حمداً لله وثناءً إذ إنّه جلّ شأنه زيّن بكمال عنايته الإنسان بطراز العقل والنّهى وبذلك هداه لاكتشاف أسرار الكائنات ومعرفة رموز الأسماء والصّفات، وشاءت إرادته الأزليّة في هذا الدّور الأعلى الّذي هو مظهر شروق النّور الأبهى أن يرتبط الشّرق والغرب برابطة المحبّة الإلهيّة، وأن تزول الاختلافات المذهبيّة والفوارق القوميّة والوطنيّة، وأن يكون سطح الكرة الأرضيّة كلّه وطناً واحداً يشترك فيه كافّة أفراد النّوع الإنساني. نعم إنّ العباد جميعاً في هذا اليوم البديع هم أوراق غصن واحد وقطرات بحر واحد. فالمنّة لله تعالى الأزليّ السّرمديّ الّذي وفّق هذه الذّرّة الفانية مع قلّة البضاعة وعدم الاستحقاق واللّياقة للعبوديّة والطّاعة، فتشرّفت بفيض لقاء حضرة "عبد البهاء" روحي لتراب أقدامه الفداء، وأشربني ذلك السّاقي الأزليّ بيده الفيّاضة كأس المعاني.
وبعد أن تشرّفت هذه الذّرّة الفانية عدّة مرّات بزيارة أرض المقصود (الأراضي المقدّسة)، ونالت منتهى آمالها وأمانيها، كان كلّ أعضائها وجوارحها شوقاً لإدراك الحقائق الرّوحيّة والاغتراف من ذلك البحر بحر المعاني الّذي لا ساحل له، فسألت حضرة عبد البهاء عدّة أسئلة تتعلّق بالأمر الأبهى وبعض المسائل الإلهيّة وأجاب حضرته على هذه الأسئلة كلّها بحسب مدركاتي الضّعيفة بنهاية الرّأفة والشّفقة مع مشاغله اليوميّة المستمرّة الّتي لم يكن يستطيع معها أن يستريح لحظة واحدة، ولكي
تستطيع هذه الفانية أن تتأمّل عند سنوح الفرصة وفراغ البال في تلك المسائل الغامضة، عيّن حضرته كاتباً نشيطاً ليدوّن بياناته حين التّكلّم.
ولمّا لم يكن لي إلمام باللّغة الفارسيّة ولا كفاية للخوض في عباب المسائل المعضلة الإلهيّة، كان في غالب الأحيان يضطرّ حضرة عبد البهاء أن يكرّر المسألة الواحدة في مواضع متعدّدة، والاستعارات والتّشبيهات الّتي كان يستعملها في موضوع معيّن كان يستعملها أيضاً في مواضع أخرى، ومع أنّ هذه الحقائق العالية كان يستلزم ذكرها أن تصاغ في عبارات أسمى، إلاّ أنّ حضرته بيَّنها بعبارات سهلة بسيطة وكانت النّتيجة بعد مدّة أن تكوّنت مجموعة وجيزة من تلك الأسئلة والأجوبة، وقد كانت هذه الفانية تتمتّع بالتّأمّل في حقائقها الباهرة فجال بخاطري ألاّ يحرم الظّمأى لزلال المعرفة من ماء الحياة الأبديّ هذا ليستفيض النّفوس من البهائيّين وغيرهم من الطّوائف الأخرى من الحقائق المندرجة في آيات ذلك الفيض السّرمديّ.
فلهذا استأذنت حضرة عبد البهاء أن أطبع وأنشر تلك الأسئلة والأجوبة بهيئة كتاب يستفيد منه العموم، فقمت بعد صدور الإجازة بتنظيم وترتيب هذه الفصول حسبما رأى نظري القاصر حتّى أصبحت هذه اللّئالئ المنثورة عقداً منظوماً وباشرت بطبعها ونشرها عن رضاء وطيب خاطر ليكون هديّة قيّمة وكنزاً ثميناً لأولي الفضل والمعرفة، ولي الأمل أن يكون هذا الكتاب وسيلة لأن يصل الأمر الأقدس الأبهى (الّذي أنار الآفاق وغيّر وجهة العالم) إلى مسامع كافّة النّفوس في أنحاء الكرة، ويصل صيته الّذي أحاط العالمين إلى مسامع القريب والبعيد من أمم العالم.
كليفورد بارني أمريكانيةقامت هذه اللّجنة تلاحظها العناية الإلهيّة بتعريب كتاب "مفاوضات حضرة عبد البهاء" بعد أن صدر بذلك قرار المحفل الرّوحاني المركزي للبهائيّين بالقطر المصريّ وبتوفيق الله تعالى وعونه وعنايته بذلت قصارى جهدها في هذا العمل وكان نصب عينها ومطمح نظرها أن تقدّم لقرّاء العربيّة كتاباً من خير الكتب الّتي أخرجت للنّاس في هذا الظّهور المبارك (والمفاوضات) وأيم الحقّ كتاب قيّم تتضوّع من بين سطوره روائح الحقيقة وترفع الحجب والأستار لقارئه بنفحات القدس عن المعاني الحقيقيّة لبعض المسائل المعضلة الإلهيّة.
وإنّ اللّجنة لتعتقد أنّها وإن كانت بذلت غاية الجهد في ترجمته إلاّ أنّها مع ذلك ترى أن الأصل الفارسيّ للكتاب المترجم كاللّب والتّرجمة بمثابة القشر. وفي يقينها أيضاً أنّها قد تحرّت الحقيقة في التّرجمة وتوخّت جهد الاستطاعة أن تجعل التّرجمة مطابقة للأصل، وكان شعارها في هذا العمل المجيد التّفاني في خدمة أمر الله وانتشاره بين بقاع العالم ليتمتّع الإنسان في الشّرق والغرب بنفحات أمره المبارك وآثاره التّي كمنت فيها سعادة العالم وهناءته.
هذا وإنّ اللّجنة لتتمنّى وترجو من قرارة النّفس وحبّة القلب أن يرى هذا الكتاب الجليل منتفعاً به محقّق الأثر بين ربوع العالم الإنساني في أنحاء الكرة الأرضيّة عامّة. هدى الله به أهل العالم إلى سواء السّبيل.
هذه الطّبعةنشر هذا الكتاب القيّم لأوّل مرّة باللّغة الفارسيّة في عام 1908، ثمّ نشرت ترجمته الإنجليزيّة عدّة مرّات تحت عنوان Some Answered Questions وتلا نشره باللّغات الحيّة الأخرى ومن جملتها التّرجمة العربيّة الّتي نشرت عام 1928 في مصر.
والآن يسرّ هذه الدّار أن تعيد طبع التّرجمة العربيّة تلبية لرغبة الكثيرين من الأحبّاء الأعزّاء، ومن الجدير بالذّكر أنّ ما أوردناه في هذه الطّبعة تمّت مقارنتها بالنّسخة الفارسيّة المنشورة في عام 1908 بكلّ دقّة وتمحيص فنقِّح بعض عباراتها وأدخل فيها ما كان ساقطاً سهواً من الكتاب في الطّبعة الأولى.
إنّنا إذ نسدي الشّكر خالصاً للسّيدة الفاضلة كليفورد بارني الّتي اهتمّت بجمع هذه البيانات المباركة وجعلها كتاباً ينطق بكثير من الحقائق الرّوحانيّة ويحلّ عديداً من المعضلات الاجتماعيّة والإنسانيّة، نقرّ أيضاً بجهود أولئك الّذين أتحفوا النّاطقين بالضّاد بهذه النّادرة الفريدة في طبعتها الأولى.
ولعلّ من واجبنا كذلك أن نثني على المساعي الّتي بذلت لمراجعة الكتاب مرّة أخرى إعداداً لهذه الطّبعة، راجين الله القويّ القدير أن يقدّر لهم جميعاً مثوبة العاملين المخلصين بمنّه وجوده.
دار النّشر البهائيّة في بلجيكاالطّبيعة هي كيفيّة أو حقيقة ينسب إليها بحسب الظّاهر الحياة أو الموت أو بعبارة أخرى يرجع إليها تركيب جميع الأشياء وتحليلها، وهي خاضعة لنظم صحيحة وقوانين ثابتة وترتيبات كاملة وهندسة بالغة لا تتجاوزها أبداً إلى درجة أنّك لو تلاحظ بنظر دقيق وبصر حديد تجد أنّ الكائنات في عالم الوجود من الذّرّات غير المرئيّة إلى أعظم الكرات الجسيمة ككرة الشّمس وسائر النّجوم العظيمة والأجسام النّورانيّة في نهاية درجة من الانتظام سواء من حيث التّرتيب أو التّركيب أو من حيث الهيئة أو الحركة، وتراها جميعاً تحت قانون كلّيّ واحد لا تتجاوزه أبداً، وإذا نظرت إلى الطّبيعة ذاتها، تجدها بلا شعور ولا إرادة، فمثلاً النّار طبيعتها الإحراق وتحرق بلا إرادة ولا شعور، والماء طبيعته الجريان ويسيل بلا إرادة ولا شعور، والشّمس طبيعتها الضّياء وتضيء بلا إرادة ولا شعور، والبخار طبيعته الصّعود ويصعد بلا إرادة ولا شعور، ويتّضح من هذا أنّ الحركات الطّبيعيّة لجميع الكائنات جبريّة، ليست لكائن ما حركة إراديّة سوى الحيوان ولا سيّما الإنسان، فالإنسان يقدر على مخالفة الطّبيعة ومقاومتها، لأنّه كشف طبائع الأشياء، وبذلك يحكم على الطّبيعة وأنّ ما وصل إليه من الاختراعات والصّنائع كانت نتيجة كشفه النّقاب عن طبائع الأشياء
كاختراعه البرق (التّلغراف) الّذي اتّصل به الشّرق والغرب، ومن هذا نعلم أنّ للإنسان سلطاناً وحكماً على الطّبيعة.
فهل يمكن أن يقال أنّ تلك النّظم والتّرتيبات والقوانين الّتي تشاهدها في الوجود هي من تأثيرات الطّبيعة، مع أنّها لا إدراك لها ولا شعور؟ إذاً فالطّبيعة ليس لها إدراك ولا شعور وهي في قبضة الحقّ القدير، المدبّر لعالم الطّبيعة ويظهر منها ما يشاء.
يقولون إنّ من جملة الأمور الّتي تحدث في عالم الوجود من مقتضيات الطّبيعة هو وجود الإنسان، إن صحّ ذلك يكون الإنسان فرعاً والطّبيعة أصلاً، وهل من الممكن أن توجد إرادة وشعور وكمالات في الفرع ولا يوجد لها في الأصل؟ فتبيّن من هذا أنّ الطّبيعة من حيث ذاتها في قبضة الحقّ الحيّ القدير الّذي حكمها وأخضعها لقوانين ونظم ثابتة.
(2)ومن جملة دلائل الألوهيّة وبراهينها أنّ الإنسان لم يخلق نفسه بل الخالق والمصوّر له غيره، ومن اليقين الّذي لا مرية فيه أنّ خالق الإنسان ليس مثل الإنسان لأنّ الكائن الضّعيف ليس في مقدوره أن يخلق كائناً آخر مثله، والخالق الفاعل يجب أن يكون حائزاً لجميع الكمالات حتّى يمكنه أن يخلق ويصنع، فهل من الممكن أن يكون الصّنع في نهاية الكمال والصّانع ناقص؟ وهل يمكن أن يكون النّقش في نهاية الإتقان والنّقّاش غير ماهر في صنعه؟ مع أنّ النّقش من عمله وصنعه، والنّقش لن يكون
مثل صانعه وإلاّ لنقش نفسه. ومهما كان النّقش في نهاية الكمال فإنّه إذا قورن بالنّقّاش يبدو في نهاية النّقص، وعليه فالإمكان معدن النّقائص والله تبارك وتعالى مصدر الكمال، وإنّ وجود النّقائص في عالم الإمكان لدليل على كمالات الله، فمثلاً إذا نظرت إلى الإنسان ترى أنّه عاجز فعجز الخلق دليل على قدرة الحيّ القدير، فإن لم تكن القدرة لما أمكن تصوّر العجز، إذاً فعجز الخلق دليل على قدرة الحقّ ولو لم تكن القدرة لما تحقّق العجز ومن هذا العجز ندرك أنّ في العالم قدرة.
مثلاً في عالم الإمكان فقر، فلا بدّ من وجود الغنى الّذي يتحقّق به الفقر، وفي العالم جهل فلا بدّ من وجود العلم الّذي يتحقّق به الجهل، لأنّه لو لم يكن العلم لما تحقّق الجهل، لأنّ الجهل عدم العلم، ولو لم يكن الوجود لما تحقّق العدم.
ومن المسلّم به أنّ عالم الوجود خاضع لأحكام ونظم لا يتجاوزها أبداً، وحتّى الإنسان مجبر على الموت والنّوم وغيرهما، أي أنّه محكوم في بعض المراتب، ولا بدّ لهذا المحكوم من حاكم، وما دام الاحتياج صفة الممكنات ومن لوازمها الذّاتيّة، فلا بدّ من وجود غنيّ بذاته، مثلاً يعلم من وجود المريض أنّ هناك صحيحاً ولو لم يكن هناك الصّحيح لما ثبت وجود المريض، وعليه صار من المعلوم أنّه يوجد حيّ قدير حائز لجميع الكمالات لأنّه إن لم يكن متّصفاً بالكمالات بأسرها لكان كالخلق أيضاً، كما وأنّ أدنى صنعة من الصّنائع في عالم الوجود تدلّ على صانع لها، فهذا الخبز مثلاً يدلّ على أنّ له صانعاً، سبحان الله ألا يدلّ تغيير هيئة الكائنات الجزئيّة على صانع؟ وهذا الكون العظيم اللاّمتناهي أوجد من تلقاء نفسه وتحقّق من تفاعل المواد والعناصر! فما أوضح بطلان هذه
الفكرة! هذه أدلّة نظريّة للنّفوس الضّعيفة، ولو فتحت عين البصيرة لشاهدت مائة ألف دليل من الدّلائل الباهرة، مثال هذا لو كان للإنسان إحساس روحيّ لاستغنى عن دليل لإثبات وجود الرّوح، أمّا النّفوس المحرومة من الفيض الرّوحيّ فتحتاج لإقامة الدّلائل الخارجة عن عالم الرّوح.
(3)لو نمعن النّظر في عالم الوجود نلاحظ أنّ عالم الجماد والنّبات والحيوان والإنسان كلاًّ وطرّاً في حاجة إلى مربٍّ، فإذا لم يكن للأرض مربٍّ يتعهّدها تصير غابة وتخرج نباتاً لا فائدة فيه، أمّا إذا وجد لها من يتعهّدها ويرعاها فإنّها تؤتي أكُلاً يقتات به ذوو الأرواح، إذاً صار من المعلوم أنّ الأرض تحتاج إلى عناية الزّارع ورعايته لها، انظروا إلى الأشجار إنّها لو تركت بدون مربٍّ فإنّها لا تأتي بثمر وتكون عديمة الفائدة، أمّا إذا تربّت وتعهّدت فذلك الشّجر غير المثمر يصبح مثمراً، وبالتّربية والتّلقيح والتّطعيم تعطي الأشجار ذات الأثمار المرّة فواكه شهيّة، وهذه أدلّة عقليّة وأهل العالم اليوم في حاجة إلى الدّلائل العقليّة.
وكذلك انظر إلى الحيوان تجده بالتّربية يصبح أليفاً، وإذا ترك إنسان بلا تربية يصير حيواناً بل لو ترك والطّبيعة صار أحطّ من الحيوان أمّا إذا ربّيته ألفيته ملاكاً، لأنّ أكثر الحيوان لا يأكل أبناء نوعه، أمّا الإنسان في السّودان بأواسط أفريقيا فإنّه يفتك بأبناء نوعه ويأكلهم،
ومن هذا ترون أنّ التّربية هي الّتي تجمع الشّرق والغرب تحت راية حكم الإنسان، والتّربية هي الّتي تظهر كلّ هذه الصّنائع العجيبة، والتّربية هي الّتي تروّج هذه الفنون والعلوم العظيمة، والتّربية هي الّتي تظهر هذه المكتشفات، فولا المربّي لما تهيّأت بأيّ وجه من الوجوه أسباب الرّاحة والمدنيّة هذه كما ترى، ولو ترك إنسان في صحراء بحيث لا يرى أحداً من أبناء نوعه فلا مرية في أنّه يصبح حيواناً محضاً.
يعلم من هذا أنّه لا بدّ من المربّي، ولكنّ التّربية على ثلاثة أنواع تربية جسمانيّة، وتربية إنسانيّة، وتربية روحانيّة، فالتّربية الجسمانيّة هي لنشوء الجسم ونموّه وذلك يكون بتسهيل سبل المعيشة وتوفير أسباب الرّاحة والرّفاهية الّتي فيها يشترك الإنسان والحيوان، وأمّا التّربية الإنسانيّة فهي عبارة عن المدنيّة والتّرقّي والسّعادة، يعني السّياسة والنّظام والتّجارة والصّناعة والعلوم والفنون والاستكشافات العظيمة والاختراعات الجليلة الّتي بها يمتاز الإنسان عن الحيوان، وأمّا التّربية الإلهيّة فهي تربية ملكوتيّة، هي اكتساب كمالات إلهيّة، هي التّربية الحقيقيّة، إذ بها يكون الإنسان في هذا المقام مركز السّنوحات الرّحمانيّة ومظهر (لنعملنّ إنساناً على صورتنا ومثالنا)، وهذا هو المقصد الأسمى للعالم الإنساني.
فنحن الآن نريد مربّياً يكون مربّياً جسمانيّاً ومربّياً إنسانيّاً ومربّياً روحانيّاً نافذ الحكم في جميع الشّؤون.
ولو يقول أحد إنّني كامل العقل والإدراك وغير محتاج لذلك المربّي إنّه منكر للبديهيّات ومثله كمثل طفل يقول إنّني لست محتاجاً للتّربية وأعمل حسب ما يوحيه إليّ فكري وبنفسي يمكنني الحصول على
كمالات الوجود، أو كمثل أعمى يقول إنّني في غنى عن البصر لأنّ هناك عميان كثيرين وهم عائشون، إذاً صار من الواضح المشهود أنّ الإنسان محتاج إلى المربّي ولا شكّ أنّ هذا المربّي يجب أن يكون كاملاً في جميع المراتب وممتازاً عن جميع البشر في كلّ الشّؤون لأنّه لو كان كسائر البشر لا يكون مربّياً، خصوصاً وأنّه يجب أن يكون مربّياً جسمانيّاً ومربّياً إنسانيّاً ومربّياً روحانيّاً، أي ينظّم ويدبّر الأمور الجسمانيّة ويشكّل الهيئة الاجتماعيّة حتّى يحصل التّعاون والتّعاضد في المعيشة وتنظّم وترتّب الأمور المادّيّة في كلّ الأحوال.
وكذلك يؤسّس التّربية الإنسانيّة، أي يجب أن يربّي العقول والأذهان بحيث تصبح قابلة للتّرقّيات الكلّيّة، فتتّسع دائرة العلوم والمعارف وتكشف حقائق الأشياء وأسرار الكائنات وخاصّيّات الموجودات، وتزداد يوماً بعد يوم التّعاليم والاكتشافات، ويستدلّ من المحسوسات على المعقولات، وكذلك يربّي تربية روحانيّة حتّى تهتدي العقول والمدارك لمعرفة ما وراء الطّبيعة وتستفيض من نفحات روح القدس وترتبط بالملأ الأعلى وتصبح الحقائق الإنسانيّة مظاهر السّنوحات الرّحمانيّة حتّى تتجلّى جميع الأسماء والصّفات الإلهيّة في مرآة حقيقة الإنسان وتتحقّق الآية المباركة (لنعملنّ إنساناً على صورتنا ومثالنا).
ومن المعلوم أنّ القوى البشريّة لا تستطيع القيام بأمر عظيم كهذا، ولا يمكن أن تكفل النّتائج الفكريّة أمثال هذه المواهب، فكيف يمكن لشخص واحد بدون ناصر أو معين أن يؤسّس هذا البنيان الرّفيع، إذاً
لا بدّ له أن تؤيّده القوّة المعنويّة الرّبّانيّة ليتسنّى له القيام بهذا العمل الجليل.
إنّ ذاتاً واحدة مقدّسة تحيي العالم الإنساني وتغيّر هيئة الكرة الأرضيّة وترقّي العقول وتحيي النّفوس وتؤسّس حياة جديدة وتضع أسساً بديعة وتنظّم العالم وتدخل الأمم والملل في ظلّ راية واحدة وتنجي الخلق من عالم النّقائص والرّذائل وتحثّهم وتشوّقهم إلى الكمالات الفطريّة والاكتسابيّة، فلا بدّ وأن تكون هذه القوّة قوّة إلهيّة ليتسنّى لها القيام بهذا العمل العظيم، ويجب أن ينظر بعين الإنصاف لأنّ هنا مقام الإنصاف، إنّ الأمر الذي لا يمكن لجميع دول العالم وملله إجراؤه وترويجه بكلّ القوى والجنود أجرته نفس مقدّسة بدون ناصر أو معين، فهل يمكن إجراء هذا بالقوّة البشريّة؟ لا والله، فحضرة المسيح مثلاً رفع علم الصّلح والصّلاح وهو وحيد فريد بينما جميع الدّول القاهرة تعجز عن هذا العمل مع جميع قواها.
فانظر كم من الدّول والملل المختلفة مثل الرّوم وفرنسا وألمانيا والرّوس والإنكليز وغيرهم استظلّوا تحت خيمة واحدة، فظهور حضرة المسيح كان سبب الألفة بين تلك الأقوام المختلفة حتّى أنّ بعضهم من الّذين آمنوا بحضرته ائتلفوا لدرجة أن فدوا بأموالهم وأرواحهم بعضهم بعضاً واستمرّ ذلك إلى زمن قسطنطين الّذي كان سبب إعلاء أمر حضرة المسيح ثمّ دبّ الخلاف فيما بينهم لأغراض مختلفة، وخلاصة ما تقدّم أنّ حضرة المسيح جمع هذه الأمم ولكن بعد مدّة مديدة أصبحت الدّول سبب الاختلاف مرّة أخرى.
والمقصود من هذا هو أنّ حضرة المسيح وفّق إلى أمور عجز عنها جميع ملوك الأرض لأنّه وحّد الملل المختلفة، وغيّر العادات القديمة.
انظروا إلى الرّومان واليونان والسّريان والمصريّين والفينيقيّين والإسرائيليّين وسائر الملل الأوروبيّة، كم كان بينها من الاختلافات فقضى عليها وأزالها السّيّد المسيح وكان سبباً لإيجاد المحبّة بين جميع هذه القبائل، نعم ولو أنّ الدّول بعد مدّة غير قصيرة أخلّت بهذا الاتّحاد إلاّ أنّ المسيح كان قد قام بعمله.
والخلاصة إنّ المربّي الكلّيّ يجب أن يكون مربّياً جسمانيّاً ومربّياً إنسانيّاً ومربّياً روحانيّاً مؤهّلاً بقوّة أخرى فوق عالم الطّبيعة حتّى يحوز مقام المعلّم الإلهي، فإن لم يظهر مثل تلك القوّة القدسيّة لا يقدر على التّربية لأنّه في ذاته ناقص فكيف يستطيع أن يربّي تربية كاملة، مثلاً إذا كان المربّي جاهلاً فكيف يستطيع أن يعلّم غيره، وإذا كان ظالماً فكيف يجعل غيره عادلاً، أو ناسوتيّاً فكيف يجعل غيره إلهيّاً، إذاً يجب علينا أن ننظر بعين الإنصاف، هل المظاهر الإلهيّة الّذين ظهروا كانوا حائزين لجميع هذه الصّفات أم لا؟ فإن لم يكونوا حائزين لهذه الصّفات وهذه الكمالات لما كانوا مربّين حقيقيّين، بناءً على ذلك يجب أن نثبت للمفكّرين بالدّلائل العقليّة نبوّة حضرة موسى ونبوّة حضرة المسيح وسائر المظاهر الإلهيّة، وهذه الدّلائل والبراهين الّتي نذكرها هي دلائل معقولة لا منقولة، وقد ثبت بالدّلائل العقليّة أنّ العالم في حاجة قصوى إلى المربّي وتلك التّربية يجب أن تحصل بالقوّة القدسيّة ولا شبهة في أنّ تلك القوّة القدسيّة هي الوحي وبهذه القوّة الّتي هي فوق البشر يلزم تربية الخلق.
(4)وممّن أوتي هذه القوّة وأيّد بها حضرة إبراهيم، والبرهان على ذلك أنّ حضرته ولد في ما بين النّهرين من أسرة غافلة عن وحدانيّة الله فخالف ملّته ودولته حتّى عائلته وأنكر جميع آلهتهم وقاوم وحيداً فريداً قوماً قويّاً، وما كانت هذه المخالفة بالسّهل الهيّن، فهو كمن يعترض اليوم على حضرة المسيح عند الملل المسيحيّة المتمسّكة بالتّوراة والإنجيل، أو كمثل من يسبّ المسيح (أستغفر الله) في مركز البابا (الفاتيكان) ويقاوم الملّة بأسرها ببالغ القدرة والمهابة، وما كان لهؤلاء إله واحد بل كانوا يعتقدون بآلهة متعدّدة، ويروون عنها المعجزات، ولذا قام الكلّ على حضرة إبراهيم، ولم يتبعه أحد سوى ابن أخيه لوط وواحد أو اثنان ممّن لا شأن لهم، ثمّ خرج حضرته من وطنه مظلوماً مضطهداً من شدّة ما لقيه من مقاومة الأعداء، وفي الحقيقة أنّهم أخرجوا حضرته من وطنه كي يهلك وينعدم ولا يبقى له أثر، فجاء حضرته إلى هذه الجهات أي الأراضي المقدّسة، وخلاصة القول أنّ أعداءه اعتبروا أنّ هذه الهجرة ستؤدّي إلى انعدامه واضمحلاله، وحقيقة الواقع أنّ من يطرد من وطنه المألوف ويحرم من حقوقه ويحيق به الظّلم من جميع الجهات لينعدم ولو كان سلطاناً، ولكنّ حضرة إبراهيم ظلّ ثابت القدم وأظهر استقامة خارقة للعادة، وجعل الله هذه الغربة له عزّة أبديّة حتّى أسّس الوحدانيّة الإلهيّة، لأنّ جميع البشر كانوا عبدة أوثان، فكانت هذه الهجرة سبباً
لترقّي سلالة إبراهيم، كانت هذه الهجرة سبباً في إعطاء الأرض المقدّسة لسلالة إبراهيم، وكانت هذه الهجرة سبباً في انتشار تعاليم إبراهيم، وكانت هذه الهجرة سبباً لظهور يعقوب ويوسف الّذي صار عزيز مصر وهما من سلالة إبراهيم، وكانت هذه الهجرة سبباً لظهور مثل حضرة موسى من سلالة إبراهيم، وكانت هذه الهجرة سبباً لظهور مثل حضرة عيسى من سلالة إبراهيم، وكانت هذه الهجرة سبباً لظهور هاجر الّتي ولدت إسماعيل فظهر من سلالته حضرة محمّد، وكانت هذه الهجرة سبباً في ظهور حضرة الأعلى من سلالته، وكانت هذه الهجرة سبباً لظهور أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم، وكذلك يستمرّ إلى أبد الآباد، وكانت هذه الهجرة سبباً لدخول أوروبّا وأكثر أمم آسيا في ظلّ إله إسرائيل، فانظر ما أعجب هذه القدرة الّتي تجعل شخصاً مهاجراً يكوّن أسرة كهذه ثمّ ملّة كهذه ثمّ يروّج تعاليم كهذه!
فهل يمكن الآن لأحد أن يقول بأنّ كلّ ذلك يحدث عن طريق الصّدفة؟ إذاً يلزم الإنصاف، هل كان هذا الشّخص مربّياً أم لا؟ ويجب التّأمّل قليلاً في أنّ هجرة إبراهيم كانت من أرفة بحلب إلى سوريّة، وكانت تلك نتائجها، فماذا تكون نتيجة هجرة حضرة بهاء الله من طهران إلى بغداد ومن هناك إلى إسلامبول ومنها إلى الرّوملِّي (أدرنة) ومنها إلى الأرض المقدّسة؟
إذاً فانظر كيف أنّ حضرة إبراهيم كان مربّياً ماهراً.
(5)أمّا حضرة موسى فقد لبث يرعى الأغنام في البادية مدّة مديدة، وفي الظّاهر تربّى في بيت الظّلم واشتهر بين النّاس بأنّه ارتكب جريمة القتل، ثمّ صار راعياً، وأصبح مكروهاً مبغوضاً لدى فرعون وقومه، فشخص كهذا أنقذ من قيد الأسر ملّة عظيمة، وأقنعها ثمّ أخرجها من مصر وأوصلها إلى الأرض المقدّسة، وكانت تلك الملّة (أي بني إسرائيل) في نهاية الذّلّة، فوصلت إلى أوج العزّة، كانوا أسرى فأصبحوا أحراراً، وكانوا أجهل الأقوام فأصبحوا أعلمها، وبفضل تعاليمه وصلوا إلى درجة أكسبتهم الفخار بين جميع الملل، وطبّق صيتهم الآفاق إلى درجة أنّ الأمم المجاورة إذا ما أرادت مدح شخص قالت لا ريب هذا إسرائيليّ، وقد أحيا ملّة إسرائيل بفضل تشريعه وقوانينه، فوصلت بذلك إلى أعلى درجة في المدنيّة في ذلك العصر، ووصل الأمر إلى أنّ حكماء اليونان كانوا يأتون إلى بني إسرائيل لكسب الكمالات من أفاضلهم، كسقراط الّذي أتى إلى سوريّة وتلقّى عن بني إسرائيل علم التّوحيد وخلود الأرواح بعد الممات، وبعد رجوعه إلى اليونان نشر هذه التّعاليم فخالفه قومه ثمّ حكموا بقتله وأحضروه إلى مجلس الحكم وسقوه السّمّ.
فشخص كموسى بلسانه لكنة نما وترعرع في بيت فرعون، واشتهر
بين النّاس بالقتل وتوارى عن الأنظار مدّة مديدة من شدّة الخوف، وهو يرعى الأغنام، كيف لمثله أن يأتي ويؤسّس أمراً عظيماً في العالم يعجز أعظم فيلسوف عن عمل جزء من ألف ممّا قام به، فبديهيّ أنّ هذا العمل خارق للعادة.
إنّ الإنسان الّذي بلسانه لكنة ويصعب عليه أن يتحدّث حتّى بالكلام العاديّ، كيف يتسنّى له أن يقوم بتأسيسات كهذه، فلو لم يكن هذا الشّخص مؤيّداً بالقوّة الإلهيّة لما وفّق أبداً للقيام بهذا الأمر العظيم وليست هذه من الأدلّة الّتي يستطيع أحد إنكارها.
إنّ العلماء الطّبيعيّين وفلاسفة اليونان وعظماء الرّومان الّذين ذاع صيتهم في الآفاق لم يبرع أحد منهم إلاّ في فنّ من الفنون، فمثلاً برع جالينوس وبقراط في الطّبّ، وأرسطو في النّظريّات والدّلائل المنطقيّة، وأفلاطون في الأخلاق والإلهيّات، فكيف يمكن لشخص راعٍ أن يأتي بكلّ هذه المعارف والفنون، لا شكّ أنّ هذا الشّخص كان مؤيّداً بقوّة خارقة للعادة، فانظروا كيف تتهيّأ أسباب الامتحان والافتتان للخلق، فحضرة موسى في مقام دفع الظّلم وكز شخصاً من أهل مصر وكزة واحدة، فاشتهر بين النّاس بأنّه ارتكب جريمة القتل، سيّما وأنّ المقتول كان من رعايا الفراعنة الوطنيّين، فهرب حضرته ثمّ بعث بعدئذٍ بالنّبوّة فمع هذه السّمعة السّيئة، كيف وفّق بقوّة خارقة للعادة أن يقوم بهذه التّاسيسات العظيمة والمشروعات الجليلة.
(6)ثمّ جاء السّيّد المسيح قائلاً إنّي ولدت من روح القدس، ولو أنّ تصديق هذه المسألة عند المسيحيّين من السّهل الهيّن الآن، إلا أنّها كانت صعبة جدّاً في ذلك الزّمان، وبنصّ الإنجيل كان الفرّيسيّون يقولون أليس هذا هو ابن يوسف النّاصريّ ونحن نعرفه، فكيف يقول إنّي جئت من السّماء، وبالاختصار إنّ هذا الشّخص الّذي كان في الظّاهر وفي نظر العموم وضيعاً محتقراً، قام بقوّة نسخت شريعة ألف وخمسماية سنة، مع أنّه لو تجاوز أحد أدنى تجاوز لتلك الشّريعة لوقع في خطر عظيم وانمحى وانعدم، وفوق هذا فإنّ الأخلاق العموميّة وأحوال بني إسرائيل كانت في عهد حضرة المسيح فاسدة مختلّة اختلالاً كلّيّاً، وكان بنو إسرائيل في منتهى الذّلّة والأسر والانحطاط، فيوماً كانوا أسرى لإيران وكلدان، ويوماً كانوا تحت حكم دولة آشور، ويوماً كانوا رعيّة تابعة لليونان، ويوماً كانوا مطيعين أذلاّء للرّومان، فنسخ هذا الشّخص الشّاب أي السّيّد المسيح الشّريعة الموسويّة العتيقة بقوّة خارقة للعادة وقام على تربية الأخلاق العموميّة وأسّس العزّة الأبديّة لبني إسرائيل مرّة أخرى، ونشر تعاليم لم تكن مختصّة بإسرائيل، بل أسّس السّعادة الكلّيّة للهيئة الاجتماعيّة البشريّة وأوّل حزب قام على محوه هم بنو إسرائيل قوم المسيح وقبيلته، فقهروه بحسب الظّاهر فأصابته منهم الذّلّة الكبرى، حتّى وضعوا على رأسه إكليلاً من الشّوك، ثمّ علّقوه على الصّليب، غير أنّ ذلك الشّخص عندما كان بحسب الظّاهر في الذّلّة الكبرى، أعلن أنّ شمسه ستشرق ونوره سيسطع وفيوضاته
ستحيط ويخضع لها جميع الأعداء، ولقد تحقّق ما قال ولم يستطع مقاومته جميع ملوك العالم، بل إنّ أعلام جميع الملوك نكّست وارتفع علم ذلك المظلوم إلى الأوج الأعظم، فهل يسلّم العقل البشريّ بحدوث مثل هذا لا والله، إذاً صار من المعلوم الواضح أنّ ذلك الشّخص الجليل كان مربّياً حقيقيّاً للعالم الإنسانيّ موفّقاً مؤيّداً بقوّة إلهيّة.
(7)أمّا حضرة محمّد فقد سمع عنه أهل أوروبّا وأمريكا بعض الرّوايات واعتبروها صدقاً، والحال أنّ الرّاوي إمّا أنّه كان جاهلاً أو مبغضاً وأكثر الرّواة كانوا قسّيسين، وكذلك نقل بعض جهلة الإسلام روايات لا أصل لها عن حضرته زاعمين أنّها مدح، فمثلاً رأى بعض هؤلاء الجهلاء أنّ تعدّد الزّوجات محور مدح لحضرته وعدّوها كرامة له لأنّ هذه النّفوس الجاهلة كانت تعتبر تكاثر الزّوجات من قبيل المعجزات، واستند أكثر مؤرّخي أوروبّا على أقوال هذه النّفوس الجاهلة، مثلاً قال شخص جاهل لقسّيس بأنّ دليل العظمة هو الشّجاعة وسفك الدّماء وبأنّ شخصاً واحداً من أصحاب حضرة محمّد قطع بحدّ السّيف في يوم واحد مائة رأس في ميدان الحرب، فظنّ ذلك القسّيس أنّ القتل هو البرهان الحقيقيّ لدين محمّد، والحال أنّ هذا مجرّد أوهام، بل إنّ غزوات حضرة محمّد جميعها كانت دفاعيّة، والبرهان الواضح على ذلك أنّ نفس محمّد وأصحابه تحمّلوا في مدّة ثلاث عشرة سنة في مكّة كلّ الأذى وكانوا في هذه المدّة هدفاً لسهام الأعداء، فقتل بعض الأصحاب ونهبت الأموال
وترك الباقون وطنهم المألوف وفرّوا إلى ديار الغربة، وبعد أن أسرفوا في إيذاء حضرة محمّد صمّموا على قتله، ولذا خرج من مكّة نصف اللّيل وهاجر إلى المدينة، ومع هذا لم يكفّ الأعداء عن الإيذاء بل تعقّبوهم إلى الحبشة والمدينة، وكانت قبائل العرب وعشائرهم هذه في نهاية التّوحّش والقسوة فبرابرة أمريكا ومتوحّشوها بالنّسبة إليهم كأفلاطون بالنّسبة إلى أهل زمانه، لأنّ برابرة أمريكا ما كانوا يدفنون أولادهم أحياء تحت التّراب، أمّا هؤلاء فكانوا يئدون بناتهم معتقدين أنّ هذا العمل منبعث عن الحميّة وكانوا يفتخرون به، فمثلاً كان أكثر الرّجال يتوعّدون زوجاتهم بالقتل إن هنّ ولدن إناثاً، ولا تزال القبائل العربيّة حتّى الآن تنفر من ذرّيّة البنات، وكذلك كان الشّخص الواحد يتّخذ لنفسه ألف امرأة، وكان لكثير منهم في بيته ما يزيد عن عشر زوجات، وإذا ما نشبت الحرب والقتال بين هذه القبائل تأسر القبيلة الغالبة نساء القبيلة المغلوبة وأطفالها ويعدّون هؤلاء الأسرى أرقّاء يتصرّفون فيهم بالبيع والشّراء، وإذا مات أحدهم وترك عشر نسوة استحوذ أولاده منهنّ بعضهم على أمّهات البعض، وعندما كان يلقي أحد هؤلاء الأولاد عباءته على رأس زوجة أبيه وينادي هذه حلالي، تصير تلك المرأة المسكينة على الفور أسيرته ورقيقته وله الحرّيّة التّامّة أن يفعل بها ما يشاء، فإن أراد قتلها أو سجنها في جبّ عميق أو شتمها أو ضربها وزجرها كلّ يوم حتّى يقضي على حياتها تدريجيّاً، ولا ضير عليه فيما يختار من هذه المعاملة حسب العرف وعادات العرب.
وغنيّ عن البيان ما ينشأ بين نساء الشّخص الواحد وبين أولادهنّ من الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، فانظروا كيف كانت حال هؤلاء النّسوة المظلومات ومعيشتهنّ.
وفوق ما ذكر فإنّ حياة القبائل العربيّة كان قوامها نهب بعضهم بعضاً، لذا كانت في حروب وغارات مستمرّة، يقتل ويسلب بعضهم بعضاً، يأسرون النّساء والأطفال ثمّ يبيعونهم للأجانب، وكم من بنات أمير وبنيه قضوا يومهم في النّعمة والرّخاء ثمّ أمسوا في منتهى الذّلّة والأسر والهوان بالأمس كانوا أمراء واليوم أصبحوا أسراء، بالأمس كنّ سيّدات محترمات واليوم أصبحن أرقّاء ذليلات، فبين هذه القبائل بعث حضرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وما من بلاء إلاّ وتحمّله من هؤلاء مدّة ثلاث عشرة سنة، ثمّ خرج مهاجراً ومع ذلك لم يكفّوا عن إيذائه بل حشدوا جموعهم وخرجوا عليه بالجند والمحاربين مهاجمين ليعدموا كلّ من اتّبعه من رجال ونساء وأطفال، فاضطرّ حضرته لمحاربة تلك القبائل في مثل تلك الظّروف.
هذه هي حقيقة الحال ولسنا بمتعصّبين ولا بمدافعين عنه بل نحن منصفون لا نقول غير الحقّ.
فانظروا بعين الإنصاف لو كان حضرة المسيح في موقف كهذا بين قبائل متوحّشة طاغية كهذه وتحمّل صابراً مع الحواريّين مدّة ثلاث عشرة سنة كلّ جفاء من هؤلاء، ثمّ هاجر أخيراً من وطنه ومسقط رأسه إلى البادية فراراً من الظّلم، ومع ذلك ظلّ هؤلاء الطّغاة يتعقّبونه جادّين في قتل عموم الرّجال ونهب الأموال وأسر النّساء والأطفال، فأيّ سبيل كان يسلكه السّيّد المسيح مع أمثال هؤلاء؟
نعم لو لحق الضّير حضرته وعفا وصفح لكان هذا العفو والصّفح من الأعمال المقبولة والمحمودة جدّاً، ولكنّه لو رأى بأنّ ذلك الظّالم القاتل السّافك للدّماء يريد أن يقتل جمعاً من المظلومين وينهب أموالهم
ويأسر نساءهم وأطفالهم، فلا شكّ أنّه كان يعمل لحماية هؤلاء المظلومين ويمنع عنهم ظلم الظّالمين.
إذاً فلِمَ الاعتراض على حضرة الرّسول؟ ألأنّه لم يسلّم نفسه مع الصّحابة والنّساء والأطفال لهذه القبائل الطّاغية؟
وفضلاً عن هذا فإنّ تهذيب أخلاق تلك القبائل ومنعها من سفك الدّماء هو عين الموهبة، وردع تلك النّفوس وزجرها محض الرّحمة والعناية، مثل ذلك كمن بيده قدح من السّمّ يريد أن يشربه، فالصّديق المحبّ هو من يكسر القدح وينجّي الشّارب ويزجره، فلو كان حضرة المسيح في موقف كهذا لا بدّ أنّه كان يعمل لنجاة الرّجال والنّساء والأطفال من براثن تلك الذّئاب الكاسرة، على أنّ حضرة محمّد لم يحارب النّصارى بل كثيراً ما شملهم برعايته ومنحهم كامل الحرّيّة، وكان في نجران طائفة من المسيحيّين فقال حضرة محمّد إنّي خصم لكلّ من يعتدي على حقوق هؤلاء وعليه أقيم الدّعوى أمام الله.
وصرّح في أوامره بأنّ أرواح النّصارى واليهود وأموالهم في حماية الله، فلو كان الزّوج مسلماً والزّوجة مسيحيّة لا يجوز أن يمنعها عن الذّهاب إلى الكنيسة أو يرغمها على التّحجّب، وإذا ماتت وجب عليه أن يسلّم جثمانها إلى القسّيس، وإذا أراد المسيحيّون بناء كنيسة فعلى المسلمين أعانتهم، وعلى الحكومة الإسلاميّة أيضاً حين محاربتها لأعداء الإسلام أن تعفو عن النّصارى الخدمة العسكريّة ما لم يتطوّعوا بمحض اختيارهم لمعاونة الإسلام لأنّهم تحت حمايته، وفي مقابل هذا العفو عليهم أن يدفعوا كلّ سنة مبلغاً ضئيلاً.
وقصارى القول أنّه يوجد سبعة مناشير مفصّلة في هذا الشّأن
بعضها موجود في القدس إلى اليوم، وليس هذا القول من عندي، بل هو الحقيقة الواقعة، فإنّ فرمان الخليفة الثّاني وأوامره موجودة عند بطريرك الأرثوذكس بالقدس، وهذا ممّا لا ريب فيه، ولكن حدث بعدئذٍ أن حلّ الحقد والحسد بين المسلمين والنّصارى، فتجاوز كلاهما حدّه وما يقوله كلا الطّرفين أو غيرهم خلافاً لهذه الحقيقة حكايات وروايات ناشئة إمّا عن التّعصّب والجهالة أو صادرة من شدّة العداوة، فمثلاً يقول المسلمون إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شقّ القمر فوقع على جبال مكّة متصوّرين أنّ القمر جرم صغير فشقّه نصفين ألقى بأحدهما على هذا الجبل وبالثّاني على جبل آخر، فالتّمسّك بظاهر هذه الرّواية تعصّب محض، وكذلك ما يرويه القسّيسون قدحاً وذمّاً كلّه مبالغ فيه وأكثره لا أساس له.
وبالاختصار فقد ظهر حضرة محمّد في صحراء الحجاز بجزيرة العرب حيث لا زرع ولا شجر ولا عمران، وبعض بلادها كمكّة والمدينة شديدة الحرارة، والأهالي من سكّان البادية فأخلاقهم وطباعهم بدويّة، وما كان لهم نصيب قطّ من العلوم والمعارف حتّى أنّ حضرة محمّد نفسه كان أمّيّاً وكانوا يكتبون القرآن على عظام أكتاف الخراف أو على ورق النّخيل "خوص"، فمن هذا المثال يمكنك أن تدرك حالة القوم الّذين بعث بينهم حضرة محمّد.
وكان أوّل اعتراض عليهم قوله لماذا لم تقبلوا التّوراة والإنجيل ولم تؤمنوا بعيسى وموسى، فثقل عليهم هذا القول وأجابوا كيف كان حال آبائنا وأجدادنا وهم لم يؤمنوا بهذين الكتابين، فرد عليهم أنّهم كانوا ضالّين وعليكم أن تتبرّءوا من تلكم النّفوس حتّى ولو كانوا آباءكم وأجدادكم، ففي أقليم كهذا وبين قبائل كهذه جاء رجل أمّيّ
بكتاب شامل للصّفات الإلهيّة وكمالات ونبوّات الأنبياء والشّرائع الرّبّانيّة مبيّن فيه بعض العلوم والمسائل العلميّة بنهاية الفصاحة والبلاغة، فمن ذلك تعلمون أنّه في القرون الأولى والوسطى وحتّى القرن الخامس عشر الميلادي قبل الرّاصد الشّهير الأخير1 اتّفق جميع الرّياضيّين في العالم على مركزيّة الأرض وحركة الشّمس، وكان هذا الرّاصد الأخير أوّل من قال بالرّأي الجديد من أنّ السّكون للشّمس والحركة للأرض، وإلى ذلك الوقت كان جميع الرّياضيّين والفلاسفة في العالم متّبعين نظريّة بطلميوس ويرمون بالجهل من يقول بغير ذلك.
نعم لقد تصوّر فيثاغورث وأفلاطون في أواخر أيّامهما بأنّ الحركة السّنويّة للشّمس في منطقة البروج ليست ناشئة من هذا الجرم، بل من حركة الأرض حول الشّمس ولكن هذا الرّأي بات نسياً منسيّاً وأصبح ما قاله بطلميوس هو المسلّم به لدى جميع الرّياضيّين، ولكن نزلت في القرآن آيات تخالف رأي بطلميوس وقواعده، ومن ذلك الآية الكريمة (والشّمس تجري لمستقرّ لها)2 المتضمّنة ثبوت الشّمس وحركتها على محورها، وكذلك الآية (وكلّ في فلك يسبحون)3 فقد صرّح بأنّ الشّمس والقمر وسائر النّجوم متحرّكة، فلمّا انتشر القرآن استهزأ الرّياضيّون بهذا الرّأي ونسبوه إلى الجهل، حتّى أنّ علماء الإسلام لمّا رأوا مخالفة هذه الآيات لقواعد بطلميوس اضطرّوا إلى تأويلها لأنّ نظريّة بطلميوس كانت شائعة ومسلّماً بها وصريح القرآن يخالفها وذلك حتّى القرن الخامس عشر الميلادي أي بعد ظهور حضرة محمّد بنحو تسعمائة سنة تقريباً حيث رصد الرّياضيّ الشّهير رصداً جديداً واخترعت
الآلات التّلسكوبيّة وحدثت الاكتشافات المهمّة فثبتت حركة الأرض وسكون الشّمس، وكذلك عرفت حركة الشّمس حول محورها، وصار من المعلوم أنّ صريح الآيات القرآنيّة يطابق الواقع وأصبحت القواعد البطلميوسيّة محض أوهام.
وبالاختصار فلقد تربّى في ظلّ الشّريعة المحمّديّة جمّ غفير من الأمم الشّرقيّة مدّة ألف وثلثمائة سنة، وفي القرون الوسطى حيث كانت أوروبّا في منتهى الوحشيّة تفوّق العرب في العلوم والصّنائع والرّياضيّات والمدنيّة والسياسة بل وفي سائر الفنون على سائر ملل العالم، وكان مربّي هذه القبائل البدويّة العربيّة ومحرّكها والمؤسّس للمدنيّة والكمالات الإنسانيّة بين تلك الطّوائف المختلفة هو ذلك الشّخص الأمّيّ وأعني به حضرة محمّد، فهل كان هذا الشّخص المحترم مربّياً للكلّ أم لا؟ يجب الإنصاف.
(8)أمّا حضرة الباب روحي له الفداء فقد قام بالأمر في سنّ الشّباب أي لمّا مضى من عمره المبارك خمس وعشرون سنة.
ومعروف لدى جميع الشّيعة بأنّ حضرته لم يدخل مدرسة أبداً ولم يتلقَّ العلم على أحد، يشهد بذلك جميع أهل مدينة شيراز، ومع هذا فقد ظهر بغتة بمنتهى الفضل بين الخلق، ومع أنّه كان تاجراً فقد أعجز جميع علماء إيران وقام منفرداً على أمر لا يمكن تصوّر عظمته
ولقد ظهرت هذه الذّات العليّة بقوّة زلزلت أركان شرائع الإيرانيّين وآدابهم وأحوالهم وأخلاقهم وتقاليدهم، مع أنّ الإيرانيّين معروفون لدى العموم بتعصّبهم الدّينيّ، ومهّد السّبيل لشريعة ودين وقوانين جديدة ومع أنّ عظماء الدّولة ورؤساء الدّين وعموم الأمّة عملوا جميعاً على محوه وإعدامه فإنّ حضرته قام منفرداً وأوجد حركة اهتزّت لها إيران، وكثير من العلماء والرّؤساء والأهالي فدوا بأرواحهم في سبيله بكمال الفرح والسّرور وأقبلوا مسرعين إلى ميدان الشّهادة، وأرادت الحكومة والأمّة وعلماء الدّين والرّؤساء أن يطفئوا نوره فلم يستطيعوا، وفي النّهاية بزغ قمره وتألّق نجمه وصار أساسه متيناً ومطلعه نوراً مبيناً، وربَّى بالتّربية الإلهيّة جمّاً غفيراً وأثّر في أفكار الإيرانيّين وأخلاقهم وأطوارهم وأحوالهم تأثيراً عجيباً، وبشّر جميع أتباعه بظهور شمس البهاء وأعدّهم للإيمان والإيقان، فظهور مثل هذه الآثار العجيبة والأعمال العظيمة وتأثيرها في جميع العقول والأفكار العموميّة ووضع أساس الرّقيّ وتمهيد مقدّمات النّجاح والفلاح من شابّ تاجر لأعظم دليل على أنّ هذا الشّخص كان مربّياً كلّيّاً ولا يتردّد المنصف في تصديق هذا أبداً.
(9)أمّا حضرة بهاء الله فقد ظهر حينما كانت مملكة إيران غارقة في بحار الظّلمة والجهل تائهة في بيداء التّعصّب الأعمى، ولا بدّ أنّك قرأت في أسفار التّاريخ الأوروبّي تفصيلاً عن أفكار الإيرانيّين وأخلاقهم في القرون الأخيرة فلا حاجة للتّكرار.
وبالاختصار فإنّ إيران كانت قد وصلت إلى درجة من الانحطاط أسف لها جميع السّائحين الأجانب، لأنّ هذه المملكة كانت في القرون الأولى في أوج العظمة والمدنيّة والآن وقعت في وهدة السّقوط والاضمحلال وانهدم بنيانها، ووصل أهلها إلى أحطّ دركات الهمجيّة، ففي هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله وكان والده من الوزراء لا من العلماء، ومن المسلّم به لدى جميع أهالي إيران أنّه لم يتلقَّ العلم في مدرسة ما ولم يعاشر العلماء والفضلاء، وقضى أيّام حياته الأولى في بحبوحة الرّفاهية والنّعيم، وكان مؤانسوه ومجالسوه من أبناء أعاظم إيران لا من أهل المعارف، وبمجرّد أن أظهر الباب أمره قال حضرة بهاء الله أنّ هذا الشّخص الجليل سيّد الأبرار يجب على الجميع أن يتّبعوه ويؤمنوا به، وقام على نصرته يقيم الأدلّة والبراهين القاطعة على أحقّيّته، ومع أنّ علماء الملّة أجبروا الدّولة العليّة الإيرانيّة على معارضته وصدّه، وأفتى جميع العلماء بالقتل والنّهب والإيذاء والقمع والاضطهاد له ولتابعيه، وقاموا في جميع أنحاء المملكة بالقتل والإحراق والنّهب وحتّى إيذاء النّساء والأطفال، ومع هذا فإنّ حضرة بهاء الله قام بكلّ استقامة وثبات على إعلاء كلمة حضرة الباب ولم يتوارَ ساعة واحدة بل ظلّ ظاهراً مشهوداً ومشهوراً بين الأعداء مشتغلاً بإقامة الأدلّة والبراهين معروفاً بإعلاء كلمة الله متحمّلاً الصّدمات الشّديدة المتوالية عرضة للاستشهاد في كلّ لحظة، ثمّ وقع تحت السّلاسل وزجّ في أعماق السّجن ونهبت وسلبت أمواله الوفيرة الموروثة، ونفي من مملكة إلى أخرى مرّات أربع، وأخيراً استقرّ في السّجن الأعظم4، ورغم كلّ هذا ظلّ النّداء مرتفعاً وصيت أمر الله مشتهراً، وظهر بفضل وعلم وكمالات حيّرت أهل إيران بحيث أنّ كلّ من تشرّف بالمثول بين يديه من أهل العلم والعرفان
محبّاً كان أو مبغضاً في طهران أو بغداد أو القسطنطينيّة أو الرّوملِّي (أدرنة) أو عكّا وسأل سؤالاً سمع جواباً شافياً كافياً، وأقرّ الكلّ واعترفوا بأنّ هذا الشّخص فريد في الكمالات وحيد في الآفاق، وكثيراً ما حضر إلى مجلسه المبارك ببغداد علماء الإسلام واليهود والنّصارى وأهل العلم والمعرفة من الأوروبيّين ومع اختلاف مشاربهم كان كلّ يسأل سؤالا فيسمع جواباً كافياً مقنعاً، حتّى أنّ علماء إيران الّذين بمدينة كربلاء ونجف انتخبوا شخصاً عالماً أنابوه عنهم، وكان ذلك الشّخص يسمّى ملاّ حسن عمو تشرّف باللّقاء المبارك وسأل بعض الأسئلة من قبل العلماء وسمع الجواب، ثمّ قال إنّ العلماء مقرّون ومعترفون بعلمكم وفضلكم ومسلّم لدى الجميع بأنّه ليس لكم مثيل ولا نظير في العلم والعرفان، ومن الثّابت أنّكم لم تدرسوا ولم تتعلّموا ولكنّ العلماء يقولون نحن لا نقتنع بذلك ولا نعترف بصحّة دعواه بسبب علمه وفضله لهذا نرجو أن يظهر لنا معجزة واحدة لإقناعنا واطمئنان قلوبنا، فقال حضرة بهاء الله ولو أنّهم ليسوا بمحقّين في ذلك، إذ للحقّ أن يمتحن الخلق ولا لهؤلاء أن يمتحنوا الحقّ، مع ذلك فإنّ الطّلب مقبول، أمّا أمر الله فليس مسرحاً للشّعوذة والألاعيب يمثّل عليه كلّ ساعة دور ويطلب كلّ يوم مطلب، لأنّ بهذا يصبح أمر الله ملعبة صبيانيّة، ولكن للعلماء أن يجتمعوا ويتّفقوا على طلب معجزة واحدة، ثمّ يكتبوا أنّ بظهور هذه المعجزة لا يبقى لدينا شكّ أو شبهة، وكلّنا نقرّ ونعترف بأحقّيّة هذا الأمر، ويختمون تلك الورقة وائتِ بها وليكن هذا ميزاناً حتّى إذا ظهرت المعجزة لا يبقى لهم شبهة وإن عجزنا ثبت بطلاننا، فقام ذلك الشّخص العالم وقبّل ركبتيّ حضرة بهاء الله مع أنّه لم يكن مؤمناً، ثمّ ذهب وجمع حضرات العلماء وبلّغهم الرّسالة فتشاوروا ثمّ قالوا إنّ
هذا لساحر وربّما أتى بسحر فلا يبقى لنا ما نقول، وبذا لم يجرءوا أن يتقدّموا بمطلب جديد. ولكنّ ذلك الرّسول أذاع الخبر في كثير من المحافل والمجالس وسافر من كربلاء إلى كرمنشاه وطهران ناشراً تفاصيل الحادثة بين الجميع مبيّناً خوف العلماء وعدم إقدامهم.
والمقصود من هذا البيان هو أنّ جميع المعترضين في الشّرق إنّما كانوا معترفين بعظمة حضرة بهاء الله وجلاله وعلمه وفضله، ومع عداوتهم لحضرته كانوا يصفونه ببهاء الله الشّهير.
