتركوا في هذه الملحمة كثيرًا جدًا، واستمر الحصار زمنًا طويلاً، بحيث أتردد في محاولة التأكد من أسمائهم وعددهم. وقد اجتهد اسم الله الميم واسم الله الأسد في جمع ما تيسر من أسمائهم في قائمة يحسن بالقارئ الرجوع إليها. وتعددت واختلفت الروايات

_____________________________________________________________________

محمد، ولكنه بقي صامتًا. وأخيرًا أحضر السردار ابن الرئيس المتوفى أمامه. وكان عمر ذلك الطفل سبع سنوات، ويسمى آقا حسين، ومن خلال التهديدات الماكرة والإغواء والمديح نجحوا في جعله يتكلم.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 361)

في عدد الشهداء الذين حاربوا وسقطوا تحت راية الحجة في زنجان، وقدّرهم بعض المؤرخين بألف شهيد، وآخرون بأكثر من ذلك. وسمعت أن أحد أصحاب الحجة أخذ في تدوين أسماء الشهداء وترك قائمة عدّد فيها ألف وخمسمائة وثمانية وتسعين شخصًا قبل وفاة الحجة، بينما يعتقد بأن عدد الذين استشهدوا بعد ذلك يبلغ المائتين واثنين.

وإني مدين أولاً للميرزا محمد علي الطبيب الزنجاني، وأبو بصير، والسيد أشرف، على المعلومات الخاصة بحوادث زنجان، وجميعهم من شهداء الأمر. وكنت تعرفت بكل منهم معرفة وثيقة. أما باقي روايتي فقد استقيتها من مخطوطة كتبها الملاّ حسين الزنجاني وأرسلها إلى محضر حضرة بهاءالله، وفيها دوّن كافة المعلومات التي أمكنه تقصيها من مصادر مختلفة خاصة بهذه المأساة.

أما ما حكيته خاصًا بحوادث مازندران، فمبني بشكل مماثل على ما رواه السيد أبو طالب الشهميرزادي، إلى حد كبير، في رواية خطية أرسلها للأرض الأقدس، وعلى بحث موجز كتبه أحد الأحباء المدعو ميرزا حيدر علي الأردستاني. وقد علمت كثيرًا من الحقائق المتعلقة بتلك الملحمة من أشخاص اشتركوا فعليًا في أحداثها، كالملاّ محمد صادق المقدس، والملاّ ميرزا محمد الفروغي، والحاج عبد المجيد، والد بديع، وأحد شهداء الأمر.

أما الحوادث المتعلقة بحياة وحيد وأعماله، فقد تحصلت على المعلومات الخاصة بما حصل في يزد، من "رضي الروح" الذي كان من أخص أصحابه. وأما ما يخص المراحل اللاحقة لملحمة نيريز، فارتكنت في أخبارها على ما أمكنني جمعه من الرواية المفصلة المرسلة إلى الأرض الأقدس من أحد الأحباء في تلك المدينة، واسمه الملاّ شفيع، والذي بحث مليًا في الموضوع وأرسل تقريرًا بمعلوماته إلى حضرة بهاءالله. وأما ما قصّر قلمي في تدوينه، فآمل أن تكتبه الأجيال القادمة وتجمعه ويكون محفوظًا لأجل الخلف. وأرجو المعذرة لوجود فجوات كثيرة في هذا التاريخ، والتي بسببها أستسمح القارئ الكريم. وإن شاء الله سوف تكمله الأجيال القادمة من بعدي والذين سوف يقومون ويجمعون تاريخًا مفصلاً لائقًا لهذه الحوادث المؤثرة التي لا نقدر على تفهم إشاراتها وأهميتها إلا على قدر مقدور.

الفصل الخامس والعشرون
رحلة حضرة بهاءالله إلى كربلاء ونتائجها

منذ بدأتُ بكتابة هذا التاريخ كان من عزمي الأكيد أن أضم إلى الأخبار التي أرويها عن بدء هذا الأمر تلك الجواهر الغالية القيمة التي كان لي الشرف أن أسمعها من آن لآخر من فم حضرة بهاءالله. وكانت تلك العبارات أحيانًا موجهة لي وأحيانًا كنت أسمعها مع أصحابي بينما نحن جلوس في محضره، وهي تتعلق بالأحداث نفسها التي اجتهدت في وصفها. وكانت ملاحظات حضرة بهاءالله حول حوادث مؤتمر بدشت وإشاراته للهياج الذي ختم به كما ذكرته سابقًا، هي من الفقرات التي تغني تاريخي وتشرّفه.

ولما اكتمل وصف حوادث ملحمة زنجان، أدخلت إلى محضر حضرة بهاءالله وحظيت مع غيري من الأحباء بالبركات التي أسداها إلينا على دفعتين أثناء زيارتي له في الأيام الأربعة التي اختار أن يمكثها في منزل آقا كليم. ففي الليلة الثانية والرابعة من وصوله إلى منزل أخيه، الذي وافق اليوم السابع من شهر جمادى الأولى سنة 1306ﻫ(1) تشرفنا بلقائه مع عدد من الزائرين من سروستان وفاران ومعنا بعض المؤمنين المقيمين هناك، وبقيت الكلمات التي تفضل بها منقوشة على صفحات قلوبنا، وأشعر أن من واجبي أن أشارك قرائي بمضمون بيانه.

________________________
(1) 9 يناير/كانون الثاني سنة 1889م.

تفضل قائلاً:﴿الحمد لله الذي أنزل ما هو لازم للمؤمنين في هذا الأمر المبارك. فتحددت الفرائض والواجبات بكل وضوح وسطّر في الكتاب بيان ما يجب عليهم عمله. وقد آن الوقت للكل أن يقوموا ويفوا بواجباتهم. فليظهروا في أعمالهم ما نصحناهم به. وليحذروا من أن محبتهم لله التي سطعت في قلوبهم بأشد إشراق، تجعلهم يتعدون حدود الاعتدال أو يتخطون ما رسمناه لهم منها. وكتبنا في هذا المعنى للحاج ميرزا موسى القُمي، وقلنا "ينبغي أن يكون سلوكك بحيث لو نهلتَ من ينابيع الإيمان والإيقان أبحر العلم والعرفان، لا تسمح لشفتك أن تنبس سواء للحبيب أو الغريب ببنت شفة عن غرائب المنهل الذي ارتويت منه، وإذا اشتعل قلبك بنار محبة الله، فاحذر أن تطّلع عينٌ على ما يكنّه فؤادك من الهيمان ولو أن روحك تموج كالبحر العباب فلا تجعل ملامح وجهك تنم عن أي اضطراب أو تفتضح أسرار وجدك من مظهرك وسلوكك."

ويعلم الله إننا ما اجتهدنا أن نخفي أنفسنا في أقل من آن أو نتهاون في إعلان الأمر الذي وجبت علينا خدمته. ومع أننا ما ارتدينا لباس أهل العلم، فإننا قابلنا مرارًا أكابر العلماء في نور وفي مازندران وتباحثنا معهم وأثبتنا لهم أحقية الأمر. وما توانينا في عزمنا ولا وهنّا وما ترددنا في تلبية أي طلب أتى من أي جهة، ولم يتردد أحد ممن كلمناه في تلك الأيام في قبول النداء والانضمام إلينا. ولولا مسلك أهل "البيان" الذين نقضوا بأعمالهم ما أتممنا عمله، لكانت نور ومازندران تعدان اليوم ضمن المراكز الأمرية المهمة، وكان أهلها عمومًا قد آمنوا.

ففي الوقت الذي كانت قوات الأمير مهدي قلي ميرزا تحاصر قلعة الطبرسي، عزمنا على الخروج من نور لنصرة الأصحاب، وأرسلنا عبد الوهاب أحد أصحابنا ليتقدمنا ويخبر أهل القلعة بمجيئنا. ورغمًا عن محاصرتنا من الأعداء فإننا عزمنا أن نجعل نصيبنا مع نصيب هؤلاء الأصحاب الأبطال وأن لا نبالي بالمخاطر التي داهمتنا. ولكن يد القدرة الإلهية أوجدت الموانع فلم نتمكن من نصرة الأصحاب، وأخرجتنا من النصيب الذي لاقوه وأبقت لنا العمل الذي قدر لنا أن نقوم به. ولحكمة إلهية مكنونة أبلغ أهالي نور عزمنا على الالتحاق بالمحاصَرين إلى ميرزا تقي حاكم آمل قبل وصولنا إلى القلعة، فأرسل

مأموريه ليحولوا دون ذلك. وبينما كنا نستريح ونتناول الشاي، أحاطتنا فجأة قوة من الخيالة وأخذوا أمتعتنا وخيولنا. وسلموني بدلاً من الجواد المعدّ لركوبي جوادًا آخر ضعيفًا ذا ركاب حقير غير مريح، أما باقي الأصحاب فأخذوهم مغلولي الأيدي إلى حاكم آمل. وتمكن ميرزا تقي من تخليصنا من قبضة العلماء رغم معارضتهم، ونجح في إسكاننا في منزله واستضافنا فيه بكل ترحاب وكرم. وأحيانًا كان يلين تحت تهديد العلماء الذين كانوا يشددون عليه النكير، فيشعر أنه غير قادر على منعهم عن الإضرار بنا. وكنا في منزله إذ رجع إلى آمل السردار الذي انضم إلى الجيش في مازندران. فلما أخبروه بقضيتنا، أخذ يوبخ ميرزا تقي للضعف الذي أظهره في حمايتنا من أعدائنا. وكان يقول له ’ما أهمية تهديدات هؤلاء القوم الجهلاء؟ ولماذا سمحت لنفسك أن تخضع لهياجهم؟ فكان من الواجب أن تكتفي بمنع الجماعة من الوصول إلى المقر الذي كانوا يقصدونه وتعمل على إعادتهم فورًا إلى طهران سالمين.‘

وبينما كنّا في ساري، تعرّضنا مرة أخرى لشتم الأهالي وأذيّتهم. ومع أن أكثر أعيان تلك المدينة كانوا من أصحابنا وكثيرًا ما قابلناهم في طهران، إلا أن الأهالي ما كادوا ينظروننا مارّين في الشوارع مع القدوس، حتى انهالوا علينا طعنًا من كل طرف أينما ذهبنا وهم يصيحون بقولهم ’بابي! بابي!‘ وما كنا قادرين على تفادي شتائمهم القبيحة.

وفي طهران، حبسنا مرتين لأننا قمنا لمعاونة المظلومين. وكان أول حبس قضيناه بعد مقتل الملاّ تقي القزويني بسبب المساعدة التي أسديناها للذين عوقبوا عقابًا شديدًا بغير ذنب. وكان حبسنا الثاني أشد وأنكى وسببته حادثة الشروع في الاعتداء على حياة الشاه من بعض الأتباع غير المسؤولين. وكانت هذه الحادثة سببًا لنفينا إلى بغداد، ومن ثم انقطعنا إلى جبال كردستان بعد وصولنا بقليل وصرفنا فيها وقتًا في عزلة تامة والتجأنا إلى قمة جبل يبعد ثلاثة أيام عن أقرب مسكن للناس. وافتقدنا فيه وسائل الراحة. وكنا منعزلين عن الناس حتى اطلع الشيخ إسماعيل على حالنا وكان يحضر لنا الطعام الذي نحتاج إليه.

ولدى عودتنا إلى بغداد شاهدنا لفرط دهشتنا أن أمر حضرة الباب قد نسي تمامًا ولم يبق له أثر وأن أساسه قد نُسي بالكلية. فقمنا على إحياء أمر حضرته وحفظه من النسيان

والفساد. ففي الوقت الذي أخذ فيه الخوف والاضطراب جميع الأصحاب، أظهرنا حقائق أمره بعزم وثبات ونادينا أهل الفتور أن يقوموا بحماس على نصرة الدين الذي أهملوه إهمالاً كليًا، ودَعَونا جميع من على الأرض أن ينظروا إلى الأنوار المشرقة من أفق الأمر.

وبعد رحيلنا من أدرنة، قامت ضجة في إسطنبول بين مستخدمي الحكومة، وتشاوروا فيما بينهم وقرروا أن من الأوفق إغراقنا نحن وأصحابنا في البحر. فوصلت أخبار ذلك إلى طهران وشاع هناك أن ذلك كان مصيرنا فعلاً. فاضطرب المؤمنون في خراسان، ولما بلغ الخبر إلى ميرزا أحمد الأزغندي، قال إنه لا يمكن بأي حال أن يصدق مثل هذا الخبر، لأنه لو صح، لكان دين السيد الباب بعيدًا عن الصحة. ولكن أخبار وصولنا سالمين إلى عكاء مدينة السجن أبهجت قلوب أحبائنا وأعجب أحباء خراسان أيما إعجاب بإيمان ميرزا أحمد، وازدادت ثقتهم به.

ومن سجننا الأعظم خاطبنا حكام العالم وملوكه وأرسلنا لهم خطابات مهمة وألواحًا عديدة ودعوناهم فيها أن يقوموا على نصرة أمر الله. وأرسلنا إلى شاه إيران رسولنا "بديع" وسلمناه اللوح في يده، فسلّمه بيده إلى الشاه أمام جمهور الناس وطلب من مليكه أن يتمعن في العبارات التي يحويها. كذلك وصلت باقي الألواح إلى مقرها لدى الملوك والرؤساء، وجاء الرد على لوح ناپليون الثالث بواسطة سفير فرنسا، وأصله محفوظ عند الغصن الأعظم.(1) وفي لوح إمبراطور فرنسا أنزلنا هذه الآيات: "يا ملك باريس نبئ القسيس أن لا يدق النواقيس، تالله الحق قد ظهر الناقوس الأفخم على هيكل الاسم الأعظم وتدقه أصابع مشيئة ربك العليّ الأعلى في جبروت البقاء باسمه الأبهى." وأما اللوح الذي أرسلناه إلى قيصر الروس فلم يصل إلى مقره وسوف يصله عن قريب، ولكن وصلته ألواح أخرى.

فاشكر الله الذي وفقك على معرفة أمره. فكل من وصل إلى نعمة الإيمان لا بد أنه من النفوس المقدسة، قبل إيمانه قد عمل أعمالاً طيبة، ولو أنه بنفسه ربما كان غير عالِم بها،

________________________
(1) لقب حضرة عبدالبهاء.

لأنها كانت الواسطة والوسيلة التي بسببها أراد الله أن يهتدي للحق ويقبل أمره. أما الذين منعوا من هذه النعمة فإن أعمالهم الشنيعة هي التي أبعدتهم عن معرفة حقيقة هذا الظهور. نرجو إن شاء الله أنك باتّباعك هذا النور تقوم وتعمل كل ما في وسعك لمحو ظلمة التقليد والكفر من بين الناس، ولتشهد أعمالك على إيمانك وتمكنك من إرشاد الضالين إلى طريق النجاة الأبدية. فلن تنسى هذه الليلة أبدًا وأرجو إن شاء الله أن يبقى ذكرها إلى الأبد على ألسن الجميع وأن لا تمحى على كرّ الدهور.﴾

وكان النوروز السابع بعد إعلان دعوة حضرة الباب، قد وقع في اليوم السادس عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1267ﻫ،(1) بعد انتهاء واقعة زنجان بشهر ونصف. وفي تلك السنة نفسها، في أواخر الربيع وفي أوائل أيام شهر شعبان،(2) غادر حضرة بهاءالله العاصمة إلى كربلاء، وكنت في ذلك الوقت قاطنًا في كرمانشاه في صحبة ميرزا أحمد، كاتب حضرة الباب، وكان حضرة بهاءالله قد أمره أن يجمع الكتابات المقدسة للباب وينسخها، وكانت أغلب أصولها تحت يده. وكنت في زرند في منزل والدي عندما لاقى شهداء طهران السبعة نصيبهم القاسي. وقد نجحت أخيرًا في الارتحال إلى قُم متذرعًا بالرغبة في زيارة المقامات مع أن غرضي الأساسي كان زيارة ميرزا أحمد، ولما لم أتمكن من مقابلته، تركتُ كاشان بناءً على نصيحة الحاج ميرزا موسى القُمي، الذي أخبرني بأن "عظيم" هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرشدني إلى مكان ميرزا أحمد، لأنه كان قاطنًا معه في كاشان. فرجعت معه إلى قُم، وهناك تعرفت بالسيد أبو القاسم "علاقه بند" الإصفهاني، الذي صحب ميرزا أحمد سابقًا في سياحته في كرمانشاه. وطلب منه عظيم أن يصحبني إلى بوابة المدينة ومن ثم يرشدني إلى المكان الذي يقطنه ميرزا أحمد، ويعمل الترتيب لأجل مغادرتي إلى همدان. وأحالني السيد أبو القاسم بدوره إلى ميرزا محمد علي الطبيب الزنجاني، الذي قال إنه يمكن العثور عليه في همدان، وإنه هو الذي يوصلني إلى المكان الذي أقابل فيه ميرزا أحمد. فاتبعت أمره ووجهني ميرزا محمد علي لأن أقابل في

________________________
(1) سنة 1851م.
(2) 1-30 يونيو/حزيران، سنة 1851م.

كرمانشاه تاجرًا معروفًا اسمه غلام حسين الشوشتري وهو يوصلني إلى المنزل الذي يقطنه ميرزا أحمد.

وبعد وصولي ببضعة أيام، أخبرني ميرزا أحمد أنه تمكن، وهو في قُم، من تبليغ الأمر إلى إيلدرم ميرزا، أخو خانلر ميرزا، وأنه يريد إهداءه نسخة من كتاب "الدلائل السبعة"،(1) وطلب مني توصيلها إليه. وكان إيلدرم ميرزا في تلك الأيام حاكمًا لخُرَّم آباد في مقاطعة لُرستان، ويعسكر مع جيشه في جبال "خاوه ولشتر". وكنت مسرورًا من إجابة طلبه وأظهرت الاستعداد أن أقوم حالاً بالرحلة. واجتزت الجبال مع مرشد كُردي واخترقت الغابات والجبال، ومرت ستة أيام بلياليها إلى أن وصلت إلى معسكر الحاكم وسلمته الأمانة، ورجعت ومعي رسالة خطية لميرزا أحمد من الحاكم يظهر فيها تقديره للهدية ويؤكد له إخلاصه لأمر مؤلف الكتاب.

ولدى عودتي، سمعت من ميرزا أحمد الخبر السار بوصول حضرة بهاءالله إلى كرمانشاه. ولما دخلنا إلى محضره كان مشتغلاً بقراءة القرآن الكريم، إذ كنا في شهر رمضان، وتشرفنا بالاستماع إليه وهو يتلو آيات من الكتاب الحكيم. فقدمت لحضرته الرسالة التي كتبها إيلدرم ميرزا لميرزا أحمد، وبعد قراءتها تفضل قائلاً: ’إن الإيمان الذي يظهره أفراد عائلة القاجار لا يُعتمد عليه، وإن إقراره غير صادق. فهو يتوقع أن يقتل البابيون الشاه يومًا ما، ويبطن في سره الأمل أن ينصبوه خليفة له. وأما الحب الذي يُظهره لحضرة الباب فهو بسبب ذلك الأمل.‘ ففي ظرف بضعة أشهر علمنا صدق كلمات حضرته، فإن إيلدرم ميرزا هذا، أعطى أوامره بقتل السيد بصير الهندي الذي كان من أكبر أنصار الأمر.

ويجمل بي هنا أن أحيد عن مجرى روايتنا لأذكر باختصار ظروف إيمان هذا الشهيد ومقتله. ففي الأيام الأولى من دعوة حضرة الباب كان من بين تلاميذ حضرته، الذين أمرهم أن يتفرقوا في البلاد ويبلغوا أمره، أحد حروف الحيّ المدعو الشيخ سعيد الهندي،

________________________
(1) أحد كتب حضرة الباب المعروفة.

والذي أمره مولاه بالتجوال في أنحاء الهند ليعلن للناس مبادئ أمره. وأثناء رحلة الشيخ سعيد، زار مدينة مولتان حيث قابل السيد بصير(1) هذا، والذي وإن كان ضريرًا ولكنه أدرك في الحال ببصيرته الباطنة أهمية الرسالة التي أتاه بها الشيخ سعيد. وكانت العلوم الواسعة التي حصل عليها قد ساعدته على تفهم مغزى الأمر بدلاً من أن تعيقه عن تقدير قيمته. فطرح خلفه زخارف الرياسة وانقطع عن الأصحاب وذوي القربى، وقام بعزم ثابت ليبذل نصيبه في خدمة الأمر الذي اعتنقه. وكان أول عمل له أن حج إلى شيراز بقصد ملاقاة المحبوب، ولما وصل إلى تلك المدينة، علم لفرط دهشته وأسفه أن حضرة الباب نفي إلى جبال آذربيجان حيث يعيش في عزلة مشددة. فسافر في الحال إلى طهران ومنها إلى نور وفيها قابل حضرة بهاءالله. وكانت هذه المقابلة قد شفت غليل قلبه وخلصته من الأسى الذي تسبب له من عدم تمكنه من مقابلة مولاه. وكان يفيض على كل من قابله بعد ذلك من أي دين كان مما كسبه من المسرات والبركات من يَدَي حضرة بهاءالله، ويشعرهم بشيء من القوة التي نفثتها تلك المقابلة في روعه.

وسمعت الشيخ شهيد مازگان يروي الآتي: ’تشرفت بمقابلة السيد بصير في أحر أوقات الصيف أثناء مروره في قَمصر، وهي بلدة يلجأ إليها أعيان كاشان للتخلص من حرّ تلك المدينة. فكنت أراه ليل نهار يحاجّ العلماء الأعلام الذين تجمعوا في تلك القرية. وكان يتناقش معهم في معضلات دينهم بمقدرة وتبصر، ويبين دون خوف أو تحفظ

________________________

(1) ’لاحت من السيد بصير من صغره دلائل ملكات مدهشة أظهرها فيما بعد. وتمتع بنعمة البصر مدة سبع سنوات، ولكن مع انفتاح بصيرة روحه، أسدل ستار من الظلام على عينيه. وأظهر منذ طفولته مزاجه الطيب وشخصيته المحببة قولاً وعملاً، وأضاف إليها الآن تقوى فريدة وأسلوب حياة رزينة. ولما وصل إلى سن الحادية والعشرين قام للحج بأبهة عظيمة (لأنه كان صاحب ثروة عظيمة في الهند)، ولما وصل إلى إيران أخذ يخالط الطوائف والمذاهب جميعها (لأنه كان مطلعًا على قواعد كل منها وأصولها)، وكان يتصدّق على الفقراء بمبالغ كبيرة، وكان يخضع نفسه لانضباط ديني شديد. ولما كان آباؤه قد أخبروه من قبل بأن "الرجل الكامل" سيظهر في إيران في هذا الزمان، كان دائم البحث والاستقصاء. وزار مكة، وبعد أداء مناسك الحج توجه إلى المقامات المقدسة في كربلاء والنجف، وهناك قابل المرحوم الحاج السيد كاظم ونشأت بينهما صداقة حقيقية. ثم عاد إلى الهند، وإذ وصل إلى بومباي سمع أن شخصًا يدعى الباب قد ظهر في إيران، وبناء عليه عاد توًا إلى ذلك القطر.‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحتان 245-246)

تعاليم الأمر الأساسية ويدحض حججهم. ولم يكن أحد منهم، مهما عظم علمه أو اتسعت خبرته، بقادر أن يقاوم الدلائل التي كان يبسطها لإسناد دعاويه. هكذا كان شأن بصيرته ومقام علمه بتعاليم الإسلام وأحكامه حتى ظن أعداؤه أنه ساحر وخشوا أن يضر تأثيره بسلطتهم ويسلبهم مقامهم.‘

وسمعت أيضًا من الملاّ إبراهيم، الملقب بالملاّ باشي، الذي استشهد في سلطان آباد، يصف انطباعه عن السيد بصير قائلاً: ’مر السيد بصير، في أواخر أيام حياته، بسلطان آباد حينما سنحت لي الفرصة بمقابلته. وكان يجتمع بأكابر العلماء باستمرار، ولم يَفُقْهُ أحد في معرفة القرآن الكريم والإلمام بالأحاديث النبوية. وقد أظهر من العلم والمعرفة ما أخاف أعداءه. وكثيرًا ما كان المجادلون معه يشكّون في صحة الأسانيد التي يرويها، وكانوا ينكرون وجود الأحاديث التي يستند عليها في تدعيم حجته. فكان يثبت حججه بدقة تامة ويستند إلى النصوص الواردة في كتاب "أصول الكافي" وكتاب "بحار الأنوار"(1) ويستخرج لهم فورًا الحديث المعين الذي يثبت صحة كلامه. كان لا يشق له غبار في سلاسة منطقه وسهولة استنباطه للبراهين والأدلة التي تؤيد موضوعه.‘

وتوجه السيد بصير من سلطان آباد إلى لُرستان حيث زار معسكر إيلدرم ميرزا، الذي استقبله بالاحترام الملحوظ والاعتبار الواضح. وأثناء محادثته معه يومًا، أشار السيد، الذي كان شجاعًا جدًا، إلى محمد شاه بعبارات أثارت غضب إيلدرم ميرزا الشديد. وقد احتد حنقه من نبرة عباراته وعنفها، فأمر أن يستل لسانه من خلف رقبته. فتحمل السيد هذا التعذيب الوحشي بجلد مدهش، ولكنه توفي متأثرًا بهذا التعذيب الوحشي الذي أوقعه عليه ذلك الطاغية. وفي نفس الأسبوع عثر خانلر ميرزا على خطاب لأخيه إيلدرم ميرزا، يوجه فيه له قبائح. فتمكن خانلر ميرزا من الحصول على موافقة الشاه بأن يعمل في شأن أخيه ما يريد. ولما كان صدر خانلر ميرزا يغلي بالعداء لأخيه أمر أن يجرد من ثيابه وأن يسحب عريانًا مغلولاً بالسلاسل إلى أردبيل، وهناك سُجن حتى قضى نحبه.

________________________
(1) مصنفات من الأحاديث النبوية.

وصرف حضرة بهاءالله شهر رمضان بأكمله في كرمانشاه، ولم يصحب معه إلى كربلاء سوى شكر الله النوري، أحد أقربائه، وميرزا محمد المازندراني الذي نجا من واقعة الطبرسي. وسمعت حضرة بهاءالله نفسه يحكي أسباب ارتحاله من طهران، وأخبرنا قائلاً: ’إن أمير النظام طلب منا ذات يوم أن نقابله. وتلقانا بالاحترام وأخبرنا عن الغرض من الاستدعاء. وقال في لطف: ’’إني عالم تمام العلم بطبيعة نشاطاتكم وأثرها، ومتيقن جدًا أنه لولا دعمكم ومؤازرتكم للملاّ حسين وأصحابه، ما كان لا هو ولا عصبته من العلماء غير المدربين، قادرين أن يقاوموا قوات الحكومة الإمبراطورية مدة سبعة أشهر. والمهارة والمقدرة التي شددتم بها أزورهم، تفوق إعجابي، ولكني لم أقدر أن أحصل على أي دليل مقنع لإثبات تورطكم في هذه المسألة. وأشعر بالأسف لترك رجل واسع الحيلة مثلك بلا فرصة لخدمة وطنه ومليكه. وقد حضرتني الفكرة أن تذهب لزيارة كربلاء في هذه الأيام التي عزم فيها الشاه على عمل سياحة في إصفهان. وفي غرضي أن أقدر عند عودته أن أمنحك وظيفة أمير الديوان، وهي وظيفة تقوم بأعبائها بكل جدارة.‘‘ فاحتججنا على هذه الادعاءات بشدة، ورفضنا أن نقبل الوظيفة التي كان يؤمل في تقديمها إلينا. وبعد مضي بضعة أيام من هذه المقابلة غادرنا طهران إلى كربلاء.‘

وقبل مغادرة حضرة بهاءالله كرمانشاه، دعا ميرزا أحمد ودعاني لمقابلته، وأمرنا بالارتحال إلى طهران. وأمرني أن أقابل ميرزا يحيى بمجرد وصولي، وأن أصحبه إلى قلعة ذو الفقار خان، القريبة من شاهرود، وأن أبقى معه هناك إلى أن يرجع حضرة بهاءالله إلى العاصمة. وأمر ميرزا أحمد أن يبقى في طهران إلى وقت وصول حضرته، وسلمه علبة من الحلوى وخطابًا موجهًا لآقا كليم ليوصله مع الهدية إلى مازندران حيث يقطن الغصن الأعظم ووالدته.

وأبى ميرزا يحيى، الذي سُلمت له الرسالة، أن يغادر طهران، ووجهني بدل ذلك للسفر إلى قزوين، وأجبرني على إطاعة رغبته وأن أحمل رسائل إلى بعض أصدقائه في تلك المدينة. وعند عودتي إلى طهران أجبرتُ، بناءً على إلحاح أقاربي، أن أرحل إلى زرند. إلا أن ميرزا أحمد وعدني بأن يعمل ثانية على رجوعي إلى العاصمة، وقد وفى بوعده ولم

يمضِ شهران حتى كنت مقيمًا معه في الخان الموجود خارج بوابة نوّ، ومكثت الشتاء بأكمله في معيته. وكان يمضي أوقاته في نسخ "البيان" الفارسي و"الدلائل السبعة" وأتم هذه الأعمال بحماس يثير الإعجاب. وسلّمني نسختين من الكتاب الأخير، وطلب أن أقدمهما نيابة عنه إلى مستوفي الممالك الآشتياني وميرزا سيد علي التفرشي، الملقب ﺑ"مجد الأشراف". وقد انجذب الأول من قراءته بدرجة أنه آمن بالأمر. أما ميرزا سيد علي، فكان في رأيه على عكس الأول، وأشار في مجلس حضره آقا كليم إلى مجهودات الأحباء المستمرة بلهجة عدم الاستحسان وقال علنًا: ’إن هذه الطائفة البابية لا تزال قائمة إلى الآن ومبعوثيها جادّون في العمل بنشر تعاليم رئيسهم، ومنهم شاب جاء لزيارتي في يوم سابق وأهداني نسخة من كتاب أعتبره خطيرًا للغاية. فإن أي رجل من عوام الناس يقرأه لا شك أن ينخدع من عباراته.‘ وقد فهم آقا كليم فورًا من إشاراته أن ميرزا أحمد أرسل إليه الكتاب وإني كنت مبعوثه إليه. وفي اليوم نفسه طلب مني آقا كليم أن أزوره، ونصحني أن أعود إلى موطني في زرند. وطلب أن أقنع ميرزا أحمد بالتوجه إلى قُم حالاً، لأننا، حسب رأيه، كنا معرّضين لخطر عظيم. واتّباعًا لتعليمات ميرزا أحمد، نجحت في إقناع السيد "مجد الأشراف" أن يرجع الكتاب الذي سلمته إليه. وبعد زمن قصير رافقت ميرزا أحمد لغاية "الشاه عبد العظيم" ومنها سافر إلى قُم ورجعت أنا إلى زرند.

وشهد شهر شوال سنة 1267 هجرية،(1) وصول حضرة بهاءالله إلى كربلاء. وفي طريقه إلى تلك المدينة المقدسة مكث بضعة أيام في بغداد، وهي المدينة التي قدر لها أن تستقبله مرة أخرى لينشأ فيها أمره وينكشف للعالم أجمع. وإذ وصل إلى كربلاء وجد أن عددًا من مشاهيرها، ومنهم الشيخ سلطان والحاج السيد جواد وقعوا فريسة للتأثير الضار للسيد علوّ، وأعلنا أنهما من مناصريه. وكانا غارقين في الأوهام واعتقدا أن رئيسهما تجسيد للروح القدس. وكان الشيخ سلطان من أشد تلاميذه حماسة ويعتبر نفسه أكبر زعيم بين مواطنيه بعد رئيسه. وقابله حضرة بهاءالله في عدة مناسبات، ونجح بكلماته الناصحة المُحبة، بأن يطهّر عقله من تلك الخزعبلات، وأن يخلصه من

________________________
(1) 30 يوليو/تموز إلى 28 أغسطس/آب سنة 1851م.

ربقة العبودية التي وقع فيها، فاستماله لأمر حضرة الباب وأشعل في قلبه نار الحماس لنشر دعوته. وإذ رأى زملاؤه التلاميذ تغيره العجيب الفوري، اقتدوا به رافضين طاعتهم القديمة، وأخذوا واحدًا بعد الآخر يقبلون دعوة حضرة الباب التي مال إليها زميلهم. وأخيرًا أذعن السيد علوّ لسلطة حضرة بهاءالله وقوته واعترف بسموه ورفعة مقامه، بعد أن وجد نفسه منبوذًا ومتروكًا من أتباعه الأوائل. وزاد على ذلك اعترافه أمام الجميع أنه ندم على عمله الأول وأقسم أن لا يعود لنشر الآراء والمسائل التي كان يروجها عن نفسه.

