يجد البهائيون أنفسهم في نهاية القرن العشرين في موقع متميّز يتيح لهم رؤية صافية واضحة المعالم. ففي الأعوام المائة الماضية شهد عالمنا الذي نعيش فيه تغييرات وتحوّلات فاقت في عمق آثارها كلّ ما سبقها من أحداث التاريخ. ولكن الجيل الحاضر قلَّما يدرك في الغالب كُنه هذه التحوّلات. فقد شهد عالمنا في هذه الأعوام المائة بالذات أيضا خروج الدّين البهائي من طي المجهوليّة ليبرهن للعالم أجمع على قدرته ونفوذه في توحيد صفوف البشر وجمع شملهم، وهي قدرة أغدقها على هذا الدين مصدره الإلهي الذي بعثه إلى الوجود. وما كاد هذا القرن ينتهي حتى ظهر جليّاً للعيان بصورة متزايدة تلاقي هذين السياقين من الأحداث التاريخية المتمثّلين في تلك التحوّلات والتغيّرات من جهة وفي ظهور الدين البهائي من جهة أخرى.
والكتاب الّذي نقدّمه اليوم بعنوان ”قرن الأنوار“ قد تمّ إعداده تحت إشرافنا، وهو يتضمن عرضا للسياقين المذكورين لأحداث القرن التاريخية والعلاقة التي تربط الواحد منهما بالآخر. ونحن إذ نوصي الأحبّاء بهذا الكتاب درسا في العمق، تملؤنا الثقة بأنّ الآفاق الفكريّة التي سوف يفتحها ستكون باعثة على اغتناءٍ روحيّ وستساعد على إيجاد الوسائل العملية لإشراك الآخرين في فهم المضامين الملحّة خطيرة الشأن للظّهور الإلهي الذي جاء به حضرة بهاء الله.
بيت العدل الأعظمها قد وصل القرن العشرون إلى نهايته بعد أن كان أكثر القرون اضطراباً في تاريخ الجنس البشري، وباتت الأغلبيّة السّاحقة من أهل العالم، وقد روّعتها الفوضى الاجتماعيّة والأخلاقية التي دمغت مسيرة ذلك القرن، باتت حريصة على دفن ذكرى المعاناة التي جلبتها عقوده المتتالية. ومهما بدت الثقة في المستقبل هشّة واهنة الأساس، ومهما تعاظمت الأخطار التي تلوح في الأُفق، فإنّ الإنسانيّة تحاول جاهدة أن تتمسّك بالاعتقاد أنّه يمكن، عبر مصادفة تترابط فيها الظّروف، إخضاع أحوال الحياة البشريّة لتتوافق مع الرّغبات الإنسانيّة الرّاهنة.
إلاّ أنه في ضوء تعاليم حضرة بهاء الله لا يبدو مثل هذا الأمل مجرّد وهم سرابيّ فحسب، بل تجاهلا كاملا لمعنى وطبيعة المنعطَف الخطير الذي مرّت به الإنسانية عبر السنوات المائة من تلك الفترة الحاسمة. ولن تستطيع الإنسانية مواجهة تحدّيات المستقبل إلاّ إذا أدركت كُنه الأحداث التي وقعت في هذه الحِقبة من التاريخ. ولعلّ مقدار الإسهام الذي بإمكاننا أن نقدّمه كبهائيّين في هذا المضمار يتطلّب منا إدراك أهمّية هذا التحوّل التاريخي في القرن العشرين وتفهّم معناه.
إنّ النّور الذي شعّ من ظهور حضرة بهاء الله، والأثر الذي تركه هذا الظهور في ميـدان الشـؤون الإنسانية، هما القادران على أن يخلقا لدينا تلك البصيرة النافذة الباعثة على الإدراك. وإن هذه الفرصة المتاحة لنا الآن هي الموضوع الذي تعرضه الصفحات التالية.
* * *فلنسلّم بادئ الأمر بصحّة القول إنّ الجنس البشريّ قد ألحق بنفسه دمارا هائلا إبّان هذه الفترة التاريخية التي نستعرضها الآن. فالأرواح التي أُزهقت لا يمكن أن تحصى أو تُعد. ونورد هنا فقط ما يبدو أمثلة صارخة في سلسلة الفظائع التي لم تعرفها حتى أحلك العصور الغابرة ظلاما ومنها: انهيار المؤسسات الأساسيّة للنظام الاجتماعي، وانتهاك حرمة قواعد اللياقة والأدب والتخلّي عنها فعلا، وخيانة الحياة الفكرية بالاستسلام لسيطرة مذاهب إيديولوجية تافهة بقدر ما هي جوفاء، ثم اختراع أسلحة الدّمار الشامل المرعبة وانتشارها، إضافة إلى الإفلاس الذي حلّ بأمم بأسرها، والفقر المدقع الذي أصاب جماهير غفيرة من عامة البشر، وأخيرا الدّمار الاعتباطي الأرعن الذي لحق ببيئة الكرة الأرضيّة. إن مجرّد سرد هذه الفظائع يقودنا إلى أن نستذكر الإنذارات الإلهية التي عبّرت عنها كلمات حضرة بهاء الله قبل قرن من الزمان إذ تفضّل قائلاً:
أيّها العباد الغافلون! ومع أنّ بدائع رحمتي قد أحاطت جميع ممالك الغيب والشهود، ومظاهر جودي وفضلي قد سبقت كلّ ذرّات الممكنات فإن سياط عذابي لشديد وظهور غضبي لعظيم.1
وكيلا تراود نفس أي مراقب لتاريخ هذا الأمر أن يفسّر مثل هذه الإنذارات خطأ على أنها من الاستعارات المجازيّة والتعبير الرّمزي، كتب حضرة شوقي أفندي في العام 1941 محلّلاً مضمون تلك الإنذارات كما يلي:
تكتسح وجه البسيطة اليوم عاصفة هوجاء، عديمة المثال في عنفوانها، ولا يمكن التكهّن بمسارها، جالبةً الكوارث والنّكبات في آثارها المباشرة، بينما تبشّر نهايتها بنتائج باهرة لا يمكن تصوّر عظمتها. وتدفع بهذه العاصفة قوّة محرّكة، لا ترحم ولا تلين، تتّسع مجالا وتزداد زخما. ومهما كانت قدرتها على تطهير العالم مستورة وخفيّة لا يمكن تقفّي آثارها، فهي قدرة تتعاظم يوما بعد يوم. وهكذا تجد الإنسانية نفسها أسيرة في قبضة تلك القوى المدمّرة، وقد أذهلتها الشّواهد على ضراوة تلك العاصفة التي لا سبيل إلى مقاومتها، كما تجد نفسها أيضا عاجزة عن اكتشاف مصدر تلك العاصفة أو سبر غور معناها، أو التعرّف على نتائجها. فهاهي الإنسانية وقد أصابها الذّهول والارتباك، وألمّ بها عذاب أليم، ولفّها اليأس والقنوط، ترقب هبوب هذه الريح الصرصر العاتية التي بعث بها الله لتخترق ربوع الأرض أطيبها وأبعدها، مزلزلة أسسها، مقلّبة نظمها، مشتّتة أممها، مخرّبة ديار شعوبها، مدمّرة مدنها، مشرّدة ملوكها إلى ديار الغُربة والنّفي، مقوّضة حصونها، مقتلعة جذور أنظمتها، مطفئة نورها، ملوّعة نفوس أهلها.2
*في العام 1900 كان العالم، من وجهة نظر أصحاب النفوذ وأهل الثّراء، هو أوروبا وحسب. وكان اعتبار الولايات المتحدة ضمن ذلك العالم كأنه تنازل عن حق مُنح على مضض. وانتهجت الإمبريالية الغربيّة سياسة استهدفت استعمار شعوب البلدان الأخرى معتبرة ذلك رسالتها في ”نشر الحضارة“ وتمدين العالم بأسره. ووصف أحد المؤرخين العقد الأوّل من القرن العشرين بأنّه كان في الأساس امتدادا ”للقرن التاسع عشر الذي عمّر طويلا“.3 فقد شهدت تلك الفترة من التاريخ عصرا كان الشعور السائد فيه مليئا بغرور لا حدّ له تمثّل في الرّضاء عن الذّات رضاء كاملا. وتلخّصت روح العصر على أفضل وجه في الاحتفالات التي أقيمت العام 1897 تكريما لذكرى مرور ستين عاما على حكم الملكة فكتوريا، وهو الاحتفال المعروف ”باليوبيل الماسي“. وقد ضمّ الاحتفال عرضا عسكريا استغرق مروره عبر شوارع لندن ساعات طوالا، وصاحب ذلك استعراض للقوة العسكرية بكامل دروعها وأبهى حللها الرسمية فاق كل ما سبق أن أقدمت عليه الحضارات الماضية في هذا المضمار.
وفي بداية القرن العشرين شعر نفر قليل من الناس، على اختلاف مشاعرهم وأهوائهم الاجتماعية أو الأخلاقية، بأنّ كوارث تلوح في الأفق، ولكنّه قلّ أن وُجد من يدرك حجم تلك الكوارث وفداحتها. وتوقّع القادة العسكريون في الأمم الأوروبية نشوب حرب ما، ولكن موقفهم تجاه هذه التوقعات كان القبول بالأمر الواقع يحدوهم في ذلك اعتقاد راسخ ذو شقّين: الأوّل بأن الحرب سوف تكون قصيرة الأجل، والثاني بأن النّصر سيكون حليف فريقهم هم دون الآخرين.