والخلاصة أنّ هذا النيّر الأعظم أشرق بغتة من أفق إيران حينما كان أهل تلك البلاد سواء في ذلك العلماء والوزراء والشّعب قائمين جميعاً على مقاومته بأشدّ العداء معلنين أنّه يريد أن يمحو الدّين والشّريعة ويهدم الملّة والسّلطنة، كما قيل في حقّ المسيح، ولكنّ بهاء الله قاوم الكلّ فريداً وحيداً ولم يعتره أي فتور مطلقاً، وقالوا في النّهاية إنّ إيران لن تذوق طعم الرّاحة والهناء ما دام هذا الشّخص فيها، فيجب إخراجه حتّى تهدأ البلاد، ثمّ ضايقوه ليطلب الإذن بالخروج ظانّين أنّ بهذه الوسيلة ينطفئ سراج أمره المبارك ولكنّ النّتيجة كانت عكسيّة، إذ ارتفع الأمر وازداد اشتعالاً، فبعد أن كان قاصراً على إيران انتشر بهذه الوسيلة بسائر البلدان، ثمّ قالوا إنّ العراق العربيّ قريب من إيران فيجب إرساله إلى بلاد بعيدة، لهذا سعت الحكومة الإيرانيّة حتّى أرسل حضرته من العراق إلى القسطنطينيّة، غير أنّهم لاحظوا بعدئذٍ أيضاً أنّه لم يحصل فتور قطّ، فقالوا إنّ القسطنطينيّة نقطة يمرّ بها أقوام وملل مختلفة وبها كثير من الإيرانيّين، ولذلك سعوا حتّى نفي حضرة بهاء الله إلى الرّوملِّي (أدرنة) إلاّ أنّ أمره ارتفع أكثر من قبل وزاد
انتشاراً واشتعالاً، وفي النّهاية قال الإيرانيّون إنّ هذه البلدان كلّها لم تكن تؤدّي إلى إهانته، فيجب أن يرسل إلى مكان مهين يلحقه فيه الأذى والتّعب ويبتلى أهله ومريدوه بأشدّ البلاء، فاختاروا سجن عكّا منفى القتلة والعصاة والسّارقين وقطّاع الطّريق وحشروهم فعلاً في زمرة هذه النّفوس. ولكنّ القدرة الإلهيّة ظهرت والكلمة علت وعظمة بهاء الله تجلّت، ففي سجن كهذا وذلّة كهذه نقل حضرته إيران من حالة إلى حالة وقهر جميع الأعداء وأثبت للكلّ عدم قدرتهم على مقاومة هذا الأمر وسرت تعاليمه المقدّسة في جميع الآفاق وثبت أمره، وعلى الإجمال فقد قام الأعداء بنهاية البغضاء في جميع الولايات الإيرانيّة، فأوثقوا وضربوا وقتلوا وأحرقوا، وهدموا بنيان ألف عائلة وتشبّثوا بكلّ وسيلة في القلع والقمع ليطفئوا نور أمره، ومع هذا فقد علا أمره وهو في سجن القتلة وقطّاع الطّريق والسّارقين، ونشر تعاليمه ونبّه كثيراً من النّفوس الّتي كانت في أشدّ البغضاء فآمنوا وأصبحوا موقنين، وقام بعمل استيقظت له نفس حكومة إيران وندمت على ما وقع منها بواسطة علماء السّوء. ولمّا وصل الجمال المبارك (حضرة بهاء الله) إلى هذا السّجن في الأرض المقدّسة، تنبّه العقلاء إلى البشارات الّتي أخبر الله بها على لسان الأنبياء من قبل منذ ألفيّ سنة أو ثلاثة آلاف سنة، وثبت ظهورها، ووفى الله بوعده لأنّه أوحى إلى بعض الأنبياء وبشّر الأرض المقدٍّسة بأنّ ربّ الجنود سيظهر فيك، ووفيت جميع هذه الوعود، ولولا تعرّض الأعداء ووقوع هذا النّفي والإبعاد لما تصوّر العقل بأنّ الجمال المبارك يهاجر من إيران ويرفع الخيام في هذه الأرض المقدّسة، وكان مقصد الأعداء من ذلك أن يكون هذا السّجن سبب محو الأمر المبارك وإفنائه بالكلّيّة، والحال أنّ
السّجن المبارك صار سبباً لأعظم تأييد وعلّة للنّشر والتّرويج وواسطة وصول النّداء الإلهيّ إلى الشّرق والغرب، وسطوع أشعّة شمس الحقيقة في جميع الآفاق. سبحان الله مع أنّه كان مسجوناً لكنّ سرادقه كان مرتفعاً على جبل الكرمل، ويحفّ حركاته كلّ عظمة وجلال حتّى أنّ كلّ من تشرّف بحضرته غريباً كان أم من المعارف كان يقول إن هذا أمير وليس بأسير.
وبمجرّد وروده السّجن حرّر خطاباً لنابليون وأرسل بواسطة سفير فرنسا، ومضمونه أن تسأل عن جرمنا الّذي صار سبباً لهذا الحبس والسّجن، فلم يجب نابليون، وبعده صدر توقيع ثانٍ وذلك التّوقيع مندرج في سورة الهيكل، ومختصر الخطاب هو: يا نابليون حيث أنّك لم تجب ولم تصغِ للنّداء فعمّا قريب تذهب سلطنتك أدراج الرّياح ويحلّ بك الخراب، وأرسل ذلك التّوقيع بالبريد بواسطة قيصر كتفاكو5، وباطّلاع جميع المهاجرين أرسلت صورة هذا الخطاب إلى جميع أطراف إيران لأنّ كتاب الهيكل كان قد نشر في جميع أنحاء إيران في تلك الأيّام، وهذا الخطاب من جملة ما درج في كتاب الهيكل، وكان ذلك سنة 1869 ميلاديّة، ولمّا انتشرت سورة الهيكل في جميع جهات إيران والهند وقع في أيدي جميع الأحباب، والكلّ كان ينتظر نتائج هذا الخطاب ولم يمضِ زمن قليل حتّى جاءت سنة 1870 ميلاديّة، واشتعلت نار الحرب بين ألمانيا وفرنسا ومع أنّه لم تخطر ببال أحد غلبة الألمان أبداً فقد غلب نابليون وهزم شرّ هزيمة ووقع أسيراً في يد الأعداء، وتبدّلت عزّته بالذّلّة الكبرى.
وكذلك أرسلت الألواح إلى سائر الملوك، ومن جملتها أرسل توقيع لجلالة ناصر الدّين شاه، وفي هذا التّوقيع يتفضّل حضرته بقوله
أحضرني وأحضر جميع العلماء واطلب الحجّة والبرهان حتّى يتبيّن الحقّ من الباطل، فأرسل جلالة ناصر الدّين شاه التّوقيع المبارك إلى العلماء وكلّفهم أن يبدوا رأيهم فيما عرض عليهم، غير أنّهم لم يجرءوا على ذلك فطلب من سبعة أشخاص من مشاهير العلماء أن يجيبوا على هذا التّوقيع، ولكن بعد مدّة أعادوا التّوقيع المبارك قائلين إنّ هذا الشّخص معارض للدّين وعدوّ للشّاه، فغضب جلالته من ردّهم وقال إنّ هذه المسألة مسألة الحجّة والبرهان وقضيّة الحقّ والباطل، فما علاقتها بالعداء للحكومة؟ فيا للأسف كم نحن راعينا هؤلاء العلماء واحترمناهم وهم عاجزون عن جواب هذا الخطاب، وقصارى القول إنّ ما رقم في ألواح الملوك قد تحقّق جميعه، وإنّ تتتبّع الوقائع التّاريخيّة من سنة 1870 ميلاديّة تجد أنّها منطبقة ومحقّقة لما جاء في ألواح الملوك ولم يبقَ منها إلاّ القليل ولا بدّ من أن يتحقّق فيما بعد.
وكذلك كانت الطّوائف الخارجة والملل غير المؤمنة تنسب إلى الجمال المبارك أموراً عظيمة وبعضهم كان يعتقد بولاية حضرته، حتّى أنّ بعضاً منهم كتبوا رسائل، ومن جملتهم كتب السّيّد الدّاودي من علماء أهل السّنّة ببغداد رسالة مختصرة ضمّنها خوارق العادات الصّادرة من الجمال المبارك في أحوال متعدّدة، ويوجد إلى الآن في جميع جهات الشّرق أشخاص غير مؤمنين بمظهريّة الجمال المبارك ولكنّهم يعتقدون بولايته ويروون عنه المعجزات.
وخلاصة القول فإنّه ما تشرّفت نفس بساحته المقدّسة سواء أكانت موافقة أم مخالفة إلاّ وأقرّت واعترفت بعظمة حضرته، وغاية ما هنالك أنّ (المخالف) وإن لم يؤمن إلاّ أنّه شهد بعظمته.
وبمجرّد التّشرّف بساحة الأقدس كانت ملاقاة الجمال المبارك تؤثّر فيهم تأثيراً بدرجة أنّ كثيراً منهم ما كان يقدر أن ينبس ببنت شفة، وكثيراً ما وقع أنّ شخصاً ممّن كانوا في أشدّ العداء والبغضاء أقرّ في نفسه بأنّني إذا ضمّني مجلس الحضور أقول كذا وأجادل وأحاجج بكذا ولكنّه عندما كان يصل إلى ساحة الأقدس تتملّكه الدّهشة والحيرة ولا تجد لنفسه بدّاً من الصّمت والسّكوت.
ما درس الجمال المبارك لسان العرب، ولم يكن له معلّم ولا مدرّس ولم يدخل مكتباً ولكن بلاغة بيانه المبارك وفصاحته باللّسان العربيّ في الألواح العربيّة حيّرت عقول فصحاء العرب وبلغائهم والكلّ مقرّ ومعترف بأنّه لا مثيل له ولا نظير، ولو نمعن النّظر في نصوص التّوراة لا نجد أيّ مظهر من المظاهر الإلهيّة خيَّر الأقوام المنكرة في طلب أيّة معجزة ووافقهم على أيّ ميزان يقرّونه، وفي توقيع جلالة الشّاه قال بوضوح اجمع العلماء واطلبني لتثبت الحجّة والبرهان.
إنّ الجمال المبارك وقف كالجبل مقابل الأعداء مدّة خمسين سنة وكلّهم يطلبون إفناءه ومحوه ويهاجمونه جميعاً قاصدين ألف مرّة صلبه وإعدامه وكان في نهاية الخطر طول هذه المدّة.
وإن جميع العقلاء من الدّاخل والخارج المطّلعين على حقائق الأحوال متّفقون على أنّ إيران الّتي وصلت إلى هذه الدّرجة من الهمجيّة والخراب إلى الآن يتوقّف رقيّها وتمدّنها وعمرانها على ترويج مبادئ هذا الشّخص العظيم وتعميم تعاليمه.
إنّ حضرة المسيح في زمانه المبارك ربَّى في الحقيقة أحد عشر نفراً وكان بطرس أعظم هؤلاء الأشخاص ولمّا وقع الامتحان أنكر المسيح
ثلاث مرّات ومع هذا فانظر كيف نفذ أمر حضرة المسيح بعدئذٍ في أركان العالم، وقد ربَّى حضرة الجمال المبارك إلى الآن آلافاً من النّفوس أوصلوا تحت السّيوف نداء يا بهاء الأبهى إلى الأوج الأعلى ولمعت وجوههم لمعان الذّهب بنار الامتحان، فلاحظوا كيف يكون أمره فيما بعد.
إذن يجب الإنصاف بأنّ هذا الشّخص الجليل كيف كان مربّياً للعالم الإنسانيّ وكم ظهرت منه آثار باهرة وأيّة قدرة وقوّة تحقّقت به في عالم الوجود.
(10)في هذا العالم المادّيّ للزّمان أدوار وللمكان أطوار وللفصول دوران وللنّفوس رقيّ وانحطاط ونموّ، فطوراً فصل الرّبيع وتارّة فصل الخريف وآونة موسم الصّيف ومرّة وقت الشّتاء، فلموسم الرّبيع سحاب بدرّه المدرار وله نفحة مسكيّة ونسيم يحيي الأرواح وهواء في نهاية الاعتدال، فيه تهطل الأمطار وتسطع الشّمس وتهبّ الرّياح اللّواقح ويتجدّد العالم وتظهر نفحة الحياة في النّبات والحيوان والإنسان، وتنتقل الكائنات الأرضيّة من حالة إلى حالة أخرى وتلبس جميع الأشياء ثوباً جديداً ويخضرّ سطح الغبراء وتكسو الجبال والصّحارى حلّة خضراء وتورق الأشجار وتزهر وتنبت الحدائق الورد والرّياحين ويصير العالم عالماً آخر، وتتجدّد حياة من في الإمكان وتدبّ في الأجساد الخامدة روح جديدة ويكتسب العالم لطافة وصباحة وملاحة غير متناهية، إذاً فالرّبيع
هو سبب الحياة الجديدة وواهب الرّوح البديعة، ثمّ يتلوه موسم الصّيف، فتشتدّ الحرارة ويبلغ النموّ والنّشوء نهاية القوّة فتصل قوّة الحياة في عالم النّبات إلى درجة الكمال، ويأتي زمن الحصاد وتصبح الحبّة بيدراً، ويتهيّأ القوت لفصليّ الخريف والشّتاء، ثمّ يأتي فصل الخريف المخيف وتهبّ الرّياح العقيمة ويأتي دور السّقم، ويذهب رونق جميع الأشياء ويتكدّر الهواء اللّطيف ويتبدّل نسيم الرّبيع بريح الخريف وتذبل الأشجار المخضرّة ذات الطّراوة وتتعرّى، وترتدي الأزهار والرّياحين رداء الحزن ويقفر البستان الجميل وتزول نضارته، ثمّ يأتي فصل الشّتاء ويكثر البرد والطّوفان، وفيه ثلج وعواصف وبَرَد ومطر ورعد وبرق وجمود وخمود، وتصبح جميع الكائنات النّباتيّة في حالة الموت، ويلحق الموجودات الحيوانية الذّبول والخمول، وعندما تصل الحالة إلى هذه الدّرجة يأتي فصل الرّبيع الجديد المنعش للأرواح مرّة أخرى، ويتجدّد الدّور ويرفع موسم الرّبيع سرادقه على الجبال والصّحارى بكمال الحشمة والعظمة والطّراوة واللّطافة، ويتجدّد هيكل الموجودات وخلقة الكائنات مرّة أخرى، فتنمو وتنشأ الأجسام وتخضرّ الصّحارى وتنضر السّهول وتتبرعم الأشجار وهكذا يعود ربيع العام الفائت مرّة أخرى بنهاية العظمة والجلال. واستمرار هذا الدّور والتّسلسل ضروريّ ومناسب لحياة الكائنات وعليه يكون مدار العالم الجسمانيّ، وعلى هذا المنوال تكون أدوار الأنبياء الرّوحانيّة، يعني أنّ يوم ظهور المظاهر المقدّسة هو الرّبيع الرّوحانيّ والتّجلّي الرّحمانيّ والفيض السّماويّ ونسيم الحياة وإشراق شمس الحقيقة، فيه تحيا الأرواح وتهتزّ وتنتعش القلوب وتطيب النّفوس ويتحرّك الوجود وتستبشر الحقائق الإنسانيّة وتنمو وترتقي في المراتب والكمالات
وتحصل التّرقّيات الكلّيّة والحشر والنّشر، لأنّها أيّام قيام وزمن حركة واشتعال وآونة فرح وسرور ووقت انجذاب موفور، ثمّ ينتهي ذلك الرّبيع المنعش للأرواح بالصّيف المملوء بالثّمار، فتعلو فيه كلمة الله وتروّج شريعته وتصل جميع الأشياء إلى درجة الكمال وتبسط المائدة السّماويّة وتعطّر نفحات القدس الشّرق والغرب، وتنتشر التّعاليم الإلهيّة في العالم، وتتربّى النّفوس وتحصل النّتائج المشكورة وتتجلّى التّرقّيات الكلّيّة في العالم الإنساني، وتحيط الفيوضات الرّحمانيّة وتشرق شمس الحقيقة من أفق الملكوت بنهاية القوّة والحرارة، وعندما تصل إلى دائرة نصف النّهار تميل إلى الغروب والزّوال، ويعقب ذلك الرّبيع الرّوحانيّ زمن الخريف فيقف النّشوء والنّموّ، ويتبدّل النّسيم بالرّيح العقيم ويذهب الموسم السّقيم بنضارة البساتين والصّحارى ولطافة حدائق الأزهار، يعني تزول الانجذابات الوجدانيّة وتتبدّل الأخلاق الرّحمانيّة وتخبو نورانيّة القلوب وتتغيّر روحانيّة النّفوس وتتحوّل الفضائل بالرّذائل ولا يكون تقديس ولا تنزيه، ولا يبقى من شريعة الله إلاّ الاسم ولا من تعاليمه إلاّ الرّسم، فيمحى وينعدم أساس دين الله وتوجد طقوس ورسوم ويحصل التّفريق وتتبدّل الاستقامة بالتّزلزل، فتموت الأرواح وتنطمس القلوب وتخمد النّفوس، ثمّ تأتي أيّام الشّتاء فتحيط برودة الجهل والعمى وتستولي ظلمة الضّلالة النّفسانيّة، وعندئذٍ يكون جمود وعصيان وسفاهة وكسل وسفالة وشؤون حيوانيّة وبرودة وخمود جماديّة كما في فصل الشّتاء الّذي فيه تحرم كرة الأرض من تأثير حرارة الشّمس وتصير مخمودة مغمومة، وعندما يصل عالم العقول والأفكار إلى هذه الدّرجة فذاك موت أبديّ وفناء سرمديّ، وبعد أن ينتهي موسم الشّتاء وشؤوناته يأتي الرّبيع الرّوحانيّ مرّة أخرى ويتجلّى الدّور
الجديد ويهبّ النّسيم الرّوحانيّ ويتنفّس الصّبح النّورانيّ ويمطر السّحاب الرّحمانيّ وتسطع أشعّة شمس الحقيقة، فيحيا عالم الإمكان حياة جديدة ويلبس خلعاً بديعة، فتتجلّى مرّة أخرى في هذا الرّبيع الجديد جميع آثار الرّبيع الماضي ومواهبه وربّما تكون بحالة أعظم وأبهج، وإنّ الأدوار الرّوحانيّة لشمس الحقيقة كأدوار الشّمس الظّاهرة دائماً في التّجدّد والدّوران.
فمثل شمس الحقيقة كمثل الشّمس الظّاهرة لها مشارق ومطالع متعدّدة، فيوماً تطلع من برج السّرطان ووقتاً من برج الميزان وزماناً تشرق من برج الدّلو وآونة تتشعشع أنوارها من برج الحمل، ومع ذلك فالشّمس شمس واحدة وحقيقة واحدة، وأولوا العلم يعشقون الشّمس ولا يفتنون بالمشارق والمطالع وأهل البصيرة يطلبون الحقيقة لا المظاهر والمصادر، لذا يسجدون للشّمس من أيّ برج أشرقت وطلعت ويطلبون الحقيقة المقدّسة من أيّ نفس ظهرت وبرزت، فهذه النّفوس تهتدي دائماً إلى الحقيقة ولا تحتجب عن شمس العالم الإلهيّ، فعاشق الشّمس وطالب الأنوار يتوجّه دائماً إلى الشّمس سواء تشعشعت من برج الحمل أو أفاضت من برج السّرطان أو سطعت من برج الجوزاء، أمّا الجاهلون الغافلون فلا يعشقون سوى البروج ولا يهيمون بغير المشارق، فمثلاً إذا كانت الشّمس في برج السّرطان توجّهوا إليها ولا يغيّرون اتّجاههم هذا لحبّهم في البروج لهذا يحتجبون عن الشّمس وأنوارها إذ انتقلت إلى برج الميزان، مثلاً تشعشعت شمس الحقيقة وقتاً ما من البرج الإبراهيمي، ثمّ تنفّس الصّبح من البرج الموسويّ وأضاء الأفق، ثمّ طلعت من برج المسيح في نهاية القوّة الحرارة والإشراق، فطلاّب الحقيقة سجدوا لها أينما وجدت، وأمّا المتمسّكون
بالمطلع الإبراهيمي فاحتجبوا عنها وقتما تجلّت على الطّور وأضاءت الحقيقة الموسويّة، وهؤلاء الّذين تمسّكوا بموسى احتجبوا عنها حينما تجلّت من النّقطة المسيحيّة في نهاية النّورانيّة والجلوة الرّبّانيّة وقس على ذلك.
إذاً يجب على الإنسان أن يطلب الحقيقة وأن يكون ولهاً بها حيثما وجدها في أيّ ذات مقدّسة، وأن يكون منجذباً للفيض الإلهيّ، وأن يكون كالفراش عاشقاً للنّور في أيّ زجاجة أضاء وسطع، أو كالبلبل مفتوناً بالورد في أيّ حديقة تفتّح ونبت، فإن طلعت الشّمس من مغربها فهي هي فلا ينبغي الاحتجاب بالمشرق واعتبار المغرب محلّ الغروب والأفول، كذلك يجب تحرّي الفيوضات الإلهيّة والبحث عن الإشراقات الرّحمانيّة ويجب الوله والانجذاب لكلّ حقيقة بانت وظهرت، انظروا اليهود لو لم يكونوا متمسّكين بالأفق الموسويّ ونظروا إلى شمس الحقيقة لشاهدوها ألبتّة في المطلع الحقيقيّ المسيحيّ في نهاية الجلوة الرّحمانيّة، ولكن يا ألف أسف تمسّكوا بلفظ موسى فحرموا من ذلك الفيض الإلهيّ والجلوة الرّبّانيّة.
(11)إنّ شرف كلّ كائن من الموجودات وعلوّ درجته يتعلّق بأمر ويرتبط بكيفيّة، فشرف الأرض وزينتها وكمالها في اخضرارها وتجدّدها من فيض سحاب الرّبيع، إذ ينبت النّبات وتتفتّح الأزهار والرّياحين وتثمر الأشجار وتمتلئ بالفواكه اللّذيذة الشّهيّة وتتشكّل الحدائق وتتزيّن
الرّياض وتلبس الحقول والجبال حلّة خضراء وتتزيّن الحدائق والبساتين والمدن والقرى، فتلك هي سعادة عالم الجماد. وأمّا نهاية رقيّ عالم النّبات وكماله فهو أن يرتفع قدّ الشّجرة على شاطئ جدول من الماء العذب، بحيث يهبّ عليها النّسيم العليل وتشرق عليها الشّمس بحرارتها ويعتني البستانيّ بتربيتها فيزداد نموّها يوماً فيوماً حتّى تؤتى ثمرتها. أمّا سعادته الحقيقيّة ففي رقيّه إلى عالم الحيوان والإنسان بالاندماج فيهما بدل ما يتحلّل من جسميهما. ورقيّ عالم الحيوان في تكامل أعضائه وقواه وجوارحه ووجود ما يحتاج إليه، هذا هو نهاية عزّته وشرفه وعلويّته. مثلاً إنّ نهاية ما يسعد به الحيوان أن يكون في مرعى خصيب نضير، مياهه جارية وفي غاية العذوبة، أو في غابة نضرة في غاية الطّراوة، فإذا تهيّأ له مثل هذا فلا يتصوّر للحيوان سعادة فوق هذه السّعادة، ومثلاً لو أنّ طيراً اتّخذ عشّاً بغابة مخضرّة في بقعة عالية لطيفة على أعلى أفنان دوحة عظيمة، وتوفّر له كلّ ما يريد من حبوب ومياه فهذه هي السّعادة الكلّيّة للطّير، ولكن سعادته الحقيقيّة في انتقاله من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان كالحيوانات الذّرّيّة الّتي تحلّ في جوف الإنسان بواسطة الهواء والماء فتتحلّل وتعوّض ما يفقده جسم الإنسان، هذه هي نهاية عزّة الحيوان وسعادته، ولا يتصوّر له عزّة بعد هذا. إذاً صار من الواضح المعلوم أنّ هذه النّعمة والرّاحة والثّروة الجسمانيّة هي السّعادة الكاملة للجماد والنّبات والحيوان، ولا يمكن أن توجد أيّة ثروة أو غنى أو راحة أو دعة في العالم الجسماني تعادل غنى هذه الطّيور لأنّ هذه الصّحارى والجبال فناء وكرها، وجميع الحبوب والبيادر ثروتها وقوّتها بل جميع الأراضي والقرى والغياض والمراعي والغابات
والصّحارى ملكها، لأنّه مهما أخذ الطّير من الحبوب وأعطى فلا ينقص ذلك من ثروته شيئاً، فهل هذا الطّير أغنى أم أغنياء بني الإنسان؟
إذاً صار من المعلوم أن عزّة الإنسان وعلوّه ليستا مجرّد اللّذائذ الجسمانيّة والنّعم الدّنيويّة، بل إنّ هذه السّعادة الجسمانيّة فرع، وأمّا أصل رفعة الإنسان فهي الخصال والفضائل الّتي هي زينة الحقيقة الإنسانيّة، وهي سنوحات رحمانيّة وفيوضات سماويّة وإحساسات وجدانيّة ومحبّة إلهيّة ومعرفة ربّانيّة ومعارف عموميّة وإدراكات عقليّة واكتشافات فنّيّة، عدل وإنصاف، صدق وألطاف، وشهامة ذاتيّة، ومروءة فطريّة، وصيانة الحقوق، والمحافظة على العهد والميثاق، والصّدق في جميع الأمور، وتقديس الحقيقة في جميع الشّؤون، وتضحية الرّوح لخير العموم، والمحبّة والرّأفة لجميع الطّوائف الإنسانيّة، واتّباع التّعاليم الإلهيّة، وخدمة الملكوت الرّحمانيّ، وهداية الخلق وتربية الأمم والملل. هذه هي سعادة العالم الإنسانيّ، هذه هي رفعة البشر في العالم الإمكاني، هذه هي الحياة الأبديّة والعزّة السّماويّة، ولا تتجلّى هذه المواهب في حقيقة الإنسان إلاّ بقوّة ملكوتيّة إلهيّة وتعاليم سماويّة، لأنّها تتطلّب قوّة ما وراء الطّبيعة، وفي عالم الطّبيعة نماذج ممكنة من هذه الكمالات، ولكن لا ثبات لها ولا بقاء كما لا تثبت أشعّة الشّمس على الجدار.
وقد وضع الرّبّ الرّؤوف تاجاً وهّاجاً كهذا على رأس الإنسان فعلينا أن نسعى ليسطع على العالم نور درّه اللّمّاع.
هوامش القسم الأولهناك مسألة لها دخل عظيم في إدراك المسائل الأخرى التي ذكرناها ونذكرها حتّى تهتدي إلى جوهر المسائل وتلك هي:
إنّ المعلومات الإنسانيّة تنقسم إلى قسمين، معلومات تدرك بالحسّ يعني أنّ الشّيء الذّي تدركه العين أو الأذن أو الشّمّ أو الذّوق أو اللّمس يسمّونه محسوساً. مثلاً هذه الشّمس تدرك بالحسّ لأنّها ترى فلهذا يقولون إنّها محسوسة، وكذلك الأصوات تدرك بالحسّ، لأنّ الأذن تسمعها والرّوائح تدرك بالحسّ، لأنّ الأنف تشمّها والطّعوم تدرك بالحسّ، لأنّ الذّوق يدرك حلوها وحامضها ومالحها، والحرارة والبرودة تدركان بالحسّ لأنّ اللّمس يدركهما فيقولون لكلّ هذا حقائق محسوسة.
وأمّا القسم الآخر من المعلومات الإنسانيّة هو المعقولات، يعني الحقائق المعقولة التي ليس لها مكان ولا صورة خارجيّة وليست محسوسة، مثلاً إنّ القوّة العقليّة ليست محسوسة والصّفات الإنسانيّة بتمامها ليست محسوسة، بل إنّها حقائق معقولة وكذلك الحبّ أيضاً حقيقة معقولة لا محسوسة، لأنّ هذه الحقائق لا تسمعها الأذن ولا تراها العين ولا يشمّها الأنف ولا يدركها الذّوق ولا تحسّ باللّمس،
حتّى المادّة الأثيريّة التي يعبَّر عن قواها في الحكمة الطبيعيّة بحرارة ونور وكهرباء ومغناطيس، تلك أيضاً حقيقة معقولة لا محسوسة وكذلك نفس الطّبيعة أيضاً حقيقة معقولة لا محسوسة، وكذلك الرّوح الإنسانيّ حقيقة معقولة لا محسوسة، وعندما تريد بيان هذه الحقائق المعقولة فأنت مجبر عند تبيانها على إفراغها في قالب محسوس إذ لا يوجد في الخارج سواه، فإن أردت بيان حقيقة الرّوح وشؤونها ومراتبها فأنت مجبر على بيانها في صورة محسوسة إذ لا يوجد في الخارج سواه، مثلاً إنّ الحزن والسّرور من الأمور المعقولة فإذا أردت بيان تلك الكيفيّة الرّوحانية تقول ضاق قلبي أو اتّسع، في حال أنّه لم يحصل في روح الإنسان ولا في قلبه ضيق ولا سعة، بل هي كيفيّة روحانيّة معقولة، وإذا أردت البيان فأنت مجبر أن تبيّنها بصورة محسوسة مثلاً تقول إنّ فلاناً ترقّى كثيراً، في حال أنّه باقٍ مستقرّ في مقامه ومحلّه، وفلاناً علا مقامه في حال أنّه كسائر الأشخاص يمشي على الأرض، ولكن هذا العلوّ والتّرقّي كيفيّة روحانيّة وحقيقة معقولة، وإذا أردت البيان فأنت مجبر أن تبيّن ذلك بصورة محسوسة، لأنّه لا يوجد في الخارج سواه، مثلاً تؤول العلم بالنّور والجهل بالظّلمة، فانظر الآن هل العلم نور يحسّ أو الجهل ظلمة محسوسة؟ لا، بل إنّها فقط كيفيّة معقولة فعندما تريد بيانهما تعبّر عن العلم بالنّور، وعن الجهل بالظّلمة، وتقول إنّ قلبي كان مظلماً ثمّ استنار، في حال أنّ نور العلم وظلمة الجهل حقيقة معقولة وليست محسوسة ولكنّنا مجبرون عندما نريد البيان أن نعبّر عنها بصورة محسوسة. إذاً صار من المعلوم أنّ الحمامة التي دخلت في المسيح ليست هي الحمامة المحسوسة بالعين، بل كانت كيفيّة روحانيّة
وبيّنت بصورة محسوسة للتّفهيم والتّفهم، مثلاً ذكر في التّوراة ظهر اللّه في عمود من نار، والحال أنّه ليس المقصد هذه الصّورة المحسوسة بل الحقيقة المعقولة التي بيّنت في صورة محسوسة، ويتفضّل حضرة المسيح بقوله "الأب في الابن والابن في الأب"1 فهل كان حضرة المسيح في باطن اللّه أو اللّه في باطن المسيح، لا واللّه، بل هذه كيفيّة معقولة بيّنت في صورة محسوسة. ولنأتِ ببيان عبارة حضرة الجمال المبارك التي يتفضّل بها قائلاً "يا سلطان إنّي كنت كأحدٍ من العباد وراقداً على المهاد مرّت عليّ نسائم السّبحان وعلّمني علم ما كان ليس هذا من عندي بل من لدن عزيز عليم"2 هذا مقام التّجلي وهو معقول وليس بمحسوس وهو منزّه عن الزّمان الماضي والحال والاستقبال فهذا تمثيل وتعبير، مجاز لا حقيقة، وليس المقصود منه أنّه كان نائماً في الواقع ثمّ استيقظ، بل هو عبارة عن انتقال من حال إلى حال، مثلاً النوم حال السّكون والتّيقّظ حال الحركة، النّوم حال الصّمت واليقظة حال النّطق، النّوم حال الخفاء واليقظة حال الظّهور، مثلاً يعبّر بالفارسي والعربي أنّ الأرض كانت نائمة فاستيقظت بمجيء الربيع، أو الأرض كانت ميّتة فأحييت بمجيء الرّبيع، فهذا تعبير تمثيليّ وتشبيه وتأويل في عالم المعاني، والخلاصة إنّ المظاهر المقدّسة كانت ولا تزال حقائق نورانية لا يحصل التّغيّر والتّبدّل في ذواتها وغاية ما هنالك أنّهم ساكنون صامتون قبل الظّهور كالنّائم، وناطقون مشرقون بعد الظّهور بمثابة اليقظان.
(13)الجواب: اختلف الإلهيّون والماديّون في هذه المسألة، فالإلهيّون متّفقون على أنّ حضرة المسيح ولد من روح القدس، وتصّور المادّيون أنّ ولادته على هذه الكيفيّة ممتنعة مستحيلة، ولا بدّ له من أب ويتفضّل في القرآن بقوله "فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً"3 يعني تمثّل روح القدس بصورة بشريّة كالصّورة التي تتمثّل في المرآة وخاطب مريم، فالماديّون مجمعون على أنّه لا بدّ من الازدواج، ويقولون إنّ الجسم الحيّ لا يتكوّن من جسم ميّت ولا يتحقّق وجوده بدون أن يلقّح الذّكور الإناث، ومتّفقون على أنّ ذلك ليس ممكناً في الحيوان فكيف بالإنسان ولا في النّبات فكيف بالحيوان، لأنّ زوجيّة الذّكور والإناث هذه موجودة في جميع الكائنات الحيّة والنباتيّة حتّى أنّهم أيضا يستدلّون بالقرآن على زوجيّة الأشياء بقوله تعالى "سبحان الذّي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون"4. يعني أنّ الإنسان والحيوان والنّبات جميعها مزدوج "ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين"5 يعني خلقنا الكائنات جميعها مزدوجة. والخلاصة أنّهم يقولون لا يتصّور إنسان من غير أب، ولكنّ الإلهيّين يقولون في جوابهم أنّ هذه القضيّة ليست من القضايا المستحيلة الممتنعة، ولكنّها لم تحدث من قبل، وهناك فرق بين شيء مستحيل
وشيء لم يحدث من قبل، مثلاً إنّ مخابرة الشّرق والغرب بالأسلاك البرقيّة في آن واحد لم تحصل من قبل ومع ذلك لم تكن مستحيلة، والفتوغراف لم يكن معروفاً من قبل ومع هذا لم يكن مستحيلاً، ومثل ذلك الفنوغراف فإنه لم يكن معروفاً من قبل ومع ذلك لم يكن مستحيلاً، ومع ذلك ظلّ المادّيّون مصرّين على رأيهم، فيقول الإلهيّون في الجواب هل هذه الكرة الأرضيّة قديمة أم حادثة؟ فيقول المادّيّون ثبت أنّها حادثة بموجب الفنون والكشفيّات الكاملة، وكانت كرة ناريّة في البداية وحصل الاعتدال بالتّدريج فظهرت القشرة ثمّ تكوّن فوقها النّبات، وبعده وجد الحيوان ثمّ الإنسان، فيقول الإلهيّون قد تبيّن واتّضح من تقريركم أنّ نوع الإنسان على الكرة الأرضيّة حادث وليس قديماً، فيقيناً ما كان للإنسان الأوّل أب ولا أم، لأنّ وجود النّوع الإنسانيّ حادث، فهل تكوّن الإنسان من غير أب ولا أم ولو بالتّدريج أعظم إشكالاً أم وجوده من دون أب؟ على أنّكم معترفون بأنّ الإنسان الأوّل وجد سواء بالتّدريج أو في مدّة قليلة من غير أب وأم، فلا شبهة إذاً في إمكان وجود الإنسان من غير أب ولا يمكن أن يعدّ هذا مستحيلاً، وإن تعدّوه مستحيلاً فليس من الإنصاف، مثلاً لو تقول كان هذا السّراج مضيئاً وقتاً ما من دون الفتيلة والدّهن، ثمّ تقول إنّه من المستحيل أن يضيء من دون الفتيلة، فذلك بعيد عن الإنصاف فحضرة المسيح كان له أمّ، وأمّا الإنسان الأوّل باعتقاد المادّيّين لم يكن له أب ولا أمّ.
(14)الجواب: إنّ الشّخص الجليل جليلٌ سواء كان له أب أو من دونه وإذا كان ثمّة فضل لإنسان من غير أب، فآدم أعظم وأفضل من كلّ الأنبياء والرّسل لأنّه وجد من غير أب وأم، وإنّما سبب العزّة والعظمة هو التجليّات والفيوضات والكمالات الإلهيّة، فالشّمس تولّدت من المادّة والصّورة وهما بمثابة الأب والأم ولكنّها كمال محض، والظّلمات لا مادّة لها ولا صورة ولا أب ولا أمّ ولكنّها نقص صرف، فالمادّة الجسديّة لحضرة آدم هي التّراب، والمادّة الجسديّة لحضرة إبراهيم هي النّطفة الطّاهرة، ولا شكّ أن النّطفة الطيّبة الطّاهرة أحسن من التّراب والجماد، وفضلاً عن هذا فإنّه يقول متفضّلاً في الآية الثّالثة عشرة من الأصحاح الأوّل من إنجيل يوحنّا "وأمّا كلّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد اللّه، أي المؤمنون باسمه الذّين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من اللّه" فيعلم من آية يوحنّا هذه أنّ وجود الحواريّين لم يكن من القوّة الجسمانيّة أيضاً بل من الحقيقة الرّوحانيّة فليس شرف حضرة المسيح وعظمته لأنّه وجد من غير أب بل شرفه ومجده بالكمالات والفيوضات والتّجلّيات الإلهيّة. ولو كانت عظمة حضرة المسيح لكونه ولد من غير أب لوجب أن يكون آدم أعظم منه لأنّه وجد من غير أب ولا أمّ. وفي التّوراة يقول الرّبّ متفضّلاً في الأصحاح الثّاني من سفر التّكوين في الآية السّابعة "وجبل
الرّب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حيّة" فانظروا قوله وجد آدم من روح الحياة وفضلاً عن هذا فإنّ عبارة يوحنّا في حقّ الحواريّين تدلّ على أنّهم أيضاً من الأب السّماويّ، إذاً صار من المعلوم أنّ الحقيقة المقدّسة يعني أنّ الوجود الحقيقيّ لكلّ عظيم هو من الحقّ ومن نفخة روح القدس. والخلاصة أنّه إذا كان وجود الإنسان من غير أب أعظم فضلاً فآدم أعظم من الجميع لأنّه لا أب له ولا أمّ، فهل الإنسان الذّي يخلق من المادّة الحيّة أحسن أم الإنسان الذّي يخلق من التّراب، لا شكّ أنّ الذّي يخلق من المادّة الحيّة أحسن أمّا حضرة المسيح فقد ولد وتحقّق وجوده من روح القدس.
وخلاصة القول أنّ شرف النّفوس المقدّسة وعظمة المظاهر الإلهيّة إنّما يكون بالكمالات الإلهيّة والفيوضات والتّجلّيات الرّبّانيّة لا بسواها.
(15)ورد في إنجيل متّى في الأصحاح الثّالث في الآية الثّالثة عشرة "حينئذٍ جاء يسوع من الجليل إلى الأردنّ إلى يوحنّا ليعتمد منه ولكنّ يوحنّا منعه قائلاً أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ فأجاب يسوع وقال له اسمح الآن لأنّه هكذا يليق بنا أن نكمل كلّ برّ حينئذٍ سمح له."
السؤال: فما احتياج حضرة المسيح إلى غُسل التّعميد مع وجود كماله الذّاتيّ وما هي الحكمة في ذلك؟
الجواب: أصل التّعميد هو غسل التّوبة وكان حضرة يوحنّا ينصح النّفوس ويوصيهم ويتوّبهم ثمّ يعمّدهم، إذاً صار من الواضح أنّ الغسل
رمز للتّوبة من جميع الذّنوب، يعني أي ربّ كما تطهّر جسمي وتقدّسه عن الأوساخ البدنيّة، كذلك طهّر روحي وقدّسها من أوساخ عالم الطّبيعة وممّا لا يليق بباب أحديّتك، فالتّوبة رجوع عن العصيان إلى الطّاعة فيتوب الإنسان ويغتسل بعد البعد والحرمان، إذاً فهذا الغسل رمز يعني أي ربّ طهّر قلبي وطيّبه وزكِّه وقدّسه عن حبّ ما سواك.
ولمّا أراد المسيح إجراء سنّة يوحنّا هذه بين العموم في ذلك الزّمان، تعمّد حضرته ليكون سبباً في تنبّه الخلق وليكمل النّاموس، أي الشّريعة السّابقة، والتّعميد وإن كان سنّة يوحنّا، إلاّ أنّه كان في الحقيقة غسل التّوبة، وكان جارياً في الشّرائع الإلهيّة، وما كان المسيح محتاجاً لغسل التّعميد، غير أنّه لمّا كان هذا العمل مقبولاً ممدوحاً في ذلك الزّمان وعنوان بشارة الملكوت، أجراه حضرة المسيح ولكنّه تفضّل وقال فيما بعد "ليس التّعميد بالماء العنصريّ بل يجب أن يكون التّعميد بالماء والرّوح"6 وقال في موضعٍِ آخر "إنّ التّعميد بالرّوح والنّار"7 وليس المقصود بالماء هنا الماء العنصريّ لأنّه يصرّح في موضعٍ آخر "التّعميد بالرّوح والنّار" ومن هنا يعلم أنّه ليس الغرض من النّار والماء النّار والماء العنصريّين، لأنّ التّعميد بالنّار محال، إذاً فالرّوح فيض إلهيّ والماء علم وحياة والنّار محبّة اللّه بمعنى أنّ الماء العنصريّ لا يكون سبب طهارة قلب الإنسان بل يطهّر جسمه فقط، ولكنّ الماء السّماويّ والرّوح التّي هي علم وحياة تطيّب قلب الإنسان وتطهّره، يعني أنّ القلب الذّي يأخذ نصيبه من فيض روح القدس ويتقدّس به يصير قلباً طيّباً طاهراً.
والمقصود هو تطهير حقيقة الإنسان وتقديسها من أوساخ عالم الطّبيعة كالغضب والشّهوة وحبّ الدّنيا والتّكبّر والكذب والنّفاق والتّزوير وحبّ الذّات وأمثالها من الصّفات القبيحة، ولا سبيل لنجاة الإنسان من حكم النّفس والهوى إلاّ بتأييدات فيض روح القدس، كما يقول من الواجب اللاّزم التّعميد بالرّوح والماء والنّار ويعني بروح الفيض الإلهيّ، وماء العلم والحياة، ونار محبّة اللّه، ويجب أن يتعمّد الإنسان بالرّوح والماء والنّار ليستفيض من الفيض الأبديّ، وإلاّ فما ثمرة التّعميد بالماء العنصريّ ولكنّ التّعميد بالماء كان رمزاً للتّوبة والاستغفار من الخطايا والذّنوب، ولا لزوم لهذا الرّمز في دور الجمال المبارك لأنّ حقيقته التّي هي التّعميد بالرّوح وبمحبّة اللّه أمر محقّق ومقرّر.
(16)السّؤال: هل غسل التّعميد موافق ولازم أم لا؟ فإن كان موافقاً ولازماً كيف نسخ وإن لم يكن كذلك فكيف أجراه يوحنّا.
الجواب: إنّ تطّور الزّمان وتغيّر الأحوال من اللّوازم الذّاتيّة للممكنات، ولا انفكاك للّزوم الذّاتيّ عن حقيقة الأشياء، ومثلاً إنّ انفكاك الحرارة عن النّار والرّطوبة عن الماء والشّعاع عن الشّمس ممتنع محال، لأنّ هذه لوازم ذاتيّة وحيث أنّ تغيّر الأحوال وتبدّلها من اللّوازم الذّاتيّة للممكنات فكذلك تتبدّل الأحكام أيضاً تبعاً لتغيّرات الزّمان،
ومثلاً كانت الشّريعة الموسويّة في زمن حضرة موسى مناسبة لمقتضى الحال، ولمّا تغيّرت تلك الحال وتبدّلت في زمن حضرة المسيح، نسخت تلك الشّريعة لأنّها أصبحت غير مناسبة ولا موافقة
للعالم الإنسانيّ، فأبطل حضرة الرّوح حكم السّبت وحرّم الطّلاق، ومن بعد حضرته حلّل أربعة من الحوارييّن منهم بطرس وبولس لحم الحيوانات المحرّمة في التّوراة ما عدا لحم المنخنقة والدّم وقرابين الأصنام والزّنا، وأبقوا هذه الأحكام الأربعة، ثمّ حلّل بولس الدّم والمنخنقة وذبائح الأصنام أيضاً وأبقى تحريم الزّنا كما كتب في رسالته إلى أهل روميّة في الأصحاح 14 الآية 14 "إنّي عالم ومتيقّن في الرّبّ يسوع أنّ ليس شيء نجساً بذاته إلاّ من يحسب شيئاً نجساً فله هو نجس" وكذلك ذكر في الآية 15 من الأصحاح الأوّل من رسالة بولس الرّسول إلى تيطس "كلّ شيء طاهر للطّاهرين وأمّا للنّجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهراً بل قد تنجّس ذهنهم أيضاً وضميرهم" فكان هذا النّسخ والتّغيير والتّبديل لأنّ عصر المسيح لم يكن يقارن بعصر موسى بل الأحوال ومقتضياتها قد تغيّرت بالكلّيّة ولذا نسخت تلك الأحكام، وحيث أنّ عالم الوجود بمثابة إنسان وأنبياء اللّه ورسله هم أطبّاؤه الحاذقون، ولا يبقى شخص الإنسان على حالة واحدة بل تعتريه الأمراض المختلفة ولكلّ مرض علاج مخصوص، إذاً فالطّبيب الحاذق لا يعالج كلّ العلل والأمراض بوسيلة واحدة بل يغيّر في العلاج والأدوية بما يناسب الأحوال ومختلف الأمراض، فإذا أصيب هذا الشّخص بحمّى شديدة اضطرّ الطبيب الحاذق إلى إعطائه أدوية باردة، وإذا انقلب مزاج هذا الشّخص في وقت آخر وتبدّلت الحرارة بالبرودة اضطرّ الطّبيب الحاذق إلى استبدال الأدوية الباردة بأدوية حارّة، وهذا التّغيير والتّبديل من مقتضيات حال المريض ودليل جليل على حذق الطّبيب، فانظروا مثلاً هل من الممكن
إجراء شريعة التّوراة في هذا العصر والأوان لا واللّه، هذا مستحيل ومحال، إذاً كان من الضّروري أن تنسخ شريعة التّوراة هذه في زمن المسيح، ثمّ انظروا إلى غسل التّعميد في زمن يوحنّا المعمدان فإنّه كان سبب تذكّر النّفوس وتنبّهها حتّى يتوبوا من جميع المعاصي وينتظروا ملكوت المسيح، أمّا في هذه الأيّام فالكاثوليك والأرثوذكس بآسيا يعمّدون الأطفال الرّضّع في الماء المخلوط بزيت الزّيتون، حتّى أنّ بعض الأطفال يمرض من هذا العمل المتعب ويرتعشون في وقت التّعميد ويضطربون، وبعض القسس في جهات أخرى يرشّون مياه التّعميد على الجباه وليس للأطفال إحساس روحانيّ بأيّ وجه من الوجوه سواء في الحالة الأولى أم في الحالة الثّانية، إذاً فما فائدة هذا العمل؟ بل إنّ سائر الملل يتعجّبون ويندهشون قائلين لماذا يغطّسون هؤلاء الأطفال الرّضّع في هذا الماء، فلا هو سبب تنبّه الطّفل ولا هو سبب إيمانه ولا هو سبب تيقّظه بل هو مجرّد عادة يجرونها.
أمّا في زمن يوحنّا المعمدان فلم يكن هكذا بل كان حضرة يوحنّا ينصح النّفوس أوّلاً ويدلّهم على التّوبة من الخطايا والذّنوب، ثمّ يشوّقهم لانتظار ظهور المسيح وكان كلّ نفس عندما تغتسل غسل التّعميد تتوب من الذّنب بنهاية التّضرّع والخشوع وتطّهر جسدها من الأوساخ الظّاهريّة أيضاً، وكانوا باللّيل والنّهار ينتظرون ظهور المسيح والدّخول في ملكوت روح اللّه آناً بعد آن بكمال الاشتياق. والخلاصة أنّ تغيّر الأحوال وتبدّل مقتضيات القرون والأعصار سبب لنسخ الشّرائع لأنّه يأتي زمان تكون تلك الأحكام غير ملائمة ومطابقة للأحوال، فانظروا كم من تفاوت بين مقتضيات القرون الأولى والقرون الوسطى والقرون الأخيرة، فهل من الممكن الآن إجراء أحكام القرون
الأولى في هذا القرن الأخير؟ من الواضح أنّ ذلك ممتنع محال، وكذلك لا تكون مقتضيات القرون الحاليّة موافقة للقرون الآتية بعد مضيّ قرون عديدة، بل لا بدّ من التّغيير والتّبديل، فالأحكام في أوروبّا في تغيير وتبديل متواصل فكم من أحكام كثيرة كانت موجودة في قوانين أوروبّا ونظمها في السّنين السّابقة قد نسخت الآن، فهذا التّغيير والتّبديل إنّما جاء من تغيّر الأفكار وتبدّل الأحوال والأطوار، وبدون ذلك تختلّ سعادة عالم البشر، مثلاً إنّ أحكام التّوراة حكم القتل لمن يكسر السّبت بل في التّوراة عشرة أحكام للقتل فهل من الممكن إجراء تلك الأحكام في هذه القرون؟ من الواضح أنّ هذا ممتنع محال، لهذا تغيّرت وتبدّلت وتغيير الأحكام وتبديلها دليل كافٍ على الحكمة البالغة الإلهيّة، فيلزم إمعان النّظر في هذه المسائل لأسباب واضحة لائحة طوبى للمتفكّرين.
(17)السّؤال: يقول حضرة المَسيح "إنّي أنا الخبز الذّي نزل من السّماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد"8 فما المقصود من هذا البيان؟
الجواب: المقصود من هذا الخبز هو المائدة السّماويّة والكمالات الإلهيّة يعني أنّ كلّ من يتناول من هذه المائدة أي يكتسب من الفيوضات الإلهيّة ويقتبس من الأنوار الرّحمانيّة ويأخذ نصيباً من كمالاتي يحيا حياةً أبديّة.
والمقصود من الدّم أيضاً هو روح الحياة وتلك هي الكمالات الإلهيّة والجلوة الرّبانيّة والفيض الصّمدانيّ، لأنّ جميع أجزاء بدن الإنسان بواسطة جريان دورته تكتسب المادّة الحيويّة من الدّم، يقول في آية 26 من الأصحاح 6 من إنجيل يوحنّا "أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنّكم رأيتم آيات بل لأنّكم أكلتم من الخبز فشبعتم" ومن الواضح أنّ الخبز الذّي أكله الحواريّون فشبعوا منه هو الفيوضات السّماويّة لأنّه يقول في آية 33 من الفصل المذكور "لأنّ خبز اللّه هو النّازل من السّماء الواهب حياة للعالم" ومعلوم أنّ جسد المسيح لم ينزل من السّماء بل نزل من رحم مريم وكلّ ما نزل من السّماء الإلهيّة هو روح المسيح، ولمّا ظنّ اليهود أنّ حضرته يقصد الجسد اعترضوا عليه كما ورد في الآية 42 من الأصحاح المذكور إذ قالوا "أليسَ هذا هو يسوع بن يوسف الذّي نحن عارفون بأبيه وأمّه فكيف يقول هذا أنّي نزلت من السّماء" فانظروا كيف اتّضح أنّ مقصد حضرة المسيح من الخبز السّماويّ هو روح حضرته وفيوضاته وكمالاته وتعاليمه كما يبيّن في الآية 63 من الفصل المذكور "الرّوح هو الذّي يحيي أمّا الجسد فلا يفيد شيئاً" إذاً اتّضح أنّ روح المسيح كانت نعمة سماويّة نازلة من السّماء، وكلّ من يستفيض من هذه الرّوح أي يأخذ من التّعاليم السّماويّة يجد حياة أبديّة، لذا يقول في الآية 35 منه "فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إليّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً" فلاحظوا كيف أنّه يوضّح الأكل بالإقبال والشّرب بالإيمان، إذاً صار من الواضح المحقَّق أنّ المائدة السّماويّة والفيوضات الرّحمانيّة والتّجلّيات الرّوحيّة والتّعاليم السّماويّة والمعاني الكليّة هي حضرة المسيح، والأكل عبارة عن الإقبال والشّرب كناية عن الإيمان حيث كان لحضرته جسد عنصريّ وهيكل سماويّ، فالجسد العنصريّ صُلِب وأمّا الهيكل السّماويّ فحيّ باقٍ وسبب
الحياة الأبديّة، الجسد العنصريّ كان طبيعة بشريّة والهيكل السّماويّ كان طبيعة رحمانيّة، سبحان اللّه قد يتصوّر البعض بأنّ خبز القربان هو حقيقة حضرة المسيح حلّ فيه اللاّهوت وروح القدس، مع أنّه عندما يؤكل القربان يصير فاسداً ويتغيّر بالكلّيّة بعد عدّة دقائق، فكيف يمكن إذاً تصوّروهم هكذا، أستغفر اللّه عن هذا الوهم العظيم.
وخلاصة المقال أنّ بظهور حضرة المسيح انتشرت تعاليمه المقدّسة التّي هي الفيض الأبديّ وسطعت أنوار الهداية وبذلت روح الحياة للحقائق الإنسانيّة، فكلّ من اهتدى صار حيّاً ومن ضلّ مات موتاً أبديّا، وذلك الخبز النّازل من السّماء هو الهيكل الملكوتيّ لحضرة المسيح وعنصره الرّوحانيّ وهو الذّي تناول منه الحواريّون ففازوا بالحياة الأبديّة، وقد تناول الحواريّون من يد حضرة المسيح أطعمة كثيرة فلماذا امتاز العشاء الرّبانيّ، إذاً صار من المعلوم أنّه ليس المراد من الخبز السّماوي الخبز العنصريّ، بل المقصود منه المائدة الإلهيّة والهيكل الرّوحانيّ لحضرة المسيح، وهي تلك الفيوضات الرّبانيّة والكمالات الرّحمانيّة التّي أخذ الحواريّون منها نصيباً حتّى شبعوا، وكذلك لاحظوا لمّا أن بارك حضرة المسيح الخبز وقال هذا جسدي ووهبه للحواريّين، كان حضرته موجوداً بينهم بشخصه وذاته وما استحال إلى خبز وخمر، ولو استحال إلى خبز وخمر لوجب بعد هذا أن لا يكون حضرة المسيح مجسّماً ولا مشخّصاً ولا معيّناً عند الحواريّين في ذلك الوقت.
إذاً اتّضح أنّ الخبز والخمر رمزان أراد بهما أن يقول أعطيت لكم فيوضاتي وكمالاتي وحيث أنّكم استفضتم منها فقد وجدتم حياة أبديّة وفزتم بحظّ من المائدة السّماويّة.
(18)السّؤال: هل تفسّر المعجزات المنسوبة إلى حضرة المسيح بحسب المعاني الظّاهريّة للألفاظ أو أنّ لها معانٍ أخرى وقد ثبت علميّاً أنّ حقائق الأشياء لا تتغيّر وأنّ جميع الكائنات خاضعة لقانون ونظام كلّيّ لا تتخلّف عنه أبداً ولهذا لا يمكن خرق القانون الكلّيّ.
الجواب: إنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة هم مصادر المعجزات ومظاهر الآثار العجيبة فكلّ أمرٍ مشكل وغير ممكن يصير ممكناً وجائزاً بالنّسبة إليهم، لأنّه بقوّة خارقة للعادة يظهر منهم خارق العادة، وبقدرة ما وراء الطّبيعة يؤثّرون في عالم الطّبيعة، ومنهم جميعاً قد صدرت عجائب الأمور، ولها في الكتب المقدّسة اصطلاح خاص، في حين أنّ المظاهر الإلهيّة لا يعلّقون على تلك المعجزات وعلى تلك الآثار العجيبة أيّة أهميّة، حتّى أنّهم لا يريدون ذكرها، لأنّنا لو اعتبرناها أعظم برهان على صدقهم لكان ذلك حجّةً وبرهاناً بالنّسبة لمن كان موجوداً وشهد المعجزات دون سواه، فمثلاً لو تروى معجزات حضرة موسى وحضرة المسيح لشخص طالب للحقيقة غير مؤمن بهما فإنّه ينكرها ويقول قد رويت أيضاً عن الأصنام آثار عجيبة بشهادة خلق كثير ودوّنت في الكتب، وقد كتب البراهمة كتاباً دوّنوا فيه الآثار العجيبة التّي صدرت من برهما، فيقول الطّالب أيضاً ومن أين نعرف صدق اليهود والنّصارى وكذب البراهمة فكلاهما رواية وكلاهما خبر متواتر وكلاهما مدوّن في الكتب وكلاهما يحتمل الصّدق والكذب، وبمثل هذا يقال فيما ترويه الملل الأخرى، فإن صدق أحدها لزم صدق الآخرين وإن قبل أحدها وجب قبول الباقين، فمن أجل هذا
لا تكون المعجزات برهاناً وإن صحّ أن تكون برهاناً للحاضرين فلا يصحّ أن تكون حجّة على الغائبين، أمّا أهل البصيرة في يوم الظّهور فهم يعتبرون جميع شؤون مظهر الظّهور معجزات لأنّها تمتاز عمّا سواها وما دامت ممتازة فهي خارقة للعادة.
فحضرة المسيح رفع العلم الإلهيّ أمام من على الأرض وقاومهم جميعاً فريداً وحيداً بدون ظهير ولا نصير ولم يكن له جند ولا جيوش بل كان مضطهداً مظلوماً، ومع هذا ففي النّهاية غلب الجميع ولو أنّه صلب في الظّاهر، فهذه القضيّة معجزة محضة لا يمكن إنكارها أبداً فلا حاجة بعدئذٍ إلى برهان آخر يثبت أحقّيّة حضرة المسيح، وليس للمعجزات الظّاهريّة أهمّيّة لدى أهل الحقيقة، فمثلاً لو صار الأعمى مبصراً فإنّه في النّهاية سيفقد بصره ثانياً عندما يموت ويحرم من جميع الحواس والقوى، فلا أهمّيّة إذاً لإبصار الأعمى، إذ أنّ هذه القوى مصيرها أن تزول، وكذلك ما فائدة إحياء جسم الميّت الذّي سيموت مرّةً أخرى.