وكان أثناء تلك الزيارة إلى كربلاء أن تقابل حضرة بهاءالله، وهو يسير في طرقها، مع الشيخ حسن الزنوزي، وأطلعه على السر الذي سيذيعه فيما بعد في بغداد. ووجده جادًا في البحث عن "الحسين الموعود" الذي كان حضرة الباب يشير إليه بمحبة فائقة، والذي وعده بمقابلته في كربلاء. وفي فصل سابق، وصفنا ظروف مقابلته لحضرة بهاءالله. ومنذ ذلك اليوم انجذب الشيخ حسن بسحر مولاه الجديد، ولولا منعه لأفشى السر إلى أهالي كربلاء وأعلن رجعة الحسين الموعود الذي ينتظرون ظهوره.

ومن بين الذين شعروا، رغمًا عنهم، بتلك القوة كان ميرزا محمد علي الطبيب الزنجاني، الذي غرست في قلبه حبةً قدر لها أن تنمو وتزدهر إلى إيمان بلغ في قوته بحيث لم تَقْوَ نيران الاضطهادات على قمعه. وكان حضرة بهاءالله نفسه قد شهد بإخلاصه وعلو مداركه وسمو مبدئه. وقد جرّه ذلك الإيمان إلى ميدان الشهادة أخيرًا. وساهم في هذا النصيب ميرزا عبد الوهاب الشيرازي، ابن الحاج عبد المجيد، الذي كان يمتلك دكانًا في كربلاء، والذي ارتأى أن يترك كل ماله وممتلكاته ويتبع مولاه. ولكنه نصحه أن لا يترك أعماله وأن يستمر بكسب معاشه إلى أن يحين الوقت لاستدعائه إلى طهران. وحثه على التجمل بالصبر وأعطاه مبلغًا وشجعه على توسيع نطاق تجارته. ولما كان غير قادر على تركيز انتباهه على تجارته، أسرع ميرزا عبد الوهاب إلى طهران وبقي هناك حتى طرح في السرداب الذي حبس فيه مع مولاه وتجرع كأس الشهادة لأجله.

وكذلك انجذب للأمر الشيخ علي ميرزا الشيرازي وبقي لآخر نفس من حياته من أكبر أنصاره وخدمه بكل نزاهة وإخلاص بما يفوق كل مدح. وكان يقص على الصديق والغريب ما كان يشهده من التأثير المدهش لحضرة بهاءالله عليه وكان يصف بحماس تلك العجائب والآيات التي شاهدها أثناء اعتناقه الأمر وبعده.

***
الفصل السادس والعشرون
الشروع في قتل الشاه ونتائجه

في النوروز الثامن من دعوة حضرة الباب، الذي وقع في اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1268ﻫ،(1) كان حضرة بهاءالله في العراق مشغولاً بنشر تعاليم الأمر الجديد، وتقوية دعائمه. وأظهر حماسًا ومقدرة تذكّر بالأيام الأولى للأمر في نور ومازندران. واستمر بتكريس مجهوداته في إنهاض همم أصحاب حضرة الباب المتفرقين وتنظيم قواهم، فكان هو النور الوحيد الذي انبثق في الظلام المحيط بالأصحاب الحائرين، والذين شاهدوا واقعة الاستشهاد القاسي الذي حصل لرئيسهم المحبوب من جهة، ونصيب أصحابه المفجع من جهة أخرى. وكان وحده القادر على أن ينفث فيهم روح الشجاعة اللازمة والقوة لتحمل الآلام العديدة التي غمرتهم. وكان وحده القادر على إعدادهم لتحمل المشاق التي قدرت لهم، ومقاومة العاصفة والأخطار التي تهددهم.

وأثناء ربيع تلك السنة، كان ميرزا تقي خان، أمير النظام، رئيس وزراء ناصر الدين شاه، والمذنب بارتكاب الفظائع المنكرة ضد حضرة الباب وأصحابه، قد لقي حتفه في الحمام العمومي في "فين" قريبًا من كاشان،(2) وذلك بعد أن عجز بشكل مهين عن إيقاف

________________________
(1) سنة 1852م.

(2) ’يقع قصر "فين" على بعد أربعة أميال جنوبي غرب كاشان على سفح جبل. واشتهرت فين بمنابعها التي جعلتها مصيفًا للملوك من قديم الزمان. وفي الأزمان الحاضرة كان صيتها مظلمًا، لأن فيها أعدم أول رؤساء الوزارة في عهد ناصر الدين شاه، ميرزا تقي خان بقطع أوداجه في الحمّام في سنة 1852م بأمر الشاه الحالي، وكان صهرًا للملك، ولذلك هجر هذا المكان الآن.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" اللورد كرزون، الجزء 2، ↓

تيار تقدم الدين الذي بذل جهدًا يائسًا في سحقه. وكُتبت لشهرته وعزته الزوال أخيرًا بموته، بينما دام تأثير الروح، التي أراد إطفاء أنوارها، سالمًا. وأثناء السنوات الثلاث التي تقلد فيها منصب الوزير الأعظم في إيران، تلطخ حكمه بأبشع الأعمال الشائنة. فأي فظاعة لم ترتكبها يداه اللتان امتدا لتمزيق النسيج الذي أقامه حضرة الباب! وأي إجراءات غادرة لم يتخذها، في سورة غضبه العاجز، ليستنزف حيوية الدين الذي خشاه ومقته! واتسمت أول سنة من إدارته بالهجوم الضاري لجيش ناصر الدين شاه ضد المدافعين عن قلعة الطبرسي. وبأي قسوة أدار الحملة القمعية ضد هؤلاء الأبرياء من أنصار دين الله! وأي ضراوة وبلاغة أظهرهما في التماسه لإهلاك القدوس والملاّ حسين وثلاثمائة وثلاثة عشر من أفضل أبناء وطنه وأنبلهم! وشهدت السنة الثانية من حكمه قيامه على محو الأمر في العاصمة بتصميم وحشي. وكان هو الذي فوّض وشجّع على القبض على المؤمنين القاطنين في تلك المدينة، وأمر بإعدام شهداء طهران السبعة. وكان هو الذي أرخى العنان للهجوم على وحيد وأصحابه، وأذكى نار حملة الانتقام التي حركت مضطهديهم لارتكاب الفظائع التي ستبقى للأبد مرتبطة بتلك الحادثة. وشهدت تلك السنة نفسها حادثة أشد وأنكى من كل سابقة فتكٍ على الفئة المظلومة، وأودت بحياة ذلكم الذي كان مصدرًا لجميع القوى التي حاول الوزير محقها عبثًا. وستظل آخر سنوات حياة ذلك الوزير مرتبطة للأبد بأبشع الحملات التي دبرها بعقله لإهلاك حياة الحجة وإعدام ما لا يقل عن ألف وثمانمائة من أصحابه. هذه هي الملامح المميزة لفترة حكمه الذي ابتدأ وانتهى بالإرهاب الذي لم ترَ إيران مثله إلا نادرًا.

_____________________________________________________________________

الصفحة 16) ’وقد جاءت امرأة من الحريم إلى الأميرة تطلب منها أن تكفكف دموعها، لأن الشاه عدل عن أمره وسيعود الأمير إلى طهران أو يذهب إلى كربلاء، ملجأ الإيرانيين الذين فقدوا حظوتهم لدى البلاط. وقالت للأمير: ’’إن الخلعة (رداء الشرف) جاهزة وهي في طريقها إليك بعد ساعة أو اثنتين، فاذهب إلى الحمام واستعد لاستقبالها.‘‘ وكان الأمير ملازمًا لغرفة الأميرة طيلة ذلك الوقت ولم يبارحها طلبًا للسلامة وليكون معها. ولكنه لما سمع الخبر السار، عزم على اتّباع ما أشارت به هذه المرأة والتمتع بالاستحمام. ففارق الأميرة ولم تره بعد ذلك. ولما وصل الحمام كان الأمر القاضي بإعدامه حاضرًا وأخبروه به، فحضر الفراش باشي وأعوانه العتاة وطلبوا منه أن يختار الميتة التي يريدها. وقيل أنه تحمل الموت بثبات وصبر، فقطعت أوداجه ونزف حتى توفي.‘ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران" لليدي شيل، الصفحتان 251-252)

وخلفه ميرزا آقا خان النوري(1) الذي جهد في افتتاح حكمه أن يصلح بين حكومة إيران التي يرأسها وبين حضرة بهاءالله الذي اعتبره أكفأ تلاميذ حضرة الباب. فأرسل له خطابًا وديًا يدعوه فيه للعودة إلى طهران وأظهر رغبته في لقائه. وقبل وصول ذلك الخطاب كان حضرة بهاءالله قد صمم على العودة من العراق إلى إيران.

فوصل إلى العاصمة في شهر رجب(2) ورحب به جعفر قُلي خان أخو رئيس الوزراء، الذي أوفده خصيصًا للترحيب به. ولمدة شهر كامل نزل ضيفًا مكرمًا على رئيس الوزراء الذي عيّن أخاه كمضيف له نيابة عنه. وبلغ عدد الذين هرعوا لمقابلته من أعيان العاصمة ومشاهير رجالها حدًا بحيث لم يتمكن من العودة إلى منزله. فبقي في ذلك المنزل حتى رحل إلى شميران.(3)

وسمعتُ من آقا كليم أنه أثناء تلك الرحلة تمكن حضرة بهاءالله من مقابلة عظيم الذي كان مجدًّا في طلب لقاء حضرته ورؤيته منذ أمد بعيد. وفي تلك المقابلة نصح عظيم مشددًا أن يترك التدبير الذي رتبه في فكره. وأظهر حضرة بهاءالله سخطه وعدم رضائه عن العمل الذي نواه، وحذّره أن مثل هذا التدبير يأتي بمصائب جمة جديدة ليس لها مثيل في شدتها.

وواصل حضرة بهاءالله السير إلى لواسان وكان في قرية أفچه من أملاك رئيس الوزراء إذ أتت الأخبار بالشروع في اغتيال ناصر الدين شاه. وكان جعفر قلي خان لا يزال يقوم بمهمة مضيفه نيابة عن أمير النظام. وارتكب هذا العمل الإجرامي في أواخر شهر شوال سنة 1268ﻫ(4) على أيدي شابين مغمورين طائشين أحدهما يدعى صادق التبريزي والآخر فتح الله القمي، وكانا يكسبان رزقهما في طهران. ففي الوقت الذي كان الجيش الملكي

________________________

(1) ’وكان لقبه اعتماد الدولة.‘ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران" لليدي شيل، الصفحة 249)

(2) 21 أبريل/نيسان - 21 مايو/أيار، سنة 1852م.

(3) ’شميران أو شمران (وأحيانًا بالجمع شمرانات)، هو اسم يطلق بشكل عام على القرى والقصور الواقعة على سفح جبل البرز وهي مصايف لأغنياء طهران.‘ ("مقالة سائح"، الصفحة 81، الحاشية 1)

(4) 28 شوال، الموافق 15 أغسطس/آب سنة 1852م.
صورة 186

قرية أفچه، قرب طهران (ويظهر منزل حضرة بهاءالله بين الأشجار)

صورة 187
منزل حضرة بهاءالله في أفچه، قرب طهران
صورة 188
مرغ محله، مصيف حضرة بهاءالله في شميران

معسكرًا في شِمِيران تحت رئاسة الشاه نفسه، قام هذان الشابان الجاهلان في نوبة من القنوط لينتقما لدماء إخوانهما المذبوحين.(1) ومما دل على حماقتهما أنهما في محاولتهما على حياة الشاه عمّرا مسدسيهما بالرش بدلاً من استعمال الأسلحة التي تضمن نجاح

________________________

(1) ﴿وفي الصباح خرج الملك راكبًا جوادًا للتنزه. وكان يسبقه كالعادة رجال الإسطبل حاملين الحراب الطويلة يتقدمهم سيّاسون يقودون الجياد المسرجة بسروج مزخرفة، ثم تلتهم مجموعة من خيالة البدو الرحل حاملين بنادقهم على أكتافهم وتتدلى سيوفهم من سروجهم. ولأجل عدم ازعاج الملك بالتراب الذي يثيره الخيالة، كان هؤلاء يتقدمونه في سيرهم، ويتبعهم الملك ببطء على مسافة قصيرة تفصلهم عن كبار النبلاء العظام والقادة والضباط الذين يلازمونه أينما ذهب. ولم يكد يخرج من القصر ويجتاز الباب الصغير لحديقة محمود حسن "الصندوق دار" (أمين خزينة التوفير) حتى لاحظ على جانب الطريق ثلاثة رجال، ثلاثة عمال في الحديقة واقفين اثنين على اليسار وواحد على اليمين، كأنهم بالانتظار. فلم يشعر بخطر وتابع طريقه. ولما اقترب منهم وجدهم ينحنون كثيرًا وسمعهم يصيحون بصوت واحد ’نحن فداؤك! عندنا عريضة!‘ وهذا تصرف معهود، ولكنهم بدلاً من بقائهم في أماكنهم كما هو المعتاد، تقدموا سريعًا إليه مكررين ’عندنا عريضة!‘ واندهش الملك وصاح بهم: ’أيها الأوباش ماذا تريدون؟‘ وفي تلك اللحظة أمسك الرجل الذي على يمينه باللجام وأطلق النار على الملك. ↓

قصدهما، فلو كان عملهما ناشئًا عن تدبير شخص عاقل لما صرّح لهما بأن ينفذا أغراضهما بمثل تلك الآلات الناقصة المعطلة.(1)

_____________________________________________________________________

وفي الأثناء أطلق الرجلان من اليسار النار أيضًا. وقطعت إحدى الطلقات عقد اللؤلؤ الذي كان معلقا في جيد الجواد، وأخرى أخرجت رشًا أصاب اليد اليمنى للملك وظهره. وعلى الفور تعلق الرجل الذي على اليمين برجل جلالته وكاد يسقطه عن السرج لولا أن القاتلين على اليسار فعلا نفس العمل. وكان الملك يضرب مهاجميه على الرأس بقبضتيّ يديه، بينما شلّت قفزات الجواد المرتعب جهود المعتدين وعطلتها. وإذ استفاق رجال الحاشية الملكية من هول الصدمة، هرعوا إلى مولاهم. وهجم أسد الله خان رئيس الإسطبل ومعه أحد الخيالة البدو وقتلا الرجل الذي على اليمين بسيفيهما. وفي الأثناء انقض العديد من النبلاء على الرجلين الآخرين وطرحوهما أرضًا وقيدوهما. وعمل الدكتور كلوكيه طبيب البلاط، على إدخال الملك سريعًا إلى حديقة محمد حسن "الصندوق دار"، إذ لم يعرف أحد ماذا حصل حقًا، وأولئك الذين شعروا بالخطر المحدق، ما كانوا يقدرون الكارثة حق قدرها. فثارت ضجة كبيرة لمدة ساعة في مدينة نياوران، بينما هرع الوزراء يتقدمهم الصدر الأعظم إلى الحديقة. ونفخ في الأبواق، وقرعت الطبول، ونقرت الدفوف، وعزف الناي، لجمع العسكر، وجاء الغلمان على الجياد بأقصى سرعة، وكان كل واحد يصدر أمرًا، ولم ير أحد شيئًا ولم يسمع شيئًا ولم يعلم شيئًا. وفي خضم هذه الفوضى وصل مراسل من طهران مرسل من طرف أردشير ميرزا حاكم المدينة يسأل عما حصل وعما يمكن أن يتخذ من إجراءات في العاصمة، ذلك أن منذ الليلة السابقة راجت شائعات تحولت إلى يقين بأن الملك قد اغتيل. وهجر التجار متاجرهم في السوق الذي جال فيه رجال شرطة مسلحون. وأحيطت المخابز طيلة الليل بالناس الذين يحاولون تخزين القوت لعدة أيام، وهذه هي العادة عند توقع المشاكل. وعند الفجر، ومع ازدياد الهياج، أمر أردشير ميرزا بإغلاق بوابات قلعة المدينة، ووضع العسكر على أهبة الاستعداد وصوّب مدافعه، وإن لم يكن يعلم من هم الأعداء، والآن أخذ يطلب الأوامر.﴾ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحات 231- 233)

(1) وكتب اللورد كرزون، الذي يعتبر أن هذه الحادثة لم تكن مؤامرة ثورية فوضوية، ما يلي: ’نظرًا لحقيقة أن البابية وجدت نفسها، منذ نشأتها، في صدام مع السلطة المدنية، وأن محاولة على حياة الشاه نفذها بابيون، فقد استُنتج بالخطأ أن الحركة كانت سياسية المصدر، اشتراكية في طبيعتها. ولكن دراسة كتابات الباب وكتابات خلفائه لا تظهر أي أساس لتلك الشكوك. وقد دفع اضطهاد الحكومة لأتباع العقيدة الجديدة إلى موقف تمرد. ونظرًا لليأس الذي جلبه الصراع المسلح وبسبب القسوة الجامحة التي اعتبر المنتصرون أن من حقهم إبداءها ضد البابيين، فليس من المستغرب أن تمتد أيد متعصبة لتقضي على الملك. والبابيون في الوقت الحالي موالون للعرش كغيرهم من الرعايا. ولا يبدو من العدل إطلاق ألفاظ الاشتراكية أو الشيوعية أو الإباحية التي استعملت دون تحفظ في حق هذه الطائفة الفتية. وبالتأكيد لم تخطر في بال الباب أو تلاميذه فكرة الشيوعية بالمنظور الأوروپي، أي استعمال القوة لإعادة توزيع الأملاك، أو الاشتراكية التي انتشرت في القرن التاسع عشر، بمعنى تغلب العمال على أصحاب رؤوس الأموال. والشيوعية الوحيدة التي عرفها الباب أو أوصى بها، هي الواردة في "العهد الجديد" وفي الكنيسة المسيحية أول نشأتها، أي مشاركة المنافع بين المؤمنين ودفع الزكاة والتصدق بسخاء. أما تهمة الإباحية فيبدو أنها جاءت من نوايا الأعداء الخبيثة، من جهة، ومن مطالبة الباب بإعطاء مزيد من الحرية للمرأة، من ↓

وهذا العمل الذي صدر عن متعصبين ضعيفي العقل، رغم أنه منذ البداية كان محل سخط حضرة بهاءالله وغضبه، إلا أنه أصبح بمثابة الإشارة لانفجار سلسلة من الاضطهادات والمذابح بلغت من الوحشية لم يسبق لها نظير سوى ما وقع في مازندران وزنجان. أما العاصفة التي نتجت عن هذا العمل، فأوقعت الرعب والفزع في طهران، وطالت حياة كبار الأصحاب الذين نجوا من المصائب والمفاجع التي طالما تعرض لها أمر الله. وكانت العاصفة لا تزال على أشدها عندما سجن حضرة بهاءالله وبعض كبار أعوانه في سرداب قذر مظلم ملوث بالحمى، ووضعت في عنقه من السلاسل الغليظة ما لا يوضع عادة إلا في أعناق أخطر المجرمين، وتحمّل ثقلها مدة لا تقل عن أربعة أشهر، وكانت معاناته من الشدة بحيث بقيت أثار تلك القسوة على جسده طيلة أيام حياته.

صورة 189
منظر نياوران قرب طهران

_____________________________________________________________________

جهة ثانية. وهذه المطالبة، في العقل الشرقي، تعادل الإباحية والفسق... وإذا نظرنا إلى البابية نظرة واسعة شاملة، نرى أنها عقيدة الإحسان والإنسانية العامة. فالمحبة الأخوية والشفقة على الأطفال والاحترام الممزوج بالإجلال وحسن المعشر وكرم الضيافة والتخلص من التعصبات والصداقة، كل هذه الصفات، حتى بالنسبة للمسيحيين، نجدها جميعها ضمن تعاليمها. وليس بالضرورة أن نعتقد أن كل بابي يتبع هذه الفضائل اتّباعًا دقيقًا. ولكن إذا كان لنا أن نحكم على نبي فلنحكم على ما يدعو إليه.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الصفحتان 501-502)

وأثار التهديد الخطير لحياة الملك ومؤسسات مملكته سخط كافة رؤساء الدين في إيران. واعتبروا مثل هذا العمل الجريء يستحق عقابًا فوريًا ملائمًا. فصاحوا مطالبين باتخاذ إجراءات استثنائية قاسية لصد هذا التيار الذي يهدد كيان الحكومة ودين الإسلام كليهما. ورغمًا عن القيود التي فرضت على أصحابه منذ بداية إيمانهم في كل بقعة، ورغم ضبط النفس الذي طبقه أتباع حضرة الباب منذ ميلاد الأمر في كل أنحاء البلاد، ورغم المناشدات المتكررة التي أطلقها كبار الأتباع إلى إخوانهم في الدين بالامتناع عن العنف، ووجوب إطاعة حكومتهم بولاء، وتجنب فكرة الجهاد، إلا أن أعداءهم ما فتئوا يبذلون الجهد في تشويه سمعة الأمر ومقاصده عند أرباب السلطة. والآن بعد ارتكاب فعلة ذات نتائج خطيرة كتلك، فأي اتهامات لن يلصقها أولئك الأعداء أنفسهم بالدين الذي ينتسب إليه المتهمون بتلك الجريمة! وبدا أن اللحظة قد حانت لهم أخيرًا لإيقاظ حكام البلاد وتنبيههم إلى ضرورة القضاء بأسرع ما يمكن على هذه البدعة التي يرون أنها تهدد أركان المملكة.

ولما وقعت محاولة الاعتداء على حياة الشاه، كتب جعفر قلي خان، الذي كان في شميران، خطابًا إلى حضرة بهاءالله يعلمه بما وقع وقال ضمن خطابه: ’إن والدة الشاه

صورة 190
المفوضية الروسية في قرية زركنده

قد اشتعلت بالغضب واتهمتك علنًا لدى البلاط والناس بأنك أنت الذي نويت قتل ابنها. وتريد أيضًا أن تورط ميرزا آقا خان الصدر الأعظم في هذه المسألة، وتتهمه بأنه شريكك.‘ وطلب من حضرة بهاءالله أن يبقى مختفيًا في تلك الجهة فترة من الوقت إلى أن يهدأ هياج الناس. وأرسل إلى أفچه مبعوثًا مسنًا متمرسًا وأمره أن يكون في خدمة ضيفه ومستعدًا لمرافقته إلى أي مأمن يريد أن يلتجئ إليه.

وأبى حضرة بهاءالله انتهاز الفرصة التي هيأها له جعفر قلي خان. وإذ تجاهل مبعوثه ورفض عرضه، ركب في صباح اليوم التالي بثقة هادئة من محل إقامته في لواسان إلى مقر الجيش الملكي الذي كان مرابطًا حينها في نياوران من إقليم شميران. ولما وصل إلى قرية زركنده مقر المفوضية الروسية التي تقع على بعد ميدان(1) واحد من نياوران، تقابل مع نسيبه ميرزا مجيد الذي كان يعمل سكرتيرًا للسفير الروسي،(2) وهذا استضافه عنده في منزله الملاصق لمنزل رئيسه، وقد عرفه خدّام الحاج علي خان، حاجب الدولة، وأخبروا بذلك سيدهم توًا والذي بدوره أخبر الشاه.

وكانت أخبار وصول حضرة بهاءالله قد أدهشت ضباط الجيش الملكي. واندهش ناصر الدين شاه نفسه من هذه الخطوة الجريئة غير المتوقعة من شخص متهم بأنه المحرض الرئيس للتعدي على حياته. فأرسل في الحال أحد ضباطه الموثوقين إلى السفارة لطلب تسليم المتهم إليه. فامتنع السفير الروسي وطلب من حضرة بهاءالله التوجه إلى منزل ميرزا آقا خان، رئيس الوزارة، لأنه أنسب مكان في الظروف الراهنة. فقُبل اقتراحه، وكتب السفير رسميًا إلى رئيس الوزارة برغبته في أن يبذل منتهى عنايته في أن تكون الوديعة التي سلمتها له حكومته في حفظ وحماية تامة وحذره أنه سيكون مسؤولاً شخصيًا إذا لم يعتنِ بهذه الرغبات.(3)

________________________
(1) جزء من فرسخ.
(2) الأمير دولوگوروكي.

(3) "قد نصرني أحد سفرائك إذ كنتُ في السجن تحت السلاسل والأغلال. بذلك كتب الله لك مقامًا لم يحط به علم أحد إلا هو. إياك أن تبدل هذا المقام العظيم." ("لوح ملك الروس"، "ألواح حضرة بهاءالله إلى الملوك والرؤساء"، الصفحة 53)

ومع أن ميرزا آقا خان أبدى استعداده لإعطاء تلك الضمانات، وأظهر لحضرة بهاءالله في منزله كل إجلال وتعظيم، إلا أنه نظرًا لخوفه على وظيفته ومركزه لم يتعامل مع حضرة بهاءالله بالطريقة المتوخاة منه.

وأثناء مغادرة حضرة بهاءالله قرية زركنده، لم تستطع ابنة السفير السيطرة على مشاعرها ودموعها لأنها كانت قلقة جدًا من المخاطر التي تهدد حياته. وسُمعت وهي تخاطب والدها قائلة: ’ما الفائدة في السلطة المخولة لك إذا كنت عاجزًا عن حماية ضيف استقبلته في منزلك؟‘ وتأثر السفير من منظر ابنته وهي تبكي وكان يحبها محبة شديدة، فهدّأ خاطرها وأكد لها أنه سيعمل كل ما في وسعه لدرء الخطر الذي يتهدد حياة حضرة بهاءالله.

وفي ذلك اليوم وقع جيش ناصر الدين شاه في اضطراب شديد. ذلك أن أوامر الملك القاطعة، التي تبعت الشروع في قتله مباشرة، أحدثت إشاعات عاصفة وهيّجت أقسى المشاعر في قلوب أهالي الجهات المجاورة. وامتد الهياج إلى طهران واشتعلت في قلوب أعداء الأمر آثار الحقد الذي يضمرونه له واندلعت نيرانه بلهيب غضب متفاقم. واشتد الاضطراب والارتباك في كل أنحاء العاصمة بنحو غير مسبوق. وكانت كلمة اتهام أو أقل إشارة أو إيماءة تكفي لإيقاع البريء في اضطهاد وعذاب لا يجرؤ القلم على وصفه. ولم يعُد في المدينة أمن على الحياة ولا على الأملاك. واتحد كبار الرؤساء الدينيين في العاصمة مع أعلى أرباب السلطة في الحكومة وتكاتفوا لتوجيه ضربة قاضية، حسب آمالهم، إلى عدوّ زعزع أمن البلاد مدة ثماني سنوات، بحيث لم تتمكن أي حيلة أو عنف من إسكاته.(1)

________________________

(1) ’ويصف رينان في كتابه "الأنبياء" (الصفحة 378) المذبحة العظمى في طهران التي تلت حادث الاعتداء على حياة الشاه بأنه كان يومًا لا مثيل له في تاريخ العالم.‘ ("مقالة سائح"، المقدمة. لبراون، الصفحة 45) ’وبلغ عدد الشهداء في إيران ما لا يقل عن عشرة آلاف [وهذا تقدير متحفظ حيث يعتقد كثيرون أنه كان بين عشرين وثلاثين ألفًا أو أكثر]. وحصلت أغلب تلك الحوادث في الأيام الأولى للأمر، ولكنها استمرت بوتيرة أصغر حتى الزمن الحاضر.‘ ("حياة عباس أفندي وتعاليمه"، المقدمة، للسيد فلبس، الصفحة 36). ﴿ومن الوثائق الخاصة بالبابية التي في حيازتي، مخطوطة عن مقالة كتبت بالألمانية وطبعت في 17 أكتوبر/تشرين ↓

_____________________________________________________________________

الأول سنة 1852م تحت رقم 291 في صحيفة ألمانية أو نمساوية، ولم يذكر في المخطوطة للأسف اسم الصحيفة. وأظن أني استلمتها من أرملة الدكتور پولاك منذ سنوات عديدة. وكان هذا الدكتور النمساوي طبيبًا لناصر الدين شاه في ابتداء حكمه، وهو مؤلف كتاب قيّم عن إيران وله أيضًا العديد من مقالات صغيرة عن ذلك القطر وأمور تتعلق به. وتستند هذه المقالة إلى خطاب مكتوب في 29 أغسطس/آب سنة 1852م بواسطة ضابط نمساوي، وهو النقيب ﭬون گوميونز الذي كان في خدمة الشاه، وأفجعه ما شاهده من الفظائع، حتى إنه قدم استقالته. وترجمة هذه المقالة كالآتي: ’منذ بضعة أيام ذكرنا محاولة الاعتداء على حياة شاه إيران وهو في رحلة صيد. وكان المتآمرون، كما هو معروف، من البابيين، وهي طائفة دينية. وأما عن هذه الطائفة والإجراءات القمعية التي اتخذت ضدها، فإن رسالة النقيب النمساوي ﭬون گوميونز التي نشرت مؤخرًا في صحيفة "صديق الجندي" تكشف عن أمور مثيرة، وتوضح ظروف المحاولة المذكورة. وجاء في الرسالة ما يلي: {طهران في 29 أغسطس/آب سنة 1852م. صديقي العزيز، ذكرت في رسالتي الأخيرة، المؤرخة في 20 أغسطس/آب، محاولة الاعتداء على حياة الملك. والآن أذكر لك نتيجة التحقيق الذي أجري مع المجرمين الاثنين. فبالرغم من التعذيب الفظيع الذي تعرضا له، فإن التحقيق لم يثمر عن أي اعتراف شامل، فبقيت شفاه المتعصبين مغلقة حتى بعد استخدام الكُلاّب الملتهب ومِبرام تمزيق الأطراف في محاولة الكشف عن هوية المتآمر الرئيس. ولكن اتبعني يا عزيزي، يا من تدعي أن لك قلب وأن أخلاقك أوروپية، اتبعني إلى هؤلاء التعساء الذين فقئت عيونهم وأجبروا على أكل آذانهم المبتورة دون مرق في موقع التعذيب، أو إلى من قلعت أسنانهم بقسوة متناهية بيد الجلاد، أو إلى من سحقت رؤوسهم العارية بضربات مطرقة، أو إلى السوق المضاء بالضحايا التعساء حيث يثقب الناس، من اليمين واليسار، ثقوبًا في صدورهم وأكتافهم يُدخلون في جروحها شموعًا مشتعلة. وقد رأيت بعضهم مسحوبين في الأغلال في السوق تسبقهم جوقة عسكرية، وقد احترقت الشموع في جراحهم بعمق بحيث ذاب الدهن وسمع أزيزه كالمصباح المطفأ حديثًا. وليس من النادر أن تفضي عبقرية الشرقيين التي لا تكلّ، إلى ابتكار أنماط تعذيب جديدة. فقد ينزعون أخمص قدم البابي ثم يغمسوها في الزيت المغلي، وبعد ذلك يلصقون حدوة إلى القدم على هيئة حافر الحصان ويجبرون الضحية على الجري. وما كانت تخرج صرخة من صدر الضحية، فيتحمّل المتعصب العذاب بصمت بعد أن تخدّر إحساسه، ولكن عندما يجبرونه على الجري لا يقدر الجسم أن يتحمّل ما تحمّله الروح فيسقط. فتعلوا صيحات: ’أجهز عليه وأرحه من آلامه!‘ فيرفض الجلاد ويجلده بالسوط. وينهض الضحية المنكود ويجري –واضطررت أن أشاهد بنفسي– بعد أن يتحمّل مائة تعذيب! وهذه بداية النهاية. وأما النهاية نفسها، فإنهم يعلّقون الأجساد المحترقة المثقوبة على شجرة من أيديهم وأرجلهم والرؤوس إلى الأسفل، وهنا بإمكان أي إيراني أن يجرب مهارته في التصويب على الطريدة التي وضعت تحت تصرفه، وهو مطمئن البال، وذلك من مسافة محددة غير قريبة. وقد رأيت بنفسي جثثًا تمزقت بنحو من 150 رصاصة... وعندما أعيد قراءة ما كتبت، تتغلبني فكرة أن الذين معك في النمسا العزيزة ربما يشكّون في صحة الرواية ويتهمونني بالمبالغة. فيا ليت يا إلهي لم أعِش حتى أراها. ولكن بداعي مهنتي كنت ويا للأسف كثيرًا ما أشاهد هذه المظالم المفجعة. وأنا الآن لا أبارح منزلي أبدًا حتى لا أضطر إلى مشاهدة مناظر مفزعة أخرى. وبعد إعدام البابيين يشطرونهم نصفين، فإما أن يسمّروهم على بوابة المدينة أو يطرحوهم في العراء طعامًا للكلاب وأبناء آوى. وهكذا يمتد العقاب إلى ما بعد حدود هذه الدنيا المريرة، ذلك لأن المسلمين الذين لا يُدفنون لا يستحقون أن يدخلوا جنة النبي. وحيث أن روحي تشمئز من رؤية هذه الأفعال الشائنة ومن هذه الفظائع التي يأتي بها العصر الحديث، ↓

ولم يكن هناك في نظرهم عدوّ أكبر من حضرة بهاءالله، إذ كان حضرة الباب قد قضي عليه، ورأوا من أول واجباتهم القبض عليه وسجنه واعتقدوا أن روح حضرة الباب حلت فيه وهي تلك الروح التي تمكنت من أحداث تغيير تام في عادات مواطنيه وأخلاقهم. ولم تنجح احتياطات السفير الروسي التي عملها في إيقاف اليد التي امتدت بعزم أكيد للقضاء على حياته الثمينة، ولا أفاد تحذيره في ذلك.