كاد نشاط الحركة العالمية من أجل السلام يرقى إلى حدّ المعجزة، فأخذت تستقطب وتضم إلى صفوف مؤيّديها أهل السياسة، وزعماء الصناعة، والعلماء، ورجال الإعلام، والشخصيات من أصحاب النفوذ. وكان من بين هؤلاء قيصر روسيا، الشخصية التي كان احتمال انضمامها إلى مثل هذه الحركة مستبعدا. ورغم أن ازدياد حركة التسلّح كان قد تجاوز كلّ الحدود وأنذر بالعظيم من الشرور، فإن شبكة التحالفات متداخلة الأطراف التي تمّت صياغتها بكثير من الجهد بدت وكأنّها تطمئن الناس إلى أن في الإمكان فض النزاعات الإقليمية وتلافي اندلاع حرب شـاملة، كما كان الحال في معظم الوقت في القرن السابق. ودعم هذا الوهم أن معظم ملوك أوروبا تربط بعضهم ببعض أواصر القرابة وينتمون إلى أسرة موسّعة وأن غالبيتهم تمارس سلطة تبدو وكأنها مطلقة إضافة إلى أن رفع الكلفة بينهم عوّدهم على أن يتنادوا تحبّبا بالكنايات، ثم كانت المراسلات بينهم بصورة حميمة، وكانوا يتزاوجون في ما بينهم فيقترن الواحد منهم بشقيقة الآخر أو بابنته ويمضون إجازاتهم بعضهم مع بعض لمدد طويلة كل عام في القلاع التي يملكونها وأكواخ الصّيد التي يأوون إليها، ويشتركون معا في تنظيم سباقات الزوارق البحرية. وحتى الفوارق المؤلمة في توزيع الثروات أولتها المجتمعات الغربية اهتمامها بجدّ ونشاط وإن كان ينقصها التنسيق والتنظيم، وعالجت هذا الأمر من خلال سَنّ القوانين الهادفة إلى سدّ الاحتياجات الملحّة للنمو السكاني في المدن إضافةً إلى كبح جماح الشركات التجارية الجشعة والتي كانت في القرن الماضي تنهب الناس وتسلبهم أموالهم.
أمّا الأغلبيّة الساحقة من الأسرة الإنسانية التي تقطن خارج حدود العالم الغربي فكان نصيبها من النّعم التي يتمتع بها إخوانهم من الأوروبيين والأميركيين ضئيلا ولم تكن تشاركهم في تفاؤلهم إلا قليلا. وأمست الصين رغم حضارتها العريقة وإحساسها بأنها ”المملكة الوسطى“ ضحية منكودة غزتها سلبا ونهبا كل الأمم الغربية واليابان جارتها المستحدثة. وخضعت جماهير الهند الغفيرة في حياتها السياسية والاقتصادية للسيطرة الكاملة لدولة إمبريالية واحدة فقط، فحال ذلك دون دخولها إلى معترك المنافسة لتحقيق مصالحها. ومع أن الهند نجت من أقبح المساوئ التي عانت منها بلاد أخرى، فقد وقفت عاجزة وهي تشاهد استنزاف مواردها الحيوية التي هي في أشد الحاجة إليها. أمّا مصير أميركا اللاتينية المنتظر فقد تمثّل بكل وضوح في تلك المعاناة التي مرّت بها دولة المكسيك حين خسرت مناطق شاسعة من أراضيها ضمّتها عنوة إلى ممتلكاتها جارتها الشمالية الكبرى، فضلا عن أن مواردها الطبيعية كانت قد لفتت انتباه الشركات الأجنبية الجشعة وأثارت اهتمامها. ولعل ما يبعث على الإحراج ولا سيما من وجهة النظر الغربية، الأحداث التي وقعت في جوار العواصم الأوروبية الكبرى كبرلين وفينيا وما رافقها من ظلم واضطهاد شبيه بما كان يحدث في القرون الوسطى تحمّله عشرة ملايين من الفلاّحين الروس الذين أعتقوا من ربقة العبودية لدى أسيادهم ملاّك الأرض فكانوا أحرارا بالاسم فقط إذ عاشوا حياة مثقلة بالبؤس والشقاء. وكانت أفظع الفواجع شأنا محنة شعوب القارّة الأفريقية التي دفعت الى مواجهات فيما بينها عبر حدود زائفة اصطنعتها الدّول الأوروبية نتيجة مساومات سياسية اتّسمت بالاستخفاف والنيّات السيئة. ففي العقد الأول من القرن العشرين هلك ما يقدّر بأكثر من مليون نسمة من شعب الكونغو. إذ جُوِّع هؤلاء وضُربوا وأجبروا على العمل حتى الموت لينتفع أسيادهم الغرباء ويضاعفوا ثرواتهم، وما حلّ بهؤلاء لم يكن سوى صورة تنذر بما سيؤول إليه مستقبلا مصير أكثر من مائة مليون نسمة من إخوانهم البشر عبر القارّتين الأوروبية والأسيوية قبل نهاية القرن.4
ورغم أن هذه الجماهير الغفيرة من أبناء الإنسانية كانت تمثّل أغلبية سكان الأرض فإنها كانت محتقرة مسلوبة الحقوق والموارد، ولم يُنظر إليها كصاحبة دور تؤدّيه في المسيرة الحضارية، بل نُظر إليها وكأنها أدوات يستخدمها القرن الجديد في هذه المسيرة التي كثر التبجّح بها. وإن كانت هناك فوائد أُنعم بها على نفر قليل من تلك الجماهير، فإن الشعوب المستعمَرة لم تكن سوى مطيّة للقوى المستعمِرة تستخدمها وتروّضها وتستغلّها وتنصّرها وتمدّنها وتعبّئ صفوفها وفق ما تمليه المتغيّرات في البرامج السياسية للدول الغربية. واتّسمت هذه البرامج عند تنفيذها بتراوحها بين الشّدة واللّين، وبين تنوّر الفكر وإيثار النفس، وبين التبشير والاستغلال. وقد صاغت القوى المادّية غايات تلك البرامج ووسائل تنفيذها. وبقيت تلك الأهداف والوسائل بالنسبة لعموم الناس في الدول الغربية مموّهة إلى حد بعيد تحت ستار من التقوى الدينية ونبل المقاصد السياسية التي تنوّعت واختلفت مظاهرها، فكان ذلك بمثابة مبرّر أخلاقي بعث الرضا لدى شعوب الأمم الغربية التي افترضت أن دولها تسبغ النعم على من هم دونها شأنا ومنزلة وأنها بالتالي تجني الثمار المادية التي تتمتّع بها نتيجة هذا الإحسان الذي تقدّمه حكوماتها.
إن الكشف عن عيوب حضارة عظيمة لا يعني بالضرورة إنكار ما جاءت به من الإنجازات والمآثر. ففي بواكير القرن العشرين كان يحق للشعوب الغربية أن تشعر باعتزاز يمكن تبريره، وذلك نظرا لما حقّقته مجتمعاتها من تقدّم ونمو في المجالات التقنية والعلمية والفلسفية. فإثر عقود متتالية من الاختبارات العلمية وجد الغرب رهن يديه الوسائل والأدوات المادية التي كان يستحيل لسائر البشر آنذاك تقديرها حق قدرها. وقامت الصناعات الكبرى لتكرّس نشاطاتها في استخراج المعادن، وفي صناعة المنتجات الكيماوية من كل نوع، وفي إنتاج المنسوجات، وفي تطوير أعمال البناء، واختراع الآلات والمعدات التي حسّنت وسهّلت كلّ وجه من أوجه الحياة. واستمرّت دورة حافلة من الاكتشافات وتصميم النماذج والتحسينات العامة لتضع في متناول اليد قوّة هائلة لا يمكن تخيّلها. ولكن للأسف صاحبت ذلك نتائج وخيمة لم تخطر على بال أحد حاقت بالبيئة بسبب استخدام الطاقة رخيصة التكاليف من الوقود والكهرباء. وشهد ”عصر السّكك الحديد“ تقدّما عظيما آنذاك، وانطلقت البواخر تبحر عبر خطوط الملاحة العالمية. وبانتشار الاتصالات الهاتفية والبرقية ترقّبت المجتمعات الغربية تلك اللحظة التي تتمكّن فيها من هدم حواجز العزلة التي فرضها بُعد المسافات الجغرافية على البشرية منذ فجر التاريخ.
أمّا التّحولات التي جرت في أعمق مستويات الفكر العلمي فقد كانت أبعد من ذلك أثرا. فعند نهاية القرن التاسع عشر اتّخذ الفكر العلمي ما يلزم من الخطوات لتحدّي آراء إسحاق نيوتن (1633-1727) القائلة إن العالم يخضع لنظام آلي هائل يشبه آليّة ساعة كبيرة، وهي الآراء التي استحوذت على الأفكار آنذاك. وبرزت إلى الوجود آراء جديدة أدّت إلى قيام نظريّة ميكانيكا الكم أو الميكانيكا التقديرية. وبعد فترة وجيزة تمّ اكتشاف النظرية النسبية فكانت لها آثار أحدثت انقلابا غيّر المفاهيم وشكّك في ”المذهب الظاهري“ القائل بأن معرفة العالم تعتمد على اعتبار الظواهر وحدها بأنها الحقائق. وكان ”المذهب الظاهري“ هو السائد حينذاك وقد أقرّه الاعتقاد بأنه مذهب نابع من منطق وحسن تقدير.
وقد شجّع مثل هذه الفتوحات العلمية الجديدة وعزّز آثارها التغيير الذي طرأ على ميدان الأبحاث العلمية، وتحوّل البحث العلمي من نشاط متفرّد لعدد من العلماء ليصبح نشاطا منتظما شغل اهتمام المجتمع العلمي العالمي الواسع ذي الأثر والنفوذ، وتمتّع بالمنافع التي توفّرها له الجامعات والمختبرات والندوات لتبادل المعلومات عن اكتشافات التجارب العلمية. ولكن قوّة المجتمعات الغربية لم تقتصر على التقدم العلمي والتقني. فمع بزوغ القرن العشرين بدأت الحضارة الغربية تجني ثمار ثقافة فلسفية عجّلت بإطلاق الطاقات البشرية، وكان لها صدى مؤثّر سرعان ما أحدث ثورة فكرية في جميع أنحاء العالم. وعزّزت تلك الثقافة فكرة قيام الحكم الدّستوري، وحبّذت مبدأ سيادة القانون واحترام حقوق كل فرد من أفراد المجتمع، ووضعت نصب أعين المتأثرين بها رؤية مستقبلية لعصر تسود فيه العدالة الاجتماعية. ولئن كانت أساليب الخطب التي تسهم في تضخيم الشعور بالوطنية في البلدان الغربية تبالغ في المفاخرة بالحرّية والمساواة، فشتّان ما كان بينها وبين واقع الحال. إلا أنه حقّ لأهل الغرب أن يعتزّوا ويفخروا بما أحرزوه من تقدّم نحو تلك المثُل التي تم تحقيقها في القرن التاسع عشر.