أمّا الأهميّة ففي إعطاء البصيرة والحياة الأبديّة أي الحياة الرّوحيّة الإلهيّة، لأنّ هذه الحياة الجسمانيّة لا بقاء لها ووجودها عين العدم، مثال ذلك أنّ حضرة المسيح يقول في جواب أحد التّلاميذ "دع الموتى يدفنون الموتى المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح فهو الرّوح"9 فلاحظوا أنّ تلك النّفوس مع أنّها قد كانت أحياءً بالأجسام إلا أنّ المسيح اعتبرها أمواتاً، لأنّ الحياة هي الحياة الأبديّة والوجود هو الوجود الحقيقيّ، فمن أجل هذا لو ذكر إحياء الموتى في الكتب المقدّسة، فالمقصود أنّهم نالوا الحياة الأبديّة وكذلك لو ذكر إبصار العمى فالمقصود من هذا الإبصار هي البصيرة الحقيقيّة، وكذلك لو ذكر إسماع الصّمّ فالمقصود حصول السّمع الرّوحيّ ونيله السّمع الملكوتيّ
وهذا ثابت بنصّ الإنجيل حيث يقول حضرة المسيح "هؤلاء مثل الذّين قال عنهم إشعيا لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وأنا أشفيهم"10 وليس المقصود من هذا أنّ مظاهر الظّهور عاجزون عن إجراء المعجزات بل هم قادرون ولكنّ المقبول والمهمّ لديهم هو البصيرة الباطنيّة والسّمع الرّوحاني والحياة الأبديّة، فعلى هذا ما جاء في أيّ موضع من الكتب المقدّسة من أنّ أعمى صار بصيراً معناه أنّه كان أعمى الباطن وفاز بالبصيرة الرّوحانيّة، أو كان جاهلاً فصار عالماً أو كان غافلاً فصار متنبّهاً أو كان ناسوتيّاً فصار ملكوتيّاً، وحيث أنّ هذه البصيرة والسّمع والحياة والشّفاء كلّها أبديّة لهذا كانت ذات أهميّة، وإلاّ فما أهميّة الحياة الحيوانيّة وقواها وقدرها وشأنها التّي هي كالأوهام تنتهي في أيام معدودة، مثلاً لو أضيء سراج مطفأ فإنّه لا شكّ ينطفئ مرّة أخرى أمّا نور الشّمس فمضيء دائماً، وهذا هو المهمّ.
(19)الجواب: ليس قيام المظاهر الإلهيّة قياماً جسديّاً، فجميع شؤونهم وحالاتهم وأعمالهم وتأسيساتهم وتعاليمهم وتعبيرهم وتشبيههم وترتيبهم عبارة عن أمور روحيّة معنويّة لا تتعلّق بالجسمانيّات، مثلاً مسألة مجيء المسيح من السّماء هذه مصرّح بها في مواضع متعدّدة من الإنجيل حيث يقول جاء ابن الإنسان من السّماء وابن الإنسان في السّماء وسيذهب إلى السّماء وكما يقول في الأصحاح السّادس من إنجيل يوحنّا آية 38
"لأنّي قد نزلت من السّماء" وكذلك في الآية الثّانية والأربعين منه "وقالوا أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذّي نحن عارفون بأبيه وأمّه فكيف يقول هذا إنّي نزلت من السّماء" وكذلك في إنجيل يوحنّا في الأصحاح الثّالث الآية الثّالثة عشرة يقول "وليس أحد صعد إلى السّماء إلاّ الذّي نزل من السّماء ابن الإنسان الذّي هو في السّماء" فلاحظوا أنّه يقول ابن الإنسان في السّماء والحال أنّ حضرته في ذلك الوقت كان على الأرض، وكذلك لاحظوا أنّه يقول صراحةً جاء المسيح من السّماء، والحال أنّه أتى من رحم مريم وتولّد جسم حضرته من العذراء، إذاً اتّضح أنّ المقصود من هذه العبارة التّي يقول فيها جاء ابن الإنسان من السّماء أمر معنويّ لا ظاهريّ، روحيّ لا جسمانيّ، يعني وإن كان حضرة المسيح تولّد من رحم مريم ظاهراً، ولكنّه في الحقيقة قد أتى من السّماء، مركز شمس الحقيقة، العالم الإلهيّ، الملكوت الرّحمانيّ.
وحيث اتّضح أنّ المسيح أتى من السّماء الرّوحيّة والملكوت الإلهيّ، فالمقصود إذاً من بقاء حضرته ثلاثة أيّام في القبر أيضاً أمر معنويّ لا ظاهريّ، وكذلك قيام حضرته من بطن الأرض أيضاً أمر معنويّ وكيفيّة روحانيّة لا جسمانيّة، وكذلك صعود المسيح أيضاً إلى السّماء أمر روحانيّ لا جسمانيّ، وفضلاً عن هذا البيان فقد ثبت وتحقّق علميّاً أنّ هذه السّماء الظّاهرة فضاء غير متناه و فراغ خلاء تسبح فيه النّجوم والكواكب التّي لا عداد لها، لهذا نقول أنّ قيام المسيح عبارة عن اضطّراب الحواريّين وحيرتهم بعد شهادة حضرته وقد خفيت واستترت حقيقة المسيح التّي هي عبارة عن التعاليم والفيوضات والكمالات والقوّة الرّوحانيّة المسيحيّة مدة يومين أو ثلاثة بعد استشهاد حضرته، ولم يكن لها جلوة ولا ظهور بل كانت في حكم المفقود، لأنّ المؤمنين كانوا أنفساً معدودة وكانوا أيضاً مضطربين حائرين، فبقي أمر حضرة روح
الله كجسمٍ لا روح فيه، ولمّا رسخ حضرات الحوارييّن وثبتوا بعد ثلاثة أيّام وقاموا على خدمة أمر المسيح وصمّموا على ترويج التّعاليم الإلهيّة واجراء وصايا المسيح والقيام على خدمة المسيح، تجلّت لهم حقيقة المسيح فظهرت فيوضاته وسرت روح الحياة في شريعته وظهرت تعاليمه واتّضحت وصاياه، يعني أنّ أمر المسيح كان كجسم بلا روح فدخلته الحياة وأحاط به فيض روح القدس، هذا هو معنى قيام المسيح وقد كان قياماً حقيقيّاً، ولمّا لم يفهم القسس المعنى الإنجيليّ ولم يهتدوا إلى رمزه قالوا إنّ الدّين مخالف للعلم والعلم معارض للدّين، لأنّ من جملة هذه المسائل مسألة صعود حضرة المسيح بجسمه العنصريّ إلى هذه السّماء الظّاهرة، وذلك مخالف للعلوم الرّياضيّة. ولكن عندما تنكشف حقيقة هذه المسألة ويفسّر هذا الرّمز فإنّها لا تتعارض مع العلم بأيّ وجه من الوجوه بل العلم والعقل يصدّقانها ويؤيّدانها.
(20)السّؤال: مذكور في الإنجيل أنّ روح القدس حلَّت في الحواريّين فكيف كان ذلك وما معناه؟
الجواب: إنّ حلول روح القدس ليس كحلول الهواء في جوف الإنسان بل هو تعبير وتشبيه لا تصوير وتحقيق، بل هو كحلول الشّمس في المرآة يعني ظهور تجليّ الشّمس فيها، فالحواريّون بعد صعود حضرة المسيح اضطربوا واختلفت آراؤهم وتشتّتت أفكارهم، ثمّ ثبتوا واتّحدوا واجتمعوا في عيد العنصرة، وانقطعوا وغضّوا الطّرف عن أنفسهم وتركوا
راحة هذا العالم ومسرّاته وفدوا بأجسامهم وأرواحهم في سبيل المحبوب وتركوا الأهل والأوطان، وأصبحوا بلا ملجأ ولا مأوى وزهدوا في كلِّ شيء حتّى نسوا ذواتهم، فأتاهم التّأييد الإلهيّ وظهرت قوّة روح القدس وغلبَت روحانيّة المسيح وأخذت محبّة اللّه زمام أنفسهم من أيديهم، فتقوّوا في ذلك اليوم وتوجّه كلّ واحد منهم إلى جهة لتبليغ أمر اللّه ونطق بالحجّة والبرهان، إذاً فحلول روح القدس عبارة عن انجذابهم بالرّوح المسيحيّ واستقامتهم وثباتهم، حتّى اكتسبوا من روح محبّة الله حياةً جديدةً ورأوا حضرة المسيح حيّاً ومعيناً وظهيراً، إذ كانوا قطرات فصاروا بحوراً وبعوضاً فأصبحوا عقاب السّماء وضعافاً فأصبحوا أقوياء، فمثل هؤلاء كمثل المرايا قبالة الشّمس فلا بدّ وأن تسطع فيها أنوارها وأشعّتها.
(21)الجواب: المقصود من روح القدس هو الفيض الإلهيّ والأشعّة السّاطعة من مظهر الظّهور، لأنّ المسيح كان مركز أشعّة شمس الحقيقة، ومن هذا المركز الجليل أشرقت حقيقة المسيح بالفيض الإلهيّ على سائر المرايا التّي كانت حقائق الحواريّين، والمقصود من حلول روح القدس على الحواريّين هو أنّ ذلك الفيض الجليل الإلهيّ تجلّى وأفاض على حقائق الحواريّين ليس إلاّ، حيث الدّخول والخروج والنّزول والحلول من خواصّ الأجسام لا الأرواح. يعني أنّ الدّخول والحلول للحقائق المحسوسة لا للّطائف المعقولة، فالحقائق المعقولة مثل العقل والحبّ
والعلم والتّصوّر والفكر ليس لها دخول ولا خروج ولا حلول بل هي عبارة عن العلاقة الرّوحيّة، مثلاً العلم الذّي هو عبارة عن الصّور الحاصلة لدى العقل هو أمر معقول والدّخول والخروج بالنّسبة للعقل أمر موهوم، بل له تعلّق حصوليّ كالصّور المنطبعة في المرآة، وحيث ثبت بالبرهان أنّه ليس للحقائق المعقولة دخول ولا حلول، فلا شكّ أنّ الصّعود والنّزول والدّخول والخروج والمزج والحلول لروح القدس ممتنع محال، وغاية ما هنالك أنّ روح القدس كالشّمس تجلّت في المرآة وفي بعض المواضع من الكتب المقدّسة تذكر الرّوح والمقصود منها الشّخص، كما هو مصطلح عليه في المخاطبات والمكالمات، أنّ الشّخصَ الفلانيّ روح مجسّم وحميّة ومروءة مشخّصة، فليس النّظر في هذا المقام إلى الزّجاج بل إلى السّراج كما يقول في إنجيل يوحنّا عند ذكر الموعود بعد حضرة المسيح في الآية 12 من الأصحاح 16 "إنّ لي أموراً كثيرةً أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأمّا متى جاء ذاك روح الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ لأنّه لا يتكلّم من نفسه بل كلّ ما يسمع يتكلّم به" فانظروا بدقّة في هذه العبارة "لأنّه لا يتكلّم من نفسه بل كلّ ما يسمع يتكلّم به" تجدوا أنّ روح الحقّ هذا هو إنسان مجسّم له نفس وله أذن تسمع ولسان ينطق وكذلك يطلق روح اللّه على حضرة المسيح مثلما تقول سراج ومرادك السّراج مع الزّجاج.
(22)السّؤال: ما معنى المجيء الثّاني للمسيح ويوم الدّينونة؟
الجواب: مذكور في الكتب المقدّسة أنّ المسيح سيجيء مرّة أخرى ومجيئه
مشروط بتحقّق علامات معيّنة وظهوره مقترن بتلك العلامات، ومن جملتها "تظلم الشّمس" "والقمر لا يعطي ضوءه" "والنّجوم تسقط من السّماء" "وقوّات السّموات تتزعزع" "وحينئذٍ تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء" "وحينئذٍ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السّماء بقوّة ومجد كبير"11 وقد فسّر حضرة بهاء اللّه هذه الآيات وشرحها في كتاب الإيقان12 فلا حاجة للتّكرار فارجعوا إليه تدركوا معاني تلك الكلمات، إلاّ أنّي سأتكلّم الآن بإيجاز في هذا الموضوع، وهو أنّ المسيح في مجيئه الأوّل أيضاً أتى من السّماء كما هو مصّرح في الإنجيل، حتّى أنّ نفس المسيح يقول جاء ابن الإنسان من السّماء وابن الإنسان في السّماء ولا يصعد إلى السّماء إلاّ الذّي أتى من السّماء ومن المسلّم لدى العموم أنّ المسيح أتى من السّماء حال أنّه أتى بحسب الظّاهر من رحم مريم، كما أنّ مجيئه في المرّة الأولى كان في الحقيقة من السّماء وإن كان بحسب الظّاهر أتى من الأرحام، كذلك يكون مجيئه الثّاني بحقيقته أيضاً من السّماء، ولو يأتي بحسب الظّاهر من الأرحام. والشّروط المذكورة في الإنجيل بخصوص مجيءِ المسيح ثانيةً هي نفس الشّروط المصرّح بها في المجيء الأوّل كما سبق من قبل، وفي كتاب إشعيا مذكور أنّ المسيح يفتح الشّرق والغرب ويدخل جميع ملل العالم في ظلّه، وتتشكّل سلطنته ويأتي من مكانٍ غير معلومٍ ويدان المذنبون وتجري العدالة لدرجة أنّ الذئب والحمل والنّمر والجدي والأفعى والطفل الرّضيع تجتمع كلّها على معينٍ واحدٍ ومرعى واحدٍ ووكرٍ واحد، وقد كان مجيئه الأوّل أيضاً مشروطاً بهذه الشّروط، مع أنّه لم يقع بحسب الظّاهر أيّ شرط من هذه الشّروط، فلهذا اعترض اليهود على المسيح وأستغفر اللّه فقد عبّروا عن المسيح بالمسيخ واعتبروه هادم البنيان الإلهيّ ومخرّب السّبت والشّريعة وأفتوا
بقتله، والحال أنّه كان لتلك الشّروط كلاًّ وطرّاً معان، ولكنّ اليهود لم يهتدوا إليها ولذلك احتجبوا، وكذلك المجيء الثّاني للمسيح على هذا المنوال، ولجميع العلائم والشّروط الموضّحة معانٍ ولا يصحّ أن تؤخذ بحسب ظاهرها لأنّها لو أخذت حسب الظّاهر فلا يتحقّق قول حضرة المسيح "تتساقط جميع النّجوم على الأرض" مع أنّ النجوم لا حدّ لها ولا حصر، ومن الثّابت المحقّق علميّاً لدى الرّياضيّين الحاليّين أنّ جرم الشّمس أعظم من جرم الأرض بما يقارب من مليونٍ ونصف مرّة، وكلّ واحدةٍ من هذه النجوم الثّوابت أعظم من الشّمس ألف مرّة، فلو تسقط هذه النّجوم على وجه الأرض فكيف تجد لها محلاًّ وهي إذا سقطت كان سقوطها كسقوط ألف مليون جبل كجبال همالايا على حبّة خردل، فهذه القضيّة عقلاً وعلماً بل وبداهةً من ضروب المحال وليست ممكنة وأعجب من هذا أنّ المسيح يقول لعلِّي آت وأنتم لا تزالون نائمين حيث أنّ مجيء ابن الإنسان كمجيء اللّصّ وربّما كان اللّصّ في البيت وليس عند صاحب البيت خبر، إذاً صار من الواضح المبرهن أنّ لهذه العلامات معنى لا يقصد به الظّاهر وقد بيّنت معانيها بالتّفصيل في كتاب الإيقان فارجعوا إليه.
(23)السّؤال: ما المقصود من الثّالوث والأقانيمِ الثّلاثة؟
الجواب: إنّ حقيقة الألوهيّة المقدّسة عن أن تدركها الكائنات، المنزّهة عن أن يتصوّرها ذوو العقول والأفهام، هذه الحقيقة الرّبانية لا تقبل التّقسيم، لأنّ التّقسيم والتّعدّد من خصائص الخليقة الممكنة الوجود
وليس من العوارض الطّارئة على واجب الوجود، إنّ الذّات الإلهيّة مقدّسةٌ عن التوحيد فما بالك بالتّعدّد، والحقيقة الرّبانيّة لهي أسمى من أن يتصوّر لها مقام أو مرتبة لأنّ ذلك عين النّقص ومنافٍ للكمال، وأمر ممتنع ومحال، لأنّها ما زالت ولا تزال في علوّ التّقديس والتّنزيه، وكلّ ما يذكر من الظّهور والإشراق الإلهيّ فالمقصود منه هو التّجلّي الإلهيّ لا التّنزّل في مراتب الوجود. فالحقّ كمال محض والخلق نقصان صرف وتنزّل الحقّ في مراتب الوجود لهو عين النّقص، ولكنّ ظهوره وإشراقه كتجلّي الشّمس على المرآة الصّافية اللّطيفة الشّفافة، فجميع ما في الكون آيات باهرات للحقّ كالكائنات الأرضيّة التّي سطعت عليها أشعّة الشّمس ولكنّها تلقي هذه الأشعّة على الصّحارى والجبال والأشجار والأثمار على قدر تظهر وتتربّى وتصل إلى الغاية المقصودة من وجودها.
وأمّا الإنسان الكامل فهو كالمرآة الصّافية التّي ظهرت وبرزت فيها شمس الحقيقة بجميع صفاتها وكمالاتها، لهذا كانت الحقيقة المسيحيّة كالمرآة الصّافية الشّفافة في نهاية اللّطافة والطّهارة، فتجلّت شمس الحقيقة والذّات الإلهيّة في تلك المرآة وظهرت فيها حرارتها ونورانيّتها.
أمّا الشّمس فما تنزّلت من علوّ تقديسها وسماء تنزيهها وما اتّخذت في المرآة منزلاً ولا مأوى، بل هي باقية مستقرّة في علوّها وسموّها ولكنّها ظهرت وتجلّت في المرآة بجمالها وكمالها، ولو نقول الآن أنّنا شاهدنا الشّمس في مرآتين إحداهما المسيح والأخرى روح القدس يعني شاهدنا شموساً ثلاثة إحداها في السّماء واثنتان في الأرض لكنّا صادقين، ولو نقول أنّها شمس واحدة وفي فردانيّة محضة ليس لها شريك ولا مثيل لكنّا أيضاً صادقين، وخلاصة القول أنّ الحقيقة المسيحيّة كانت مرآة صافية، وأنّ شمس الحقيقة يعني ذات الأحديّة ظهرت وتجلّت في تلك المرآة بكمالات وصفات غير متناهية لا أنّ الشّمس التّي هي ذات
الرّبوبيّة تجَزّأت وتعدّدت بل الشّمس شمس واحدة ولكنّها أشرقت في المرآة وهذا معنى ما يقوله المسيح "الأب في الابن"13 يعني أنّ تلك الشّمس ظاهرة باهرة في هذه المرآة، فروح القدس هو نفس الفيض الإلهيّ الّذي ظهر وتجلّى في حقيقة المسيح، فالبنوّة مقام قلب المسيح وروح القدس مقام روح المسيح. إذاً ثبت وتحقّق بأنّ الذّات الإلهيّة وحدة محضة ليس لها شبيه ولا مثيل ولا نظير، وهذا هو المقصود من الأقانيم الثّلاثة، وإلاّ فأساس دين اللّه يكون مبنيّاً على مسألة غير معقولة لا يمكن تصوّرها، وكيف تكلّف العقول باعتقاد ما لا يمكن تصوّره، والحال أنّ ما ليس له صورة معقولة ولا يسع العقل أن يتصوّره فهو وهم صرف، فقد ثبت الآن من هذا البيان المقصود من الأقانيم الثّلاثة وثبتت أيضاً وحدانيّة الله.
(24)السّؤال: ما معنى الآية "والآن مجّدني أنت أيّها الآب عند ذاتك بالمجد الذّي كان لي عندك قبل كون العالم"14
الجواب: إنّ التّقدّم على قسمين تقدّم ذاتيّ غير مسبوق بعلّة بل وجوده من ذاته كالشّمس ضياؤها من ذاتها وليست محتاجة في ضوئها إلى فيض كوكب آخر، فيعبّر عن هذا بضياء ذاتيّ، أمّا ضوء القمر فمقتبس من الشّمس لأنّ القمر محتاج إلى الشّمس في الضّياء، إذاً صارت الشّمس
علّةً في الضّياء والقمر معلولاً، تلك قديمة وسابقة متقدّمة وهذا مسبوق ومتأخّر، والنّوع الثّاني من القِدم قِدم زمانيّ، وذلك لا أوّل له وحضرة كلمة اللّه مقدّس عن الزّمان، فالماضي والحال والمستقبل كلّها بالنّسبة إلى الحقّ على حدّ سواء، فليس للشّمس أمس ولا اليوم ولا الغد، وكذلك التّقدّم من جهة الشّرف يعني أنّ الأشرف مقدّم على الشّريف، إذاً فحقيقة المسيح التّي هي كلمة اللّه لا شكّ أنّها من حيث الذّات والصّفات والمجد مقدّمة على الكائنات، وكانت كلمة اللّه قبل الظّهور في الهيكل البشريّ في نهاية العزّة والتّقديس ومستقرّة في أوج عظمتها في كمال الجلال والجمال، ولمّا أشرقت كلمة اللّه من أوج الجلال بحكمة الحقّ المتعال في عالم الجسد اعتدي عليها بواسطة هذا الجسد، إذ وقعت في أيدي اليهود أسيرةً لكلّ ظلوم وجهول وانتهى الأمر بالصّلب، ولذلك نادى ربّه بقوله اعتقني يا إلهي من عالم الجسد وأطلقني من هذا القفص حتّى أصعد إلى أوج العظمة والجلال وأجد تلك العزّة والتّقديس السّابقين قبل عالم الجسد فأبتهج بالعالم الباقي وأصعد إلى الوطن الأصليّ عالم اللاّمكان ملكوت الأخفى، كما لاحظتم أنّه بعد الصّعود ظهرت عظمة حضرة المسيح وجلاله حتّى في عالم الملك يعني في الأنفس والآفاق، بل في نقطة التّراب، وحينما كان في عالم الجسد لقي إهانةً وتحقيراً من أضعف أقوام العالم يعني اليهود الذّين رأوا من اللاّئق أن يكون على رأسه المبارك تاج من الشّوك، أمّا بعد الصّعود فصارت تيجان جميع الملوك المرصّعة خاضعة خاشعة لذلك التّاج المصنوع من الشّوك، وأيضاً فانظر كيف بلغت كلمة اللّه إلى ما بلغت من الجلال في الآفاق.
(25)السّؤال: مكتوب في الآية 22 من الأصحاح 15 من رسالة بولس الأولى إلى كورنتوس "لأنّه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح يحيا الجميع"
الجواب: اعلم أنّ في الإنسان طبيعتين طبيعة جسمانيّة وطبيعة روحانيّة، فالطّبيعة الجسمانيّة موروثة من آدم، والطّبيعة الرّوحانيّة موروثة من حقيقة كلمة اللّه وهي روحانيّة حضرة المسيح، فالطّبيعة الجسمانيّة تولّدت من آدم وأمّا الطّبيعة الرّوحانيّة فمتولّدة من فيض روح القدس، الطّبيعة الجسمانيّة مصدر كلّ نقص والطّبيعة الرّوحانيّة مصدر كلّ كمال، وقد فدى حضرة المسيح بنفسه ليخلّص الخلق من نقائص الطّبيعة الجسمانيّة وليتّصفوا بفضائل الطّبيعة الرّوحانيّة، وهذه الطّبيعة الرّوحانيّة التّي تحقّقت من فيض الحقيقة الرّحمانيّة جامعة لجميع الكمالات وظهرت من نفخة روح القدس وهذه الطّبيعة لهي كمالات إلهيّة، وهي أنوار روحانيّة وهداية ورفعة وعلوّ همّة، وهي عدالة ومحبّة، وموهبة ورأفة بجميع الخلق وهي برّ وخير وحياة في حياة، وهذه الطبيعة الرّوحانيّة تجلٍّ من إشراقات شمس الحقيقة، فالمسيح هو مركز روح القدس ومولود من روح القدس، ومبعوث بروح القدس ومن سلالة روح القدس، يعني ليست الحقيقة المسيحيّة من سلالة آدم بل هي وليدة روح القدس، إذاً فالمقصود من الآية 22 من أصحاح 15 من رسالة بولس لأهل كورنتيان التّي يقول فيها "لأنّه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح
سيحيا الجميع" هو أنّ آدم حسب الاصطلاح أبو البشر يعني أنّه سبب الحياة الجسمانيّة للنّوع الإنسانيّ وله أبوّة جسمانيّة ونفس حيّة ولكن ليست بمحيية، وأنّ حضرة المسيح هو سبب حياة البشر الرّوحانيّة وله الأبوّة الرّوحانيّة من حيث الرّوح، فآدم نفس حيّة والمسيح روح محيية، وهذا العالم الجسمانيّ للإنسان له قوى شهوانيّة، ومن لوازم القوى الشّهوانيّة العصيان، لأنّ القوى الشّهوانيّة ليست تحت قانون العدل والحقّ، إذ أنّ جسم الإنسان أسير الطّبيعة وكلّما تحكّمت به الطّبيعة يتحرك بمقتضاها، إذاً ثبت أنّ الخطيئة موجودة في العالم الجسمانيّ كالغضب والحسد والنّزاع والحرص والطّمع والجهل والتّعصّب والإفساد والتّكبّر والظّلم، فجميع هذه الصّفات البهيميّة موجودة في طبيعة الإنسان، لأنّ الإنسان الذّي لم يتربَّ التّربية الرّوحانيّة هو حيوان كمتوحّشي أواسط أفريقيا، إذ أنّ حركات هؤلاء وسكناتهم وأخلاقهم شهوانيّة محضة يعملون حسبما تمليه عليهم الطّبيعة حتّى أنّهم ليفترس ويأكل بعضهم بعضاً، إذاً اتّضح أنّ العالم الجسمانيّ للإنسان عالم خطيئةٍ وعصيانٍ وليس للإنسان في العالم الجسمانيّ امتياز عن الحيوان، فكلّ الخطايا من مقتضيات الطّبيعة وتلك المقتضيات الطّبيعيّة التّي هي من الخصائص الجسمانيّة بالنّسبة للحيوان ليست بخطايا ولكنّها خطايا بالنّسبة للإنسان، فالحيوان مصدر النّقائص كالغضب والشّهوة والحسد والحرص والاعتداء والتّعاظم، يعني أنّ جميع الخلائق الذّميمة كامنة في طبيعة الحيوان فهي بالنّسبة إليه ليست بخطيئة أمّا بالنّسبة إلى الإنسان فهي خطيئة، فحضرة آدم هو سبب حياة الإنسان الجسمانيّة أمّا حقيقة المسيح يعني كلمة اللّه فهي سبب الحياةِ الرّوحيّة لأنّها روح محيية، يعني أنّ جميع النّقائص التّي هي من مقتضيات الحياة الجسمانيّة للإنسان تتبدّل بالكمالات الإنسانيّة بتعليم ذلك الرّوح المجرّد وتربيته. إذاً
فحضرة المسيح كان روحاً محيية وسبب الحياة الرّوحانيّة للجميع، وحضرة آدم كان سبب الحياة الجسمانيّة، وحيث أنّ العالم الجسمانيّ للإنسان هو عالم النّقائص، والنّقائص هي عين الموت، لهذا عبّر بولس عن النقائص الجسمانيّة بالموت، أمّا جمهور المسيحيّين فمتّفقون على أنّ حضرة آدم لمّا أن تناول من الشّجرة التي منع أن يأكل منها أخطأ وعصى وظلّت النّتيجة المشؤومة لهذا العصيان ميراثاً ثابتاً في سلالة آدم، وعلى هذا فحضرة آدم صار سبب موت الخلق وهذا بديهيّ البطلان، لأنّ معناه أنّ جميع الخلق حتّى الأنبياء والرّسل من دون ذنب ولا تقصير ولمحض أنّهم كانوا من سلالة آدم صاروا مذنبين ومقصّرين بدون سبب، وكانوا مبتلين إلى يوم قربان المسيح بالعذاب الأليم في نار الجحيم، وهذا بعيد من العدالة الإلهيّة، وإذا كان آدم قد أذنب فما ذنب حضرة إبراهيم وما تقصير إسحاق ويوسف وما خطأ موسى.
أمّا أنّ حضرة المسيح كان كلمة اللّه وفدى نفسه فلها معنيان: معنى ظاهريّ ومعنى حقيقيّ، فالمعنى الظّاهريّ أنّه لمّا كان مقصد حضرة المسيح أن يقوم بأمر يكون فيه تربية العالم الإنسانيّ وإحياء بني آدم وهداية عموم الخلق والقيام بأمرٍ عظيمٍ كهذا فيه مخالفة لجميع العالم ومقاومة لسائر الملل والدّول ولا بدّ أن يؤدّي ذلك إلى القتل والصّلب وإهدار الدّم، لهذا فدى حضرة المسيح روحه حينما أظهر أمره وعد الصّليب سريراً والجرح مرهماً والسّمّ شهداً وسكّراً، وقام بتعليم النّاس وتربيتهم يعني فدى بنفسه حتّى يهب روح الحياة وفنى بجسده ليحيي الآخرين بالرّوح، أمّا المعنى الثّاني للفداء فهو أنّ حضرة المسيح كان مثل حبّة ضحّت صورتها لتنمو الشّجرة منها وتعلو، ولو أنّ صورة الحبّة تلاشت إلاّ أنّ حقيقتها ظهرت على هيئة الشّجرة بكمال العظمة
واللّطافة، فمقام المسيح كان كمالاً محضاً، فأشرقت تلك الكمالات الإلهيّة كالشّمس على جميع النّفوس المؤمنة وسطعت ولمعت فيوضات الأنوار في حقائق النّفوس، ولهذا يقول "أنا الخبز النّازل من السّماء وكلّ من يتناول من هذا الخبز لا يموت"15 يعني أنّ كلّ من يأخذ نصيباً من هذا الغذاء الإلهيّ يصل إلى الحياة الأبديّة، ولذلك كان كلّ من أخذ نصيباً من هذا الفيض واقتبس من هذه الكمالات وجد حياةً أبديّةً واستفاض من فيض القدم وخرج من ظلمات الضّلالة واستنار بنور الهداية، ومع أنّ صورة الحبّة صارت فداءً للشّجرة إلاّ أنّها ظهرت وانكشفت كمالاتها بسبب هذا الفداء لأنّ الشّجرة والأغصان والأوراق والأزهار كانت مخفيّةً مستورةً في الحبّة فلمّا أن ضحّت الحبّة بصورتها ظهرت كمالاتها وتجلّت بكمال الظّهور على هيئة الأوراق والبراعم والأثمار.
(26)السّؤال: ما حقيقة موضوع حضرة آدم وأكله من الشّجرة؟
الجواب: ذكر في التّوراة "وأخذ الرّبّ الإله آدم ووضعه في جنّة عدنٍ ليعملها ويحفظها وأوصى الرّبّ الإله آدم قائلاً من جميع أشجار الجنّة تأكل أكلاً وأمّا شجرة معرفة الخير والشّرّ فلا تأكل منها لأنّك يوم تأكل منها موتاً تموت" إلى قوله "فأوقع الرّبّ الإله سباتاً على آدم فقام فأخذ واحدةً من أضلاعه وملأ مكانها لحماً وبنى الرّبّ الإله الضّلع التّي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم" إلى أن يقول "فدلّت الحيّة المرأة على الأكل من أثمار الشّجرة الممنوعة وقالت إنّ اللّه منعكما عن تناول هذه الشّجرة لئلاّ تنفتح عيناكما وتعلمان الخير والشّرّ ثم تناولت
حوّاء من الشّجرة وأعطت لآدم فوافقها آدم أيضاً ففتحت عيناهما ووجدا نفسيهما عريانين وسترا عورتيهما من ورق الشّجرة، ثم عوتبا بعتابٍ إلهيّ "فقال اللّه لآدم هل أكلت من الشّجرة الممنوعة فقال آدم في الجواب إنّ حوّاء دلّتني فعاتب اللّه حوّاء فقالت حوّاء إنّ الحيّة دلّتني وصارت الحيّة ملعونة وحصلت العداوة بين الحيّة وسلالة آدم وحوّاء وقال اللّه صار الإنسان نظيرنا واطّلع على الخير والشّرّ فلعلّه تناول من شجرة الحياة فيبقى إلى الأبد فحفظ اللّه شجرة الحياة."16
فلو أخذنا هذه الحكاية حسب المعنى الظّاهريّ للعبارات وحسب المصطلح عليه بين العامّة لهي في نهاية الغرابة، ويستحيل على العقل أن يقبلها ويصدّقها ويتصوّرها، لأنّ ترتيباً وتفصيلاً وخطاباً وعتاباً كهذا بعيد أن يصدر من شخصٍ عاقلٍ فكيف من الحضرة الإلهيّة التّي رتّبت هذا الكون اللاّمتناهي على أكمل صورة وزيّنت هذه الكائنات التّي لا عداد لها بمنتهى النّظم والإتقان وغاية الكمال، فلتفكّروا قليلاً لأنّه لو نسبت ظواهر هذه الحكاية إلى شخص عاقل فلا شكّ أنّ عموم العقلاء ينكرونها، ويقولون إنّ هذا التّرتيب والوضع لا يصدر يقيناً من شخصٍ عاقلٍ أبداً، من أجل ذلك فحكاية آدم وحوّاء هذه وتناولهما من الشّجرة وخروجهما من الجنّة جميعها رموز ومن الأسرار الإلهيّة والمعاني الكلّيّة، ولها تأويل بديع ولا يعرف كنه هذه الرّموز ومعانيها إلاّ أولوا الأسرار والمقرّبون لدى اللّه الغنيّ المتعال، وإذاً فلآيات التّوراة هذه معانٍ متعدّدةٍ نبيّن معنى واحداً منها فنقول أنّ المقصود من آدم روح آدم ومن حوّاء نفس آدم لأنّ في بعض المواضع من الكتب الإلهيّة التّي يذكر فيها الإناث يقصد منها نفس الإنسان، والمقصود من شجرة الخير والشّرّ هو عالم النّاسوت، لأنّ العالم الرّوحانيّ الإلهيّ خير محض ونورانيّة صرفة، وأمّا في عالم النّاسوت تجد حقائق متضادّة من نور وظلمة وخير وشرّ.
والمقصود من الحيّة هو التّعلّق بالعالم النّاسوتيّ، وقد أدّى تعلّق الرّوح بالعالم النّاسوتيّ إلى حرمان روح آدم ونفسه وإخراجه من عالم الحرّيّة والإطلاق إلى عالم الأسر والتّقييد وصرفه النّظر عن ملكوت التّوحيد متوجّهاً إلى عالم النّاسوت، ولمّا أن دخلت نفس آدم وروحه في عالم النّاسوت خرج بذلك من جنّة الإطلاق والحرّيّة إلى عالم الأسر والتّقييد وبعد أن كان في الخير المحض وعلوّ التّقديس ورد على عالم الخير والشّرّ.
والمقصود من شجرة الحياة هو أعلى رتبة في عالم الوجود، وهي مقام كلمة اللّه والظهور الكلّيّ، لهذا احتفظ بذلك المقام حتّى ظهر ولاح في ظهور أشرف المظاهر الكلّيّة، لأنّ مقام آدم كان كمقام النّطفة من حيث ظهور الكمالات الإلهيّة وبروزها، ومقام حضرة المسيح كان كمقام رتبة البلوغ والرّشد، وكان طلوع النّيّر الأعظم هو في مرتبة كمال الذّات والصّفات، ولذا كانت شجرة الحياة في الجنّة العليا هي عبارة عن مركز التّقديس المحض والتّنزيه الصّرف أي المظهر الكليّ الإلهيّ، وما كانت الحياة الأبدية والكمالات الكلّيّة الملكوتيّة من دورة آدم إلى زمان حضرة المسيح شيئاً يذكر، فشجرة الحياة كانت مقام حقيقة المسيح وهي التّي غرست في الظّهور المسيحيّ وتزيّنت بالأثمار الأبديّة، فلاحظوا الآن كيف أنّ هذا التّأويل يطابق الحقيقة، لأنّ روح آدم ونفسه لمّا أن تعلّقت بالعالم النّاسوتيّ خرجت من عالم الإطلاق إلى عالم التّقييد، وتسلسل نسلاً بعد نسل بصورة مثلى، وهذا التّعلّق الرّوحيّ والنّفسيّ بالعالم النّاسوتيّ المعبّر عنه بالعصيان بقي موروثاً في سلالة آدم، وهذا التّعلّق كان حيّةً تسعى ما بين أرواح سلالة آدم إلى الأبد وبه استقرّت العداوة واستمرّت، لأنّ التّعلّق النّاسوتيّ أصبح سبب تقيّد الأرواح، وهذا
التّقيّد هو عين العصيان الذّي سرى من آدم إلى سلالته، إذ أنّ هذا التّعلّق أضحى علّة حرمان النّفوس من تلك الرّوحانيّات الأصليّة والمقامات العالية.
ولمّا انتشرت نفحات قدس حضرة المسيح وأنوار تقديس النّيّر الأعظم فالحقائق البشريّة أعني النّفوس التّي توجّهت إلى كلمة الله واستفاضت من فيوضاته تخلّصت من ذلك التّعلّق والعصيان وفازت بالحياة الأبديّة وانطلقت من قيود التّقليد واهتدت إلى عالم الحرّيّة والإطلاق وبرئت من رذائل عالم النّاسوت واستفاضت من فضائل عالم الملكوت، هذا هو معنى الآية القائلة "أنفقت دمي لحياة العالم"17 يعني اخترت جميع البلايا والمحن والرّزايا حتى الشّهادة الكبرى للحصول على هذا المقصد الأسمى ودفع الخطيّة بانقطاع الأرواح عن عالم النّاسوت وآثرت انجذابها إلى عالم اللاّهوت حتّى تبعث نفوس تكون جوهر الهدى ومظهر كمالات الملكوت الأعلى.
لاحظوا أنّه لو كان المقصود هو المعنى الظّاهريّ بحسب تصوّر أهل الكتاب لكان ذلك ظلماً محضاً واعتسافاً صرفاً، فلو أنّ آدم أذنب باقترابه من الشّجرة الممنوعة، فأيّ ذنبٍ جناه الخليل الجليل وأيّ خطأ اقترفه موسى الكليم وأيّ عصيانٍ فعله نبيّ الله نوح، وأيّ طغيانٍ برز من يوسف الصّدّيق وأيّ فتورٍ وقع لأنبياء الله وأيّ قصورٍ صدر من يحيى الحصور، فهل تقبل العدالة الإلهيّة أن تبتلى هذه المظاهر النّورانيّة بالجحيم الأليم من أجل عصيان آدم حتّى يأتي المسيح ويصير قرباناً لينجو هؤلاء من عذاب السّعير؟ فتصوّر كهذا خارج عن كلّ القواعد والقوانين ولا يقبله كلّ عاقلٍ واعٍ أبداً، بل المقصود منه ما ذكرناه، فآدم روح آدم وحواء نفس آدم والشّجرة عالم النّاسوت والحيّة هي
التّعلّق بعالم النّاسوت، وهذا التّعلّق المُعبّر عنه بالعصيان سرى في سلالة آدم، وقد نجَّى حضرة المسيح النّفوس من هذا التّعلّق بالنّفحات القدسيّة وخلّصهم من تلك الخطيئة والعصيان، وهذا الذّنب بالنّسبة لحضرة آدم بحسب المراتب، وإن كان قد حصل من هذا التّعلق نتائج كلّيّة لكنّ التّعلّق بالعالم النّاسوتيّ بالنّسبة إلى التّعلّق بالعالم الرّوحانيّ اللاّهوتيّ يعدّ ذنباً وعصياناً ويثبت في هذا المقام منطوق "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين" فكما أنّ القوّة الجسمانيّة قاصرة بالنّسبة إلى القوّة الرّوحانيّة بل نسبة هذه إلى تلك هو عين الضّعف، كذلك تعدّ الحياة الجسمانيّة مماتاً بالنّسبة إلى الوجود الملكوتيّ والحياة الأبديّة، كما أنّ حضرة المسيح سمَّى الحياة الجسمانيّة موتاً فقال "دع الموتى يدفنون موتاهم"18 ومع أنّ تلك النّفوس كانت حيّة بالحياة الجسمانيّة ولكنّ تلك الحياة كانت موتاً في اعتبار حضرة المسيح، هذا معنى واحد من معاني حكاية حضرة آدم المذكورة في التّوراة فتفكرّوا أنتم أيضاً حتّى تهتدوا إلى المعاني الأخرى والسّلام.
(27)السّؤال: ما معنى "ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأمّا من قال على الرّوح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي."19
الجواب: إنّ للحقائق المقدّسة المظاهر الإلهيّة مقامين معنويّين أحدهما مقام المظهر نفسه والذّي هو بمنزلة كرة الشّمس والآخر مقام الظّهور والتّجلّي الذّي هو بمثابة النّور والكمالات الإلهيّة والرّوح القدس، لأنّ الرّوح القدس هو الفيوضات الإلهيّة والكمالات الرّبانيّة،
وهذه الكمالات الإلهيّة هي بمنزلة شعاع الشّمس وحرارتها والشّمس شمس بأشعّتها السّاطعة ولولا أشعّتها السّاطعة ما كانت شمساً، ولولا الظّهور وتجلّي الكمالات الإلهيّة في المسيح ما كان اليسوع مسيحاً، وهو من هذه الجهة مظهر لأنّه تجلّت فيه الكمالات الإلهيّة، فأنبياء الله مظاهر، لأنّ فيهم ظهرت الكمالات الرّبّانيّة يعني روح القدس، فلو أنّ نفسا أعرضت عن المظهر لجهلها وعدم عرفانها فربّما انتبهت واعترفت بأنّه هو مظهر ظهور الكمالات الإلهيّة الرّبّانيّة، أمّا لو أعرضت عن نفس الكمالات الإلهيّة التّي هي عبارة عن روح القدس فهذا دليل على أنّها خفّاش مُعرِض عن الشّمس، وهذا الإعراض عن الأنوار لا علاج له ولا غفران، يعني لا يمكن أن تتقرّب إلى اللّه فهذا السّراج سراج بهذا النّور فلولا النّور لما كان سراجاً، على أنّه لو أعرضت نفس عن أنوار السّراج فهي عمياء ولا يمكنها أن تدرك النّور، والعمى سبب الحرمان الأبديّ. ومن المعلوم أنّ النّفوس تستفيض من فيوضات روح القدس المتجلّية على المظاهر الإلهيّة لا من شخصيّة المظهر، فإذا لم تستفض نفس من فيوضات روح القدس فإنّها تكون محرومة من الفيوضات الإلهيّة، ونفس الحرمان هو عدم الغفران، ولذا فكثير ممّن كانوا أعداء لمظاهر الظّهور لعدم معرفتهم بأنّهم هم مظاهر الظهور صاروا محبّين لهم بعد ما عرفوا، إذاً ما كان العداء لمظهر الظّهور سبب الحرمان الأبديّ، لأنّهم كانوا أعداء للمشكاة لا للنّور وما كانوا يعلمون أنّ المظهر هو السّراج النّورانيّ الإلهيّ، وحينما عرفوا وأدركوا أنّ المشكاة هي مظهر الأنوار أصبحوا يحبّونها حبّاً حقيقيّاً. والمقصود هو أنّ الإعراض عن المشكاة لا يكون سبب الحرمان الأبديّ، فربّما تنتبه النّفوس وتتذكّر ولكنّ عداوة النّور هي سبب الحرمان الأبديّ وليس لها علاج.
(28)السّؤال: يقول حضرة المسيح في الإنجيل "المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون"20 ويقول في القرآن "يختصّ برحمته من يشاء"21 فما حكمة ذلك؟
الجواب: اعلم أنّ نظام الكون وكماله يقتضيان أن يكون الوجود منحلاًّ في صور لا عداد لها، فلهذا لم تكن الموجودات في مرتبة واحدة أو مقام واحد ونمط واحد ولا جنس واحد أو نوع واحد ولا في صورة واحدة، بل لا بدّ من تفاوت في المراتب وتمايز في الأصناف وتعدّد في الأجناس والأنواع يعني من المحتّم وجود مراتب الجماد والنّبات والحيوان والإنسان، لأنّ عالم الوجود لا يتمّ تكوينه وتنظيمه وكماله بالإنسان وحده، وكذلك لا يمكن أن يظهر العالم بالمنظر البديع والتّرتيب الدّقيق والرّونق اللّطيف بالحيوان وحده، أو النّبات وحده أو الجماد وحده، بل لا بدّ من تفاوت المراتب والمقامات والأجناس والأنواع حتّى يتجلّى الوجود في نهاية الكمال، مثلاً لو أنّ هذه الشّجرة كانت كلّها ثمرة لما تمّ كمالها النّباتيّ، لأنّ الأوراق والبراعم والثّمار جميعها لازمة حتّى يتجلّى النّبات في نهاية الزّينة والكمال، وكذلك انظروا في هيكل الإنسان إذ لا بدّ فيه من تفاوت في الأعضاء والأجزاء والأركان، فجمال الوجود الإنسانيّ وكماله يقتضي وجود العين والأذن والمخّ حتّى الأظافر والشّعر، فلو كان هيكل الإنسان كلّه مخّاً أو عيناً أو أذناً لكان ذلك عين النّقص، وكذلك يكون ناقصاً لو كان بدون شعر أو أهداب أو أظافر أو أسنان، ولو أنّ هذه كلّها بالنّسبة إلى العين
في حكم الجماد والنّبات لعدم الإحساس، ولكنّ عدم وجودها في هيكل الإنسان مكروه ومذموم للغاية، إنّ مراتب الموجودات مختلفة متفاوتة، اختار الله سبحانه لبعض الأشياء الرّتبة العليا كالإنسان، ووضع بعضها في الرّتبة الوسطى كالنّبات، وترك بعضها في الرّتبة الدّنيا كالجماد، فتخصيص الإنسان بالرّتبة العليا إنّما هو من فضله، والتّفاوت بين النّوع الإنسانيّ من حيث التّرقّيات الرّوحانيّة والكمالات الملكوتيّة إنّما هو أيضاً بإرادة حضرة الرّحمن، لأنّ الإيمان الذّي هو حياة أبديّة من آثار فضل الله لا من نتائج العدل، فشعلة نار المحبّة إنّما هي بقوّة الانجذاب لا بالسّعي والاجتهاد في عالم الماء والتّراب، بل الذّي يحصل بالسّعي والاجتهاد هو الاطّلاع والعلم وسائر الكمالات، إذاً فانبعاث الأرواح واهتزازها لا يكون إلاّ بأنوار الجمال الإلهيّ وقوّته الجاذبة لهذا يقول "المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون"، أمّا الكائنات الجسمانيّة ليست مذمومة ومحكومة ومسؤولة في مراتبها ومقاماتها، فمثلاً الجماد في رتبته الجماديّة والنّبات في رتبته النّباتيّة والحيوان في رتبته الحيوانيّة كلّ مقبول في رتبته، بل تلك الرّتب هي عين الكمال ولكنّها إذا كانت ناقصة في رتبها ولم تبلغ حدّ الكمال فيها فهي مذمومة وغير مقبولة.
وأمّا التّفاوت بين النّوع الإنسانيّ فهو على قسمين، أحدهما التّفاوت من حيث المراتب وهذا التّفاوت ليس بمذموم، والقسم الآخر هو التّفاوت من حيث الإيمان والإيقان وعدمهما وذلك مذموم، لأنّ تلك النّفس تكون قد ابتليت بهواها وطيشها حتّى حرمت من مثل هذه الموهبة ومنعت من قوّة جذب محبّة اللّه، ومع أنّ الإنسان في رتبته ممدوح ومقبول إلاّ أنّه بحرمانه من كمالات تلك الرّتبة يصبح معدن النّقائص بناءً على ذلك فهو مسؤول.
(29)الجواب: قد شرح حضرة بهاء الله هذا المطلب في كتاب الإيقان بالتّفصيل والوضوح، فارجعوا إليها تتّضح لكم حقيقية هذه المسألة جليّة، وحيث سألت الآن عن ذلك فسأتكلّم باختصار، ولنذكر عنوان هذه المسألة من الإنجيل فقد صرّح فيه أنّه لمّا ظهر يحيى بن زكريّا وكان يبشّر النّاس بملكوت اللّه سألوه من أنت؟ هل أنت المسيح الموعود؟ فأجاب لست بالمسيح، ثمّ سألوه أأنت إيليّا؟ قال لا، فمن هذا البيان ثبت وتحقّق أنّ حضرة يحيى بن زكريّا ليس بإيليّا المعهود، ولكن حضرة المسيح يوم التّجليّ في جبل الطّابور صرّح بأنّ يحيى بن زكريّا كان إيليّا الموعود، ففي الآية 11 من أصحاح 9 من إنجيل مرقس يقول "فسألوه لماذا يقول الكتبة إنّ إيليّا ينبغي أن يأتي أوّلاً فأجاب وقال لهم أنّ إيليّا يأتي أوّلاً ويردّ كلّ شيء وكيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أن يتألّم كثيراً ويرذل لكن أقول لكم أنّ إيليّا أيضاً قد أتى وعملوا به كلّ ما أرادوا كما هو مكتوب عنه" وفي إنجيل متّى آية 13 أصحاح 17 يقول "حينئذٍ فهم التّلاميذ أنّه قال لهم عن يوحنّا المعمدان" والحال أنّهم سألوا يوحنّا المعمدان هل أنت إيليّا؟ قال لا، على أنّه في الإنجيل يقول إنّ يوحنّا المعمدان كان نفس إيليّا الموعود، ويصرّح المسيح أيضاً بهذا، حينئذٍ كان حضرة يوحنّا هو حضرة إيليّا فلماذا قال أنا لست إيليّا؟ وإن لم يكن هو إيليّا فكيف يقول حضرة المسيح إنّه كان إيليّا؟
إذاً لم يكن النّظر إلى الشّخصيّة في هذا المقام، بل النّظر إلى
حقيقة الكمالات، أي أنّ تلك الكمالات التّي كانت في حضرة إيليّا كانت متحقّقةً بعينها في يوحنّا المعمدان، وعلى هذا كان حضرة يوحنّا المعمدان هو إيليّا الموعود، فليس النّظر هنا إلى الذّات بل إلى الصّفات، مثلاً في العام الماضي كان الورد موجوداً وفي هذه السّنة أيضاً وجد الورد فأنا أقول قد رجع ورد العام الماضي، والحال أنّي لا أقصد بذلك رجوع ورد العام الماضي بعينه وشخصيّته، ولكن لمّا اتّصف هذا الورد بصفات الورد في العام الماضي يعني بمثل رائحته ولطافته ولونه وشكله، فلذا يقولون عاد ورد العام الماضي، وهذا الورد هو عين ذلك الورد. يأتي الرّبيع فنقول جاء أيضاً ربيع السّنة الماضية لأنّ كلّ ما كان موجوداً في الرّبيع الماضي موجود أيضاً في هذا الرّبيع، لذا يقول حضرة المسيح سترون كلّ ما وقع في زمن الأنبياء السّالفين. ولنأتِ بيان آخر، إنّ حبّة غرست في السّنة الماضية فظهر منها غصن وورق وبرعم وثمر وفي النّهاية تحوّلت إلى حبّة أيضاً، فعندما تزرع هذه الحبّة ثانية تنبت شجرة وتعود وترجع تلك الأغصان والأوراق والبراعم والثّمار وتظهر تلك الشّجرة كاملة، وحيث أنّ الأولى كانت حبّة والثّانية أيضاً حبّة فنقول إنّ الحبّة رجعت، ولكن حينما ننظر إلى مادّة الشّجرة نجد أنّ هذه المادّة مادة أخرى أمّا إذا نظرنا إلى البراعم والأوراق والثّمر نجد نفس ذلك الطّعم والرّائحة واللّطافة، إذاً فقد عاد كمال الشّجرة مرّة أخرى، وعلى هذا المنوال لو ننظر إلى الشّخص نراه شخصاً آخر أمّا لو ننظر إلى الصّفات والكمالات نراها عادت ورجعت، لذا قال حضرة المسيح "هذا إيليّا" يعني هذا الشّخص مظهر الفيوضات والكمالات والأخلاق والصّفات والفضائل التّي كانت لإيليّا، ويوحنّا المعمدان قال أنا لست إيليّا، فحضرة المسيح كان ناظراً إلى الصّفات
والكمالات والأخلاق والفيوضات في كليهما، ويوحنّا كان ناظراً إلى شخصيّته المادّيّة، مثل هذا السّراج الموجود فإنّه كان منيراً ليلة أمس ثم أنير أيضاً هذه اللّيلة وسيضاء اللّيلة الآتية أيضاً، فنقول إنّ سراج اللّيلة هو سراج اللّيلة البارحة وقد رجع ذلك السّراج فالمقصود هو النّور لا الدّهن والفتيل والمشكاة. وهذه التّفاصيل مشروحة ومفصّلة في كتاب الإيقان.
(30)السّؤال: مذكور في إنجيل متّى أنّ المسيح قال لبطرس أنت الصّخرة وعليك أبني كنيستي فما معنى هذا؟
الجواب: إنّ هذا البيان من حضرة المسيح تصديق لقول بطرس حينما قال له "أنت المسيح بن الله الحيّ"22 ثم قال حضرة المسيح في جوابه "أنت الكيفا" والكيفا في اللّغة العبريّة هي الصّخرة ولذا قال حضرة المسيح "وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي"23 لأنّ بعضهم قال لحضرة المسيح أنت إيليّا، وقال بعضهم أنت يوحنّا المعمدان، وقال بعضهم أنت إرميا أو أحد الأنبياء، فأراد حضرة المسيح أن يؤيّد بيان بطرس بالكناية أو الإشارة ولكونه تسمّى بالصّخرة قال بهذه المناسبة أنت الصّخرة وعليك أبني كنيستي يعني سيكون أساس دين اللّه مبنيّاً على عقيدتك: إنّ المسيح ابن اللّه الحيّ، وعلى هذه العقيدة سيوضع أساس كنيسة اللّه التّي هي شريعة اللّه، ووجود قبر بطرس بروميّة مشكوك فيه وغير مسلّم به، غير أنّ البعض يقول إنّه في أنطاكية،
وفضلاً عن هذا فلو نطبّق أعمال بعض الباباوات على شريعة حضرة المسيح نجد أنّ حضرته كان جائعاً عرياناً يأكل الحشائش في هذه البرّيّة وما رضي بتكدير قلب أحد، مع أنّ البابا يجلس في عربة مرصّعة ويمضي أوقاته بنهاية العظمة في جميع الملذّات والشّهوات وحبّ الذّات والنّعمة التّي لا يتيسّر للملوك مثلها، على أنّ حضرة المسيح لم يكدّر نفساً ولكنّ بعضاً من الباباوات قتلوا نفوساً كثيرة بريئة، فارجعوا إلى التّاريخ لتعلموا كيف كانوا يعارضون الحقيقة وكم سفكوا من الدّماء محافظةً على سلطتهم الزّمنيّة وكم اضطهدوا وسجنوا، وقتلوا الآلاف من خدّام الإنسانيّة وأهل المعرفة الذّين كشفوا أسرار الكائنات وذلك فقط لمجرّد المخالفة في الرّأي وكم كانت معارضتهم شديدة للحقيقة. تأمّلوا في وصايا حضرة المسيح وتفحّصوا في أحوال الباباوات وأطوارهم، فهل تجدون أيّة مشابهة بين وصايا حضرة المسيح وأطوار حكومة الباباوات، مع أنّنا لا نحبّ ذمّ النّفوس والقدح فيها ولكنّ تاريخ الفاتيكان مملوء بالعجائب، والمقصود من هذا أنّ وصايا حضرة المسيح شيء وأطوار حكومة البابا شيء آخر، وليس بينهما تشابه ما. انظروا كم قتلوا من البروتستانت وكان كلّه بفتوى البابا، وكم أباحوا من الظّلم والجور وكم عذّبوا النّاس واضطهدوهم. فهل تستشمّ روائح حضرة المسيح الطيّبة الذّكيّة من هذه الأعمال؟ لا واللّه، فهؤلاء ما أطاعوا المسيح بل إنّ بربارة القدّيسة24 التّي صورتها أمامنا قد أطاعت حضرة المسيح واقتفت أثره وأجرت وصاياه، وكان من بين الباباوات نفوس مباركة اتّبعوا خطوات حضرة المسيح، وعلى الخصوص في القرون المسيحيّة الأولى التّي كانت فيها الأسباب الدّنيويّة مفقودة والامتحانات الإلهيّة شديدة، ولكن لمّا تيسّرت أسباب السّلطنة وحصلت العزّة والسّعادة الدّنيويّة نسيت حكومة البابا المسيح بالكلّيّة واشتغلت
بالسّلطنة والعظمة والرّاحة والنّعم الدّنيويّة وقتلت النّفوس وعارضت في نشر المعارف وآذت أرباب الفنون وحالت دون انتشار نور العلم وحكمت بالقتل وشنّ الغارة وهلك آلاف من النّفوس من أهل الفنون والمعارف والأبرياء في سجن روميّة، فكيف مع وجود هذا السّلوك وتلك الأعمال يكون البابا خليفة حضرة المسيح، فكرسيّ حكومة البابا كان معارضاً للعلم دائماً، حتّى صار من المسلّم في أوروبّا أنّ الدّين معارض للعلم والعلم مخرّب لبنيان الدّين، والحال أنّ دين اللّه مروّج للحقيقة ومؤسّس للعلم والمعرفة ومشوّق للعرفان، وهو أسّ المدنيّة للنّوع الإنسانيّ وكاشف لأسرار الكائنات ومنّور للآفاق، بناءً على ذلك فكيف يعارض العلم، أستغفر اللّه عن ذلك، أجل إنّ العلم لدى اللّه أفضل ميزة للإنسان وأشرف الكمالات البشريّة، فمعارضة العلم جهل وكاره العلوم والفنون ليس بإنسان، بل هو حيوان لا شعور له، لأنّ العلم نور وحياة وسعادة وكمال وجمال ووسيلة التّقرّب لدى عتبة الأحديّة وشرف العالم الإنسانيّ وأعظم موهبة إلهيّة، فالعلم حقيقة الهداية والجهل عين الضّلالة، طوبى للذّين يصرفون أيّامهم في تحصيل العلوم وكشف أسرار الكائنات والتّدقيق في الحقيقة وويل للذّين يقتنعون بالجهل والغفلة وتنشرح قلوبهم بالتّقاليد وهم ساقطون في أسفل دركات الجهل والذّهول وأعمارهم ذاهبة أدراج الرّياح.