وفي الطريق من شميران إلى طهران جرد حضرة بهاءالله من ملابسه عدة مرات، وانهالت عليه الإهانات والسخرية وأجبر أن يسير من شميران عاري الرأس حافي القدمين معرضًا لأشعة الشمس الصيفية المحرقة إلى أن أدخلوه السرداب الذي ذكرناه. ورجمه

_____________________________________________________________________

حسب رأي الناس جميعهم، لذلك لن تكون لي أي صلة بعد الآن بمشهد جرائم كتلك. (ويضيف بأنه طلب الاستقالة ولكنه لم يتسلم ردًا بعد.)} ("مستندات لدراسة الدين البابي" لبراون، الصفحات 267-271). ’واضطر أردشير ميرزا إلى تنفيذ بعض الإجراءات، فأبقى بوابات المدينة مغلقة تحت الحراسة، مصدرًا أوامره بالتحقق الدقيق في كل من يطلب الخروج. وحثّ الأهالي على تسلق الأسوار قرب بوابة شميران لرؤية جثة "صادق" المشوهة ملقاة في العراء عبر الجسر. وجمع الأمير حاكم المدينة كلاً من الكلانتر، ووزير المدينة، والداروغه، أي قاضي محكمة الشرطة، ورؤساء المحافظات، وأمرهم أن يبحثوا على كل من يشتبه أنه بابي وأن يقبضوا عليه. وإذ لم يتمكن أحد من مغادرة المدينة انتظروا قدوم الليل حتى يتمكنوا من هذا الصيد الوحشي حيث يلزم استعمال الحيلة والدهاء. وشرطة طهران، مثلها مثل مدن آسيا، منظمة تنظيمًا جيدًا. وكانت هذه تركة الساسانيين التي حافظ عليها الخلفاء العرب بحرص. ولما كان من مصلحة الحكومات أن تحافظ عليها (الشرطة) مهما كانت هذه الحكومات رديئة، لذلك بقي نظامها ثابتًا دون تغيير رغمًا عن أن الأنظمة الأخرى تدهورت مع أنها كانت متينة أيضًا. فعلى المرء أن يعلم بأن كل رئيس محافظة، في اتصاله الوثيق بالكلانتر، يكون تحت إمرته جماعة من الرجال اسمهم سرغشمة، أي عسكر البلدية، ممن لا يلبسون زيًا رسميًا ولا يحملون شارة العمل، ولا يتركون مطلقًا الشوارع التي كلفوا بحراستها. وهم في الغالب محبوبون من الأهالي ويعيشون بينهم بلا تكلف. ويقدمون الخدمة في كل الأوقات، وفي الليل ينامون صيفًا أو شتاء تحت مظلة أي متجر غير عابئين بالمطر أو الثلج، فيحرسون الأملاك الخاصة. وبهذه الطريقة يجعلون السرقة نادرة لما فيها من الصعوبة. وفضلاً عن ذلك فهم يعرفون كل مقيم وعاداته وبذلك يمكنهم المساعدة في حالة إجراء تحقيق، إذ إنهم مطلعون على آراء السكان وأفكارهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وإذا تصادف ودعا المرء ثلاثة أشخاص لمأدبة، فإن السرغشمة، دون حاجة إلى التجسس، ولمعرفته بأحوال كل الناس، يعرف موعد وصول الضيوف، وماذا قدم لهم من طعام، وما جرى من حديث، وما حصل وفي أي وقت غادروا. وطلب الكدخداوات من هؤلاء الحراس أن يراقبوا البابيين، كل منهم في دائرة اختصاصه، وانتظر الناس جميعهم ماذا سيحصل.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحتان 234-235).

صورة 191

الجزء الجنوبي من طهران حيث كان يعدم المجرمون والذي قتل فيه

العديد من الشهداء البهائيين، وموقع سياه چال (x)

الأهالي طول الطريق وشتموه لأن العلماء أقنعوهم بأنه هو العدوّ اللدود للملك والهادم لمملكته. وتقصر معي العبارات في وصف فظاعة المعاملة التي قاساها أثناء أخذه إلى سياه چال(1) في طهران. وإذ اقترب من السرداب خرجت من وسط الزحام عجوز شمطاء وبيدها حجر تريد قذفه في وجهه، وكانت عيناها تتقدان شررًا قلَّ أن يظهر من امرأة في سنها، وكان كل جسمها يرتعش أثناء تقدمها رافعة يدها لترمي حجرها عليه. وقالت وهي تحاول اللحاق بالحراس المرافقين لحضرة بهاءالله: ’أستحلفكم بسيد الشهداء(2) أن تعطوني الفرصة لأرمي حجري في وجهه.‘ فلما حاول الحراس منعها قال حضرة بهاءالله لهم وهو يراها تسرع نحوه: ’لا تمنعوها عما تعتقد أنه عمل مجيد عند الله.‘

________________________
(1) الحفرة السوداء.
(2) الإمام الحسين.

وكان سياه چال، الذي حبس فيه حضرة بهاءالله، خزان مياه لأحد الحمّامات العمومية في طهران، ثم أصبح سجنًا لأسوأ المجرمين، وهو عبارة عن زنزانة تحت الأرض. وكانت ظلمته وقذارته وطبيعة المسجونين فيه قد جعلت المكان أوبأ مكان يمكن أن يُحكم على إنسان بالسجن فيه. وكانت قدماه موضوعتان في إطار تعذيب خشبي وعنقه في سلسلة "قره گُهَر"، وهي مشهورة في كل أنحاء إيران بثقلها المزعج.(1) ولم يُعط لحضرة بهاءالله أي طعام أو شراب مدة ثلاثة أيام بلياليها. واستحالت عليه الراحة والنوم في ذلك المكان الموبوء بالحشرات الضارة، وكانت عفونة المقر الكئيب كافية لسحق أرواح الذين كتب عليهم أن يتحملوا أهواله. هذه هي الأحوال التي قاساها حضرة بهاءالله حتى إن أحد الجلادين كان يرمقه في شدته ويترأف عليه ويجتهد أن يحضر بعض الشاي ويخفيه تحت ردائه ويقدمه له في ذلك السرداب ولكن حضرة بهاءالله كان يرفض تناوله. وكانت أسرته تجتهد أن تقنع الحراس بالسماح لهم بنقل الطعام الذي أحضروه إلى سجنه، ولو أن الحراس في ابتداء الأمر لم يتساهلوا، إلا أنهم أخيرًا نظرًا لإلحاح أصدقائه أخذوا في التساهل قليلاً. وما كان أحد يتأكد من وصول الطعام إليه أو إذا كان يقبل بتناوله، بينما

________________________

(1) "وإذا ورد جنابك يومًا في سجن حضرة السلطان فاسأل رئيس ذلك المكان ونائبه أن يرياك السلسلتين المعروفتين بقره گهر وسلاسل. قسماً بنير العدل إن هذا المظلوم ربط بإحدى هاتين السلسلتين وعُذب لأربعة أشهر... وحزني ما يعقوب بث أقله وكل بلا أيوب بعض بليتي." ("لوح ابن الذئب"، طبعة مصر، الصفحة 57) ’وبخصوص السجون الفارسية ونظامها فإنها تخالف سجوننا كما تختلف في أحكام العقوبات، فلا يوجد فيها سجن للأشغال الشاقة المؤبدة أو لسنوات طويلة، فذلك النوع من العقاب غير معلوم عندهم، وكذلك الحبس لمدة طويلة. ففي ابتداء كل سنة يفرج عن المسجونين وكذلك عند تعيين حاكم جديد فإنه يخلي السجن الذي ملأه سلفه وفقط يُعدم شخص أو شخصان من أرباب الحالات الخطرة كعلامة تبين قوة الحاكم. ولا يوجد سجن للنساء، فإن النسوة يحبسن في منزل أحد رجال الدين، وكذلك المجرمون من طبقة راقية. ويقال إن في طهران ثلاثة أنواع من السجون. الأول غرف تحت الأرض وفيها يسجن الذين يتآمرون على الملك أو الحكومة، والثاني سجن البلدية وفيه يسجن المجرمون العاديون وتلف الأغلال على رقابهم وأحيانًا توضع أرجلهم في حاصر حشبي ويكون المساجين متصلين معًا بسلاسل حديدية، والثالث الحراسة الخاصة وهي من متعلقات مساكن العظماء. ومن ذلك يفهم أن مفهوم العدالة في إيران سواء في إصدار الأحكام أو في إيقاع العقاب أو في نظام السجون، هو عبارة عن نظام صارم سريع الإجراء والغرض منه العقاب (بنحو معادل تقريبًا للجريمة الأصلية) ولكن ليس فيه أي إصلاح للمجرم.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 1، الصفحتان 458-459)

يرى أصحابه المحبوسين معه يتضورون جوعًا. حقًا لا يمكن تصور أي نكبة أشد مما قاساه هؤلاء الضحايا الأبرياء بسبب تأثير سخط الملك.(1)

وأما الشاب صادق التبريزي، فقد كان نصيبه قاسيًا ومهينًا. فقد أمسكوا به لحظة هجومه على الشاه وجذْبه له من جواده بأمل ضربه بالسيف الذي كان يشهره عليه. وانقض عليه "الشاطر باشي" مع خدم "مستوفي الممالك" وذبحوه فورًا في المكان دون أن يحاولوا معرفة هويته. ولتسكين هياج الأهالي شطروا جسده إلى نصفين ووضعوهما عرضة للأنظار على بوابتَي شميران والشاه عبد العظيم.(2) أما رفيقاه الآخران، فتح الله

________________________

(1) "ولم يكن لنا علاقة بهذا الأمر المنكر (الاعتداء على حياة الشاه) وثبت عدم تقصيرنا في مجالس التحقيق، ومع ذلك أخذونا من نياوران، التي كانت في تلك الأيام مقر السلطنة، وساقونا مشيًا على الأقدام العارية دون غطاء للرأس ومكبلين بالسلاسل وأوردونا سجن طهران، ذلك أن الشقي الظالم الذي رافقنا ممتطيًا جواده خلع الكلاه عن رأسنا وساقنا الجلادون والفراشون بسرعة عظيمة ووضعونا مدة أربعة أشهر في مكان لم ترَ عين شبهه. أما السجن الذي كان مقر المظلوم ورفاقه المظلومين ففي الحقيقة إن غرفة مظلمة ضيقة أفضل منه. ولما وردنا الحبس ساروا بنا داخل ممر مظلم ثم نزلنا ثلاث درجات سحيقة ووصلنا إلى المقر المعد لنا. وكان المكان مظلمًا ويحوي نحو مائة وخمسين من السارقين والقتلة وقطاع الطرق. ومع كل ذلك العدد لم يكن له من منفذ سوى الطريق الذي وردنا منه. ويعجر القلم عن وصفه ويكل البيان في ذكر روائحه المنتنة، ولم يكن عند أغلب المسجونين لباس أو فراش ليجلسوا عليه. الله يعلم ما ورد علينا في ذاك المقام الأنتن الأظلم. وكنا في الأيام والليالي في السجن المذكور نتفكر في أعمال البابيين وأحوالهم وحركاتهم ونعجب كيف أنه رغم علوّ هذا الحزب وسموه وإدراكه، يظهر منهم هذا العمل الجسور ضد الحضرة الشاهانية. ولذلك عزم هذا المظلوم أنه بعد خروجه من السجن يقوم بتمام الهمة على تهذيب هذه النفوس. وفي ليلة من الليالي سُمعت في الرؤيا هذه الكلمة العليا من كل الجهات: إنّا ننصرك بك وبقلمك لا تحزن عمّا ورد عليك ولا تخف إنّك من الآمنين. سوف يبعث الله كنوز الأرض وهم رجال ينصرونك بك وباسمك الذي به أحيا الله أفئدة العارفين." ("لوح ابن الذئب"، طبعة مصر، الصفحتان 16-17) وكتب الدكتور إسلمنت: ’ويخبرنا عبدالبهاء كيف أنه ذات يوم سمح له بالدخول إلى ساحة السجن ليرى والده المحبوب عند خروجه للرياضة اليومية. وكان بهاءالله قد تغيّر تغيّرًا فظيعًا، وكان مريضًا إلى درجة أنه ما كان يقدر على المشي إلا بغاية الصعوبة، ولم يكن شعره ولا لحيته ممشّطًا، وقد انتفخ عنقه وتسلّخ من أثر السلاسل الحديدية، وانحنى جسمه من أثر ثقلها وضغطها، فأثّر هذا المنظر على فكر الفتى عبدالبهاء وإحساسه المرهف بصورة لا يمكن نسيانها.‘ ("بهاءالله والعصر الجديد"، الصفحتان 72-73)

(2) ’وأمروا بربط جثة "صادق"، وهو البابي الذي قُتل، إلى ذيل بغل لجرّه على الأحجار إلى طهران حتى يُظهروا للسكان جميعهم أن المؤامرة أخفقت. وفي الوقت نفسه أرسلوا مبعوثين إلى أردشير ميرزا يفهمونه ماذا يفعل.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 234)

صورة 192
عائلة بهائية استشهدت في إيران

الحكاك القمي والحاج قاسم النيريزي اللذان نجحا في جرح الشاه جرحًا طفيفًا، فقد أخذا وعذبا تعذيبًا وحشيًا إلى أن توفيا أخيرًا. ولم يقبل فتح الله عنادًا أن يجيب عن الأسئلة التي وجهت له رغم التعذيب الشديد القاسي، وكان السكوت الذي التزمه رغم العذاب المتعدد الذي تحمله، قد جعل المحققين يظنون أنه أخرس وإذ غضبوا من فشل جهودهم، صبّوا في حلقه الرصاص المذاب وبهذه الطريقة انتهى عذابه.

أما زميله الحاج قاسم فقد عومل بوحشية أفظع. ففي اليوم الذي كان فيه الحاج سليمان خان يقاسي محنته، كان هذا الشاب يُعذب في شميران بالمثل على أيدي مضطهديه. فخلعوا عنه ثيابه، ووضعت شموع متقدة في ثقوب حُفرت في جسده. وبهذه الكيفية ساروا به في الشوارع أمام الجمهور الذي كان يشتمه ويلعنه، وعذبوه بروح انتقام لا ترتوي ولا شبيه لها. وفي كل يوم كانوا يأتون بأبرياء جُدد يسفكون دماءهم باتهامهم زورًا بذنوب لم يقترفوها وفي ظروف لم يعلموا عنها شيئًا. وكانوا يعذبونهم بكل وسيلة جهنمية

صورة 193
اجتماع الأحباء حول جثمان شهيد

ابتكرها زبانية التعذيب في طهران لمعاقبة هؤلاء البؤساء الذين لم يُحاكموا ولم يحقق معهم ولم يُسمح لهم باستعمال حقهم الطبيعي في الدفاع عن أنفسهم وإثبات براءتهم.

واستشهد في كل يوم من أيام هذا الرعب اثنان من أصحاب حضرة الباب، فيذبح واحد في طهران والآخر في شميران. وكان الاثنان يعذبان بطريقة واحدة، ويسلم كلاهما للعامة لإفراغ جام انتقامهم فيهما. أما المقبوض عليهم، فكان مأمور خاص يأتي إلى السرداب في كل يوم وينادي على شخص منهم فيخرجه من السجن(1) لأخذه إلى مكان تنفيذ القتل، وبعد إطلاق الإشارة، يهجم عليه الغوغاء هجومًا عامًا، ويقع الرجال والنساء

________________________

(1) ’وفي هذه المناسبة أراد ميرزا آقا خان، رئيس الوزراء، أن يوزع المسؤولية الناتجة من العقاب وأن يقلل من فرص طلب الثأر. ولذلك ابتكر فكرة غريبة بتوزيع المجرمين العديدين على كبار الوزراء والقادة وضباط البلاط ومندوبي العلماء والتجار ليقوموا بإعدامهم. فقتل وزير الخارجية رجلاً ووزير الداخلية رجلا آخر ورئيس الإسطبلات رجلاً آخر، وهكذا.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الصفحة 402، الحاشية 2)

على فريستهم ويمزقون جسده إربًا إربًا ويقطعونها بحيث لا يبقى منه شكل أي عضو من أعضائه ولا بقية منه. ومثل هذه الوحشية كانت تدهش أغلظ الجلادين الذين تعوّدوا على سفك الدماء بأيديهم، ويستنكرون مثل هذه الوحشية التي كان الناس يقترفونها.(1)

________________________

(1) ﴿ورأى سعادته أن يوزع عملية إعدام الضحايا على دوائر الحكومة المختلفة ولم يستثن أحدًا سوى نفسه. وأتى دور الشاه أولاً، وهو صاحب الحق في القصاص نظرًا لجرحه. ولأجل حفظ كرامة التاج انتُدب عن جلالته مدير شؤون القصر ليطلق أول طلقة على المتآمر الذي اختاروه ضحية له، ثم أتم مساعدوه الفراشون العمل. وكان ابن رئيس الوزراء وزيرًا للداخلية، فذبح بابيًا آخر. ثم جاء دور وزارة الخارجية. وكان وزير الخارجية رجلاً زائفًا سخيفًا أمضى جل وقته في تفحص الأحاديث النبوية ودراستها. فأشاح بوجهه وهو يضرب ضربة بالسيف، ثم تلاه وكيل وزارة الخارجية وكَتَبَتها ومزقوا ضحيتهم إربًا. وأعطي لكل من رجال الدين والتجار وضباط المدفعية والجنود المشاة، بابي للقتل. وحتى طبيب الشاه المحترم الفرنسي المرحوم المأسوف عليه الدكتور كلوكيه، فإنهم دعوه ليظهر ولاءه للشاه بأن يتبع مثال حاشية البلاط. فاعتذر مازحًا بأنه قتل أشخاصًا كثيرين بحكم مهنته، ولا يرغب أن يزيد عددهم بقتل اختياري آخر. وقد قيل للصدر (رئيس الوزراء) بأن هذه الأعمال الوحشية التي لم يسمع بمثلها في غابر الأزمان ليست مقززة في حد ذاتها فحسب بل توجب الاشمئزاز العظيم في أوروپا. وإذ سمع ذلك اشتد انفعاله وسأل غاضبًا: ’أتريدون أن يتركز انتقام البابيين جميعهم عليّ وحدي؟‘ وإليكم مقتطف ورد في صحيفة "طهران گازيت" في ذلك اليوم يُظهر عينة من "القائد" الإيراني: ’إن بعضًا من الفسقة المجردين من المبادئ الخلقية ممن لا دين لهم أصبحوا تلاميذًا للسيد علي محمد الباب، الذي اخترع، منذ بضع سنوات، دينًا جديدًا، والذي هلك فيما بعد. وكانوا غير قادرين على إثبات صدق مدعاهم الذي كان بطلانه ظاهرًا بينًا. مثلاً وقع كثير من كتبهم في أيدينا فلم نجد فيها سوى الكفر المبين. أما بالنسبة للبراهين الدنيوية فكانوا عاجزين أيضًا عن الإتيان بها لإثبات دينهم الذي يبدو أنه لا يصلح لشيء إلا للجدال مع الله. ثم أرادوا بعد ذلك أن يحصلوا على الملك لأنفسهم، وسَعَوا في إثارة الثورات أملاً في الانتفاع بالاضطراب ونهب ممتلكات جيرانهم. وقامت منهم عصابة شقية بائسة تحت إمرة الملاّ الشيخ علي من ترشيز واعتبر نفسه نائبًا عن الباب السابق، وأعطى نفسه لقب "صاحب الجلالة"، وجمعوا حولهم عددًا من أصحاب الباب الأوائل. وقد أغووا إلى مبادئهم بعض الفاسقين الفاجرين، وكان أحدهم الحاج سليمان خان ابن المرحوم يحيى خان من تبريز. وكانت عاداتهم الاجتماع في منزل ذلك الحاج للتشاور ولتدبير مؤامرة على حياة جلالته الميمونة. وقد تطوع اثنا عشر نفرًا منهم لهذا العمل ولتنفيذ هذه الخطة، أعطي لكل منهم مسدسات وخناجر، إلخ. وتقرر أن يتوجه العدد المذكور إلى مقر الشاه في نياوران انتظارًا لفرصتهم.‘ ثم يستمر مقال الصحيفة في سرد وقائع الهجوم، وهو ما سبق أن فصّلته. وقد حكم على ستة أنفار ممن لم تثبت التهمة عليهم ثبوتًا كافيًا بالسجن المؤبد. ووزع الباقون على العلماء والمجتهدين وكبار خدم البلاط الملكي وأهالي المدينة والتجار والصناع الذين وُهبوا ثوابًا على النحو التالي: ذبح الملاّوات والعلماء الملاّ الشيخ علي، وكيل الباب، الذي لقب نفسه "صاحب الجلالة"، والذي كان مدبر هذه الشناعة. وقتل الأمراءُ السيدَ حسن الخراساني، وهو رجل فاسق، برصاص المسدسات والسيوف والخناجر. وأطلق وزير الخارجية، صاحب الحماسة الدينية والخلقية، أول رصاصة على الملاّ زين العابدين من يزد، والكتبة في ↓

_____________________________________________________________________

وزارته أجهزوا على الملاّ وقطعوه إربًا. ونظام الملك (ابن رئيس الوزراء) ذبح الملاّ حسين. وأما ميرزا عبد الوهاب من شيراز، الذي كان من بين الاثني عشر متآمرًا، فقد ذبحه أخو رئيس الوزراء وأبناؤه، وباقي أقاربه قطعوه إربًا. والملاّ فتح الله من قُم الذي أطلق النار وجرح صاحب الجلالة، قتل بهذه الكيفية: وسط المعسكر الملكي وضعت الشموع في ثقوب في جسده ثم أوقدت. ثم جاء مدير أعمال القصر وجرح جسده في المكان نفسه الذي جرح فيه الشاه، ثم رجمه المأمورون بالحجارة. أما نبلاء البلاط فقد أرسلوا الشيخ عباس، من سكان طهران، إلى الجحيم. وأما خدم الشاه فقتلوا محمد باقر أحد الاثني عشر متآمرًا. وأما رئيس إسطبل الشاه وأعوانه فقد وضعوا حدوات على قدميّ محمد تقي من شيراز ثم أرسلوه لينضم إلى أقرانه. ورئيس التشريفات ونبلاء آخرون مع نائبيهم ذبحوا محمد من نجف آباد بالبليطات والقضبان الشائكة وأرسلوه إلى أعماق الجحيم. واقتلع ضباط المدفعية عينَي محمد علي من نجف آباد ثم أطلقوه من فوهة مدفع هاون. وطعن الجنود السيد حسين من ميلان بحراب البنادق وأرسلوه إلى الجحيم. والخيالة ذبحوا ميرزا رفيع. ومساعد قائد الجيوش وضباط برتب جنرال وعقيد ذبحوا السيد حسين.﴾ ("لمحات عن الحياة والعادات في إيران" لليدي شيل، الصفحات 277-281) ﴿... وقد رأى الناس في ذلك اليوم في شوارع طهران وأسواقها مناظر لا يمكن أن تنسى. وحتى يومنا هذا لا تزال موضوع الحديث، ويشعر المرء للآن بالاشمئزاز المرعب الذي لم تتمكن السنين من تخفيفه. وكان الناس يشاهدون الأطفال والنساء يسيرون محاطين بالجلادين وقد فتحت في أجسادهم ثقوب عميقة وضعت فيها فتائل مشتعلة. وكانوا يسحبون الضحايا بالحبال أو يقودوهم قُدمًا تحت جلد السوط. وسار الأطفال والنساء يرتلون الآية "إنا لله وإنا إليه راجعون." وكانوا يرفعون أصواتهم بنبرة الانتصار التي تبدد السكون الذي خيم على الجماهير، لأن أهالي طهران لم يكونوا لئامًا ولا متعلقين جدًا بالإسلام. وعندما يسقط أحد هؤلاء الضحايا، ينخزونه بحربة بندقية لينهض، فإذا كان فقدان دمائه التي سالت من جراحه قد تركت له أي قوة فإنه يبدأ بالرقص والصياح بحماس أشد: "إنا لله وإنا إليه راجعون." وتوفي بعض الأطفال أثناء الطريق. وقام الجلادون برمي جثثهم أمام أقدام آبائهم وأخواتهم ليدوسوها فيسيرون فوقها بإباء دون تردد. ولما وصل الموكب إلى مكان الإعدام قريبًا من بوابة نوّ، طُلب من الضحايا الاختيار بين الحياة وإنكار العقيدة، ومارسوا في ذلك شتى وسائل التهديد. وابتكر أحد الجلادين فكرة أن يقول لأب إنه إذا لم يتب، فإنه يذبح ولديه على بطنه. وكان ولداه صغيرين حيث بلغ الكبير أربعة عشر عامًا. وقد استمعا للتهديد دون انفعال بينما غطت الدماء جسديهما واحترق لحمهما. وجلس الأب على الأرض وأجاب بأنه على استعداد، فاختار الابن الأكبر أن يموت أولاً بحق السن. ويبدو أن الجلاد قد حرمه حتى من تلك السلوى الأخيرة. وأخيرًا انتهت المأساة وأسدل الليل على أكداس من الأجساد الملتوية، فأخذوا الرؤوس وعلقوها في رزم على أعمدة العدل والإنصاف، وأخذت الكلاب في ضواحي المدينة بالتزاحم. وفي ذلك اليوم انضم سرًا إلى البابيين أتباع أكثر ممن آمن بواسطة الدعوة. وكما ذكرتُ أعلاه فإن التأثير الواقع على الأهالي من عدم اكتراث الشهداء بالموت والعذاب كان عميقًا. وكثيرًا ما سمعت شهود عيان يصفون مناظر ذلك اليوم المشؤوم، وهم رجال مقربون من الحكومة، بعضهم يشغل مناصب مرموقة. وإذ يستمع المرء إليهم فإنه من السهل عليه أن يعتقد بأنهم جميعهم بابيون، فقد كان إعجابهم باهرًا بتلك الأحداث التي لعب فيها المسلمون دورًا غير مشرّف، وكان مفهومهم راسخًا بقوة موارد الدين الجديد وآماله وسبل نجاحه. ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحات 248-250) ولم تكن هذه التعذيبات فقط إجرامية بل كانت أيضًا دون جدوى. فإن توحش المنفذين قد عكس مقصدهم، فبدلاً من أن يوقعوا الرعب في القلوب ↓

ومن بين مختلف أنواع التعذيب الذي أوقعه الأعداء الظامئون على ضحاياهم، لم يكن أقسى ولا أفظع ولا أشنع مما ارتكب ضد الحاج سليمان خان. كان والده يحيى خان أحد الضباط في جيش نائب السلطنة، والد محمد شاه. واحتفظ بتلك الرتبة نفسها في أوائل أيام حكم محمد شاه. وأظهر الحاج سليمان خان منذ صغره عدم اهتمامه بالرُتب والوظائف. ومنذ أن اعتنق أمر حضرة الباب رثى حال الناس الذين حوله لما شاهده من اهتماماتهم الدنيوية واحتقر تعلقهم بها، واتضح له جليًا سخف طموحاتهم. وكان يود منذ صباه أن يهرب من ضجة المدينة والالتجاء إلى مدينة كربلاء المقدسة. وهناك قابل السيد كاظم وأصبح من أشد أنصاره المخلصين. وكانت أشهر خصاله التقوى الخالصة والاقتصاد في الإنفاق والرغبة في العزلة. ومكث في كربلاء إلى اليوم الذي وصله النداء من شيراز بواسطة الملاّ يوسف الأردبيلي والملاّ مهدي الخوئي، وكلاهما من أخص أصحابه، فاعتنق أمر حضرة الباب بحماس.(1) وعزم أن ينضم إلى جماعة المدافعين في قلعة الطبرسي عند عودته من كربلاء إلى طهران. ولكنه وصل متأخرًا فلم يتمكن من ذلك، وبقي في العاصمة واستمر يلبس الثياب التي كان يرتديها في كربلاء، وهي عمامة صغيرة وعباءة سوداء تغطي قفطانًا أبيضًا. ولكن ميرزا تقي خان، أمير النظام، لم يعجبه ذلك وأقنعه بتركها واستبدالها بزي عسكري. وجعله يلبس الكلاه وهي ما اعتقد الأمير أنها تليق بالمركز الذي تقلده والده. ومع أن الأمير أصر أن يسند إليه وظيفة في خدمة الحكومة،

_____________________________________________________________________

جعلت للشهداء فرصة لإظهار الثبات البطولي الذي فاق أي دعاية مهما كانت ماهرة لتحقيق الانتصار للأمر الذي ماتوا لأجله. فالتأثير الحاصل من مثل هذه المظاهر في الشجاعة والثبات كان عميقًا ودائمًا، لا بل إن الدين الذي نفث في روع الشهداء هذه الشجاعة انتقلت عدواه إلى كثيرين غيرهم، كما يظهر من الحكاية الآتية: ’كان أحد سكان يزد رجلاً فظًا مشهورًا بحياته البدائية الفوضوية، وقد ذهب لرؤية عملية إعدام بعض البابيين، ربما بقصد الاستهزاء بهم، ولما رأى السكون والثبات اللذين قابلوا بهما العذاب والموت، حصل له تغيير كبير في احساساته حتى إنه انطلق في وسطهم وهو يصيح: ’’اقتلوني أنا أيضًا! أنا بابي أيضًا!‘‘ ومكث يصيح على هذه الكيفية حتى شاركهم أخيرًا في المصير الذي جاء لمجرد مشاهدته.‘﴾ ("سنة بين الإيرانيين" لبراون، الصفحتان 111-112)

(1) وقال سمندر (مخطوطة، الصفحة 2) بأن سليمان خان تشرف بمحضر حضرة الباب أثناء حجه إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.