أمّا من وجهة النّظر الروحية فقد استحوذت على ذلك العصر ازدواجيّةٌ ظاهرة التناقض غريبة الشكل، وكان الأفق الفكري في اتجاهاته كلها تقريبا ملبّدا بغيوم الخرافات نتيجة السعي إلى محاكاة العصور السابقة وتقليدها تقليدا أعمى. وأمّا بالنسبة إلى معظم سكان العالم فإن نتائج ذلك المسعى تركتهم يتأرجحون ما بين عمق الجهل بالنسبة لما يعرفونه سواء عن الإمكانات المتاحة للبشر والعالم المادي من جهة، وتمسّك ساذج بالعلوم اللاهوتية التي كادت تكون معدومة الصلة بالتجارب الحياتية من جهة أخرى. وحيث نجحت رياح التغيير في تبديد الغيوم من آفاق الطبقات المثقفة في بلاد الغرب، كانت العقائد التقليدية المتوارثة تغيب معظم الأحيان لتحل مكانها علمانية باغية كأنها آفة من الآفات، فبعثت الشكّ والارتياب في النفوس حول طبيعة الجنس البشري الروحية، وحول الالتزام بما تفرضه علينا المُثُل والقيم الأخلاقية. وقد ظهر في كلّ مكان أن العلمنة، التي بدأت تسيطر على أعلى مستويات المجتمع، كانت كأنها تسير متضافرة ومتوازية مع تفشّي الجهل الديني بين عامة الناس. وبما أن للدين نفوذا بعيد الأثر في النفس الإنسانية وسلطانا فريدا في نوعه يطالب أتباعه بالتسليم والخضوع، أبقت التعصّبات الدينية نار الحقد المرير والعداوة الهامدة تحت الرماد حيّة في كل البلدان أجيالا متعاقبة واستعرت بعد ذلك لتغذّي ما وقع من الأهوال والكوارث في العقود اللاحقة.5
* * *مع انفتاح بوّابة القرن العشرين، وفي خضمّ هذا البحر من الثّقة الزائفة واليأس العميق ومن التنوّر العلمي والكآبة الرّوحية، برزت إلى الوجود شخصيّة حضرة عبد البهاء المتألّقة. فرحلته في الحياة التي حملته لتصل به إلى هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ الجنس البشري عرّضته للنفي والسّجن والحرمان مدة أكثر من خمسين عاما. ولم يعرف طوال هذه المدّة ولو لشهر واحد أي معنى للراحة أو الاطمئنان. ففي هذه المرحلة من رحلته تلك كان حضرة عبد البهاء قد قرَّر أن يعلن على الملأ، المستجيب منهم والغافل على حدّ سواء، قيام ذلك العهد الموعود للسلام والعدل في العالم، وهو الوعد الذي دعّم آمال البشر عبر القرون والعصور. فأعلن أنّ الأساس الذي يشيد عليه ذلك العهد في ”قرن الأنوار“ هذا هو وحدة شعوب العالم واتّحادهم:
في هذا اليوم … قد تضاعفت وسائل الاتّصالات والمواصلات حيث يمكن القول بأن القارّات الخمس في العالم قد اندمجت لتصبح قارّة واحدة، … كذلك بالنسبة لمِلل العالم ودوله ومدنه وقُراه كلّها أصبحت تعتمد بعضها على بعض ... وذلك فإن اتّفاق الكلّ واتّحادهم ممكن أن يتحقق اليوم، وما هذا إلاّ من معجزات هذا العصر المجيد والقرن العظيم.6
كُلّف حضرة عبد البهاء بإدارة شؤون الدين الإلهي نيابة عن والده العظيم وأصبح المتحدّث الرّسمي باسمه إبّان سنوات النفي والسجن الطوال التي تلت رفض حضرة بهاء الله عرض السلطات العثمانية عليه ليكون وسيلة تنفّذ بها أغراضها السياسية. ولعلّ أهمّ ما شملته نشاطات حضرة عبد البهاء في تأدية مسؤولياته اتّصالاته بالمسؤولين الرسميين، المحلّيين منهم والإقليميين، الذين كانوا يستنصحونه في ما يواجهونه من مشكلات. ولم يختلف الوضع في العلاقات ما بين حضرة عبد البهاء وأبناء وطنه الأصلي. ففي العام 1875 واستجابة لأوامر والده وجّه حضرة عبد البهاء إلى بلاد فارس، شعبا وحكّاما، رسالة بعنوان ”الرّسالة المدنية“، عرض فيها المبادئ الروحية التي تضمن لمجتمعهم النموّ والتطوّر في عصر النضج الإنساني هذا. فدعا أهل بلاد فارس في افتتاحيّة رسالته تلك إلى أن يعوا الدروس التي لقّنها التاريخ فيجدوا فيها المفتاح الذي يحقق لهم تقدّم المجتمع وازدهاره:
فلاحظوا بعين البصيرة أنّ هذه الآثار والأفكار والمعارف والفنون والحِكم والعلوم والصنائع والبدائع المختلفة المتنوّعة كلها من فيوض العقل والمعرفة، وما من طائفة أو قبيلة ازدادت في هذا البحر اللجّي تعمقا إلاّ ازدادت على جميع القبائل والملل تقدّما. وما عزّة أي ملّة وسعادتها إلا أن تشرق من أفق المعارف إشراق الشمس وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.7
مهّدت ”الرسالة المدنية“ السبيل وبشّرت بالهداية التي سوف تفيض مستقبلا من قلم حضرة عبد البهاء في العقود التالية. فإثر صعود حضرة بهاء الله شعر المؤمنون الفرس بخسارة فادحة فهدَّهم الحزن، ولكن فيضاً من الواح حضرة عبد البهاء ورسائله أنعش أرواحهم ومدّهم ليس بالدعم المعنوي فقط بما كانوا يحتاجونه من سند روحي، بل وفّر لهم أيضا القيادة الحكيمة لاختطاط طريقهم عبر الفوضى التي كانت تهدد سلامة النظام القائم آنذاك في ديارهم.
كانت تلك المراسلات تصل إلى أصغر القرى عبر بلاد فارس حاملة إجابات حضرة عبد البهاء عن الأسئلة والالتماسات الموجهة إليه من قبل عدد غفير من المؤمنين، مفيضة عليهم بالهداية، مشجّعة إياهم، باعثة للطمأنينة في نفوسهم. فنقرأ مثلا في لوح موجّه إلى الأحبّاء في قرية ”كيشه“ حيث يذكر حضرة عبد البهاء في لوحه ذلك مائة وستين منهم بالاسم. أمّا بالنسبة للعصر الذي انبثق فجره آنذاك فقد قال حضرة عبد البهاء ”بأن هذا القـرن هو قرن الأنوار“ ... واسترسل في شـرح هذه ”الصورة الذهنية“ التي رسمها لنا على أنها قبول بمبدأ الوحدة والاتّحاد وما يترتّب على ذلك من آثار ونتائج:
إن المعنى الذي أقصده هو أن على أحبّاء الله معاملة من يضمر لهم الشر كمن يأمل لهم الخير… يعني أن عليهم معاشرة الأعداء بما يليق بالأحبّاء، وأن يجابهوا الظالم وكأنه رفيق كريم، وعليهم ألاّ ينظروا إلى ذنوب أعدائهم ونقائصهم وأخطائهم، وألاّ يأبهوا لعداوتهم وظلمهم وجورهم.8
إن دعوة حضرة عبد البهاء هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين المضطهدين القاطنين في ذلك الربع القصي من بلد مازال بمنأى عن التطورات الاجتماعية والفكرية الجارية في أماكن أخرى، هذه الدعوة إلى الارتقاء والسمو بأبصارهم فوق همومهم المحلية وإلى تصوّر ما سوف تكون عليه الحال حين تتحقق الوحدة العالمية، أمرٌ يفوق حدود الإدراك العادي بكل تأكيد:
عليهم بالأحرى أن ينظروا إلى البشر أجمعين يهديهم في ذلك دعوة الجمال المبارك بأن الناس جميعا عباد سلطان العظمة والجبروت، فقد شمل بلحاظ عنايته الخلق أجمعين بما نطق به من قول كريم، وأمر بأن نُظهر تجاه الكل المحبّة والودّ والحكمة والرأفة والاستقامة والاتحاد دون أن نفرّق بين أحد من العباد.9
لم تكن دعوة حضرة عبد البهاء هذه مجرد حث فقط على رفع مستوى الإدراك وزيادته بالنسبة لمفاهيم الوحدة والاتّحاد، إنما تضمّنت أيضا دعوة مماثلة للالتزام والتنفيذ. فاللهجة التي اعتمدها اللوح المذكور كان فيها من الإلحاح والثقة ما يشعرنا بتلك القوّة التي بعثت مستقبلا الإنجازات العظيمة للمؤمنين الفرس في العقود التي مرت منذ ذلك التاريخ. فأعزّ هؤلاء أمر الله مقاما، وروّجوا له على نطاق عالمي واسع إضافة إلى قيامهم باكتساب تلك القدرات التي تساعد الإنسانية على التقدم:
يا أحباّء الله ! قوموا على خدمة العالم الإنساني بكل نشاط وانبساط، وكونوا محبّين للجنس البشري، فغضّوا الطرف عن الموانع وحرروا أنفسكم من القيود … فالخلاص من هذه الموانع والقيود يكون سببا لنزول النّعم الإلهية. فلا تستريحوا آناً ولا تستكينوا دقيقة، ولا تتوقفوا لحظة، ولا تتريّثوا ثانية، بل اندفعوا كأمواج بحر عظيم، وارفعوا زئيركم كالحيتان في بحر الأبديّة … فما دام هناك رمق من الحياة في عروقكم عليكم بالسعي والاجتهاد لوضع أساس لن تزعزعه القرون والعصور، لتبنوا صرحا لن تقوّضه توالي الدهور والأحقاب، صرحا أبديا لا نهاية له حتى تقوم سلطنة الأفئدة والأرواح منيعة في الدارين.10
ولا بد لعلماء التاريخ الاجتماعي في المستقبل من أن يدرسوا دراسة متمعّنة في دقائق التحوّل الذي أحدثه حضرة عبد البهاء اجتماعيا في تلك السنوات المبكرة. وسيحظى هؤلاء الباحثون بحرية مطلقة للاستفادة من المصادر والوثائق الأولية لإجراء مثل هذه الدراسة. فقد تمكّن حضرة عبد البهاء يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، من تنشيط الجامعة البهائية في بلاد فارس لكي تتوسّع. بل انه خلق لها أيضا وعيها، وصاغ لها حياتها الجماعية، وفعل كل ذلك من منفاه البعيد تحيط به جحافل الأعداء يتحرّشون به دوما في كل آن. وكان نتيجة هذه المساعي أن برزت إلى الوجود ثقافة لم تشهد الإنسانية مثيلا لها في التاريخ رغم كونها ثقافة محليّة محدودة. فقرننا هذا بكل ما أفرزه من فوضى واضطراب، ورغم ادّعاءاته الطّنانة المتبجّحة حول خلق نظام جديد، لا نجد فيه ما يشبه إنجازات عقل فرد واحد سخّر ما يمتلكه من المواهب ليشيد، وبصورة منتظمة، جامعة متميّزة ناجحة اعتبرت ميدان نشاطها النهائي الكرة الأرضية بأسرها.