(31)السّؤال: إذا كان اللّه يعلم أنّه سيصدر عمل ما من شخصٍ وثبت ذلك بالقدر في اللّوح المحفوظ فهل يمكن مخالفة ذلك؟
الجواب: العلم بالشّيء لا يكون سبباً لحصوله لأنّ علم اللّه محيط بحقائق الأشياء قبل وجودها وبعد وجودها على حدّ سواء ولا يكون سبباً لوجود الشّيء وهذا من الكمال الإلهيّ، فمثلاً النّبوّات التّي جاءت على لسان الأنبياء بالوحي الإلهيّ الخاصّة بظهور الموعود في التّوراة لم تكن هي السّبب في ظهور حضرة المسيح، فقد أوحى إلى الأنبياء بأسرار المستقبل المكنونة ووقفوا على ما سيقع وأخبروا بها ولم يكن علمهم هذا ونبوءاتهم سبب حصول الوقائع، مثلاً يعلم كلّ إنسانٍ في هذه اللّيلة أنّ الشّمس ستطلع بعد مضيّ سبع ساعات، فعلم جميع النّاس هذا لا يكون سبب تحقّق طلوع الشّمس، إذاً فعلم اللّه لا يكون أيضاً سبباً لحصول صور الأشياء في عالم الإمكان بل هو مقدّس عن الزّمان الماضي والحال والاستقبال، وهو عين تحقّق الأشياء لا سبب تحقّقها، وكذلك ذكر الشّيء وثبوته في الكتاب لا يكون سبب وجود الشّيء. فالأنبياء اطّلعوا بالوحي الإلهيّ أنّه هكذا سيكون، مثلاً اطّلعوا بالوحي الإلهيّ على أنّ المسيح سيستشهد وأخبروا به فهل كان علم الأنبياء واطّلاعهم على هذا سبباً لشهادة حضرة المسيح؟ لا بل هذا الاطّلاع كمال للأنبياء لا سبب حصول الشّهادة، والرّياضيّون يعلمون بالحساب الفلكيّ بحصول الخسوف والكسوف بعد مدّة معيّنة، ويقيناً أنّ علمهم هذا لا يكون سبباً لوقوع الخسوف والكسوف، هذا من باب التّمثيل لا من باب التّصوير.
هوامش القسم الثانيالسّؤال: ما حقيقة الألوهيّة وما علاقتها بالمطالع الرّبّانيّة والمشارق الرّحمانيّة؟
الجواب: اعلم أنّ الألوهيّة وكنه ذات الأحديّة تنزيه صرف وتقديس بحت، يعني منزّه ومبرّأ عن كلّ نعت، وأنّ جميع الأوصاف العالية في مراتب الوجود أوهام لدى ذلك المقام، غيب منيع لا يدرك وذات بحت لا يوصف، لأن الذّات الإلهيّة محيطة وجميع الكائنات محاط ولا شكّ أنّ المحيط أعظم من المحاط لهذا لا يمكن أن يكتنه المحاط من أحاط به ويدرك حقيقته، فمهما ترقّت العقول ووصلت إلى منتهى درجة من الإدراك، فغاية إدراكها مشاهدة آثاره وصفاته في عالم الخلق لا في عالم الحقّ، لأنّ ذات حضرة الأحديّة وصفاتها في علوّ التّقديس فليس للعقول والإدراكات سبيل إلى ذلك المقام "السّبيل مسدود والطّلب مردود" ومن الواضح أنّ قوّة الإدراك الإنساني فرع لوجود الإنسان والإنسان آية الرّحمن فكيف يحيط فرع الآية بموجد تلك الآية، يعني أنّ الإدراك الذي هو فرع وجود الإنسان يعجز عن أن يدرك حقيقة الألوهيّة، لهذا فتلك الحقيقة الإلهيّة مخفيّة عن جميع الإدراكات ومستورة عن عقول جميع البشر والصّعود إلى ذلك المقام ممتنع محال.
ونحن نرى أن كل دانٍ عاجز عن إدراك حقيقة ما فوقه، مثلاً إنّ الحجر والمدر والشّجر مهما ترقّى لا يقدر على إدراك حقيقة الإنسان ولا يتصوّر البصر والسّمع وسائر الحواس، مع أنّ جميعها مخلوق،
فكيف إذاً يهتدي الإنسان المخلق إلى إدراك حقيقة ذات الخالق المقدّس، فليس للإدراك في هذا المقام سبيل ولا للبيان طريق ولا للإشارة مجال.
وأنَّى للذّرّة التّرابيّة أن تبلغ إلى عالم التّنزيه وما النّسبة بين العقل المحدود والعالم اللاّمحدود؟ (عجزت العقول عن إدراكه وحارت النّفوس في بيانه)* "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير"1 فكلّ ذكر وبيان في هذا المقام قاصر وكلّ تعريف وتوصيف غير لائق وكلّ تصوّر ساقط وكلّ تعمّق باطل، ولكنّ لجوهر الجواهر وحقيقة الحقائق وسرّ الأسرار هذا تجلّيات وإشراقات وظهور وجلوة في عالم الوجود، ومطالع ذلك الإشراق ومجالي ذلك التّجلّي ومظاهر ذلك الظّهور هم المطالع المقدّسة والحقائق الكلّيّة والكينونات الرّحمانيّة الّذين هم المرايا الحقيقيّة للذّات المقدّسة الإلهيّة، وجميع الكمالات والفيوضات والتّجلّيات لذات الحقّ ظاهرة باهرة في حقيقة المظاهر القدسيّة كالشّمس السّاطعة في المرآة الصّافية اللّطيفة بجميع كمالاتها وفيوضاتها.
ولو قيل أنّ المرايا هي مظاهر الشّمس ومطالع نيّر الإشراق، فليس المقصود من ذلك أنّ الشّمس تنزّلت من علوّ تقديسها وتجسّمت في هذه المرآة أو أنّ تلك الحقيقة غير المحدودة تحدّدت في هذا المكان المشهود، أستغفر الله عن ذلك، فهذا اعتقاد الطّائفة المجسّمة، ولكنّ جميع الأوصاف والمحامد والنّعوت راجع إلى هذه المظاهر المقدّسة، يعني أنّ كلّ ما نذكرها من الأوصاف والنّعوت والأسماء والصّفات كلّها ترجع إلى تلك المظاهر الإلهيّة، أمّا حقيقة الذّات الإلهيّة فلم يكتنهها أحد حتّى
________________يشير إليه بإشارة أو بيان أو يذكرها بالمحامد والنّعوت، إذاً فكلّ ما تعلمه الحقيقة الإنسانيّة أو تجده من الأسماء أو تدركه من الصّفات والكمالات راجع إلى تلك المظاهر المقدّسة، وليس لها سبيل إلى أيّة جهة أخرى "السّبيل مقطوع والطّلب مردود" ولكنّنا نبيّن لحقيقة الألوهيّة أسماء وصفات ونصفها بالسّمع والبصر والقدرة والحياة والعلم، فإثبات هذه الأسماء والصّفات ليس برهاناً لكمالات الحقّ بل لنفي النّقائص عنه، لأنّنا لو ننظر في عالم الإمكان نرى أنّ الجهل نقص والعلم كمال، لهذا نقول أنّ الذّات المقدّسة الإلهيّة عليم، وأنّ العجز نقص والقدرة كمال فنقول أنّ الذّات الأقدس الإلهيّ قادر، لأنّنا لا يمكننا أن ندرك العلم والبصر والسّمع والقدرة والحياة للذّات الإلهيّة كما هي، لأنّ ذلك فوق إدراكنا حيث أنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة عين الذّات، والذّات منزّهة عن الإدارك، ولو لم يكن عين الذّات للزم تعدّد القديم، وما به الامتياز بين الذّات والصّفات يلزم أن يكون قديماً ومحقّقاً أيضاً، وذلك يؤدّي إلى تسلسل القدماء وعدم تناهيها وهذا واضح البطلان، إذاً فجميع هذه الأوصاف والأسماء والمحامد والنّعوت راجع إلى مظهر الظّهور، وما عدا هذا من التّصوّر أو التّفكير ما هو إلاّ أوهام، إذ لا سبيل لنا إلى الغيب المنيع لهذا قيل "كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيكم فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم" ومن الواضح أننا لو نريد أن نتصوّر حقيقة الألوهيّة فإنّ هذا التّصوّر محاط ونحن به محيطون، ولا شكّ أنّ المحيط أعظم من المحاط. فثبت من هذا واتّضح أنّ تصوّرنا لحقيقة الألوهيّة في غير المظاهر المقدّسة أوهام محضة، إذ ليس إلى حقيقة الألوهيّة الّتي تعبّر بالمنقطع الوجداني سبيل، وكلّ ما يدخل تحت تصوّرنا أوهام، وعلى هذا فانظر كيف أنّ طوائف العالم تطوف حول الأوهام وعبدة أصنام التّصوّر والأفكار وهم لا يعلمون،
يعدّون أوهامهم حقيقة مقدّسة عن الإدراك ومنزّهة عن الإشارات ويحسبون أنفسهم من أهل التّوحيد ويعتبرون سائر الملل من عبدة الأوثان، والحال أنّ الأصنام لها وجود جماديّ محقّق، أمّا أصنام الأفكار وتصوّرات الإنسان فهي أوهام محضة بل لا وجود لها أيضاً في عالم الجماد (فاعتبروا يا أولي الأبصار)*
واعلم أنّ الصّفات الكماليّة وجلوة الفيوضات الإلهيّة وأنوار الوحي ظاهرة باهرة في جميع المظاهر المقدّسة، ولكن لكلمة الله الكبرى حضرة المسيح والاسم الأعظم حضرة بهاء الله ظهور وبروز فوق التّصوّر لأنّهما كانا حائزين لجميع كمالات المظاهر السّابقة وأحرزا فوق ذلك الكمالات الّتي تجعل سائر المظاهر الأخرى تابعة لهما، مثلاً إنّ جميع أنبياء بني إسرائيل كانوا مظاهر الوحي وكان حضرة المسيح مهبط الوحي أيضاً، ولكن أين وحي كلمة الله من إلهام إشعيا وإرميا وإيليّا.
لاحظ أنّ الأنوار عبارة عن تموّجات المادّة الأثيريّة الّتي يتأثّر بتموّجاتها عصب البصر وبها يحصل الإبصار، فنور السّراج يحصل من تموّجات المادّة الأثيريّة، ومن ضوء الشّمس تكون أيضاً تموّجات المادة الأثيريّة، ولكن أين نور الكواكب والسّراج من نور الشّمس، وإنّ للرّوح الإنسانيّ في رتبة الجنين جلوة وظهوراً وكذلك لها في رتبة الطّفولة والبلوغ والكمال إشراقاً وبروزاً، فالرّوح روح واحدة ولكنّها في الرّتبة الجنينيّة فاقدة حاسّتيّ السّمع والبصر أمّا في رتبة البلوغ والكمال فإنّها تكون في نهاية الظّهور والجلوة والإشراق، وكذلك الحبّة في بداية نبتها ورقة وهي مظهر روح النّبات وأيضاً في رتبة الثّمر مظهر تلك الرّوح، يعني أنّ تلك القوّة النّامية ظاهرة فيها بمنتهى الكمال،
_________________ولكن أين مقام الورقة من مقام الثّمر لأنّ في الثّمر تظهر مائة ألف ورقة ولو أنّ الكلّ ينمو وينشأ بروح واحدة نباتيّة.
دقّق النّظر ما أبعد البون بين فضائل وكمالات حضرة المسيح وإشراقات وتجلّيات حضرة بهاء الله وبين فضائل أنبياء بني إسرائيل مثل حزقيل وصموئيل، فمع أنّ الكلّ مظاهر الوحي إلاّ أن الفرق بينهم لا يتناهى والسّلام.
(33)اعلم أنّ المظاهر المقدّسة وإن كانت مقالات كمالاتهم لا تتناهى إلاّ أنّ لهم ثلاث مراتب. فالمرتبة الأولى هي الجسمانيّة، والثّانية الإنسانيّة الّتي هي النّفس النّاطقة، والثّالثة هي الظّهور الإلهيّ والجلوة الرّبّانيّة.
أمّا المقام الجسمانيّ فمحدث لأنّه مركّب من العناصر ولا بدّ لكلّ تركيب من تحليل، ولا يمكن ألاّ يتحلّل التّركيب، والمقام الثّاني مقام النّفس النّاطقة الّتي هي حقيقة الإنسانيّة وهي محدثة أيضاً، والمظاهر المقدّسة مشتركة مع جميع النّوع الإنسانيّ في ذلك.
اعلم أنّ النّفوس البشريّة حادثة على هذه الكرة الأرضيّة وإن كانت قد مرّت عليها العصور والأجيال، وبما أنّها آية إلهيّة فهي بعد وجودها باقية أبديّة، وللرّوح الإنساني بداية ولكن ليست له نهاية وهي باقية إلى الأبد، وكذلك أنواع الموجودات في الكرة الأرضيّة حادثة، ومن المسلّم أنّه في وقت ما لم تكن جميع هذه الأنواع على وجه الأرض بل إنّ هذه الكرة الأرضيّة لم تكن موجودة، أمّا عالم الوجود
فقد كان لأنّ الوجود ليس محصوراً في الكرة الأرضيّة، والمقصود ههنا أنّ النّفوس الإنسانيّة وإن كانت حادثة لكنّها باقية مستمرّة أبديّة، لأنّ عالم الأشياء عالم النّقص بالنّسبة للإنسان وعالم الإنسان عالم الكمال بالنّسبة إلى الأشياء وعندما تصل النّقائص إلى درجة الكمال تحظى بالبقاء، هذا مثل أقوله فاهتد أنت إلى المقصود2.
والمقام الثّالث هو الظّهور الإلهيّ والجلوة الرّبّانيّة وكلمة الله والفيض الأبديّ والرّوح القدس، وهو لا أوّل ولا آخر له لأنّ الأوّليّة والآخريّة إنّما هما من خصائص عالم الإمكان وليس بالنّسبة إلى عالم الحق، أمّا عند الحقّ فالأوّل عين الآخر والآخر عين الأوّل، مثل ذلك كمثل الأيّام والأسابيع والشّهور والسّنين والأمس واليوم بالنّسبة إلى الكرة الأرضيّة، أمّا بالنّسبة إلى الشّمس فلا وجود لهذه الاعتبارات، فلا يقال الأمس ولا اليوم ولا الغد ولا الشّهر ولا السّنة بل كلّها متساوية، وكذلك كلمة الله منزّهة عن جميع هذه الشّؤون ومقدّسة عن الحدود والقيود والقوانين المتعلّقة بعالم الإمكان، أمّا حقيقة النبوّة التي هي كلمة الله والمظهريّة الكاملة فليست لها بداية ولن تكون لها نهاية، ولكنّ إشراقها متفاوت كإشراق الشّمس، مثلاً إن طلوعها في برج المسيح كان في نهاية الإشراق والسّطوع وهو باقٍ سرمديّ، انظر كم جاء من الملوك الّذين استولوا على العالم وكم ظهر من الوزراء والأمراء ذوي التّدبير، كلّهم اندثروا وانمحت آثارهم بينما نسائم حضرة المسيح في هبوب مستمرّ وأنواره لا تزال ساطعة وصوته مسموعاً وعَلَمه مرفوعاً وجيشه مكافحاً وهاتفه مليح اللّحن وسحابه يمطر الدّرر وسَنا برقه لامعاً وتجلّيه واضحاً لائحاً وجلوته ساطعة لامعة، وكذلك جميع النّفوس الّتي استظلّت بظلّه واستضاءت بأنواره، إذاً صار من المعلوم
إنّ لمظاهر الظّهور مقامات ثلاث، مقام البشريّة، ومقام النّفس النّاطقة، ومقام الظّهور الرّبّاني والجلوة الرّحمانيّة، فمقام الجسد لا بدّ أن يتلاشى، أمّا مقام النّفس النّاطقة فهي وإن كان لها أوّل فلا آخر لها بل مؤيّدة بحياة أبديّة، أمّا الحقيقة المقدّسة كما يقول حضرة المسيح "الأب في الابن"3 فليست لها بداية ولا نهاية. فالبداية هي عبارة عن مقام إظهار الأمر، والسّكوت قبل الظّهور يشبَّه بالنّوم، مثله كمثل شخص كان نائماً فلمّا أن تكلّم عُلِم أنّه متيقّظ، وذلك الشّخص النّائم حينما يستيقظ فإنّه هو نفسه لم يحصل تفاوت في مقامه وسموّه وعلوّه وحقيقته وفطرته، فشُبِّه مقام السّكوت بالنّوم وعبِّر عن مقام الظّهور باليقظة، فالإنسان إنسان سواء كان نائماً أم مستيقظاً والنّوم أحد أحواله واليقظة حال أخرى، فيُعبَّر عن زمان السّكوت بالنّوم ويعبَّر عن الظّهور والدّعوة للهدى باليقظة، ففي الإنجيل يقول "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله"4 إذاً اتّضح أنّ حضرة المسيح كان حائزاً للمقام المسيحيّ وكمالاته من قبل غسل التّعميد، ولم يكن غسل التّعميد سبباً لنزول روح القدس على حضرة المسيح في صورة حمامة، بل إنّ الكلمة الإلهيّة كانت ولا تزال في علوّ التّقديس والسّلام.
(34)سبق أن قلنا أن لمظاهر الظّهور مراتب ثلاث، الأوّل الحقيقة الجسمانيّة الّتي تتعلّق بهذا الجسد، والثّاني الحقيقة الشّاخصة
(أي مشخّصة) أي النّفس النّاطقة، والثّالث الظّهور الرّبّانيّ وهو الكمالات الإلهيّة وسبب حياة الوجود وتربية النّفوس وهداية الخلق ونورانيّة الإمكان.
فمقام الجسد مقام البشريّة وهو يتلاشى لأنّه تركيب عنصريّ وما يتركّب من العناصر لا بدّ من تحليله وتفريقه، أمّا الحقيقة الشّاخصة للمظاهر الرّحمانيّة فهي حقيقة مقدّسة، لأنّها من حيث الذّات والصّفات ممتازة عن جميع الأشياء، مثلاً إنّ الشّمس من حيث الاستعداد تقتضي الإنوار ولا تقاس بالأقمار، فالأجزاء المركّبة منها كرة الشّمس لا تقاس بالأجزاء المركّبة منها كرة القمر، وتلك الأجزاء وذلك التّركيب يقتضي ظهور الأشعّة، أمّا الأجزاء المركّب منها القمر فلا تقتضي الإشعاع بل تقتضي الاقتباس، وعلى هذا فسائر الحقائق الإنسانيّة هي نفوس كالقمر الّذي يقتبس الأنوار من الشّمس. أمّا تلك الحقيقة المقدّسة فهي مضيئة بنفسها.
والمقام الثّالث هو نفس الفيض الإلهيّ وجلوة جمال القديم وإشراق أنوارالحيّ القدير، وليس للحقيقة الشّاخصة للمظاهر المقدّسة انفكاك عن الفيوضات الإلهيّة والجلوة الرّبّانيّة، لهذا فصعود المظاهر المقدّسة عبارة عن تركهم هذا القالب العنصريّ، كالسّراج المتجلّي في هذه المشكاة ينقطع شعاعه منها عند تلاشيها، أمّا فيض السّراج فلا ينقطع، وبالاختصار فالفيض القديم في المظاهر المقدّسة بمثابة السّراج والحقيقة الشّاخصة بمثابة الزّجاج والهيكل البشريّ بمثابة المشكاة فلو تحطّمت المشكاة فالمصباح مضيء.
والمظاهر الإلهيّة هم مرايا متعدّدة لأنّهم ذوو شخصيّة مخصوصة، أمّا المتجلّي في هذه المرايا فهي شمس واحدة، ومن المعلوم أنّ الحقيقة
المسيحيّة غير الحقيقة الموسويّة، ولا شكّ أنّ الحقيقة المقدّسة واقفة على سرّ الوجود من البداية وآثار العظمة ظاهرة واضحة فيها من سنّ الطّفولة، فكيف لا يكون لها الشّعور حينئذٍ مع وجود هذه الفيوضات والكمالات.
قد ذكرنا للمظاهر المقدّسة ثلاث مقامات: مقام الجسد، والحقيقة الشّاخصة، والمظهريّة الكاملة، مثل الشّمس وحرارتها وضيائها، ولسائر النّفوس أيضاً مقام الجسد ومقام النّفس النّاطقة أي الرّوح والعقل، فالمقامات الّتي يذكر فيها كنت نائماً مرّت عليَّ نفحات الله وأيقظتني5 هي كبيان حضرة المسيح الّذي يتفضّل فيه بقوله "أما الرّوح فنشيط وأمّا الجسد فضعيف"6 أي أنّ المشقّة أو الرّاحة أو التّعب هذه كلّها راجعة إلى مقام الجسد ليس لها دخل بتلك الحقيقة الشّاخصة ولا بمظهر الحقيقة الرّحمانيّة، مثلاً تلاحظ أنّه يحدث في جسد الانسان ألف انقلاب ولكن ليس للّروح خبر عن هذا أبداً، فمن الممكن أن يختلّ بعض الأعضاء كلّيّة من جسد الإنسان ولكن جوهر العقل باقٍ مستقرّ، يرد على الملابس مائة ألف آفة ولكنّه لا يحدث للابسها أيّ خطر وما تفضّل حضرة بهاء الله قائلاً كنت نائماً مرّت عليَّ النّسائم فأيقظتني راجع إلى الجسد، وليس في عالم الحقّ زمن ماضٍ وحالٍ ومستقبل فالماضي والحال والاستقبال كلّها واحدة، مثلاً يقول حضرة المسيح كان في البدء الكلمة يعني كان ويكون وسيكون لأنّه ليس من زمان في عالم الحقّ، بل حكم الزّمان للخلق لا للحقّ، مثلاً يقول في الصّلاة "فليكن اسمك مقدّسا" والمقصود من هذا أنّ اسمك كان مقدّساً وسيظلّ مقدّساً، مثلاً إنّ الصّبح والظّهر والعصر هو بالنّسبة إلى الأرض أمّا في الشّمس فليس ثمّة صبح ولا عصر ولا ظهر ولا مساء.
(35)بيان كيفيّة قوّة العلم الحائز لها المظاهر الإلهيّة
السّؤال: من جملة القوى الحائز لها المظاهر الإلهيّة قوّة العلم فما هي حدود تلك القوّة؟
الجواب: إن العلم على قسمين علم وجوديّ وعلم صوريّ، أي العلم التّحقّقيّ والعلم التّصوّريّ، فعلم جميع الخلق بكافّة الأشياء إمّا بالتّصوّر أو بالمشاهدة، يعني أنّهم إمّا أن يتصوّروا تلك الأشياء بقوّة العقل أو يشاهدوها فتنعكس صورها في مرايا القلوب ودائرة هذا العلم محدودة ضيّقة جدّاً لأنّها مشروطة بالاكتساب والتّحصيل.
وأمّا القسم الثّاني المعبّر عنه بالعلم الوجوديّ والتّحقّقيّ فمثله كإدراك الإنسان ومعرفة نفسه بنفسه، مثلاً إنّ عقل الإنسان وروحه واقفان على جميع حالاته وأطواره وأعضائه وأجزائه العنصريّة ومطّلعان على جميع حواسّه الجسمانيّة، وكذلك على قوى نفسه وحواسها وأحوالها الرّوحانيّة، فهذا العلم هو العلم الوجوديّ الّذي يتحقّق به الإنسان وهو يحسّه ويدركه، لأنّ الرّوح محيط بالجسم ومطّلع على حواسّه وقواه، وهذا العلم ليس من قبيل الاكتساب والتّحصيل، بل هو أمر وجوديّ وموهبة محضة، ولمّا كانت حقائق المظاهر الكلّيّة الإلهيّة المقدّسة محيطة بالكائنات من حيث الذّات والصّفات ومتفوّقة عليها وملمّة بالحقائق الموجودة ومطّلعة على جميع الأشياء، فلهذا كان علمهم علماً إلهيّاً لا اكتسابيّاً أي فيض قدسيّ وانكشاف رحمانيّ، فلنضرب مثلاً لإدراك هذه المسألة، الإنسان أشرف الموجودات الأرضيّة ومحيط
بعالم الحيوان والنّبات والجماد، يعني إنّ هذه المراتب مندمجة فيه وهو حائز لهذه المقامات والمراتب وحيث أنّه حائز لهذه المقامات فهو واقف على خفاياها ومطّلع على سرّ وجودها هذا مَثَل وليس مِثلاً7.
وبالاختصار فالمظاهر الكلّيّة الإلهيّة مطّلعون على حقائق أسرار الكائنات، لهذا يؤسّسون الشّرائع الّتي تناسب وتتّفق مع حال العالم الإنسانيّ، لأنّ الشّريعة هي الرّوابط الضّروريّة المنبعثة من حقائق الكائنات، فمظهر الظّهور يعني الشّارع المقدّس إذا لم يكن مطّلعاً بحقائق الكائنات ولا مدركاً للرّوابط الضّروريّة المنبعثة من حقائق الممكنات فإنّه لا يستطيع ألبتّة وضع شريعة مطابقة للواقع وموافقة للحال، فأنبياء الله هم المظاهر الكلّيّة والأطبّاء الحذّق، وعالم الإمكان بمثابة الهيكل البشريّ والشّرائع الإلهيّة هي الدّواء والعلاج، إذاً فالطّبيب يجب أن يكون مطّلعاً وعالماً بجميع أعضاء المريض وأجزائه وطبيعته وأحواله، حتّى يمكنه أن يرتّب الدّواء النّافع للسّمّ النّاقع، وفي الحقيقة إنّ الحكيم يستنبط الدّواء من نفس الأمراض العارضة على المريض، لأنّه يشخّص المرض ثمّ يرتّب العلاج للعلّة المزمنة، فإن لم يشخّص المرض فكيف يمكنه أن يرتّب العلاج والدّواء، إذاً يجب أن يكون الطّبيب مطّلعاً تمام الاطّلاع على جميع الأمراض وعلى طبيعة المريض وأعضائه وأجزائه وأحواله عالماً بكافّة الأدوية حتّى يصف دواءً موافقاً، إذاً فالشّريعة هي الرّوابط الضّروريّة المنبعثة من حقيقة الكائنات، وحيث أنّ المظاهر الكلّيّة الإلهيّة مطّلعون على أسرار الكائنات فهم عارفون بتلك الرّوابط الضّروريّة الّتي يقرّرون على وفقها شريعة الله.
(36)السّؤال: ما معنى الأدوار الكلّيّة الّتي يقال أنّها وقعت في عالم الوجود؟ نرجو بيان حقيقة هذه المسألة.
الجواب: كما أنّ لكلّ واحد من الأجرام النّورانيّة في هذا الفضاء الّذي لا يتناهى دورة زمانيّة، وكلّ يدور في فلكه في أزمنة مختلفة وبعد أن يتمّ دورته يبتدئ في دورة جديدة مرّة أخرى، مثلاً إنّ الكرة الأرضيّة تتمّ دورتها في كل 365 يوماً وخمس ساعات و48 دقيقة وكسور وبعدها تبتدئ في دورة جديدة أي أنّ الدّورة الأولى تتجدّد مرّة أخرى، كذلك عالم الوجود الكلّي سواء في الأنفس أو في الآفاق له دورة من الحوادث الكلّيّة والأحوال والأمور العظيمة، وعند انتهاء الدّورة تبتدئ دورة جديدة وتنسى الدّورة القديمة بالكلّيّة بسبب وقوع الحوادث العظيمة بحيث لا يبقى لها أثر ولا خبر، كما أنّكم تلاحظون أنّه لا خبر أبداً لما حدث قبل 20 ألف سنة مع أننا أثبتنا من قبل بالدّلائل أنّ عمران هذه الكرة الأرضيّة قديم جدّاً، فلا مائة ألف سنة ولا مائتا ألف سنة ولا مليون سنة ولا مليونا سنة بل هو قديم جدّاً فالآثار القديمة وأخبارها مقطوعة قطعاً كلّيّاً.
كذلك لكلّ مظهر من المظاهر الإلهيّة دورة زمانيّة تجري فيها أحكامه وتسري فيها شريعته، وحينما ينتهي دوره بظهور مظهر جديد تبتدئ دورة جديدة، وعلى هذا المنوال تأتي الأدوار وتنتهي وتتجدّد حتّى تنتهي دورة كلّيّة في عالم الوجود، وتقع حوادث كلّيّة ووقائع عظيمة بحيث لا يبقى أثر ولا خبر لما سبق قطعيّاً، ثم يبتدئ دور كلّيّ
جديد في عالم الوجود إذ ليس لعالم الوجود بداية وقد أقيم الدّليل والبرهان من قبل على هذه المسألة فلا احتياج للتّكرار.
وبالاختصار نقول إنّ الدّورة الكلّيّة لعالم الوجود عبارة عن مدّة مديدة وقرون وأعصار عديدة من غير حدٍّ ولا حساب، وتتجلّى مظاهر الظّهور في تلك الدّورة في ساحة الشّهود حتّى يتجلّى ظهور عظيم كلّيّ يجعل الآفاق مركز الإشراق وظهوره يكون سبب بلوغ العالم رشده ودورته تمتدّ كثيراً، ثم تنبعث المظاهر في ظلّه من بعده ويجدّدون بعض الأحكام المتعلّقة بالجسمانيّات والمعاملات حسب اقتضاء الزّمان وهم مستظلّون بظلّه، فنحن في دورة بدايتها آدم والظّهور الكلّيّ لها حضرة بهاء الله.
(37)السّؤال: ما درجة قوّة أعراش الحقيقة -مظاهر الظّهور الإلهي- وما حدود نفوذهم؟
الجواب: انظروا في عالم الوجود أي الكائنات الجسمانيّة تجدوا أنّ المجموعة الشّمسيّة مظلمة قاتمة، والشّمس في هذه الدّائرة هي مركز الأنوار وجميع السّيارات الشّمسيّة طائفة حولها ومستشرقة من فيوضاتها فالشّمس هي سبب الحياة والنّورانيّة وعلّة نشوء كافّة الكائنات ونموّها في الدّائرة الشّمسيّة، ولولا فيوضات الشّمس في هذه الدّائرة ما تحقّق وجود كائن حيّ بل لأظلم الكلّ وتلاشى، إذاً صار من الواضح المشهود
أنّ الشّمس مركز الأنوار وسبب حياة الكائنات في الدّائرة الشّمسيّة، فكذلك المظاهر المقدّسة الإلهيّة هم مراكز أنوار الحقيقة ومنابع الأسرار ومفيضو المحبّة يتجلّون على عالم القلوب والأفكار ويبذلون ويفيضون بالفيوضات الأبديّة على عالم الأرواح ويهبون الحياة الرّوحانيّة ويتلألأون الحقائق والمعاني، فاستضاءة عالم الأفكار إنّما هي من مركز تلك الأنوار ومطلع تلك الأسرار، فلولا فيض التجلّي وتربية تلك النّفوس المقدّسة لكان عالم النّفوس والأفكار ظلمة في ظلمة، ولولا التّعاليم الصّحيحة من مطالع الأسرار لكان عالم الإنسانيّة مسرح الأطوار الحيوانيّة والأخلاق البهيميّة وكان وجود الجميع وجوداً مجازيّاً والحياة الحقيقيّة مفقودة، وهذا معنى ما قيل في الإنجيل "في البدء كان الكلمة"8 يعني صار سبب حياة الجميع. فنلاحظ الآن كم لقرب الشّمس وبعدها وطلوعها وغروبها من الآثار الواضحة والنّتائج الظّاهرة في الكائنات الأرضيّة، فوقتاً خريف وتارةً ربيع وطوراً صيفاً وحيناً شتاءً، وعندما تمرّ خطّ الاستواء يتجلّى الرّبيع المنعش للرّوح، وحينما تصل سمت الرّأس تبلغ الفواكه والأثمار إلى درجة الكمال وتنضج الحبوب والنّباتات وتفوز الكائنات الأرضيّة بمنتهى درجة النّشوء والنّموّ، فكذلك المظهر المقدّس الرّبّاني الّذي هو شمس عالم الخلق، عندما يتجلّى على عالم الأرواح والأفكار والقلوب يأتي الرّبيع الرّوحاني وتقبل الحياة الجديدة وتظهر قوّة الرّبيع البديع وتشاهد الموهبة العجيبة، كما أنّكم ترون أنّ في ظهور مظهر من المظاهر الإلهيّة يحصل رقيّ عجيب في عالم العقول والأفكار والأرواح، وعلى الأخصّ في هذا العصر الإلهيّ تلاحظون مدى ما حصل من التّرقّي في عالم العقول والأفكار، مع أنّه في بداية الإشراق، وعمّا قريب ترون أنّ هذه الفيوضات الجديدة وهذه التّعاليم الإلهيّة ستنير هذا العالم المظلم
وتجعل هذه الأقاليم المحزونة فردوساً أعلى ولو عكفنا على بيان آثار وفيوضات كلّ واحد من المظاهر المقدّسة ليطول بنا الكلام جدّاً، ففكّروا أنتم وتمعّنوا بأنفسكم لتهتدوا على حقيقة هذه المسألة.
(38)الجواب: إنّ الأنبياء على قسمين: الأوّل الأنبياء المستقلّون المتبوعون والثّاني الأنبياء التّابعون غير المستقلّين، فالأنبياء المستقلّون هم أصحاب الشّريعة ومؤسّسو الأدوار الجديدة الّذين بظهورهم يلبس العالم خلعة جديدة ويؤسّس دين جديد وينزل كتاب جديد وهم يقتبسون الفيوضات من الحقيقة الإلهيّة بدون واسطة، نورانيّتهم نورانيّة ذاتيّة كالشّمس تضيء بذاتها لذاتها والضّياء من لوازمها الذّاتيّة وليس مقتبسة من كوكب آخر، فهؤلاء هم مطالع الأحديّة ومنابع الفيوضات الإلهيّة ومرايا ذات الحقيقة.
والقسم الثّاني من الأنبياء هم التّابعون والمروّجون، لأنّهم فروع غير مستقلّين يقتبسون الفيض من الأنبياء المستقلّين ويستفيدون نور الهداية من النبوّة الكلّيّة كالقمر الّذي لا ضياء ولا سطوع له من ذاته لذاته بل يقتبس الأنوار من الشّمس، فمظاهر النبوّة الكلّيّة المستقلّون في ظهورهم هم كحضرة إبراهيم وحضرة موسى وحضرة المسيح وحضرة محمّد وحضرة الأعلى (الباب) وحضرة بهاء الله. وأمّا القسم الثّاني
من الأنبياء فهم التّابعون والمروّجون كسليمان وداود وإشعيا وإرميا وحزقيال.
فالأنبياء المستقلّون كانوا مؤسّسين، أي أسّسوا شريعة جديدة وخلقوا النّفوس خلقاً جديداً وبدّلوا الأخلاق العامّة وروّجوا مسلكاً ومنهجاً جديداً، فتجدّد الكور وتشكّل دين جديد، فظهور هؤلاء بمثابة موسم الرّبيع الذّي فيه يلبس جميع الكائنات الأرضيّة خلعاً جديدة ويحيا حياة جديدة، وأمّا القسم الثّاني من الأنبياء هم التّابعون الّذين يروّجون شريعة الله ويعمّمون دين الله ويعلون كلمة الله، وليست قدرتهم وقوّتهم من أنفسهم بل يستفيدونها من الأنبياء المستقلّين.
(39)الجواب: إنّ بوذا أيضاً أسّس ديناً جديداً وكنفيوش جدّد الأخلاق القديمة ودعا النّاس إلى الصّراط المستقيم. ولكن ما أسّساه انهار انهياراً كلّيّاً ولم تثبت ولم تستمر الأمم البوذيّة والكنفيوشيّة على عبادتهم ومعتقداتهم الأصليّة، ومؤسّس هذا الدّين كان شخصاً جليلاً أسّس الوحدانيّة الإلهيّة ولكن بعده ذهبت تعاليمه الأصليّة بالتّدريج من بين أتباعه بالكّلّية وابتدعت عادات ورسوم جاهليّة حتّى انتهت بعبادة الصّور والتّماثيل، مثلاً انظروا إنّ حضرة المسيح وصّى كراراً ومراراً بالوصايا العشرة المذكورة في التّوراة وأكّد باتّباعها والتّشبّث
بها، ومن جملة الوصايا العشرة هو ألاّ تعبدوا الصّور والتّماثيل بينما الآن توجد الصّور والتّماثيل الكثيرة في بعض الكنائس المسيحيّة.
إذاً صار من الواضح المعلوم أنّ دين الله لا يبقى بين الطّوائف على أساسه الأصليّ، بل يتغيّر ويتبدّل بالتّدريج حتّى ينمحي وينعدم انعداماً كلّيّاً. لهذا يتجدّد الظّهور وتؤسّس شريعة جديدة، لأنّه لو لم يطرأ عليها التّغيير والتّبديل لما احتاجت إلى التّجديد، فهذا الشّجر كان في البداية في منتهى الطّراوة مملوءاً بالأزهار والأثمار ثم صار عتيقاً قديماً لا ثمر له قطّ، بل يبس وصار هشيماً، فمن أجل هذا يغرس البستانيّ الحقيقيّ أشجاراً يافعة من نوع تلك الأشجار وصنفها، فتنشأ وتنمو يوماً فيوماً فيرف في هذه الحديقة الإلهيّة ظلّها الممدود وتؤتي ثمراً محموداً، وكذلك الأديان تتغيّر بمرور الأيّام عن أساسها الأصليّ، وتذهب حقيقة دين الله وروحه من بين النّاس بالكلّيّة، وتروج بينهم البدع، ويصبح دين الله جسماً بلا روح، ومن أجل هذا تتجدّد الأديان.
والمقصود أنّ هو ملّة الكنفيوش وبوذا يعبدون الآن الصّور والتّماثيل غافلين كلّيّاً عن الوحدانيّة الإلهيّة، بل يعتقدون بآلهة موهومة كما كان يعتقد قدماء اليونان مع أنّ الأساس لم يكن كهذا بل كان منهجاً آخر وأساساً آخر.
انظروا كيف نُسي أساس دين المسيح وراجت البدع، فمثلاً قد نهى حضرة المسيح عن التّعدّي والانتقام بل أمر بالخير والتّسامح تلقاء الشّرّ والمضرّة، والآن انظروا كم وقع من الحروب الدّمويّة في نفس الطّائفة المسيحيّة، وكم حصل من الظّلم والجفاء والافتراس وسفك الدّماء، ووقعت بفتوى البابا كثير من الحروب السّابقة. إذاً صار
من الواضح المعلوم أنّ الأديان تتغيّر وتتبدّل تبدّلاً كلّيّاً بمرور الأيّام ثمّ تتجدّد.
(40)السّؤال: ورد في الكتب المقدّسة بعض خطابات زجر وعتاب موجّهة لحضرات الأنبياء، فمن المخاطب بذلك ولمن وجّه العتاب؟
الجواب: إنّ الجميع الخطابات الإلهيّة التي عوتب بها حضرات الأنبياء إنّما المقصود بها أممهم، ولو أنّها بحسب الظّاهر موجّهة إلى حضراتهم، وحكمة ذلك محض الشّفقة والرّحمة بالأمم، حتّى لا تتألّم نفوسهم ولا تتكدّر خواطرهم ولا يكون الخطاب والعتاب ثقيلاً عليهم، لهذا كان الخطاب بحسب الظّاهر موجّهاً إلى الأنبياء ولكنّه في الحقيقة للأمم، وفضلاً عن هذا فالسّلطان المقتدر المستقلّ في مملكته إنّما يمثّل شعبه ورعيّته، يعني قوله قول الجميع، وكل معاهدة يبرمها هي معاهدتهم، لأنّ إرادة شعبه ورعيّته فانية في إدارته ومشيئته، كذلك كلّ نبيّ إنّما يمثّل أمّته وملّته، لهذا فعهد الله وخطابه مع النّبيّ هو عهد وخطاب مع كلّ الأمّة والغالب أنّ خطاب الزّجر والعتاب يثقل على النّفوس ويسبّب انكسار القلوب.
لهذا اقتضت الحكمة البالغة توجيه الخطاب في الظّاهر لحضرات الأنبياء، وذلك يتوضّح من التّوراة نفسها حيث أنّ بني إسرائيل عصوا
وقالوا لحضرة موسى نحن لا نقدر أن نحارب العمالقة، لأنّهم أقوياء أشدّاء شجعان، فعاتب الله موسى وهارون، مع أنّ حضرة موسى لم يكن عاصياً، بل كان في نهاية الطّاعة، ولا شكّ أنّ شخصاً جليلاً كحضرة موسى الّذي هو واسطة الفيض الإلهيّ والمبلّغ لشريعة الله لا بدّ وأن يكون مطيعاً لأمر الله، فهذه النّفوس المباركة إنّما هم كأوراق الشجرة المتحرّكة بهبوب النّسيم لا بإرادتها، لأنّ هذه النّفوس المباركة منجذبة بنفحات محبّة الله ومسلوبة الإرادة بالكلّيّة، فقولهم قول الله، وأمرهم أمر الله، ونهيهم نهي الله، وهم بمثابة هذا الزّجاج ضوؤه من السّراج ومهما سطع الشّعاع من الزّجاج بحسب الظّاهر فهو في الحقيقة إنّما يسطع من السّراج، وكذلك حركة أنبياء الله ومظاهر الظّهور وسكونهم بوحي إلهيّ لا عن هوى نفساني، فإن لم يكن هكذا كيف يكون ذلك النّبيّ أميناً وكيف يكون سفيراً للحقّ ومبلّغاً لأوامره ونواهيه، إذاً فكلّ ما جاء في الكتب المقدّسة عتاباً لمظاهر الظّهور هو من هذا القبيل.
الحمد لله أنت أتيت إلى هنا وتلاقيت بعباد الله فهل وجدت منهم غير رائحة رضا الحقّ، لا والله، فقد رأيت بعينيك أنّهم باللّيل والنّهار في سعي واجتهاد. وليس لهم من قصد سوى إعلاء كلمة الله وتربية النّفوس وإصلاح الأمم والتّرقّيات الرّوحانيّة وترويج الصّلح العموميّ وحبّ الخير للنّوع الإنسانيّ والمحبّة لجميع الملل والتّضحية لخير البشر والانقطاع عن المنافع الذّاتيّة والخدمة لنشر الفضائل بين العالم الإنسانيّ. ولنرجع إلى ما كنّا فيه، مثلاً يقول في التّوراة في كتاب إشعيا في أصحاح 48 آية 12 "اسمع لي يا يعقوب وإسرائيل الّذي دعوته أنا هو أنا الأوّل وأنا الآخر" ومن المعلوم أنّه ما كان مراده يعقوب أي إسرائيل بل المقصود بنو إسرائيل، وكذلك
يقول في كتاب إشعيا أصحاح 43 في الآية الأولى "والآن هكذا يقول الرّب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل لا تخف لأنّي فديتك دعوتك باسمك أنت لي" وفضلاً عن هذا فإنّه يقول في سفر الأعداد من التّوراة في الأصحاح 20 في الآية 23 "وكلّم الرّبّ موسى وهارون في جبل هور على تخم أرض أدوم قائلاً يضمّ هارون إلى قومه لأنّه لا يدخل الأرض الّتي أعطيت لبني إسرائيل لأنّكم عصيتم قولي عند ماء مريبة" ويقول في الآية 13 "هذا ماء مريبة حيث خاصم بنو إسرائيل الرّبّ فتقدّس فيهم" لاحظوا فقد عصى بنو إسرائيل ولكن بحسب الظّاهر عوتب موسى وهارون كما يقول في الأصحاح الثّالث آية 26 في سفر التّثنية من التّوراة "لكنّ الرّبّ غضب عليَّ بسببكم ولم يسمع لي بل قال لي الرّبّ كفاك لا تعد تكلّمني أيضاً في هذا الأمر" بينما هذا الخطاب والعتاب في الحقيقة موجّه لأمّة إسرائيل الّتي بعصيانها الأمر الإلهيّ بقيت أسيرة مدّة مديدة في صحراء التّيه المجاورة للأردن حتّى زمن يوشع عليه السّلام، ومع أن هذا الخطاب والعتاب في الظّاهر كان لحضرة موسى وهارون، ولكنّه في الحقيقة لأمّة إسرائيل، وكذلك تفضّل في القرآن بقوله خطاباً لحضرة محمّد "إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر"9 يعني نحن فتحنا لك فتحاً واضحاً لنغفر لك الذّنوب المتقدّمة والمتأخّرة، ولو أنّ هذا الخطاب كان بحسب الظّاهر لحضرة محمّد ولكنّه في الحقيقة خطاب لعموم الملّة، وهذا محض الحكمة البالغة الإلهيّة كما سبق حتّى لا تضطرب القلوب ولا تتكدّر، فكثيراً ما اعترف أنبياء الله ومظاهر الظّهور الكلّي في مناجاتهم بالقصور والذّنب، وهذا من باب التّعليم لسائر النّفوس وللتّشويق والحضّ على الخضوع والخشوع والاعتراف بالذّنب والقصور ليس إلاّ. فتلك النّفوس المقدّسة طاهرة من كلّ ذنب،
ومنزّهة عن كلّ خطأ، مثلاً يقول في الإنجيل إنّ شخصاً حضر لدى حضرة المسيح فقال أيّها المعلّم البارّ فأجابه حضرة المسيح لماذا خاطبتني بالبارّ، لأنّ البارّ ذات واحدة وهو الله، فليس المقصود من هذا أن حضرة المسيح معاذ الله كان مذنباً بل كان المراد تعليم الخضوع والخشوع والتّواضع والانكسار لذلك الشّخص المخاطب، فهذه النّفوس المباركة أنوار ولا يجتمع النّور مع الظّلمة، حياة ولا تجتمع الحياة مع الموت، هداية ولا تجتمع الهداية مع الضّلالة، حقيقة الطّاعة ولا تجتمع الطّاعة مع العصيان، وخلاصة القول أنّ العتاب الوارد في الكتب المقدّسة الموجّه بحسب الظّاهر للأنبياء أي المظاهر الإلهيّة إنّما يقصد به في الحقيقة الأمّة، وإذا تتبّعت الكتب المقدسة تجد ذلك واضحاً جليّاً والسّلام.
(41)السّؤال: يقول في الآية المباركة "ليس لمطلع الأمر شريك في العصمة الكبرى إنّه لمظهر يفعل ما يشاء في ملكوت الإنشاء قد خصّ الله هذا المقام لنفسه وما قدّر لأحد نصيباً من هذا الشّأن المنيع" فما تفسيرها؟
الجواب: اعلم أنّ العصمة على قسمين، عصمة ذاتيّة وعصمة صفاتيّة، وهكذا سائر الأسماء والصّفات كالعلم الذّاتيّ والعلم الصّفاتيّ، فالعصمة الذّاتيّة مختصّة بالمظهر الكلّي، لأنّ العصمة من لزومه الذّاتيّ، ولا ينفكّ اللّزوم الذّاتيّ عن الشّيء، فالشّعاع لازم ذاتيّ للشّمس ولا
ينفكّ عنها، والعلم لازم ذاتيّ للحقّ ولا ينفكّ عنه، والقدرة لازم ذاتيّ للحقّ ولا تنفكّ عنه، فلو تقبل الانفكاك لا يكون الحقّ حقّاً، ولو انفكّ الشّعاع عن الشّمس لا تكون الشّمس شمساً، لهذا لو يتصوّر الانفكاك في العصمة الكبرى عن المظاهر الكلّيّة فلا يكون مظهراً كلّيّاً ويسقط عن كماله الذّاتيّ.
أمّا العصمة الصّفاتيّة فليست من اللّوازم الذّاتيّة للشّيء، بل هي شعاع العصمة الّذي يسطع من شمس الحقيقة على القلوب ويعطي لتلك النّفوس قسطاً ونصيباً، فهذه النّفوس وإن لم تكن لهم العصمة الذّاتيّة، ولكنّهم تحت حفظ الحقّ وعصمته وحمايته، يعني أنّ الحقّ يحفظ هؤلاء من الخطأ، مثلاً لم يكن كثير من النّفوس المقدّسة مظاهر العصمة الكبرى، ولكن كانوا محفوظين مصونين عن الخطأ في ظلّ الله وحفظه وحمايته، لأنّهم كانوا واسطة الفيض بين الحقّ والخلق، فإذا لم يحفظ الحقّ هؤلاء من الخطأ لأدّى خطأهم إلى وقوع كلّ النّفوس المؤمنة في الخطأ، فينهدم أساس الدّين الإلهيّ بالكلّيّة وهذا لا يليق بحضرة الأحديّة.
وخلاصة القول إنّ العصمة الذّاتيّة محصورة في المظاهر الكلّيّة، والعصمة الصّفاتيّة موهوبة لكلّ نفس مقدّسة، مثلاً لو يتشكّل بيت العدل العموميّ بالشّرائط اللاّزمة أي بانتخاب جميع الملّة فإنّه يكون تحت عصمة الحقّ وحمايته، وكلّ ما لم ينصّ عليه في الكتاب ويقرّره بيت العدل باتّفاق الآراء أو الأكثريّة، فإنّ ذلك القرار والحكم يكون محفوظاً من الخطأ، والحال أنه ليس لكلّ فرد من أعضاء بيت العدل العصمة الذّاتيّة، ولكن هيئة بيت العدل تحت حماية الحقّ وعصمته، وهذه تسمّى بالعصمة الموهوبة، والخلاصة إنّه يقول أنّ مطلع الأمر
مظهر يفعل ما يشاء، وهذا المقام مختصّ بالذّات الأقدس وليس لغيره نصيب من هذا الكمال الذّاتيّ، يعني لمّا تحقّقت العصمة الذّاتيّة للمظاهر الكلّيّة فكلّ ما يصدر عنهم هو عين الحقيقة ومطابق للواقع، فهؤلاء ليسوا تحت ظلّ الشّريعة السّابقة، وكلّ ما يقولون هو قول الحقّ، وكلّ ما يعملون فهو العمل الصّحيح، وليس لأيّ مؤمن حقّ الاعتراض، وفي هذا المقام يجب التّسليم المحض، لأنّ مظهر الظّهور قائم بالحكمة البالغة، وقد تعجز العقول عن إدراك الحكمة الخفيّة في بعض الأمور، لهذا فكلّ ما يقوله مظهر الظّهور الكلّيّ وما يعمله هو محض الحكمة ومطابق للواقع، وإذا لم يهتدِ بعض النّفوس إلى الأسرار الخفيّة لحكم من الأحكام أو عمل من الأعمال فلا يجوز لها الاعتراض، حيث أنّ المظهر الكلّيّ مظهر يفعل ما يشاء، فكثيراً ما حدث أن صدر أمر من شخص عاقل كامل عالم ثمّ اعترض النّاس عليه لعجزهم عن إدراك حكمته، واستغربوا كيف أنّ هذا الشّخص الحكيم قال أو عمل مثل هذا، إنّ هذا الاعتراض صادر عن جهل هؤلاء، أمّا حكمة الحكيم فهي مقدّسة عن الخطأ ومنزّهة عنه، وكذلك الطّبيب الحاذق في علاج المريض فإنّه يفعل ما يشاء، وليس للمريض حقّ الاعتراض، وكلّ ما يصفه له الطّبيب ويشير به فهو الصّحيح، فينبغي للكلّ أن يعدّوه مظهر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا بدّ أنّ رأي الطّبيب في علاج المريض يكون مخالفاً لآراء الآخرين، فهل يجوز إذاً الاعتراض من نفوس لم تدرس الطّبّ وليس لها دراية بالحكمة؟ لا والله، فيجب على الكلّ الخضوع والتّسليم وإجراء كلّ ما يقوله الطّبيب الحاذق، فالطّبيب الحاذق له أن يفعل ما يشاء وليس للمريض نصيب من هذا المقام، ولا بدّ من ثبوت حذق الطّبيب، وحيث ثبت حذق الطّبيب فله أن يفعل
ما يشاء، كذلك قائد الجنود من حيث أنّه تفرّد بالفنون الحربيّة فله أن يفعل ما يشاء في كلّ ما يقوله ويأمر به، وربّان السّفينة من حيث أنّ الكلّ يقرّ بإلمامه فنّ الملاحة فله أن يفعل ما يشاء في كلّ ما يقوله ويأمر به.
وحيث أنّ المربّي الحقيقيّ هو شخص كامل فله أن يفعل ما يشاء في كلّ ما يقوله ويأمر، والخلاصة أنّ المقصود من يفعل ما يشاء أنّه قد يصدر مظهر الظّهور أمراً أو يجري حكماً أو عملاً يعجز المؤمنون عن إدراك حكمة ذلك، فلا يجوز أن يخطر الاعتراض بخاطر أحد ويقول لماذا أمر بكذا ولِمَ أجرى كذا؟ أمّا سائر النّفوس الّذين استظلّوا بظلّ المظهر الكلّيّ، فهم تحت حكم شريعة الله ولا يجوز لهم التّجاوز قيد شعرة عن الشّريعة، ويجب أن يطبّقوا جميع الأعمال والأفعال على شريعة الله، وإذا تجاوزوا عنها كانوا مسؤولين لدى الله ومؤاخذين، وليس لهؤلاء قسط ولا نصيب من حكم يفعل ما يشاء ألبتّة، لأنّ هذا المقام مختصّ بالمظهر الكلّيّ، مثلاً حضرة المسيح روحي له الفداء كان مظهر يفعل ما يشاء ولم يكن للحواريّين نصيب من هذا المقام، لأنّهم كانوا في ظلّ حضرة المسيح فيجب ألاّ يتجاوزوا عن أمره وإرادته والسّلام.
***ولنتكلّم الآن في مسألة تغيير النّوع وترقّي الأعضاء أي فيما إذا كان أصل الإنسان من عالم الحيوان.
إنّ هذه النّظريّة تمكّنت من عقول بعض الفلاسفة في أوروبا وليس من السّهل الآن تفهيم بطلانها، ولكنّها في المستقبل ستتّضح وتظهر ويهتدي فلاسفة أوروبا بأنفسهم إلى بطلان هذه المسألة، لأنّها في الحقيقة بديهيّ البطلان، ولو ينظر الإنسان في الكائنات نظرة إمعان ويهتدي إلى دقائق أحوال الموجودات وينظر نظام عالم الوجود ووضعه وكماله ليتيقّن أنّه (ليس في الإمكان أبدع ممّا كان)، لأنّ جميع الكائنات سواء أكانت علويّة أو أرضيّة وحتّى هذا الفضاء الذّي لا يتناهى وجميع ما فيه خُلق ونُظّم وتركّب وترتّب وتكامل كما يليق وينبغي، لا نقصان فيه أبداً بحيث لو صارت جميع الكائنات عقلاً صرفاً، وتفكّر إلى أبد الآباد لا يمكنه أن يتصوّر أحسن ممّا كان، ولو لم تكن الخليقة منذ القدم على هذا الكمال وفي نهاية الإبداع أي كانت أقلّ وأدنى لكان الوجود حينئذ مهملاً وناقصاً، أي لم يكن كاملاً، إذاً فهذه المسألة تحتاج إلى نهاية الدّقّة والتّفكير، مثلاً تصوّر عالم الإمكان أي عالم الوجود بصفةٍ عامّة أنه يشبه هيكل إنسان، فلو كان هذا التّركيب والتّرتيب وهذا الجمال والكمال الموجود الآن في الهيكل البشريّ على غير ذلك لكان نقصاً محضاً، لهذا لو يتصوّر أنّ الإنسان زمناً ما كان في عالم الحيوان يعني كان حيواناً محضاً لكان الوجود ناقصاً، لأنّ معنى هذا أنّه لم يكن هناك إنسان، وهذا العضو الأعظم الذّي
هو في هيكل العالم بمنزلة الرّأس والمخّ كان مفقوداً، إذاً فالعالم كان نقصاً محضاً، وبذلك ثبت أنّه لو كان الإنسان وقتاً ما في حيّز الحيوان لكان كمال الوجود مختلاً، لأنّ الإنسان هو العضو الأعظم في هذا العالم، ولو لم يكن العضو الأعظم في هذا الهيكل موجوداً فلا شك أنّ الهيكل ناقص، ونحن نعدّ الإنسان العضو الأعظم لأنّه جامع كمالات الوجود بين الكائنات، والمقصود من الإنسان هو الفرد الكامل أي أكمل شخصٍ في العالم جامع الكمالات المعنويّة والظّاهريّة كالشّمس بين الكائنات، ولو نتصوّر أنّ الشّمس لم تكن موجودة وقتاً ما أو كانت كأحد النّجوم لاختلّت حينئذٍ روابط الوجود من غير شكّ، فكيف يمكن أن يتصوّر الإنسان شيئاً كهذا، وفي ذلك كفاية لمن يتبصّر في عالم الوجود.
وهاك برهاناً آخر أدقّ وهو، أنّ هذه الكائنات الموجودة الّتي لا تتناهى في عالم الوجود، سواء كانت إنساناً أم حيواناً أم نباتاً أم جماداً مهما كانت فإنّها مركّبة من العناصر، وهذا الكمال الموجود في كلّ كائن من الكائنات لا شكّ أنّه وجد بصنع إلهيّ ومنبعث من تركيب العناصر وحسن الامتزاج وتحقّق من تناسب مقادير العناصر وكيّفيّة التّركيب وتأثيرات سائر الكائنات، إذاً فجميع الكائنات كسلسلة مرتبط بعضها ببعض، وإنّ التّعاون والتّعاضد والتّفاعل من خواصّ الكائنات وسبب وجودها ونشوئها ونموّها، وثبت بالدّلائل والبراهين أنّ كلّ كائن من هذه الكائنات عامّةً له فعلٌ وتأثيرٌ في بقيّة الكائنات إمّا بالاستقلال أو بالتّعاون مع الغير.