إلا أنه رفض بعناد قبول ذلك. وكان يصرف أغلب أوقاته مع تلاميذ حضرة الباب وخاصة الناجين من موقعة الطبرسي. كان يحيطهم بالعناية والشفقة اللتين تثيران الدهشة، وكانت له ولوالده مكانة عظيمة، حتى إن أمير النظام أراد أن يبقي عليه وأن لا يتعرض له أحد بأي أذى أو تعذيب. ومع أنه كان موجودًا في طهران أيام الشهداء السبعة، لم يتجاسر الناس ولا موظفو الحكومة على القبض عليه. وحتى في تبريز عندما رحل لإنقاذ حياة حضرة الباب، لم يجرؤ أحد من سكان تلك المدينة أن يرفع إصبعه عليه. وكان أمير النظام يعلم بالخدمات التي كان يقدمها لأمر حضرة الباب، ولكنه فضّل أن يتجاهلها بدلاً من الاصطدام معه ومع والده.

وبعد استشهاد أحد الأحباء، وهو الملاّ زين العابدين اليزدي، سرعان ما انتشرت إشاعة أن الحكومة تنوي إطلاق سراح أولئك الذين قررت إعدامهم، ومن بينهم السيد حسين، كاتب وحي حضرة الباب، والطاهرة، وأن الحكومة ستتوقف عن اضطهاد أصحابهم نهائيًا. وأشيع في طول البلاد وعرضها أن أمير النظام، ظنًا منه أن ساعة وفاته قد دنت، أخذه فجأة خوف عظيم، وفي عذاب توبته صاح قائلاً: ’إني تطيّرت بخيال السيد الباب الذي تسببتُ في استشهاده، والآن أشاهد الخطأ الجسيم الذي اقترفته. وكنتُ أقدر أن أدفع عنه عادية الناس وضغطهم عليّ في سفك دمه ودماء أصحابه. والآن قد عرفت أن تلك الحماية كانت في مصلحة الحكومة.‘ أما خلَفَه ميرزا آقا خان فكان في بداية أيام حكمه يرغب تدشين ولايته بالصلح مع أتباع حضرة الباب وكان يهيئ الأسباب لذلك، حين وقعت حادثة الاعتداء على الشاه فبددّت آماله وأوقعت العاصمة في حالة من الاضطراب لم تشهد مثلها من قبل.

وقد سمعتُ الغصن الأعظم،(1) الذي كان طفلاً في ذلك الوقت وعمره ثماني سنوات، يحكي عن إحدى مشاهداته عندما تجرأ على مغادرة المنزل الذي كان يقيم فيه، فقال: ’كنّا قد التجأنا إلى منزل خالي ميرزا إسماعيل، وكانت طهران تغلي بهياج عارم. وتجاسرت في

________________________
(1) حضرة عبدالبهاء.

بعض الأيام أن أخرج من ذلك المنزل وأقطع الشارع في طريقي إلى السوق. وما أكاد أجتاز العتبة وأسير في الشارع، حتى يزدحم حولي أطفال من سنّي يصيحون: بابي! بابي! ولعلمي بحالة الهياج التي أصابت سكان العاصمة من الكبير والصغير، كنت أتجه إلى منزلي بهدوء وسكون متجاهلاً صخبهم عمدًا. وذات يوم كنت أسير وحدي في السوق أثناء عودتي إلى منزل خالي، وإذ نظرت خلفي وجدت فئة من الأولاد الرعاع يجرون بسرعة ليلحقوا بي. وكانوا يقذفونني بالحجارة ويصيحون مهددين: بابي! بابي! ورأيتُ أن أفضل وسيلة لتجنب الخطر الذي يهددني هو تخويفهم. فاستدرت واندفعت نحوهم بعزم أوجبهم على الهرب خائفين وجلين واختفوا عن الأنظار. وكنت أسمعهم يقولون من بُعد ’’إن البابي الصغير تتبعنا وسوف يلحقنا ويذبحنا جميعًا.‘‘ وإذ وجهت خطاي نحو المنزل سمعت رجلاً يصيح بأعلى صوته: ’’نِعم ما فعلت أيها الغلام الشجاع! فما قدر أحد من سنك أبدًا أن يقاوم وحده هجومهم.‘‘ ومنذ ذلك الحين لم يجرؤ أحد من أولاد الشوارع أن يزعجني ولم أسمع أي كلمة نابية تخرج من أفواههم.‘

ومن بين الذين قبض عليهم وألقي بهم في السجن في خضم الفوضى العامة، الحاج سليمان خان، والآن أسرد كيفية استشهاده التي تحققت من وقائعها جميعها بنفسي، وإني مدين في الغالب لآقا كليم الذي كان في ذلك الوقت في طهران، وجُعل شريكًا لإخوانه هناك في الرعب والمعاناة، فأخبرني قائلاً: ﴿في يوم استشهاد الحاج سليمان خان تصادف أن كنت موجودًا مع ميرزا عبد المجيد في مجلس في طهران، اجتمع فيه عدد كبير من عظماء العاصمة وأعيانها. وكان بينهم الحاج الملاّ محمود، نظام العلماء، الذي أمر الكلانتر أن يصف ظروف استشهاد الحاج سليمان خان بدقة. فأشار الكلانتر بإصبعه إلى الميرزا تقي الكدخدا وقال إنه قاد الضحية من موقع قرب القصر الملكي إلى مكان إعدامه خارج بوابة نوّ. فطلب الحاضرون من ميرزا تقي أن يقص عليهم الكيفية كما رآها وسمعها. قال: ’صدرت لي ولأعواني الأوامر أن نشتري تسع شمعات ونثبتها بأنفسنا في تسعة ثقوب عميقة تحز في جسد سليمان خان. وأن نوقد هذه الشموع ونسير به في السوق مصحوبًا بأصوات الأبواق ودق الطبول لغاية مكان التنفيذ. وهناك أمرنا أن نشطر

جسده إلى شطرين ونعلقهما على جانبَي بوابة نوّ. وكان هو بنفسه قد اختار الطريقة التي يستشهد بها. وكان ناصر الدين شاه قد أمر حاجب الدولة(1) بتحري دور المتهم في حادثة الاعتداء على حياته، وإذا تحقق من براءته يطلب منه الارتداد عن دينه، فإذا قَبل ينجُ من القتل ويحجز إلى أن يبتّ في أمره نهائيًا. وفي حال رفضه يُعدم بالطريقة التي يختارها بنفسه.

واقتنع حاجب الدولة ببراءة الحاج سليمان خان بعد التحقيق. وما كاد المتهم يعلم بتعليمات الشاه بخصوصه حتى صاح بكل فرح قائلاً: ’’هذا لا يمكن أبدًا، فما دام فيّ عِرق ينبض بالحياة لا أقبل أن أنكر دين محبوبي! فهذه الدنيا التي شبهها أمير المؤمنين "الإمام علي" بالجيفة القذرة، لا يمكن أن تغويني بعيدًا عن محبوب قلبي.‘‘ فسُئل أي ميتة يريد أن يموتها؟ فقال لهم: ’’اثقبوا في جسدي ثقوبًا، وضعوا في كل ثقب شمعة، ولتوقد تسع شموع حول بدني. وعلى هذه الحالة اسحبوني في شوارع طهران وادعوا الجماهير أن تحضر وتشاهد فخر شهادتي حتى تنقش حوادث مماتي على صفحات قلوبهم وتساعدهم وهم يذكرون شدة معاناتي على أن يعترفوا بالنور الذي أعتنقه. وبعد أن أصل إلى درجات منصة الإعدام وأكون قد نطقت بآخر مناجاتي في هذه الحياة الدنيا، اشطروا جسمي شطرين وعلّقوا كل شطر على جهة من جهتَي بوابة طهران حتى إن الذين يمرون منها يشاهدون المحبة التي أوقدها دين الباب في قلوب تلاميذه وينظرون إلى برهان إخلاصهم.‘‘

فأمر حاجب الدولة رجاله أن ينفذوا رغبات الحاج سليمان خان، وأمروني أن أسير به في السوق إلى مكان إعدامه. ولما سلّموا الشموع التي اشتروها للمسجون وكانوا يستعدون لفتح ثقوب في صدره، ورأى يد الجلاد المرتعشة وثب وأخذ السكين ليغرزها بنفسه في لحمه، وصاح وهو يخطف السكين قائلاً: ’’لماذا تخاف وتتردد؟ أنا أعمل ذلك وأوقد الشموع بنفسي.‘‘ وخوفًا من أن يهجم علينا أمرتُ رجالي أن يقاوموه ويربطوا يديه خلف

________________________

(1) اسمه الحاج علي خان. (انظر "مقالة سائح"، الصفحة 52، الحاشية 1)

ظهره فقال: ’’اسمحوا لي أن أشير بأصابعي إلى المواضع التي أريد أن تغرزوا فيها السكين، فليس لي مطلب خلاف ذلك.‘‘

فسألهم أن يعملوا ثقبين في صدره، واثنين على أكتافه، وواحد أسفل الرقبة، والأربعة الباقية في ظهره. وكان يتحمل هذا التعذيب بغاية التؤدة والهدوء، ونور الثبات يشرق من عينيه ولم يضطرب من صياح الجماهير ولا من منظر الدماء التي كانت تسيل وتغطي جسده، واستمر على هذه الحالة في السكون وعدم المبالاة حتى وُضعت الشموع التسع في أماكنها وأوقدت.

وعندما أنجز العمل وتأهب الموكب للسير إلى مكان استشهاده، وقف منتصب القامة كالسهم بثباته المعهود الذي لا يلين وبعزم مشرق من وجهه، تقدم ليقود الموكب المحتشد حوله لمشاهدة استشهاده. وكلما سار بضع خطوات كان يتوقف وينظر إلى المشاهدين المتحيرين قائلاً: ’’أي عظمة وأي أبهة أروع مما نشاهد في هذا اليوم مصاحبًا مسيرتي للحصول على تاج الشهادة! المجد والعظمة لحضرة الباب الذي أشعل مثل هذا الإخلاص في صدور أحبائه، ومنحهم قوة أكبر وأعظم من سطوة الملوك!‘‘ وأحيانًا كان يصيح كأنه ثمل من حماس هذا الإخلاص ويقول: ’’في الأيام الخالية دعا إبراهيم الله أن يرسل عليه ما يخفف آلام روحه وينعشها، فسمع من مكمن الغيب نداء "يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم!"(1) ولكن سليمان هذا، يصيح الآن من أعماق قلبه المحترق ويقول: إلهي إلهي لتشتعل نارك باستمرار في باطني ولتحرق شعلتها وجودي.‘‘ ولما شاهدت عيناه الشمع قد قارب الانتهاء في داخل الجرح، قال للجموع الذين ينظرونه بذعر: ’’ليت الذي أشعلت يده روحي كان حاضرًا ليراني، فلا تظنوني سكرانًا بحميا هذا العالم، فقد امتلأت روحي بحب محبوبي الذي وهبني سلطانًا يحسدني عليه الملوك!‘‘

ولا أقدر أن أصف أو أتذكر عبارات الفرح التي نطق بها إذ كان يقترب من نهاية أجله. وكل ما أتذكره هو بعض كلمات مؤثرة كان يصيح بها في أوقات حماسه للجماهير

________________________
(1) القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 69.

المحتشدة. ولا تقدر كلماتي أن تصف ملامح وجهه أو تعبر عن مقدار تأثير كلماته على الجموع.

وكان لا يزال في السوق إذ زاد هبوب النسيم في إشعال الشموع الموضوعة على صدره. وإذ أسرعت في الذوبان وصلت الشعلة إلى حافة الجروح المغروزة فيها. وسمعنا، نحن الذين كنا نسير خلفه ببضع خطوات، أزيز لحمه الآخذ في الاحتراق. وكانت بقع الدم على جسمه والنيران المشتعلة قد زادت في إشعال حماسه الذي لا ينطفئ بدلاً من إخماد صوته. وخاطب النيران وهي تأكل جسده قائلاً: ’’أيها اللهب لم تعد قادرًا على اللسع، وليس لك قدرة على إيذائي، فأسرع لأني أسمع من ألسنة نيرانك بشرى تدعوني إلى محبوبي!‘‘

ويظهر أن الألم والمعاناة قد ذابا أمام اشتعال ذلك الحماس. وإذ اكتنفته النيران بلهبها كان يمشي كقائد فاتح في ميدان نصره وسط جيوشه على شكل شعلة متوهجة وسط الظلام الذي أحاطه. وإذ وصل إلى درجات منصة الإعدام رفع صوته ثانية في ندائه الأخير لجموع المشاهدين وقال: ’’ألم يكن سليمان هذا الذي ترونه الآن طعمة للنيران والدماء، يتمتع منذ أمد قريب بكل الوقار والثروة في هذه الدنيا؟ فما الذي جعله يترك كل هذا الفخر الدنيوي ويقبل هذه الآلام والبلايا بدلاً عنه؟‘‘ وسجد باتجاه مقام إمام زاده حسن ونطق ببضع كلمات باللغة العربية لم أفهمها، ثم صاح للجلاد بعد إتمام دعائه: ’’إن عملي قد تم! فأسرع وأتمم عملك!‘‘ وكان لا يزال حيًا عندما شُطر جسده نصفين بفأس صغيرة. وبقيت على شفتيه عبارات تمجيد محبوبه رغمًا عن آلامه المبرحة إلى آخر رمق من حياته.‘(1)

________________________

(1) ﴿إن الشجاعة الفائقة التي أظهرها سليمان خان في تحمله التعذيب المخيف صارت أشهر من نار على علم. وقد سمعت مرارًا كيف أنه لم ينقطع، أثناء تحمله لعذابه الطويل، عن إظهار سروره بأن يكون مستحقًا للاستشهاد في سبيل أمر مولاه. بل إنه كان يغني ويتلو أبياتًا شعرية، ومنها ما يأتي: ’لقد رجعت! لقد رجعت! جئت بطريق شيراز! وأحضرت معي الأجواء الساحرة والنعم الإلهية! هكذا يكون جنون المحب.‘ فسأله الجلاد باستهزاء: ’لماذا لا ترقص إذًا ما دمت ترى الموت لطيفًا إلى هذا الحد؟‘ فصاح سليمان خان: ’نعم أرقص بهذه الكأس في راحتي وفي الأخرى جدائل الشعر من محبوبي، وهذا الرقص وسط السوق مرغوبي!‘﴾ ("مقالة سائح"، الحاشية ت، الصفحتان 333-334) ﴿وكان استشهاده في أغسطس/آب سنة 1852م. ولما قبضوا على سليمان خان بذلوا جهدهم ليرجعوه عن دينه نظرًا لخدماته المخلصة وولائه، وأرادوا إغراءه بالوعود من الملك بالمكافآت ليرجع عن عقيدته، فلم يقبل وأجاب بكل ثبات: ’يملك جلالة ↓

صورة 194
منزل الكلانتر في طهران، حيث حبست الطاهرة
(الغرفة العلوية خلف الشجرة هي الغرفة التي سكنتها)

_____________________________________________________________________

الملك الحق في أن يطلب من رعيته الإخلاص والولاء والاستقامة، ولكن لا يحق له أن يتدخل في معتقداتهم الدينية، فكانت نتيجة جسارته في البيان أن صدر الأمر بأن يفتحوا جروحًا في جسمه وأن يضعوا في كل ثقب شمعة مشتعلة حتى يكون مثالاً لغيره. وعاملوا ضحية أخرى بنفس الطريقة. وعلى هذه الحال ساروا به وسط الأسواق يتقدمه عازفو الموسيقى وقارعو الطبول ولكنه كان دائم التبسم ويتلو الأبيات التالية:

ما أسعد المحب إذا
غلبه الشوق حتى لا يعي
إن كان تحت أقدام المحبوب
رأسه أو العمامة ترتمي

وكان كلما وقعت شمعة من جسمه يلتقطها بيده ويوقدها من الشموع الأخرى ثم يضعها في محلها. ولما رأى الجلادون منه هذا الفرح والسرور قالوا له: ’إذا كان شوقك للاستشهاد لهذا الحد فلماذا لا ترقص؟‘ فعند ذلك ابتدأ يقفز ويغني بما طابق حالته قائلاً: ’طوبى لأذن واعية ما أصمها الجهل والعمى وطوبى لعبد خاضع خاشع يحمله سروره الروحي على الرقص. فالمجنون يرقص في الأسواق والرجال ترقص بينما دماؤهم تقطر من أجسادهم ويصفقون للنفس طربًا إذا ذبحت ويرقصون لخلاص أرواحهم ونجاتهم من الشرور.‘ وعلى هذا المنوال قادوا هذين الشهيدين عبر بوابة الشاه عبد العظيم. ولما استعدوا لنشر جسد ذلك الرجل الشجاع، مد قدميه بلا وجل أو تردد بينما كان يتلو الأبيات التالية: إني لا أعير أهمية لهذا الجسد فنفس الشجاع تحتقر بيتها الأرضي، فالخنجر والسيف كأوراق الحبق العطرة أو كباقات صففت على مائدة الموت ببريقها ولمعانها.﴾ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 228-230)

وقد أثّرت هذه القصة المحزنة من ميرزا تقي في المستمعين ونفذت إلى أعماق نفوسهم. وكان نظام العلماء ضمن المستمعين لكل هذه التفاصيل، فاهتز من الذعر واليأس وصاح قائلاً: ’’ما أعجب هذا الأمر؟ ما أعجب هذا الأمر؟‘‘ ودون أن يزيد حرفًا واحدًا قام وخرج.﴾(1)

وشهدت تلك الأيام من الهياج المتواصل، استشهاد تلميذ آخر من أشهر تلاميذ حضرة الباب. امرأة لم تكن أقل شجاعة ولا عظمة من السابقين، اسمها الطاهرة، أحاطتها العاصفة التي ماجت بها العاصمة بعنف لا يفتر. والذي أحكيه الآن عن ظروف استشهادها حصلت عليه من شهود عيان ثقة للأحداث التي أحاول وصفها هنا. تميزت أقامتها في طهران بشواهد المحبة القلبية والاعتبار الكبير من مشاهير النساء في العاصمة. فوصلت في تلك الأيام إلى ذروة العلا والشهرة.(2) كان المنزل الذي حبست فيه يموج بالنسوة المعجبات بها اللائي كن يتوافدن بكثافة على بابها ويشتقن أن يحضرن في مجلسها

________________________

(1) ’إذا أردنا التوصل إلى نتيجة حتمية في أفكارنا عن الماضي الذي تكلمت عنه، فإنها ليست سوى ذلك الإخلاص السامي الهادئ الذي نفخه هذا الدين الجديد مهما كان. وأعتقد أنه لم يوجد سوى بابي واحد ارتد عن دينه تحت الضغط أو وعيد العذاب، ولكنه رجع ثانية إلى الدين الجديد وأعدم بعد سنتين. وقد استضاءت صحائف التاريخ البابي، الملطخة بدماء الشهداء، بروايات البسالة الرائعة. ومع أن العديد من المريدين كانوا أميين، فإنهم مع ذلك كانوا دائمًا ولا زالوا مستعدين للتضحية بأرواحهم لأجل دينهم وكانت نيران بنادق "سميثفيلد" غير قادرة على إشعال شجاعة في القلوب أنبل مما شاهدها جلادو طهران، أصحاب المواهب المصقولة في التعذيب. فالعقيدة التي تنفث في قلوب أتباعها مثل هذه التضحية النادرة الجميلة، ليست من العقائد التي يستهان بها أو التي لا يقام لها وزن... فمثل هذه الأحداث الصغيرة التي تبرز من وقت لآخر بملامحها القبيحة، تبرهن على أن إيران لم تسترجع للآن كامل مجدها، وتُخضع هامات المتشامخين الذين يتحدثون عن المدنية الإيرانية.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 1، الصفحة 501)

(2) ’ومكثت في طهران مدة طويلة تستقبل العديد من الزوار رجالاً ونساء، واستحثت النساء بإظهار الدور المذل الذي عيّنه لهن الإسلام، وأقنعتهن بالانضمام إلى الدين الجديد الذي سيمنحهن الحرية والاحترام. فتبع ذلك سلسلة من المجادلات المنزلية (بينها وبين زوجها)، والتي غالبًا ما انتهت في غير مصلحة الزوج. وكان لهذه المناقشات أن تدوم فترة طويلة لولا تعيين ميرزا آقا خان النوري في منصب الصدر الأعظم. فأصدر هذا أمره إلى الحاج الملاّ ميرزا محمد الأندِرماني والحاج الملاّ علي الكِني، ليذهبا لزيارتها ويمتحنا معتقدها. وعقدا معها سبع جلسات، ناقشتهما فيها بكل حماس وأكدت لهما أن الباب هو الإمام الموعود المنتظر. فلفت خصماها انتباهها إلى أنه، حسب النبوءات، فإن الإمام الموعود يظهر من جابلقا وجابلسا. فأجابتهما بسرعة ↓

وينتفعن بعلمها.(1) ومن بين تلك النسوة زوجة الكلانتر(2) التي امتازت بما أظهرته من الاحترام الفائق للطاهرة. وكونها مضيفتها كانت تعرّفها على خيرة النسوة في طهران، وكانت تخدمها بكل حماس وتشاركها في عملها بتوثيق عرى ألفتها مع باقي النسوة. وقد روت سيدات من صديقات زوجة الكلانتر أنها حكت ما يأتي: ﴿ذات ليلة بينما كانت الطاهرة في منزلي استدعتني لمحضرها، فوجدتها مزينة ومرتدية رداءً من الحرير الأبيض. وكانت الغرفة معطّرة بأحسن الأطياب. فأظهرت دهشتي من هذا المنظر غير المألوف. فقالت: ’إني أستعد للقاء المحبوب وأريد أن أخلصك من متاعب سجني.‘ فذهلتُ في البداية، وبكيتُ لفكرة الافتراق عنها. فقالت لي لتطمئنني: ’لا تبكِ، لأن ساعة حزنك لم تأت بعد، وأريد أن أشاركك بآخر رغباتي لأن الساعة التي سيقبض عليّ فيها، والتي أتجرع فيها كأس الشهادة، تقترب سريعًا. وأطلب منك أن تسمحي لنجلك أن يرافقني إلى مكان إعدامي وليؤكد على الحراس والجلاد الذين سوف أسلم لأيديهم أن لا يجردوني من هذه الثياب. وأرغب أيضًا أن يُطرح جسدي في بئر، وأن تُملأ بعد ذلك بالتراب والأحجار. وبعد مرور ثلاثة أيام على وفاتي، ستأتي إليك امرأة تزورك، فعليك أن تسلّمي لها هذه الرزمة التي أسلمها لك الآن. وآخر طلباتي أن لا تسمحي لأحد بأن

_____________________________________________________________________

وحرارة بأن تلك النبوءات غير صحيحة وابتكرها رواة أحاديث كَذَبة، وحيث إن المدينتين المذكورتين لا وجود لهما مطلقًا، لذلك فإنهما ليستا سوى خرافات عقول سقيمة. وبسطت لهما المذهب الجديد، وبرهنت على أحقيته، ولكنها قوبلت باستمرار بحجة جابلقا نفسها. وأخيرًا، ومن فرط غضبها قالت لهما: ’’إن تفكيركما أشبه بتفكير طفل جاهل غبي، فإلى متى تتشبثون بهذه الحماقات والأكاذيب؟ متى ترفعان عيناكما إلى شمس الحقيقة؟‘‘ وإذ تأثر الحاج الملاّ علي من هذا التجديف، قام وقاد صديقه ليغادرا وقال له: ’’لماذا نطيل نقاشنا مع كافرة؟‘‘ فرجعا إلى مقريهما وكتبا حكمهما الذي أكد رِدّتها ورفضها التراجع، وحكما عليها بالموت باسم القرآن!‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 446-447)

(1) ’ولما كانت سجينة في منزل الكلانتر، عقد قران ابنه. وكان من الطبيعي دعوة زوجات الشخصيات المرموقة، ولكن رغم صرف المضيف مبالغ طائلة لتوفير الضيافة والترفيه حسب التقاليد، فإن المدعوات رفعن أصواتهن مطالبات بإحضار "قرة العين" أمام الضيوف. وما كادت تظهر أمامهن وتبتدئ بالحديث، حتى صُرفت العازفات والراقصات. وإذ تناسين الحلوى المحببة إليهن، كانت "قرة العين" وحدها محط أنظارهن.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 448)

(2) وهو محمود خان الكلانتر، الذي أودعت "قرة العين" في حراسته.

يدخل غرفتي، فمن الآن إلى وقت أن يطلبوا خروجي من هذا المنزل، أريد أن لا يقطع أحد صلاتي، ففي هذا اليوم اعتزمت الصوم، ولا أقطع هذا الصوم حتى أقابل محبوبي.‘ وأمرتني بهذه الكلمات أن أغلق الغرفة ولا أفتحها حتى تدق ساعة الفراق، وطلبت أن لا أفشي سر شهادتها حتى يعلنه أعداؤها بأنفسهم.

وكانت المحبة العظيمة التي أكنها لها في قلبي هي وحدها التي مكنتني من تنفيذ رغباتها. وما كنت أسمح لنفسي أن أبتعد عنها ولو لحظة واحدة لولا رغبتي الشديدة في تحقيق أمانيها. فأغلقتُ باب غرفتها وعُدتُ إلى غرفتي في حالة حزن عميق. ومكثت بلا نوم مكتئبة على فراشي، وأفجع قلبي علمي بدنو ساعة شهادتها، وكنت أناجي ربي في يأسي وأقول:’ربِّ ربِّ إذا شئتَ امنع عنها الكأس الذي ترغب في تجرّعه.‘

صورة 195
الزي المنزلي
صورة 196
الزي الخارجي
أزياء سيدات إيران في أواسط القرن التاسع عشر

ففي ذلك اليوم والليلة التي تلته لم أتمكن من تمالك نفسي فقمت ووقفت عند عتبة باب غرفتها وبقيت صامتة متلهفة لاستماع ما يخرج من فمها. وسحرتني نغمات ذلك الصوت الذي تغنى بمدائح محبوبها. ولم أتمكن من الاستمرار بالوقوف على قدمَي لشدة اضطرابي. وبعد أربع ساعات من غروب الشمس سمعت دق الباب وأسرعت فورًا إلى نجلي وأخبرته برغبات الطاهرة، فأقسم أن ينفذ كل ما طلبته مني. وتصادف في تلك الليلة غياب زوجي. ولما فتح نجلي الباب أخبرني أن الفراشين (المأمورين) المرسلين من عزيز خان السردار، واقفون عند البوابة يطلبون تسليم الطاهرة لأيديهم على الفور. فارتعبتُ من الخبر وذهبت إلى باب غرفتها وفتحته بيد مرتعشة ووجدتها منقّبة ومستعدة للمغادرة، وعندما دخلتُ الغرفة وجدتها تذرع جيئة وذهابًا وترتل مناجاة جامعة بين الحزن والنصر. وبمجرد أن رأتني اقتربت مني وقبلتني ووضعت في يدي مفتاح صندوقها الذي تركته لي وبه بعض الأشياء الصغيرة كتذكار لبقائها في منزلي وقالت لي: ’كلما تفتحين الصندوق وتشاهدي الأشياء التي فيه، أرجو أن تتذكريني وتفرحي لفرحي.‘

صورة 197
موقع حديقة إيلخاني حيث استشهدت الطاهرة

وبهذه الكلمات ودّعتني الوداع الأخير وغابت عن أنظاري برفقة نجلي. فكم شعرت وقتها بلذعات الحزن والأسى وأنا أشاهد جمال هيكلها يبتعد تدريجيًا من أمامي! وامتطت الجواد الذي أرسله لها السردار، وحرسها نجلي وعدد من الخدام الذين مشوا على جانبيها وذهبت إلى الحديقة التي كانت محل استشهادها.

وبعد ثلاث ساعات عاد نجلي ووجهه مغطى بالدموع وهو ينزل اللعنات على السردار وعلى أعوانه الفاسقين. وأردتُ تهدئة خاطره وإذ جلس بجانبي سألته أن يحكي كيفية استشهادها، فأجاب وهو يبكي: }’والدتي! لا أقدر أن أصف ما شاهدته بعينيْ حق الوصف. فقد ذهبنا مباشرة إلى حديقة إيلخاني،(1) التي تقع خارج بوابة المدينة. وذعرت إذ شاهدت السردار وأعوانه غارقين في الملذات والفسق، وقد لعبت الخمرة بعقولهم وعلت أصواتهم بالقهقهة والضحك. وإذ وصلنا إلى البوابة ترجلت الطاهرة ونادتني وطلبت مني أن أكون وسيطًا بينها وبين السردار، لأنها لا تميل إلى مخاطبته وهو في غمرة مرحه. وقالت:’يبدو أنهم يريدون خنقي، وقد أعددت منذ زمن منديلاً حريريًا ليستعمل لهذا الغرض، وأنا أعطيه لك وأريد أن تقنع هذا السكير الفاجر أن يستعمله في إنهاء حياتي.‘

ولما ذهبتُ إلى السردار وجدته في حالة سكر شديد، وإذ اقتربتُ إليه صاح قائلاً: ’لا تكدر علينا صفو بهجتنا! فلتؤخذ هذه الشقية التعيسة وتُخنق ويطرح جسدها في بئر!‘ وقد دهشت من صدور مثل هذا الأمر، واعتقدت أن لا حاجة لإعادة السؤال، وذهبتُ إلى اثنين من خدمه كنت أعرفهما، وأعطيتهما منديل الطاهرة. فعملا على إجابة طلبها ولفّا المنديل حول عنقها حتى أسلمت الروح. وأسرعتُ إلى البستاني لأسأله عن مكان يصلح لمواراة جسدها فيه، فأرشدني لفرط سروري إلى بئر حُفرت حديثًا

________________________

(1) ’وهي ساحة فسيحة تقع مقابل المفوضية البريطانية والسفارة التركية، وزال هذا الموقع منذ سنة 1893م. وفي وسط هذه الساحة، ولكن بموازاة الشارع، ارتفعت خمس أو ست شجرات تميّز البقعة التي استشهدت فيها البطلة البابية، لأنه في تلك الأيام كانت حديقة إيلخاني تمتد إلى تلك المسافة. ولما عُدت في سنة 1898م وجدت أن الساحة قد زالت تمامًا لتفسح المجال للأبنية الحديثة ولا أعلم إذا كان المالك الحالي قد حفظ هذه الأشجار التي غرستها أيد صالحة.‘ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحة 452)

وتُركت دون إكمال. وبمساعدة آخرين أنزلنا الجسد في قبره وملأنا البئر بالتراب والأحجار كما أرادت هي بنفسها. وتأثر الذين شاهدوها في لحظاتها الأخيرة تأثرًا بليغًا. وبرؤوس مطأطئة وصمت تام، تفرقوا في حالة من الحزن والأسى تاركين، تحت كومة من الحجارة جمعوها بأيديهم، ضحيتهم التي أنارت وطنهم بضياء لن يزول أبدًا.{

وقد بكيتُ دموعًا حارة على تلك الفاجعة التي رواها لي نجلي. وغلب عليّ التأثر حتى وقعت على الأرض مغشيًا عليّ. ولما أفقتُ وجدت أن نجلي قد وقع مثلي من شدة الألم وأصابه مثل ما أصابني، وكان مطروحًا في فراشه تنهمر منه دموع انفعال مخلص، وإذ شاهد حالي وما أصابني واساني بقوله: ’إن دموعك ستكشفك أمام عينَي والدي وقد يحمله مركزه ومقامه أن يتركنا ويقطع كل علاقة تربطه بهذا المنزل. وإذا لم نحبس دموعنا فإنه قد يتهمنا أمام ناصر الدين شاه بأننا وقعنا فريستين لسحر عدو بغيض. ويحصل على موافقة الشاه بإعدامنا وربما يذبحنا بيديه. فلماذا نرضى بمثل هذا النصيب على يده ما دمنا لم نعتنق هذا الدين؟ وكل ما علينا عمله هو أن ندافع عن الطاهرة ونكذب أقوال كل من يتهمها في عرضها وشرفها ولنجعل حبها مكنونًا في أفئدتنا إلى الأبد، ونؤكد نبل حياتها أمام كل عدوّ مفتر.‘

وكانت كلماته قد خففت هيجان قلبي، فذهبتُ وأحضرتُ صندوقها وفتحته بالمفتاح الذي وضعته في يدي. فوجدت فيه قارورة من ألطف الطيب وبجانبها مسبحة وقلادة من المرجان وثلاثة خواتم مطعمة بأحجار الفيروز والعقيق والياقوت. وبينما أنا أنظر إلى ممتلكاتها المادية، تأملتُ في ظروف حياتها وأحداثها وأخذتني رجفة من التعجب إذ تذكرت شجاعتها وحماسها واهتمامها الشديد بأداء الواجب وإخلاصها المطلق. وجالت في خاطري إنجازاتها الأدبية، وحزنت لذكرى سجنها وبلائها والسخرية التي قابلتها بكل ثبات لا يظهر من أي امرأة في بلادها. وتفكرت مليًا في بهجة ذلك الوجه الذي يرقد الآن للأسف تحت التراب والحجارة. وأدفأت قلبي ذكرى فصاحتها الحماسية عندما ردّدتُ تلك الكلمات التي كانت غالبًا تنطق

بها. وكانت سعة علمها وتبحرها في العلوم الشرعية والكتب المقدسة الإسلامية تمرّ على خاطري فتفاجئني وتقلقني. وأكثر من أي شيء آخر، تذكرت وأنا واقفة بجانب صندوقها، ولاءها القلبي للأمر الذي اعتنقته، وإخلاصها في نشر رسالته، والخدمات التي قدمتها لترويجه، والآلام والمصائب التي تحملتها لأجله، والقدوة التي صنعتها لأتباعه، والقوة الدافعة التي أطلقتها لتقدمه ورقيه، والاسم الذي نقشته لنفسها على صفحات قلوب مواطنيها، مرت كل تلك الذكريات بخاطري وتعجبت من الحافز الذي دفع امرأة بعظمتها لنبذ الغنى والمقام الرفيع اللذين أحاطا بها لتعلن ولاءها لدعوة شاب مغمور من شيراز. وفكرت في نفسي، ما سرّ تلك القوة التي انتزعتها من بيتها وأهلها ورعتها وحفظتها طيلة حياتها العاصفة، وقادتها أخيرًا إلى حتفها؟ وتساءلت في نفسي هل كانت هذه القوة صادرة عن الله؟ وهل كانت اليد الغيبية الإلهية هي التي ترشدها وتوجهها وتمخر بها في خضم مخاطر حياتها؟

وفي اليوم الثالث من شهادتها(1) جاءت المرأة التي أخبرتني مقدمًا بمجيئها وسألتها عن اسمها، ولما علمت أنه مطابق للذي أخبرتني به الطاهرة، سلّمتها الرزمة التي ائتمنتُ عليها. ولم أكن قد رأيت هذه المرأة من قبل، ولم أرها بعد ذلك.﴾(2)

وكان اسم الطاهرة، تلك السيدة الخالدة، "فاطمة" وهو الاسم الذي سمّاها به والدها. وكنيتها "أم سَلَمَة" عند أهلها ومعارفها، وكذلك دعوها ﺑ"الزكية". وكانت ولادتها سنة 1233ﻫ(3) وهي نفس السنة التي شهدت مولد حضرة بهاءالله. وبلغت من العمر ستة وثلاثين سنة حين استشهادها في طهران. ولعل الأجيال القادمة تتمكن من كتابة سيرة كاملة عن تاريخ حياتها التي فشل معاصروها في تقديرها حق قدرها. ولعل المؤرخين في المستقبل يدركون تمامًا مدى تأثيرها، ويدونون تلك الخدمات الفريدة التي قدمتها لوطنها ومواطنيها. ولعل المؤمنين بالدين الذي خدمته بامتياز يبذلون الجهد في اتّباع مثلها

________________________
(1) أغسطس/آب سنة 1852م.

(2) انظر مجلة الجمعية الآسيوية الملكية، سنة 1889م، المقالة 6، الصفحة 492.