وجدت الجامعة البهائية في بلاد فارس نفسها وكأن حياة جديدة قد دبّت فيها رغم ما كانت تعانيه من موجات متقطّعة من الفظائع على أيدي رجال الدّين المسلمين ومؤيديهم، وفي وقت توانت فيه سلسلة من ملوك الأسرة القاجارية عن توفير أي ضمان أو حماية لأبناء تلك الجامعة. وكان من مظاهر هذه الحياة الجديدة أن تضاعف عدد المؤمنين في كل منطقة من مناطق البلاد الفارسية، إذ دخل دين الله وجهاء المجتمع بمن في ذلك عدد من رجال الدين من أصحاب السلطة والنفوذ، وبرزت لأول مرة الهيئات الإدارية الرائدة في شكل مجالس استشارية أولية. ويستحيل أمام هذا التطوّر الأخير لوحده أن تكون هناك مغالاة في مدى أهمية قيام تلك المجالس الاستشارية. فالذي حدث هو أن جامعة واحدة تمثّل كل فئات مجتمعها الذي تنتمي إليه تمكنّت من اختطاط طريق جديد لها على عكس ما كان يحدث في الماضي لتأخذ على عاتقها مسؤولية تقرير شؤونها الجماعية بنفسها عبر التشاور والاستفتاء. وقد تم كل هذا في بلد وبين أفراد شعب اعتاد لقرون طويلة الرضوخ لنظام السلطة الأبوية حيث كانت سلطة اتّخاذ القرار حكرا على ملك مطلق الصلاحيات أو من حق مجموعة من الأئمّة المجتهدين الشيعة.
ففي الكيانين الثقافي والاجتماعي اللذين سعى حضرة عبد البهاء لتنميتهما في المجتمع الفارسي تمثلت الطاقات الروحية في الشؤون العملية للحياة اليومية. وكان التأكيد الذي تضمّنته التعاليم الإلهية حول أهمية التربية والتعليم حافزا لتأسيس المدارس البهائية في العاصمة وغيرها من مراكز الأقاليم. وكان من ضمن هذه المدارس مدرسة ”التربية“ للبنات التي ذاع صيتها واشتهرت على نطاق وطني.11 وتبع تأسيس هذه المدارس إقامة المستوصفات والعيادات الطبيّة التي ساعد في إيجادها بهائيّون أوروبيون وأمريكيون. ثم تأسست أيضا شبكة من السّعاة يحملون الرسائل عبر البلاد ليمدّوا الجامعة البهائيّة الجادّة المكافحة بالخدمات البريدية التي افتقدها إخوانهم المواطنون بصورة بارزة للعيان. وما كانت هذه التغيرات الجارية إلا لتمسّ أبسط ظروف الحياة اليومية وأحوالها. فعلى سبيل المثال امتنع البهائيون، إطاعةً لأحكام ”الكتاب الأقدّس“، عن الدخول إلى الحمّامات العامة المنتنة التي كانت أرضا خصبة لنشر الأوبئة والأمراض، واستعاضوا بدلا من ذلك بالاغتسال بالماء البكر النّقي مستخدمين المرَشّ.
كان هذا التقدم في نواحيه الاجتماعية والتنظيمية والعملية يدين بالفضل لتلك الدوافع التي كانت تحرّك آنذاك ما كان يجري على قدم وساق من تحوّل وتغيير بين صفوف المؤمنين. وكان من آثار هذا التحول والتغيير الأخلاقي أن برز البهائيون – حتّى في نظر أعداء دينهم – كمرشّحين لتبوّء المناصب التي تتطلب الثقة والأمانة. وحدثت هذه التحوّلات بسرعة فائقة ساعدت على فرز قطاع معيّن من سكّان البلدان الفارسية ليقف متميّزا على الأغلبية المحيطة به والمعادية له، فكان ذلك بمثابة الدليل والبرهان على القوى الغالبة التي أطلقها من عقالها ميثاق حضرة بهاء الله مع أتباعه وتلك التي تمثّلت في تبوّء حضرة عبد البهاء مركز القيادة التي خوّله إياها وخصّه بها هذا الميثاق.
كانت الحياة السياسية الفارسية خلال هذه السنوات تكاد تكون في حالة من الاضطراب المستمر. فإبّان هذه الفترة تمّ إقناع مظفّر الدين شاه، خليفة ناصر الدّين شاه، بالموافقة في العام 1906 على وضع دستور للبلاد. غير أنّ محمد علي شاه، الذي تلاه في الحكم، أقدم بكل استهتار على حلّ كل من البرلمانين الأول والثاني، وذهب في مرّة من المرّات إلى حد مهاجمة بناء كان يجتمع فيه البرلمان بنيران المدفعية والقنابل. أمّا الحركة المسمّاة ”بالحركة الدستورية“ التي أطاحت بمحمد علي شاه فقد تمكّنت من أن تُجبر أحمد شاه، آخر ملوك الأسرة القاجاريّة، على دعوة برلمان ثالث للانعقاد. إلا أن هذه الحركة كانت منقسمة على ذاتها يمزّقها تنازع الأطراف المتنافسة ويستغلّ خلافاتها بغير خجل أو وجل رجال الدين الشيعة. وفي خضمّ هذه التطورات استمرت الأحزاب المؤيدة للنظام الملكي وتلك الداعية للنظام الجمهوري على حدّ سواء في إحباط جهود البهائيين للإسهام إسهاما بنّاء في موجة التّحديث التي عمّت البلاد. وقد تأثّر كل من الملكيين والجمهوريين بجو التعصّب الديني السائد حينذاك فاعتبروا الجامعة البهائية مجرّد كبش فداء يخدم مصالحهم الآنيّة الخاصة. وهنا أيضا سوف يتمكّن عصر أكثر نضجا من عصرنا في مفاهيمه السياسية، من أن يقوّم ويثمّن الطريقة التي تمكّن بها حضرة عبد البهاء من قيادة جامعة ترزح تحت عبء الحصار لتبذل ما في وسعها لتشجيع الإصلاح السياسي في البلاد، وأن تكون مستعدة لأن تتنحّى جانبا إذا ما رفضت جهودها الخيّرة وقوبلت بالتهكّم والازدراء. ولا شك في أن حضرة عبد البهاء قد ضرب المثل في الكيفية التي يمكن للجامعة البهائية انتهاجها لمواجهة تحدّيات المستقبل التي لا مفرّ منها.
ولم يكن نفوذ حضرة عبد البهاء يمتدّ إلى الجامعة البهائية سريعة النمو ويصلها في مهد الأمر عبر ألواحه فقط. فقد كان المؤمنون الفرس، على عكس أهل الغرب، لا يتميّزون عن أهل بلاد الشرق الأوسط في الهيئة أو الملبس. ولذا فإنهم لم يكونوا ليثيروا ارتياب السلطات العثمانية وشكوكها عند زيارتهم حضرة عبد البهاء قادمين من مهد الأمر. وكان من نتيجة ذلك أن تمكّن سيل من الزائرين الفرس أن يضعوا في تصرّف حضرة عبد البهاء وسيلة إضافية شديدة التأثير تمكّن عن طريقها من أن يبعث الروح في نفوس الأحبّاء، موجّها نشاطاتهم، ومجتذبا إياهم للتعمق دوما في فهم الغاية التي جاء من أجلها حضرة بهاء الله. وكان بين من زاروا عكّا نفر حملوا أعظم الأسماء شأنا في تاريخ الدين البهائي في إيران، وقد عادوا إلى مواطنهم وهم على أتم استعداد لبذل أرواحهم، إذا اقتضى الأمر، لكي تتحقّق رؤية حضرة عبد البهاء. وكان من ضمن ذلك النفر من المحظوظين خالد الذكر وليّ الله ورقاء ونجله روح الله كما كان معهم الحاجي ميرزا حيدر علي، وميرزا أبو الفضائل، وميرزا محمد تقي أفنان، إضافة إلى أربعة من أيادي أمر الله المرموقين وهم ابن أبهار والحاجي ملاّ علي أكبر وأديب العلماء وابن أصدق. وما الروح التي تغذّي اليوم المهاجرين الإيرانيين وتقوّيهم في كل جهة من جهات العالم وتسهم أيضا إسهاما خلاّقا في بناء حياة الجامعة البهائية إلا امتداد لخيط ذهبي تتنضّد فيه أجيال العائلات واحدة بعد أخرى كعقد يصلها بتلك الأيام الخوالي من أيّام البطولة الأولى. وإذا أمعنا النظر فيما مضى يظهر جلياً أنّ الظاهرة التي نسمّيها اليوم بالسّياق المزدوج لمرحلتي التوسّع والتدعيم تجد جذورها أيضا في تلك السنوات الرائعة.