والخلاصة أنّ كمال كلّ كائن من الكائنات أيّ أنّ الكمال الذّي نراه في الإنسان ودونه من الكائنات من حيث الأجزاء والأعضاء والقوّة
هو منبعث من تركيب العناصر ومقاديرها وموازينها وكيفيّة امتزاجها وتفاعلاتها والتّأثير الذّي للكائنات السّائرة في الإنسان، وحيثما اجتمعت هذه يظهر هذا الإنسان، ولما أن كان هذا الكمال حاصلاً من تركيب أجزاء العناصر بمقادير متناسبة ومن كيفيّة الامتزاج وتفاعل الكائنات المختلفة ولكون تركيب الإنسان قبل عشرة آلاف سنة أو مائة ألف سنة إنّما هو من هذه العناصر التّرابيّة وبهذه المقادير والموازين وعلى هذا النّحو من التّركيب والامتزاج ومن تفاعل سائر هذه الكائنات كان إنسان ذلك اليوم هو عين هذا الإنسان.
وهذا أمر بديهيّ لا يقبل التّردّد، يعني لو اجتمعت هذه العناصر الإنسانيّة بعد ألف مليون سنة وتخصّصت بهذه المقادير والتّراكيب وحصل امتزاج العناصر على هذا النّحو وتأثّرت بهذه التّفاعلات من سائر الكائنات لوجد هذا البشر الموجود بعينه.
مثلاً لو يوجد بعد مائة ألف سنة مثل هذا الدّهن والنّار والفتيل والمشكاة ومن يوقدها، وبالاختصار يتكامل جميع ما يلزم للإضاءة الآن يوجد هذا السّراج بعينه، وهذه مسألة قطعيّة الدّلالة وأمر واضح، وأمّا الدّلائل الّتي ذكرها حضرات الفلاسفة فهي ظنّيّة الدّلالة وليست قطعيّة الدّلالة.
(43)اعلم أنّ إحدى غوامض المسائل الإلهيّة هي أنّ هذا الكون الذّي لا يتناهى لا أوّل له، ولقد سبق بيان أنّ نفس أسماء وصفات الذّات
الإلهيّة تقتضي وجود الكائنات، ومع أنّ ما قد بيّنّاه كان مفصّلاً إلاّ أنّنا سنتكلّم عنه الآن ثانية باختصار.
فاعلم أنّه لا يمكن أن يتصوّر ربّ بلا مربوب، ولا يتحقّق وجود ملك بلا رعيّة، ولا معلّم بغير متعلّم، ولا يمكن وجود خالق بدون مخلوق، ولا يخطر بالبال رازق من غير مرزوق، لأنّ جميع الأسماء والصّفات الإلهيّة تستدعي وجود الكائنات، فلو نتصوّر أنّ الكائنات عامّة لم تكن موجودة وقتاً ما، فهذا التّصوّر إنكار لألوهيّة الله، وفضلاً عن هذا فالعدم المطلق غير قابل للوجود، فلو كانت الكائنات عدماً مطلقاً لما تحقّق الوجود، ولما كان وجود ذات الأحديّة أي الوجود الإلهيّ أزليّاً سرمديّاً يعني لا أوّل له ولا آخر، فلا بدّ وأنّ عالم الوجود يعني هذا الكون الذّي لا يتناهى لم تكن قطّ له بداية.
نعم قد يصحّ ويمكن أن يحدث وجود جزء من أجزاء الممكنات أي جرم من الأجرام أو أن يتلاشى، غير أنّ سائر الأجرام اللامتناهيّة تظلّ موجودة، فعالم الوجود أبديٌّ لا ينعدم، وحيث أنّ لكلّ جرم من هذه الأجرام بداية فلا بدّ له من نهاية، لأنّ كلّ تركيب سواء كان جزئيّاً أم كلّيّاً لا بدّ له من أن يتحلّل، وغاية ما هنالك هو أنّ بعض المركبات سريع التّحليل وبعضها بطيء التّحليل، فمن المستحيل أن يتركّب شيء وثمّ لا يتحلّل، إذاً يجب أن نعلم كيف كان كلّ موجود من الموجودات العظيمة في أوّل أمره، ولا مريَة أنّه في البدء كان الأصل واحداً ولا يمكن أن يكون اثنين، لأنّ مبدأ جميع الأعداد واحد لا اثنان، فالاثنان محتاجة إلى المبدأ. إذاً صار من المعلوم أنّ المادّة في الأصل واحدة، وتلك المادّة الواحدة تحوّلت في كلّ عنصر بصور مختلفة، ولهذا ظهرت صور متنوّعة، ولمّا ظهرت هذه الصّور المتنوّعة
أخذ كلّ منها شكلاً خاصّاً وصار عنصراً مستقلاً، ولم يتحقّق استقلال العنصر ولم يتمّ تكوينه إلاّ بعد مدّة مديدة، ثمّ إنّ هذه العناصر تركّبت وترتّبت وامتزجت بصور غير متناهية، يعني ظهرت الكائنات الّتي لا تتناهى من تركيب وامتزاج هذه العناصر، وحصل هذا التّركيب والتّرتيب بحكمة الله وقدرته القديمة بنظمٍ طبيعيٍّ واحدٍ، ومن حيث أنّها تركّبت وامتزجت بهذا النّظم الطّبيعيّ في كمال الإتقان ومطابقة للحكمة تحت قانون كلّيّ، فمن الواضح أنّها إيجاد إلهيّ وليس تركيبها وترتيبها صدفة، لأنّ معنى الإيجاد أن يوجد من كلّ تركيب كائن، أمّا من التّركيب التّصادفيّ فلا يوجد أيّ كائن، مثلاً لو أنّ الإنسان مع عقله وذكائه يجمع عناصر ويركبّها فلا يمكن أن يوجد منها كائن حيّ، لأنّها أتت على غير النّظم الطّبيعيّ، وهذا جواب عن سؤال مقدّر وهو من حيث أنّ هذه الكائنات حادثة من تركيب وامتزاج هذه العناصر، فنحن أيضاً نجمع هذه العناصر ونمزجها لإيجاد كائن حيّ، فلو نتصوّر مثل هذا لكان هذا التّصوّر خطأ، لأنّ أصل هذا التّركيب تركيب وامتزاج إلهيّ على نظم طبيعيّ، وبذلك يوجد كائن ويتحقّق وجود، أما من التّركيب البشريّ فلا يحصل ثمر، لأنّ البشر لا يقدر على الإيجاد، والخلاصة أنّنا قلنا قد ظهرت الصّور والحقائق الّتي لا تتناهى والكائنات الّتي لا تنحصر من تركيب العناصر وامتزاجها وكيفيّتها وتراكيبها وموازينها وتأثير بعضها على بعض.
أمّا هذه الكرة الأرضية فمن الواضح أنّها لم تتكوّن دفعة واحدة على هيئتها الحاضرة، بل إنّ هذا الموجود الكلّيّ اجتاز أطواراً مختلفة بالتّدريج حتّى بلغ هذا الكمال، والموجودات الكلّيّة تقاس بالموجودات الجزئيّة وتطبّق عليها، لأنّ الموجود الكلّيّ والموجود الجزئيّ كليهما
تحت نظم طبيعيّ واحد وقانون كلّيّ وترتيب إلهيّ، مثلاً تجد الكائنات الذرّيّة ينطبق عليها في النّظام العامّ ما ينطبق على أعظم الكائنات، فمن الواضح أنّها تكوّنت في مصنع قدرة واحدة على نظم طبيعيّ واحد وقانون عامّ واحد، فلهذا يقاس بعضها ببعض، مثلاً إنّ نطفة الإنسان نشأت ونمت في رحم الأمّ بالتّدريج وأخذت صوراً من أطوار مختلفة حتّى وصلت إلى البلوغ في نهاية درجة من الجمال وتجلّت بهيئة كاملة في نهاية اللّطافة، وعلى هذا المنوال بذر هذه الزّهرة الّتي نشاهدها، فقد كان في بدايته شيئاً حقيراً في نهاية الصّغر ثمّ نشأ ونما في بطن الأرض ومرّ بصورٍ مختلفة إلى أن تجلّى بكمال الطّراوة واللّطافة في هذه الرّتبة. وكذلك من الواضح أنّ هذه الكرة الأرضيّة تكوّنت في رحم العالم، ونشأت ونمت ومرّت بصور وحالات مختلفة حتّى وصلت بالتّدريج إلى كمالها وزيّنت بمكوّنات غير متناهيّة وتجلّت في نهاية الإتقان.
إذاً اتّضح أنّ تلك المادة الأصليّة الّتي هي بمنزلة النّطفة كانت عناصرها المركّبة الممتزجة الأوّليّة موجودة، وهذا التّركيب نشأ ونما بالتّدريج في الأعصار والقرون، وانتقل من شكل وهيئة إلى شكل وهيئة أخرى حتّى بلغ هذا الكمال والنّظام والتّرتيب والإتقان بحكمة الله البالغة.
والآن فلنرجع إلى مسألة أنّ الإنسان في بدء الوجود نشأ ونما تدريجيّاً في رحم الكرة الأرضيّة كالنّطفة في رحم الأمّ، وانتقل من صورة إلى صورة ومن هيئة إلى هيئة حتّى تجلّى بهذا الجمال والكمال وهذه القوى والأركان، ويقيناً أنّه ما كان في البداية بهذه اللّطافة والجمال والكمال، بل وصل بالتّدريج إلى هذه الهيئة والشّمائل والحُسن والملاحة كنطفة الإنسان في رحم الأمّ، ولا شكّ أنّ النّطفة
البشريّة ما أخذت هذه الصّورة دفعة واحدة وما كانت مظهر قوله تعالى "فتبارك الله أحسن الخالقين"1. لهذا أخذت حالات متنوّعة بالتّدريج وظهرت في هيئات مختلفة حتّى تجلّت بهذه الشّمائل وهذا الجمال والكمال والحسن واللّطافة، إذاً صار من الواضح المبرهن أنّ نشوء الإنسان ونموّه على الكرة الأرضيّة حتّى بلوغه هذا الكمال كان مطابقاً لنشوء الإنسان ونموّه في رحم الأمّ بالتّدريج وانتقاله من حال إلى حال ومن هيئة وصورة إلى هيئة وصورة أخرى، حيث أنّ ذلك تمّ بمقتضى النّظام العامّ والقانون الإلهيّ الكلّيّ، يعني تمرّ نطفة الإنسان بحالات مختلفة ودرجات متعدّدة حتّى ينطبق عليها قوله تعالى "فتبارك الله أحسن الخالقين" وتظهر فيها آثار الرّشد والبلوغ.
وعلى هذا المنوال كان وجود الإنسان على هذه الكرة الأرضيّة من البدء حتّى وصل إلى هذه الحال من الهيئة وجمال الأخلاق، بعد أن مضت عليه مدّة طويلة واجتاز درجات مختلفة، ولكنّه من بدء وجوده كان نوعاً ممتازاً.
كذلك نطفة الإنسان في رحم الأمّ كانت في أوّل أمرها بهيئة عجيبة، فانتقل هذا الهيكل من تركيب إلى تركيب ومن هيئة إلى هيئة ومن صورة إلى صورة حتّى تجلّت النّطفة في نهاية الجمال والكمال، ولكنّها عندما كانت في رحم الأمّ وفي تلك الهيئة العجيبة – الّتي تغاير تماماً ما هي عليه الآن من الشّكل والشّمائل – كانت نطفة نوع ممتاز لا نطفة حيوان، وما تغيّرت نوعيّتها وماهيّتها أبداً، وعلى فرض تحقّق وجود أثر لأعضاء تلاشت فإنّ هذا لا يكون دليلاً على عدم استقلال النّوع وأصالته، وغاية ما هنالك أنّ الهيئة والشّمائل والأعضاء الإنسانيّة قد ترقّت ولكنّها مع ذلك التّحوّل كانت نوعاً ممتازاً، وكان إنساناً لا
حيواناً، مثلاً لو انتقلت نطفة الإنسان في رحم الأمّ من هيئة إلى هيئة بحيث لا تشابه الهيئة الأولى بأيّ وجه من الوجوه فهل يكون ذلك دليلاً على أنّ النّوعيّة تغيّرت بأن كانت في البداية حيواناً ثمّ نشأت أعضاؤها وترقّت حتّى صارت إنساناً!! لا والله.
والخلاصة إنّ هذه النّظريّة في غاية من الضّعف وواهيّة الأساس لأنّ أصالة نوع الإنسان واستقلال ماهيّته واضحة مشهودة والسّلام.
(44)تكلّمنا غير مرّة في مسألة الرّوح لكنّ أقوالنا لم تُدوّن، فاعلم أنّ أهل العالم قسمان قسم ينكر وجود الرّوح ويقول إنّ الإنسان أيضاً نوع من الحيوان، لأنّنا نرى الحيوان مشتركاً مع الإنسان في القوى والحواسّ، وهذه العناصر البسيطة المفردة الّتي تملأ هذا الفضاء تتركّب بتراكيب غير متناهية ويظهر من كلّ تركيب كائن من الكائنات، ومن جملتها الكائنات ذوات الأرواح الّتي لها القوى والإحساس، وكلّما كان التّركيب أكمل كان ذلك الكائن أشرف، وإنّ تركيب العناصر في وجود الإنسان أكمل من تركيب جميع الكائنات، وامتزاجها في نهاية الاعتدال، لذا كان أشرف وأكمل، ويقولون إنّه ليس للإنسان قوّة وروح مخصوصة محروم منها سائر الحيوان، ويقولون إنّ الحيوان جسم حسّاس وأمّا الإنسان فأكثر منه إحساساً في بعض القوى (مع أنّ الحيوان أقوى من الإنسان إحساساً في القوى الظّاهرة الحسّاسّة
كالسّمع والبصر والذّوق والشّمّ واللّمس حتّى في بعض القوى الباطنيّة كالحافظة) ويقولون إنّ الحيوان له إدراك وشعور، غاية ما هنالك أنّ شعور الإنسان أكثر، وهذه أقوال الفلاسفة في هذا العصر.
هكذا قولهم وذلك زعمهم وبذا حكمت أوهامهم، وبعد شدّة البحث والاستدلال قالوا بأنّ الإنسان من سلالة الحيوان، يعني أنّ الإنسان كان وقتاً ما حيواناً ثمّ تغيّر نوعه وترقّى شيئاً فشيئاً حتّى وصل إلى درجة الإنسان، وأمّا الإلهيّون فيقولون إنّ الأمر ليس كذلك، فإنّه مهما كان الإنسان مشتركاً مع الحيوان في القوى والحواس الظّاهرة غير أنّه توجد في الإنسان قوّة خارقة للعادة محروم منها الحيوان، فهذه العلوم والفنون والاكتشافات والصّنائع وكشف الحقائق من نتائج تلك القوّة المجرّدة، وهذه القوّة قوّة محيطة بجميع الأشياء ومدركة لحقائقها وتكشف أسرار الكائنات المكنونة وتتصرّف فيها، حتّى تدرك الحقائق المعقولة وغير المحسوسة الّتي ليس لها وجود خارجيّ بل الذّي هو غيب كحقيقة العقل والرّوح والصّفات والأخلاق والحبّ والحزن الّتي هي جميعاً من الحقائق المعقولة، وفضلاً عن ذلك فهذه العلوم الموجودة والصّنائع المشهودة والمشروعات ومكتشفات الإنسان الّتي لا تتناهى كانت وقتاً ما سرّاً مكنوناً وغيباً مستوراً، كشفتها تلك القوّة المحيطة الإنسانيّة وأخرجتها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، ومن جملتها البرق (التّلغراف) والحاكي وآلة التّصوير، فجميع هذه الاكتشافات والصّنائع العظيمة كانت وقتاً ما سرّاً مكنوناً كشفته تلك الحقيقة الإنسانيّة وأخرجته من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، حتّى كانت وقتاً ما خواصّ هذا الحديد الذّي نشاهده بل جميع المعادن سرّاً مكنوناً.
فالحقيقة الإنسانيّة كشفت هذه المعادن وصاغتها على هذه الهيّئات الصّناعيّة، وقس على ذلك جميع الأشياء من اكتشافات واختراعات بشريّة غير متناهية، وهذه مسألة لا سبيل لإنكارها ولا يمكننا أن ننكرها، ولو نقول إنّ هذه من آثار القوى الحيوانيّة والحواسّ الجسمانيّة نرى ونشهد بوضوح أنّ الحيوان أعظم من الإنسان في هذه القوى، مثلاً بصر الحيوان أحدّ بكثير من بصر الإنسان، وقوّة سمعه أرهف بكثير من قوّة سمع الإنسان، وكذلك قوى الشّم والذّوق، والخلاصة إنّ أكثر الحيوان أشدّ قوّة في جميع القوى المشتركة بين الحيوان والإنسان، فلنضرب لك مثلاً في القوّة الحافظة، لو فرضنا أنّك أخذت حَمَامَاً من هنا إلى إقليم بعيد جدّاً وأطلقته هناك فإنّه يرجع إلى هنا وتبقى الطّرق مرتسمة فى حافظته، أو خذ كلباً من هنا إلى أواسط آسيا وأطلقه هناك فإنّه يرجع إلى هنا ولا يضلّ الطّريق أبداً، وكذلك قُل في سائر القوى كالسّمع والبصر والشّمّ والذّوق واللّمس.
إذاً اتّضح أنّه لو لم يكن في الإنسان قوّة غير القوّة الحيوانيّة لوجب أن يكون الحيوان أعظم من الإنسان في إدراك الحقائق والاكتشافات العظيمة، فتبيَّن من هذا الدّليل أنّ في الإنسان موهبة لا توجد في الحيوان، وفضلاً عن هذا فالحيوان يدرك الأشياء المحسوسة، وأمّا الحقائق المعقولة فلا يدركها، مثلاً يرى الحيوان كلّ ما يدخل تحت مدّ البصر، أمّا ما كان خارجاً عن مدّ البصر فلا يمكنه إدراكه ولا تصوّره، مثلاً لا يمكن للحيوان أن يدرك كرويّة الأرض، لأنّ الإنسان يستدلّ بالأمور المعلومة على الأمور المجهولة ويكشف الحقائق المجهولة، ومن ذلك أنّه يستنتج كرويّة الأرض من رؤية الآفاق المائلة (المنحنية) على الأرض، مثلاً إنّ النّجمة القطبيّة في عكّاء على
33° يعني مرتفعة عن الأفق 33°، وعندما يتّجه الإنسان نحو القطب الشّمالي فإنّه كلّما يقطع مسافة درجة يجد النّجمة القطبيّة تصعد درجة في الأفق، يعني يجد ارتفاع النّجمة 34° حتّى يصل ارتفاعها إلى 40°، 50°، 60°، 70°، ولو يصل إلى قطب الأرض يصل ارتفاع القطب إلى 90°. ويكون سمت الرّأس وارتفاع هذا القطب فوق الرّأس أمراً محسوساً، وهذا الصّعود أيضاً أمر محسوس لأنّه كلّما اتجه نحو القطب يكون النّجم أرفع، فيكشف من هذين الأمرين المعلومين أمراً مجهولاً، وهو أنّ الأفق مائل يعني أنّ أفق كلّ درجة من الأرض غير أفق الدّرجة الأخرى، وهذه الكيفيّة يدركها الإنسان ويستدلّ بها على أمر مجهول وهو كروّية الأرض.
أمّا الحيوان فلا يمكنه إدراك هذا، وكذلك لا يمكن للحيوان أن يدرك أنّ الشّمس مركز والأرض تتحرّك حولها، لأن الحيوان أسير الحواسّ ومقيّد بها ولا يمكنه إدراك ما وراء الحسّ أيّ الأشياء الّتي لا تدركها الحواسّ، والحال أنّ الحيوان أعظم من الإنسان في القوى والحواسّ الظّاهرة، إذاً ثبت وتحقّق أنّ في الإنسان قوّة كاشفة بها امتاز عن الحيوان وهي الرّوح الإنسانيّ.
سبحان الله، الإنسان متوجّه دائماً إلى العُلا وهمّته عالية ويريد دائماً أن يصل إلى عالم أعظم من العالم الذّي هو فيه وأن يصعد إلى درجة أرقى من درجته الّتي هو فيها، فحُبّ الرّفعة والعلوّ من خصائص الإنسان، وإنّي لمتحيّر من بعض فلاسفة أميركا وأوروبا كيف رضوا أن يتدنّوا بأنفسهم إلى عالم الحيوان ويطلبوا الرّقيّ المعكوس، مع أنّ الوجود يجب أن يكون توجّهه نحو العلوّ، والحال أنّك لو قلت له أنّك حيوان يتكدّر خاطره كثيراً ويتبرّم جدّاً، فأين عالم الإنسان
من عالم الحيوان، وأين الكمالات الإنسانيّة من الجهالة الحيوانيّة، وأين نورانيّة الإنسان من الظّلمانيّة الحيوانيّة، وأين العزّة الإنسانيّة من الذلّة الحيوانيّة، إنّ طفلاً عربيّاً في سنّ العاشرة يستطيع أن يرعى ويقود مائتين أو ثلثمائة من الإبل في البادية بصيحة واحدة منه، كما أنّ هنديّاً نحيفاً يقدر أن يخضع الفيل مع عظمته بحيث ينقاد له ويكون في نهاية الطّاعة، فجميع الأشياء مسخّرة للإنسان والإنسان يقاوم الطّبيعة بينما جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة، وليس لأحدها أن ينفكّ عن مقتضياتها إلاّ الإنسان، فإنّه هو الّذي يقاوم الطّبيعة، فالطّبيعة تجذب الأجسام نحو مركز الأرض بينما الإنسان بالوسائط يبتعد عن المركز ويطير في الهواء، الطّبيعة مانعة للإنسان من عبور البحر ولكنّ الإنسان يصنع السّفينة ويسير في عرض المحيط الأعظم وقس على ذلك.
إنّ هذا الموضوع مترامي الأطراف، فمثلاً الإنسان بالمخترعات يصعد الجبال ويخترق الصّحارى ويحيط بأخبار الشّرق والغرب وهو في نقطة واحدة، وكلّ هذا مضادّ للطّبيعة، فالبحر بعظمته لا يمكنه أن يخرج قيد شعرة عن حكم الطّبيعة، والشّمس مع عظمتها لا يمكنها الخروج عن حكم الطّبيعة رأس إبرة، ولا يمكنها أبداً أن تدرك شؤون الإنسان وأحواله وطبيعته وخواصّه وحركاته، فما هي إذاً هذه القوّة الّتي توجد في الجسم الإنسانيّ الصّغير المحيطة بجميع هذه الأشياء، وما هي هذه القوّة القاهرة الّتي تجعل جميع الأشياء مسخّرة له.
بقي شيء واحد وهو أنّ الفلاسفة الحديثين يقولون إنّنا لم نشاهد الرّوح مطلقاً في الإنسان، وكلّما تحريّنا في خفايا الجسد الإنسانيّ
لا نحسّ بقوّة معنويّة فكيف نتصوّر تلك القوى الّتي لا نحسّها، فيقول الإلهيّون في الجواب، إنّ روح الحيوان أيضاً غير محسوس ولا يدرك بهذه القوى الجسمانيّة، فبأيّ شيء نستدلّ على وجود روح الحيوان، لا شك أنّك تستدل بالآثار على أنّ في هذا الحيوان قوّة ليست في النّبات وهي القوّة الحسّاسّة، يعني الباصرة والسّامعة إلى غير ذلك من القوى، ومن هذا يستدلّ على وجود الرّوح الحيوانيّ، وبمثل ذلك يعلم من تلك الدّلائل والآثار الّتي سبق ذكرها وجود الرّوح الإنسانيّ، ولمّا كانت في الحيوان آثار لا توجد في النّبات إذاً نقول إنّ هذه القوّة الحسّيّة من خصائص الرّوح الحيوانيّ، وكذلك ترى في الإنسان آثاراً وقوى وكمالات لا توجد في الحيوان، فتستدلّ أنّ في الإنسان قوّة محروم منها الحيوان، ولو أنّنا ننكر كلّ شيء غير محسوس للزم أن ننكر الحقائق المسلّمة الوجود، مثلاً إنّ المادّة الأثيريّة غير محسوسّة والحال أنّها محقّقة الوجود، والقوّة الجاذبة ليست بمحسوسّة وهي محقّقة الوجود، فبأيّ شيء نحكم على وجودها أليس ذلك بآثارها؟ فمثلاً هذا النّور هو تموّجات المادّة الأثيريّة ومن هذه التّموّجات نستدلّ على وجودها.
(45)السّؤال: ماذا ترون فيما يقوله بعض فلاسفة أوروبا في مسألة النّشوء والارتقاء للكائنات؟
الجواب: سبق أن تكلّمنا عن هذه المسألة ولكنّنا سنتكلّم فيها
مرّةً أخرى، مجمل القول أنّ الكلام في هذه المسألة سينتهي إلى تقرير أصالة النّوع الإنسانيّ أو عدم أصالته، يعني هل النّوع الإنسانيّ كان أصلاً مستقلاً بنفسه أم تفرّع بعدئذ عن الحيوان، فبعض فلاسفة أوروبا متّفقون على أنّ للنّوع نشوءاً وارتقاءً بل إنّ التّبديل والتّغيير ممكن أيضاً، ومن جملة الأدلّة الّتي يقيمونها لإثبات هذه النّظريّة أنّه بواسطة علم طبقات الأرض والتّدقيق والتّحقيق فيها ظهر واتّضح لهم أسبقيّة وجود النّبات على الحيوان وأسبقيّة وجود الحيوان على الإنسان، واتّفقوا على أنّ جنس الحيوان والنّبات كليهما تغيّر، لأنّه اكتشف في بعض طبقات الأرض نباتات كانت موجودة في القديم وهي الآن مفقودة، بمعنى أنّها ترقّت وصارت أقوى وتبدّلت هيئتها وشكلها، لهذا تبدّل النّوع، وكذلك وجد في طبقات الأرض أنواع من الحيوان تغيّرت وتبدّلت، ومن جملة الأنواع الحيوانيّة الثّعبان الذّي توجد له أعضاء يستدلّ منها أنّه كان يوماً ما ذا أرجل، ولكنّها تلاشت بمرور الزّمان وبقيت آثارها محفوظة، وكذلك توجد آثار في العمود الفقريّ للإنسان ويستدلّ منها على أنّه كان يوماً ما له ذيل كسائر الحيوان، ومتّفقون على أنّ آثاره لا تزال باقية، وكان ذلك العضو مفيداً وقتاً ما، ولمّا ترقّى الإنسان لم يبقَ لذلك العضو فائدة وتلاشى بالتّدريج، ولمّا اتّخذ الثّعبان مأواه في باطن الأرض وصار من الحيوان الزّاحف أصبح في غنى عن الأرجل، ولذلك تلاشت ولكن آثارها باقية، وأعظم برهان لديهم هو أنّ وجود آثار هذه الأعضاء يدلّ على أنّها كانت موجودة وانمحت تدريجيّاً لعدم فائدتها، وليس لتلك الأجزاء الأثريّة الآن من حكمة أو فائدة، فبناءً عليه بقيت الأعضاء اللاّزمة الكاملة وزالت بالتّدريج الأعضاء الّتي لا لزوم لها لتغيّر النّوع ولكنّ أثرها باقٍ.
والجواب: أوّلاً إنّ أسبقيّة الحيوان على الإنسان ليست دليلاً على ترقّي النّوع وتغييره وتبديله وعلى أنّه تطوّر من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، لأنّه ما دام حدوث الكائنات المختلفة مسلّماً به فمن الجائز أن يكون وجود الإنسان بعد وجود الحيوان، كما أنّنا نلاحظ في عالم النّبات أنّ أثمار الأشجار المختلفة لا توجد كلّها دفعة واحدة، بل ينضج بعضها قبل البعض الآخر، فتلك الأسبقيّة ليست دليلاً على أنّ ثمرة متأخرّة النّضوج لشجرة ما إنّما نتجت من ثمرة مبكّرة النّضوج لشجرة أخرى.
ثانياً إنّ هذه الإمارات الصّغيرة والأجزاء الأثريّة ربّما تكون لها حكمة عظيمة لم تصل إليها العقول حتّى الآن، وكم من موجود لم تعلم حكمة وجوده إلى الآن، كما أنّه مذكور في علم الفيسيولوجيا (يعني معرفة تركيب الأعضاء) أنّ حكمة اختلاف ألوان الحيوان وشعر الإنسان واحمرار الشّفاه وتنوّع ألوان الطّيور غير معلومة إلى الآن بل هي مخفيّة مستورة، ولكنّ حكمة سواد حدقة العين فقد عُلِمَ أنّها لجذب أشعّة الشّمس، لأنّها لو كانت لوناً آخر أبيض ناصعاً مثلاً ما جذبت أشعّة الشّمس، إذاً ما دامت حكمة هذه الأمور المذكورة مجهولة، فجائز أن تكون حكمة الأجزاء الأثريّة وعلّتها سواء في الحيوان أو الإنسان أيضاً غير معلومة ولكن لا بدّ لها من حكمة ولو أنّها لم تعلم الآن.
ثالثاً نفرض أنّه كان في وقت ما لبعض الحيوان حتّى الإنسان عضو وزال الآن، فليس هذا ببرهان كافٍ على تغيّر النّوع وترقيته، لأنّ الإنسان من بداية انعقاد النّطفة حتّى يصل إلى درجة البلوغ يأخذ هيئات وأشكال متنوّعة، تتغيّر فيها سيماه وهيئته وشكله ولونه
بالكلّيّة، يعني يتحوّل من هيئة إلى هيئة أخرى ومن شكل إلى شكل آخر، ومع ذلك فإنّه من بداية انعقاد النّطفة كان من نوع الإنسان، يعني أنّ تلك النّطفة كانت نطفة إنسان لا حيوان، ولكنّها كانت مخفيّة ثمّ ظهرت وبرزت، مثلاً نفرض أنّ الإنسان كان مشابهاً للحيوان وقتاً ما وترقّى الآن وتغيّر، فعلى فرض التّسليم بهذا القول لا يكون دليلاً على تغيّر النّوع بل يكون بمثابة تغيّر نطفة الإنسان وتبدّلها حتّى تصل إلى درجة الرّشد والكمال كما ذكر، وبأوضح من هذا نقول لنفرض أنّ الإنسان كان يمشي على أربع (يديه ورجليه) أو كان له ذنب فهذا التّغيّر والتّبدّل كتغيّر الجنين وتبدّله في رحم أمّه، فمهما تغيّر في نشوئه وترقّيه من جميع الجهات حتّى وصل إلى هذه الهيئة التّامة فإنّه في البداية كان نوعاً مخصوصاً، كما أنّنا نلاحظ أيضاً في عالم النّبات أنّ نوعيّة الفصيلة الأصليّة لا تتغيّر ولا تتبدّل، ولكنّ الهيئة واللّون والحجم هي الّتي تتغيّر وتتبدّل أو تترقّى.
وخلاصة القول أنّ الإنسان ولو أنّه انتقل في رحم الأمّ من شكل إلى آخر ومن هيئة إلى أخرى متغيّراً مترقّياً، فإنّه مع ذلك كان من بداية النّطفة نوع الإنسان، وكذلك الإنسان من بدء تكوينه في رحم العالم كان نوعاً ممتازاً أيضاً، أي كان إنساناً وانتقل من هيئة إلى هيئة أخرى بالتّدريج، إذاً فتغيّر الهيئة وترقّي الأعضاء والنّشوء والنّمو لا يكون مانعاً من أصالة النّوع واستقلاله، هذا على فرض تصديق نشوء الأنواع وترقّيها، والحال أنّ الإنسان كان من البداية على هذه الهيئة والتّركيب الكامل، وكانت له قابليّة واستعداد لاكتساب الكمالات الصّوريّة والمعنويّة، وكان مظهر (لنعملنّ إنساناً على صورتنا ومثالنا) وغاية ما هنالك أنّه صار أحسن وأظرف وأجمل، وصارت المدنيّة سبباً
في إخراجه من حالته الوحشيّة كأثمار الغابات الّتي تتربى بواسطة البستانيّ وتصير ألذّ وأشهى وأكثر لطافة وطراوة، وبستانيّو العالم الإنسانيّ هم أنبياء الله.
(46)إنّ الدّلائل الّتي أقمناها على أصالة نوع الإنسان كانت أدلّة عقليّة، فلنشرع الآن في الأدلّة الإلهيّة وهي أصل الدّليل، لأنّنا أثبتنا الألوهيّة بالأدلّة العقليّة، وكذلك ثبت بالأدلّة العقليّة أنّ الإنسان كان إنساناً من أصله ومبدئه ونوعيّته قديمة، فلنقم الآن البراهين الإلهيّة على لزوم الوجود الإنسانيّ أي وجود نوعه، إذ بدون وجود الإنسان لا تتجلّى الكمالات الرّبانيّة، أمّا هذه الدّلائل فهي إلهيّة لا عقليّة، لأنّه قد ثبت بالدّلائل والبراهين مرّات عديدة أنّ الإنسان أشرف الممكنات وجامع جميع الكمالات، وإنّ جميع الكائنات والموجودات مواقع التّجلّيّات الإلهيّة، يعني أنّ آثار ألوهيّة الله ظاهرة في حقائق الموجودات وفي جميع الكائنات، فكما أنّ أشعّة الشّمس تسطع على الكرة الأرضيّة، يعني نور الشّمس وحرارتها وتأثيرها ظاهر باهر في كلّ ذرّات الكرة الأرضيّة، كذلك ذرّات عموم الكائنات في هذا الفضاء الذّي لا يتناهى كلّ منها يدلّ وينطق عن كمال من الكمالات الإلهيّة، وليس هناك كائن محروم من هذا، فهو إمّا أن يكون آية رحمة الحقّ يعني يدلّ على رحمة الله، أو آية قدرة الحقّ، أو آية عظمة الحقّ، أو آية عدل الحقّ، أو آية ربّانيّة الحقّ الذّي يربّي، أو آية كرم الحقّ، أو آية بصر الحقّ،
أو آية سمع الحقّ، أو آية علم الحقّ، أو آية نعمة الحقّ، وقس على ذلك.
والمراد من هذا أنّه لا بدّ لكلّ كائن من الكائنات أن يكون مركزاً للتّجلّيّات الرّبانيّة، أي تظهر وتتجلّى فيه الكمالات الإلهيّة، مثلما تتجلّى الشّمس على الصّحارى والبحار والأشجار والأثمار والأزهار وكلّ الكائنات الأرضيّة، فعالم الكائنات أي كلّ كائن من الموجودات يحكي عن اسم من أسماء الله، وأمّا الحقيقة الإنسانيّة فهي حقيقة جامعة، حقيقة كلّيّة تتجلّى فيها جميع الكمالات الإلهيّة، يعني أنّ كلّ اسمٍ وصفةٍ وكمالٍ نثبّته للحقّ ففي الإنسان آية وأثر منه، لأنّها لو لم تكن موجودة في الإنسان لما أمكنه أن يتصوّر هذه الكمالات أو يدركها، مثلاً نقول أنّ الله بصير فهذه العين هي آية بصره، ولو لم يكن هذا البصر في الإنسان فكيف يمكننا أن نتصوّر البصيرة الإلهيّة، لأنّ الأكمه الذّي ولد أعمى لا يمكنه أن يتصوّر البصر، والأصمّ الذّي ولد أصمّ لا يمكنه تصوّر السّمع، والميِّت لا يتصوّر الحياة، لذا تجلّت الرّبوبيّة الإلهيّة الجامعة لجميع الكمالات في حقيقة الإنسان، يعني أنّ الذّات الأحديّة الجامعة لكلّ الكمالات تجلت من هذا المقام تجلّياً على حقيقة الإنسانيّة، يعني أشرقت شمس الحقيقة في هذه المرآة وإذاً فالإنسان هو المرآة الكاملة المقابلة لشمس الحقيقة ومحلّ سطوعها، وتجلّي الكمالات الإلهيّة ظاهر في حقيقة الإنسان، لهذا أصبح خليفة الله ورسول الله، إذ لولا الإنسان لما كان لعالم الوجود نتيجة، فالمقصود إذاً من الوجود هو ظهور الكمالات الإلهيّة، ولهذا لا يمكن أن نقول أنّه كان زمن ولم يكن فيه إنسان، وكلّ ما يمكن أن نقول هو أنّ هذه الكرة الأرضيّة لم تكن موجودة في زمن ما، ولكنّ هذا المظهر الكامل موجود من الأوّل الذّي
لا أوّل له، ويكون إلى الآخر الذّي لا آخر له، وهذا الإنسان الذّي نتكلّم عنه ليس المقصود منه كلّ إنسان بل المقصود الإنسان الكامل، لأنّ أشرف عضو في الشّجرة هو الثّمر وهو المقصود الأصليّ، وإن لم يكن للشّجرة ثمر فهي مهملة لا قيمة لها، لهذا لا يمكن أن يتصوّر أنّ عالم الوجود سواء أكان علويّاً أم سفليّاً كان معموراً بالحمار والبقر والفأر والقطّ ومحروماً من الإنسان، فهذا التّصوّر باطل ومهمل، وكلام الحقّ واضح كالشّمس، وهذا دليل إلهيّ لكن لا تمكن إقامته للمادّيّين في أوّل القول بل يجب أوّلاً ذكر الدّليل العقليّ ثمّ الدّليل الإلهيّ.
(47)السّؤال: هل للإنسان عند ولادته عقل وروح؟ أم أنّهما يظهران تدريجيّاً تبعاً لنموّه. أو أنّه لا يحصل عليهما إلاّ بعد كمال نموّه؟
الجواب: إنّ ابتداء تكوين الإنسان على سطح الكرة الأرضيّة يشبه تكوينه في رحم الأمّ، فالنّطفة تنشأ وتنمو في رحم الأمّ بالتّدريج حتّى الولادة ثمّ تستمرّ في النّمو والنّشوء حتّى تصل إلى درجة الرّشد والبلوغ، ولو أنّه في دور الطّفولة يظهر للعقل والرّوح آثار في الإنسان إلا أنّهما ليسا في رتبة الكمال بل يكونان ناقصين، وعندما يصل إلى درجة البلوغ يظهر العقل والرّوح في نهاية الكمال، وكذلك كان تكوين الإنسان في رحم العالم في أوّل أمره كتكوين النّطفة، ثمّ ترقّى تدريجيّاً في مراتبه ونما ونشأ حتّى وصل إلى رتبة البلوغ، وحينئذ
ظهر العقل والرّوح في الإنسان في نهاية الكمال، وكان العقل والرّوح موجودين أيضاً في بداية تكوينه ولكنّهما كانا مكنونين ثمّ ظهرا، لأنّ العقل والرّوح موجودان أيضاً في النّطفة في عالم الرّحم، ولكنّهما مكنونان ثمّ يظهران، كالحبّة إذ توجد فيها الشّجرة ولكنّها مكنونة مستورة، حتّى إذا نشأت ونمت تظهر الشّجرة بتمامها، كذلك نشوء ونمو جميع الكائنات يكون تدريجيّاً ، هذا هو القانون الكلّيّ الإلهيّ والنّظم الطّبيعيّ، فالحبّة لا تكون شجرة بغتة، ولا تكون النّطفة إنساناً دفعة واحدة، ولا يكون الجماد حجراً مرّة واحدة، بل بالنّشوء والنّمو بالتّدريج حتّى تصل إلى حدّ الكمال. فجميع الكائنات من كلّيّات وجزئيّات خلقت من مبدئها تامّة كاملة، غير أنّ كمالها يظهر بالتّدريج، والقانون الإلهيّ واحد وترقّيات الوجود واحدة، والنّظام الإلهيّ واحد في جميع الكائنات، صغيراً كان أم كبيراً، والكلّ تحت قانون واحد، ونظام واحد، وكلّ حبّة مودع فيها من البداية جميع الكمالات النّباتيّة، فمثلاً هذه الحبّة موجود فيها من البداية جميع الكمالات النّباتيّة ولكنّها كانت مخفيّة ثمّ ظهرت بعد بالتّدريج، مثلاً ظهر من الحبّة أوّلاً السّاق ثمّ الأغصان ثمّ الأوراق ثمّ البراعم ثمّ ظهر الثّمر، وكلّ هذا من بداية تكوينها موجود فيها بالقوّة ولو أنّه غير ظاهر، وكذلك النّطفة من البداية حائزة لجميع الكمالات كالرّوح والعقل والبصر والشّامّة والذائقّة وبالاختصار جميع القوى ولكنّها غير ظاهرة ثمّ تظهر بالتّدريج، وكذلك خلقت الكرة الأرضيّة من المبدأ مع جميع عناصرها وموادّها ومعادنها وأجزائها وترتيبها، ولكنّ ظهور كلّ منها كان بالتّدريج، فقد ظهر أوّلاً الجماد ثمّ النّبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان، أمّا في البداية فكانت هذه الأجناس والأنواع موجودة كامنة في الكرة الأرضيّة ثمّ ظهرت بالتّدريج، لأنّ هذا هو شأن القانون الأعظم الإلهيّ والنّظام الطّبيعيّ
العموميّ الذّي يحيط بجميع الكائنات والكلّ تحت حكمه، إذا نظرت إلى هذا النّظام العموميّ رأيت أنّ كلّ كائن من الكائنات لا يصل إلى حدّ الكمال بمجرد التّكوين، بل إنّما ينشأ وينمو بالتّدريج حتّى يصل إلى درجة الكمال.
(48)الجواب: حكمة ظهور الرّوح في الجسد هي أنّ الرّوح الإنسانيّ وديعة رحمانيّة يجب أن تسير في جميع المراتب، لأنّ سيرها وحركتها في جميع مراتب الوجود يكون سبباً لاكتسابها الكمالات، مثلاً لو أنّ إنساناً يسير في الأقاليم المختلفة ويتنقّل في الممالك المتعدّدة بنظام وترتيب لا شكّ أنّ ذلك يؤدّي إلى كسب الكمال، لأنّه يشاهد مختلف البلدان والمناظر والممالك، ويطّلع على شؤون سائر الأمم وأحوالها، ويحيط علماً بجغرافية البلدان ويرى صنائع الممالك وبدائعها، ويطّلع على عادات الشّعوب وأخلاقها وتقاليدها ويرى نتائج المدنيّة ورقيّ العصر، ويقف على سياسة الحكومات ومقدرة كلّ مملكة وكفاءتها، وكذلك روح الإنسان عندما تسير في مراتب الوجود وتنال كلّ رتبة ومقام، لا شكّ أنّها تكتسب الكمالات حتّى وهي في الرّتبة الجسمانيّة، وفضلاً عن هذا فإنّه يجب أن تظهر آثار كمالات الرّوح في هذا العالم حتّى يحصل الكون على نتائج غير متناهية، وتحلّ الرّوح في جسد الإنسان وتتجلّى الفيوضات الإلهيّة، مثلاً يجب أن يسطع شعاع
الشّمس على الأرض لتتربّى الكائنات الأرضيّة بحرارتها، وإن لم تفض الشّمس بحرارتها وتسطع بأشعّتها على الأرض لظلّت صعيداً جرزاً دون نموّ وحياة، وكذلك إذا لم تظهر كمالات الرّوح في هذا العالم يصير عالماً ظلمانيّاً حيوانيّاً محضاً، ولكن بظهور الرّوح في الهيكل الجسمانيّ يصير هذا العالم نورانيّاً، فكما أنّ روح الإنسان هي سبب حياة جسده، فكذلك العالم بمنزلة الجسد والإنسان بمنزلة روحه. فلولا الإنسان وظهور كمالات الرّوح وتجلّي أنوار العقل في هذا العالم لكانت الدّنيا جسداً بدون روح، وكذلك هذا العالم بمنزلة الشّجر والإنسان بمنزلة الثّمر، فلولا الثّمر لكان الشّجر عديم الفائدة، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه العناصر والأجزاء وهذا التّركيب في جسم الإنسان إنّما تجذب الرّوح وتعدّ مغناطيساً لها، فلا بدّ إذاً من ظهور الرّوح ، ومثلها في ذلك كمثل المرآة الصّافية الّتي لا بدّ وأنّها تجذب أشعّة الشّمس وتستضيء وتظهر فيها الانعكاسات العظيمة، يعني لو اجتمعت هذه العناصر الكونيّة وتركّبت على النّظم الطّبيعيّ في كمال الإتقان لصارت مغناطيس الرّوح، ولتجلّى الرّوح فيها بجميع الكمالات، فلا يقال في هذا المقام بعد ذلك ما لزوم تنزل شعاع الشّمس في المرآة؟ لأنّ الارتباط بين حقائق الأشياء سواء أكان روحانيّاً أم جسمانيّاً يقتضي ذلك، وهو أنّه إذا وُضِعَت المرآة بحيث تقابل الشّمس لظهر شعاع الشّمس فيها، وهكذا لمّا تتركّب العناصر وتمتزج على أشرف نظم وترتيب وأسلوب تظهر روح الإنسان وتتجلّى فيها (وذلك تقدير العزيز العليم)2.
(49)السّؤال: ما حقيقة العلاقة بين الحقّ والخلق أي بين الله تعالى وسائر الكائنات؟
الجواب: إنّ علاقة الحقّ بالخلق علاقة الموجد بالموجود، وهي كعلاقة الشّمس بالأجسام المظلمة من الممكنات، وعلاقة الصّانع بالمصنوعات، فالشّمس في حدّ ذاتها مقدّسة عن الأجسام المستنيرة، بل نور الشّمس أيضاً في حيّز ذاته مقدّس مستغن عن الكرة الأرضيّة، وإن كانت الكرة الأرضيّة تحت تأثير الشّمس مستفيضة من أنوارها، ولكنّ الشّمس وشعاعها مقدّسان عنها، فلولا الشّمس ما شوهدت الكرة الأرضيّة وجميع ما فيها من الموجودات.
إنّ قيام الخلق بالحقّ قيام صدوريّ، يعني أنّ الخلق صادر من الحقّ وليس ظاهراً منه، فتعلّقه تعلّق صدوريّ لا ظهوريّ، فأنوار الشّمس صدرت عن الشّمس وما ظهرت منها، فالتّجلّي الصّدوريّ كتجلّي الشّعاع من نيّر الآفاق، يعني أنّ الذّات المقدّسة (شمس الحقيقة) لا تقبل التّجزّؤ ولا تتنزّل إلى رتبة الخلق، كما أنّه ليس لكرة الشّمس أن تتجزّأ أو تتنزّل على الكرة الأرضيّة، بل إنّ شعاع الشّمس فيض صادر عنها وينير الأجسام المظلمة، وأمّا التّجلّي الظّهوريّ فهو كظهور الأفنان والأوراق والأزهار والأثمار من الحبّة، إذ أنّ الحبّة بذاتها تصير أفناناً وأثماراً، فتنزل حقيقتها في الأغصان والأوراق والأثمار، وهذا التّجلّي الظّهوريّ نقص صرف وممتنع ومستحيل في حقّ الباري
تعالى، لأنّه يلزم من ذلك اتّصاف القدم المحض بصفة الحدوث، ويصير الغنيّ الصّرف فقراً محضاً وحقيقة الوجود عدماً وهذا مُحال، لهذا صدرت جميع الكائنات من الحقّ، يعني أنّ ما تتحقّق به الأشياء هو الحقّ، والممكنات وجدت به، وأوّل ما صدر عن الحقّ هو تلك الحقيقة الكلّيّة الّتي تسمّى في اصطلاح الفلاسفة الأقدمين بالعقل الأوّل، وباصطلاح أهل البهاء المشيئة الأولى، وهذا الصّدور من حيث الفعل لا يحدّ في عالم الحقيقة بالزّمان والمكان، لا أوّل له ولا آخر، فالأوّليّة والآخريّة بالنّسبة إلى الحقّ على حدّ سواء، وقِدَم الحقّ قِدَم ذاتيّ زمانيّ، وحدوث الإمكان حدوث ذاتيّ لا زمانيّ كما سبق بيانه3 من قبل على المائدة، وأنّ لا أوّلية العقل الأوّل لا تجعله شريكاً للحقّ في القدم، ذلك لأنّ وجود الحقيقة الكلّيّة بالنّسبة إلى وجود الحقّ عدم صرف وليس لها حكم الوجود حتّى تكون شريكة ومماثلة في القدم، وقد تمّ بيان هذه المسألة سابقاً، أمّا وجود الأشياء فحياتها عبارة عن التّركيب ومماتها عبارة عن التّحليل، وأمّا المادّة والعناصر الكلّيّة فإنّها لا تنعدم مطلقاً، بل انعدامها عبارة عن تحوّلها، مثلاً إذا انعدم الإنسان يصير تراباً ولكنّه لا ينعدم انعداماً صرفاً، بل له وجود ترابيّ ولكن حصل تحوّل وعرض لذلك التّركيب تحليل، وقس على هذا انعدام سائر الموجودات، لأنّ الوجود لا يصير عدماً محضاً والعدم المحض لا يصير وجوداً.
(50)السّؤال: ما معنى قيام الأرواح بالحقّ حيث يقول في التّوراة ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حيّة؟
الجواب: اعلم أنّ القيام على قسمين: قيام وتجلّ صدوريّ وقيام وتجلّ ظهوريّ، فالقيام الصّدوري كقيام الصّنع بالصّانع يعني مثلاً الكتابة بالكاتب، فهذه الكتابة صادرة من الكاتب وهذا النّطق من هذا النّاطق، وكذلك الرّوح الإنسانيّ صدرت من الحقّ لا أنّها ظهرت منه، يعني لم ينفكّ جزء من حقيقة الألوهيّة ودخل في جسد آدم، بل إنّ ظهور الرّوح في جسده كصدور النّطق من النّاطق، وأمّا القيام الظّهوريّ فهو ظهور حقيقة الشّيء بصور أخرى، كقيام الشّجرة من البذرة وقيام الورد من بذرة الورد، لأنّ نفس البذرة ظهرت بصورة الأغصان والأوراق والأزهار، ويقال لهذا قيام ظهوريّ، فقيام الرّوح الإنسانيّ بالحقّ قيام صدوريّ، كصدور النّطق من النّاطق، والكتابة من الكاتب، يعني لا تصير نفس النّاطق نطقاً ولا نفس الكاتب كتابة، بل لها قيام صدوريّ، لأنّ النّاطق في كمال القدرة والقوّة، غير أنّ النّطق يصدر منه كصدور الفعل من الفاعل، والنّاطق الحقيقيّ أي الذّات الأحديّة، لم يزل كان على حالة واحدة لا تغيير ولا تبديل ولا تحويل ولا انقلاب وهو أبديٌّ سرمديٌّ، فبناء على هذا يكون قيام الرّوح الإنسانيّ بالحقّ قياماً صدوريّاً، وإنّ ما ذكر في التّوراة من قوله نفخ الله في آدم روحاً، فهذه الرّوح كالنّطق الصّادر من النّاطق الحقيقيّ أثّرت في حقيقة آدم.
وأمّا القيام الظّهوري – فإن كان المقصود منه التّجلّي وليس تجزّءاً – فقد قلنا أنّ ذلك هو قيام وتجلّي الرّوح القدس والكلمة بالحقّ، ويقول في إنجيل يوحنّا (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله) إذاً فالرّوح القدس والكلمة هي تجلّي الحقّ، والرّوح والكلمة هما عبارة عن الكمالات الإلهيّة الّتي تجلّت في حقيقة حضرة المسيح – وكانت تلك الكمالات عند الله – كتجلّي الشّمس في المرآة وظهورها بتمامها، لأنّ المقصود من الكلمة ليس جسد المسيح، بل المقصود هو الكمالات الإلهيّة الّتي ظهرت في المسيح، لأنّه كان كمرآة صافية أمام شمس الحقيقة، وكمالات شمس الحقيقة يعني ضياؤها وحرارتها ظاهران مشهودان في تلك المرآة، وحينما ننظر في المرآة نرى الشّمس فيها فنقول هذه هي الشّمس، إذاً فالكلمة والرّوح القدس اللّذان هما عبارة عن الكمالات الإلهيّة هما التّجلّي الإلهيّ، هذا هو معنى آية الإنجيل القائلة (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله الكلمة) لأنّ الكمالات الإلهيّة ليست منفصلة عن ذات الأحديّة، وكمالات المسيح تدعى الكلمة، لأنّ جميع الكائنات بمنزلة الحروف وليس للحرف معنى مستقل، ولكنّ كمالات حضرته لها مقام الكلمة، لأنّ الكلمة تؤدّي معنى جامعاً تامّاً، وبما أنّ الحقيقة المسيحيّة هي ظهور الكمالات الإلهيّة فمن هذه الوجهة عبّر عنها بالكلمة.
واعلم أنّ قيام الكلمة والرّوح القدس بالحقّ هو قيام تجلّ ظهوريّ، ولا يتصوّر منه أنّ حقيقة الألوهيّة تجزّأت أو تعدّدت أو تنزّلت من علوّ التّقديس والتّنزيه، حاشا ثمّ حاشا! إذ لو أنّ مرآة صافية لطيفة واجهت الشّمس لتجلّت فيها أنوار الشّمس وحرارتها وصورتها ومثالها تجلّياً ظهوريّاً، بحيث لو يقول النّاظر إلى الشّمس المتشعشعة المشهودة
في تلك المرآة الصّافية اللّطيفة هذه هي الشّمس يكون صادقاً، ولكنّ المرآة مرآة والشّمس شمس، ولو تتجلّى الشّمس في مرايا متعدّدة فهي شمس واحدة، فهذا المقام لا حلول له ولا دخول ولا امتزاج ولا نزول، لأنّ الدّخول والحلول والنّزول والخروج والامتزاج من لوازم الأجسام وخواصها لا الأرواح، فكيف بالحقيقة المقدّسة المنزّهة الحضرة الإلهيّة، (تبارك الله عن كلّ ما لا ينبغي لتنزيهه وتقديسه وتعالى علوّاً كبيراً).
فشمس الحقيقة كما قلنا لم تزل كانت على حالة واحدة لا تغيير لها ولا تبديل ولا تحويل ولا انقلاب أزليّة سرمديّة، ولكنّ الحقيقة المقدّسة كلمة الله بمنزلة المرآة الصّافيّة اللّطيفة النّورانيّة تجلّت فيها حرارة الشّمس وضياؤها وصورتها ومثالها، أي تجلّت فيها كمالات شمس الحقيقة، هذا معنى ما يقوله حضرة المسيح في الإنجيل (الأب في الابن) يعني تجلّت شمس الحقيقة في هذه المرآة (سبحان من أشرق على هذه الحقيقة المقدّسة من الكائنات).
(51)اعلم أنّ الأرواح خمسة أقسام، الأوّل الرّوح النّباتيّ وهو القوّة الّتي تحصل من تركيب العناصر وامتزاج المواد بتقدير الله المتعال ومن التّدبير والتّأثير والارتباط مع سائر الكائنات وبتفرّق هذه الأجزاء والعناصر بعضها عن بعض تتلاشى تلك القوّة النّامية النّباتيّة، فمثلاً الكهرباء الّتي تحصل من اتّحاد بعض العناصر والأجزاء تتلاشى وتفقد
إذا ما تفرّقت تلك الأجزاء، فهذا هو الرّوح النّباتيّ، ويلي ذلك الرّوح الحيوانيّ وهو كذلك يتركّب من امتزاج العناصر، ولكنّ هذا التّركيب أكمل ويحصل من الامتزاج التّامّ بتقدير الرّبّ القدير، ويظهر الرّوح الحيوانيّ الذّي هو عبارة عن قوّة حسّاسة تدرك الحقائق المحسوسة الّتي ترى وتسمع وتذاق وتشمّ وتلمس، وطبعاً ينعدم ذلك الرّوح بتفريق وتحليل تلك الأجزاء المركّبة كهذا السّراج الذّي نشاهده، فإذا اجتمع الدّهن والفتيل والنّار بعضها ببعض يحصل الضّياء، لكن لو نفد الدّهن واحترق الفتيل لذهب ذلك الضّياء أيضاً.
أمّا الرّوح الإنسانيّ مثله كمثل البلّور وفيض الشّمس، يعني أنّ جسم الإنسان مركّب من العناصر في أكمل صورة من التّركيب والامتزاج وفي غاية من الإتقان، وهو أشرف مركّب وأكمل موجود ينشأ وينمو بالرّوح الحيوانيّ، فهذا الجسم المكمّل بمثابة المرآة والرّوح الإنسانيّ بمثابة الشّمس، وإذا انكسرت المرآة بقي فيض الشّمس، وكذلك إذا انعدمت المرآة فضوء الشّمس باق لا يلحقه أيّ ضرر، فهذا الرّوح هو القوّة الكاشفة المحيطة بجميع الأشياء، فكلّ هذه الآثار البديعة والصّنايع والاكتشافات والمشاريع العظيمة والوقائع التّاريخيّة المهمّة الّتي ترونها جميعها من أثر القوّة الكاشفة للرّوح، وقد أظهرها بقوّة معنويّة من حيّز الغيب والخفاء إلى ساحة الشّهود، مثلاً يكشف وهو في الأرض ما في السّماء، ومن الحقائق المعلومة المشهودة يكشف الأشياء الخفيّة المجهولة، مثلاً وهو في هذا النّصف من الكرة الأرضيّة يكتشف بقوّة العقل النّصف الآخر، كما اكتشف كولمبس أمريكا بعد أن كانت مجهولة مستورة، وكذلك الجسم ثقيل ولكنّه بواسطة اكتشاف الرّوح يطير وهو بطيء الحركة ولكنّه بالوسائط الّتي يوجدها يطوي الشّرق والغرب بنهاية السّرعة.