(3) سنة 1817-1818م.

الأعلى ويستذكرون مآثرها ويجمعون كتاباتها ويكشفون أسرار أفكارها ويرسخون للأبد ذكراها ومحبتها في قلوب أهل الأرض وشعوبها.(1)

________________________

(1) ’وقد كرّس الجمال والأنوثة نفسيهما أيضًا لخدمة العقيدة الجديدة، وكانت زرين تاج، شاعرة قزوين الجميلة، سيئة الحظ، قد طرحت الحجاب وحملت شعلة تبليغ الأمر الجديد إلى أقصى الأطراف. وتلك البطولة هي من أقوى أحداث التاريخ الحديث تأثيرًا.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 1، الصفحة 497، الحاشية 2) ’ولم تُعزّ ذكرى بعمق ذكراها، ولم تُشعِل ذكرى حماسًا أعظم من ذكراها، ولا تزال تمارس نفوذها، الذي استخدمته ببراعة، على بنات جنسها.‘ ("مسألة الشرق الأوسط" لڤالنتين شيرول، الصفحة 124) ’وظهور امرأة مثل قرة العين، في أي بلد أو أي عصر، هو من الظواهر النادرة، وأما ظهورها في مملكة مثل إيران، فهو أعجوبة، بل يكاد يكون معجزة. فقد اجتمعت فيها عفة الجمال الرائع والمواهب العقلية الفريدة والبلاغة الحماسية والإخلاص الشجاع وتوجت الخصال باستشهاد مجيد، فوقفت بين بنات وطنها شامخة فريدة خالدة. ولو لم يكن للدين البابي من دواعي العظمة سوى أنه أنجب بطلة مثل قرة العين، لكفاه.‘ ("مقالة سائح" الحاشية كيو، الصفحة 213) ’وأبرز الشخصيات في هذه الحركة (البابية) بأسرها تكاد تكون الشاعرة قرة العين. فقد اشتهرت بعفتها وتقواها وعلمها وأخيرًا اعتنقت دعوة الباب بعد أن قرأت بعض آياته ونصائحه. واشتد إيمانها إلى درجة أنها، رغم ثروتها ونبل منشئها، تركت الجاه والأطفال والاسم والمكانة لأجل خدمة مولاها ونشر أمره... وكان جمال بيانها بدرجة أنه جذب الضيوف من حفل قران ليستمعوا إليها بدلاً من الموسيقى التي أعدها المضيف. أما أشعارها فمن أعظم الأشعار في اللغة الفارسية في قوة التأثير.‘ ("الومضة" للسير فرانسيس يونگهزبند، الصفحتان 202-203) ’وبالنظر إلى الحياة القصيرة التي عاشتها قرة العين، فإن المرء يندهش من حماسها المتأجج وانقطاعها التام عن ملذات الدنيا. ففي الحقيقة كان هذا العالم بالنسبة إليها مجرد حفنة من التراب، كما قيل عن القدوس. كانت خطيبة بليغة متمرسة في أعقد أنظمة الشعر الفارسي. ومن أشعارها القليلة التي نُشرت، تلك التي تكتسب أهمية خاصة لأنها تعبر عن الاعتقاد في شخص "إلهي-بشري" (نسميه هنا الرب) وعندما يُظهِر دعوته يلقى استجابة عامة. فمن يكون ذلك الشخص يا ترى؟ ويبدو أن قرة العين استبطأت إظهار دعوته. فهل يمكن أن يكون هناك شخص تفكر فيه سوى بهاءالله؟ فكانت الشاعرة بهائية حقًا.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحتان 114-115) ’إن الغرس الذي زرعته قرة العين في البلاد الإسلامية ابتدأ يثمر الآن ويظهر. وتفيد رسالة موجهة إلى صحيفة كريستيان كومنولث في يونيو/حزيران الماضي، بأن أربعين سيدة تركية، من المطالبات بحق المرأة في الاقتراع، قد نفين من إسطنبول إلى عكاء (التي كانت لمدة طويلة سجن بهاءالله). ففي السنوات القليلة الماضية ابتدأت أفكار المطالبة بحق المرأة في الاقتراع بالانتشار خفية داخل أوساط الحريم. وكان الرجال غير عالمين بها. بل كان كل الناس غير عالمين بها. والآن شرع الطوفان يندفع، ويعتقد رجال إسطنبول بضرورة اتخاذ إجراءات مشددة. فقد نُظَمت أندية للمطالبات بحق المرأة في الاقتراع وكُتبت ووزعت مذكرات بارعة بمطالبهن، وصدرت مجلات نسوية ذات مقالات بديعة، وعقدت اجتماعات عامة. وذات يوم قامت عضوات تلك الأندية، وعددهن نحوًا من أربعمائة امرأة، بنزع الحجاب. فبهرت الطبقة الرزينة المتحجرة من المجتمع، وذعر المسلمون الحقيقيون، وأجبرت الحكومة على التحرك. فقسموا الأربعمائة امرأة من دعاة ↓

ومن الشخصيات البارزة من بين تلاميذ حضرة الباب الذي لقي منيّته في أيام الاضطراب الذي حصل حين ذاك في طهران، السيد حسين اليزدي، الذي كان كاتبًا لوحي حضرة الباب في قلعتَي ماه كو وچهريق. وكانت اطلاعاته في تعاليم الأمر واسعة لدرجة أن حضرة الباب أشار في لوح إلى ميرزا يحيى بأن يرجع إلى السيد حسين للاسترشاد في كل ما يتعلق بالكتابات المقدسة. كان رجلاً صاحب مكانة وخبرة كسب ثقة حضرة الباب الكاملة في كل أعماله وكانت له علاقة وثيقة بحضرته. وانتهى به الأمر في هذه السنة بالسجن الطويل تحت الأرض في سرداب طهران ثم بالاستشهاد. وكان حضرة بهاءالله قد ساعده كثيرًا في تخفيف وطأة الآلام والمتاعب التي كان يرزح تحتها وكان يرسل له في كل شهر بانتظام ما يحتاجه من المصاريف حتى يوم استشهاده. وكان كل من يراه

_____________________________________________________________________

الحرية إلى مجموعات عديدة. ونفيت إحدى المجموعات، والمؤلفة من أربعين امرأة، إلى عكاء وسيصلنها خلال بضعة أيام. والجميع يتحدث في هذا الأمر، ومن المدهش حقًا أن ترى كثرة أولئك المؤيدين لرفع الحجاب عن وجوه النساء. وكثير من الرجال الذين تحدثت معهم لا يعتقدون أن ذلك التقليد قديم فحسب، بل كابت للفكر أيضًا. وأرادت السلطات التركية أن تطفئ نور الحرية ذاك، ولكنها فاقمت اشتعاله، وساعد إجراؤها المستبد على خلق رأي عام أوسع نطاقًا وازدياد تفهم هذه المسألة الحيوية.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحتان 115-116) ’... أما المبلغة الأخرى، وهي المرأة التي أشير إليها، فقد أتت إلى قزوين. وهي بكل تأكيد إحدى أكثر مظاهر الدين البابي سحرًا أخاذًا، فضلاً عن أنها موضع احترام شديد لدى البابيين.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 136) ’وكان عديدون ممن عرفوها وسمعوها في أوقات مختلفة من حياتها، يذكرون أنها فضلاً عما اشتهرت به من العلم والغزارة في الخطب، فإن إلقاءها كان من السهل الممتنع، وكان الناس أثناء حديثها يشعرون بتأثيره في أعماق قلوبهم فتمتلئ بالإعجاب وتنهمر دموعهم من الآماق.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 150) ’ومع إن المسلمين والبابيين يذكرون بأجل العبارات جمال "قرة العين"، فإنه مما لا نزاع فيه أن ذكاء هذه المرأة الشابة وأخلاقها كانت أروع مما روي عنها. وإذ كانت تستمع، بشكل يومي تقريبًا، إلى المحادثات العلمية، فقد تولد لديها شغف عميق بها منذ سن مبكرة، وهكذا أصبحت مقتدرة تمامًا على متابعة المجادلات والمحاورات العميقة فيما بين والدها وعمها وابن عمها، الذي أصبح الآن زوجها، بل صارت تتحاور معهم وتدهشهم أحيانًا بقوة عقلها الحاد. فليس من المعتاد، في المجتمع الإيراني رؤية امرأة تهتم بالمساعي الفكرية، ولكن ذلك يحدث أحيانًا. ولكن العجيب حقًا أن تجد امرأة بمقدرة "قرة العين". فلم تصل في معرفتها باللغة العربية إلى درجة استثناية في الكمال فحسب، بل إنها أصبحت متميزة أيضًا في معرفة الأحاديث الإسلامية وفي التفاسير المختلفة لآيات القرآن وكتابات كبار المؤلفين. واعتُبرت في قزوين بحق أنها معجزة.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 137)

يعجب به ويمدحه حتى السجانون الموكلون به. فمدة صحبته الطويلة مع حضرة الباب في أيامه الأخيرة العاصفة جعلته عميق التفكير ووهبت روحه قوة قدّر لها أن تتكشف بازدياد بمرور الزمن واقتراب أيام حياته الأرضية من نهايتها. ورقد في السجن يرتقب لحظة يطلب فيها بأن يلقى منيته بالطريقة التي لقيها مولاه. وإذ لم يمنح شرف الاستشهاد في اليوم نفسه الذي استشهد فيه حضرة الباب كما كانت أعز أمانيه، أصبح ينتظر بفارغ الصبر مجيء الساعة التي يرتشف فيها بدوره تلك الكأس حتى الثمالة. وكثيرًا ما حاول كبار المسؤولين في طهران أن يقنعوه بقبول عرضهم بإنقاذه من مشاق سجنه ومن احتمال إعدام قاسٍ، ولكنه رفض وظل ثابتًا. وكانت الدموع تنهمر من عينيه دون انقطاع، تلك الدموع التي كان يذرفها لاشتياقه لرؤية ذلك الوجه الذي بدد نوره ظلمات الحبس القاسي في آذربيجان، وطرد ضياؤه برد ليالي شتائه القارس. وأثناء تفكره وهو في ظلمات حجرة سجنه وتذكّره تلك الأيام المباركة التي صرفها في محضر مولاه، أحس بجانبه ذلكم الذي بسناء طلعته البهية، أزال الغم الذي تملك مشاعره. لم يكن مواسيه سوى حضرة بهاءالله نفسه. فكان للسيد حسين شرف البقاء بصحبته إلى ساعة استشهاده. وكانت يد عزيز خان السردار التي امتدت للقضاء على الطاهرة، هي نفس اليد التي أودت بحياة كاتب وحي حضرة الباب وشريك بعض فترات سجنه في آذربيجان. ولا داع لأن أذكر ظروف إعدامه على يد ذلك السردار المجرم. ويكفي أن نقول إنه شرب الكأس التي كان يتمناها ويشتد حنينه لارتشافها بنفس القسوة المخجلة التي عومل بها سلفه من الشهداء.

وأحكي الآن عما أصاب بقية أصحاب حضرة الباب ممن تشرفوا بمشاركة أهوال السجن مع حضرة بهاءالله. فكثيرًا ما سمعتُ من شفتَي حضرته القصة التالية: ﴿إن جميع الذين قضوا نحبهم أثناء تلك العاصفة التي هبت في طهران في تلك السنة المشهودة كانوا مسجونين معنا في سياه چال. وزجّوا بنا في زنزانة واحدة، وكانت أرجلنا مقيدة بالسلاسل، ووضعت حول رقابنا أثقل الأغلال. كان الهواء الذي نستنشقه ملوثًا بأبشع رائحة، والأرض التي جلسنا عليها قذرة وموبوءة بالحشرات. ولم يُسمح لشعاع من النور أن يخترق ذلك السرداب الموبوء أو بتدفئة برده القارس الثلجي. ووضعونا في صفين

واحدًا مقابل الآخر. وقد علّمناهم قراءة بعض آيات كانوا كل ليلة يرتلونها بحماس عظيم، وكان أحد الصفّين يرتل ’قل الله يكفي عن كل شيء‘ ويجيب الصف الثاني ’وعلى الله فليتوكل المتوكلون‘. وكان ترتيل هؤلاء المسجونين وارتفاع أصواتهم المفرحة يملأ الجوّ في ساعات الفجر ويمتلئ السرداب من ترديد الصوت الذي كان يخترق جدرانه فيصل إلى آذان ناصر الدين شاه إذ كان قصره قريبًا من محل سجننا. ويروى أنه كان يصيح قائلاً: ’ما هذه الأصوات؟‘ فيجيبونه: ’هذه أصوات البابيين ومناجاتهم في سجنهم؟‘ ولم يزِد الشاه على ذلك ولم يجتهد أن يمنع الحماس الذي استمر المسجونون على إظهاره رغم فظائع سجنهم.

وذات يوم أرسلوا إلى سجننا لحمًا مشويًا، وأخبرونا أن الشاه أرسله وأمر بتوزيعه على المساجين، وقالوا: ’إنه وفاء لنذر نذره اختار ذلك اليوم ليوزع عليكم جميعًا هذا اللحم.‘ فساد على الأصحاب صمت رهيب وكانوا منتظرين الجواب منّا نيابة عنهم، فأخبرناهم ’إننا نرد هذه الهبة لكم فبإمكاننا الاستغناء عنها.‘ وكان هذا الجواب كافيًا لإهاجة غضب الحراس، لولا أنهم كانوا متلهفين لالتهام اللحم الذي امتنعنا عن لمسه. ورغمًا عن اشتداد الجوع على أصحابنا، لم يقبل أحد منهم أن يمسّه سوى المدعو ميرزا حسين متولي القمّي، الذي تناول شيئًا منه. واختار هؤلاء المسجونون بكل شجاعة وثبات أن يتحملوا ما تعاهدوا عليه دون أي تذمر. وبدلاً من شكواهم من معاملة الشاه، كانت ألسنتهم والحمد لله، تلهج بالشكر الذي كانوا به يخففون من وطأة سجنهم.

وفي كل يوم كان يدخل السجانون وينادون أحد أصحابنا باسمه ويأمرونه بالوقوف ومرافقتهم إلى منصة الإعدام. فبأي اشتياق كان صاحب ذلك الاسم يجيب النداء الرهيب! وإذ يتخلص من قيوده، ينهض ويقترب منا بكل فرح ويعانقنا، وكنا نجتهد أن نسليه بتأكيد الحياة الأبدية في العالم الآخر، ونملأ قلبه فرحاّ وأملاً ونرسله ليحوز تاج الفخر. فكان يعانق بقية المساجين ثم يتقدم لمواجهة الموت بلا خوف ولا وجل كما كان في حال حياته. وبعد استشهاد كل واحد من الأصحاب كان الجلاد يخبرنا بظروف إعدام مسجونه وبالفرح الذي كان يتقبل به آلامه إلى النهاية.

وفي ذات ليلة، أيقظنا قبل طلوع الفجر ميرزا عبد الوهاب الشيرازي الذي كان مقيدًا معنا في سلسلة واحدة. وكان قد ترك الكاظمين وتبَعنا إلى طهران، وهناك قبض عليه وأودع السجن. فسألنا إذا كنّا يقظانين وقصّ علينا رؤياه، قال: ’كنت في هذه الليلة كأني أطير في فضاء لا نهاية لسعته وجماله. ورأيت كأني أرتفع على أجنحة تطير بي حيث أشاء، فامتلأت روحي بسرور يخلب الألباب وكنت أطير وسط هذا الفضاء اللامتناهي بكل سهولة وراحة لا أقدر أن أصفهما.‘ فأجبناه: ’اليوم سيأتي دورك لتضحي بحياتك في سبيل هذا الأمر. فعليك بالثبات والاستقامة إلى النهاية فستجد نفسك مرتفعًا في ذلك الفضاء الذي رأيته في رؤياك وتخترق عوالم السلطنة الأبدية بالسهولة والراحة نفسهما، وتشهد الأفق الأبدي بالسرور ذاته.‘

وفي صبيحة ذلك اليوم، دخل السجّان إلى زنزانتنا ثانية ونادى باسم عبد الوهاب. فقام ورمى قيوده وعانق كل واحد من الأصحاب وأخذَنا في أحضانه وضمّنا بكل محبة إلى قلبه. وفي ذلك الوقت لاحظنا أنه لم يكن في قدمه حذاء، فأعطيناه حذاءنا وتكلمنا معه بكلمات التشجيع والفرح الأخيرة، وودعناه وأرسلناه إلى مكان استشهاده. وجاءنا فيما بعد الجلاد وهو يمتدح بعبارات وهاجة تلك الروح التي أظهرها ذلك الشاب. فكم كان شكرنا لله على هذه الشهادة التي شهد بها الجلاد بنفسه.﴾

ولكن كل هذه الآلام والانتقام القاسي الذي أوقعته السلطات على الذين اعتدوا على حياة مليكهم، لم ترضِ والدته ولم تسكن غضبها. فكانت تصرّ ليل نهار في صخبها وحقدها مطالبة بإعدام حضرة بهاءالله، الذي اعتبرته المدبر الحقيقي للجريمة. وكانت تصيح في وجه أرباب السلطة وتقول: ’سلّموه إلى الجلاد! فأي ذلة أعظم من هذه إذا كنت أنا، والدة الشاه، لا أستطيع أن أعاقب ذلك المجرم العقاب الذي يستحقه على عمل فظيع كهذا.‘ ولكن نداءها للانتقام، الذي أججه حنق عارم، كتب عليه الفشل. ورغمًا عن تدابيرها السيئة، حُفظ حضرة بهاءالله من المصير الذي بذلت جهدها في التعجيل به. وتخلص المسجون أخيرًا من سجنه وتمكن من تأسيس سلطنته خارج مملكة نجلها على شأن لم تكن تحلم به. فكان الدم الذي أريق أثناء تلك السنة المفعمة بالحوادث في

طهران، من عروق أولئك الأبطال الذين كانوا مسجونين مع حضرة بهاءالله، بمثابة الفداء لخلاصه من يد عدو أراد أن يمنعه عن تنفيذ ما أراد الله قضاءه على يده. فمنذ اللحظة الذي اعتنق فيها أمر حضرة الباب، لم يهمل فرصة في سبيل نصرة الأمر الذي اتبعه. فعرّض نفسه للمخاطر التي تعرض لها أتباع الدين في أيامه الأولى. وكان أول مثل أعلى من تلاميذ حضرة الباب بانقطاعه وخدمته للأمر. ومع ذلك فقد نجت حياته رغم تعرضها لمجازفات وأخطار لا بد لها من ملاقاتها، وحفظته يد القدرة الإلهية التي اختارته للمهمة السامية التي وجد حضرته أنه لم يحن بعد وقت إعلانها.

وكان الرعب السائد في طهران أحد الأخطار التي تعرضت لها حياة حضرة بهاءالله. فكان الرجال والنسوة والأطفال يرتعدون إزاء القسوة التي كان العدو يلاحق بها ضحاياه. وكان هناك شاب يدعى عباس، وهو خادم سابق للحاج سليمان خان، مطّلع تمامًا على أسماء تلاميذ حضرة الباب وعددهم ومساكنهم، نظرًا لاتساع دائرة أصدقاء سيده. فاستغله الأعداء كأدة للإرشاد عنهم وتنفيذ مآربهم فيهم. وكان هذا الشاب قد اعتنق الأمر واعتبر نفسه أحد أنصاره المتحمسين. وعند بدء الاضطرابات قُبض عليه وأرغم على إفشاء أسماء كل الذين يعرف عن ارتباطهم بالأمر. واستمالته الحكومة بوعد المكافأة أن يكشف عن أسماء أصحاب سيده، وخوّفه أرباب السلطة وأفهموه أنه لو امتنع من ذلك فإنهم سوف يعذبونه أشد تعذيب. فتعهد لهم بإجابة رغبتهم وبإخبار أعوان الحاج علي خان حاجب الدولة، الفراش باشي، بالأسماء والمساكن. فكانوا يطوفون به في شوارع طهران ويأمرونه بالإشارة إلى كل من يعرف أنه من أتباع حضرة الباب. فكان يشير إلى أشخاص لم يكن يعرفهم ولا قابلهم، وكان المأمورون يسلمونهم إلى أتباع الحاج علي خان، ولأن هؤلاء الأشخاص لم يكن لهم أي علاقة بحضرة الباب ولا بأمره، يتبرأون من أمره ويتمكنون من استرداد حريتهم بعد دفع رشوة كبيرة. وكانت أطماع أتباع حاجب الدولة بدرجة أنهم كانوا يأمرون عباس بأن يشير إلى كل شخص يظنونه قادرًا على دفع مبلغ من المال بصفة فدية لإطلاق سبيله. وكانوا يجبرونه على ذلك تحت التهديد لحياته من خطر عظيم. وكانوا في كثير من الأحوال يعدونه بأن يدفعوا له جزءًا من المبلغ الذي يبتزونه من ضحاياهم.

وقد أخذوا عباس هذا إلى سياه چال، وعرّفوه على حضرة بهاءالله، الذي قابله جملة مرات في صحبة سيده، بأمل أن يخونه. ووعدوه بأن تكافئه والدة الشاه مكافأة عظيمة على هذه الخيانة. فكان في كل مرة يؤخذ لمحضر حضرة بهاءالله، يمكث هنيهة ينظر في وجهه، ثم يترك المكان وينكر سبق معرفته به أو رؤيته له. ولما خاب مسعاهم لجأوا إلى السم بأمل إرضاء والدة الشاه. فكانوا يعترضون الطعام المرسل إلى حضرته من أسرته إليه ويدسّون فيه سمًا آملين أن يقضي عليه. ولم يأتِ هذا التدبير بالنتيجة المرجوة، ولو أنه أضر بصحة حضرة بهاءالله لعدة سنوات.

واقتنع الأعداء أخيرًا بعدم جدوى اعتبار حضرته المحرض الرئيس لمحاولة قتل الشاه، وقرروا تحويل مسؤولية ذلك العمل إلى "عظيم" الذي اتهموه الآن بأنه هو المدبر الحقيقي للجريمة. وبهذه الوسيلة أرادوا أن يحصلوا على رضاء والدة الشاه، وهو ما كانوا يتمنونه ويطمحون لبلوغه. وكان الحاج علي خان مسرورًا من تأييدهم في ذلك. وإذ لم يكن له دور في سجن حضرة بهاءالله، انتهز هذه الفرصة التي سنحت له لاتهام "عظيم"، الذي كان قد قبض عليه بالفعل، بأنه المخطط للجريمة.

وكان السفير الروسي يلاحظ عن كثب تطور الأحداث بواسطة أحد أتباعه، ويستفسر عن حالة حضرة بهاءالله، وأرسل بواسطة مترجمه رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الوزراء احتج فيها على تصرفه واقترح أن يذهب مبعوث بصحبة أحد الأتباع الموثوق بهم من طرف الحكومة ومن طرف حاجب الدولة إلى سياه چال، وهناك يسألون الرئيس المعترف به حديثًا (عظيم) عن رأيه بخصوص موقف حضرة بهاءالله. وكتب في رسالته: ’مهما تكن إفادة ذلك الرئيس، سواء مدحًا أم إدانة، فإني أعتقد أنه ينبغي تدوين ذلك فورًا ليكون أساسًا يبنى عليه الحكم النهائي في هذه القضية.‘

فوعد رئيس الوزراء المترجم أنه سوف يتبع نصيحة السفير وعيّن فعلاً الوقت الذي يصحب فيه ذلك المبعوثُ مندوبَ الحكومة وحاجبَ الدولة إلى سياه چال.

فلما سئل "عظيم" إذا كان يعتبر حضرة بهاءالله هو الرئيس المسؤول للمجموعة التي حاولت الاعتداء على حياة الشاه، أجاب بقوله: ’إن رئيس هذه الطائفة لم يكن سوى

السيد الباب الذي قتل في تبريز والذي دفعني استشهاده للقيام بالانتقام لموته. وإني أنا وحدي الذي دبرت هذه الخطة واجتهدت في تنفيذها. أما الشاب الذي أوقع الشاه عن جواده، فلم يكن سوى صادق التبريزي، وهو عامل في محل حلوى في طهران وكان في خدمتي مدة سنتين. وكان مدفوعًا برغبة أقوى من رغبتي في الانتقام لاستشهاد رئيسه. ولكنه تسرّع وخاب في تحقيق النجاح في محاولته.‘

فدونت هذه الإقرارات من قبل مترجم السفير وممثل رئيس الوزراء، اللذين رفعاها إلى ميرزا آقا خان. وكانت الوثائق التي سلمت ليده سببًا رئيسًا في تخليص حضرة بهاءالله من سجنه.

وبناءً عليه سُلّم "عظيم" ليد العلماء، الذين ولو أنهم كانوا راغبين في سرعة إعدامه، ولكنهم منعوا بسبب تردد ميرزا أبو القاسم، إمام الجمعة في طهران. وبسبب قرب حلول شهر محرم، أقنع حاجب الدولة العلماء بالاجتماع في الطابق العلوي من الثكنات، ونجح في إحضار إمام الجمعة الذي كان لا يزال مصرًا على عدم الموافقة على إعدام "عظيم". وأمر بإحضار المتهم إلى ذلك المكان لينتظر الحكم الذي يصدر ضده. وساروا به في طرقات المدينة بخشونة، محاطًا بالإهانات، عرضة لشتائم السكان. وبواسطة تدبير الحيلة تمكن الأعداء من الحصول على حكم بإعدامه. وهجم عليه سيدٌ شرير بهراوة فشجّ رأسه. وتبعه جمهور الناس الذين ضربوه بالعصي والحجارة والخناجر وشوهوا جسده. وكان الحاج ميرزا جاني ضمن الذين تجرعوا كأس الشهادة في خضم الهياج الذي تبع الاعتداء على حياة الشاه. ونظرًا لعدم رغبة رئيس الوزراء في إيذائه، فقد قُتل سرًا.

وامتدت نيران الهياج من العاصمة إلى المقاطعات المجاورة، وتركت خلفها الدمار والشقاء للعديد من الأبرياء من رعية الشاه. وخرّبت مازندران، موطن حضرة بهاءالله، فكانت إشارة لانطلاق العنف الذي وُجّه بشكل رئيس إلى ممتلكاته جميعها في تلك المقاطعة. واستشهد اثنان من تلاميذ حضرة الباب الأوفياء نتيجة لذلك الاضطراب، وهما محمد تقي خان وعبد الوهاب، وكلاهما من سكان نور.

صورة 198
منظر عام لتاكر في مازندران

وفي غمرة خيبة أملهم، رأى أعداء الأمر أن خلاص حضرة بهاءالله من السجن أصبح مؤكدًا، فعملوا على تحريض مليكهم ليورطه في تعقيدات جديدة تؤدي إلى موته. وساعد على ذلك طيش ميرزا يحيى الذي أراد أن يجعل لنفسه وللعصبة الحمقاء من مؤيديه مقامًا مرموقًا، فانساق بآمال كاذبة على تحقيق أغراضه، ووجد العدوّ بذلك ذريعة أخرى لحثّ الشاه على اتخاذ تدابير قاسية لتدمير ما تبقى للمسجون من نفوذ في مازندران.

وكانت التقارير المخيفة التي يتسلمها الشاه قد حركت فيه ظمأ انتقام رهيب، إذ كان يتعافى من جراحه. فطلب رئيس الوزراء وأنّبه لانعدام النظام والأمن بين أهالي مقاطعته الذين تربطه وإياهم رابطة القرابة. ولاستياء الوزير من توبيخ مليكه أظهر استعداده لتنفيذ كل ما يأمره به. فأمره أن يرسل حالاً إلى تلك المقاطعة بعض أفواج من الجيش مزودين بالأوامر بأن يقمعوا بيدٍ من حديد كل من يقلق الراحة العمومية.

ومع علمه التام بأن التقارير التي رفعت إليه مبالغ فيها، إلا أن رئيس الوزراء وجد نفسه، تحت إصرار الشاه، مضطرًا لإصدار الأمر إلى فوج شاهسون بالتوجه إلى قرية تاكر في

صورة 199
صورة 200

أطلال منزل حضرة بهاءالله وكان ملكًا لوالده الوزير، في تاكر، مازندران

إقليم نور موطن حضرة بهاءالله، وترأس الفوج حسين علي خان شاهسون. وسلّم رئيس الوزراء القيادة العليا إلى يد ابن عمه ميرزا أبو طالب خان، نسيب ميرزا حسن، الذي كان أخًا غير شقيق لحضرة بهاءالله. وحثه ميرزا آقا خان على اتخاذ الحيطة والحذر أثناء نزوله بتلك القرية قائلاً: ’إن أي إفراط يرتكبه رجالك سوف يؤثر سلبًا على هيبة ميرزا حسن ويسبب الأحزان لأختك.‘ وأمره أن يتفحص طبيعة هذه التقارير، وألا يعسكر أكثر من ثلاثة أيام بالقرب من تلك القرية.