بعثت كلمات حضرة عبد البهاء وحكايات العائدين من زيارته في الأراضي المقدّسة روحا جديدًا في نفوس المؤمنين الفرس، فهبّوا للقيام بالنشاط التبليغي الجوّال في الشرق الأقصى. وقد دعم هذا النشاط المبذول كل ما تحقّق إبّان السنوات الأخيرة من بعثة حضرة بهاء الله كتأسيس الجامعات البهائية في كل من الهند وبورما ونشر الأمر الكريم حتى وصوله إلى الصين. ومن الدلائل على القوى الجديدة التي سرت في كيان الأمر الكريم كان تشييد أول مشرق للأذكار في العالم i وذلك في تركستان، وهي أحد أقاليم الدولة الروسيّة، حيث نمت جامعة بهائية تحيا حياة أمريّة. وكان مشرق الأذكار هذا مشروعا أوحى به حضرة عبد البهاء ونُفّذ منذ بدايته تحت إشرافه وعلى هدى من نصحه.
وقد كان لهذه النشاطات واسعة المدى التي امتدّت من البحر المتوسط إلى بحر الصين، وقام بتنفيذها جمع من المؤمنين الذين ازدادوا عزما وثقة، الفضل في إرساء القاعدة التي استند إليها حضرة عبد البهاء لتقفّي الفرص الواعدة التي بدأت تلوح في الأفق عند بزوغ فجر القرن الجديد. وما لا يمكن التغاضي عنه أو الإقلال من أهميته أنّ تلك القاعدة كانت تحتضن الخلفيات الدينية والعرقيّة والقومية كثيرة التعدّد والتنوّع التي يمثّلها الشرق. وهكذا أصبحت هذه القاعدة إنجازا يمثّل الوحدة والاتحاد، فزوّد ذلك حضرة عبد البهاء بالأمثلة التي يسوقها مرارا في ما يلقيه من خطب وبيانات على مستمعيه من أهل الغرب، وذلك ليبرهن على القوى الباعثة على الوحدة والاتّحاد النابعة من ظهور حضرة بهاء الله.
إن أعظم نجاح حقّقه حضرة عبد البهاء في تلك السنوات الأولى كان إقامة ضريح حضرة الباب الشّهيد، الذي نقل رفاته إلى الأراضي المقدّسة في جوّ ظروف محفوفة بالمخاطر والصعوبات. شيّد حضرة عبد البهاء هذا الضريح إثر جهود مضنية على سفح جبل الكرمل في موقع كان حضرة بهاء الله قد عيّنه من قبل لهذا الغرض. ولقد شرح حضرة شوقي أفندي أنه بينما كانت دماء الشهداء تروي فيما مضى من العصور بذور الإيمان في قلوب الأشخاص أصبحت اليوم تسقي جذور مؤسّسات الأمر وهيئاته الإدارية.13 ويُكسب بُعد النظر هذا معنى خاصا للكيفية التي سوف يشاد بها نظام حضرة بهاء الله العالمي في ظل مقام حضرة الباب، المبشّر الشهيد بدين الله. وهاهنا يضع حضرة شوقي أفندي هذا الإنجاز الذي حققه حضرة عبد البهاء في نصابه الصحيح عالمياً وتاريخيا حيث يقول:
وكما هو الحال في عالم الرّوح فإن حقيقة حضرة الباب قد مجّدها مؤسّس الظهور البهائي على أنها ’النقطة الأولى التي تدور حولها أرواح المرسَلين‘. وكذا الحال في العالم الظاهر، لأنّ رفاته المقدّس يمثّل قلب ومحور ما يمكن اعتباره دوائر تسعا ذات مركز واحد،14 فيوازي هذا المجاز ما أضافه مؤسس ديننا مؤكِّدا بقوله: ’الحمد لله الذي أظهر النقطة وفصّل منها عِلم ما كان وما يكون‘ و’النقطة التي بها ذوت من ذوت‘.15
أمّا أهمّية ما أنجزه حضرة عبد البهاء وتكبّد في سبيله عظيم العناء فيصفه حضرة شوقي أفندي من وجهة نظر حضرة عبد البهاء نفسه بصورة مؤثّرة فيقول:
فلمّا انتهى كل شيء وأودع بعد أمد طويل رفات حضرة المظهر الإلهي الشيرازي مقرّه الأخير في صدر جبل الله المقدّس خلع حضرة عبد البهاء عمامته، وخلع نعليه، ونزع عباءته وركع بين يدي التابوت، وكان مازال مفتوحا، وشعره الفضّي يتماوج حول رأسه وأسارير وجهه تتألّق بالبشر، ثم استراح بجبينه على حافّة التابوت الخشبي، وشهق شهيقا عاليا ثم بكى بكاء أبكى من حوله. ولم يستطع أن ينام ليلته، فقد جرفته الأحاسيس وعصفت به المشاعر.16
بحلول العام 1908 أطلقت الحركة المسمّاة ﺑ”تركيا الفتاة“ سراح معظم المعتقلين الدينيين والسياسيين في سجون الإمبراطورية العثمانية، بمن فيهم حضرة عبد البهاء، فوجد نفسه فجأة وقد رُفع عنه الحظر الذي قيّد تحرّكاته ضمن مدينة السجن عكّا وما جاورها من الضواحي. ووجد نفسه أيضا في موقف يسمح له بأن يباشر مهمة وصفها حضرة شوقي أفندي في وقت لاحق بأنها إحدى أهم المنجزات الثلاث التي حققها حضرة عبد البهاء أثناء فترة ولايته، ألا وهي الإعلان إعلانا عامّا عن دين الله وأمره في مراكز الكثافة السكّانية الرئيسة في العالم الغربي.
*كانت طبيعة الأحداث المثيرة التي أحاطت بزيارة حضرة عبد البهاء إلى أمريكا الشمالية وأوروبا هي السبب في أن أخبار الرحلة التاريخية التي قام بها حضرة المولى وما أثارته من اهتمام قد طغت على الأهميّة التي اتسمت بها السنة الأولى من ترحاله التي قضاها في مصر. فقد وصل حضرة عبد البهاء إلى مصر في شهر أيلول (سبتمبر) من العام 1910، وكان في عزمه مواصلة السفر مباشرة إلى أوروبا. غير أنّ توعّك صحته أجبره على تأجيل السفر والإقامة في منطقة الرّمل، إحدى ضواحي مدينة الإسكندرية، فمكث حضرة عبد البهاء في مصر حتى شهر آب (أغسطس) من العام 1911. وكان ما حدث أن الأشهر التالية كانت فترة مثمرة جدا، وأن نتائجها الكاملة ستظهر في مقدّرات الأمر المبارك لأعوام عديدة بعد ذلك وخاصّة في ما يتعلق بالقارّة الأفريقية. ومما لا ريب فيه أن الإعجاب الشديد الذي كان يكنّه لحضرة عبد البهاء فضيلة الشيخ محمد عبده، وكان التقاه مراراً في بيروت، قد مهّد السبيل أمام نشاطات حضرة عبد البهاء في مصر، وعُيّن فضيلة الشيخ محمد عبده فيما بعد مفتيا للديار المصرية وأصبح شخصيّة مرموقة في جامعة الأزهر الشريف.
لإقامة حضرة عبد البهاء في مصر جانب يستدعي اهتماما خاصا. فقد هيّأت تلك الإقامة المؤقتة الظروف المناسبة للمجاهرة والإعلان عن الأمر الإلهي إعلانا عاما لأول مرّة. فالمناخ الفكري المتحرّر والانفتاح النسبي الذي ساد كلاّ من مدينتي القاهرة والإسكندرية فتح المجال أمام حوار صادق صريح بين حضرة عبد البهاء وأبرز شخصيات العالم الإسلامي السّني من أهل الفكر. وكان من ضمن هؤلاء رجال الدين، ونوّاب البرلمان، والرسميون، وأبناء الطبقات العليا في البلاد، إضافة إلى محرري الجرائد والمجلاّت الذين كانوا يمثّلون الصحف العربية ذات النفوذ في وقت كانت فيه تلك الصحف متأثّرة بالتقارير المغرضة الصادرة من بلاد فارس ومن إسطنبول حاضرة الدولة العثمانية. فأتيحت لهم الآن الفرصة ليكتشفوا بأنفسهم حقيقة الأمر الواقع. وغيّرت المنشورات التي كانت تجاهر بعدائها للدين البهائي لهجتها السابقة إلى الحدّ الذي استهلّ فيه أحد محرري هذه الصحف مقالته الافتتاحية في جريدته حول زيارة حضرة عبد البهاء إلى مصر بهذا الوصف: ”إن صاحب الفضيلة الميرزا عبّاس أفندي، العالم العلاّمة، هو زعيم الطائفة البهائية في عكّا والمرجع الرئيسي للبهائيين في كل أنحاء العالم.“ وعبّرت الصحيفة أيضا عن ترحيبها بالزيارة التي كان يقوم بها حضرة عبد البهاء إلى الإسكندرية آنذاك.17 وأشادت هذه المقالات وغيرها بصورة خاصّة بما يتمتّع به حضرة عبد البهاء من فهم عميق للدين الإسلامي. وامتدحت مبادئ الوحدة والاتّحاد والتسامح الكامنة في صُلب التعاليم التي ينادي بها.
ورغم أن إقامة حضرة عبد البهاء في مصر فرضها توعّك صحته، فإن الفترة القصيرة التي قضاها هناك كانت حافلة بالنّعم والبركات. أمّا الدبلوماسيون والمسؤولون الغربيون فقد أتيح لهم أن يشاهدوا شخصيا ويلاحظوا عن كثب النجاح الخارق الذي كان حليف حضرة عبد البهاء في اتّصالاته وعلاقاته مع أبرز شخصيات الشرق الأدنى، وهي المنطقة التي كانت تحظى آنذاك باهتمام خاص من قبل الأوسـاط الأوروبية. ولذا لم يكد حضرة عبد البهاء يبدأ رحلته إلى الغرب في الحادي والعشرين من شهر آب (أغسطس) العام 1911 حتى كانت شهرته قد ذاعت وسبقته إلى آفاق الدّيار الأوروبية.