وبالاختصار فهذه القوّة محيطة بجميع الأشياء، غير أنّ هذا الرّوح له جانبان أحدهما رحمانيّ والآخر شيطانيّ يعني فيه استعداد للصّعود إلى أعلى درجات الكمال والهبوط إلى أسفل دركات النّقص فإذا اكتسب الفضائل صار أشرف الممكنات وإن اكتسب الرّذائل كان أرذل الموجودات.
أمّا الرّوح في المرتبة الرّابعة فهو الرّوح السّماويّ وذلك هو الرّوح الإيمانيّ والفيض الرّحمانيّ المنبعث من نفثات روح القدس الّتي تكون بقوّة إلهيّة سبب حياة أبديّة، تلك القوّة هي قوّة تجعل الإنسان الأرضيّ سماويّاً وتجعل الإنسان النّاقص كاملاً والكدر صافياً والسّاكت ناطقاً والجاهل عالماً وأسير الشّهوات النّفسانيّة مقدّساً ومنزّهاً.
والخامسة روح القدس وهو الواسطة بين الحقّ والخلق بمثابة المرآة المقابلة للشّمس، فكما أنّ المرآة الصّافيّة تقتبس الأنوار من الشّمس وتعكس فيضها على الآخرين، كذلك روح القدس واسطة أنوار التّقديس الّتي يقتبسها من شمس الحقيقة ويهبط بها على الحقائق المقدّسة وهو متّصف بجميع الكمالات الإلهيّة وكلّما ظهر يتجدّد العالم وتبتدئ دورة جديدة ويلبس هيكل العالم الإنسانيّ خلعة جديدة. مثله كمثل الرّبيع بمجيئه في أيّ وقت ينقل العالم من حال إلى أخرى، وبقدوم موسم الرّبيع تخضّر الأراضي الهامدة والسّهول والصّحارى وتنبت أنواع الورد والرّياحين وتحيا الأشجار حياة جديدة وتظهر أثمار بديعة وتؤسّس دورة جديدة، وعلى هذا المثال يكون ظهور روح القدس وفي أيّ وقت يظهر يتجدّد العالم الإنسانيّ ويعطي الحقائق الإنسانيّة روحاً جديداً ويلبس عالم الوجود خلعاً محمودة وتتبدّد ظلمات الجهل وتسطع أنوار الكمالات، فالمسيح بهذه القوّة جدّد هذه
الدّورة ورفع الرّبيع الإلهيّ سرادقه في نهاية الطّراوة واللّطافة في العالم الإنسانيّ وعطر النّسيم المنعش للرّوح مشام المخلصين، وكذلك ظهور حضرة بهاء الله كان بمثابة فصل الرّبيع والموسم الجديد الذّي ظهر بالنّفحات القدسيّة وجنود الحياة الأبديّة والقوّة الملكوتيّة فوضع سرير السّلطنة الإلهيّة في قطب العالم وأحيا النّفوس بروح القدس وأسّس دورة جديدة.
(52)الجواب: بيَّنّا من قبل أنّ الأرواح خمسة أنواع: روح نباتيّ وروح حيوانيّ وروح إنسانيّ وروح إيمانيّ والرّوح القدس.
أمّا الرّوح النّباتيّ فهي القوّة النّامية الّتي تحصل من تأثير سائر الكائنات في الحبّة.
وأمّا الرّوح الحيوانيّ فهي القوّة الجامعة الحسّاسة الّتي تتحقّق من تركيب العناصر وامتزاجها، وعندما ينحلّ هذا التّركيب تفنى تلك القوّة وتنمحي أيضاً، مثلها كمثل هذا السّراج الذّي يضيء باجتماع الفتيل والدّهن والنّار وتركيبها، وعندما يتحلّل هذا التّركيب يعني تتفرّق الأجزاء المركّبة عن بعضها ينطفئ هذا السّراج أيضاً.
أمّا الرّوح الإنسانيّ الّتي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان فهي تلك النّفس النّاطقة، وهذان الاسمان أي الرّوح الإنسانيّ والنّفس النّاطقة
هما عنوان شيء واحد، وهذه الرّوح الّتي تعرف في اصطلاح الفلاسفة بالنّفس النّاطقة محيطة بسائر الكائنات، وتكشف حقائق الأشياء بقدر الاستطاعة البشريّة، وتطّلع على خواصّ الممكنات وتأثيرها، وكيفيّة الموجودات وخصائصها، ولكنّها إذا لم تؤيّد بالرّوح الإيمانيّ لا تطّلع على الحقائق اللاّهوتيّة والأسرار الإلهيّة، كالمرآة مهما تكن صافية لطيفة شفّافة فإنّها محتاجة إلى الأنوار، فإذا لم تسطع أشعّة الشّمس عليها لا يمكنها اكتشاف الأسرار الإلهيّة، أمّا العقل فهو قوّة الرّوح الإنسانيّ، الرّوح بمنزلة السّراج والعقل بمنزلة الأنوار السّاطعة من السّراج، الرّوح بمنزلة الشّجر والعقل بمثابة الثّمر، فالعقل كمال الرّوح وصفتها اللاّزمة لها كشعاع الشّمس اللازم الذّاتيّ لها.
فهذا البيان وإن كان مختصراً غير أنّه كامل وافٍ فعليكم أن تفكّروا في ذلك وستطّلعون على تفصيله إن شاء الله.
(53)توجد في الإنسان قوى خمس ظاهرة جسمانيّة. وهذه القوى واسطة الإدراك، يعني يدرك الإنسان بهذه القوى الخمس الكائنات الجسمانيّة. فالقوّة الباصرة الّتي تدرك الصّور المحسوسة، والقوّة السّامعة الّتي تدرك الأصوات المسموعة، والقوّة الشّامّة الّتي تدرك الأشياء ذات الرّائحة، والقوّة الذّائقة الّتي تدرك الأطعمة، والقوّة اللاّمسة المنتشرة في جميع أعضاء الإنسان الّتي تدرك الملموس، فهذه القوى الخمس هي الّتي تدرك الأشياء الخارجيّة (الماديّة).
وكذلك في الإنسان قوى معنويّة، وهي المخيّلة الّتي تتخيّل الأشياء، والمفكّرة الّتي تفكّر في حقائق الأمور، والمدركة الّتي تدرك حقائق الأشياء، والحافظة الّتي تحفظ كلّ ما يتخيّله الإنسان ويفكّر فيه ويدركه، والواسطة بين هذه القوى الخمس الظّاهرة والقوى الباطنة هو الحسّ المشترك، يعني هو الواسطة بين القوى الباطنة وبين القوى الخمس الظّاهرة، فينقل إلى القوى الباطنة ما تحسّه القوى الظّاهرة، ويعبّرون عن هذا بالحسّ المشترك بين القوى الظّاهرة والقوى الباطنة، فمثلاً البصر وهو أحد القوى الظّاهرة يرى هذه الوردة ويحسّ بها فيعطي الحسّ المشترك هذا الإحساس للقوى الباطنة، ويسلِّم الحسّ المشترك هذه المشاهدة إلى القوى المخيّلة، وتتصوّر القوّة المخيّلة هذه المشاهدة ثمّ توصلها إلى القوّة المفكّرة، والقوّة المفكّرة تفكّر فيها وبعد أن تهتدي إلى حقيقتها تسلّمها إلى القوّة المدركة، ولمّا تدرك القوّة المدركة صورة ذلك الشّيء المحسوس تسلّمها إلى الحافظة، والقوّة الحافظة تحفظها وتظلّ محفوظة في خزانتها.
فالقوى الظّاهرة خمس: الباصرة والسّامعة والذّائقة والشّامّة واللاّمسة. والقوى الباطنّة أيضاً خمس: المشتركة والمخيّلة والمفكرّة والمدركة والحافظة.
(54)السّؤال: إلى كم تنقسم أخلاق النّوع الإنسانيّ ومن أين جاء هذا الاختلاف والتّفاوت؟
الجواب: الأخلاق فطريّة وموروثة واكتسابيّة والأخيرة تحصل بالتّربية، أمّا الأخلاق الفطريّة وإن كانت الفطرة الإلهيّة خيراً محضاً ولكنّ اختلاف الأخلاق الفطريّة في الإنسان ناشئ عن تفاوت الدّرجات، فكلّها خير أمّا بحسب الدّرجات هي بين حسن وأحسن، كما أنّ لجميع النّوع الإنسانيّ إدراكاً واستعداداً، ولكن يتفاوت الإدراك والاستعداد والقابليّة فيما بين النّوع الإنسانيّ، وهذا واضح، مثلاً هناك أطفال في بيت واحد وفي محلّ واحد وفي مكتب واحد يتعلّمون من معلِّم واحد ويتربّون من غذاء واحد وفي هواء واحد وبلباس واحد ويدرسون درساً واحداً فلا بدّ أن يكون البعض من بين هؤلاء الأطفال ماهراً في الفنون والبعض متوسّطاً والبعض متأخّراً، إذاً صار من المعلوم أنّ التّفاوت في الدّرجات موجود في أصل الفطرة، وأنّ تفاوت القابليّة والاستعداد مشهود، ولكن ليس هذا التّفاوت من وجهة الخير والشّر بل هو مجرّد تفاوت في الدّرجات، فواحد في الدّرجة العليا وواحد في الدّرجة الوسطى وواحد في الدّرجة الدّنيا، مثلاً للإنسان وجود وللحيوان وجود وللنّبات وجود وللجماد وجود، أمّا الوجود فمتفاوت في هذه الموجودات الأربعة، فأين وجود الإنسان من وجود الحيوان، والحال أنّ الكلّ موجود، فمن الواضح إذاً أنّ في الوجود تفاوتاً في الدّرجات.
وأمّا تفاوت الأخلاق الموروثة فهو من ضعف المزاج وقوّته، يعني لمّا يكون مزاج الأبوين ضعيفاً يكون أطفالهما مثلهما، وإن كانا قويّين فأطفالهما يكونون نشيطين، وكذلك يكون لطهارة الدّم حكم كلّيّ، لأنّ النّطفة الطّيّبة كالجنس الأعلى الّذي يوجد في النّبات والحيوان أيضاً، مثلاً يلاحظ أنّ الأطفال الّذين يولدون من أب وأمّ ضعيفين عليلين
يبتلون طبعاً بضعفٍ في البنية وضعف في العصب وهم عجولون فلا صبر لهم ولا جلد ولا ثبات ولا همّة، لأنّ ضعف الأبوين ووهنهما يصير ميراثاً للأطفال، وفضلاً عن هذا فإنّ بعضاً من السّلالات والأسر يختصّون بموهبة، مثلاً إنّ سلالة إبراهيم كانت مختصّة بموهبة وهي كون جميع أنبياء بني اسرائيل من سلالة إبراهيم، فقد أعطى الله هذه الموهبة لتلك السّلالة، فحضرة موسى ينتسب إليها من جهة الأب والأمّ، وحضرة المسيح من جهة الأمّ، وحضرة محمّد وحضرة الأعلى وجميع أنبياء بني إسرائيل والمظاهر المقدّسة كانوا من تلك السّلالة، وحضرة بهاء الله أيضاً من سلالة إبراهيم، لأنّه كان لحضرة إبراهيم أولاد آخرون غير إسماعيل وإسحق هاجروا في تلك الأزمنة إلى أنحاء إيران وأفغانستان، فحضرة بهاء الله أيضاً من تلك السّلالة.
إذاً صار من المعلوم أنّ الأخلاق الوراثيّة موجودة أيضاً، بحيث إذا لم يكن هناك تطابق في الأخلاق فإنّه لا يعتبر من الوجهة الرّوحية من تلك السّلالة، ولو أنّه من الوجهة الجسمانيّة من تلك السّلالة مثل كنعان فإنّه لا يعدّ من سلالة نوح.
وأمّا تفاوت الأخلاق من حيث التّربية فهو عظيم جدّاً، لأنّ التّربية لها تأثير عظيم، إذ تصيِّر الجاهل عالماً والجبان شجاعاً والغصن الأعوج مستقيماً وفواكه الجبال والغابات المرّة حلوة لذيذة، والوردة ذات خمس غلالات تصبح ذات مائة غلالة، وبالتّربية تتمدّن الأمّة المتوحّشة، حتّى الحيوان فإنّه بالتّربية يقلّد الإنسان في حركاته وأعماله، فيجب اعتبار التّربية أنّها في غاية الأهمّيّة، لأنّ الأمراض كما أنّها تسري بشدّة في عالم الأجسام وتنتقل من بعضها إلى بعض، كذلك الأخلاق لها سريان عظيم في الأرواح والقلوب، فالتّفاوت في التّربية عظيم جدّاً،
وله حكم كلّيّ، ولربّ قائل يقول ما دام استعداد النّفوس وقابليّتها متفاوتاً فلا بدّ أن تتفاوت الأخلاق بسبب تفاوت الاستعداد، فنقول أنّ الأمر ليس كذلك لأنّ الاستعداد على قسمين: استعداد فطريّ واستعداد اكتسابيّ، فالاستعداد الفطريّ الذّي خلقه الله كلّه خير محض، إذ ليس من شرّ في الفطرة، أمّا الاستعداد الاكتسابيّ فهو سبب حصول الشّرّ، مثلاً خلق الله جميع البشر ووهبهم قابليّة واستعداداً ليستفيدوا من الشّهد والسّكر ويتضرّروا ويهلكوا من السّمّ، فهذه القابليّة والاستعداد كلاهما فطريّ أعطاهما الله لجميع النّوع الإنسانيّ على حدّ سواء، ولكنّ الإنسان يشرع في استعمال السّمّ قليلاً قليلاً ويتناول منه كلّ يوم مقداراً ويزيد عليه شيئاً فشيئاً، حتّى يصل الأمر إلى أنّه لو لم يتناول كلّ يوم درهماً من الأفيون لهلك، وانقلب استعداده الفطريّ انقلاباً كلّيّاً، فانظروا كيف يتغيّر الاستعداد والقابليّة الفطريّة تغيّراً جذريّاً حتّى يتحوّل إلى العكس بسبب تفاوت العادة والتّربية، فليس الاعتراض على الأشقياء من جهة الاستعداد والقابليّة الفطريّة بل من جهة الاستعداد والقابليّة الاكتسابيّة، إذ ليس في الفطرة شرّ بل كلّها خير، حتّى الصّفات والأخلاق المذمومة الملازمة لذاتيّة البعض من النّوع الإنسانيّ فإنّها في الحقيقة ليست بمذمومة، مثلاً يلاحظ في بداية حياة الطّفل الذّي يرضع من الثّدي أنّ آثار الحرص بادية منه كما يشاهد منه أيضاً آثار الغضب والقهر، وإذاً يقال أنّ الحسن والقبح كلاهما فطريّ في الحقيقة الإنسانيّة، وهذا مناف للخير المطلق الذّي هو في الخلقة والفطرة، فالجواب أنّ الحرص الذّي هو طلب الزّيادة صفة ممدوحة لو استعملت في موضعها، فمثلاً لو يحرص الإنسان على تحصيل العلوم والمعارف وعلى أن يكون رحيماً ذا مروءة وعدالة فإنّ ذلك ممدوح جدّاً، ولو
يغضب على الظّالمين السّفّاكين للدّماء الذّين هم كالسّباع الضّارية ويقهرهم فذلك ممدوح جدّاً، ولكنّ هذه الصّفات لو استعملت في غير موضعها لكانت مذمومة، إذاً صار من المعلوم أنّه لا يوجد في الفطرة شرّ أبداً، أمّا لو تستعمل أخلاق الإنسان الفطريّة في المواقع غير المشروعة فذلك مذموم، مثلاً لو أنّ شخصاً غنيّاً كريماً أعطى فقيراً مبلغاً ليصرفه في حاجاته الضّروريّة لنفسه، وهذا الشّخص الفقير صرف ذلك المبلغ في أمور غير مشروعة، فإنّ ذلك يكون مذموماً، وكذلك لو استعملت جميع الأخلاق الفطريّة الّتي هي رأس مال الحياة في أمور غير مشروعة فإنّها تكون مذمومة.
إذاً صار من الواضح أنّ الفطرة خير محض، فلاحظوا أنّ أسوأ الأخلاق وابغض الصّفات الّتي هي أساس جميع الشّرور هو الكذب ولا يتصوّر في الوجود صفة أسوأ ولا أذمّ منه، لأنّه هادم لجميع الكمالات الإنسانيّة وسبب الرّذائل الّتي لا تتناهى، وليس من صفة أسوأ من هذه الصّفة فهو أساس جميع القبائح، ومع هذا فلو واسى حكيم مريضاً بقوله الحمد لله إنّ أحوالك أحسن ويرجى لك حصول الشّفاء، فهذا القول ولو أنّه مخالف للحقيقة لكنّه قد يكون أحياناً ذا جدوى لتسلية قلب المريض وسبباً لشفائه، فهو إذاً ليس بمذموم، وقد وضّحت هذه المسألة بأجلى بيان والسّلام.
***السّؤال: ما درجة إدراكات العالم الإنسانيّ وما حدودها؟
الجواب: اعلم أنّ الإدراكات متفاوتة، فأدنى رتبة في الإدراك هي الإحساس الحيوانيّ يعني الحسّيّات الطّبيعيّة الّتي تظهر بقوّة الحواسّ ويقال لها الحسّيّات، ويشترك الإنسان والحيوان في هذا الإدراك، بل إنّ بعض الحيوان أقوى من الإنسان فيها، وأمّا في العالم الإنسانيّ فبحسب اختلافات مراتبه تتنوّع الإدراكات وتتفاوت، وفي الرّتبة الأوّليّة في عالم الطّبيعة هي إدراكات النّفس النّاطقة، وجميع البشر مشترك في هذه القوّة غافلاً كان أم عاقلاً مؤمناً كان أم ضالاًّ، وهذه النّفس النّاطقة الإنسانيّة خلقها الله محيطة ممتازة على سائر الكائنات، ولمّا كانت أشرف الكائنات وممتازة فهي محيطة بالأشياء، وتستطيع قوّة النّفس النّاطقة أن تكشف حقائق الأشياء وتدرك خواصّ الكائنات وتهتدي إلى أسرار الموجودات، فهذه الفنون والمعارف والصّنائع والبدائع والتّأسيسات والاكتشافات والمشروعات كلّها من إدراكات النّفس النّاطقة، وقد كانت في زمن ما سرّاً مكنوناً ورمزاً مصوناً غير معلوم، ثمّ كشفتها النّفس النّاطقة بالتّدريج وأتت بها من حيّز الغيب والخفاء إلى حيّز الشّهود، وهذه أعظم قوّة إدراك في عالم الطّبيعة، وأسمى ما تصل إليه في نهاية جولانها وطيرانها هو إدراكها لحقائق الممكنات وخواصّها وآثارها.
أمّا العقل الكلّيّ الإلهيّ الذّي هو ما وراء الطّبيعة فهو فيض القوّة القديمة، وهذا العقل الكلّيّ الإلهيّ محيط بالحقائق الكونيّة ومقتبس من الأنوار الإلهيّة والأسرار الرّبانيّة، هو قوّة عالمة وليس قوّة متفحّصة متحسّسة، أمّا قوّة عالم الطّبيعة المعنويّة فهي قوّة متفحّصة وتهتدي بتفحّصها إلى حقائق الكائنات وخواصّ الموجودات.
وأمّا القوّة العاقلة الملكوتيّة الّتي هي ما وراء الطّبيعة فهي محيطة بالأشياء وعالمة بها ومدركة لها، ومطّلعة على الأسرار والحقائق والمعاني الإلهيّة وكاشفة للحقائق الخفيّة الملكوتيّة، وهذه القوّة العقليّة الإلهيّة خاصة بالمظاهر المقدّسة ومطالع النّبوّة، وتسطع أشعّة من هذه الأنوار على مرايا قلوب الأبرار الّتي تأخذ قسطاً ونصيباً من هذه القوّة بوساطة المظاهر المقدّسة.
وللمظاهر المقدّسة ثلاثة مقامات، مقام الجسد ومقام النّفس النّاطقة ومقام المظهريّة الكاملة الجلوة الرّبانية، أمّا الجسد فيدرك الأشياء بقدر استطاعة العالم الجسماني، لهذا أظهروا العجز في بعض المواقع، مثلاً يقول كنت نائماً غير واعٍ مرّت عليّ نسمة الله وأيقظتني وأمرتني بالنّداء، أو أنّ حضرة المسيح تعمّد في سنّ الثّلاثين وهبط عليه الرّوح القدس ولم تظهر هذه الرّوح قبل هذا في المسيح، فجميع هذه الأمور راجعة لمقامهم الجسديّ.
أمّا مقامهم الملكوتيّ فمحيط بجميع الأشياء، ومطّلع على جميع الأسرار وعالم بكلّ الآثار وحاكم على جميع الأشياء، سواء أكان قبل البعثة أو بعدها، ولذلك يقول أنا الألف والياء، الأوّل والآخر ما كان لي تغيير ولا تبديل ولن يكون.
(56)السّؤال: ما حدود إدراك الإنسان ومعرفته للحقيقة الإلهيّة؟
الجواب: يلزم لبيان هذه المسألة متّسع من الزّمن وليس من السّهل أن نبيّنها على المائدة ولكنّنا سنتكلّم فيها باختصار.
اعلم أنّ العرفان على قسمين: معرفة ذات الشّيء ومعرفة صفاته، ومعرفة الذّات تكون بمعرفة الصّفات ليس إلاّ حيث أنّ الذّات مجهولة غير معلومة، ولما كانت معرفة الأشياء بالصّفات لا بالذّات وهي مخلوقة محدودة، فكيف إذاً يمكن معرفة حقيقة الذّات الإلهيّة وهي غير محدودة، لأنّ كنه الذّات لأيّ شيء غير معروف وإنّما يعرف بصفاته، مثلاً إنّ كنه الشّمس مجهول ولكنّها تعرف بصفاتها الّتي هي الحرارة والضّوء، وكنه ذات الإنسان مجهول وغير معروف، ولكنّه يوصف ويعرف بصفاته، ولمّا كانت معرفة كلّ شيء بصفاته لا بذاته – حال كون العقل محيط بالكائنات والكائنات الخارجيّة محاطة على الرّغم من هذا فالكائنات من حيث الذّات مجهولة ومن حيث الصّفات معروفة – إذاً فكيف يمكن أن يعرف ذات الرّبّ القديم الأبديّ المقدّس عن الإدراك والأوهام، يعني لمّا كانت معرفة الشّيء ممكنة بالصّفات لا بالذّات فلا شكّ أنّ الحقيقة الإلهيّة من حيث الذّات مجهولة ومن حيث الصّفات معروفة، وفضلاً عن هذا كيف تحيط الحقيقة الحادثة بالحقيقة
القديمة، لأنّ الإدراك ناشئ عن الإحاطة، فتجب الإحاطة حتّى يمكن الإدراك، وذات الأحديّة محيطة لا محاطة، وكذلك تفاوت المراتب في عالم الخلق مانع عن العرفان، مثلاً هذا الجماد ما دام في رتبته الجماديّة فمهما ترقّى لا يمكنه إدراك القوّة النّامية، والنّباتات والأشجار مهما ترقّت فلا يمكنها أن تدرك قوّة البصر، وكذلك لا تدرك سائر القوى الحسّاسة، والحيوان لا يمكنه أن يتصوّر رتبة الإنسان يعني قواه المعنويّة، فتفاوت المراتب مانع من العرفان وكلّ مرتبة دانية لا تدرك المرتبة الّتي فوقها، إذاً فكيف تستطيع الحقيقة الحادثة إدراك الحقيقة القديمة؟
لهذا فمعرفة الله عبارة عن إدراك الصّفات الإلهيّة وعرفانها لا إدراك الحقيقة الإلهيّة، ومعرفة الصّفات أيضاً ليست معرفة مطلقة، بل إنما تكون بقدر استطاعة الإنسان وقوّته، والحكمة عبارة عن إدراك حقائق الأشياء كما هي أي على ما هي عليه، وذلك بقدر استطاعة الإنسان وقوّته، لهذا فليس هناك سبيل للحقيقة الحادثة لإدراك كنه الذّات، بل إنّها فقط تدرك الصّفات القديمة بقدر الطّاقة البشرية، فغيب الذّات الإلهيّة مقدّس منزّه عن أن تدركه الموجودات، وكلّ ما يدخل تحت التّصوّر إنّما هو إدراكات إنسانيّة، فقوّة الإدراك الإنسانيّ لا تحيط بحقيقة الذّات الإلهيّة، بل الذّي يقدر الإنسان على إدراكه هو الصّفات الإلهيّة الظّاهرّة الباهرّة أنوارها وآثارها في الأفاق والأنفس، وإذا نظرنا في الآفاق والأنفس نرى من الكلمات الإلهيّة آيات باهرات واضحة مشهودة، لأنّ حقائق الأشياء تدلّ على الحقيقة الكلّيّة.
ومثل الحقيقة الإلهيّة كمثل الشّمس المشرقة من علوّ تقديسها على جميع الآفاق، ومن ذلك الإشراق يأخذ كلّ من الآفاق والأنفس قسطاً
ونصيباً، ولولا هذا الإشراق وتلك الأنوار لما كان للكائنات وجود ولكنّ جميع الكائنات تدلّ عليها وتستضيء بها وتأخذ منها قسطاً ونصيباً.
أمّا تجلّي الكمالات والفيوضات والصّفات الإلهيّة فهي ساطعة لامعة من حقيقة الإنسان الكامل، يعني ذلك الفرد الفريد المظهر الكلّيّ الإلهيّ، لأنّ سائر الكائنات اقتبست منه شعاعاً، أمّا المظهر الكلّي فهو مرآة تلك الشّمس، تظهر فيها بجميع كمالاتها وصفاتها وآثارها وآياتها، فمعرفة الحقيقة الإلهيّة ممتنعة محال، وأمّا معرفة المظاهر الإلهيّة فهي معرفة الحق، لأنّ الفيوضات والتّجلّيّات والصّفات الإلهيّة ظاهرة فيها، إذاً لو اهتدى الإنسان لمعرفة المظاهر الإلهيّة فقد فاز بمعرفة الله، ولو غفل عن معرفة المظاهر المقدّسة حرم من معرفة الله، فثبت وتحقق أنّ المظاهر المقدّسة هم مركز الفيض والآثار والكمالات الإلهيّة، طوبى لنفوس اقتبست أنوار الفيوضات الرّحمانية من تلك المطالع النّورانيّة. ونأمل أن يستفيض أحبّاء الله كالقوّة الجاذبة تلك الفيوضات من مبدأ الفيض، ويبعثون بأنوار وآثار تجعلهم آيات باهرات لشمس الحقيقة.
(57)حيث أثبتنا وجود الرّوح الإنسانيّ فيجب الآن أن نثبت بقاءه، إنّ مسألة خلود الرّوح واردة في الكتب السّماويّة، وهذه المسألة هي أسّ أساس الأديان الإلهيّة، لأنّ المجازاة والمكافأة وردت على نوعين:
الأوّل ثواب وعقاب وجوديّ والثّاني مجازاة ومكافأة أخرويّة، أمّا النّعيم والجحيم الوجوديّ فهو في جميع العوالم الإلهيّة، سواء في هذا العالم أو في العوالم الرّوحانيّة الملكوتيّة، والحصول على هذه المكافأة يؤدّي إلى الحياة الأبدية، ولذلك يقول حضرة المسيح اعملوا كذا وافعلوا كذا حتّى تجدوا الحياة الأبديّة وتولدوا من الماء والرّوح حتّى تدخلوا في الملكوت، وهذه المكافأة الوجوديّة هي الفضائل والكمالات الّتي تزيّن الحقيقة الإنسانيّة، مثلاّ الإنسان كان ظلمانيّاً فصار نورانيّاً، وكان جاهلاً فصار عالماً، وكان غافلاً فصار عاقلاً، وكان نائماً فصار مستيقظاً، وكان ميتاً فصار حيّاً، وكان أعمى فصار بصيراً، وكان أصمّ فصار سميعاً، وكان أرضيّاً فصار سماويّاً، وكان ناسوتيّاً فصار ملكوتيّاً، ويهذه المكافأة يولد ولادة روحانيّة ويصبح خلقاً جديداً، ويكون مظهر آية الإنجيل الواردة في حقّ الحواريّين القائلة "الذّين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله"4 يعني نجوا من الأخلاق والصّفات البهيميّة الّتي هي من مقتضيات الطّبيعة البشريّة، واتّصفوا بالصّفات الرّحمانيّة الّتي هي فيض إلهيّ، هذا هو معنى الولادة، وليس لهذه النّفوس عذاب أعظم من الاحتجاب عن الحقّ، ولا عقوبة أشدّ من الرّذائل النّفسانيّة، والصّفات الظّلمانيّة، ودناءة الفطرة، والانهماك في الشّهوات، وحينما يتخلّصون بنور الإيمان من ظلمات هذه الرّذائل، ويتنوّرون بإشراق شمس الحقيقة ويفوزون بشرف جميع الفضائل يعدّون ذلك أعظم مكافأة، ويعتبرونها الجنّة الحقيقيّة، وكذلك المجازاة المعنويّة يعني العذاب والعقاب الوجوديّ، الابتلاء بعالم الطّبيعة والاحتجاب عن الحقّ، والجهل وعدم المعرفة، والانهماك في الشّهوات النّفسانيّة والابتلاء بالرّذائل الحيوانيّة، والاتّصاف بالصّفات الظّلمانيّة، من قبيل الكذب والظّلم والجفاء والتّعلق بالشّؤون
الدّنيويّة، والاستغراق في الهواجس الشّيطانيّة، كلّ ذلك يعتبرونه أعظم عذاب وأشدّ عقاب.
أمّا المكافأة الأخرويّة الّتي هي الحياة الأبدية المصرّح بها في جميع الكتب السّماويّة، هي تلك الكمالات الإلهيّة والمواهب الأبديّة والسّعادة السّرمديّة، فالمكافأة الأخرويّة هي الكمالات والنّعم الّتي تحصل في العوالم الرّوحانيّة بعد العروج من هذا العالم.
أمّا المكافأة الوجوديّة فهي الكماٍلات الحقيقيّة النّورانيّة الّتي تتحقق في هذا العالم، وتكون سبب الحياة الأبديّة، لأنّ المكافأة الوجوديّة هي رقيّ نفس الوجود، مثالها الإنسان الذّي ينتقل من عالم النّطفة إلى مقام البلوغ فيصير مظهر "فتبارك الله أحسن الخالقين". والمكافأة الأخرويّة هي نعم وألطاف روحانيّة مثل أنواع النّعم الرّوحانيّة في الملكوت الإلهيّ، والحصول على أمنيات القلب والرّوح ولقاء الرّحمن في العالم الأبديّ، وكذلك المجازاة الأخرويّة يعني العذاب الأخرويّ وهو الحرمان من العنايات الخاصّة الإلهيّة والمواهب الّتي لا ريب فيها، والسّقوط في أسفل الدّركات الوجوديّة، وكلّ نفس حرمت من هذه الالطاف الإلهيّة وإن تكن باقية بعد الموت ولكنّها عند أهل الحقيقة في عداد الأموات.
وأمّا الدّليل العقلي على بقاء الرّوح هو أنّه ليس للشّيء المعدوم آثار يعني لا يمكن أن تظهر آثار من العدم الصّرف. لأنّ الآثار فرع الوجود والفرع مشروط وجوده بوجود الأصل، مثلاً لا تسطع من الشّمس المعدومة أشعّة، ولا يظهر من البحر المعدوم أمواج، ولا ينزل المطر من سحاب معدوم، ولا يأتي ثمر من شجر معدوم، ولا يكون
ظهور ولا أثر لشخص معدوم، إذاً ما دامت آثار الوجود ظاهرة فهي دليل على أنّ صاحب الأثر موجود.
لاحظوا أنّ سلطنة المسيح موجودة إلى الآن فكيف إذاً تظهر من سلطان معدوم سلطنة بهذه العظمة، وكيف تعلو إلى الأوج أمواج كهذه من بحر معدوم، وكيف تنتشر نفحات قدسيّة كهذه من حديقة معدومة، ولاحظوا أيضاً أنّه لا يبقى أثر ولا حكم ولا تأثير لأيّ كائن بمجرّد تلاشي الأعضاء وتحليل التّركيب العنصريّ، سواء أكان من الجماد أو النّبات والحيوان إلاّ الحقيقة الإنسانيّة والرّوح البشريّ، فإنّه تبقى وتستديم آثاره ونفوذه وتصرّفه بعد تفريق الأعضاء وتشتّت الأجزاء وتحليل التّركيب ، فهذه المسألة دقيقة جدّاً فأنعموا فيها النّظر، هذا هو الدّليل العقليّ الذّي بيّنّاه حتّى يزنه العقلاء بميزان العقل والإنصاف، أمّا لو استبشر الرّوح الإنسانيّ وانجذب إلى الملكوت وانفتحت بصيرته وتقوّى سمعه الرّوحاني وتملّكه الإحساس الرّوحاني، فإنه يشاهد بقاء الرّوح كما يشاهد الشّمس، وتحيطه البشارات والإشارات الإلهيّة، وسنتكلّم غداً عن الدّلائل الأخرى.
(58)كنّا نبحث بالأمس في موضوع خلود الرّوح ، فاعلم أنّ تصرف الرّوح الإنسانيّ وإدراكه على نوعين، يعني له نوعان من الأفعال ونوعان من الإدراك، نوع يكون بواسطة الأعضاء فهو يرى بهذه العين،
ويسمع بهذه الأذن، ويتكلّم بهذا اللّسان، فهذه أعمال الرّوح وإدراكات الحقيقة الإنسانيّة ولكنّها بواسطة الأعضاء، يعني أنّ الرّائي هو الرّوح ولكنّ الرّؤية بواسطة العين، والسّامع هو الرّوح ولكن بواسطة الأذن والنّاطق هو الرّوح ولكن بواسطة اللّسان.
والنّوع الآخر من تصرّفات الرّوح وأعمالها يكون بدون الأعضاء مثلاً وهو في حال النّوم يرى بدون عين، ويسمع بدون أذن، ويتكلّم بغير لسان، ويمشي بغير قدم، وبالجملة فهذه التّصرّفات بدون واسطة الأعضاء، وكثيراً ما يرى في منامه ما يتحقّق حدوثه بعد عام، وكذلك كثيراً ما يتعذّر عليه حلّ مسألة في عالم اليقظة، ثمّ تحلّ في عالم الرّؤيا، فالعين لا ترى إلاّ المسافة القصيرة في عالم اليقظة، ولكنّ الإنسان في عالم الرّؤيا يرى الغرب وهو في الشّرق، ويرى في عالم اليقظة الحال وفي عالم النّوم يرى المستقبل، ونهاية ما يطويه بالوسائط السّريعة في عالم اليقظة عشرين فرسخاً في السّاعة، ولكنّه في عالم النّوم يطوي الشّرق والغرب في طرفة عين، لأنّ سير الرّوح على نوعين، سير من غير واسطة وهو السّير الرّوحانيّ، وسير بالواسطة وهو السّير الجسمانيّ، كسير الطّيور الّتي تطير والطّيور المحمولة الّتي تتحرّك بواسطة حامل، وأمّا في وقت النّوم فالجسد يكون كالميّت لا يرى ولا يسمع ولا يحسّ ولا يشعر ولا يدرك، يعني تتعطّل القوى الإنسانيّة، ولكنّ الرّوح حيّ باقٍ، وهو في هذه الحال أكثر نفوذاً وطيراناً وإدراكاً، فمثل قولنا بفناء الرّوح بعد موت الجسد كمثل تصوّرنا بهلاك طير بسبب تكسّر قفصه مع أنّ الطّير لا يهمّه تكسير القفص، وهذا الجسد كالقفص والرّوح كالطّير.
ونحن نلاحظ أنّ لهذا الطّير (أي طير الرّوح )، طيراناً في عالم النّوم
بدون هذا القفص، إذاً لو كسر القفص فالطّير باقٍ ومستقرّ، بل إنّ إحساس ذلك الطّير يزيد وادراكاته تتوسّع وابتهاجه يزداد، وفي الحقيقة إنّه ينتقل من الجحيم إلى جنّة النّعيم، لأنّه ليس للطّير الشّكور جنة أعظم من إطلاقه من القفص، وهذا هو سبب هرع الشّهداء بنهاية الطّرب والسّرور إلى ميدان الفداء، وكذلك فإنّ نهاية ما ترى عين الإنسان في عالم اليقظة مسافة سير ساعة واحدة، لأنّ هذا هو مقدار تصرّف الرّوح بواسطة الجسد، ولكنّها بعين البصيرة والعقل ترى أمريكا وتدرك أنحاءها، وتكتشف أحوالها وتدّبر أمورها، بينما لو كان الرّوح عين الجسد للزم أن تكون قوّة بصيرتها محدودة بذلك أيضاً.
إذاً تبيّن أنّ الرّوح غير هذا الجسد، وأنّ الطّير غير القفص وأنّ نفوذ الرّوح وقوّته بدون واسطة الجسد أشدّ، من أجل هذا لو تعطّلت الآلة فصاحبها مستمرّ في العمل، مثلاً لو انكسر القلم وتعطّل فالكاتب حيّ حاضر، ولو انهدم البيت فصاحبه باقٍ مستقرّ، هذا من جملة البراهين العقليّة على بقاء الرّوح ، وهناك دليل آخر، هذا الجسد يضعف ويسمن ويمرض ويصحّ ويتعب ويستريح، بل أحياناً تقطع اليد والرّجل وتختلّ القوى الجسمانيّة، فالعين تعمى والأذن تصمّ واللّسان يبكم والأعضاء تبلى بمرض الفلج، وبالاختصار فقد ينتقص الجسد بالكلّيّة والرّوح باقٍ مستديم على حاله الأصليّة وادراكاته الرّوحانيّة لا يعتريها نقص ولا اختلال، ولكن حينما يبتلى الجسد كلّه بالأمراض والعاهات يحرم من فيض الرّوح ، كالمرآة عند تكسّرها أو عندما تتغبّر لا ينعكس شعاع الشّمس فيها، ولا يظهر فيضها.
وقد سبق وأنْ بيّنّا أنّ الرّوح الإنسانيّ ليس بداخل الجسد، لأنّه مجرّد ومقدّس عن الدّخول والخروج اللّذين هما من شأن الأجسام،
بل تعلّق الرّوح بالجسد كتعلّق الشّمس بالمرآة، والخلاصة أنّ الرّوح الإنسانيّ بحال واحدة، لا تمرض بمرض الجسد، ولا تصحّ بصحّة الجسد، فلا تصير عليلة ولا ضعيفة، لا ذليلة ولا حقيرة، لا خفيفة ولا صغيرة، يعني لا يعتري الرّوح أيّ خلل ولا تتأثّر بسبب فتور الجسد ولو صار الجسد سقيماً ضعيفاً وقطعت الأيدي والأرجل والألسن واختلّت قوّة السّمع والبصر.
إذاً اتّضح وتحقّق أنّ الرّوح غير الجسد، وبقاؤه ليس مشروطاً ببقاء الجسد، بل الرّوح في نهاية العظمة له سلطان في عالم الجسد، ويتجلّى نفوذه واقتداره كما يتجلّى ويظهر فيض الشّمس في المرآة. فإذا انكسرت المرآة أو تغبّرت حرمت من أشعّة الشّمس.
(59)اعلم أنّ مراتب الوجود محدودة، وهي مرتبة العبوديّة ومرتبة النّبوّة ومرتبة الرّبوبيّة. ولكنّ الكمالات الإلهيّة والإمكانيّة غير متناهية، ولو أمعنت النّظر لرأيت أنّ كمالات الوجود أيضاً غير متناهية حسب الظّاهر العيان، أنّك لا تجد كائناً من الكائنات يكون كاملاً بحيث لا تستطيع أن تتصوّر كائناً أكمل منه، مثلاً لا يمكنك أن ترى ياقوتة في عالم الجماد أو وردة في عالم النّبات أو بلبلاً في عالم الحيوان دون أن تتصوّر أنّ هناك أحسن منها.
ولما كان الفيض الإلهيّ غير متناهٍ فالكمالات الإنسانيّة غير متناهية، ولو كان للكمال نهاية لوصلت حقيقة من حقائق الأشياء إلى درجة
تستغني فيها عن الحقّ، ولأصبح الممكن واجباً، ولكن لكلّ كائن من الكائنات رتبة لا يمكنه أن يتجاوزها، يعني أنّ الذّي في رتبة العبوديّة مهما ترقّى في تحصيل الكمالات الّتي لا تتناهى فإنّه لن يصل إلى رتبة الرّبوبيّة، وكذلك الأمر في الكائنات، فالجماد مهما ترقّى في عالم الجماد لن ينال القوّة النّامية، وكذلك هذا الورد مهما ترقّى في عالم النّبات لا تظهر فيه القوّة الحساسّة، مثلاً معدن الفضّة هذا لا يمكن أن يحصل على سمع ولا على بصر، وأقصى ما يصل إليه هو أن يترقّى في رتبته ويصير معدناً كاملاً، فلا ينال قوّة النّموّ أو قوّة الحسّ أو الرّوح، ولا يمكن أن يحصل عليها، بل إنّه يترقّى في رتبته فقط، فمثلاً إنّ بطرس لا يمكنه أن يصل إلى رتبة المسيح، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه هو أن يحصل على كمالات لا تتناهى في مراتب العبوديّة، لهذا فكلّ حقيقة موجودة قابلة للتّرقّي، وحيث أنّ الرّوح الإنسانيّ له حياة أبديّة بعد مفارقة هذا الجسد العنصريّ، فلا شكّ أنّ كلّ موجود قابل للتّرقّي، ولهذا فإنّه يجوز طلب العفو والتّرقّي والعناية والمبرّات والفيوضات للإنسان بعد وفاته، لأنّ الوجود قابل للتّرقّي، ولهذا ورد في مناجاة حضرة بهاء الله طلب العفو والغفران للّذين صعدوا، وفضلاً عن هذا فكما أنّ الخلق في هذا العالم محتاج إلى الحقّ فهو أيضاً محتاج في ذلك العالم، فالخلق في احتياج دائم والحقّ هو الغنيّ المطلق سواء في هذا العالم أو في الآخرة، والغنى في العالم الأخرويّ هو التّقرّب إلى الحقّ، ففي هذه الحال تجوز الشّفاعة يقيناً للمقرّبين لدى باب الأحديّة، وهذه الشّفاعة مقبولة لدى الحقّ، ولكنّ الشّفاعة في ذلك العالم لا تشبه الشّفاعة في هذا العالم بل هي كيفيّة أخرى لا يمكن التّعبير عنها.
فلو وصّى إنسان غنيّ وقت وفاته بإعانة الفقراء والضّعفاء وإنفاق مبلغ من ثروته عليهم، فمن الممكن أن يكون هذا العمل سبب العفو والغفران والتّرقّي في ملكوت الرّحمن، وكذلك إنّ الأب والأمّ يتحمّلان من أجل أولادهما نهاية التّعب والمشقّة وحينما يصل الأولاد في الغالب إلى سنّ الرّشد ينتقل آباؤهم وأمّهاتهم إلى العالم الآخر، ويندر أن يرى الآباء والأمّهات مكافأة من أولادهم مقابل مشقّاتهم وأتعابهم في الدّنيا، فيجب إذاً على الأولاد المبادرة بالخيرات والمبرات مقابل مشقّات الأبوين وأتعابهما، والتماس العفو والغفران لهما، مثلاً يجب عليك أن تنفق على الفقراء في مقابل محبّة والدك وشفقته، وتطلب له العفو والغفران والرّحمة الكبرى بكمال التّضرّع والابتهال، وحتّى يمكن للّذين ماتوا في المعصية وعدم الإيمان أن تتغيّر حالهم، يعني يصبحون مظاهر الغفران وهذا بفضل الله لا بعدله، لأنّ الفضل إعطاء بدون استحقاق والعدل إعطاء باستحقاق.
فكما أنّنا نقدر أن ندعو ههنا لهذه النّفوس في هذا العالم، كذلك لنا مثل هذه القدرة في العالم الآخر أي في عالم الملكوت، أوليس الخلق في ذلك العالم خلق الله؟ إذاً فهم في ذلك العالم يستطيعون أن يترقّوا، وكما أنهم يستطيعون أن يقتبسوا الأنوار بالتّضرّع في هذا العالم، فكذلك يمكنهم أن يلتمسوا الغفران ويقتبسوا الأنوار في ذلك العالم بالتّضرّع والابتهال.
إذاً لما كان حصول التّرقّي ممكناً للنّفوس في هذا العالم بواسطة التّضرّع والابتهال أو بدعاء المقدّسين، فكذلك بعد الموت أيضاً يمكنهم التّرقّي بواسطة دعائهم وابتهالهم، ولا سيّما إذا كانت الشّفاعة من المظاهر المقدّسة.
(60)اعلم أنّ كلّ موجود لا يثبت على حال واحدة، يعني أنّ جميع الأشياء متحرّكة وكلّ شيء سائر إمّا إلى النّمو وإمّا إلى الاضمحلال، فجميع الأشياء إمّا أن تأتي من العدم إلى الوجود أو تذهب من الوجود إلى العدم، مثلاً هذا الورد وهذا السّنبل استغرقا زمناً ليظهرا من العدم إلى الوجود، والآن قد أخذا في الذّهاب من الوجود إلى العدم، فهذه الحركة يقال لها حركة جوهريّة يعني طبيعيّة، ولا تنفكّ هذه الحركة عن الكائنات لأنّها من مقتضياتها الذّاتية كالإحراق فهو من المقتضيات الذّاتية للنّار، إذاً ثبت أنّ الحركة ملازمة للوجود، وهي إمّا إلى السّموّ أو إلى الدّنوّ، وعلى هذا لمّا كان الرّوح باقياً بعد الصّعود فلا بدّ وأن يكون سائراً إمّا إلى السّموّ أو إلى الدّنوّ، وعدم السّموّ في ذلك العالم هو عين الدّنوّ، ولكنّه لا يتجاوز رتبته بل إنّما يترقّى في الرّتبة نفسها، مثلاً إنّ روح حقيقة بطرس مهما تترقّى فإنّها لا تصل إلى رتبة حقيقة حضرة المسيح، بل إنّها تترقّى في دائرتها، كما تلاحظ أنّ هذا الجماد مهما ترقّى فإنّ ترقّيه لا تتعدّى رتبته، فإنّك لا تستطيع أن تصل بهذا البلّور إلى درجة يكون فيها مبصراً، فذلك مستحيل وغير ممكن، ومثلاً هذا القمر السّماويّ مهما ترقّى لا يكون شمساً نورانيّة، فأوجه وحضيضه في مداره، فالحواريّون مهما ترقّوا لم يكن باستطاعتهم أن يبلغوا مكانة المسيح، نعم يمكن أن يصير الفحم ماساً ولكن كليهما موجود في الرّتبة الحجريّة وأجزاء تركيبهما واحدة.
(61)إنّنا إذا نظرنا إلى الكائنات بعين البصيرة نجد أنّها تنحصر في ثلاثة أقسام، وهي ككلّ إمّا جماد وإمّا نبات وإمّا حيوان، فهي ثلاثة أجناس ولكلّ جنس أنواع والإنسان نوع ممتاز، لأنّه حائز لكمالات جميع الأجناس، يعني له جسم وله نموّ وله حسّ، ومع وجود الكمال الجماديّ والنّباتيّ والحيوانيّ فله كمال مخصوص محروم منه سائر الكائنات وهي الكمالات العقليّة، وإذاً فالإنسان أشرف الموجودات، وهو في نهاية المرتبة الجسمانيّة وبداية مرتبة الرّوحانيّات، يعني نهاية النّقص وبداية الكمال، في نهاية مرتبة الظّلمة وبداية مرتبة النّورانيّة، لهذا قالوا إنّ مقام الإنسان نهاية اللّيل وبداية النّهار، يعني جامع لمراتب النّقص حائز لمراتب الكمال، فله جانب حيوانيّ وجانب ملاكيّ، والمقصود من المربّي هو أن يربّي النّفوس البشريّة حتّى يتغلّب الجانب الملاكيّ على الجانب الحيوانيّ، فلو تتغلّب القوى الرّحمانيّة في الإنسان الّتي هي عين الكمال على القوى الشّيطانيّة الّتي هي عين النّقص لهو أشرف الموجودات، وفي حال تغلّب القوى الشّيطانيّة على القوى الرّحمانيّة يتحوّل إلى أسفل الموجودات، ولذا فهو في نهاية النّقص وبداية الكمال.
ولا يوجد تفاوت وتباين وتضادّ وتخالف بين أيّ نوع من أنواع الموجودات كما هو في نوع الإنسان. فأنوار الألوهيّة تتجلّى على البشر مثلما تجلّت في المسيح، ففي هذه الحالة نرى مدى عزّة الإنسان وشرفه، وكذلك نرى الإنسان يعبد الحجر والمدر والشّجر، فانظروا في هذه الحالة ما أذلّ الإنسان حيث أنّه يعبد أحطّ الموجودات
يعني الحجارة والطّين والجبل والغابة والشّجر وكلّها لا روح لها، فأيّ ذلّة أعظم من أن يصير أحطّ الموجودات معبود الإنسان، فالعلم صفة الإنسان وكذلك الجهل، والصّدق صفة الإنسان وكذلك الكذب، والأمانة صفة الإنسان وكذلك الخيانة، والعدل صفة الإنسان وكذلك الظّلم، وقس على ذلك.
وبالاختصار فجميع الكمالات والفضائل صفات للإنسان وكذلك الرّذائل، انظروا أيضاً إلى التّفاوت بين أفراد النّوع الإنسانيّ، فقد كان حضرة المسيح في صورة البشر وقيافا في صورة البشر، وحضرة موسى كان إنساناً وفرعون كان إنساناً، وهابيل كان إنساناً وقابيل كان إنساناً، وحضرة بهاء الله كان إنساناً ويحيى5 كان إنساناً، من أجل هذا يقال إنّ الإنسان هو الآية الإلهيّة الكبرى يعني هو كتاب التّكوين، لأنّ جميع أسرار الكائنات موجودة في الإنسان، إذاً لو تربّى في ظلّ المربّي الحقيقيّ يصير جوهر الجواهر ونور الأنوار وروح الأرواح، ومركز السّنوحات الرّحمانية ومصدر الصّفات الرّوحانيّة ومشرق الأنوار الملكوتيّة ومهبط الإلهامات الرّبانيّة، أمّا لو حرم فإنّه يكون مظهر الصّفات الشّيطانيّة وجامع الرّذائل الحيوانيّة ومصدر الشّؤون الظّلمانيّة، هذا هو حكمة بعثة الأنبياء لتربية البشر حتّى يصير هذا الفحم الحجريّ ماساً، ويتطعّم هذا الشّجر غير المثمر فيعطي فاكهة في نهاية الحلاوة واللّطافة، وحينما يصل الإنسان إلى أشرف مقامات العالم الإنسانيّ فعندئذ يترقّى في درجات الكمالات لا في الرّتبة، لأنّ المراتب محدودة ولكنّ الكمالات الإلهيّة لا تتناهى، وللإنسان ترقٍّ في الكمالات لا في الرّتبة سواء قبل مفارقة هذا القالب العنصريّ أو بعده، مثلاً إنّ الكائنات تنتهي إلى الإنسان الكامل، ولا يوجد موجود آخر أعلى منه، ولكنّ
الإنسان الذّي وصل إلى الرّتبة الإنسانيّة له التّرقّي بعد ذلك في الكمالات لا في الرّتبة، لأنّه لا توجد رتبة أعلى من رتبة الإنسان الكامل حتّى ينتقل إليها فله التّرقّي فقط في الرّتبة الإنسانيّة، لأنّ الكمالات الإنسانيّة غير متناهية، مثلاً مهما كان إنسان عالماً فإنّه يتصوّر وجود من هو أعلم منه، وحيث أنّ الكمالات الإنسانيّة غير متناهية فبعد الصّعود من هذا العالم يمكنه أن يترقّى أيضاً في الكمالات.
(62)السّؤال: جاء في الكتاب الأقدس "إنّه من أهل الضّلال ولو يأتي بكلّ الأعمال"، فما معنى هذه الآية؟
الجواب: المقصود من هذه الآية المباركة أنّ أساس الفوز والفلاح هو عرفان الله – وهو أصل – وبعد معرفة الله تكون الأعمال الصّالحة الّتي هي ثمرّة الإيمان – وهي فرع – ولولا العرفان لاحتجب الإنسان عن الحقّ، وإذا احتجب فليس للأعمال الصّالحة ثمرها التّامّ المطلوب.
والمقصود من هذه الآية أنّ النّفوس المحتجبة عن الحقّ متساوية مهما كان عملها صالحاً أم طالحاً، والمراد هو أنّ عرفان الحقّ أصل وأنّ الأعمال فرع، ومع ذلك فلا بدّ من وجود فرق بين الصّالح والطّالح من المحتجبين، لأنّ المحتجب الذّي حسنت أخلاقه وأعماله لائق لأن يغفر
الله له، أمّا المحتجب المذنب الذّي ساءت أخلاقه وأعماله فمحروم من فضل الله وموهبته وذلك هو الفرق.
إذاً فالمقصود من الآية المباركة هو أنّ مجرد الأعمال الخيريّة بدون معرفة الله لا يكون سبب النّجاة الأبديّة والفوز والفلاح السّرمديّين أو الدّخول في ملكوت الله.
(63)السّؤال: بماذا تقوم النّفس النّاطقة بعد مفارقة الأجساد وصعود الأرواح؟ ولنفرض أنّ النّفوس المؤيّدة بفيوضات روح القدس تقوم بالوجود الحقيقيّ والحياة الأبديّة. فبماذا تقوم النّفس النّاطقة للأرواح المحتجبة؟
الجواب: يظنّ البعض أنّ الجسد جوهر وأنّه قائم بالذّات، والرّوح عرض وأنّها قائمة بجوهر البدن، بينما أنّ النّفس النّاطقة هي الجوهر والجسد قائم بها، فلو تلاشى العرض أي الجسم فجوهر الرّوح باق.
ثانياً إنّ النّفس النّاطقة أي الرّوح الإنسانيّة ليس لها قيام حلوليّ بهذا الجسد، يعني ليست بداخل هذا الجسد لأنّ الحلول والدّخول من خصائص الأجسام والنّفس النّاطقة مجرّدة عن ذلك، وما كانت في الأصل داخلة في هذا الجسد حتّى تحتاج بعد خروجها إلى مقرّ، بل كان للرّوح تعلّق بالجسد كتعلّق هذا السّراج بالمرآة، فحينما يكمل صفاء المرآة يسطع نور السّراج فيها ويظهر، وإذا تغبّرت المرآة أو
انكسرت يختفي النّور، فالنّفس النّاطقة في الأصل أي الرّوح الإنسانيّ لم تكن حالَّة في هذا الجسد ولم تكن قائمة به حتّى تحتاج بعد تحليل هذا التّركيب الجسديّ إلى جوهر تقوم به، بل إنّ النّفس النّاطقة هي الجوهر والجسد قائم به، فالنّفس النّاطقة لها شخصيّة من الأصل ولم تحصل بواسطة هذا الجسد، وغاية ما هنالك أنّ تعيّنات النّفس النّاطقة وتشخّصاتها في هذا العالم تتقوّى وتترقّى وتحصل على مراتب الكمال، أو أنّها تظلّ في أسفل دركات الجهل محجوبة محرومة عن مشاهدة آيات الله.
***السّؤال: ما هي الواسطة الّتي تترقّى بها الرّوح الإنسانيّ أي النّفس النّاطقة بعد صعودها من هذا العالم الفاني؟
الجواب: يحصل التّرقّي للرّوح الإنسانيّ بعد قطع علاقته من الجسد التّرابيّ في العالم الإلهيّ إمّا بالفضل الصّرف والموهبة الرّبانيّة أو بطلب المغفرة والأدعية الخيرية من سائر النّفوس الإنسانيّة أو بسبب الخيرات والمبرّات العظيمة الّتي تجري باسمه.
(64)السّؤال: كيف تكون حالة الأطفال الّذين يصعدون قبل البلوغ أو يسقطون من الرّحم قبل الميعاد؟
الجواب: هؤلاء الأطفال هم في ظلّ فضل الله، وحيث أنّه لم تظهر منهم سيّئات ولم يتلوّثوا بأوساخ عالم الطّبيعة، لهذا فهم مظاهر الفضل وتشملهم لحظات الأعين الرّحمانيّة.
(65)إنّك تسأل عن الحياة الأبديّة والدّخول في الملكوت، والجواب إنّ الملكوت في الاصطلاح الظّاهريّ يقال له السّماء لكنّ هذا تعبير وتشبيه لا حقيقة ولا واقع، لأنّ الملكوت ليس بمكان ولا جسم بلّ هو مقدّس عن الزّمان والمكان، هو عالم روحانيّ وعالم رحمانيّ ومركز السّلطنة الإلهيّة ومجرّد عن الجسم والجسمانيّات ومنزّه مقدّس عن أوهام عالم الإنسان، لأنّ التّحديد في المكان من خصائص الأجسام لا الأرواح. والمكان والزّمان محيطان بالجسد لا بالعقل والرّوح.
فانظروا إنّ جسم الإنسان له مكان في موضع صغير يشغل شبرين من الأرض لا أكثر من ذلك، ولكنّ الرّوح والعقل الإنسانيّ يسير في جميع الممالك والأقاليم، بل في هذا الفضاء السّماويّ الذّي لا يتناهى، ومحيط بكلّ ما في الكون، ويكتشف ما في الطّبقات العليا وما كان على بعد لا يتناهى، ذلك لأنّ الرّوح ليس لها حيّز ولا مكان، والأرض والسّماء بالنّسبة للرّوح على حدّ سواء، لأنّ لها في كليهما اكتشافات ولكنّ الجسم محصور في مكان ولا علم له بما سواه.