وبعد ذلك استدعى رئيس الوزراء حسين علي خان ونصحه بأن يتصرف بحذر شديد وحكمة بالغة، وقال له: ’إن ميرزا أبو طالب لا يزال صغير السن قليل الخبرة. وقد اخترته خصيصًا لقرابته من ميرزا حسن. وأعتقد أنه، لأجل أخته، سيمتنع عن إيذاء سكان تاكر دون داع. وبما أنك أكبر منه سنًا وأوسع منه خبرة فعليك أن تكون قدوة نبيلة له وأن تؤكد عليه ضرورة خدمة مصالح الحكومة والأهالي معًا. ولا تسمح له مطلقًا بأن يتخذ أي إجراء دون أن يتشاور معك مسبقًا.‘ وأكد لحسين علي خان أنه أصدر التعليمات الخطية إلى زعماء ذلك الإقليم لمعاونته على أداء مهمته كلما اقتضى الحال.

وإذ امتلأ ميرزا أبو طالب خان غرورًا وحماسًا، نسي نصائح الاعتدال التي أسداها إليه رئيس الوزراء. وامتنع عن التأثر بالمناشدات الحثيثة من حسين علي خان بوجوب الامتناع عن افتعال صدام غير ضروري مع الأهالي. وما كاد يصل إلى الممر الذي يفصل إقليم نور عن المقاطعة المجاورة التي لا تبعد كثيرًا عن تاكر، حتى أمر رجاله أن يستعدوا لهجوم على سكان تلك القرية. فجرى إليه حسين علي خان يائسًا ورجاه أن يمتنع من مثل هذا العمل، فأجابه ميرزا أبو طالب بصلف: ’إن هذا من شأني، وأنا رئيسك ولي أن أعمل كل تدبير أخدم به مليكي.‘

فشُنّ هجوم فجائي على أهالي تاكر المساكين. وإذ فوجئوا بهذا الهجوم الشرس، توسلوا إلى ميرزا حسن الذي طلب مقابلة ميرزا أبو طالب، ولكنه لم يجب إلى طلبه. وكان رد هذا القائد: ’أخبروه أني مكلف من مليكي أن أذبح جميع سكان هذه القرية وأن أقبض

على نسائها وأصادر أملاكها، ولكن إرضاء لخاطرك فإني مستعد أن أصفح عن أي امرأة التجأت إلى منزلك.‘

ولشدة سخط ميرزا حسن من هذا الرفض وبّخه على عمله بشدة ورجع إلى منزله ناقمًا على عمل الشاه. وترك رجال تلك القرية مساكنهم والتجأوا إلى الجبال المجاورة. أما نساؤها اللائي تركن لقدرهن فالتجأن إلى منزل ميرزا حسن وتضرعن إليه أن يحميهن من الأعداء.

وكان أول عمل قام به ميرزا أبو طالب موجهًا ضد منزل حضرة بهاءالله الذي ورثه عن والده الوزير، وكان مالكه الوحيد. وقد فرش هذا المنزل بأثاث فاخر وزين بأواني لا نظير لها. وأمر رجاله بفتح كل خزائنه واستولى على محتوياتها. أما الأشياء التي لم يقدر على حملها فأمر بإتلافها، فكسر بعضها وأحرق الأخرى. وحتى الغرف التي كانت مزينة بزينة أفخر من قصور طهران فقد شوّهت بحيث لا يمكن إصلاحها وأحرقت أسقفها وخربت زينتها تمامًا.

ثم تحول بعد ذلك إلى منازل الأهالي وهدمها وسوّاها بالأرض بعد أن نهب هو ورجاله ما فيها من أشياء ثمينة. ثم أشعل النار في القرية بالكامل بعد نهبها وفرار رجالها، وإذ لم يجد أمامه رجالاً أقوياء أمر بالبحث عنهم في الجبال المجاورة. وكان كل من يوجد يضرب بالرصاص أو يؤخذ أسيرًا. ولم يقع تحت أيديهم سوى عدد صغير من المسنين والرعاة الذين لم يتمكنوا من مواصلة هروبهم من وجه الأعداء. ووجدوا رجلين راقدين بعيدًا على سفح جبل بجوار جدول ماء جار. وكانت أسلحتهما التي لمعت تحت أشعة الشمس قد كشفتهما. وإذ وجدوهما نائمين أطلقوا عليهما الرصاص من ضفة الجدول المقابلة. وتعرفوا عليهما فكانا عبد الوهاب ومحمد تقي خان. وقد قتل الأول وأما الثاني فجرح جرحًا بليغًا. فحملوهما إلى ميرزا أبو طالب الذي عمل جهده في إبقاء الجريح حيًا حتى يعود به إلى طهران علامة على انتصاره لأنه كان مشهورًا بشجاعته. ولكن جهوده خابت لأن محمد تقي خان توفي بعد يومين متأثرًا بجراحه. وأما الرجال القليلون الذين تمكنوا من أسرهم فوضعوا في الأغلال وساقوهم إلى طهران وألقوا بهم في السرداب نفسه

الذي كان حضرة بهاءالله محبوسًا فيه. وكان من بينهم الملاّ علي بابا الذي هلك في ذلك السرداب، كغيره من المساجين، بسبب المشاق التي تحمّلها.

وفي السنة التالية أصيب ميرزا أبو طالب بالطاعون، وأخذ إلى شميران بحالة مزرية. وبقي طريحًا على فراش المرض وتجنبه كل أقاربه ولم يعتنِ به أحد سوى ميرزا حسن، وهو من كان قد تكبّر عليه وسبقت له إهانته، فعالج قروحه ورافقه أيام وحدته وذلته. ولما حضرته المنية زاره رئيس الوزراء ولم يجد بجانبه أحدًا سوى ذلك الذي عامله بأقسى معاملة. وفي ذلك اليوم بالذات قضى ذلك الطاغية التعيس نحبه وهو مغموم من عجزه عن بلوغ آماله التي كان يعمل على تحقيقها.

وكان ذلك الاضطراب الذي أنشب مخالبه بطهران، وتأثرت به نور والإقليم المحيط بها، قد انتشر وامتد حتى وصل يزد ونيريز، حيث قُبض على الكثيرين من تلاميذ حضرة الباب واستشهدوا بطريقة وحشية. وقد أحست إيران بأسرها بهزة هذا الاضطراب الذي طال طوفانه أقصى القرى في الأقاليم النائية، وجلب في أعقابه بلايا لا تحصى أصابت البقية الباقية من الطائفة المضطهدة. وكان الحكام، مثلهم مثل مرؤوسيهم، مسوقين بالأطماع وحب الانتقام، فانتهزوا الفرصة ليحصلوا على الغنى والثروة ويرضوا مليكهم. ودون رحمة أو اعتدال أو حياء، استخدموا أي وسيلة مهما كانت دنيئة أو غير قانونية للحصول على منافع يستنزفونها من الأبرياء. فكانوا يلقون القبض على كل من يتهمونه بأنه بابي ويحبسونه ويعذبونه متناسين كل مبادئ العدل والإنصاف، ويسرعون بإخبار ناصر الدين شاه في طهران بالنصر الذي أحرزوه على خصمهم البغيض.

وظهرت آثار ذلك الاضطراب بشكلها الكامل في نيريز في المعاملة التي لقيها أتباع حضرة الباب على أيدي حكام المدينة وأهاليها. فبعد مرور شهرين من الاعتداء على حياة الشاه، اكتسب شاب يدعى ميرزا علي تميزًا بما أسداه من المواساة والعناية التامة بعائلات البقية الباقية من ملحمة نيريز التي انتهت باستشهاد وحيد وأصحابه. ولشجاعته الفائقة أثناء تلك الأيام لقب ﺑ"علي السردار". وكثيرًا ما شوهد يخرج من ملتجئه في غسق الليل ويحمل ما يستطيع حمله من عون للأرامل والأيتام الذين كانوا يقاسون الشدائد جراء تلك

صورة 201
منظر آباده

المأساة. وكان يوزع على المحتاجين الطعام والملابس بكرم نبيل، فيخفف من آلامهم ويواسيهم في أحزانهم. وكان منظر المعاناة المستمرة التي يقاسيها هؤلاء الأبرياء قد أثارت استهجانًا شديدًا لدى بعض أصحاب ميرزا علي، الذين قرروا صب جام انتقامهم على زين العابدين خان، الذي كان لا يزال مقيمًا في نيريز، واعتبروه مسبب شقائهم، ولظنهم بأنه لا يزال في قلبه رغبة في إذلالهم أكثر من ذي قبل، عزموا على قطع دابره، ففاجأوه في الحمّام العمومي ونجحوا في مقصدهم. وتسبب ذلك في حصول اضطراب جديد، أعاد ذكرى رعب مذابح زنجان.

وحرضت أرملةُ زين العابدين خان الحاكمَ الجديد، ميرزا نعيم الذي استلم زمام السلطة، وكان قاطنًا في شيراز، على الانتقام لدم زوجها ووعدته بأنها في مقابل ذلك تعطيه كل مجوهراتها وأن تهبه ما شاء من ممتلكاتها. وبطريق الخيانة تمكنت السلطات من القبض على جم غفير من أتباع حضرة الباب، وضرب الكثيرون منهم بطريقة وحشية. وزُجوا في السجن بانتظار وصول تعليمات من طهران. وكان رئيس الوزراء قد عرض

قائمة الأسماء التي وردت له مع التقرير المرفق بها للشاه الذي أظهر رضاءه التام من النجاح الذي حققه مندوبه في شيراز، ومن الخدمة الجليلة التي كافأه عليها للغاية. وأمر بإرسال المعتقلين إلى العاصمة.

ولن أحاول أن أدون الظروف العديدة التي أدت إلى المذبحة التي تمت بها هذه المأساة. بل أحيل القارئ إلى الرواية المفصلة التي نمّقها يراع ميرزا شفيع النيريزي في كتيب خاص، ويشير فيها بالدقة والقوة إلى كل تفاصيل هذه الحادثة المؤثرة. ويكفي أن نقول إن الذين استشهدوا فيها لا يقلون عن مائة وثمانين من تلاميذ حضرة الباب البواسل. وبلغ عدد الجرحى مثلهم، ورغم إصاباتهم البليغة فقد أمروا بالرحيل إلى طهران. ولم ينج من الهلاك في الطريق إلى العاصمة سوى ثمانية وعشرون نفرًا. ومن بين هؤلاء الثمانية والعشرين أخذوا خمسة عشر إلى منصة الإعدام في يوم وصولهم. وطُرح الباقون في السجن ومكثوا فيه سنتين يعانون الفظائع الرهيبة. ورغمًا عن الإفراج عنهم أخيرًا قضى أغلبهم نحبهم أثناء الرجوع إلى موطنهم نظرًا لإنهاك قواهم من آلام السجن الطويل والأسر القاسي.

صورة 202
حديقة الرحمن، مدفن رؤوس شهداء نيريز

وذبح الكثيرون من أقرانهم في شيراز بأمر طهماسب ميرزا، ووضعت رؤوس مائتين من هؤلاء على الحراب، وحملها الظالمون في موكب النصر إلى قرية آباده في فارس. وكانوا ينوون حملها إلى طهران، ولكن أحد مبعوثي الشاه أمرهم بترك هذا العمل، ومن ثم عزموا على دفن الرؤوس في تلك القرية.

أما النسوة اللائي بلغ عددهن ستمائة، فأفرج عن نصفهن في نيريز وأخذ النصف الآخر على ظهور الخيول كل اثنتين على جواد بلا سرج إلى شيراز، وبعد أن أوسعوهن أشد أنواع العذاب تركوهن لمصيرهن. وهلك أغلبهن في الطريق إلى تلك المدينة وبعضهن أسلمن الروح من اشتداد العذاب الذي كنّ يتحملنه قبل الإفراج عنهن. إن القلم ليجمد ويضج ذعرًا في محاولة وصف ما أصاب أولئك الرجال والنسوة الأبطال في سبيل دينهم. وإن تلك الوحشية الفاجرة التي اقترنت بالمظالم التي ارتكبت بحقهم، وصلت إلى أحط درجات الخسّة والسفالة في الأدوار الختامية لتلك المأساة المأسوف عليها. وما حاولت أن أصفه من فظائع حصار زنجان والإهانات التي حلت بالحجة وأصحابه يتضاءل أمام القسوة التي ارتكبت بها الفظائع فيما بعد أثناء السنوات القليلة التالية في نيريز وشيراز. وربما يوجد قلم أقوى وأقدر من قلمي، ويتمكن من وصف تفاصيلها المحزنة المبكية، وتدوين تلك الرواية التي رغمًا عن رهبة فصولها ستبقى إلى الأبد أعظم البراهين على صحة أمر حضرة الباب والإيمان الذي تمكن من غرسه في قلوب أصحابه.(1)

________________________

(1) ﴿ومن العجب أنهم كانوا يحترمون النسوة اللائي جمعوهن وساروا بهن إلى جبل بيابان. وكان من ضمن الأسرى رجلان مسنّان لا قدرة لهما على القتال، أحدهما الملاّ محمد موسى، وهو قصّار نسيج، والمشهدي باقر، وهو صبّاغ. وقد قتلوا هذين الرجلين. فكان الذي قتل المشهدي باقر هو علي بيك، نقيب جنود نيريز، فقطع رأس ضحيته وأعطاه إلى طفل. ثم أخذ بنت أخي الضحية ووضع على رأسها نقابًا أسود إلى أن أحضرها عند ميرزا نعيم. وكان هذا على جبل بيابان جالسًا على حجر في حديقة. ولما وصل إليه علي بيك رمى رأس باقر عليه، ثم دفع بالطفلة نحوه بخشونة فسقطت على وجهها، وصاح قائلاً: ’قد عملنا كل ما أردتم حتى لم يبق بابي واحد!‘ ومليء فم الآخوند الملاّ عبد الحسين بالتراب بناء على أمر ميرزا نعيم، وأطلق أحد الغلمان طلقة نارية على رأسه ولكن الجرح لم يكن مميتًا. وكان هناك نحوًا من ستمائة وثلاث نساء ممن قبض عليهن وساروا بهن مع باقي المسجونين لغاية المطحنة المسماة ﺑ"التخت"، قريبًا من نيريز. ويحكي أحد المؤلفين الرواية الآتية للدلالة على شدة بطش المنتصرين قال: ’كنت حديث السن وكنت أتبع ↓

____________________________________________________________________

والدتي، وكان معها أخ لي يصغرني. وكان شخص يدعى أسد الله قد أخذ أخي وحمله على كتفيه، وكان على رأس الطفل قلنسوة مزركشة. ورأى القلنسوة أحد الخيالة، فاقتلعها من رأسه بشدة وتوحش حتى إنه أخذ الطفل معه معلقًا من شعره. وتدحرج الطفل بعيدًا نحوًا من عشرة أقدام، فرأته أمي المسكينة مغشيًا عليه. ولن أطنب في الحديث عن الأهوال التي تلت هذا الانتصار. بل يكفي أن تعلم أن ميرزا نعيم امتطى جواده وسار أمامه وخلفه رجال حاملين رماحًا علقت عليها رؤوس الشهداء. وكانوا ينخسون الأسرى بالسوط والسيف، ويزجون بالنساء إلى الخنادق المملوءة بالماء. وقضوا الليلة في خان في شيراز. وفي الصباح أخرجت النسوة عرايا تمامًا، فرُفسن ورُجمن وجُلدن وبُصق عليهن. ولما تعب معذبوهن وضعوهن في مدرسة في تلك المنطقة ومكثن فيها عشرين يومًا يعانين الإهانة والاعتداء عليهن باستمرار. وربطوا ثمانين من البابيين، كل عشرة معًا، وأوكلوهم إلى حراسة مائة جندي متوجهين إلى شيراز. وتوفي السيد مير محمد عبد من شدة البرد في خانة گرد، وتوفي آخرون بعد ذلك بقليل. وكان الحراس من حين لآخر، يقطعون رأس أحدهم. وأخيرًا دخلوا شيراز عبر بوابة سعدي. وعرضوا المساجين في الشوارع ثم أودعوهم السجن. أما النسوة فأخرجوهن من مبنى المدرسة بعد عشرين يومًا وقسموهن إلى مجموعتين. أفرجوا عن مجموعة منهن، وأما المجموعة الأخرى فأرسلت إلى شيراز مع أسرى آخرين قبضوا عليهم مؤخرًا. وإذ وصلوا إلى شيراز قسموا القافلة إلى قسمين أيضًا، فأرسلوا النسوة إلى خان الشاه مير علي حمزة، وأرسلوا الرجال إلى السجن مع بقية البابيين. وصادف اليوم التالي عيد عام. وأمر الحاكم، الذي كان محاطًا بأعيان مدينة شيراز جميعهم، بإحضار الأسرى أمامه. وكان هناك شخص اسمه جلال من نيريز كان نعيم يسميه بلبل، فكشف هذا أسماء مواطنيه، وأول بابي ظهر أمامهم كان اسمه الملاّ عبد الحسين فأمروه بشتم الباب، فلما امتنع قطعوا رأسه. ثم جاء الحاج ابن أصغر، وعلي گرم سيري، وحسين ابن هادي خيري، وصادق ابن صالح، ومحمد ابن محسن وجميعهم قتلوا. وأطلق سراح النسوة وأعيد بقية الرجال الأحياء إلى السجن. ولما طلب الشاه إرسال الأسرى، أرسلوا ثلاثة وسبعين نفرًا إلى طهران. وتوفي منهم اثنان وعشرون في الطريق، ومن بينهم الملاّ عبد الحسين توفي في سَيدان، وعلي ابن الكربلائي زمان في آباده، وأكبر ابن الكربلائي محمد في قِناره، وحسن ابن عبد الوهاب والملاّ علي أكبر في إصفهان، والكربلائي باقر ابن محمد زمان، وحسن وأخوه ذو الفقار، والكربلائي نقي وابنه علي، وولي خان، والملاّ كريم، وأكبر رئيس، وغلام علي ابن پير محمد، ونقي ومحمد علي ابنيّ محمد، قضوا نحبهم أيضًا أثناء الرحلة. ووصل الباقون إلى طهران، وفي يوم وصولهم قتلوا منهم خمسة عشر، كان بينهم آقا سيد علي، الذي ظنّوه ميتًا، والكربلائي رجب الحلاق، وصفيّ الدين، وسليمان ابن الكربلائي سلمان، وجعفر، ومراد خيري، وحسين ابن الكربلائي باقر، وميرزا أبو الحسن ابن ميرزا تقي، والملاّ محمد علي ابن آقا مهدي. وتوفي ثلاثة وعشرون شخصًا في السجن، وأفرج عن ثلاثة عشر بعد ثلاث سنوات، ولم يبق في طهران سوى الكربلائي زين العابدين، وهذا توفي بعد فترة قصيرة.﴾ ("السيد علي محمد الباب" لنقولاس، الصفحتان 421-424). ’وبعد أن قام مضطهدوهم باعتقال الرجال وقتلهم، اعتقلوا أيضًا أربعين من النساء والأطفال وقتلوهم بالطريقة الآتية: وضعوهم في وسط مغارة وجمعوا كمية كبيرة من الحطب وصبّوا النفط على حزم العصيّ التي وزعوها هنا وهناك ثم أشعلوا فيها النار. وروى أحد الذين ارتكبوا هذه الفعلة ما يلي: ’’صعدت الجبل بعد يومين أو ثلاثة وخلعت باب المغارة، فرأيت أن النيران خمدت إلى كومة رماد، ولكن النسوة جميعهن كن جالسات كل منهن في ركن ويحملن أطفالهن في حجورهن وقد قعدن حول دائرة بالكيفية نفسها التي تركناهن عليها، ↓

____________________________________________________________________

وسقطت رؤوس بعضهن على ركبهن من الأسى، وكلهن حافظات لشكلهن الأول. فامتلأت دهشة إذ ظننت أن النار لم تحرقهن. وبشعور من القلق والرهبة دخلت، فرأيت أنهن قد احترقن جميعهن وتفحّمن إلى رماد، ولم يكنّ قد تحركن من أماكنهن حتى تنهار أجسادهن. إلا أنني بمجرد أن لمستهن بيدي سقطن رمادًا. ولما رأينا هذا المنظر تأسفنا جميعنا على ما فعلنا. ولكن ماذا ينفع الندم؟‘‘ ‘ ("التاريخ الجديد"، الصفحات 128-131). ويشير مؤلف "التاريخ الجديد" في نهاية سرده لهذه الرواية إلى كيفية انطباق النبوءة على هذه الأحداث حرفيًا، تلك النبوءة المذكورة في الحديث المشير إلى علامات ظهور الإمام المهدي والقائل: ’عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب، فيذل أولياؤه في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيُقتلون ويُحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل والرنة في نسائهم. أولئك أوليائي حقًا.‘ [وهذا الحديث المسمى بحديث جابر مقتطف أيضًا من كتاب "الكافي"، أحد مجاميع الحديث المعتبرة عند الشيعة وذكر في "كتاب الإيقان".] ﴿وعندما كنت في يزد في بداية صيف سنة 1888م تعرفت ببابي ذي منصب مرموق في خدمة الحكومة، وكان اثنان من أسلافه قد لعبا دورًا بارزًا في إخماد عصيان نيريز. ومما أخبرني به في هذا الخصوص، وكتبته في مذكراتي ليوم 18 مايو سنة 1888م مختصرًا لما قاله: ’إن جدي لأمي، مِهر علي خان، شجاع المُلك، وعمي الكبير ميرزا نعيم، شاركا بفعالية في حرب نيريز، ولكن إلى جانب الأعداء. ولما جاءت الأوامر لشيراز لقمع العصيان، صدر الأمر إلى جدّي بقيادة الحملة التي أرسلت لهذا الغرض. ولم يود المأمورية التي عهدت إليه وأفضى إلى اثنين من العلماء بتردده بقبولها. فأكدا له أن الحرب التي سيقوم بها هي عمل مقدس يتفق والدين، وأنه سيأخذ أجره في الجنة. فذهب وحصل ما حصل. وبعد أن قتلوا سبعمائة وخمسين رجلاً، أسروا النساء والأطفال وخلعوا عنهم ملابسهم وأركبوهم على الحمير والبغال والجمال وساروا بهم وسط صفوف من رؤوس آبائهم وإخوتهم وأبنائهم وأزواجهم التي قطعت من الجثث في طريقهم إلى شيراز. وعند وصولهم وضعوهم في خان خرب خارج بوابة إصفهان، في مقابل مقام الإمام زاده. واستقر حراسهم تحت بعض الأشجار قريبًا منهم. فمكثوا هنا مدة طويلة، وكانوا فيها موضع الإهانة والصعاب وتوفي كثير منهم. والآن انظر قصاص الله الذي وقع على الظالمين. فإن كل واحد من المسئولين عن هذه الأعمال الوحشية، كانت له نهاية سيئة جدًا ومات في كرب شديد ومصائب جمة. ووقع جدي مهر علي خان مريضًا وفقد حاسة السمع حتى يوم وفاته. وفي الوقت الذي كان يفارق فيه الحياة، لاحظ الذين حوله من حركة شفتيه أنه يهمس شيئًا. فانحنوا ليلتقطوا كلماته الأخيرة فسمعوه يقول بصوت خافت: ’بابي! بابي! بابي!‘ ثلاث مرات ثم سكت ومات. أما عمي الكبير ميرزا نعيم فقد غضبت عليه الحكومة وتغرم مرتين: عشرة آلاف تومان في المرة الأولى، وخمسة عشر ألف تومان في المرة الثانية. ولم يقف عقابه عند ذلك الحد بل حُكم عليه بأن يقاسي أنواعًا من العذاب، فوضعت يداه في "الإلچك" (ويحصل التعذيب بوضع قطع خشبية بين أصابع الضحية وتربط بالحبال جيدًا. ثم يصب الماء البارد على الحبال لتنمكش) ورجلاه في "تنگ قاجار" (أو ضغط القاجار، وهي آلة تعذيب تشبه "الحذاء" الذي كان يستعمل في إنگلترا يومًا ما، وتدين إيران إلى سلالة القاجار التي بدأت باستعماله وهي السلالة الحاكمة في الوقت الراهن). ثم أوقف تحت أشعة الشمس عاري الرأس ومسحوا رأسه بالدبس لجذب الذباب إليه، وبعد تعذيبه بهذه الأنواع وغيرها مما هو أقسى وأذل، طرد من الخدمة ذليلاً لا يملك شروى نقير.﴾ ("مقالة سائح"، الحاشية ﻫ، الصفحات 191-193)

وكان لاعتراف "عظيم" أثره في خلاص حضرة بهاءالله من الخطر الذي كان معرضًا له. وكانت ظروف مقتل الذي اعترف بأنه المحرض الحقيقي على تلك الجريمة قد خففت غضب العامة الهائج وطلبهم معاقبته. وتحولت عن حضرة بهاءالله صيحات الغضب وطلب الانتقام التي كانت موجهة نحوه، وابتدأت حدّة هذه الاتهامات الإدّعائية تخف بالتدريج، وازداد يقين أرباب السلطة في طهران بأن حضرة بهاءالله الذي كان معدودًا بأنه العدو اللدود لناصر الدين شاه لم يكن له أي يد في المؤامرة على حياته. وهكذا تشجع ميرزا آقا خان وأرسل مندوبه الموثوق الحاج علي إلى سياه چال حاملاً أمر الإفراج عن حضرته ليقدمه له.

وبمجرد وصول المندوب ورؤيته المنظر الذي أمامه من هيئة حضرة بهاءالله امتلأ حزنًا ودهشة. فلم يصدق ما شاهدته عيناه وبكى إذ شاهد حضرة بهاءالله مصفداّ في الأغلال المثبتة في الأرض الموبوءة بالحشرات الضارة، بينما عنقه الجريح يرزح تحت أثقال السلاسل، حزين الوجه، أشعث الشعر، يتنفس بصعوبة الهواء الموبوء المكتوم في أفظع السراديب. فعندما شاهدت عيناه حضرة بهاءالله في الظلمة التي حوله انفجر الحاج علي صائحًا: ’اللعنة على ميرزا آقا خان! يعلم الله أني ما كنت أظن أنك تقاسي مثل هذا الأسر المهين. وما كان يخطر لي على بال أن رئيس الوزراء يتجاسر على ارتكاب هذا العمل المنكر.‘

وخلع رداءه عن كتفيه وقدّمه لحضرة بهاءالله متوسلاً إليه أن يلبسه في محضر الوزير ومستشاريه. ولكن حضرة بهاءالله رفض طلبه وذهب بملابس السجن إلى مقر الحكومة الشاهانية مباشرة. وأول كلمة قالها رئيس الوزراء لمسجونه: ’لو كنت اتبعت نصحي وانفصلت من أمر السيد الباب ما كنت لتعاني كل هذه الآلام والإهانات التي انهالت عليك.‘ فأجابه حضرة بهاءالله: ’وإذا كنت أنت أيضًا اتبعت نصحي، ما كانت تصل أحوال الحكومة إلى هذه الدرجة من الحرج والخطورة.‘

وفي الحال تذكر الصدر الأعظم الحديث الذي دار بينهما في حادثة استشهاد حضرة الباب. ولمعت في ذاكرة ميرزا آقا خان كلمات حضرته: ’إن الشعلة التي أوقدت سوف

صورة 203
صورة 204
مناظر بغداد

يزداد لهيبها.‘ فقال له: ’إن التحذير الذي سبق لك أن أخبرتني به كان صائبًا للأسف. فما هو الذي تنصحني الآن أن أعمله؟‘ فكان جواب حضرة بهاءالله الفوري: ’أصدر الأوامر إلى حكام المملكة أن يمتنعوا عن سفك دماء الأبرياء ونهب أموالهم واستباحة نسائهم وإيذاء أطفالهم. وأن يكفوا عن اضطهاد أمر حضرة الباب وليتركوا أملهم الكاذب في استئصال شأفة أتباعه.‘

وفي ذلك اليوم نفسه صدرت الأوامر بمنشور موجه إلى حكام المملكة جميعهم بالامتناع عن أعمال القسوة والعار. وكتب لهم ميرزا آقا خان: ’يكفي ما عملتم. فامتنعوا عن القبض على الناس ومعاقبتهم ولا تكدروا فيما بعد صفو الراحة والاطمئنان بين مواطنيكم.‘ وكانت حكومة الشاه تفكر في اتخاذ التدابير الحاسمة لتطهير المملكة دفعة واحدة من اللعنة التي أصابتها. وما كاد حضرة بهاءالله يحصل على حريته حتى تسلم قرار الحكومة الذي يعلمه أنه في ظرف شهر من ذلك التاريخ عليه أن يغادر طهران هو وأسرته إلى خارج حدود إيران.

وكان السفير الروسي بمجرد علمه بقرار الحكومة قد تطوع ليضع حضرة بهاءالله في حمايته ووجه إليه الدعوة للذهاب إلى روسيا. فرفض هذا العرض واختار بدلاً عن ذلك أن يسافر إلى العراق. فبعد تسعة أشهر من رجوعه من كربلاء خرج حضرة بهاءالله من طهران في اليوم الأول من شهر ربيع الثاني سنة 1269ﻫ،(1) مع أفراد أسرته وبينهم الغصن الأعظم وآقا كليم،(2) بحراسة ضابط من الحرس الملكي ومسؤول يمثل القنصلية الروسية، متوجهين في رحلتهم إلى بغداد.

***
________________________
(1) 12 يناير/كانون الثاني سنة 1853م.

(2) ورافقت المنفيين بهية خانم، أخت حضرة عبدالبهاء، وكان عمرها 7 سنوات.

خاتمة

لم تصب أحوال الأمر الذي أعلنه حضرة الباب بحالة انحسار أشد مما لقيته عندما نفي حضرة بهاءالله من موطنه إلى العراق. وبدا أن الأمر الذي فداه حضرة الباب بحياته، والذي كدح حضرة بهاءالله لأجله وعانى في سبيله، يقف على شفير الانقراض. وبدا أن قوته الدافعة قد خارت، وأن مقاومته للاضطهاد قد تقوضت. وتوالت مثبطات الهمم والمصائب بسرعة عجيبة، كل واحدة أشد دمارًا من سابقتها في تأثيرها، فاستنزفت حيويته وأضعفت آمال أشجع داعميه. وفي الحقيقة إن من يقرأ صفحات تاريخ النبيل قراءة سطحية، تبدو له القصة، من أولها، مجرد سرد لنكسات ومذابح وإذلالات وخيبات أمل، كل واحدة منها أشد وأنكى من سابقتها، وانتهت جميعها بنفي حضرة بهاءالله من موطنه. أما بالنسبة للقارئ المتشكك، الذي لا يريد الاعتراف بالقوة السماوية التي وُهبت إلى هذا الأمر الإلهي، فإنه يرى أن الفكرة بكاملها التي دارت في مخيلة المؤلف قد قُدر لها الفشل منذ البداية. وسيبدو أن أعمال حضرة الباب، جليلة التصور، باسلة التنفيذ، قد انتهت إلى كارثة هائلة. بالنسبة إلى قارئ كهذا، إذا حكم من منظور اللطمات القاسية التي تلقاها، ستبدو حياة فتى شيراز، منكود الطالع، بأنها فاقت حياة أي إنسان آخر في الأسى وعدم الجدوى. فمرّت تلك الحياة القصيرة المفعمة بالبطولة بسرعة الشهاب في سماء إيران، وبدا لحين بأنها جلبت نور الخلاص الأبدي المأمول ليبدد الظلمات التي أحاطت البلاد، وإذ هو يسقط أخيرًا في هاوية داجية من الظلام واليأس.