* * *في لوح وجّهه حضرة عبد البهاء إلى أحد المؤمنين الأمريكيين العام 1905 نجد بيانا فيه من الهداية بقدر ما فيه من المشاعر المؤثّرة. يشير حضرة عبد البهاء في هذا اللوح إلى الحال التي كان عليها إثر صعود حضرة بهاء الله فيذكر في هذا الصدد أخبار رسالة وصلته من أمريكا في ذلك الوقت الذي وصفه بقوله ”بأنه كان وقتا قد هاجت فيه أمواج البلايا والامتحانات.“ لكنه يسترسل فيقول:
لقد كانت هذه حالتنا عندما وصلتنا رسالة من الأحبّاء في أمريكا. كتبوا يقولون بأنهم تعاهدوا على الاتحاد والاتفاق في جميع الشؤون … وأنهم نذروا أنفسهم أن يضحّوا في سبيل محبّة الله حتى يفوزوا بالحياة الباقية. وبمجرّد أن تُليت هذه الرسالة واطّلعنا على ما ذيّلها من الإمضاءات، غمر عبد البهاء من الفرح والسرور ما لا يمكن وصفه.18
أن يقدّر البهائيون الظروف التي صاحبت انتشار أمر الله في الغرب حق قدرها أمر ذو أهمية حيوية بالنسبة لهم في الوقت الحاضر، وذلك لأسباب عدّة. وأن نعرف قيمة تلك الظروف حق المعرفة سيساعدنا على أن نحرر أنفسنا من وطأة ثقافة تطفّلية فظّة اقتحمت علينا حياتنا باسم الاتّصال، ألا وهي ”الثقافة المعلوماتيّة“ التي أصبحت مألوفة في عصرنا هذا إلى حدّ بتنا معه نمر بها مرور الكرام لا نلحظها ولا نحسّ بوجودها. وستمكّننا هذه المعرفة أيضا من أن نلتفت إلى ما تحلّى به أسلوب حضرة عبد البهاء من دماثة الخلق حين أراد أن يقدّم للجماهير المستمعة إليه لأول مرة المفاهيم التي جاء بها حضرة بهاء الله والمتعلّقة بالمجتمع البشري والطبيعة الإنسانية، وهي مفاهيم ثوريّة في آثارها تقع خارج ما ألِفه المستمعون إليه من الخبرات والتجارب. ويصبح في مقدورنا أيضا أن نفهم معنى لباقة التعبير التي ميّزت الكيفية التي استخدم بها حضرة عبد البهاء كل استعاراته اللفظية وأمثلته التاريخية علاوة على مراعاته شعور من يتحدث إليهم بعيدا عن المواجهة والتحدّي، ثم تلك العلاقة الحميمة التي كان في مقدوره أن يستحضرها متى شاء ويقيمها مع الماثلين بين يديه. وأخيرا أن نفهم ذينك الصبر والحلم اللذين تجلّيا واضحين فيه وهو يجيب عن أسئلة تُوجّه إليه عن جوهر الحقيقة، وهي أسئلة قائمة في معظمها على افتراضات خاطئة فقدت أي صدقية كانت لها في وقت من الأوقات وعفَى عليها الزمن.
وثمة أمر آخر يجدر بنا أن نقدّره حقّ قدره أيضا هو عِظَم الروحانية لدى أولئك الذين لبّوا دعوة حضرة عبد البهاء وآمنوا بالدين الجديد، وسبيلنا إلى ذلك أن نتقصّى مليا ذلك الظرف التاريخي الذي وجّه فيه حضرة عبد البهاء خطابه الروحي إلى الغرب. ولم يلبّ هؤلاء دعوة حضرة عبد البهاء لكونهم أبناء عالم متحرر ومتقدم اقتصاديا، بل على العكس، لبّوا الدعوة رغما عن عالمهم الذي عرفوه وأحبّوه وأعزّوه دون شك، والذي كان عليهم أن يعيشوا فيه بحكم الضرورة يوما بعد يوم. فقد نبعت تلبيتهم لتلك الدعوة من مستوى للوعي جعلهم يدركون - وإن كان هذا الوعي مبهما أحيانا - حاجة البشر الماسّة إلى التنوّر الروحاني. ولكي يَثبت هؤلاء المؤمنون ويصمدوا في ما التزموا به نتيجة هذا الإدراك وجب عليهم أن يقاوموا الضغوط العائلية والاجتماعية، وأن يرفضوا أيضا تلك المبرّرات الفكرية الساذجة التي أُمطروا بها دفاعا عن الرؤية العالمية التي نشأوا عليها في مجتمعهم، وهي الرؤية التي كان كل ما يحيط بهم يعرّضهم للتأثّر بها. لقد شيّد هؤلاء المؤمنون الأوائل بما قدّموه من التضحية وبذل النفس معظم الأسس التي تقوم عليها الجامعات البهائية المعاصرة في كلا الشرق والغرب وفي أماكن أخرى من العالم. واتّسم ثبات المؤمنين الأوائل من أهل الغرب بضرب من البطولة التي لا تقل أثرا في حد ذاتها عن تلك التي اتّصف بها إخوانهم في الدين من الإيرانيين الذين واجهوا في الفترة ذاتها القهر والقتل والاضطهاد في سبيل الدين الذي اعتنقوه.
كان في مقدّمة من لبّى دعوة حضرة عبد البهاء من أهل الغرب تلك المجموعات الصغيرة من المؤمنين الجسورين الذين وصفهم حضرة شوقي أفندي بأنهم كانوا ”الزائرين السكارى بخمر الله،“ وهم الذين أتيحت لهم الفرصة للتشرّف بمحضر حضرة عبد البهاء في مدينة السجن عكّا وشاهدوا بأنفسهم تألّق شخصه الكريم وسمعوا من فمه المبارك كلمات لها من النفوذ والقوّة ما يغيّر النفوس ويحوّل مجرى الحياة الإنسانية. أمّا الأثر الذي تركه اللقاء في نفوس الزائرين فقد عبّرت عنه ماي ماكسويل بقولها:
أما عن اللقاء الأوّل … فإني لا أذكر فرحا ولا ترحا ولا حسّاً مما يمكنني أن أسمّيه. ذلك لأنني سموت فجأة إلى علوّ شاهق، واتّصلت روحي بالروح الإلهي. وحيّرتني هذه القوّة الطاهرة المقدّسة العظيمة ….19
وحين عاد هؤلاء إلى مواطنهم كان ذلك، حسب ما وصفه حضرة شوقي أفندي، ”إيذانا بانطلاق نشاط منظّم متساند ومتواصل نما واستجمع قوة أعظم، وامتدت أغصانه إلى أوروبا الغربية وولايات أمريكا الشمالية وأقاليمها الشاسعة ....“20 وانهال فيض من الألواح وجّهها حضرة عبد البهاء إلى من راسلهم في كل من أمريكا وأوروبا فحرّكت هذه الألواح جهود هؤلاء المؤمنين وإخوانهم الآخرين في الدين، كما اجتذبت عددا متزايدا من المقبلين الجدد. وكانت تلك الألواح بمثابة رسائل وسّعت آفاق الفكر والخيال لتحتوي المفاهيم والمبادئ والمثل التي ينادي بها الظهور الإلهي الجديد. ولا بدّ أننا سنشعر بنفوذ هذه القوة الخلاّقة حينما نقرأ ما خطّه ثورنتون تشيس، أول مؤمن أمريكي، إذ كتب يقول:
كانت رسائل حضرة عبد البهاء تنطلق من مركز حضوره كأنها حمامات بيضاء فتنتشر لتصل إلى أقاصي نقاط الأرض، وكانت غزيرة تُعدّ بالمئات يخطّها يوميا فكان من المستحيل أن يجتهد في كتابتها فيصرف الوقت الكافي لتمحيص الأفكار أو أن يخضعها للسياق الفكري الذي يخضع له البحث العلمي. تجاوزت رسائله هذه الاعتبارات كلّها إذ إنها كانت كالأنهار تفيض من منابعها الفوّارة بغزارة .…21
تمثّل هذه المشاعر في جملتها منظورا إضافيا خاصا يؤكد تصميم حضرة عبد البهاء حين أخذ على عاتقه ذلك الجهد الطموح في السفر والترحال الذي بعث القلق في نفوس العديد ممن حوله من الأحبّاء. وبغضّ النظر عن أية تحفّظات ودون أي اعتبار للمعوقات التي قد تفرضها سنّه المتقدمة أو تدهور صحته أو العجز الذي أصابه نتيجة العقود التي قضاها في السجن، بدأ سلسلة رحلاته التي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات ليصل في نهاية المطاف إلى الشاطئ الباسيفيكي في غرب القارة الأميركية الشمالية. فالأخطار والشدائد التي كانت تهدّد المسافرين عبر أقطار العالم المختلفة وخاصة في بداية القرن العشرين كانت تمثّل أقل العقبات شأنا في سبيل تلك الأهداف التي آلى حضرة عبد البهاء على نفسه أن يحقّقها. أما العقبات الأخرى الأخطر شأنا فقد بيّنها حضرة شوقي أفندي حين أشار إلى حضرة عبد البهاء قائلا إنه:
… هو الذي، كما عبّر بكلماته عن نفسه، دخل السجن يافعا وغادره شيخا، ولم يقف في حياته خطيبا في جمع عام، ولم يتلق علما في مدرسة ولم يتنقل في حياته في وسط غربي، ولم يعرف عادات الغرب ولغاته، هو ذاته الذي نهض لا ليعلن من منابر ومنصات عواصم أوروبا وأمهات مدن القارة الأمريكية الشمالية الحقائق المميّزة المودعة في دين الله وحسب، بل وليوضح كذلك الأصول الإلهية لمن سبقوا والده الجليل من مظاهر أمر الله، وليبيّن الصلة التي تربطهم بذلك الدين.22
*ولم يكن هناك أفضل أو أروع من لندن مدينة يتوخّاها المرء لتكون ساحة تشهد أول فصول ملحمة الأحداث المثيرة التي تمخّضت عنها زيارة حضرة عبد البهاء إلى الغرب. فقد كانت لندن في ذلك العهد العاصمة الكبرى لإمبراطورية شاسعة مترامية الأطراف فاقت أي إمبراطورية أخرى عرفها العالم، إذ جمعت تحت لوائها شعوبا وأجناسا في مختلف أركان المعمورة. أمّا في نظر تلك المجموعات الصغيرة من المؤمنين التي عملت على تنظيم برنامج الزيارة والإعداد لها وهي توّاقة لكي تحظى بالنظر إلى محيّاه الكريم، فالزيارة جاءت فوزا عظيما تجاوز كلّ ما كان يراودها من عظيم الآمال. وهكذا استقبل حضرة عبد البهاء في لندن مَن قصَده من المؤلّفين والكتّاب، والموظفين الرسميين، والباحثين العلماء، ومحرّري الصحف والمجلات، والصناعيين، وقادة حركات الإصلاح، وأفراد النّخبة البريطانية، ومن رجال الدين المسيحيين ذوي النفوذ الذين أقبلوا جميعا متلهّفين إلى لقائه. وجّهوا إليه الدعوات ليتحدّث إليهم من على المنابر ومنصّات الخطابة، ويحاضر في قاعات الدّرس وفي منازلهم، وغمروه بآيات التقدير والإعزاز لما عرضه عليهم من الأفكار والآراء. وفي يوم الأحد، العاشر من شهر أيلول (سبتمبر) 1911، وقف حضرة عبد البهاء أول ما وقف خطيبا بين الناس، من على منبر معبد المدينة المسيحي المعروف ”بسيتي تمبل“، فحّركت كلماته المشاعر وأوحت إلى من استمع إليه رؤية تبشّر بميلاد عصر جديد في تطوّر الحضارة الإنسانية:
إن يومنا هذا ليوم بديع، وهذا العصر هو عصر الله العزيز. فعمّا قريب سيصبح العالم جنّة عليا، فهذا اليوم هو يوم وحدة العالم البشري ويوم اتّحاد جميع الملل. فالتعصّبات قد أورثت الجهل وخالفت الجوهر الحقيقي للإنسان. لقد حققت العناية الإلهية هذا اليوم وعمّا قريب سوف تغمر أمواج الوحدة والاتّحاد قطب الآفاق، ويزول النزاع والجدل، ويشرق صبح الصّلح الأكبر ويصبح العالم عالما جديدا ويصير جميع الناس إخوانا.23
انتقل حضرة عبد البهاء بعد زيارته لندن إلى باريس فمكث فيها مدّة شهرين عاد بعدهما إلى مدينة الإسكندرية لقضاء فترة الشتاء في مصر طلبا للانتجاع. وفي الخامس والعشرين من شهر آذار (مارس) 1912 غادر الإسكندرية مبحرا إلى نيويورك حيث وصلها في الحادي عشر من شهر نيسان (إبريل) من العام نفسه. حفل برنامج زيارته الأمريكية بالمئات من المحاضرات والمؤتمرات والندوات والاجتماعات الخاصة لتشمل أربعين مدينة من مدن القارّة الأمريكية الشمالية يضاف إليها تسع عشرة مدينة أخرى مرّ بها في أوروبا. ولا ننسى أنه كان يزور بعض تلك المدن أكثر من مرة واحدة أحيانا. فلو قسنا على أبسط مستوى يقتضيه تنفيذ هذا البرنامج الحافل من جهد جسدي لتبيّن لنا أن ما تحقق كان إنجازا فذا للغاية لا يوازيه إنجاز آخر في عصرنا الحديث. ففي كلا القارتين، وخاصة القارة الأمريكية الشمالية، لقي حضرة عبد البهاء ترحيبا حارا دلّ على التقدير والاحترام الذين كنّتهما له جماهير مرموقة كرّست جهودها لخدمة قضايا تحظى بالاهتمام كالسلام، وحقوق المرأة، والمساواة العرقيّة، والإصلاح الاجتماعي، والتنمية الأخلاقية. وكانت الصحف واسعة الانتشار تنشر يوميا تقريبا تغطية واسعة لما يدلي به من أحاديث ويجريه من مقابلات. وفي وقت لاحق كتب حضرة عبد البهاء يستذكر تلك الأيام ويقول: ”وجدنا الأبواب مفتوحة … والقوّة الملكوتيّة الإلهيّة قد أزالت كلّ حائل ومانع.24
وجد حضرة عبد البهاء لدى جمهور المستمعين إليه قلوبا منفتحة وعقولا نيّرة فعرض عليهم بكل وضوح واستقامة المبادئ التي جاء بها الظهور الجديد لصلاح المجتمع الإنساني ورفاهيّته. ولخّص حضرة شوقي أفندي الحقائق كما عرضها حضرة عبد البهاء على الوجه التالي:
كان من أبرز العناصر الجوهرية للنظام الإلهي الذي أعلنه لقادة الرأي العام وإلى الجماهير على السواء في أثناء سفراته التبليغية، التحرّي عن الحقيقة تحريا مستقلا دون تقيّد بالخرافات و بالتقاليد، وعن وحدة الجنس البشري قطب مبادئ الدين وأساس معتقداته والوحدة الكامنة وراء الأديان، والتبرّؤ من كل ألوان التعصّب الجنسي والديني والطبقي والقومي، والوئام الذي يجب أن يسود بين الدين والعلم، والمساواة بين الرجل والمرأة الجناحين اللذين يعلو بهما طائر الجنس البشري، ووجوب التعليم الإجباري، والاتفاق على لغة عالمية إضافية، والقضاء على الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتأسيس محكمة عالمية لفض النزاع بين الأمم، والسّمو بالعمل الذي يقوم به صاحبه بروح الخدمة إلى منزلة العبادة، وتمجيد العدل على أنه المبدأ المسيطر على المجتمع الإنساني، والثناء على الدين كحصن لحماية كل الشعوب والأمم، وإقرار السلام الدائم العام كأسمى هدف للبشرية.25
أمّا لبّ الرّسالة التي نادى بها حضرة عبد البهاء فكان الإعلان عن أن اليوم الموعود قد جاء ليتّحد البشر وتتأسّس مملكة الله على الأرض. ولكن المملكة التي كشف عنها حضرة عبد البهاء في رسائله وأحاديثه لم تكن أبدا تمتّ بأية صلة إلى الافتراض القائل بأن مملكة الله هي في العالم الآخر وليست من هذا العالم، وهو الافتراض الذي ألفه الناس نتيجة لما درجت عليه التعاليم الدينية المتوارثة. وحريّ بالذكر أن حضرة عبد البهاء كان يعني بتلك المملكة بلوغ الإنسانية مرحلة النضج وظهور حضارة عالمية تكون فيها الطاقات البشرية بكل مداها ثمرة التفاعل بين القيم والمبادئ الروحية الشاملة من جهة، والتقدم المادي الذي لم يكن يحلم به أحد آنذاك، من جهة أخرى.
وأكّد حضرة عبد البهاء بأن الوسائل الكفيلة بتحقيق الهدف قد أصبحت متوفرة، فالمطلوب عزيمة تُنفّذ وإيمان يضمن المثابرة والاستمرار:
نعلم جميعا بأن السلام خير، وبأنه سبب الحياة. ولكنه أيضا يحتاج إلى الترويج والتنفيذ. وبما أن هذا العصر هو العصر النّوراني فمن المؤكّد أنه سيتحقّق. ولا بد لهذه الأفكار أن تنتشر بين الناس إلى درجة تقودهم إلى العمل والتنفيذ.26
ورغم أن حضرة عبد البهاء كان دائما آية في دماثة الخلق ومراعاة شعور الآخرين إلاّ أنه لم يهادن ولم يساوم حين بيّن في محادثاته الخاصة والعامة تعاليم الدين الجديد ومبادئه. وبلا استثناء كانت كلماته بليغة مؤثّرة تماما كأفعاله وتصرّفاته. ففي الولايات المتحدة مثلا، وجد حضرة عبد البهاء أن لا وسيلة أفضل للإعلان عن المعتقد البهائي بوحدة الأديان من أن يذكر محمدا نبيّ الإسلام الكريم، ويشير إليه في أحاديثه إلى مستمعيه المسيحيين. كما أنه دافع بحرارة عن حقيقة الديانتين المسيحية والإسلامية في آن معا مثبتا بأنهما من مصدر إلهي واحد وذلك أمام جمهور من أتباع الدين اليهودي في معبد ”إيمانوإيل“ بمدينة سان فرانسيسكو. واستطاع حضرة عبد البهاء أيضا أن يبعث في نفوس من استمعن إليه من النساء من كل الأعمار الثقة بأنهن متساويات تماما مع الرجال في ما يتمتعن به من قدرات روحية وفكرية. ثم ساق الدليل والبرهان على معنى تعاليم حضرة بهاء الله بالنسبة لوحدة الجنس البشري بأسلوب واضح بعيد عن الاستفزاز والتحدّي وذلك حين رحّب بالضيوف السّود والبيض دون تمييز أو تفرقة لتناول الطعام على مائدته أو خالطهم إلى موائد من كرّمنه واستضفنه من أرقى سيّدات المجتمع الأمريكي، وأخيرا ما أكّده مرارا من أن الوحدة والاتحاد هما في الدرجة الأولى أهم مقتضيات أي نشاط بهائي، وكل ما سبق ذكره كان بمثابة أمثلة أراد حضرة عبد البهاء أن يدللّ بها على الكيفية التي ينبغي بموجبها خلق تفاعل بين جوانب الحياة الروحية والعملية. ففتح ذلك للمؤمنين نوافذ أطلّوا منها على عالم جديد مليء بالفرص والإمكانات. إلا أن الجهود التي بذلها حضرة عبد البهاء في سبيل تعمّق المؤمنين في فهم الحقائق الروحية التي جاء بها ظهور حضرة بهاء الله، فاقت تلك التي تكبّدها في خطبه ومحاضراته العامة التي استعرض فيها علنا أهداف الدين الجديد. زار حضرة عبد البهاء مدينة بعد أخرى، بادئا يومه من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل منفقاً الساعات التي بقيت ولم تملأها متطلّبات رسالته من الارتباطات العامة في الرد على أسئلة الأحباء، وتلبية مطالبهم، باعثا فيهم روح الثقة والاطمئنان ومؤكّدا لهم أن كل واحد منهم قادر على أن يسهم في إعلاء شأن الأمر الذي اعتنقوه. وهيّأت زيارته إلى شيكاغو فرصة ملائمة ليضع بيده المباركة حجر الزاوية لأول مشرق للأذكار في الغرب. وكان الموحي بهذا المشروع هو مشرق الأذكار في عشقاباد الذي كان آنذاك في طور البناء. وقد كان حضرة عبد البهاء هو الذي يشجّع أيضاً على بناء مشرق الأذكار في عشقاباد وباركه منذ بدأ التفكير في تشييده:
إن مشرق الأذكار هو من أعظم مؤسسات العالم الإنساني، وكثيرة فروعه الإضافية. فرغم كونه مكانا للعبادة ترتبط به أبنية إضافية من مستشفى وصيدلية ومَضيَفة ومدرسة للأيتام، وجامعة للدراسات العليا … يحدوني الأمل في أن يشيّد مشرق للأذكار في أمريكا اليوم، وأن يتبع ذلك تدريجيا المستشفى والمدرسة والصيدلية والمَضْيَفة، تحت إشراف إدارة منتظمة كفوءة.27
إن أبعاد رحلات حضرة عبد البهاء إلى بلاد الغرب وما أطلقته من قوة خلاّقة، لا يمكن إلاّ لمؤرخي المستقبل أن يقدّروها حق قدرها. كذلك الأمر بالنسبة لما سوف تلقاه من عظيم التقدير تلك القوة التي انطلقت في إيران، متزامنة مع تلك الرحلات. فإن ما خُطّ من رسائل وذكريات حول هذه الزيارة يشهد على أن مجرّد لقاء عابر مع حضرة عبد البهاء كان كافيا ليبعث على مر الأيام الثبات في نفوس عدد لا يحصى من البهائيين الغربيين حين أقدموا لاحقا على بذل الجهد والتضحية في كفاحهم لنشر أمر الله العزيز ودعمه. فلولا ذلك الدور المؤثّر الذي أدّاه حضرة عبد البهاء في هذا المضمار، يستحيل علينا أن نتصوّر أنه كان بإمكان تلك المجموعات الصغيرة من المؤمنين في الغرب أن يفهم أفرادها فهما جيدا وسريعا ما يفرضه الدين الذي اعتنقوه من الواجبات، فبادروا إلى تنفيذ ما يتعلق بتلك الواجبات من مهام خطيرة الشأن. وفعلوا ذلك رغما عن أنهم كانوا يفتقدون ذاك التراث الروحي الذي ورثه إخوانهم في الدين من الفرس، وهو التراث الذي جاءهم عبر الآباء والأجداد الذين اشتركوا لمدة طويلة في تلك الأحداث البطوليّة من التاريخ البابي والبهائي.