وأمّا الحياة فهي على قسمين: حياة الجسم وحياة الرّوح، أمّا الحياة الجسمانيّة فهي عبارة عن حياة الجسد، وأمّا حياة الرّوح فهي
عبارة عن الحياة الملكوتيّة، والوجود الملكوتيّ هو الاستفاضة من الرّوح الإلهيّ وهو الانتعاش من نفحات روح القدس، فالحياة الجسمانيّة وإن كان لها وجود غير أنّها عند المقدّسين الرّوحانيّين عدم صرف وموت مطلق، مثلاً إنّ الإنسان موجود وهذا الحجر أيضاً موجود، ولكن أين وجود الإنسان من وجود هذا الحجر؟ فالحجر وإن كان موجوداً ولكنّ وجوده عدم بالنّسبة لوجود الإنسان، والمقصود من الحياة الأبديّة هو الاستفاضة من فيض الرّوح القدس كما يستفيض الورد من فصل الرّبيع الجديد ونسماته ونفحاته. فانظروا إنّ هذا الورد كان في الأوّل له حياة وكانت الحياة جماديّة، لكنّه نال حياة جديدة حينما قدم موسم الرّبيع وفاضت سحائبه وأشرقت شمسه النّورانيّة بحرارتها فأصبح عطراً في نهاية الطّراوة واللّطافة، فحياة هذا الورد الأولى بالنّسبة إلى الحياة الثّانيّة هي ممات.
والمقصد أنّ الحياة الملكوتيّة هي حياة الرّوح وهي حياة أبديّة منزهة عن الزّمان والمكان كالرّوح الإنسانيّة الّتي لا مكان لها، لأنّك لو بحثت في جسم الإنسان ما وجدت للرّوح مكاناً ولا موقعاً خاصاً، لأنّ الرّوح مجرّدة لا مكان لها أبداً، لكن لها تعلّق بهذا الجسم كتعلّق هذه الشّمس بهذه المرآة، فليس للشّمس مكان بالمرآة ولكن لها تعلّق بها، فعالم الملكوت على هذا المنوال مقدّس عن كلّ ما يرى بالعين أو يدرك بغيرها من الحواس كالسّمع والشّم والذّوق واللّمس، فهذا العقل الموجود والمسلّم بوجوده في الإنسان أين مكانه من جسمه؟ إنّك لو بحثت في جسم الإنسان بالعين والسّمع وسائر الحواس لا تجد شيئاً بينما هو موجود، إذاً ليس للعقل مكان ولكن له علاقة بالمخّ، فكذلك الملكوت، والمحبّة أيضاً لا مكان لها بل لها تعلّق بالقلب، وكذلك الملكوت ليس
له مكان بل له تعلّق بالإنسان، أمّا الدّخول في الملكوت فهو بمحبّة الله والانقطاع والتّقديس والتّنزيه، ويكون بالصّدق والصّفاء والوفاء والاستقامة والتّضحية.
إذاً اتضح من هذه البيانات أنّ الإنسان باقٍ وحيّ أبديّ، لكنّ هؤلاء الذّين هم مؤمنون بالله ويحبّون الله ويوقنون به فحياتهم طيّبة يعني أبديّة. أمّا تلك النّفوس المحتجبة عن الحقّ مع أنّ لهم حياة لكنّها حياة ظلمانيّة وبالنّسبة لحياة المؤمنين عدم، مثلاً إنّ العين حيّة والظّفر أيضاً حيّ ولكنّ حياة الظّفر بالنّسبة لحياة العين عدم، وهذا الحجر له وجود والإنسان أيضاً له وجود، ولكنّ وجود الحجر بالنّسبة لوجود الإنسان عدم وليس له وجود، لأنّه إذا توفي الإنسان وتلاشى جسمه وصار معدوماً فإنّه يصير جماداً كالحجر والتّراب، إذاً صار من الواضح أنّ الوجود الجماديّ وإن كان وجوداً ولكنّه عدم بالنّسبة إلى الوجود الإنسانيّ، وكذلك النّفوس المحتجبة عن الحقّ وإن كان لها من وجود في هذا العالم وفي العالم الأخرويّ ولكنّهم معدومون ومفقودون بالنّسبة للوجود القدسيّ الحائزين به أبناء ملكوت الله.
(66)السّؤال: هل القضاء المذكور في الكتب الإلهيّة أمر محتوم وإذا كان أمراً محتوماً فما فائدة الاحتراز منه؟
الجواب: القضاء قسمين: أحدهما محتوم والآخر مشروط والذّي يقال له معلّق، فالقضاء المحتوم هو الذّي لا تغيير له ولا تبديل، والقضاء
المشروط هو ممكن الوقوع، مثلاً القضاء المحتوم في هذا المصباح أن يحترق الدّهن وينتهي، وإذاً يكون انطفاؤه محتوماً لا يمكن التّغيير ولا التّبديل لأنّه قضاء محتوم، وكذلك خلقت قوّة في هيكل الإنسان ولمّا تزول تلك القوّة وتنتهي لا شكّ أنّه يتلاشى كالدّهن الموجود في هذا السّراج حينما يحترق ينطفئ يقيناً. وأمّا القضاء المشروط فهو كإطفاء السّراج بهبوب ريح شديدة مع بقاء الدّهن، هذا هو القضاء المشروط فالاحتراز واليقظة والمحافظة والاحتياط من هذا مثمر ومفيد.
أمّا القضاء المحتوم الذّي هو كانطفاء السّراج عند إنتهاء دهنه فإنّ هذا لا يقبل التّغيير ولا التّبديل ولا التّأخير، ولا بدّ من أن يقع وأن ينطفئ السّراج حتماً.
(67)السّؤال: هل لهذه النّجوم السّماوية تأثيرات معنويّة في النّفوس الإنسانيّة أم لا؟
الجواب: إنّ لبعض الكواكب السّماويّة على الأرض والكائنات الأرضيّة تأثيراً مادّيّاً واضحاً مشهوداً لا يحتاج إلى بيان، فانظروا إنّ الشّمس بعون الحقّ وعنايته تربّي الأرض وجميع الكائنات الأرضيّة، فلولا ضياء الشّمس وحرارتها لانعدمت الكائنات الأرضيّة بالكلّيّة، أمّا التّأثيرات المعنويّة فهي وإن كانت تبدو كشيء عجيب مستغرب إلاّ أنّك لو دقّقت النّظر في هذه المسألة فإنّك لا تعجب كثيراً، وليس المقصود أنّ المنجّمين السّابقين الذّين استنبطوا أحكاماً من حركات النّجوم
كانت أحكامهم مطابقة للواقع، لأنّ أحكام تلك الطّوائف من المنجّمين السّابقين كانت ضرباً من الأوهام أوجدها كهنة المصريّين والآشوريّين والكلدانيّين، بل كانت أوهام الهند وخرافات اليونان والرّومان وسائر عبَّاد الكواكب، والمقصود أنّ هذا العالم الذّي لا يتناهى كهيكل الإنسان وجميع أجزائه مرتبط بعضها ببعض ومتسلسلة في نهاية الإتقان، يعني كما أنّ أعضاء هيكل الإنسان وأركانه وأجزاءه ممتزجة متعاونة ومتعاضدة ومتأثّر بعضها ببعض كذلك أجزاء هذا الكون الذّي لا يتناهى كالهيكل الإنسانيّ أعضاؤه وأجزاؤه مرتبط بعضها مع بعض ومتأثّر بعضها ببعض معنىً وجسماً، مثلاً العين تنظر فيتأثّر جميع الجسم والأذن تسمع فتهتزّ جميع الأركان، وليس في هذه المسألة شبهة، لأنّ عالم الوجود أيضاً كالشّخص الحيّ، فالارتباط الذّي بين أجزاء الكائنات من لوازمه التّأثير والتّأثر سواء أكان ذلك جسمانيّاً أو معنويّاً، ولنضرب هذا المثل المختصر للنّفوس المنكرة للتّأثيرات المعنويّة في الجسمانيّات هو أنّ الأصوات والألحان البديعة والغناء المطرب عرض يحمله الهواء لأنّ الصّوت عبارة عن التّموجات الهوائيّة ومن تموّج الهواء يتأثّر صماخ الأذن فيحصل الاستماع، فانظروا الآن إنّ التّموجات الهوائيّة الّتي هي عرض من الأعراض والّتي تعدّ عدماً تأتي بالجذب والوله لروح الإنسان، وتؤثّر فيها نهاية التّأثير فيضحك ويبكي بدرجة تؤدّي للخطر، إذاً لاحظوا ما هي المناسبة بين الرّوح الإنسانيّ والتّموجات الهوائيّة الّتي يسبّبها اهتزاز الهواء فيحوِّل الإنسان من حال إلى حال وينقلب انقلاباً كلّيّاً بحيث لا يبقى له صبر ولا قرار، فانظروا ما أعجب هذه القضيّة لأنّه ليس شيء يخرج من المغنّي ويدخل في المستمع ومع هذا تحصل تأثيرات عظيمة روحانيّة، إذاً لا بدّ لهذا الارتباط العظيم السّائد بين الكائنات من تأثيرات وتأثّرات كما سبق ذكرها في كيفيّة تأثّر وتأثير
الأجزاء والأعضاء الإنسانيّة بعضها ببعض، مثلاً العين تنظر والقلب يتأثّر، والأذن يصغي والرّوح تتأثّر والقلب يرتاح والفكر يتّسع وتحصل حالة نشاط لجميع أعضاء الإنسان، فما هذه الرّوابط وما هذه المناسبات وحيث يوجد هذا الارتباط والتّأثير والتّأثّرات المعنويّة بين أعضاء الجسم الإنسانيّ الّذي هو كائن من الكائنات الجزئيّة، فلا بدّ من وجود الارتباط الجسمانيّ والمعنويّ كليهما بين هذه الكائنات الكلّيّة الّتي لا تتناهى، وبالرّغم من أنّه لا يمكن بالقواعد الموجودة والفنون الحاضرة كشف هذه الرّوابط، إلا أنّ وجودها بين الكائنات الكلّيّة واضح ومسلّم به.
وخلاصة القول أنّ هذه الكائنات كلّيّة أم جزئيّة مرتبط بعضها ببعض بالحكمة البالغة الإلهيّة ومؤثّر ومتأثّر بعضها ببعض، ولولا ذلك لحصل اختلال وفتور في النّظام العامّ وفي التّرتيب الكلّيّ، وحيث أنّ هذه الكائنات مرتبط بعضها ببعض في نهاية الإتقان لهذا نجدها منظمة مرتّبة مكمّلة وهذه المسألة جديرة بالاستقصاء.
(68)السّؤال: هل الإنسان في جميع أعماله فاعل مختار أو مجبور وليس له اختيار؟
الجواب: إنّ هذه المسألة من أمّهات المسائل الإلهيّة وهي غامضة جدّاً وإن شاء الله في يوم آخر عند الابتداء بالغداء سنشرع في بيانها بالتّفصيل ومع هذا فلنتكلّم عنها الآن مختصراً في كلمات قليلة، وذلك
إنّ الأمور الّتي تدخل تحت اختيار الإنسان كالعدل والإنصاف والظّلم والاعتساف وبالاختصار أعمال الخير وأفعال الشّر، فمن الواضح المعلوم أنّ لإرادة الإنسان دخلاً عظيماً فيها، ولكن هناك أمور مجبول ومجبر عليها الإنسان كالنّوم والموت والتّعرض للأمراض وانحطاط القوى والضّرر والخسارة فهي ليست تحت إرادة الإنسان وهو غير مسؤول عنها لأنّه مجبر عليها.
وأمّا في أعمال الخير وأفعال الشّر فهو مخيّر فيها وتصدر عنه باختياره، مثلاً يمكنه أن يشتغل بذكر الله، أو إذا أراد أن يشتغل بذكر غيره، وفي استطاعته أن يكون شمعة موقدة من نار محبّة الله، ومن الميسّر له أن يكون محبّاً للعالم أو مبغضاً لبني آدم، أو يشتغل بحبّ الدّنيا أو يكون عادلاً أو ظالماً، فهذه الأعمال والأفعال تحت تصرّفه واختياره ولهذا فهو مسؤول عنها.
وهناك مسألة أخرى وهي أنّ البشر عجز صرف وفقر بحت، والقوّة والقدرة مختصّتان بالحضرة الأحدية، والعلوّ والدّنوّ متعلّقان بمشيئة وإرادة الله ذي الكبرياء، كما هو مذكور في الإنجيل أنّ الله كالفّخّاريّ يصنع كأساً عزيزاً وقدحاً ذليلاً فليس للإبريق الذّليل حقّ الاعتراض على الفخَّاريّ بقوله لماذا لم تصنعني كأساً عزيزاً تتناوبه الأيدي، والمقصود من هذه العبارة أنّ مقامات النّفوس مختلفة، فالذي في المقام الأدنى من الوجود كالجماد لا حقّ له في الاعتراض بقوله إلهي لماذا لم تعطني الكمالات النّباتيّة، وكذلك ليس للنّبات حق الاعتراض بقوله لماذا حرمتني من كمالات العالم الحيوانيّ، كذلك الحيوان لا يليق به أن يشكو من حرمانه من الكمالات الإنسانيّة، بل إنّ كلّ الأشياء كاملة في مراتبها ويجب عليها أن تتحرّى الكمالات في رتبتها فالكائنات الدّانية
كما سبق ليس لها الحقّ ولا الصّلاحيّة لمقام وكمالات ما هو أعلى منها، بل يجب عليها أن تطلب الكمال والرّقيّ في رتبتها، وكذلك سكون الإنسان وحركته يتوقّفان على تأييد الحضرة الأحديّة، وإذا انقطع عنه المدد الإلهيّ لما استطاع عمل الخير أو فعل الشّر، ولكن عندما يأتيه مدد الوجود من ربّ الجود فإنّه يستطيع أن يعمل الخير وأن يفعل الشّر كليهما، أمّا لو انقطع المدد يكون عاجزاً بالكلّيّة، هذا هو السّبب في ذكر أمر توفيق الباري وتأييده في الكتب المقدّسة، مثل هذا المقام مثل السّفينة تتحرّك بقوّة الرّياح والبخار، فإذا انقطعت هذه القوّة ما تحرّكت أبداً، ومع وجود هذا فحيثما يوجّهها السّكّان فإنّ قوّة البخار تدفعها إلى الاتّجاه المطلوب، فإن وجّهت إلى الشّرق تذهب إلى الشّرق وإن وجّهت إلى الغرب تذهب إلى الغرب، فهذه الحركة ليست من السّفينة بل من الرّياح والبخار، وكذلك جميع حركات الإنسان وسكناته مستمدّة من فيض الرّحمن، ولكنّ اختيار الخير أو الشّر راجع للإنسان.
وكذلك لو عيَّن الملك حاكماً لهذه المدينة وأعطاه السّلطة والنّفوذ وعلّمه طريق العدل والظّلم بموجب القانون، فلو ظلم هذا الحاكم – ولو أنّ ظلمه بقوّة الملك ونفوذه – فإنّ الملك لا يرضيه هذا الظّلم، ولو عدل كان ذلك بنفوذ الملك أيضاً، والملك يرضيه هذا ويسرّ به، والمقصود أنّ اختيار الخير والشّر راجع إلى الإنسان وفي كلّ الأحوال يتوقّف على مدد وجوديّ من الله القدير، فالسّلطنة الإلهيّة عظيمة والكلّ أسير في قبضة قدرته، والعبد لا قدرة له على أمر بإرادته، والله هو المقتدر القويّ وواهب القوّة لجميع الكائنات، فهذه المسألة صارت واضحة مشروحة والسّلام.
(69)السّؤال: يدّعي بعض النّاس أنّ لهم كشفيّات روحانيّة يعني أنّهم يتكلّمون مع الأرواح فكيف يكون هذا؟
الجواب: إنّ الاكتشافات الرّوحانيّة على قسمين: أحدهما أوهام وهو مصطلح سائر الأقوام، والآخر كالرّؤيا وله حقيقة مثل رؤيا إشعيا وإرميا ويوحنا، وهذه حقيقة، فانظروا إنّ للقوّة المفكِّرة في الإنسان نوعين من التّصوّر: نوع صحيح إذا اقترن بالتّصميم والتّنفيذ وذلك يتحقّق في الخارج كالتّدابير الصّائبة والآراء السّديدة والاكتشافات الفنيّة واختراع الصّنائع الجديدة، ونوع آخر من التّصوّرات وهو أفكار فاسدة وخيالات موهومة لا نتيجة لها ولا ثمر وليس لها حقيقة، بل هي تتموّج كأمواج بحر الأوهام وتذهب كأضغاث أحلام، وكذلك الكشفيّات الرّوحانيّة على قسمين: أحدهما رؤيا الأنبياء والاكتشافات الرّوحانيّة للأصفياء، فرؤيا الأنبياء ليست أحلاماً بل اكتشافات روحانيّة لها حقيقة، مثلاً يقول رأيت شخصاً في صورة كذا وقلت له كذا فأجاب بكذا، فهذه الرّؤيا في عالم اليقظة لا النّوم، هي اكتشافات روحانيّة لكن يعبّر عنها بالرّؤيا. والقسم الآخر من الكشفيّات الرّوحانيّة أوهام صرف، ولكنّ هذه الأوهام تتجسّم بكيفيّة يظنّ الكثير من السّذّج أنّ لها حقيقة، والدّليل الواضح على هذا أنّه لا توجد نتيجة ولا تثمر مطلقاً من تسخير الأرواح بل هو مجرّد حكاية و رواية.
واعلم أنّ الحقيقة الإنسانيّة محيطة بحقائق الأشياء وتكشف حقائق
الأشياء وخواصّها وأسرارها، فمثلاً كلّ هذه الصّنائع والبدائع والعلوم والمعارف كشفتها الحقيقة الإنسانيّة، وكانت هذه الفنون والعلوم والبدائع والصّنائع وقتاً ما سرّاً مكنوناً، ثمّ كشفتها الحقيقة الإنسانيّة بالتّدريج، وأتت بها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، إذاً ثبت أنّ الحقيقة الإنسانيّة محيطة بالأشياء لأنّها تكشف أمريكا وهي في أوروبا، وتكشف ما في السّماء وهي في الأرض، وهي كاشفة لأسرار الأشياء وواقفة على حقائق الموجودات، فهذه الكشفيّات الواقعيّة المطابقة للحقيقة هي كالرّؤيا الّتي هي إدراك روحانيّ وإلهام رحمانيّ وائتلاف الأرواح الإنسانيّة كما يقول هكذا رأيت وهكذا قلت وهكذا سمعت، إذاً تبيَّن أنّ للأرواح إدراكات عظيمة بدون وسائط الحواس الخمس كالعين والأذن ولها إدراكات روحانيّة ومكاشفات وجدانيّة وللرّوحانيّين اتّحاد مقدّس عن الوهم والقياس وتآلف منزّه عن الزّمان والمكان، مثلاً مذكور في الإنجيل أنّ موسى وإيليّا أتيا عند المسيح في جبل طابور فمن الواضح أنّ هذه الألفة لم تكن جسمانيّة بل كانت كيفيّة روحانيّة عبّر عنها بالملاقاة.
ونوع آخر من استحضار الأرواح ومحادثتها والمخابرة معها وهو أوهام وخيال صرف، ولكنّها تبدو كأنّها حقيقة، فعقل الإنسان وفكره يكتشف الحقائق أحياناً، وتوجد آثار ونتائج من ذلك الفكر والاكتشاف، فهذا الفكر له أساس ولكنّ أموراً كثيرة تمّر بخاطر الإنسان كأمواج البحر وهي أوهام، لا ثمر لها ولا تترتّب عليها نتيجة، وكذلك يرى الإنسان رؤيا في عالم النّوم فتظهر عياناً كما رأى، وآونة يحلم أحلاماً لا ثمر لها مطلقاً. والمقصود أنّ هذه الحال الّتي نسمّيها مخابرات الأرواح أو مخاطبات الأرواح على قسمين: أحدهما أوهام محضة والآخر عبارة
عن الرّؤى المذكورة في الكتاب المقدّس كرؤيا يوحنا وإشعيا، وكملاقاة المسيح مع موسى وإيليّا، فهذه لها حقيقة ولها آثار عجيبة في العقول والأفكار وانجذابات عظيمة في القلوب.
(70)السّؤال: كيف يشفي بعضهم المرضى بالوسائط الرّوحانيّة أي بدون دواء؟
الجواب: لقد سبق بيان هذه المسألة بالتّفصيل فإن كنت لم تلمّ بها فإنّا نعيد بيانها لتدركها تماماً، فاعلم أنّ العلاج والتّداوي بدون دواء على أربعة أقسام: قسمان بالأسباب المادّيّة وقسمان بالوسائل الرّوحانيّة، أمّا القسمان المادّيّان فأحدهما هو أنّ الصّحة والمرض قي الحقيقة لهما سريان بين البشر ولكليهما عدوى وانتقال، أمّا عدوى المرض فسريعة وشديدة ولكنّ انتقال الصّحّة بطيء جدّاً، فلو أنّ جسمين تماسّا فمن المؤكد أن تنتقل أجزاء المكروب من أحدهما إلى الآخر، وكما أنّ المرض ينتقل من جسد إلى آخر ويسري بسرعة شديدة، فربّما الصّحة التّامّة أيضاً في شخص صحيح تكون سبباً في تخفيف وطأة مرض بسيط جدّاً في شخص مريض، والمقصود أنّ عدوى المرض شديدة وسريعة التّأثير، وانتقال الصّحة بطيء جدّاً وقليل التّأثير، ولهذا كان تأثيره جزئيّاً في الأمراض البسيطة جدّاً، يعني أنّ القوّة الشّديدة في الجسم الصّحيح تتغلّب على المرض الخفيف في الجسم العليل، فتوجد الصّحة وهذا قسم واحد. أمّا القسم الآخر فهو القوّة المغناطيسيّة، تلك القوّة الّتي قد
يمكن التّأثير بها من جسم في جسم آخر، وربما تكون سبب الشّفاء، وهي أيضاً لها تأثير بسيط، فإذا وضع شخص يده فوق رأس شخص مريض أو على قلبه قد تحصل فائدة لشخص المريض، وذلك من حيث أنّ التّأثير المغناطيسيّ والتّأثّرات النّفسيّة تكون سبباً لزوال المرض، وهذا التّأثير أيضاً ضعيف وبسيط جدّاً.
أما القسمان الآخران الرّوحانيان أي اللّذان تكون القوّة الرّوحيّة واسطة الشّفاء فيهما، فأحدهما هو أن يعتني إنسان صحيح تمام الاعتناء نحو شخص مريض، وهذا الشّخص المريض يكون منتظراً بلهفة أيضاً للشّفاء ومعتقداً تمام الاعتقاد بأنّه سيكتسب الصّحّة من القوّة الرّوحانيّة لهذا الإنسان الصّحيح، بحيث يحصل ارتباط قلبيّ تامّ بين الصّحيح والمريض، على أن يوجّه الشّخص السّليم كلّ عنايته لشفاء المريض الذي يكون على يقين أيضاً بحصول الشّفاء، فمن التّأثير والتّأثّرات النّفسانيّة تتهيّج الأعصاب وتلك التّأثّرات وهياج الأعصاب تصير سبباً لشفاء المريض، فمثلاً لو كان لشخص مريض أمنية وأمل في الحصول على شيء ثمّ تبشّره فجأة بتحقّق أمنيته فإنّ أعصابه تتهيّج ويكون هياج أعصابه هذا سبباً في زوال مرضه بالكلّيّة، وكذلك لو يقع حادث مروِّع فجأة فقد يكون ذلك مهيّجاً لأعصاب شخص سليم فيصاب في الحال بمرض، فلم ينشأ هذا المرض بسبب مادّيّ، لأنّه لم يأكل شيئاً ولم يصل إليه شيء، بل إنّ الذي أورثه هذا المرض هو مجرد التّهيّج العصبيّ، ولذلك فإنّ تحقق منتهى الأماني بغتة يبعث في النّفس سروراً بحيث يحصل هيجان في الأعصاب و منه تحصل الصّحّة.
والخلاصة فإنّ الارتباط التّامّ الكامل فيما بين شخص الطّبيب الرّوحانيّ وشخص المريض، بحيث أنّ الطّبيب يتوجّه بكلّيّته إلى
المريض، والمريض أيضاً يتوجّه بكلّيّته إلى ذلك الطّبيب، ويقصر كلّ توجّهه على شخص الطّبيب الرّوحانيّ وينتظر حصول الصّحّة، فهذا الارتباط يسبّب تهيّج الأعصاب وبهيجان الأعصاب يحدث الشّفاء. غير أنّ هذه الوسائط قد تؤثّر في بعض الأحيان إلى حدّ ما وليست بدائمة التّأثير، فمثلاً لو ابتلى شخص بمرض شديد جدّاً أو أصيب بجرح فإنّ هذه الوسائط لا تكون مرهماً لهذا الجرح حتّى يلتئم، ولا سبباً لأن يزول هذا المرض، يعني لا تأثير لهذه الوسائط في الأمراض الشّديدة، إلاّ أنّ البنية قد تساعد على ذلك، لأنّ البنية القويّة تقاوم المرض في غالب الأحيان، فهذا هو القسم الثّالث.
أمّا القسم الرّابع فهو حصول الشّفاء بقوّة روح القدس، وليس هذا مشروطاً بالتَّماس ولا بالنّظر حتّى ولا بالحضور ولا بأيّ شرط من الشّروط سواء أكان المرض خفيفاً أم شديداً، وسواء أحصل تماسّ بين الجسمين أم لا، وسواء أحصل ارتباط بين المريض والطّبيب أم لا، وسواء أحضر المريض أم لم يحضر. وذلك بقوّة روح القدس.
(71)سبق أنْ بيَّنّا في مسألة الطّبّ والعلاج الرّوحانيّ أنّه من الممكن أن تعالج الأمراض بالقوّة المعنويّة ونتكلّم الآن في العلاج المادّيّ.
فعلم الطّبّ لا يزال في درجة الطّفولة ولم يصل بعد إلى حدّ البلوغ، وعندما يصل إلى حدّ البلوغ يكون العلاج بأشياء لا يكرهها
شمّ الإنسان ولا ذوقه، وذلك بالأغذية والفواكه والنّباتات اللّطيفة المذاق، الطّيّبة الرّائحة، لأنّ مدخل الأمراض أي سبب دخول الأمراض في جسم الإنسان إمّا بموادّ جسمانيّة أو بتأثّر الأعصاب وهيجانها، أمّا المواد الجسمانيّة الّتي هي السّبب الأصليّ في الأمراض فهي أنّ جسم الإنسان مركّب من العناصر المتعدّدة، ولكن بنسب معيّنة معتدلة متوازنة، وما دام هذا الاعتدال باقياً فالجسم مصون من الأمراض، فإن اختلّ هذا التّوازن الأصليّ الّذي هو مدار الاعتدال حصل الاختلال في المزاج واستولت الأمراض، مثلاً ينقص جزء من الأجزاء المكوّنة لجسم الإنسان ويزيد جزء آخر فيختلّ ميزان الاعتدال ويحدث المرض، مثلا إنّ جزءًا يجب أن يكون ألف درهم وآخر يجب أن يكون خمسة دراهم ليحصل الاعتدال، فإذا نقص الجزء الّذي هو ألف إلى 700 درهم، وزاد الجزء الذي هو خمسة دراهم حصل اختلال في التّوازن ثمّ طرأ المرض، وحينما يحصل الاعتدال بالأدوية والعلاج يزول المرض، مثلاً لو زاد الجزء السّكّريّ تختلّ الصّحة، فحينما يمنع الطّبيب المريض من الأغذيّة الحلوة والنّشويّة يتناقص الجزء السّكّريّ فيحصل الاعتدال ويزول المرض، إذاً فاعتدال الأجزاء المركّب منها الجسم الإنسانيّ يحصل بسببين: إمّا بالأدوية أو بالأغذيّة، وحينما يحصل الاعتدال في المزاج يزول المرض، لأنّ جميع العناصر المركّبة في الإنسان موجودة في النّبات أيضاً، فلهذا إذا تناقص جزء من الأجزاء المركّب منها جسم الإنسان وجب تناول الأطعمة الّتي يكثر فيها الجزء النّاقص حتّى يحصل الاعتدال فيحصل الشّفاء، وما دام المقصود هو تعديل الأجزاء فهو ممكن بالدّواء والغذاء، وإنّ الأمراض الّتي تعتري الإنسان أكثرها يعتري الحيوان أيضاً، أمّا الحيوان فلا يعالج بالدّواء وإنّما طبيبه في الصّحارى والجبال قوّة الذّوق وقوّة الشّمّ، فالحيوان المريض يشّم هذه
النّباتات الّتي تنمو في الصّحارى فيأكل ما يحلو طعمه في ذوقه وتذكو رائحته في شمّه فيشفى، وسبب شفائه هو هذا، مثلاً إذا تناقص الجزء السّكّريّ من مزاجه يشتهي أكل الحلو فيتناول النّبات الحلو الطّعم، لأنّ الطّبيعة نفسها تسوقه وتدلّه ويسرّ لرائحته وطعمه فيأكله فيتزايد الجزء السّكّريّ فتحصل له الصّحة.
إذاً صار من المعلوم أنّه يمكن العلاج بالأطعمة والأغذيّة والفواكه، ولكن حيث أنّ الطّبّ لا يزال ناقصاً إلى الآن فلهذا لم يهتد الأطباء إلى معرفة ذلك تماماً، وحينما يصل الطّبّ إلى درجة الكمال يكون العلاج بالأطعمة والأغذيّة والفواكه والنّباتات الطّيبة الرّائحة والمياه الّتي تختلف درجاتها في الحرارة والبرودة، هذا بيان مختصر وإن شاء الله نتكلّم عن هذه المسألة بالتّفصيل في وقت مناسب آخر.
***إنّ بيان حقيقة هذه المسألة صعب جدّاً، فاعلم أنّ الكائنات على قسمين: جسمانيّ وروحانيّ، حسّيّ وعقليّ. يعني أنّ قسماً من الكائنات حسّيّ والآخر ليس محسوساً بل معقولاً. فالحسّيّ هو ما يدرك بالحواسّ الخمس الظّاهرة كهذه الكائنات المشهودة الّتي تراها العين وهذا ما يقال له الحسّيّ، وأمّا العقليّ فهو ما لا وجود له في الخارج بل يدرك بالعقل، مثلاً إنّ العقل نفسه معقول ولا وجود له في الخارج، وجميع أخلاق الإنسان وصفاته لها وجود عقليّ لا حسّيّ، يعني أنّ الصّفات حقائق معقولة لا محسوسة، وقصارى القول أنّ الحقائق المعقولة كصفات الإنسان وكمالاته الممدوحة كلّها خير صرف ولها وجود وعدمها هو الشّرّ، فالجهل عدم العلم، والضّلالة عدم الهداية، والنّسيان عدم الذّكر، والبلاهة عدم الدّراية، وكلّ هذا عدم وليس له وجود، وأمّا الحقائق المحسوسة فهي خير محض أيضاً، وعدمها هو الشّرّ، يعني أنّ العمى هو عدم البصر، والصّمم هو عدم السّمع، والفقر هو عدم الغنى، والمرض هو عدم الصّحّة، والموت هو عدم الحياة، والضّعف هو عدم القوّة، ولكن قد يجول بالخاطر شبهة وهي أنّ للعقرب وللأفعى سمّاً فهل هذا خير أم شرّ، مع أنّ هذا الأمر وجوديّ، نعم العقرب شرّ لكن بالنّسبة لنا، والأفعى شرّ لكن بالنّسبة لنا أيضاً، أمّا بالنّسبة إلى نفس كلّ منهما فليسا شرّاً. بل إنّ السّمّ سلاحهما الذي يحافظ كلّ منهما به على نفسه، ولكن لمّا كانت عناصر ذلك السّمّ غير موافقة لعناصرنا، يعني هناك تضادّ بين عناصرنا وعناصره، فمن أجل هذا
كان العقرب والأفعى بالنّسبة للإنسان شرّاً، ولكنّهما في الحقيقة بالنّسبة لنفسيهما خير.
وخلاصة القول أنّه من الممكن أن يكون شيء بالنّسبة إلى شيء آخر شرّاً، ولكنّه في حدّ ذاته ليس شرّاً، إذاً ثبت أنّه لا شرّ في الوجود، وكلّ ما خلق الله خير، فالشّرّ يرجع إلى الإعدام، مثلاً الموت عدم الحياة وعدم إمدادها للإنسان هو الموت، والظّلمة عدم النّور فإذا لم يكن نور فهو الظّلمة، فالنّور أمر وجوديّ ولكنّ الظّلمة ليست بأمر وجوديّ، بل أمر عدميّ، والغنى أمر وجوديّ أمّا الفقر فهو أمر عدميّ.
إذاً تبيّن أنّ جميع الشّرور راجعة إلى العدم. فالخير أمر وجوديّ والشّرّ أمر عدميّ.
(73)اعلم أنّ العذاب على قسمين: عذاب لطيف وعذاب غليظ، مثلاً نفس الجهل عذاب ولكنّه عذاب لطيف، ونفس الغفلة عن الحقّ عذاب، ونفس الكذب عذاب والظّلم عذاب والخيانة عذاب، وجميع النّقائص عذاب، وغاية ما هنالك أنّها عذاب لطيف، ولا شكّ أنّ الإنسان الّذي له شعور يفضّل أن يقتل على أن يخطئ، ويرى قطع اللّسان خيراً من الكذب والافتراء، والنّوع الآخر من العذاب هو العذاب الغليظ، وهو المجازاة بالحبس والضّرب والطّرد والنّفي، أمّا عند أهل الله فالاحتجاب عن الحقّ أشدّ أنواع العذاب.
(74)اعلم أنّ العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، مثلاً إذا اشتغل الأجير من الصّباح إلى المساء فإنّ العدل يقضي باعطائه أجرته، والفضل هو إعطاء الأجير وشموله العناية والمنحة لو لم يكدّ ويتعب، مثلاً قد تعطي صدقة أو عطيّة لشخص فقير دون أن يتعب أو يعمل لك عملاً يستحقّ عليه أجراً فهذا هو الفضل، مثلاً إنّ حضرة المسيح طلب المغفرة لقاتليه، فهذا يعتبر فضلاً، وأمّا مسألة حسن الأشياء وقبحها وهل هي معقولة أم مشروعة، فالبعض يعتقد أنّها مشروعة كاليهود الذين يعتقدون أنّ جميع أحكام التّوراة تعبّديّة مشروعة لا معقولة، مثلاً يقولون أنّ من جملة أحكام التّوراة عدم جواز الجمع بين اللّحم والسّمن لأنّه (طرف) ومعنى الطّرف باللّسان العبري غير الطّاهر والكشير الطّاهر، فذلك يعبّر عنه بأمر مشروع ولا يقال عنه معقول، أمّا الإلهيّون فيرون أنّ حسن الأشياء وقبحها معقول ومشروع، فبناء عليه يكون تحريم القتل والسّرقة والخيانة والكذب والنّفاق والظّلم معقولاً، وكلّ عقل يدرك أنّ القتل والسّرقة والخيانة والكذب والنّفاق والظّلم كلّها قبيحة مذمومة، لأنّك لو وخزت إنساناً بشوكة فإنّه يصيح ويئنّ ويتألّم، فيعلم إذاً أنّ القتل مذموم وقبيح عقلاً، وأنّ القاتل يؤاخذ على فعلته سواء أبلغه صوت النّبوّة أم لا، لأنّ العقل يدرك أنّ ذلك مذموم، فالّذين يرتكبون هذه الأعمال القبيحة لا بدّ من مؤاخذتهم، أمّا في حال عدم وصول أوامر النّبوّة لأحد لم تكن أعماله مطابقة للتّعاليم الإلهيّة كقول المسيح مثلاً قابلوا الجفاء بالوفاء، فهذا الأمر إذا لم يصل إلى ذلك الشّخص وعمل
حسب مقتضيات الطّبيعة، أي قابل الأذى بالأذى أيضاً فهو معذور دينيّاً، لأنّ أمر الله لم يبلغه. وإن كان ذلك الشّخص لا يستحقّ العناية والألطاف لكن الله يعامله بفضله ويعفو عنه، لأنّ الانتقام أيضاً مذموم عقلاً حيث لا فائدة للمنتقم من الانتقام، ولو اعتدى شخص على آخر مثلاً وانتقم المعتدى عليه وقابل الضّربة بمثلها فأيّة فائدة يجنيها من ذلك؟ هل يكون ذلك مرهماً لجرحه أو علاجاً لألمه استغفر الله! بل كلا العملين في الحقيقة واحد، لأنّ كليهما أذى، ولكن الفرق بينهما هو أنّ أحدهما حدث قبل الآخر، فلهذا لو أنّ المعتدى عليه يعفو بل يقابل الإساءة بالإحسان فهو ممدوح، ولكن الهيئة الاجتماعيّة تقتصّ من المعتدي لا أنّها تنتقم منه، وهذا القصاص للرّدع ومقاومة الظّلم والاعتداء حتى لا تمتدّ يد الآخرين بالاعتداء، ولكنّ المعتدى عليه لو عفا وصفح بل بذل نهاية المحبّة والعناية كان ذلك محبوباً منه.
(75)السّؤال: هل يستحقّ المجرم أن يعاقب أو أن يعفى عنه ويسامح؟
الجواب: العقوبات الجزائيّة على قسمين: أحدهما الانتقام، والثّاني القصاص، أمّا البشر فليس لهم حقّ الانتقام ولكن للهيئة الاجتماعيّة حقّ القصاص من المجرم، وهذا القصاص للرّدع والمنع حتى لا يجرؤ شخص آخر على ارتكاب مثل ذلك الجرم، وهذا القصاص دفاع عن حقوق البشر وليس انتقاماً لأنّ الانتقام تَشَفِّي الصّدر الحاصل من مقابلة المثل بالمثل، وهذا ليس بجائز لأنّه ليس للبشر حقّ الانتقام،
ومع هذا فلو يعفى عن المجرمين كلّيّاً يختلّ نظام العالم، ولهذا كان القصاص من اللّوازم الضّروريّة للهيئة الاجتماعيّة، ولكن ليس للمظلوم المعتدى عليه حقّ الانتقام بل عليه العفو والسّماح، وهذا ما يليق بالعالم الإنسانيّ، أمّا الهيئة الاجتماعيّة فيجب عليها أن تقتصّ من الظّالم والقاتل والضّارب حتى يحصل الرّدع والمنع، وحتى لا يجرؤ الآخرون على الإجرام، ولكنّ الأصل وجوب تربية النّفوس بحيث لا ترتكب الجرائم، لأنّه من الممكن تربية جمع بحيث يجتنبون ارتكاب الجرائم ويستنكرون وقوعها لدرجة أنّهم يرون أنّ نفس الجرم أعظم عقوبة وأكبر قصاص وأشدّ عذاب، وبذلك لا يقع جرم يتطلّب قصاصاً، ويجب أن نتكلّم عن أشياء يمكن إجراؤها في عالم الإمكان، لأنّ هناك كثيراً من النّظريات والتّخيّلات السّامية ولكن لا يمكن تحقيقها، فبناء عليه يجب أن نتكلّم عمّا يمكن إجراؤه، مثلاً لو ظلم إنسان آخر أو جار عليه أو اعتدى، وقابل المعتدى عليه ذلك بالمثل، فإنّ هذا يُعدّ انتقاماً وهو مذموم، لأنّه لو قتل زيد ابناً لعمرو فليس لعمرو الحقّ في أن يقتل ابن زيد، ولو فعل هذا لكان انتقاماً وهو مذموم جدّاً، بل يجب أن يقابل الإساءة بالإحسان، فيعفو عنه بل يقوم بخدمته إذا أمكن، وهذا النّوع من المعاملة هو اللاّئق بالإنسان، لأنّه أيّ فائدة يجنيها المعتدى عليه من الانتقام، فكلا العملين سواء والذّم يشمل كليهما، وغاية ما هنالك أنّ هذا سابق وذلك لاحق، أمّا الهيئة الاجتماعيّة فلها حقّ المحافظة والمدافعة لأنّها لا تحمل بغضاً ولا عداوة للقاتل، ولكن لمجرّد حفظ الآخرين يحبس القاتل أو يقتصّ منه حتى يُحفظ الآخرون، وليس غرضها الانتقام منه بل المقصود القصاص لتحفظ بذلك الهيئة الاجتماعيّة، ولو عفا أهل المقتول وتعامل الهيئة الاجتماعيّة المعتدي أيضاً بالصّفح ويكون العفو من الطّرفين، فإنّ النّفوس الظّالمة تستمرّ في الاعتداء
ويحصل القتل في كلّ آن، بل إنّ النّفوس المفترسة الذين هم كالذّئاب يفتكون بأغنام الله، فليس للهيئة الاجتماعيّة نيّة سوء في القصاص وليس غرضها التّشفّي والانتقام، بل إنّ مقصودها من القصاص هو أن تحافظ على الآخرين حتّى لا يرتكب النّاس هذا الأمر القبيح، إذاً فقول حضرة المسيح "من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر"1 يقصد منه تربية النّاس، وليس مقصود حضرته أنّه لو سطا ذئب على قطيع من الغنم ويريد أن يفترس كلّ القطيع أن تعاونوه على ذلك، بل لو أنّ حضرة المسيح رأى ذئباً دخل في قطيع ليفتك به ويفترسه فلا بدّ أنّه كان يمنع ذلك الذئب، وكما أنّ العفو من الصّفات الرّحمانيّة فالعدل أيضاً من الصّفات الرّبوبيّة، وخباء الوجود قائم على عماد العدل لا العفو، وبقاء البشر منوط بالعدل لا بالعفو، مثلاً لو أنّ قانون العفو أجري الآن في عموم الممالك لاختلّ نظام العالم ولاندكّ بنيان الحياة الإنسانيّة من أساسه في وقت قريب، مثلاً لو أنّ حكومات أوروبا قاومت آتيلا2 المشهور لما أبقى بشراً، فبعض البشر كالذّئاب الضّارية لو يرون أنّه ليس هناك قصاص لكانوا يقتلون الإنسان لمجرّد السّرور والفرح وتسلية أنفسهم، فقد قتل أحد طغاة إيران معلّمه مازحاً ليضحك ويُسرّ وكان المتوكّل العباسيّ المشهور يدعو الوزراء والوكلاء والأمناء إلى مجلسه وتطلق العقارب من جعبة ثم يأمر بأن لا يتحرّك أحد وحينما تلدغ العقارب الوزراء يضحك ويقهقه.
وخلاصة القول أنّ قوام الهيئة الاجتماعيّة بالعدل لا بالعفو، إذاً فليس مقصود حضرة المسيح من العفو والسّماح أنّه لو يهجم سائر الملل عليكم ويحرقون بيوتكم وينهبون أموالكم ويعتدون على أهلكم وعيالكم وأولادكم ويهتكون ناموسكم عليكم أن تستسلموا لهؤلاء الجنود
الظّالمين حتى يقوموا بالظّلم والاعتداء، بل إنّ حضرة المسيح يريد بذلك المعاملة الخاصّة فيما بين شخصين، فلو اعتدى شخص على آخر فيجب على المعتدى عليه أن يعفو، أمّا الهيئة الاجتماعيّة فيجب عليها المحافظة على حقوق بني الإنسان، مثلاً لو اعتدى شخص عليّ بأن ظلمني أو جفاني أو طعنني في الكبد فإنّي لا أتعرّض له أبداً بل أعفو عنه، ولكن لو اعتدى شخص على هذا السّيّد المنشادي3 أردعه وأمنعه ألبتّة، وإن كان عدم التّعرض بحسب الظّاهر رحمة بالظّالم ولكنّه ظلم في حقّ جناب المنشادي، مثلاً لو دخل الآن هذا المكان شخص بدويّ متوحّش شاهراً سيفه يريد أن يطعنك ويقتلك فلا شكّ أنّي أمنعه وإن تركتك له كان هذا ظلماً لا عدلاً، أمّا لو آذى شخصي فإنّني أعفو عنه.
بقي شيء آخر وهو أنّ الهيئة الاجتماعيّة تدأب ليل نهار في سنّ القوانين الجزائيّة وإعداد آلات القصاص وأدواته، وتبني السّجون وتصنع الأغلال والأصفاد والسّلاسل وتهيّئ الأماكن للنّفي والإبعاد إلى غير ذلك من طرق الزّجر والإيلام لتربّي المجرمين بهذه الوسائل، حال أنّ هذه الوسائط تسبّب ضياع الأخلاق وتبديل الأحوال، بينما الواجب على الهيئة الاجتماعيّة أن تسعى ليلاً ونهاراً ببذل منتهى الهمّة في تربية النّفوس حتّى تترقّى يوماً فيوماً وتجد سعة في العلوم والمعارف فتكتسب الفضائل والآداب وتجتنب الرّذائل حتّى لا تحدث الجرائم، والحال الآن بعكس ذلك، فإنّ الهيئة الاجتماعيّة تفكّر دائماً في سنّ قوانين العقوبات وأحكامها وتهيئة أسباب القصاص وإعداد آلات القتل والتّعذيب وأمكنة الحبس والنّفي ثم تترقّب وقوع الجرائم وتأثير هذا سيِّئ جدّاً، أمّا لو سعت الهيئة الاجتماعيّة في تربية العموم فإنّه تزداد العلوم والمعارف وتنمو المدارس يوماً فيوماً ويترقّى الشّعور فتتعدّل
الأخلاق وتتحسّن العادات، وخلاصة القول أنّه يحصل التّرقّي في جميع مراتب الكمالات ويقلّ وقوع الجرائم. وقد ثبت هذا بالتّجربة فإنّ الجرائم قليلة الوقوع بين الأمم المتمدّنة أي الّتي اكتسبت المدنيّة الصّحيحة، والمدنيّة الصّحيحة هي المدنيّة الإلهيّة كمدنيّة أولئك الذين جمعوا بين الكمالات الجسمانيّة والرّوحانيّة.
وحيث أنّ السّبب في وقوع الجرائم هو الجهل فكلّما ترقّى العلم والفضيلة قلّت الجرائم، فانظروا إلى برابرة أفريقيا وكم يقع بينهم من حوادث القتل فإنّهم يقتلون بعضهم بعضاً ويأكلون لحوم بعضهم بعضاً ويشربون دماء بعضهم بعضاً، فلماذا لا تقع مثل هذه الوقائع الوحشيّة في سويسرا، إنّ السّبب واضح وهو التّربية والفضيلة، إذاً يجب على الهيئة الاجتماعيّة أن تفكّر في تلافي وقوع الجرائم لا أن تشدّد في عقاب المجرمين وتجري عليهم القصاص الشّديد.
(76)لقد سألت عن مسألة الإضراب. وهذه مسألة ما زالت ولا تزال سبب المتاعب والمشاكل العظيمة، ومنشأ هذه المشاكل أمران: أحدهما حرص أصحاب المصانع والمعامل وجشعهم، والثّاني طمع العمّال ومغالاتهم وطغيانهم، وكلا الأمرين يجب علاجه.
أمّا السّبب الأصليّ لهذه المشاكل فهو القوانين الطبيعيّة للمدنيّة الحاضرة، لأنّ هذه القوانين تمكّن نفوساً معدودة من جني ثروة غير محدودة فوق ما يلزم، بينما الأكثريّة تبقى عرايا محرومين لا حول لهم
ولا قوّة، وهذا أمر لا يرضي الرّحمن ومخالف للعدالة والمروءة والإنصاف، بل هو عين الاعتساف، وهذا التّفاوت قاصر على النّوع البشريّ، حال أنّه يوجد بين سائر الكائنات أي جميع الحيوان نوع ما من العدالة والمساواة تقريباً، مثلاً توجد مساواة بين قطعان الأغنام وقطعان الغزلان في الصّحارى، وكذلك بين طيور البراري في الوديان والجبال والحدائق وبين كلّ نوع من أنواع الحيوان تقريباً شيء من المساواة، ولا يوجد بينهما تفاوت ما يذكر في المعيشة، ولذلك تعيش في منتهى الرّاحة والسّعادة، بخلاف بني الإنسان فإنّك ترى فيما بينهم عدم الإنصاف ونهاية الاعتساف، ويلاحظ أنّ الفرد الواحد من بني الإنسان ادّخر كنزاً واستعمر إقليماً لنفسه، وجمع ثروة باهظة وهيّأ لشخصه المنافع والموارد تتدفّق كالسّيول، بينما مائة ألف غيره من النّفوس بائسون ضعفاء وفي حاجة إلى كسرة من الخبز، فلا مساواة ولا مواساة، من أجل ذلك ترى أنّ راحة النّوع البشريّ وهدوءه وسعادة العامّة مختّلة مسلوبة، بحيث أنّ الجمّ الغفير من البشر لا ثمر له من حياته، لأنّ الثروة والتّجارة والصّناعة والعزّة محصورة في أنفس معدودة، بينما الباقون يئنّون من ثقل الأحمال الشّاقّة والمتاعب الّتي لا حدّ لها، وهم محرومون من الفوائد والأرباح والهدوء والرّاحة.
فيجب إذاً وضع نظم وقوانين تعدّل الثّروة المفرطة لتلك الأنفس المعدودة، وتكون سبباً في سدّ الحاجة للملايين العديدة من جمهور الفقراء حتّى يحصل قليل من الاعتدال، ولكنّ المساواة التّامّة أيضاً غير ممكنة لأنّ المساواة التّامة في الثّروّة والعزّة والتّجارة والصّناعة والزّراعة تؤدّي إلى اختلال المعيشة واضطرابها وفسادها وحرمان العموم، ويضطرب نظام أمور الجمهور كلّيّاً لأنّ ثمة محظور أيضاً في المساواة غير المشروعة.
إذاً فالأحسن أن يكون هناك اعتدال، والاعتدال يكون بوضع أنظمة وقوانين تحول دون تجمّع ثروة مفرطة لا لزوم لها لدى أنفس معدودة، وتكون سبباً في سدّ الحاجات الضّروريّة للجمهور، مثلاً ترى أصحاب المصانع وأرباب المعامل يجنون كلّ يوم كنزاً، ولكنّ العمّال البؤساء لا يحصلون من أجرتهم ما يكفي لمعيشتهم اليوميّة، وهذا منتهى الاعتساف ولا شكّ أنّ الإنسان المنصف لا يقبله، فالواجب إذاً أن توضع أنظمة وقوانين يحصل العمّال بمقتضاها على أجورهم اليوميّة من صاحب المصنع ويشتركون معه في الرّبع أو الخمس من أرباحه حسبما تسمح به ظروف المصنع، أو أن يشترك العمّال مع صاحب المصنع في الأرباح الحاصلة بطريقة معتدلة بأن يكون رأس المال والإدارة من جانب صاحب المصنع، والعمل من جانب العمّال وبعبارة أخرى إمّا أن يحصل العمّال على أجرتهم اليوميّة على قدر ما يكفي للمعيشة المعتدلة ويكون لهم حقّ الاستفادة من دخل المصنع على قدر الكفاية في حال العجز أو الضّعف، وإمّا أن تكون الأجرة على قدر يقتنع العمّال بصرف جزء منه وادّخار جزء آخر لأيام الضّعف والعجز، فإذا سارت الأعمال على هذا المنوال فإنّ صاحب المصنع لا يتمكّن من أن يدّخر كلّ يوم كنزاً لا فائدة له منه ولا ثمر بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ الثّروة إذا عظمت أثقلت كاهل صاحبها وسبّبت له المحنة والمشقّة وتصبح إدارة شؤونها في نهاية الصّعوبة، وتكون سبباً في اضمحلال قواه الطّبيعيّة، وكذلك لا تنهك قوى العمّال من المتاعب والمشاقّ الزّائدة، ولا يبتلون في أيّام كهولتهم بشدّة الاحتياج، فاتّضح من ذلك وتبيّن أنّ اختصاص أفراد معدودين بالثّروة المفرطة بينما الجمهور في
شدة واحتياج، ظلم واعتساف، وكذلك المساواة التّامّة هي أيضاً مخلّة لمعيشة النّوع الإنسانيّ وراحته وانتظامه وهدوء باله.
بناء على ذلك فالاعتدال خير من كلّ الوجوه، وذلك بأن يراعي أصحاب الثّروة جانب الاعتدال في جني الأرباح، وبأن يكون مطمح أنظارهم مراعاة المحتاجين والفقراء، وبأن يقرّروا للعمّال أجوراً يوميّة معلومة على أن يكون لهم سهم ونصيب أيضاً من الرّبح العامّ للمصنع.
وبالاختصار يجب وضع قانون للحقوق المشتركة بين أصحاب المصانع وبين عموم العمّال يؤدّي إلى الاعتدال في الأرباح لأرباب المصانع ويكفل تسهيل وسائل المعيشة اللاّزمة للعمّال وضمان مستقبلهم حتّى إذا عجز العامل أو وهنت قواه أو انتابه الضّعف والهرم أو مات وترك ذرّيّة ضعافاً لا يضمحلّون من شدّة الفقر، إذ يكون لهم حقّ بشيء من واردات المصنع يعيشون منه، وكذلك يجب على العمّال ألاّ يضربوا وألاّ يتمرّدوا وألاّ يبالغوا في طلب أجور فاحشة أو يبتغوا أكثر ممّا يستحقّون، بل ينبغي لهم أن يكونوا في نهاية الطّاعة والانقياد، والحقوق المشتركة بين الطّرفين تتحقّق وتتعيّن رسميّاً بقانون العدل والحقّ، وأيّ طرف يتجاوز القانون يحكم عليه بعقوبة، وبعد المحاكمة تجري القوّة التّنفيذيّة عليه الجزاء القطعيّ حتّى تنتظم الأمور وتزول المشاكل.
إنّ تدخّل الحكومة والقضاء في المشاكل الحاصلة بين العمّال وأصحاب المصانع إنّما هو تدخّل مشروع، وليست من قبيل المعاملات العاديّة الجزئيّة بين العمّال وأرباب عملهم لا تكون لها صلة بالمصلحة العامّة ولا يكون للحكومة فيها حقّ التّدخّل، بل إنّ مسألة المصانع والعمّال وإن كانت تبدو أنّها من المسائل الخاصّة إلاّ أنّها تضرّ بمصالح
الجمهور، لأنّ شؤون التّجارة والصّناعة والزّراعة بل وكلّ الأشغال العامّة في الأمّة مرتبط بعضها ببعض، بحيث إذا حصل فتور في إحداها أضرّ ذلك بالعموم، وعلى ذلك تكون المشاكل الحاصلة بين العمّال وأصحاب المصانع سبباً في مضرّة العموم، وللحكومة والقضاء حقّ التّدخّل فيها لأنّه عندما يقع اختلاف بين شخصين في الحقوق الجزئيّة فلا بدّ من وجود ثالث في دعواهما ألا وهو الحكومة، فكيف يمكن إذاً إهمال مسألة الإضراب التي تنبعث تارة من شدّة اعتساف العمّال وآونة من كثرة طمع أصحاب المصانع، وتؤدّي إلى اختلال نظام البلاد؟
سبحان الله كيف يطمئنّ الإنسان ويستريح في قصره العالي وهو يرى جموعاً من بني جنسه يتضوّرون جوعاً وهم عراة في غاية من البؤس والشّقاء وفي شدّة الاحتياج، أو كيف يسرّ ويهنأ بثروته؟
من أجل ذلك سُنَّت الشّرائع الإلهيّة فقرّرت أن ينفق أولوا الثّروة في كلّ سنة جزءاً من أموالهم لمساعدة الفقراء وإغاثة الضّعفاء، وهذا من أسس الشّريعة الإلهيّة وفرض عين على الجميع، ولمّا كان الإنسان غير مجبور وليس محكوماً عليه من طرف الحكومة بهذا الإنفاق بل ينفق بمحض إرادته وعن طيب خاطره على الفقراء بغاية الرّوح والرّيحان، لذا كان هذا العمل محبوباً ومرغوباً ومستحسناً جدّاً. هذا هو المقصود من الأعمال المبرورة المذكورة في الكتب والألواح الإلهيّة والسّلام.
(77)يعتقد السّوفسطائيّة أنّ الموجودات عبارة عن أوهام وكلّ موجود وهم محض لا وجود له أبداً، أي أنّ وجود الكائنات عندهم كالسّراب أو كالصّور المرئيّة في الماء أو المرآة الّتي هي مجرّد ظهور لا أصل لها ولا أساس ولا حقيقة أبداً، وهذا رأي باطل، لأنّ وجود الكائنات وهميّ بالنّسبة إلى وجود الحقّ، ولكنّ للموجودات في رتبة الإمكان وجود حقيقيّ ثابت لا يقبل الإنكار، فمثلاً وجود الجماد بالنّسبة إلى وجود الإنسان عدم، لأنّ الإنسان إذا انعدم بحسب الظّاهر صار جسده جماداً، ولكنّ الجماد له وجود في عالم الجماد، إذاً اتّضح أنّ التّراب بالنّسبة إلى الإنسان معدوم ووجوده وهم، ولكنّه في الرّتبة الجماديّة له وجود، وكذلك وجود الموجودات بالنّسبة إلى وجود الحقّ وجود وهميّ وعدم محض، وما هو إلاّ مجرّد ظهور كالصّورة التي تظهر في المرآة، ولكنّ تلك الصّورة الظّاهرة في المرآة وإن كانت أوهاماً ولكن حقيقتها شخص العاكس الّذي ظهرت صورته في هذه المرآة. وبالاختصار إنّ الصّورة المنعكسة بالنّسبة إلى الشّخص الظّاهر أمام المرآة هي وهم، إذاً اتّضح أنّ الموجودات وإن كان وجودها لا يعتبر وجوداً بالنّسبة إلى وجود الحقّ بل هي بمثابة السّراب والصّور التي تظهر في المرآة، ولكن لها وجود في رتبتها، ولهذا فحضرة المسيح كان يعتبر الغافلين عن الحقّ والمنكرين أمواتاً، مع أنّهم كانوا بحسب الظّاهر أحياء، ولكنّهم أموات وصمّ وبكم وعمي بالنّسبة لأهل الإيمان، وهذا هو مقصود حضرة المسيح حيث يقول "دع الموتى يدفنون موتاهم"4.