وكانت كل خطوة يخطوها، وكل جهد ينهض به لا يزيد إلا في الأحزان والبوائق التي أنّت روحه تحت أثقالها. وفشلت الخطة التي وضعها في بداية مسيرته لإطلاق دعوته وإعلانها على الملأ في المدينتين المقدستين، مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولم تثمر بما كان يؤمله. وعندما أوصل القدوس رسالة حضرة الباب إلى شريف مكة، كما أمر، قابله الأخير ببرود تام وعدم اكتراث، مما كشف عدم مبالاة حاكم الحجاز وحارس الكعبة بأمر شاب شيرازي واحتقاره له. كذلك تحطم أمله في الخطة التي رسمها للعودة منصورًا من زيارة مدينتَي كربلاء والنجف، حيث أمل في تأسيس أمره في معقل الشيعة التقليدي. وأما برنامجه الذي ابتكره، والذي أطلع تسعة عشر تلميذًا مختارًا على أساسياته، فلم يتحقق منه إلا جزء يسير. وأما الاعتدال الذي أمرهم بتوخيه فقد نُسي في فورة الحماس الأولى التي أصابت مبلغي أمره الأوائل، ذلك التصرف الذي كان مسؤولاً، بشكل كبير عن فشل آمال حضرته العزيزة. وكان المعتمد، ذلك الحاكم العاقل الحكيم الذي درأ عن حضرته الخطر الذي هدد حياته، والذي أظهر من الكفاءة والاستعداد لتقديم الخدمات الجليلة التي ندر تقديمها من أصحاب حضرته الأقل شهرة من المعتمد، قد عاجلته المنية واختطفته من حضرته وتركته لرحمة گرگين خان الغادر الخائن، أبغض كل أعدائه وأسوأهم خلقًا. والفرصة الوحيدة التي كانت مهيأة لحضرة الباب لمقابلة محمد شاه تلك المقابلة التي طلبها بنفسه، والتي علّق عليها أكبر الآمال قد ضاعت وتصرمت من تدخل الجبان النزوي الحاج ميرزا آقاسي، الذي ارتعدت فرائصه خوفًا من أن تضر تلك المقابلة مع الشاه، الذي ظهرت منه بوادر الميل للأمر، بمصالحه أو تقضي عليها. أما الجهود التي بذلها اثنان من أبرز تلاميذه، الملاّ علي البسطامي، والشيخ سعيد الهندي، لنشر الأمر، في الأراضي التركية وفي الهند على التوالي، والتي كانت من وحي وصايا حضرة الباب، فلم تأتِ بنتيجة وانتهت بالفشل التام. وانتهت محاولة الأول منذ بدايتها باستشهادٍ ظالمٍ طال صاحبها. وكانت نتيجة الآخر ضئيلة حيث لم يقبل الأمر بسببه سوى سيد كانت آخر خدماته ما لاقاه من الصدمات في لرستان بعمل الشقي الخائن إيلدرم ميرزا. وكان سجن حضرة الباب الذي حكم عليه،

وقضى فيه معظم سني ولايته، وعزلته في جبال آذربيجان وحصونها، وفصله عن جامعة أتباعه الذين قاسوا الشدائد من عدو مفترس، وفوق ذاك مأساة استشهاده المفجعة القاسية المهينة، كل ذلك، على ما يظهر، قد أشار إلى أدنى أعماق الذلة التي قدر لهذا الأمر النبيل الجليل أن يعانيها من ساعة مولده. وبدا أن استشهاد حضرته، وهو خاتمة حياته السريعة العاصفة، قد ختم بخاتم الفشل تلك المهمة التي مهما كانت بطولية في الجهود التي ألهمتها، لكنها كانت مستحيلة التحقيق.

وبقدر المعاناة التي قاساها حضرته، فإن الكرب الذي اضطر لتحمّله لم يكن سوى قطرة إذا ما قيست بالرزايا التي انهمرت على جموع أتباعه المخلصين. وكان كأس الحزن الذي لمسته شفتاه قد ارتشفه، إلى آخر قطرة، كل الذين عاشوا من بعده. وجاءت فاجعة الشيخ الطبرسي التي سلبته أقوى أنصاره، وهما القدوس والملاّ حسين، والتي طالت ما لا يقل عن ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه الثابتين، كأقسى ضربة قاصمة نزلت به، فأحاطت البقية الباقية من أيامه سريعة الانحسار في غشاوة من الظلام. أما ملحمة نيريز وما صاحبها من الأهوال والقسوة، وما آلت إليه من فقد وحيد، أوسع أتباع حضرة الباب علمًا ونفوذًا وأعظمهم إنجازًا، فكانت ضربة أخرى نزلت بموارد الأمر وأتباعه الذين استمروا في حمل شعلته بأيديهم. وأما حصار زنجان، والذي لحق كارثة نيريز بسرعة، وما ارتكب أثناءه من المذابح والمجازر التي تبقى للأبد ملتصقة باسم تلك المقاطعة، فقد قلص صفوف أتباع ذلك الأمر وحرمهم من القوة المحيية التي كان ينفثها فيهم الحجة. وبوفاته ذهبت آخر شخصية بارزة من بين قادة الأمر الذين سَمَوْا عن باقي المؤمنين بسلطتهم الدينية وعلمهم وبسالتهم وقوة شخصياتهم. وحصدت زهرة أتباع حضرة الباب في مذبحة قاسية تاركة خلفها جماعة كبيرة من النسوة الأسارى والأطفال الذين كانوا يئنون ويرزحون تحت قسوة عدو جامح. وكان رؤساؤهم الذين يغذّون ويوقدون تلك الشعلة في قلوب الأتباع الأبطال بعلمهم، قد قضوا نحبهم وبدا أن أعمالهم تركت وهجرت قبل إتمامها وسط الاضطراب الذي داهم هذه الفئة المضطهدة. ولم يبقَ من بين الذين كانوا قادرين على إكمال العمل الذي

تركه حضرة الباب لأتباعه، سوى حضرة بهاءالله.(1) وأما الباقون فقد سقطوا بسيوف الأعداء. أما ميرزا يحيى الرئيس الاسمي الذي عاش بعد حضرة الباب، فالتجأ إلى جبال مازندران مغمورًا هاربًا من مهالك الاضطراب الذي ساد العاصمة. وهجر أصحابه متنكرًا بزي الدراويش ممسكًا الكشكول(2) في يده وفرّ من ساحة الخطر إلى غابات گيلان. وأما السيد حسين كاتب وحي حضرة الباب وميرزا أحمد مساعده اللذين كانا متفقهين في تعاليم الأمر ومضامين كتاب "البيان" المنزل حديثًا، وكانا نظرًا لقربهما من مولاهما واطلاعهما على أحكام دينه، في موقف يسمح لهما أن ينيرا أفهام الأتباع ويدعما أسس الدين، فقد صفدا بالأغلال في سياه چال في طهران، وانفصلا كليًا عن جامعة الأحباء الذين كانوا يرغبون في الاسترشاد منهما، وأخيرًا لقيا حتفهما باستشهاد قاس في وقت مبكر. وحتى خال حضرة الباب، الذي كفله منذ طفولته بعناية أبوية قلّ أن يظهر مثلها في الآباء، والذي أسدى لحضرته العون والنصرة في الأيام الأولى من معاناته في شيراز، والذي كان قادرًا على إسداء خدمات جليلة لأمره لو سُمح له بالبقاء بعده لبضع سنوات، فقد كمد في سجنه منسيًا لا أمل له في إكمال العمل المحبوب إلى قلبه. أما الطاهرة، تلك القدوة المشتعلة لأمر حضرته وبجرأتها التي لا تُغلب، وشخصيتها المندفعة، وإيمانها الباسل، وحماستها النارية، وعلمها الواسع، فقد بدت لفترة من الزمن قادرة على استمالة نساء إيران جميعهن لأمر محبوبها، ولكنها سقطت للأسف ضحية حنق عدو مفتر. وبدا أن تأثير عملها الذي أوقف في مهده، قد تلاشى كليًا. هكذا ظن أولئك الذين أنزلوها إلى البئر الذي أصبح قبرها. أما باقي حروف الحيّ فقد هلكوا بحد السيف أو كبلوا بالحديد في السجون أو انزووا في أقاصي أركان المملكة

________________________

(1) أورد ميرزا أبو الفضل في كتابه "الفرائد" (الصفحتان 50-51) الحديث الرائع المعترف به كحديث صحيح للرسول محمد ﷺ، والذي أورده السيد عبد الوهاب الشعراني في كتابه المسمى "اليواقيت والجواهر" قال: ’ويُقتلون كلهم (وزراء المهدي) إلا واحدًا منهم ينزل في مرج عكاء في المأدبة الإلهية.‘ وحسب ما قاله أبو الفضل فإن الشيخ ابن العربي أورد الحديث بأكمله في كتاب "الفتوحات المكية".

(2) ’إناء بشكل وحجم جوزة الهند معلق من فوهته بسلسلتين مثبتتين بأربع نقاط، ويستعمله الدراويش للاستجداء.‘ ("مقالة سائح" الصفحة 51، الحاشية 3)

يمضون بقية حياتهم مغمورين. كذلك لاقت معظم كتابات حضرة الباب الوفيرة نصيبًا من الامتهان مماثلاً لنصيب تلاميذ حضرته. ومحي الكثير من كتاباته الجليلة بالكلية، وكذلك ذهب بعضها طعمة للنيران، وبعضها الآخر حرّفه الأعداء، والكثير أخذه العدو والباقي منها كان عبارة عن بعض مخطوطات غير مرتبة ولا منظمة تصعب قراءتها توزعت هنا وهناك بين أيدي البقية الباقية من أصحاب حضرته.

وبالفعل انحسر أمر حضرة الباب الذي أعلنه وضحّى بكل شيء في سبيله، إلى أقصى درجة. وكادت النيران التي أشعلت حوله أن تلتهم النسيج الذي يعتمد عليه استمرار وجوده. وبدت أجنحة الموت كأنها ترفرف فوقه. وبدا الفناء الكامل المطلق مهددًا روح حياته دون أمل في إصلاحه. وفي خضم العتمة التي لفّت أمر الله وأحاطت به بسرعة، سطع هيكل حضرة بهاءالله وحده كمنقذ محتمل للأمر الذي كان على شفا الأفول السريع. وكانت علائم الرؤية الصافية والشجاعة والحصافة التي ظهرت منه في أكثر من مناسبة منذ قام لنصرة أمر حضرة الباب، قد أظهرته بمظهر القادر على إعادة سطوة الأمر الذي كان في حالة الاحتضار، لو ضمنت حياته واستمرار إقامته في إيران. ولكن شيئًا من هذا لم يقدّر له أن يحدث. فالكارثة غير المسبوقة في تاريخ ذلك الدين بأسره جلبت اضطهادًا أقسى من كل ما وقع عليه، وفي هذه المرة جرّت في دوامتها شخص حضرة بهاءالله نفسه. فتحطمت الآمال الضعيفة التي تعلق بها بقية الأحباء وسط عاصفة الفوضى الناتجة. لأن حضرة بهاءالله، الذي كان أملهم ومحط ثقتهم الوحيد، اجتاحته تلك العاصفة بشدة حتى أصبح من المحال عليه الخلاص من بأسها. فبعد أن جرّد من أملاكه كلها في نور وطهران، اتهم بأنه هو المحرك الأول للمحاولة الفظيعة على حياة مليكه. وزجّ به في سرداب مظلم موبوء بعيدًا عن الأقارب وهجره أصحابه السابقون والمعجبون به. وأخيرًا نفي مع أعضاء أسرته خارج حدود وطنه، فانقرضت بذلك جميع الآمال التي انصبت عليه ليكون المخلّص لذلك الدين المنكوب.

ولا عجب إذا كان ناصر الدين شاه، الذي كانت تصوّب هذه اللطمات أمام عينيه وبإيحاء منه، فخورًا بأنه بدد هذا الأمر الذي كان يحاربه على الدوام، والذي تمكن أخيرًا من محوه

حسب الظاهر. ولا غرابة إذا تخيل وهو جالس يفكر في الأدوار المتتابعة التي مرت على هذه التدابير الدموية الواسعة، بأنه بإمضائه أمر نفي حضرة بهاءالله، قد دق ناقوس النعي لهذه البدعة الكريهة التي ألقت الرعب في قلوب رعاياه. وبدا لناصر الدين شاه في تلك اللحظة الفريدة، أن سحر هذا الرعب قد انكسر، وأن الطوفان الذي غمر مملكته قد انحسر، ليعيد أخيرًا إلى رعاياه الأمان المنشود. والآن وقد قُضي على السيد الباب، وسُحقت الأعمدة العتيدة التي كان أمره يستند عليها وتحولت إلى تراب، وجامعة أحبائه المخلصين في طول البلاد وعرضها انكمشت وأرهقت، وحضرة بهاءالله الذي هو الأمل الوحيد الباقي لفئة لا قائد لها قد نُفي، واختار بمحض إرادته الالتجاء إلى جوار معقل الشيعة الأصولية، وبذلك كله زال من أمام وجهه إلى الأبد ذلك الشبح المخيف الذي كان يخشاه منذ تولي العرش. ولم يكن يتصور أبدًا أنه بعد ذلك يعود يسمع بهذه الحركة المقيتة في نظره، والتي ظن أنها سقطت في هاوية الهوان والنسيان(1) حسبما أشار به عليه كبار مستشاريه.

وبالنسبة لأتباع الدين الذين تُركوا ليبقوا على قيد الحياة تحت وطأة المظالم المتراكمة على دينهم، وبالنسبة لتلك القافلة الصغيرة- ربما مع بعض الاستثناء- التي كانت تتابع طريقها وسط ثلوج الجبال المتاخمة للعراق(2) في زمهرير الشتاء، قد يتخيل المرء أنه بالنسبة لهؤلاء بدا أن أمر حضرة الباب قد فشل في تحقيق هدفه وغايته. وبدا أن قوى الظلام المحيطة به من كل الجهات قد انتصرت عليه أخيرًا، وأنها أطفأت النور الذي أشعله أمير المجد الشاب في أرض بلاده.

________________________

(1) ’يا صاحب السعادة - إنه بعد تنفيذ تلك الإجراءات الفاعلة من جانب الحكومة الإيرانية لمحو واستئصال شأفة الطائفة البابية الضالة التي اطلعتم سعادتكم على تفاصيلها (وفي ذلك إشارة إلى الاضطهاد العظيم الذي وقع على البابيين في طهران في صيف سنة 1852م) فالحمد لله بعون وعناية الأمر الملكي لصاحب الجلالة القدير الذي هو معدود في مصاف جمشيد، حامي حمى الدين الحق، أرواحنا له الفداء، قد اقتلعت جذورهم.‘ (مقتطف من رسالة بعث بها ميرزا سعيد خان وزير خارجية إيران السابق إلى سفيرها في إسطنبول، مؤرخة في 12 ذي الحجة سنة 1278ﻫ [10 مايو/أيار سنة 1862م]) وقد أورد براون صورة عن الرسالة وترجمتها في "مستندات لدراسة الدين البابي"، الصفحة 283)

(2) ’كان سفرًا مخيفًا في الجبال الوعرة، وقاسى المسافرون كثيرًا من البرد.‘ ("اتفاق الأجناس والأديان" للدكتور چين، الصفحة 131)

وعلى كل حال، ففي نظر ناصر الدين شاه كانت تلك القوة التي كادت تجرف كل سلطته في مملكته، قد زالت. ولما كانت الحركة منكودة الطالع منذ مولدها، فقد أجبرت للاستسلام أمام عنف ضربات سيفه. ولاقت مصيرًا مدمرًا تستحقه. وإذ تخلصت البلاد من لعنتها، التي حرمت جلالته من نومه ليال عديدة، فيمكنه الآن الالتفات بهمة فائقة لإنقاذ بلاده من الآثار المدمرة التي تركتها تلك الضلالة الكبيرة. وعليه كانت مهمته الحقيقية، كما تخيلها، هي رأب الصدع بين السلطة الدينية والحكومة وتوطيد أركانهما وتقوية صفوفهما ضد بروز ضلالات مماثلة قد تؤدي إلى تسميم حياة مواطنيه.

كم كانت تصوراته مغرورة، وكم كانت أوهامه كبيرة! فالدين الذي ظن لفرط سروره أنه سحق كان لا يزال حيًا وقدر له أن ينهض من خضم ذلك الاضطراب العظيم على نحو أقوى وأنقى وأنبل مما سبق. ذلك أن الدين الذي ظنّه ذلك الملك الأحمق مسرعًا نحو الدمار، كان فقط يمر في مرحلة امتحانات نارية تؤدي إلى تطوره وتسير به خطوة قدمًا على درب قَدَره اللامع. وفتحت صفحة جديدة من فصول تاريخه، أبهى وأمجد من أي فترة وَسَمَتْ ميلاده أو قيامه. فكان ذلك القمع، الذي ظنّه الملك قد نجح في إهلاك الدين، مجرد مرحلة ابتدائية من التطور المقدر له أن يزهر عند تمام الوقت إلى ظهور أقوى وأعظم مما جاء به حضرة الباب. فتلك البذرة التي بذرتها يد حضرته، رغم تعرضها لحين إلى عنفوان عاصفة غير مسبوقة، وانتقالها إلى تربة بلاد غريبة، شاءت المشيئة الربانية أن تنمو وتتطور بمرور الزمن إلى سدرة قدر لها أن تبسط ظلها الوارف على أهل الأرض قاطبة. ورغم أن تلاميذ حضرة الباب عُذبوا وقُتلوا، وأن أصحابه أهينوا ومحقوا، ورغم أن أتباعه نقصوا في العدد، ورغم أن صوت الدين نفسه أجبر على الصمت بيد العنف، ورغم أن اليأس تطرق إلى مصائره وحظوظه، ورغم أن بعض أقدر مناصريه ارتدوا عن إيمانهم، لكن الوعد المنقوش في صدف كلمة حضرته لن تقدر أي يد على محوه ولن تقدر أي قوة أن تقف في سبيل إنبات بذرته ونموها.

حقًا إن بوارق مطالع الوحي الذي أقر حضرة الباب نفسه أنه البشير بظهورها وألمح مرارًا بقرب تحققها(1) يمكن إدراكها من القوة التي ظهرت من حضرة بهاءالله وسط الظلام الذي غلفه في سياه چال في طهران.(2) تلك القوة التي قدّر لها أن تنشأ وتنمو من ذلك الظهور الخطير الذي ابتدأه حضرة الباب، والتي بسطت كل بهائها في الأيام اللاحقة لتعمّ الكرة الأرضية، كانت تنبض في عروق حضرة بهاءالله وهو في سجنه عرضة لنزول سيف الجلاد عليه. وكان هناك صوت خفي نادى المسجون بالوحي في ساعة محنته المريرة، واختاره أن يكون مهبطه، ولم يطرق ذلك الصوت سمع الملك الذي كان يستعد للاحتفال بقطع دابر الأمر الذي كان يناصره سجينه. وأما الحبس الذي ظن مسبّبه أنه وصمة عار لاسم حضرة بهاءالله الناصع واعتبره مقدمة لنفي مهين إلى العراق، كان حقًا مشهد بوادر أول نشاط لتلك الحركة التي قدر لحضرة بهاءالله أن يكون موجدها ومبدعها، حركة عُرفت أول ما عُرفت في مدينة بغداد ثم أُعلنت من مدينة السجن بعكاء إلى الشاه فضلاً عن باقي رؤساء العالم وملوكه المتوّجين.

وما كان ناصر الدين شاه ليتخيل أنه بالحكم الذي أصدره بنفي حضرة بهاءالله قد نفذ المشيئة الإلهية التي لا تُكبح، وأنه نفسه لم يكن سوى أداة لتنفيذ ذلك المقصد. وما كان ليتخيل، مع اقتراب أيام حكمه من نهايتها، أنها ستشهد انبعاث الحياة لتلك القوى نفسها

________________________

(1) ’ويقابل روعة جرأته في ادعاء السلطة الإلهية، تَقيّده بالإصرار على أن سلطته ليست نهائية. وقد شعر بأنه قادر ومخوّل بوحي غزير، ولكنه شعر، باليقين نفسه، بأن هناك الكثير الكثير من الوحي ينبغي أن ينزل. وهنا تكمن عظمته. وهنا تتبين أعظم تضحياته. لأنه بذلك جازف بانتقاص شهرته الشخصية. ولكنه ضمن استمرار رسالته ودعوته... وقرر أن الحركة التي أنشأها سوف تنمو وتتسع. وأنه لم يكن إلا "حرفًا من ذلك الكتاب المجيد، وقطرة من ذلك المحيط اللامتناهي." ... كان هذا هو تواضع البصيرة الحقة. فكان لها تأثيرها. فإن حركته نمت واتسعت، ولها مستقبل مجيد أمامها.‘ ("الومضة" للسير فرانسيس يونگهزبند، الصفحتان 210-211)

(2) "بالرغم من أن النوم كان عزيز المنال من وطأة السلاسل والروائح النتنة حين كنت رهين سجن أرض الطاء (طهران) إلا أنني كنت في هجعاتي اليسيرة أحسّ كأن شيئًا ما يتدفق من أعلى رأسي وينحدر على صدري كأنه النهر العظيم ينحدر من قلّة جبل باذخ رفيع إلى الأرض فتلتهب جميع الأعضاء لذلك. في ذلك الحين كان اللسان يرتل ما لا يقوى على الإصغاء إليه أحد." ("لوح ابن الذئب"، طبعة مصر، الصفحة 17)

التي بذل جهده الجهيد لمحوها وكبتها. ذلك الانبعاث الذي سيُظهِر حيوية لم يكن يعتقد أن ذلك الدين يمتلكها، حتى في أظلم ساعات يأسه. ولم تقتصر نهضة تلك القوى وعودة النشاط إلى الأمر على مملكته(1) فحسب، ولا على أنحاء الممالك المجاورة، العراق

________________________

(1) كتب جوبينو سنة 1865م تقريبًا الشهادة التالية: ’يعتقد الرأي العام أن الدين البابي منتشر في جميع طبقات السكان وبين أصحاب جميع الأديان، عدا النصيرية والمسيحية، ولكن الطبقة المتنورة في المملكة والذين يمارسون العلوم في البلاد هي التي يشتبه بتعاطفها مع الدين البابي. وقد يظن الناس والحق معهم أن الكثيرين من الملاّوات، وبينهم المجتهدين من الرتب السامية وقضاة المحاكم العليا من المقربين إلى الملك، هم جميعهم بابيون. وطبقًا لتقدير إحصائي عمل حديثًا، يوجد خمسة آلاف بابي في طهران البالغ عدد سكانها ثمانين ألفًا. ولكن يظهر أن هذا التقدير لا يعتمد عليه، وأنا أميل إلى الظن أنه لو كان للبابيين أن ينتصروا في إيران، فإن عددهم في العاصمة سيكون أكبر بكثير، لأنه في تلك الحالة على المرء أن يضيف إلى المتحمسين، مهما كان عددهم، عددًا كبيرًا من أولئك الذين يميلون حاليًا إلى هذه العقيدة المضطهدة رسميًا، والذين سيعطيهم انتصارها شجاعة كافية ليعلنوا ولاءهم لها.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى"، الصفحة 251). ’ولم يمض نصف قرن منذ ابتدأ الرائي الشاب ميرزا علي محمد من شيراز في إعلان دعوته، حتى عد الآن شهداؤه بالمئات وأتباعه بمئات الألوف، وكانت في وقت ما تبدو وكأنها تهدد سلطة القاجار والدين الإسلامي في إيران. وربما تكون للآن عاملاً مهمًا في تاريخ غرب آسيا.‘ (مقدمة كتاب "التاريخ الجديد" لبراون، الصفحة 7) وكتب الپروفسور جيمس دارمستتر قال: ’إن البابية التي انتشرت في مدة خمس سنوات من أحد أطراف إيران إلى الطرف الآخر، والتي غرقت في سنة 1852م في بحر من دماء شهدائها، تسير الآن في طريق التقدم والانتشار بسكون. وإذا قدّر لإيران أن تحيا من جديد فسيكون ذلك بواسطة هذا الدين الجديد.‘ ("إيران: لمحة أدبية وتاريخية"، ترجمة ناريمان) ’وإذا استمرت البابية في الانتشار بالمعدل الحالي، فسيأتي الوقت الذي تزيح فيه الإسلام من ساحة إيران. وأعتقد أنها لن تفعل ذلك لأنها لم تظهر على الساحة تحت راية دين عدواني. ولكن بما أن المتطوعين "للدين الجديد" هم من نخبة عسكر "الحامية" التي تهاجمها، فإن هناك سبب أعظم لإن تنتصر في النهاية. ومن الواضح لكل من هو مطلع على طباع الإيرانيين، الذين يخضعون غالبًا لتأثير الدين السائد، كم من الناس من الطبقات المختلفة في ذلك القطر ينجذبون إلى العقيدة الجديدة. فالصوفية أو الباطنية يعتقدون منذ زمن طويل بضرورة وجود شيخ أو نبي ظاهرًا في الجسد، وأغلبهم يندمج بسهولة في الدين البابي. وحتى المسلمين التقليديين الذين تنتظر عيون عقولهم بلهفة رؤية الإمام المختفي، تراهم ينقادون باقتناع تام إزاء البرهان المنطقي بأن المهدي إما أن يكون الباب أو البهاء تبعًا لنبوءات القرآن والأحاديث. وستؤثر طهارة حياة الباب وآلامه وموته الأليم وشجاعته واستشهاد أتباعه، في جذب العديد من الذين لا يجدون ظواهر مماثلة في مدونات الإسلام المعاصرة.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء الأول، الصفحة 503) وقد علّق المؤلف في الفصل نفسه على آمال مشاريع المبشرين المسيحيين في إيران بقوله: ’كانت إيران معدودة من أحسن البلاد استعدادًا لأعمال المبشرين في الشرق. ورغمًا عما حصل ويحصل فيها من العمل المجيد من ممثلي الإرساليات الإنگليزية والفرنسية والأمريكية في تلك المملكة، وانتشار التعليم والعمل الخيري في توزيع الصدقات والمساعدات الطبية المجانية، وبقوة ↓

_____________________________________________________________________

المثل المحتذى، وبينما لا أقترح أن تخفف هذه المجهودات الدينية الورعة، ولكنني نظرًا لما أملكه من معلومات، لن أقدر أن أساهم في التنبؤ المتفائل بشأن المستقبل.‘ (المصدر السابق، الصفحة 504) ’... ولكن في إيران نجد من العوائق التي تجابه المجتمعات المسيحية ما ينتج عن الاختلافات المذهبية الحاصلة بين طوائفهم، لذا فالمسلمون محقون لو استهزأوا بأولئك الذين يدعونهم للدخول في رعية من أعضاء مختلفين يحبون بعضهم بعضًا بكل مرارة! فالپروتستانت يتشاجرون مع الكاثوليك، والمشيخي (الپرسبتيريان) مع الأسقفي (الإپسكوپاليان)، والنسطوريون الپروتستانت لا ينظرون نظرة مودة إلى النسطوريين الحقيقيين، وهؤلاء ليسوا على وفاق مع الكلدانيين أو النسطوريين الكاثوليك. وينظر الأرمن شذرًا إلى الأرمن المتحدين (أو الكاثوليك)، ولكنهما يتحدان عند تثبيط أعمال الإرساليات الپروتستانتية. وأخيرًا يأتي عداء اليهود الذي يجب أن يحسب له حساب من ناحية المبدأ. ففي بلاد الشرق المختلفة التي سافرت إليها، من سوريا إلى اليابان، صدمت إذ شاهدت ظاهرة غريبة محزنة في نظري، تتمثل في شن فرق المبشرين المختلفة حروبًا تحت أنبل الذرائع على بعضها البعض تحت راية رئيس السلام وبأيديهم الأسلحة التي تقتل بها الأخوة.‘ (المصدر السابق، الصفحتان 507-508) ’... فإذا كان مقياس العمل التبشيري في إيران هو عدد المتنصرين من المسلمين، فإني لا أتردد في القول أن المبالغ المذهلة التي تُنفق والجهود المخلصة التي تُبذل والتضحيات التي تُقدّم في ذلك البلد، لاقت جميعها مردودًا غير مجد بالكلية. وأحيانًا يعمّد المبشرون المسيحيون بعض شبان المسلمين. ولكن لا يصح فورًا اعتبار ذلك اعتناقًا حقيقيًا للمسيحية، لأن معظم الوافدين الجدد سرعان ما يعودون إلى دين آبائهم. وإني في شك من أنه منذ اليوم الذي نزل فيه هنري مارتن بأرض شيراز إلى الوقت الراهن، قد زاد عدد الذين اعتنقوا المسيحية من المسلمين الإيرانيين اعتناقًا صادقًا على ستة أشخاص. وكنت دائمًا أبحث بنفسي عن مسلم تنصر، ولكني لم أجده (إذا استثنينا بالطبع المنبوذين أو اليتامى من أبناء المسلمين ممن تربوا منذ صغرهم في المدارس المسيحية) ولكني لم أستغرب على هذا الخسران والخيبة والعجز عن إتمام هذا العمل. فاذا فرضنا وطرحنا جانبًا التقاليد الدينية (مثلاً التثليث وألوهية المسيح)، والتي لا يستسيغها العقل الإسلامي بحال من الأحوال ولا تنطبق على نظريات التوحيد، فلا يجب أن نستغرب إذا لم ينشق المسلم عن دينه طالما أننا نتذكر أنه يعاقَب على هذا الانشقاق بالقتل. ففرص اعتناق المسيحية ضئيلة بالفعل طالما أن جسد المتنصر وروحه سيطرحان في الميزان. والمخاوف الشخصية ولو أنها عامل مهم، إلا أنها ليست العامل الحاسم في الموضوع. فإن أمواج المجهود التبشيري تتلاطم عبثًا على حائط الإسلام الصخري العتيد، حيث إنه نظام شامل لكل ناحية وواجب وعمل في الحياة. فهو متوافق بشكل رائع مع مناخ تلك البلاد وأخلاق سكانها وأعمالهم، والتي وضع يده الحديدية عليها. وأتباعه يخضعون لنظامه مأسورين من المهد إلى اللحد، فهو لهم ليس دينًا فقط بل حكومة وفلسفة وعلمًا أيضًا. والفكرة الإسلامية ترمي إلى حكومة دينية، وليس إلى دين حكومي. والروابط التي ينهض بها المجتمع الإسلامي، ليست مدنية بل هي دينية. وقد يكتفي بهذا الدين السامي، المفلج المسلم الذي يعيش قانعًا متنازلاً عن كل إرادة معتقدًا في القدر ومعتبرًا أعظم شيء في الحياة هو عبادة الله ويجبر عليها غيره، وإذا لم يمكنه ذلك، يحتقر كل من لا يعبده بروحه، ثم يموت وهو مؤمل في دخول الجنة. وما دام هذا القانون الشامل الملتهم لجميع نواحي الحياة مستوليًا على الشرقيين الذين يعتنقونه ومفصلاً لأحكام كل شيء متعلق بهذه الحياة ومؤملاً في حياة ونجاة وسعادة بعد الموت، فان أعمال المبشرين وصرفهم الأموال الطائلة ونكران ذواتهم، يصبح دون أي فائدة بل هو من العبث بمكان. وكل محاولة لتشكيل "مجمع التبشير" هو في نظري أسوأ سياسة يمكن للمبشرين أن ↓

وروسيا أيضًا، بل وصل كذلك إلى الهند في الشرق،(1) ومصر والقسم الأوروپي من تركيا في الغرب، على شأن لم يكن يتوقع حصوله أبدًا، فكان ذلك سببًا لإيقاظه من أحلامه السعيدة التي أطلق لها العنان. وبدا له كأنما بعث أمر حضرة الباب من بين الأموات وظهر مجددًا بشكل أشد رعبًا وهولاً من ظهوره السابق. وكانت القوة الدافعة الجديدة، المتمثلة في شخص حضرة بهاءالله وقبل كل شيء القوة الكامنة للظهور الإلهي الذي مثّله، قد زُوّد