(78)الجواب: يرى بعض الحكماء والفلاسفة أنّ القدم على قسمين: قدم ذاتيّ وقدم زمانيّ. والحدوث أيضاً على قسمين: حدوث ذاتيّ وحدوث زمانيّ. فالقديم الذّاتيّ هو وجود لم تسبقه علّة، والحادث الذّاتيّ سبقته علّة، والقديم الزّمانيّ لا أوّل له، والحادث الزّمانيّ له أوّل وآخر، لأنّ وجود كلّ شيء من الأشياء يتوقّف على علل أربع: علّة فاعليّة وعلّة ماديّة وعلّة صوريّة وعلّة غائيّة، مثلاً هذه الأريكة لها صانع وهو النّجار، ولها مادّة وهي الخشب، ولها صورة وهي الأريكة، وعلّتها الغائيّة هي الجلوس عليها، إذاً فالأريكة هذه حادث ذاتيّ لأنّها مسبوقة بالعلّة ووجودها مشروط بالعلّة ويقولون لهذا حادث ذاتيّ وحادث حقيقيّ، إذاً فهذا الكون بالنّسبة إلى الصّانع حادث حقيقيّ، وحيث أنّ الجسم مستمدّ من الرّوح وقائم بالرّوح فالجسم بالنّسبة إلى الرّوح حادث ذاتيّ والرّوح مستغن عنه، وهو بالنّسبة إلى الجسم قديم ذاتيّ، كالشّعاع وإن كان ملازماً للشّمس دائماً ولكن الشّمس قديمة وشعاعها حادث، لأنّ وجود الشّعاع يتوقّف على وجود الشّمس، أمّا وجود الشّمس فلا يتوقّف على الشّعاع فهي الفائضة وهو الفيض.
والمسألة الثّانية هي أنّ الوجود والعدم كليهما نسبيّ إضافيّ، فلو قيل أنّ شيئاً وجد من العدم فليس المقصود أنّه وجد من العدم المحض بل إنّ الحال القديمة بالنّسبة إلى الحال الحاضرة كانت عدماً،
حيث أنّ العدم المطلق لا يتكوّن منه وجود، إذ ليس له قابليّة للوجود، فالإنسان موجود والجماد أيضاً موجود، غير أنّ الوجود الجماديّ بالنّسبة إلى الوجود الإنسانيّ عدم، لأنّه عندما ينعدم جسم الإنسان يصير تراباً وجماداً، وحينما ينتقل التّراب إلى عالم الإنسان ويحيا ذلك الجسم الميّت يوجد الإنسان، فالتّراب أي الجماد وإن كان له وجود في مقامه ولكنّه بالنّسبة إلى الإنسان عدم، والمقصود أنّ كليهما موجود ولكنّ وجود التّراب والجماد بالنّسبة إلى الإنسان عدم وفناء، لأنّه إذا انعدم الإنسان صار تراباً وجماداً، إذاً فعالم الإمكان وإن كان موجوداً ولكنّه بالنّسبة إلى وجود الحقّ عدم وفناء، فالإنسان والتّراب كلاهما موجود ولكن أين وجود الجماد من وجود الإنسان، فهو بالنّسبة إليه عدم، وكذلك وجود الخلق بالنّسبة إلى وجود الحقّ عدم. فالكون وإن كان له وجود ولكنّه بالنّسبة إلى وجود الحقّ عدم، ومن هذا يتّضح أنّ الكائنات ولو أنّها موجودة إلاّ أنّ وجودها بالنّسبة إلى الحقّ وكلمة الله يعتبر عدماً، هذا هو معنى الأوّليّة والآخريّة لكلمة الله، حيث يقول أنا الألف والياء لأنّه مبدأ الفيض ومنتهاه، وللحقّ دائماً خلق وأشعّة شمس الحقيقة لم تزل كانت ساطعة لامعة إذ أنّ الشّمس دون نور هي ظلام ديجور، وإنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة تقتضي وجود الكائنات، والفيض القديم لا يمكن أن ينقطع لأنّ انقطاعه ينافي الكمالات الإلهيّة.
(79)السّؤال: ما حقيقة مسألة التّناسخ التي يعتقدها بعض الملل؟
الجواب: إنّ المقصود ممّا نقول هو أن نبيّن الحقيقة لا أن نطعن في عقائد الملل الأخرى، بل لمجرّد بيان الواقع فقط لأنّنا لا نتعرّض لوجدان أحد ولا نستحسن الاعتراض.
إذاً فاعلم أن الّذين يعتقدون التّناسخ على قسمين: قسم لا يعتقد بالثّواب والعقاب المعنويّين في الدّار الآخرة، ويرى أنّ الإنسان بالتّناسخ والرّجوع إلى هذا العالم يلقى المجازاة والمكافأة. وأنّ النّعيم والجحيم مقتصران على هذا العالم ولا يعترف بعالم آخر، وهذه الفرقة أيضاً على قسمين: أحدهما يعتقد بأنّ الإنسان أحياناً يرجع إلى هذا العالم في صورة حيوان حتّى يرى المجازاة الشّديدة، وبعد تحمّله العذاب الأليم في العالم الحيوانيّ يرجع إلى عالم الإنسان مرّة أخرى، ويسمّون هذا تواسخاً. والآخر يرى الرّجوع من عالم الإنسان إلى عالم الإنسان وبعد الرّجوع يرى الثّواب وجزاء الحياة الأولى، ويسمّون هذا تناسخاً، وكلا الفريقين لا يعتقد بعالم غير هذا العالم.
والقسم الآخر من أهل التّناسخ يعتقدون بالعالم الأخرويّ، ويعتبرون التّناسخ وسيلة للتّكامل، لأنّ الإنسان يكتسب الكمالات تدريجيّاً بالانتقال من هذا العالم والرّجوع إليه حتّى يصل إلى مركز الكمال، وبيان ذلك أنّ الإنسان مكوّن من المادّة والقوّة، فالمادّة ناقصة في البدء أي في الدّور الأول وحينما يتكرّر مجيئها إلى هذا العالم تترقّى وتحصل على الصّفاء واللّطافة حتى تصير شفّافة كالمرآة، والقوّة
التّي هي عبارة عن الرّوح يتحقّق فيها بجميع كمالاته، هذه مسألة أهل التّناسخ والتّواسخ بيَّنّاها بالاختصار، ولو أردنا التّفصيل لكان ذلك مضيعة للوقت ففي هذا الإجمال كفاية، وليس لديهم دلائل ولا براهين عقليّة على صحّة هذه المسألة بل هي مجرد تصوّر واستنباط من القرائن لا من البرهان القاطع، فيجب أن يطلب البرهان من معتقدي التّناسخ لا القرائن والتّصوّر والوجدان، ولكنكم تطلبون منّي الدّلائل والبراهين على امتناع التّناسخ وهذا ما يجب بيانه، وأوّل برهان على الامتناع أنّ الظّاهر عنوان الباطن والملك مرآة الملكوت، والعالم الجسمانيّ مطابق للعالم الرّوحانيّ، فلاحظ إذاً أنّ التّجلّي لا يتكرّر في العالم المحسوس لأنّه ليس هناك كائن من الكائنات يشابه أو يماثل كائناً آخر من جميع الوجوه، فآية التّوحيد موجودة ظاهرة في جميع الأشياء، فلو أنّ خزائن الوجود ملئت من الحبوب فإنّك لا تجد بين حبّتين تطابقاً ولا تماثلاً ولا تشابهاً من جميع الوجوه، بل لا بدّ من وجود فرق وتمييز بينهما، وحيث أنّ برهان التّوحيد موجود في جميع الأشياء ووحدانيّة الحق وفردانيّته مشهودة في جميع حقائق الكائنات إذاً فتكرّر التّجلي الواحد ممتنع محال، لهذا فالتّناسخ أي تكرار ظهور الرّوح الواحد في هذا العالم بماهيّته وشؤونه السّابقة يكون تجلّياً متكرّراً وهذا مستحيل وغير ممكن، وحيث أنّ تكرار التّجلي الواحد لكلّ كائن من الكائنات النّاسوتيّة ممتنع محال، فكذلك تكرار التّجلي أيضاً للكائنات الملكوتيّة في أيّ مقام من المقامات سواء أكان في قوس الصّعود أم في قوس النّزول ممتنع محال، لأنّ النّاسوت مطابق للملكوت، ولكن عودة الكائنات النّاسوتيّة ورجوعها من حيث النّوع واضح، يعني أنّ الأشجار التي أتت في السّنين السّابقة بالأوراق والبراعم والأثمار أتت في السّنين اللاّحقة أيضاً بتلك الأوراق والبراعم والأثمار
بعينها، فيقولون هذا تكرّر النّوع، وإذا اعترض أحد بأنّ تلك الأوراق والبراعم والأثمار قد تلاشت ونزلت من عالم النّبات إلى عالم الجماد وأتت من عالم الجماد إلى عالم النّبات مرّة أخرى وإذاً فقد تكرّرت، فجوابه هو أنّ البراعم والأثمار والأوراق للعام الماضي قد تلاشت وتحلّلت عناصرها المركبّة وتفرّقت في هذا الفضاء، ولم تتجمّع وتتركّب الأجزاء المركّبة منها أوراق العام الماضي وبراعمه وأثماره ولم تعد بعينها بعد تحليلها بل عادت النّوعيّة من تركيب العناصر الجديدة، وكذلك يتلاشى جسم الإنسان بعد التّحليل وتتفرّق أجزاؤه المركّبة، فلو فرضنا أنّ هذا الجسم عاد من عالم الجماد أو النّبات مرّة أخرى فليس هذا الجسم هو بعينه الأجزاء المركّب منها الإنسان السّابق، فتلك العناصر تحلّلت وتفرّقت وانتشرت في هذا الفضاء الواسع، ثم تركّبت من العناصر أجزاء أخرى وصار جسماً ثانياً، وربّما يدخل جزء من أجزاء الإنسان السّابق في تركيب الإنسان اللاّحق، غير أنّ تلك الأجزاء لم تبقَ محفوظة بتمامها وعينها بدون زيادة ولا نقصان حتّى تتركّب مرّة أخرى فيوجد الإنسان اللاّحق من ذلك التّركيب والامتزاج ثم يستدلّ من ذلك على أنّ هذا الجسم قد عاد بتمام أجزائه وصار الشّخص الأوّل نفسه الشّخص الثّاني وبناء عليه قد حصل التّكرّر، والرّوح بعينه كالجسم عاد وتكرّر وبعد الموت رجع بذاته إلى هذا العالم.
ولو نقول أنّ هذا التّناسخ هو للحصول على الكمال حتّى تكتسب المادّة صفاءها وتصير شفّافة فتسطع أشعة الرّوح فيها بمنتهى الكمال، فهذا أيضاً تصوّر محض، لأنّه على فرض التّسليم بذلك فلا يمكن تغيير الماهيّة في التّجدد والعود، لأنّ جوهر النّقص لا يصل إلى حقيقة الكمال بالرّجوع والعود، ولا يصير الظّلام الصّرف بالعود
والرّجوع مصدر النّور، ولا تصير حقيقة العجز قدرة وقوّة بالرّجعة، ولا تكون الماهيّة النّاسوتيّة حقيقة ملكوتيّة بالعودة والرّجوع، وشجرة الزّقّوم مهما تكرّرت لا تعطي ثمراً حلواً، والشّجرة الطّيّبة مهما عادت لا تثمر فاكهة مرّة، إذاً تبيَّن أنّ تكرار الرّجوع إلى عالم النّاسوت لا يورث الكمال، وليس لهذا التّصوّر برهان ولا دليل فهو عبارة عن أفكار وأوهام، بل مدار حصول الكمال في الحقيقة هو فيض الخالق. وحضرات الثّئوصوفيّين يعتقدون أنّ الإنسان يرجع ويعود في قوس الصّعود كرّات ومرّات حتّى يصل إلى المركز الأعلى، وفي ذلك المقام تصير المادّة كالمرآة الصّافية وتسطع فيها أنوار الرّوح بنهايّة القوّة ويحصل الكمال الذّاتيّ، والحال أنّه من المسلّم لدى المدقّقين في المسائل الإلهيّة أنّ العوالم الجسمانيّة تنتهي بنهاية قوس النّزول، وأنّ مقام الإنسان نهاية قوس النّزول وبداية قوس الصّعود المقابل للمركز الأعلى، وأنّ قوس الصّعود من بدايته إلى نهايته مراتب روحانيّة، ويعبّر عن قوس النّزول بالإبداع وعن قوس الصّعود بالاختراع، وينتهي قوس النّزول بالجسمانيّات وقوس الصّعود بالرّوحانيّات، فرأس البركار لا يرجع القهقرى عند رسم الدّائرة لأنّ ذلك ينافي الحركة الطّبيعيّة والنّظم الإلهيّة وإلاّ اختلّ نظام الدّائرة، وفضلاً عن هذا فإنّه ليس للعالم النّاسوتي قدر ومزيّة حتّى يتمنّى الإنسان بعد نجاته من هذا القفص أن يقع في هذا الشّرك مرّة أخرى، بل إنّما يظهر استعداد الإنسان وقابليّته عياناً بالسّير في مراتب الوجود بالفيض الأبديّ لا بالتّكرّر والرّجوع، فكلّ ما كمن في هذا الصّدف سواء أكان من الدّرّ أو الخزف يظهر للعيان عندما يفتح فاه مرّة واحدة، وهذا النّبات عندما ينبت مرّة إمّا أن يأتي بشوك أو ورد ولا حاجة إلى أن ينبت مرّة أخرى، وفضلاً عن هذا فإنّ السّير والحركة في العوالم على خطّ مستقيم طبق
النّظم الطّبيعيّة هما سبب الوجود وأمّا الحركة المنافية للنّظم والوضع الطّبيعيّ فهي سبب العدم، ورجوع الرّوح بعد الصّعود مناف للحركة الطّبيعيّة ومخالف للنّظم الإلهيّة، ولهذا فحصول الوجود بالرّجوع ممتنع محال، مثله كمثل الإنسان الّذي يرجع إلى عالم الرّحم مرّة أخرى بعد خلاصه منه.
انظروا ما أوهى تصوّرات أهل التّناسخ والتّواسخ، يحسبون الجسم ظرفاً والرّوح مظروفاً، كالماء في الكأس يفرغ من كأس ويعود في كأس آخر، فهذا التّصوّر ملعبة صبيانيّة فما أضيق مجال تصوّرهم مع أنّ الرّوح من المجرّدات ليس لها دخول ولا خروج، وغاية ما هنالك أنّ لها تعلّقاً بالجسد كتعلّق الشّمس بالمرآة، فلو أنّ الرّوح تقطع مراتبها وتحصل على الكمال الذّاتيّ بتكرّر رجوعها إلى العالم الجسمانيّ لكان الأولى لها أن يمدّ الله حياتها في العالم الجسمانيّ حتّى تكتسب الكمالات والفيوضات ولا لزوم لإذاقتها كأس الهلاك وحصول الحياة الثّانية.
وهذه الفكرة ناشئة أصلاً من بعض التّناسخيّين الّذين تصوّروا أنّ الوجود قاصر على هذا العالم الفاني وأنكروا العوالم الإلهيّة، بينما العوالم الإلهيّة لا تتناهى، فلو أنّ العوالم الإلهيّة تنتهي بهذا العالم الجسمانيّ لكان الإيجاد عبثاً بل لصار الوجود ملعبة صبيانيّة، إذ تكون نتيجة هذه الكائنات الّتي لا تتناهى وجود الإنسان الذي هو أشرف الكائنات، وهو أيضاً يغدو ويروح أيّاماً معدودة في هذه الدّار الفانية لينال المكافأة فيكمل الكلّ في النّهاية وينتهي الإيجاد الإلهيّ وتنتهي وتكمل الكائنات الموجودة الّتي لا تتناهى حينئذ تتعطّل الألوهيّة الرّبانيّة ولا يكون لها ولا للأسماء والصّفات الإلهيّة تأثير في هذه
الكائنات الرّوحانيّة الموجودة "سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون"5، وهكذا كانت عقول فلاسفة السّلف القاصرة كبطلميوس وغيره من الّذين كانوا يعتقدون ويتصوّرون أنّ عالم الحياة والوجود محصور في هذه الكرة الأرضيّة ووجود الفضاء الذي لا يتناهى محصور في طبقات السّموات التّسع وكلّها فارغة خاليّة.
فانظروا إلى أيّ درجة كانت أفكارهم محدودة وعقولهم ضعيفة، والآن يظنّ التّناسخيّون أيضاً أنّ العوالم الإلهيّة محصورة في عوالم التّصوّر الإنسانيّ، بل إنّ بعض التّناسخيّين كالدّروز والنّصيريّة يتصوّرون أنّ الوجود محصور في هذا العالم الجسمانيّ، فما هذا التّصوّر الجاهليّ؟ مع أنّ العالم الجسمانيّ في هذا الكون الإلهيّ الّذي يبدو في نهاية الجمال والعظمة والكمال فيه الأجرام النّورانيّة التي لا تتناهى، فيجب إذاً أن نمعن النّظر في العوالم الرّوحانيّة الإلهيّة التي هي أصل الأساس لنعرف إلى أيّ درجة هي غير محدودة وغير متناهيّة فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ولنرجع إلى موضوعنا وهو أنّ الرّجعة مذكورة في الكتب المقدّسة والصّحف الإلهيّة، ولكنّ الجاهلين لم يهتدوا إلى معانيها وظنّوا أنّها التّناسخ، لأنّ ما قصد به أنبياء الله من الرّجعة ليس رجوع الذّات بل رجوع الصّفات، أي ليس رجوع المظهر بل رجوع الكمالات، ففي الإنجيل يقول أنّ يحيى بن زكريا هو حضرة إيليّا، فليس المراد من هذا البيان رجوع النّفس النّاطقة وشخصيّة حضرة إيليّا في جسد حضرة يحيى، بل المراد هو أنّ كمالات حضرة إيليّا وصفاته تجلّت وظهرت في حضرة يحيى، بالأمس كان في هذا المحفل سراج مضيء، فإذا أوقدنا في اللّيلة القادمة سراجاً آخر فإنّا نقول قد أضاء سراج
الأمس، وكذلك الماء الذي كان يجري من ينبوع ثم انقطع فإنّه حينما يجري مرّة أخرى فإنّا نقول عنه في جريانه الثّاني أنّ هذا الماء هو عين ذلك الماء وقد جرى مرّة أخرى، وهذا السّراج بعينه هو ذلك السّراج، وكذلك في الرّبيع الماضي تفتّح الورد وأينعت الأزهار والرّياحين وكانت فيه الفواكه اللّذيذة الطّعم، فإذا جاء الرّبيع القادم فإنّا نقول قد رجع ذلك الورد وعادت تلك الأزهار والرّياحين وظهرت تلك الفواكه اللّذيذة، وليس المقصود من هذا البيان أنّ الأجزاء التي تركّب منها الورد في العام الماضي تركّبت بعينها بعد التّحليل مرّة أخرى وعادت ورجعت، بل المراد هو أنّ تلك اللّطافة والملاحة واللّون البديع والرّائحة الطّيبة الّتي كانت في ورد العام الماضي واضحة مشهودة بعينها في ورد هذا العام.
والخلاصة أنّ المقصود هو التّشابه والتّماثل بين هذا الورد وذاك الورد، وهذه هي الرّجعة المذكورة في الصّحف الإلهيّة، وهذا المعنى مفصّل مشروح بالقلم الأعلى6 في كتاب الإيقان فارجعوا إليه حتّى تطّلعوا على حقائق الأسرار الإلهيّة وعليك التّحيّة والثّناء.
(80)السّؤال: ما هي مسألة وحدة الوجود عند الثّئوصوفيّين7 والصّوفيّة وما هي حقيقة مقصودهم وهل هذه المسألة تطابق الحقيقة أم لا؟
الجواب: اعلم أنّ مسألة وحدة الوجود هذه قديمة وليست مختصّة بالثّئوصوفيّين والصّوفيّة، بل إنّ بعضاً من حكماء اليونان أيضاً
كانوا يعتقدونها كارسطاطاليس الّذي يقول بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس واحداً منها والبسيط هنا ما يقابل المركّب، يعني أنّ الحقيقة الفردانيّة التي كانت مقدّسة منزّهة عن التّركيب والتّقسيم حلّت في صور غير متناهية، إذاً فالوجود الحقيقيّ هو كلّ الأشياء وليس بواحد منها مطلقاً.
والخلاصة إنّ الذين يعتقدون وحدة الوجود يعتقدون أنّ الوجود الحقيقيّ بمنزلة البحر، وأنّ جميع الكائنات كالأمواج، وهذه الأمواج التي هي عبارة عن الكائنات صور غير متناهيّة لذلك الوجود الحقيقيّ، إذاً فالحقيقة المقدّسة هي بحر القِدَم، وصور الكائنات التي لا تتناهى هي أمواج حادثة، وكذلك يشبّهونه بالواحد الحقيقيّ والأعداد التي لا تتناهى، لأنّ الواحد الحقيقيّ تجلّى في مراتب الأعداد التي لا تتناهى، وذلك لأنّ الأعداد هي تكرار الواحد الحقيقيّ، فمثلاً الرّقم اثنان هو تكرار للواحد، وكذلك قل في سائر الأعداد، ومن جملة براهينهم أنّ جميع الكائنات هي معلومات للحضرة الإلهيّة، ولا يتحقّق العلم بدون معلوم، لأنّ العلم يتعلّق بشيء موجود لا معدوم، فماذا يكون تعيّن العدم الصّرف وتشخّصه في مرآة العلم؟ إذاً فحقائق الكائنات التي هي معلومات البارئ تعالى كان لها وجود علميّ لأنّها كانت صوراً علميّة إلهيّة وهي قديمة لأنّ العلم الإلهيّ قديم، وما دام العلم قديماً فالمعلوم أيضاً قديم، وتشخّصات الكائنات وتعيّناتها الّتي هي معلومات قديمة للذّات الأحديّة هي عين العلم الإلهيّ، لأنّ لحقيقة ذات الأحديّة والعلم والمعلومات وحدة صرفة محقّقة ومقرّرة، وإلاّ كانت ذات الأحديّة معرّضة للكثرة وللزوم تعدّد القديم وهذا باطل، لذا فقد ثبت أنّ المعلومات هي عين العلم والعلم عين الذّات، يعني أنّ العالم والعلم
والمعلوم حقيقة واحدة، ولو تصوّرنا غير ذلك للزم تعدّد القديم، ولحصل التّسلسل وتعدّد القديم إلى ما لا نهاية، ولمّا كانت تشخّصات الكائنات وتعيّناتها في علم الحقّ هي عين ذات الأحديّة ولا تفاوت بينهما بأيّ وجه من الوجوه إذاً فهناك وحدة حقيقيّة، وكلّ المعلومات مندمجة مندرجة بنحو البساطة والوحدة في حقيقة ذات الأحديّة، يعني أنّها كانت معلوماته تعالى وعين ذاته بنحو البساطة والوحدة، ولمّا أن تجلّى الحقّ تجلّياً ظهوريّاً وجدت تشخّصات الكائنات تلك وتعيّناتها وصار لها وجود عينيّ في الخارج بعد أن كانت من قبل ذات وجود علميّ أي أنّها كانت صوراً علميّة إلهيّة ثم أخذ ذلك الوجود الحقيقيّ صوراً غير متناهية، هذا هو أصل استدلال هؤلاء.
والثّئوصوفيّون والصّوفيّة على قسمين، قسم العوام الذين يعتقدون وحدة الوجود بمحض التّقليد غافلين عن مقصود مشاهير علمائهم، لأنّ عوام الصّوفيّة يظنّون أنّ المراد من الوجود الوجود العام المصدريّ الّذي هو المفهوم الذّهنيّ والعقليّ للإنسان، يعني ما يدركه الإنسان، مع أنّ هذا الوجود العام عرض من الأعراض يطرأ على حقائق الكائنات، وماهيّات الكائنات هي الجوهر، وهذا الوجود العرضيّ القائم بالكائنات كخاصيّة الأشياء القائمة بها فهي عرض من الأعراض، ولا شك أنّ الجوهر أعظم من العرض، لأنّ الجوهر أصل والعرض فرع، والجوهر قائم بنفسه والعرض قائم بغيره، يعني محتاج إلى جوهر ليقوم به، وفي هذا الحال يكون الحقّ فرع الخلق ومحتاجاً إلى الخلق، والخلق في غنى عنه، مثلاً إنّ العناصر المفردة إذا تركّبت حسب النّظام الإلهيّ العام فإنّه بذلك التّركيب يحدث كائن من الكائنات، يعني إذا تركّبت عناصر معيّنة حدث من ذلك التّركيب وجود نباتيّ،
ولو تركّبت عناصر أخرى حصل منها وجود حيوانيّ، ومن تركيب عناصر أخرى توجد مختلف الكائنات، وفي هذه الحال يكون وجود الأشياء فرعاً لحقائقها، فكيف يكون هذا الوجود الّذي هو عرض من الأعراض ومحتاج إلى جوهر يقوم به كيف يكون قديماً ذاتيّاً وموجداً لجميع الكائنات؟
أما علماء الثّئوصوفيّة والصّوفيّة المتبحّرين بعد أن تعمّقوا في هذه المسألة اتّفقوا على أنّ الوجود قسمان، وجود عامّ وهو المفهوم الذّهنيّ للإنسان وهو حادث وعرض من الأعراض، وحقائق الأشياء هي الجوهر، أمّا المقصود من وحدة الوجود فليس هذا الوجود العامّ الذّهنيّ بل المقصود الوجود الحقيقيّ المنزّه المقدّس عن كلّ تعبير، وهو ما تتحقّق به الأشياء وهو واحد أي الواحد الحقيقيّ الذي به وجدت جميع الأشياء وهي المادّة والقوّة والوجود العامّ أي المفهوم العقليّ الإنسانيّ، هذه هي حقيقة مسألة الثّئوصوفيّة والصّوفيّة.
والخلاصة أنّ الأنبياء والفلاسفة متّفقون على أنّ ما يتحقّق به الأشياء واحد، غير أنّ الأنبياء يقولون أنّ علم الحقّ غير محتاج إلى وجود الكائنات وأمّا علم الخلق فمحتاج إلى وجود المعلومات، ولو كان علم الحقّ محتاجاً إلى ما دونه لكان ذلك العلم علم الخلق لا علم الحقّ، لأنّ القديم مباين للحادث والحادث مخالف للقديم، وكلّ ما نثبته للخلق من لوازم الحدوث نسلبه عن الحقّ، لأنّ التّنزيه والتّقديس عن نقائص الحادث من خصائص الواجب، مثلاً نرى الجهل في الحادث فنثبت العلم للقديم، ونرى العجز في الحادث فنثبت القدرة للقديم، ونرى الفقر في الحادث فنثبت الغنى للقديم، يعني أنّ الحادث منشأ النّقائص والقديم جامع الكمالات، لأنّ علم الحادث محتاج إلى وجود المعلومات، وعلم
القديم في غنى عنها، لذا فقِدَم تعيّنات الكائنات وتشخّصاتها الّتي هي معلومات الباري تعالى غير واقعة، وهذه الأوصاف الإلهيّة الكماليّة ليست ممّا تحيط به الإدراكات العقليّة حتّى تحكم بأنّ العلم الإلهيّ محتاج إلى معلومات أم لا.
وبالجملة فإنّ هذا أعظم برهان عند الصّوفيّة، ولو نريد أن نذكر جميع دلائل هؤلاء ونناقشها لاستنفد ذلك وقتاً طويلاً، هذا هو البرهان السّاطع والدّليل القاطع لهؤلاء الأفاضل علماء الصّوفيّة والثّئوصوفيّة، أما مسألة الوجود الحقيقيّ الّذي تتحقّق به الأشياء يعني حقيقة ذات الأحديّة الّتي بها وجدت جميع الكائنات فمتّفق عليها، أمّا وجه الخلاف فهو أنّ الصّوفيّة يقولون أنّ حقائق الأشياء هي ظهور الواحد الحقيقيّ، والأنبياء يقولون أنّها صدرت عن الواحد الحقيقيّ، وشتّان ما بين الظّهور والصّدور، فالتّجلي الظّهوريّ عبارة عن أنّ الشّيء الواحد يظهر في صور غير متناهية، مثلاً الحبّة الّتي هي شيء واحد حائز للكمالات النّباتيّة حينما تظهر تأخذ صوراً غير متناهية هي الأغصان والأوراق والأزهار والأثمار فيقال لهذا التّجلي الظّهوريّ، وأما التّجلي الصّدوريّ فهو أن يستقرّ الواحد الحقيقيّ ويبقى في علوّ تقديسه ولكن وجود الكائنات صادر عنه وليس ظاهراً منه، مثل ذلك كمثل الشّمس التي يصدر عنها الشّعاع ويفيض على جميع الكائنات وهي باقية في علوّ تقديسها لم تنزل ولم تنحلّ في الصّور الشّعاعيّة ولم تتجلَّ في هويّة الأشياء بتعيّناتها وتشخّصاتها وما صار القديم حادثاً، ولا الغنى المطلق أسيراً للفقر، ولا الكمال المحض نقصاً صرفاً.
وخلاصة القول أنّ الصّوفيّة معترفون بالحقّ والخلق، ويقولون أنّ الحقّ انحلّ في الخلق بصورة غير متناهية، كالبحر الّذي يتجلّى
بصور أمواج لا تتناهى، وهذه الأمواج الحادثة النّاقصة هي نفس البحر القديم الجامع لكلّ الكمالات الإلهيّة، وأما الأنبياء فيقولون أنّ العوالم هي ثلاثة: عالم الحقّ وعالم الملكوت وعالم الخلق والصّادر الأوّل عن الحقّ هو الفيض الملكوتيّ الّذي تجلّى في حقائق الكائنات كالشّعاع الصّادر عن الشّمس الّذي يتجلّى في الكائنات، ويتجلّى ذلك الفيض الذي هو الشّعاع في حقائق الأشياء بصور لا تتناهى ويتشخّص حسب استعداد الأشياء وماهيّتها وقابليّتها، أما قول الصّوفيّة يقتضي أن يتنزّل الغنى المطلق إلى درجة الفقر، ويتقيّد القديم بالصّور الحادثة، وتتحدّد القدرة المحضة بقيود الممكنات في مرآة العجز وهذا بديهيّ البطلان.
ونحن نلاحظ أنّ الحقيقة الإنسانيّة التي هي أشرف المخلوقات لا تتنزّل إلى الحقيقة الحيوانيّة، وأنّ الماهيّة الحيوانيّة التي هي مظهر القوّة الحسّاسة لا تهبط إلى الرّتبة النّباتيّة، وكذلك الحقيقة النّباتيّة التي هي القوّة النّامية لا تسقط إلى الحقيقة الجماديّة.
وبالاختصار إنّه ليس للحقائق العلويّة تنزّل ولا هبوط إلى المراتب السّفليّة، فكيف يمكن أن تنحلّ الحقيقة الإلهيّة الكلّيّة المقدّسّة عن جميع الأوصاف والنّعوت في هذه الصّور والحقائق الكونيّة الّتي هي مصدر النّقائص مع صرف تقديسها وتنزيهها! هذا وهم محض وتصوّر محال، بل إنّ جوهر التّقديس ذلك جامع لكمالات الرّبوبيّة والألوهيّة وإنّ جميع الكائنات مستفيضة من فيض التّجلي الصّدوريّ، ومقتبسة من أنوار كماله وجمال ملكوته كجميع الكائنات الأرضيّة التي تكتسب فيض النّور من شعاع الشّمس والشّمس لا تتنزّل ولا تهبط إلى الحقائق المستفيضة والموجودات الأرضيّة.
وحيث أنّنا الآن بعد العشاء وفي وقت متأخّر من اللّيل فليس هناك مجال للكاتب أن يكتب أكثر من هذا والسّلام.
(81)إنّ موازين الإدراك أربعة لا غير كما هو مسلّم به. يعني أنّ إدراك حقائق الأشياء إنّما يكون بهذه الموازين الأربعة:
فالأوّل ميزان الحسّ، وكلّ ما يدرك بالعين والأذن والشّم والذّوق واللّمس يسمّى محسوساً، وإنّ فلاسفة أوروبا اليوم يعتبرون هذا أتمّ ميزان ويقولون إنّ الحسّ أعظم الموازين ويعتبرونه مقدّساً، والحال أنّ ميزان الحسّ ناقص لأنّه يخطئ، مثلاً إنّ البصر وهو أعظم قوى الحسّ قد يرى السّراب ماء، ويرى الصّور المرئيّة في المرآة حقيقة موجودة، والأجسام الكبيرة صغيرة، والنّقطة الجوّالة دائرة، ويرى الأرض ساكنة والشّمس متحركة إلى غير ذلك من الخطأ في كثير من الأمور، فلهذا لا يجوز الاعتماد عليه.
والثّاني ميزان العقل وكان ميزان الإدراك لدى الفلاسفة الأول أساطين الحكمة، فكانوا يستدلّون بالعقل ويتشبّثون بالدّلائل العقليّة، لأنّ استدلالاتهم جميعها عقليّة، ومع وجود هذا فقد اختلفوا كثيراً وكانت آراؤهم مختلفة، حتّى كانوا يغيّرون فكرهم يعني أنّهم كانوا يستدلّون على وجود مسألة ما بالدّلائل العقليّة مدّة عشرين سنة، وبعدئذ ينفونها بالدّلائل العقليّة، حتى أنّ أفلاطون أثبت في البداية بالأدلّة العقليّة سكون الأرض وحركة الشّمس، ثم أثبت بعد ذلك
بالدّلائل العقليّة أنّ الشّمس مركز والأرض متحرّكة، وبعده اشتهرت نظريّة بطلميوس ونسيت نظريّة أفلاطون بالكلّيّة وقد أحيا الرّاصد الجديد أخيراً هذا الرّأي مرّة أخرى، وحيث أنّ حضرات الرّياضيّين اختلفوا حال أنّهم جميعاً كانوا يستدلّون بالدّلائل العقليّة، وحيث أنّهم كانوا يثبتون مسألة بالدّلائل العقليّة في فترة من الزّمن ثم ينفونها أيضاً بالدّلائل العقليّة، مثال ذلك أنّ فيلسوفاً كان ثابتاً على رأي مدّة ويقيم الأدلّة والبراهين عليه وبعد مضي فترة ينصرف عن ذلك الرّأي وينفيه بالدّليل العقليّ، إذاً تبيّن أنّ ميزان العقل ليس ميزاناً تامّاً، لأنّ اختلاف الفلاسفة الأول وعدم ثباتهم وتبديل أفكارهم دليل على أنّ ميزان العقل غير تامّ، إذ لو كان ميزان العقل تامّاً لوجب أن يكونوا جميعاً متّفقين في الرّأي متّحدين في الفكر.
والميزان الثّالث ميزان النّقل وهو النّصوص التي ينقلها النّاس من الكتب المقدّسة فيقولون جاء في التّوراة كذا، وقال في الإنجيل كذا، وهذا الميزان أيضاً ليس بتامّ، لأنّ المنقول يدرك بالعقل، وبما أنّ العقل نفسه قد يخطئ فكيف يصحّ أن يقال أنّ إدراكه لمعاني الأقوال المنقولة واستنباطها عين الصّواب وأنّه لا يخطئ في ذلك، إذ من الممكن حصول الخطأ ولذلك لا يكون هناك يقين، وهذا هو ميزان رؤساء الأديان، فما يعرفونه من نصوص الكتاب هو إدراكاتهم العقليّة التي عرفوها من تلك النّصوص لا حقيقة الواقع، لأنّ العقل كالميزان والمعاني المدركة من النّصوص كالشّيء الموزون، فإذا اختلّ الميزان فكيف يعلم قدر الموزون.
إذاً فاعلم أنّ معتقد النّاس وما بين أيديهم يحتمل الخطأ لأنّه إذا جيء بالدّليل الحسّيّ لإثبات شيء أو نفيه فهو ميزان غير تامّ كما سبق بيانه، ولو جيء بالدّليل العقليّ فهو أيضاً غير تامّ، ولو جيء بالدّليل
النّقليّ فهو أيضاً غير تامّ، فاتّضح من هذا أنّه ليس في يد الخلق ميزان يعتمد عليه، بل إنّ الميزان الصّحيح الّذي لا شكّ فيه ولا شبهة مطلقاً هو فيض روح القدس والتّأييدات الإلهيّة للإنسان بروح القدس، وفي ذلك المقام يحصل اليقين.
(82)السّؤال: هناك نفوس موفّقة للأعمال الحسنة والتماس الخير للعموم ومكارم الأخلاق والمحبّة والودّ لجميع الخلق والسّعي في الصّلح العموميّ وإغاثة الفقراء فما حاجتهم إلى التّعاليم الإلهيّة؟ وهم يرون أنفسهم في غنى عنها وما شأن هذه النّفوس؟
الجواب: اعلم أنّ هذه الأعمال والأفعال والأقوال ممدوحة مقبولة وهي شرف العالم الإنسانيّ، ولكن مجرّد هذه الأعمال لا يكفي لأنّها كجسم في نهاية اللّطافة ولكنّه بلا روح، بل إنّ السّبب الأوّل في الحياة الأبديّة والعزة السّرمديّة والنّورانيّة الكلّيّة والفوز والفلاح الحقيقيّ هو عرفان الله، ومن المعلوم أنّ معرفة الحقّ مقدّمة على كلّ معرفة، وهي أعظم فضيلة للعالم الإنسانيّ، لأنّ معرفة حقائق الأشياء في عالم الوجود تؤدّي إلى الفوائد الجسمانيّة وترقّي المدنيّة الصّوريّة، أما عرفان الله فهو سبب التّرقّي والانجذاب الرّوحانيّ والبصيرة الحقيقيّة وعلوّ العالم الإنسانيّ والمدنيّة الرّبانيّة وتعديل الأخلاق ونورانيّة الوجدان. والثّاني محبّة الله التي يضيء نورها في زجاجة القلب بعرفان الحقّ، وتنير الآفاق بأشعّتها السّاطعة، وبها يحيا
الإنسان حياة ملكوتيّة، وفي الحقيقة إنّ ثمرة وجود الإنسان هي محبّة الله، ومحبّة الله هي روح الحياة وهي الفيض الأبديّ، فلو لم تكن محبّة الله لكان عالم الإمكان ظلمانيّاً، ولولا محبّة الله لكانت قلوب بني الإنسان ميّتة محرومة من الشّعور الوجدانيّ، ولولا محبّة الله لانمحت كمالات العالم الإنسانيّ وانعدمت، ولولا محبّة الله لمّا كان الارتباط الحقيقيّ في العالم الإنسانيّ، ولولا محبّة الله لفقد الاتّحاد الرّوحانيّ، ولولا محبّة الله لخمد نور وحدة العالم الإنسانيّ، ولولا محبّة الله لما تعانق الشّرق والغرب كما يتعانق الحبيبان، ولولا محبّة الله لما تبدّل الخلاف والشّقاق بالائتلاف، ولولا محبّة الله لما انتهى الافتراق إلى الاتّحاد، ولولا محبّة الله لما صار الأغيار أحباباً، وإنّ محبّة العالم الإنسانيّ إشراق من محبّة الله وجلوة من فيض موهبة الله.
ومن الواضح أنّ حقائق النّوع الإنسانيّ مختلفة، والآراء متباينة والإحساسات متفاوتة، وهذا التّفاوت في الآراء والأفكار والإدراكات والإحساسات بين أفراد النّوع الإنسانيّ منبعث من اللّوازم الذّاتيّة، لأنّ التّفاوت في مراتب وجود الكائنات من لوازم الوجود الذي ينحلّ إلى صور غير متناهية، إذاً نحتاج إلى قوّة كلّيّة تكون غالبة على احساسات الجميع وآرائهم وأفكارهم، ولا يبقى لهذا الاختلاف حكم بفضل تلك القوّة التي تجمع الأفراد عامّة تحت نفوذ وحدة العالم الإنسانيّ، ومن الواضح المشهود أنّ أعظم قوّة في العالم الإنسانيّ هي محبّة الله وهي الّتي تدخل الملل المختلفة تحت ظلّ سرادق الوحدة، وتجعل الشّعوب والقبائل المتضادّة المتباغضة في نهاية المحبّة والائتلاف، فانظروا كم من الأمم والأجناس والقبائل والشّعوب المختلفة قد دخلوا
في ظلّ كلمة الله بعد حضرة المسيح بقوّة محبّة الله، وزالت وتلاشت الفوارق والاختلافات التي مضى على وجودها ألف سنة زوالاً كلّيّاً، وانعدمت الأوهام الجنسيّة والوطنيّة، ووجد الاتّحاد الرّوحيّ والوجدانيّ وصاروا جميعاً مسيحيّين حقيقيّين روحانيّين.
وثالث مناقب العالم الإنسانيّ نيّة الخير وهي أساس الأعمال الخيريّة وقد رجّح بعض المحقّقين النّية على العمل، لأنّ النّية الخيريّة نور محض وهي منزّهة مقدّسة عن شوائب الغرض والمكر والخداع، فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملاً مبروراً بحسب الظّاهر ولكنّه يكون مبنيّاً على مصالح شخصيّة مثلاً يعتني القصّاب بخروف ويحفظه ولكن عمل القصّاب المبرور هذا مبنيّ على غرض الانتفاع، ونتيجة هذه الحضانة ذبح الخروف المظلوم، فكم من أعمال كثيرة مبرورة باعثها الأغراض الذّاتيّة، أما نيّة الخير فمقدّسة عن هذه الشّوائب.
وخلاصة القول أنّه بعد عرفان الله وظهور محبّة الله وحصول الانجذاب الوجدانيّ ونيّة الخير تكون الأعمال المبرورة تامّة كاملة، وإلاّ فالأعمال الخيريّة وإن كانت ممدوحة إلاّ أنّها تكون ناقصة إذا لم تستند بعرفان الله والمحبة الرّبانيّة والنّية الصّادقة، مثلاً يجب أن يكون الوجود الإنسانيّ جامعاً للكمالات حتّى يصير كاملاً، فالبصر محبوب جدّاً ومقبول ولكنّه يجب أن يؤيّد بالسّمع، والسّمع مقبول جدّاً ولكنّه يجب أن يكون مؤيّداً بالقوّة النّاطقة، والقوّة النّاطقة مقبولة جدّاً ولكن يجب أن تكون مؤيّدة بالقوّة العاقلة، وقس على ذلك سائر قوى الإنسان وأعضائه وأركانه، وحينما تجتمع هذه القوى والحواس والأعضاء والأجزاء يصير الإنسان كاملاً.
والآن يوجد في العالم بعض من النّفوس يريدون في الحقيقة خير
العموم ويقومون بمعاونة المظلومين وإعانة الفقراء بقدر استطاعتهم مفتونين بحبّ الصّلح وراحة العموم، فهؤلاء وإن كانوا كاملين من هذه الجهة ولكنّهم ناقصون بحرمانهم من عرفان الله ومحبّته.
فقد كتب جالينوس الحكيم في كتاب شرح الرّسالة الأفلاطونيّة في السّياسة المدنيّة "إنّ العقائد الدّينيّة لها مدخل عظيم في المدنيّة الصّحيحة والبرهان على ذلك أنّ جمهور النّاس لا يقدرون على إدراك سياق الأقوال البرهانيّة فهم من هذه الوجهة محتاجون إلى الكلمات الرّمزيّة من الإخبار بالثّواب والعقاب في الدّار الآخرة، والدّليل على ثبوت هذا المطلب ما نشاهده اليوم من القوم الذين يدعون بالنّصارى المعتقدين بالثّواب والعقاب حيث يصدر عن مؤمني هذه الطّائفة أفعال حسنة كأفعال الفلاسفة الحقيقيّين كما أنّنا جميعاً نرى عياناً أنّهم لا يخشون الموت ويعدّون من المتفلسفين الحقيقيّين لكثرة حرصهم واشتياقهم إلى العدل والإنصاف".
فانظروا الآن كيف أنّ الصّدق وتضحية الرّوح والإحساس الرّوحانيّ والنّوايا الصّادقة والأعمال الخيريّة أوصلت المؤمنين بالمسيح إلى درجة أنّ الفيلسوف جالينوس الحكيم – مع أنّه لم يكن من ملّة المسيح – شهد بمكارم أخلاق هؤلاء المؤمنين وكمالاتهم حيث قال إنّ هذه النّفوس فلاسفة حقيقيّون، فهذه الفضائل والخصال لا تحصل بمجرّد الأعمال الخيريّة، ولو كان المقصود مجرّد حصول الخير وصدوره فهذا السّراج أيضاً مضيء الآن وينير هذا المكان ولا شكّ أنّ هذا الضّياء خير مع هذا إنّك لا تحمد هذا السّراج ولا هذه الشّمس التي تربّي جميع الكائنات الأرضيّة وبحرارتها تنشأ وتنمو، فأيّ خير أعظم من هذا، ولكن لمّا كان هذا الخير غير صادر عن نيّة الخير ومحبّة الله وعرفانه فلا ظهور ولا
بروز له أبداً، أمّا لو قدّم شخص من بني الإنسان لآخر قدحاً من الماء فإنّه يشكره ويثني عليه، غير أنّ الإنسان الّذي لا يفكر يقول إنّ هذه الشّمس التي تضيء العالم والتي ظهر منها هذا الفيض العظيم تستحقّ التّقديس والتّمجيد فلم لا نمدحها ولا نشكرها ثم نمجّد ونمدح الإنسان الذي قام بعمل خيريّ محدود؟ ولكنّنا إذا نظرنا بعين الحقيقة نجد أنّ صدور هذا العمل الخيريّ الجزئيّ من الإنسان منبعث عن الإحساس الوجدانيّ ولهذا استحقّ التّمجيد، ولكنّ نور الشّمس وحرارتها ليسا منبعثين عن إحساس ووجدان لهذا لا تستحقّ مدحاً وثناءً ولا شكراً وامتناناً وكذلك النّفوس الّتي تصدر عنها الأعمال الخيريّة وإن كانت ممدوحة غير أنّها ما لم تكن منبعثة عن عرفان الحقّ ومحبّته فإنّها لا شكّ ناقصة، وفضلاً عن هذا إذا نظرت بعين الإنصاف ترى أنّ هذه الأعمال الخيريّة التي تصدر من النّفوس عامّة منبعث أصلها أيضاً من التّعاليم الإلهيّة أي دلّ النّفوس على هذا أنبياء السّلف وبيّنوا لهم محسّناتها وشرحوا لهم تأثيراتها الحسنة فانتشرت هذه التّعاليم بين البشر ووصلت إلى هذه النّفوس بالتّسلسل والتّتابع ووجّهت القلوب إلى هذه الكمالات، ولمّا رأى النّاس أنّ هذه الأعمال مستحسنة وتسبّب السّعادة والهناء في العالم الإنسانيّ فمن أجل هذا اتّبعوها، إذاً فهي أيضاً من التّعاليم الإلهيّة ولكن يلزم لدركها قليل من الإنصاف لا المحاجّة والمجادلة.
الحمد لله قد ذهبت إلى إيران ورأيت كيف أصبح الإيرانيّون محبّين للنّوع الإنسانيّ من نفحات قدس بهاء الله وكانوا يطعنون بأسنّة ألسنهم كلّ نفس يصادفونها من سائر الطّوائف وكانوا في نهاية العداوة والبغض والحقد حتّى كانوا يعتقدون بنجاستهم وكانوا يحرقون التّوراة والإنجيل ويغسلون أيديهم إذا لامست هذين الكتابين، أمّا الآن فإنّهم
يرتّلون في مجالسهم ومحافلهم بالمناسبة مضامين هذين الكتابين ويشرحون معاني رموزها ويفسّرونها ويحتضنون أعداءهم ويحنّون على الذّئاب الضّارية كأنّهم غزلان صحارى محبّة الله، وقد رأيت آداب هؤلاء وسلوكهم وسمعت بأخلاق سائر الإيرانيّين، فهل بغير محبّة الله تطوّرت هذه الأخلاق واعتدلت الأعمال والأقوال لا والله، فلو كنّا نريد ترويج هذه الأخلاق والأطوار بالمعارف والعلوم لمضت ألف سنة دون أن يحصل هذا التّطور بين العموم أو ينتشر ذلك بينهم، والحال أنّها حصلت بمحبّة الله في نهاية السّهولة فاعتبروا يا أولي الألباب.
***الصّفحة مقدّمة الكتاب 5 كلمة لجنة التّرجمة 7 مقدمّة هذه الطّبعة 8
القسم الأول1 الطّبيعة خاضعة لقانون عام 11 2 دلائل الألوهيّة وبراهينها 12 3 إثبات لزوم المربّي 14 4 حضرة إبراهيم 19 5 حضرة موسى 21 6 حضرة المسيح 23 7 حضرة محمّد 24 8 حضرة الأعلى (الباب) 30 9 حضرة بهاء الله 31 10 براهين روحانيّة 39 11 بيان الغنى الحقيقيّ للوجود 43 هوامش القسم الأول 46
القسم الثّاني12 في بيان أنّ المعقولات لا سبيل لإظهارها وبيانها إلاّ في قميص المحسوسات 49 13 ولادة حضرة المسيح 52 14 سؤال عن ميزة من لا أب له 54 15 في تعميد حضرة المسيح 55 16 ضرورة التّعميد 57 17 ما المراد من الخبز والخمر 60
الصّفحة 18 المعجزات وخوارق العادات 63 19 قيام المسيح بعد ثلاثة أيام 65 20 مسألة حلول روح القدس 67 21 المقصود من روح القدس 68 22 المجيء الثّاني للمسيح ويوم الدّينونة 69 23 الأقانيم الثّلاثة 71 24 تفسير الآيّة الخامسة من الأصحاح السّابع عشر من إنجيل يوحنّا 73 25 تفسير الآيّة اﻟ22 من الأصحاح اﻟ15 من رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 75 26 مسألة أكل حضرة آدم من الشّجرة 78 27 معنى التّجديف على روح القدس 82 28 المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون 84 29 الرّجعة الّتي أخبر بها الأنبياء 86 30 أنت الصّخرة وعليك أبني كنيستي 88 31 القضاء والقدر 90 هوامش القسم الثّاني 92
القسم الثّالث32 لا تعرف الألوهيّة إلاّ بواسطة المظاهر الإلهيّة 95 33 تنقسم مراتب مظاهر الظّهور إلى ثلاثة مراتب 99 34 في بيان المراتب الجسمانيّة والرّوحانيّة لمظاهر الظّهور 101 35 بيان كيفيّة قوّة العلم الحائز لها المظاهر الإلهيّة 104 36 الأدوار الكلّيّة 106 37 قوّة نفوذ المظاهر الإلهيّة وتأثيرهم 107 38 الأنبياء قسمان 109 39 بوذا وكنفيوش 110 40 بيان المقصود من عتاب الله لحضرات الأنبياء في الكتب المقدّسة 112 41 بيان الآيّة الواردة في الكتاب الأقدس 115 هوامش القسم الثّالث 119
القسم الرابعالصفحة 43 ليس لعالم الوجود بداية 125 44 الفرق بين الإنسان والحيوان 130 45 مسألة النّشوء والارتقاء للكائنات 135 46 البراهين الإلهيّة على أصل الإنسان ومبدئه 139 47 الرّوح والعقل يظهران في الإنسان حين ولادته 141 48 حكمة ظهور الرّوح في الجسد 143 49 العلاقة بين الحقّ والخلق 145 50 قيام الأرواح بالحقّ 147 51 الأرواح خمسة أقسام 149 52 الرّوح والعقل والنّفس 152 53 القوى الجسمانيّة والقوى المعنويّة 153 54 تفاوت أخلاق النّوع الإنسانيّ 154 55 درجة إدراكات العالم الإنسانيّ ومظاهر الظّهور 159 56 حدود إدراك الإنسان ومعرفته للذّات الإلهيّة 161 57 خلود الرّوح (الدّرس الأول) 163 58 خلود الرّوح (الدّرس الثّاني) 166 59 كمالات الوجود غير متناهية 169 60 ترقّي الإنسان في العالم الآخر 172 61 مقام الإنسان وترقّياته بعد الصّعود 173 62 في معنى آية الكتاب الأقدس 175 63 النّفس النّاطقة بعد صعود الأرواح 176 64 بقاء أرواح الأطفال 177 65 الحياة الأبديّة والدّخول في الملكوت 178 66 القضاء 180 67 تأثير النّجوم 181 68 مسألة الجبر والاختيار 183 69 الإلهام والكشفيّات والرّؤيا وتسخير الأرواح 186 70 علاج الأمراض بالوسائل الرّوحانيّة 188 71 العلاج بالوسائط المادّيّة 190 هوامش القسم الرّابع 192
القسم الخامس193 72 بيان أنّ ليس في الوجود شرّ 195 73 العذاب على قسمين 196
الصفحة 74 عدل الله ورحمته 197 75 عقاب المجرمين والعفو عنهم 198 76 مسألة الإضراب 202 77 عقيدة السّوفسطائيّة في الكائنات 207 78 أقسام القديم والحديث 208 79 مسألة التّناسخ 210 80 وحدة الوجود 216 81 موازين الإدراك 222 82 وجوب اتّباع تعاليم المظاهر الإلهيّة 224 هوامش القسم الخامس 229
الفهرس العام للأعلام والأمكنةإبراهيم (حضرة) 19، 20، 42، 43، 54، 77، 81، 109، 156
ابن الإنسان: راجع السيد المسيحالإنجيل 19، 23، 28، 65، 67، 70، 84، 86، 101، 108، 115، 149، 164، 184، 187، 215، 223، 228
إنجيل لوقا 92أوروبا 20، 24، 30، 60، 90، 123، 133، 135، 136، 200
إيران 23، 30–36، 38، 156، 200، 228بنو إسرائيل 20، 21، 23، 98، 99، 112، 113، 114، 156
بهاء الله (حضرة) 20، 30–39، 46، 51، 57، 70، 86، 92، 99، 103، 107، 109، 119، 152، 156، 174، 228، 229
بوذا 110، 111التوراة 19، 28، 38، 51، 54، 58، 59، 60، 78، 79، 82، 92، 110، 112، 113، 114، 147، 197، 223، 228
تيطس 58الحواريّون 26، 54، 55، 58، 61، 62، 66، 67، 68، 118، 164، 172
حرف الخاءشرح الرسالة الأفلاطونية في السّياسة المدنيّة (كتاب) 227
شمس البهاء: راجع بهاء اللهالقرآن الكريم 29، 46، 52، 84، 92، 114، 119، 192، 229
قسطنطين 17المسيح (حضرة) 17–20، 23، 26–28، 34، 38، 39، 42، 43، 51–56، 58–78، 80–84، 86–91، 98–101، 103، 109–111، 115، 118، 148، 149، 151، 156، 160، 164، 166، 170، 172، 173، 174، 187، 188، 197، 200، 207، 226، 227
المسيحيّون: راجع النّصارىموسى (حضرة) 18، 20، 21، 28، 42، 43، 58، 63، 77، 81، 109، 113، 114، 156، 174، 187، 188
حرف النّون1- كوبرنيكوس نيقولاس Copernicus Nicolaus (1473-1543م).
2- القرآن الكريم سورة يس الآية 38.5- كتفاكو هو ابن قنصل فرنسا وكان لحضرة بهاء الله معرفة به.
1- إنجيل يوحنّا، الأصحاح السّابع عشر الآية 21.2- مقتطف من لوح بهاء الله إلى ناصر الدّين شاه ملك إيران.
3- القرآن الكريم، سورة مريم الآية 17.11- إنجيل متّى، الأصحاح الرّابع والعشرون الآية 29-30.
12- كتاب الإيقان نزل من يراعة حضرة بهاء الله في بغداد قبيل إعلان دعوته.
13- إنجيل يوحنّا، الأصحاح السّابع عشر الآية 21.16- التّوراة، سفر التّكوين الأصحاح الثّاني والثّالث.
17- إنجيل لوقا، الأصحاح الثّاني والعشرون الآية 20.
18- إنجيل متّى، الأصحاح الثّامن الآية 22.20- إنجيل متّى، الأصحاح الثّاني والعشرون الآية 14.
21- القرآن الكريم، سورة آل عمران الآية 74.24- القدّيسة بربارة عذراء شهيدة كرّمها المسيحيّون منذ القرن السّابع، يحتفلون بعيدها في 4 كانون الأوّل بأفراح شعبيّة يشترك فيها الأولاد.
1- القرآن الكريم سورة الأنعام الآية 103.2- راجع فصل "ترقّي الإنسان في العالم الآخر" الصفحة 172 وأيضاً فصل "الأرواح خمسة أقسام" الصفحة 149 من هذا الكتاب.
3- إنجيل يوحنّا الأصحاح السّابع عشر الآية 21.5- مضمون بيان بهاء الله جلّ ذكره في لوح السّلطان ناصر الدّين شاه.
6- إنجيل متّى الأصحاح 26 الآية 41.7- المَثَل لغة في المِثل للشّبه والنّظير والصّفة جمعه أمثال، وأمّا المِثل عند الحكماء هو المشارك للشّيء في تمام الماهيّة.
8- إنجيل يوحنّا الأصحاح الأوّل الآية 1.3- راجع فصل "أقسام القديم والحادث" الصّفحة 208 من هذا الكتاب.
4- إنجيل يوحنا الأصحاح الأوّل الآية 13.2- آتيلا (Attila) ملك الهون (434 – 453م) اجتاح جزءاً كبيراً من الإمبراطوريّتين البيزنطيّة والرومانيّة.
3- السيد المنشادي هو السيد تقي المنشادي أحد البهائيّين القاطنين في عكا.
4- إنجيل متّى، الأصحاح الثّامن الآية 22.7- الثئوصوفيّة (Theosophy) معرفة الله من طريق الكشف الصّوفيّ والتّأمّل الفلسفيّ أو كليهما.
??