صورة 205
منزل حضرة بهاءالله في بغداد

_____________________________________________________________________

يتخذوها في مملكة مسلمة متعصبة، وما رأيته من تسامح الحكومة الإيرانية هو لامتناع المبشرين المسيحيين من أعمال التبشير والتكريز العلني.‘ (المصدر السابق،الصفحتان 508-509)

(1) كتب جوبينو في سنة 1865م الشهادة الآتية: ’كان للبابية تأثير عظيم على عقول الأمة الفارسية، وانتشرت أيضًا فيما وراء حدود إيران وفاضت على باشوية بغداد واخترقت الهند. ومن بين الأمور التي يشتد الإعجاب بها، أنه في حياة الباب نفسه كان الكثير من أتباعه الجدد وكذلك من الذين ثبت إيمانهم واقتناعهم، لم يتقابلوا مع نبيهم ولم يعرفوه ولم يهتموا أن يتلقوا الأوامر بأنفسهم منه مباشرة. ومع ذلك فقد أسدوا له احترامهم الشديد، وكانوا يرون أنه مستحق لذلك.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحة 255)

بها دين حضرة الباب على شأن لم يكن الشاه يتخيله قط. ومن بين العوامل الرئيسة التي أوضحت لعينَي الشاه وأقنعته بطبيعة الأمر الإلهي غير القابل للقهر والإذلال، تلك السرعة التي استيقظ بها أمر الله من سباته ونشط من عقاله داخل مملكة الشاه نفسها؛ وانتشاره في ممالك خارج حدودها؛ والدعاوى الخطيرة التي أعلنها حضرة بهاءالله في وسط المعقل الذي قد اختاره لسكناه؛ وإشهاره لتلك الدعاوى علنًا في القسم الأوروپي من تركيا؛ وإعلانها في الألواح المتحدية المرسلة إلى الرؤوس المتوجة في ممالك الأرض، أحدها لوح قدّر له أن يتسلّمه الشاه نفسه؛ والحماس الذي أشعله ذلك الإعلان في قلوب أتباع لا حصر لهم؛ وانتقال مركز أمره إلى الأرض الأقدس؛ والتخفيف التدريجي لصرامة سجنه الذي وسم آخر أيام حياة حضرته؛ ورفع الحظر الذي فرضه سلطان تركيا على اتصال حضرته بالزائرين الذين أتوا أفواجًا من مختلف أنحاء الشرق إلى سجنه؛ واستيقاظ روح البحث بين مفكري الغرب؛ والتشتت الكامل للقوى التي حاولت التفريق بين صفوف أتباع حضرته، والمصير الذي لاقاه المحرض الرئيس؛ وفوق كل ذلك سموّ تلك التعاليم التي ظهرت في كتابات حضرة بهاءالله المنشورة والتي ذاعت وتعلمها عدد لا يحصى من الأتباع في تركستان الروسية والعراق والهند وسوريا وحتى في القسم الأوروپي من تركيا. فعلم الشاه أن محاولات قهره قد ذهبت أدراج الرياح بعد أن اعتقد أنه قضى على الأمر الجديد بنفسه. وتأكد له فشل محاولاته على عكس ما كان يتوقعه مهما اجتهد في إخفاء أحاسيسه. وكان أمر حضرة الباب الذي شاهد بنفسه ولادته وما حل به من النوائب، قد نهض مرة أخرى من رماد احتراقه كالعنقاء، وشاهده يسير في الطريق الذي يؤدي إلى منجزات تفوق الحلم.(1)

________________________

(1) ’يسير أمر السيد الباب على طريق الإنجازات العظيمة. وقد بيّنا كيف ظهرت حركة دينية تسترعي انتباهًا عميقًا في آسيا الوسطى، أي إيران والعديد من مقاطعات الهند وجزء من تركيا الآسيوية. فهي إذًا حركة دينية مدهشة حقًا وتستحق الدراسة والبحث. ومن خلالها نشهد أحداثًا ومظاهر وكوارث مما لا يتصور حدوثها إلا في العصور الغابرة التي ولدت فيها الأديان العظيمة. بل إني أعترف أنه لو أتيح لي أن أرى مثل هذه الحركة في أوروپا بطريقة مماثلة لطريقة ظهور البابية، بما فيها من المزايا الخاصة بها، كالإيمان الكامل والحماس الذي لا يتزعزع والشجاعة المجرّبة والإخلاص الممتحن مما أوجب الاحترام العميق من غير المكترثين، والخوف والذعر الذي استولى على الأعداء، فضلاً عن الدعوة التي لا تكلّ ويزداد المقبلون إليها من بين جميع طبقات المجتمع، فإني لو رأيت ظاهرة كتلك تحصل في أوروپا فلا أتردد أن أتوقع أنه لا يمضي زمن كبير ↓

__________________________________________________________________

حتى يصبح النفوذ والمُلك في أيدي فئة مزودة بمثل تلك المواهب.‘ ("الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" لجوبينو، الصفحات 116، 293-294) ’يظهر من المؤكد من وجهة نظر دينية، وخصوصًا الخلقية، أن البابية تكمل تعاليم الإسلام، فيمكن للمرء أن يتفق مع السيد م. ڤامبري (عضو الأكاديمية الفرنسية، 12 مارس/آذار سنة 1892م) بأن رئيس البابية أتى بعقيدة جديرة بأعظم المفكرين... وعلى أي حال، فإن نمو البابية يمثل فصلاً مثيرًا في تاريخ الأديان الحديثة والحضارة. وبعد كل ما قيل، فإن الذين يمتدحونها قد يكونون محقّين، وقد ينتج عن البابية إعادة الحياة والروح إلى شعوب إيران، بل حتى إلى كل المسلمين الذين هم في حاجة ماسة إليها. ولكن للأسف، فليس هناك إحياء لأرواح أمة دون إراقة الدماء!‘ ("البابية" لمؤلفه م. ج. بالتيو، الصفحة 28) ’ويبدو لي الآن أن تاريخ الحركة البابية مثير لاعتبارات شتى ليس فقط بالنسبة للذين ينكبّون على دراسة اللغة الفارسية. فبالنسبة إلى الباحث في الفكر الديني، تقدم البابية مادة للتفكر لا يستهان بها، إذ إنه يرى هنا شخصيات سيكونون بعد مدة من الزمن أبطالاً وأنصاف آلهة. فلم يكتنفها الغموض والخرافات ويمكن تفحصها وتمحيصها على ضوء شهادات متزامنة ومستقلة، ليهتدي الباحث إلى إحدى تلك الظواهر الغريبة التي يتفجر فيها الحماس والإيمان والإخلاص اللامتناهي والبطولة التي لا تقهر -وإذا شئت فقل التعصب- مما اعتدنا أن ننسبها إلى تاريخ الإنسانية القديم. وعلى العموم يمكنه أن يشاهد تولد دين، لا يستبعد أن يأخذ محلاً ثابتًا بين أديان العالم العظيمة. وبالنسبة إلى الباحث في الأجناس البشرية، فإن البابية توفر غذاءً ذهنيًا بخصوص طبائع شعب عُرف بأنه أناني ومرتزق وجشع ومغرور وخسيس وجبان، وإذا بهم قادرون على أن يُظهِروا، بتأثير حافز ديني قوي، درجة من الإخلاص والتعفف والكرم ونكران الذات والنبل والشجاعة، مما قد تجد له مثيلاً في التاريخ ولكن لا تجد ما هو أعظم منه. وكذلك بالنسبة للرجل السياسي، فليست المسألة بأقل أهمية، لأنه لا يوجد حد للتغييرات التي يمكن أن تحصل في مملكة معدودة الآن بين الدول في ميزان القوى الدولية كالصفر، من تأثير دين أشعل في الناس مثل هذه الروح القوية. فالذين يعلمون ماذا فعل محمد ﷺ للعرب، عليهم أن يتفكروا فيما يفعله الباب للإيرانيين.‘ (مقدمة "مقالة سائح" لبراون، الصفحتان 8-9). ’وهنا في "البهجة" مكثت ضيفًا في وسط كل ما يعده البابيون نبيلاً ومقدسًا، وهنا صرفت خمسة أيام خالدة تمتعت في أثنائها بالفرص الثمينة التي لا مثيل لها، والتي كنت كثير الشوق لاغتنامها، حيث تحادثت مع من يُعتبرون منابع هذه الروح العجيبة التي تعمل بقوة خفية، دائمة التعاظم، في تغيير وإحياء قوم أشبه في نومهم بالأموات. كانت تجربة غريبة مؤثرة حقًا تلك الفرصة التي أتاحت لي المقابلة التي لا أقدر أن أصفها إلا بقدر مقدور وربما أجتهد فيما بعد أن أصف تفاصيل تلك الأجسام والوجوه التي أحاطتني، والمحادثات التي كان لي الشرف بالاستماع إليها، والتلاوة الوقورة المنغمة للكتب المقدسة، والإحساس العام بالتآلف والرضا الذي أحاط بالمكان، والحدائق العطرة الظليلة التي كنا نذهب إليها في عصر بعض الأيام، ولكن كل هذا لم يكن شيئًا مذكورًا بجانب الجو الروحاني الذي أحاطني. ويذكر لك الإيرانيون المسلمون أن البابيين يسحرون ضيوفهم أو يخدرونهم، وعندما ينجذب هؤلاء بافتتان لا يمكنهم مقاومته، يصبحون مثلهم، أي يصابون بما يسميه هؤلاء المسلمون بالجنون الغريب غير المعقول. ومع سخف هذا الاعتقاد، فإنه مع ذلك يستند على حقيقة أقوى مما يتناوله الناس. فالروح السائدة بين البابيين لا يفلت من تأثيرها من يَخبرها. فهي إما تفتن أو تجذب ولا يمكن لأي كان أن يتجاهلها أو يتغاضى عنها. فليكذبني كل من لم يشاهد الأمر بعينه، ولكن إذا ظهرت لهم هذه الروح مرة فإنهم سيشعرون باحساس من المستبعد تناسيه.‘ (المصدر السابق، الصفحتان 38-39). ’عند النظر إلى البابية بالمنظور الخارجي لنظمها، نجد ↓

وما كان النبيل نفسه يتصور أنه في ظرف أربعين سنة من كتابة تاريخه هذا، يسير أمر حضرة بهاءالله الذي هو زهرة الظهورات السابقة وثمرتها، ويتقدم في طريقه إلى الاعتراف العالمي والنصرة إلى هذا الحد. بل ما كان يظن أنه في أقل من أربعين سنة بعد وفاة حضرة بهاءالله، يندفع أمره متجاوزًا حدود إيران والشرق ليصل أقصى بقاع الأرض ويحيط بها كلها. وما كان ليصدّق التنبؤ، لو أُخبر به، بارتفاع راية الأمر في وسط قارة أمريكا خلال تلك الفترة وتشعر بوجوده عواصم أوروپا الرئيسة، وأنه سيصل إلى أقصى أطراف أفريقيا جنوبًا، وأنه يؤسس مراكزه في أستراليشيا. وكان ليصعب عليه أن يتصور في فكره، الذي امتلأ باعتقاد جازم عن مآل الأمر، تلك الكيفية التي صار إليها ضريح حضرة الباب، الذي باعترافه، لم يكن يعلم عن مصير رفات حضرته شيئًا، ولا عن أمر

_____________________________________________________________________

أنه قد حدث فيها تغييرات عظيمة جذرية منذ نشأتها كحركة تبليغية منذ نصف قرن. ولكن هذه التغييرات لم تنقص شيئًا من شهرتها بل على العكس زادتها انتشارًا بسرعة لا يمكن أن يتصورها الذين لا يرون فيها سوى نظام غير ناضج من الأنظمة السياسية أو الاختمارية الغيبية. فأقل تقدير لعدد البابيين في إيران حاليًا، هو نصف مليون. وأميل إلى الاعتقاد، استنادًا إلى أحاديث أجريتها مع أشخاص مؤهلين لإبداء الرأي في هذا الشأن، أن عددهم أقرب إلى مليون. فهم موجودون في كل طبقة من طبقات المجتمع من الوزراء والنبلاء إلى الكنّاس والسائس. وأغلب نشاطهم التبليغي يجري مع علماء المسلمين أنفسهم. وكما هو معروف فإن الحركة ابتدأت بالأسياد والحجاج والملاّوات، أي الأشخاص المعنيين بالعقيدة الإسلامية، سواء عن طريق انتمائهم بالنسب إلى الرسول، أو نزعة التقوى. وكانت الدعوة البابية قد تأسست في وسط هؤلاء المتدينين، وفيهم تستمر الدعوة ومنهم ظهر بابيون عديدون، وفيهم من يتمسك بالحكمة ويكون بهذه الوسيلة آمنًا لا يصيبه اضطهاد. أما في الأوساط الأدنى، فيخفون إيمانهم خوفًا من غضب رؤسائهم. وحديثًا انتشرت البابية في معسكر عدو آخر، حيث اعتنقها العديد من اليهود في المدن الإيرانية. وسمعت أنه في السنة الماضية اعتنق الأمر من اليهود 150 في طهران و 100 في همدان و 50 في كاشان و 75 بالمئة من يهود ﮔلبايگان.‘ ("إيران والمسألة الإيرانية" للورد كرزون، الجزء 1، الصفحتان 499-500) وكتب الدكتور ج. إستلين كارپنتر: ’ظهرت من العِرق الماهر أشهر وأهم حركة صدرت للآن من المجتمع الإسلامي حديثًا... وقد اجتمع حوله التلاميذ ولم تتوقف الحركة عندما قبض عليه وسجن مدة ست سنوات تقريبًا ليعدم أخيرًا في سنة 1850م... وهي أيضًا تدعي أنها ذات مبادئ عالمية، ولها جيش نبيل من الشهداء وكتب مقدسة. وتولّد في إيران في وقت اضطرابها وهبوطها دين سوف ينتشر في أنحاء العالم.‘ ("الدين المقارن"، الصفحتان 70-71). وكتب السيد إ. گ. براون قال: ’أثبت الشرق مرة أخرى في تاريخ العالم مقدرته على تعليم دين للغرب، وعلى أن يحل في العالم الروحي المحل الأسمى. وأنه ليس للغرب سوى نصيب في الشؤون المادية.‘ (مقدمة كتاب م. ﻫ. فيلپس "حياة عباس أفندي وتعاليمه"، الصفحة 15)

دفنها في قلب جبل الكرمل، قبلة الزائرين ومنارة النور للقادمين العديدين من أطراف الأرض. وما كان ليتصور أن بيت حضرة بهاءالله المتواضع الكائن وسط الأزقة الملتوية في بغداد القديمة، يفرض نفسه يومًا ما، نظرًا لمكائد عدو ساهر، ليصبح موضع اهتمام الدول الأوروپية الرئيسة وموضوع مناقشاتها ومداولاتها. وما كان ليتخيل، رغمًا عما امتدح به الغصن الأعظم(1) في تاريخه، أن تظهر من حضرته قوة يوقظ بها دول قارة أمريكا الشمالية في فترة قصيرة ويعدّها إلى تفهم عظمة الظهور الذي خلّفه له حضرة بهاءالله. وما كان ليتخيل أن الأسر المالكة التي قاومت الأمر بالظلم الذي يصفه في تاريخه ببراعة تامة، قد تضعضعت قواها وانتثر عقد نظامها وتهدم بنيانها وأصابتها البوائق التي بذل مندوبوها الجهد لإيقاعها بخصومهم. وما كان ليتخيل أن كامل المؤسسة الدينية في بلاده، وهي المحرك الأول والأداة الطيعة للإهانات الواقعة على دينه، ستسقط وسرعان ما تخذل وتنحل على يد القوى التي بذلت وسعها في قمعها. وما كان ليصدق أبدًا أن أعظم مؤسسات السنة في الإسلام وهما السلطنة والخلافة،(2) وهما الهيئتان التوأمان اللتان ظلمتا دين حضرة بهاءالله، قد محيتا ومحقتا بلا رحمة بأيدي حماة دين الإسلام أنفسهم. وما كان ليتخيل، مع انتشار أمر حضرة بهاءالله، أن تسير قوى التمكين والترسيخ جنبًا إلى جنب مع الإدارة الداخلية وتتطور معًا لتقدّم للعالم مشهدًا فريدًا يتمثل في اتحاد شعوب العالم (كومونولث) في نظام عالمي في تشعّبه، متحد في هدفه، متسق في مجهوداته، ومشتعل بحماسة وحمية يعجز الضراء عن إطفائهما مهما عَظُم.

ومع ذلك فمن يدري ما تبقّى من الإنجازات التي تفوق في عظمتها كل ما تحقق في السابق والحاضر، إنجازات قدّر تحقيقها على أيدي من تسلّموا هذا الميراث النفيس؟ ومن يدري أنه لن يبرز من وسط الاضطراب الحالي، الذي يهز وجه الحياة الاجتماعية،

________________________
(1) لقب حضرة عبدالبهاء.

(2) ’ابتدأت الخلافة الإسلامية بانتخاب أبي بكر سنة 632م واستمرت لغاية سنة 1258م عندما نهب هولاكو خان بغداد وأعدم المعتصم بالله. ولمدة ثلاثة قرون بعد هذه الفاجعة بقي لقب الخليفة للعباسيين الذين عاشوا تحت حماية المماليك لغاية سنة 1517م، حينما غلب السلطان سليم العثماني المماليك وأجبر الخليفة على التنازل له عن لقب الخلافة وشعارها.‘ ("تاريخ إيران" لسايكس، المجلد الثاني، الصفحة 25)

صورة 206
صورة 207

مناظر ضريح حضرة الباب مزينًا بالأنوار على جبل الكرمل

نظمُ حضرة بهاءالله العالمي بأسرع مما هو في الحسبان، ذلك النظم الذي ترى معالمه الظاهرة بالكاد الجامعات العالمية من أتباع حضرته الذين يحملون اسمه؟ ومهما كانت إنجازات الماضي عظيمة ومدهشة، فإن مجد العصر الذهبي لأمر الله، الذي وعد بمجيئه في أصداف بيانات حضرة بهاءالله الخالدة، لم يظهر بعد. ومهما كانت قسوة هجمات قوى الظلام التي قد تشن ضد أمر الله، ومهما امتد ذلك النضال واشتد، ومهما عظمت خيبات الأمل التي قد تصيب أمر الله، فإن غَلَبَته التي يحرزها أخيرًا ستصل إلى درجة لم يحققها أي دين في تاريخ العالم. إن اتحاد أمم الشرق والغرب، الذي تغنّى به الشعراء والحالمون، والوعد بتحقق ذلك الاتحاد الذي هو لبّ الظهور الذي أتى به حضرة بهاءالله وجوهره، والاعتراف بشريعته بأنها العروة الوثقى التي لا انفصام لها لاتحاد شعوب الأرض وأممها، وإعلان حكم الصلح الأعظم، كل ذلك ليس سوى بضع فصول من الحكاية المجيدة التي سيكشفها اكتمال أمر حضرة بهاءالله.

ومن يدري ما الانتصارات غير المسبوقة في المجد والبهاء التي تنتظر الجماهير الكادحة من أتباع حضرة بهاءالله؟ فنحن بالتأكيد، نقف عند ذلك الصرح الفخيم، الذي شيدته يد قدرته وعلى مسافة قريبة جدًا لا تمكننا في المرحلة الراهنة من تكوين أمر الله، من الإدعاء بمقدرتنا على تصوّر عظمة مجده الموعود. إن تاريخ الأمر السالف الملطخ بدماء ما لا يحصى من الشهداء، سوف يلهمنا بالفكرة القائلة، إنه مهما يصيب هذا الأمر من الكوارث، ومهما بلغت شدة بأس القوى التي قد تقوم على مهاجمته، ومهما تعددت النكسات التي ستنتابه حتمًا، فإن تقدم مسيرته لا يمكن أن تتوقف بحال وسوف يستمر بالتقدم إلى أن يتحقق آخر وعد مكنون في كلمات حضرة بهاءالله.

***
صفحة خالية
ملحق
قائمة بأشهر كتابات حضرة الباب
1.
البيان الفارسي
13.
الصحيفة الرضوية
2.
البيان العربي
14.
الرسالة العدلية
3.
قيوم الأسماء
15.
الرسالة الفقهية
4.
صحيفة الحرمين
16.
الرسالة الذهبية
5.
الدلائل السبعة
17.
كتاب الروح
6.
تفسير سورة الكوثر
18.
سورة التوحيد
7.
تفسير سورة والعصر
19.
لوح الحروفات
8.
كتاب الأسماء
20.
تفسير النبوة الخاصة
9.
الصحيفة المخدومية
21.
رسالة الفروع العدلية
10.
الصحيفة الجفرية
22.
الخصائل السبعة
11.
زيارة الشاه عبد العظيم
23.
رسائل لمحمد شاه والحاج ميرزا آقاسي
12.
كتاب الشؤون الخمسة

(يؤكد حضرة الباب نفسه في إحدى فقرات "البيان" الفارسي أن كتاباته تحتوي على ما لا يقل عن 500,000 آية)

كتابات حضرة بهاءالله
"كتاب الإيقان" (القاهرة، 1900م)
"لوح ابن الذئب" (القاهرة، 1920م)
"الإشراقات" (مخطوطة)
"ألواح الملوك" (مخطوطة)
كتابات حضرة الباب
"صحيفة الحرمين" (مخطوطة)
"قيوم الأسماء" (مخطوطة)
"البيان" الفارسي (مخطوطة)
"البيان" العربي (مخطوطة)
"الدلائل السبعة" (مخطوطة)
كتابات حضرة عبدالبهاء
"مفاوضات عبدالبهاء"
"تذكِرة الوفاء" (حيفا، 1924م)
ملاحظة: لمصادر أشمل راجع التالي:
1. "العالم البهائي"، المجلد رقم 3، الجزء 3.

2. "السيد محمد علي الباب" للسيد أ. ل. م. نقولاس، الصفحات 22-53.

3. "مواد لدراسة الدين البابي" للپروفسور إ. گ. براون، الصفحات 175-243.

4. "مجلة الجمعية الآسيوية الملكية"، 1892م، الصفحات 433-499، 637-710.

5. "مقالة سائح"، الصفحات 173-211.
المصادر التي رجع إليها المترجم (حضرة شوقي أفندي)

1- Balteau’s, M. J. Le Bábism (Lecture faite par M. J. Balteau, membre titulaire, a la séance du 22 mai, 1896. Academie Nationale de Reims. Imprimerie de l’Academie, Reims, N. Monce, Directeur; 24 Rue Pluche, 1897).

2- Big, Mirza Kazim, "Báb et les Bábis", Journal Asiatique, sixieme serie, tomes 7, 8, 1806.

3- Browne, E. G, A Traveller’s Narrative, translated from the Persian by (The University Press, Cambridge, 1891).

4- Browne, E. G, A Year amongst the Persians (Messrs. A. and C. Black, Ltd, London, 1893).

5- Browne, E. G. A Literary History of Persia (4 vols.) (The University Press, Cambridge, 1924).

6- Browne, E. G. Materials for the Study of The Bábi Religion (The University Press, Cambridge, 1918).

7- Browne, E. G. The Persian Revolution (The University Press, Cambridge, 1910).

8- Carpenter, J. Comparative Religion, New York, H. Holt, 1913 (?)

9- Cheyne, T. K. The Reconciliation of Races and Religions (Adam and Charles Black, 1914.

10- Chirole, The Middle Eastern Question, London, J. Murray, 1903.

11- The Christian Commonwealth, January 22, 1913.

12- Curzon, Lord Persia and the Persian Question (2 vols.) (Longmans, Green and Co., London, 1892).

13- Esselmont, J. E. Baha’u’llah and the New Era (The Baha’i Publishing Committee, New York, 1927) .بهاءالله والعصر الجديد، اسلمنت، السيد ج. إ. نيويورك 1927

14- Gibb, E. J. W. Memorial Series, vol. 15 (Luzac & Co., London, 1910).

15- Gonineau, Comte de Les Religions et les Philosophies dans l’Asie Centrale (Les Editions G. Cres et Cie., Paris, rue de Sevres, 1928.

16- Huart, M. Clement, la Religion de Báb (Ernat Leroue, Bonaparte, Paris, 1889).

17- Journal of the Royal Asiatic Society, 1889, articles 6, 12.

18- Journal of the Royal Asiatic Society, 1889. articles 7, 9, 13.

19- Markham, Clements, R. A General Sketch of the History of Persia Longmans Green and Co., London, 1874.)

20- Mirza Husayn of Hamadan, The Tarikh-i-Jadid, translated from the Persian by E. G. Browne (The University Press, Cambridge, 1893).

21- Nariman, G. K. Persia and Parsis, Part I (The Iran League, Bombay, 1925).

22- Nicolas, A. L. M. Essai sur le Shaykhisme I (Libraire Paul Geuthner, rue Mazarine. Paris, 1910)

23- Nicolas, A. L. M. Essai sur le Shaykhisme II (Libraire Paul Geuthner, rue Mazarine. Paris, 1914).

24- Nicolas, A. L. M. Siyyid ‘Ali-Muhammad dit le Báb (Libraine Critique, rue Notre-Dame-de-Lorette, Paris, 1908)

25- Nicolas, A. L. M. Le Bayan Persan, traduit du Persan (4 Vols.).

26- Nicolas, A. L. M. Le Livre des Sept Preuves. Traduction (J. Maisonneuve, rue de Mezieres, Paris, 1902).

27- Phelps. M. H. Life and Teachings of Abbas Effendi (G. People, Putman's Sons, London, 1912).

28- Sacy, Gabriel Du Regne de Dieu et de l’Agneau connu sous le nom de Bábisme (12 Juin. 1902).

29- Sheil, Lady Glimpses of life and Manners in Persia (John Murray, Albemarle Street, London, 1856).

30- Sykes, P. M. (Lieutenant-Colonel) A History of Persia (2 vols.) (Macmillan & Co., London, 1915).

31- Watson, R. G. History of Persia, London. Smith & Elder, 1866.

32- Younghusband, Sir Francis The Gleam (John Murray, Albemarle Street, London, 1923).

33- تاريخ الحاج معين السلطنة (مخطوط).
34- تاريخ سمندر (مخطوط).

35- مستوفي، ميرزا تقي، "ناسخ التواريخ" (جزء القاجار)، (لسان المُلك، معروف بلقب "سپهر")، طهران، (طبعة حجريّة).

36- مصطفى، محمد "الرسالة الأمرية"، مطبعة السعادة، القاهرة.

37- ميرزا أبو الفضل، "كتاب الفراائد" (طبع في القاهرة).

38- ميرزا أبو الفضل، "كشف الغطاء"، عشق آباد، روسيا.

39- ميرزا أبو الفضل، مخطوطات وملاحظات (لم تنشر).
***
التقسيمات الإدارية في إيران في القرن التاسع عشر

"لا توجد قاعدة محددة أو دائمة في التقسيمات الإدارية في إيران. ويتحكم في فصلها أو ضمها الحكام الإداريون حسب مقدرتهم أو سمعتهم، وكذلك في مدى الثقة أو الخوف من الملك... وتجدر الإشارة إلى أنه لا توجد معايير من قبيل الجغرافيا أو العرق أو السياسة في تحديد تخوم الفروع الإدارية المختلفة والتي تتتباين في مساحتها من مقاطعة بمساحة إنگلترا إلى بلدة صغيرة قديمة مع ضواحيها."

المقاطعات الرئيسة أو الأقاليم
___________________
الوحدة الإدارية
القاعدة
آذربيجان
تبريز
خراسان وسيستان
مشهد
طهران وتوابعها
طهران
فارس
شيراز
إصفهان وتوابعها
إصفهان
كرمان وبلوچستان الإيرانية
كرمان
عربستان
شوشتر
گيلان وطالش
رشت
مازندران
آمل
يزد وتوابعها
يزد
الخليج الفارسي وسواحله وجزره
بوشهر

(من "إيران والمسألة الإيرانية"، للورد كرزون، الجزء 1، الصفحة 437)

المفوضون البريطانيون والروس لدى بلاط شاه إيران، من 1814-1855م

1814م نوڤمبر/تشرين الثاني
السيد موريير والسيد إيليس
1815م يوليو/ تموز
السير هنري ويلوك
1826م سپتمبر/أيلول
السير جون ماكدونالد
1830م يونيو/حزيران
السير جون كامبل
1836م أغسطس/آب
السير جون ماكنيل
1842م أغسطس/آب
السير جوستين شيل
1847م أكتوبر/تشرين الأول
العقيد فارانت (بالإنابة)
1849م نوڤمبر/تشرين الثاني
السير جوستين شيل (عائدًا من إجازة)
1853م فبراير/شباط
السيد تايلور تومسون (بالإنابة)
1855م أبريل/نيسان
سعادة أ. ك. موراي
1817م أغسطس/آب
الجنرال يرمولوف
1819م أبريل/نيسان
السيد م. مازاروڤتش
1823م يناير/كانون الثاني
السيد م. أمبورجر (بالإنابة)
1824م يوليو/ تموز
السيد م. مازاروڤتش (عائدًا من إجازة)
1825م سپتمبر/أيلول
السيد م. أمبورجر
1826م يوليو/ تموز
الأمير منشيكوف
1828م
السيد م. گريبايادوف
1831م
الأمير دولوگوروكي
1833م فبراير/شباط
الكونت سيمونيچ
1839م
الكونت ميدين
1846م يناير/كانون الثاني
الأمير دولوگوروكي
1854م سپتمبر/أيلول
السيد م. أنيتچكوف

(" لمحة عامة عن تاريخ إيران" لكلمنتس ر. ماركهام، الملحق "ب". لندن، 1874م)

أوائل بعض السنوات الهجرية وما يقابلها بالتاريخ الميلادي

1 محرم سنة 1ﻫ
الجمعة
16 يوليو/تموز سنة 622م
1 محرم سنة 1260ﻫ
الاثنين
22 يناير/كانون الثاني سنة 1844م
1 محرم سنة 1261ﻫ
الجمعة
10 يناير/كانون الثاني سنة 1845م
1 محرم سنة 1262ﻫ
الثلاثاء
30 ديسمبر/كانون الأول سنة 1845م
1 محرم سنة 1263ﻫ
الأحد
20 ديسمبر/كانون الأول سنة 1846م
1 محرم سنة 1264ﻫ
الخميس
9 ديسمبر/كانون الأول سنة 1847م
1 محرم سنة 1265ﻫ
الاثنين
27 نوڤمبر/تشرين الثاني سنة 1848م
1 محرم سنة 1266ﻫ
السبت
17 نوڤمبر/تشرين الثاني سنة 1849م
1 محرم سنة 1267ﻫ
الأربعاء
6 نوڤمبر/تشرين الثاني سنة 1850م
1 محرم سنة 1268ﻫ
الاثنين
27 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1851م
1 محرم سنة 1269ﻫ
الجمعة
15 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1852م
1 محرم سنة 1270ﻫ
الثلاثاء
4 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1853م

(المصدر: Wusttemfield-Mahler’sche Vegleichungs-Tabellen, Leipzig, 1926)

معجم المصطلحات الفارسية
آقا: سيّد
إمام زاده: من نسل الإمام، أو مرقد الإمام
خان: سيد، زعيم، نبيل
فرّاش: حاجب، خادم
فرّاش باشي: رئيس الفرّاشين
كدخدا: مختار حيّ أو قرية
الكربلائي: من قام بالحج إلى كربلاء
كلانتر: عمدة البلدة أو المدينة

كلاه: قلنسوة من الصوف يلبسها عادة موظفو الحكومة والمدنيون

المشهدي: من قام بالحج إلى مشهد
الملاّ: رجل دين مسلم

ميرزا: مختصر أمير زاده، وتعني السيد إذا سبقت الاسم، أو أمير إذا تلت الاسم

نوروز: يوم جديد، وحسب التقويم الفارسي هو يوم الدخول في برج الحمل

***
صورة 208
خارطة إيران
صفحة خالية
??
??
??
??
I
277

Table of Contents: Albanian :Arabic :Belarusian :Bulgarian :Chinese_Simplified :Chinese_Traditional :Danish :Dutch :English :French :German :Hungarian :Íslenska :Italian :Japanese :Korean :Latvian :Norwegian :Persian :Polish :Portuguese :Romanian :Russian :Spanish :Swedish :Turkish :Ukrainian :