دعا حضرة عبد البهاء أولئك الذين استمعوا إليه إلى أن يصبحوا بُناة حضارة عظيمة محورها الإيمان بوحدة الجنس البشري، وحثهم على أن يفعلوا ذلك تملأهم المحبة والثقة. ووعدهم، إن هم هبّوا وقاموا بتنفيذ رسالتهم، بأن تتفتّح فيهم وتنطلق قدرات جديدة كامنة فيهم وفي غيرهم من الناس، وهي القدرات التي أسبغها الله في هذا اليوم على الجنس البشري:
عليكم أن تكونوا روح الحياة في الهيكل الإنساني، في هذا الدور البديع الذي تجلّى فيه جمال القِدم والاسم الأعظم، فظهر من عالم الفيوضات اللاّمتناهية وأنزل القوّة والقدرة على الحقائق الإنسانية لتطغى على كل الشؤون البشرية إذ جمع البشر بقوّته القاهرة وغمرهم في بحر أحديّته.28
ولعل أبلغ دليل على استجابة المؤمنين لدعوة حضرة عبد البهاء هذه هو أن روح الوحدة والاتّحاد التي جمعتهم لم تقيّد أساليبهم الفردية المتّقدة حميّة والمتوثّبة حيوية ونشاطا في التعبير عن الحقائق التي جاء بها هذا الدين. ولا ينبغي أن ننسى أن علاقة الفرد بالمجموعة كانت دوما تثير قضايا حسّاسة للغاية في فترات نموّ المجتمع وتطوّره. ويكفي المرء الاطّلاع، ولو بصورة سطحية، على سِيَر البهائيين الأوائل في الغرب ليدرك مدى النزعة الفردية التي اتّسم بها هؤلاء، وخاصة أولئك الذين كانوا أكثرهم فاعلية وإبداعا. ففي أغلب الأحيان اهتدى هؤلاء إلى أمر الله الكريم بعد بحث مستفيض تناول مختلف الحركات الروحية والفكرية القائمة آنذاك. ومما لا ريب فيه أن وعي هؤلاء الأوائل لقضايا معاصريهم واهتماماتهم وعيا كاملا، جعل منهم مبلّغين للأمر تمتّعوا بالفاعلية والنفوذ. غير أنه من الواضح أيضا أن التباين القائم بين المفاهيم وأساليب التعبير لم يمنعهم وأقرانهم المؤمنين من الإسهام في وحدة جماعيّة متآلفة. فكانت هذه الوحدة أقوى عامل جذب الناس إلى الأمر الكريم في ذلك الوقت. وحسبما وضّحته لنا جليا الذكريات والوقائع التاريخية التي وصلتنا من تلك الفترة فإن سرّ التوازن الذي تحقّق بين الفرد والجماعة يكمن في تلك العلاقة الروحية التي كانت تربط المؤمنين كافة بحضرة عبد البهاء من خلال كلماته ثم اتخاذهم إياه قدوة ومثلا أعلى يحتذى. وبمعنى أدق فلقد كان حضرة عبد البهاء في نظرهم جميعا يمثل الأمر المبارك بكل معانيه.
إن أي استعراض موضوعي للكيفية التي استقبل الغرب بها رسالة حضرة عبد البهاء إليه، لا يمكن أن يتجاهل حقيقة هامة تضع الأمور في نصابها الصحيح. إذ إن من المعلوم أن عددا قليلا من الذين آمنوا بالأمر، إضافة إلى عدد أقل من الذين تزاحموا متجمّعين للاستماع إليه كان استيعابهم لأبعاد رسالته، رغم تلك الفرص الثمينة، استيعابا غير واضح المعالم نسبيا. أدرك حضرة عبد البهاء القصور والإدراك المحدود اللذين كان يشكو منهما المستمعون إليه فبادر إلى توسيع نطاق علاقاته بالمؤمنين الغربيين وراح يسهم عمليا بالأفعال ليرفع مستوى الوعي لديهم بشكل يتخطّى بكثير مجرّد أن يكونوا متسامحين ومتحرّرين فكريا. ونكتفي بمثل واحد نسوقه لندلّل على مدى ما بذل حضرة عبد البهاء من المساعي في هذا المضمار وهو مسعاه المحرّك للعواطف المتّسم باللطف والكياسة حين شجّع على عقد قران الرجل الأسود لويس غريغوري بالمرأة البيضاء لويز ماثيوز. وأصبح من ثم هذا الرّباط بمثابة أنموذج حيّ للاندماج العِرقيّ في الجامعة البهائية الأمريكية، وإن كان تجاوب أفراد الجامعة مع جوهر المطالب الناجمة عن هذا التحدّي تجاوبا فاترا وبطيئا.
ورغم أن أولئك الذين اعتنقوا رسالة حضرة عبد البهاء لم يستوعبوا أهدافها استيعابا عميقا، فقد قام هؤلاء المؤمنون بترجمة المبادئ التي نادى بها إلى أفعال، ودفعوا في أغلب الأحيان ثمنا باهظا لما قدّموا. فقد تركت تلك المبادئ التي تكفل تقدم الحضارة ونموّها أثرا عميقا في نفوسهم. وكانت في جملتها تتعلق بالالتزام بقضية السلام العالمي، وإلغاء الفوارق الشاسعة بين الفقراء والأغنياء التي عطّلت اتحاد المجتمع ووحدته، ثم القضاء على التعصبات القومية والعرقية وغيرها، والحث على خلق برنامج تربوي يتساوى فيه البنات والبنون، وأخيرا الحاجة إلى فضّ القيود التي تفرضها العقائد التي تخطاها الزمن وما لبثت تعيق تحرّي الحقائق بحريّة. إلا أن قلّة قليلة من المستمعين لحضرة عبد البهاء أدركت، أو كان باستطاعتها – إن وجدت مثل هذه القلة - أن تدرك تلك التغييرات الثورية المطلوب حدوثها في بنية المجتمع مع وجود استعداد في الطبيعة الإنسانية للتسليم والانصياع لما نزل من الأحكام الإلهية، وهي التغييرات القادرة وحدها على أن تُحدث في نهاية المطاف تلك التحوّلات والتغييرات الضرورية بالنسبة للسلوك والمواقف والتصرّفات.
*كان مفتاح هذه الرؤية المستقبلية المتعلقة بالتغييرات والتحوّلات المنتظر حدوثها في الحياة الفردية والاجتماعية لبني البشر، إعلان حضرة عبد البهاء عن ميثاق حضرة بهاء الله. وقد فعل حضرة عبد البهاء ذلك بعد مدة قصيرة من وصوله إلى أمريكا الشمالية، وبيّن الدور الذي أُنيط به كمركز لذلك الميثاق. وكانت كلماته بهذا الخصوص كما يلي:
أما في ما يتعلق بأعظم خصائص ظهور حضرة بهاء الله، تعليم من تعاليمه لم يسبق أن جاء به رسول من قبل. فقد نصّ على أن يكون هناك مركز للميثاق وعيّن شخص ذلك المركز، فحفظ بهذا النّص وذلك التعيين دين الله وحماه ضد الاختلاف والانقسام، مما جعل من المستحيل أن يخلق أحد مذهبا جديدا وفرقة منشقّة.29
اختار حضرة عبد البهاء مدينة نيويورك منبرا للإعلان عن الميثاق وسمّاها ”مدينة الميثاق“. وكشف للمؤمنين الغربيين كيف خوّل حضرة بهاء الله، مؤسّس دينهم، السلطة لمركز الميثاق، أي حضرة عبد البهاء، ليكون مبيّنا لكلماته. وكان أن كلّف حضرة عبد البهاء لُوا غتسينجر، وهي مؤمنة من ذوات الاعتبار أن تُعدّ الأحبّاء المجتمعين في المنزل الذي كان يقطنه مؤقتا للاستماع إلى ذلك الإعلان التاريخي، فنزل من الطابق الأعلى إلى حيث الاجتماع وتحدث بصورة عامة عن مضامين الميثاق. وتركت جولييت طومسون وصفا لتلك المناسبة. فقد كانت مع أحد المترجمين في الطابق الأعلى في محضر حضرة عبد البهاء عندما كلّف صديقتها لُوا غتسينجر بتلك المسؤولية. وفي وصفها ذلك نقلت جولييت طومسون هذه الكلمات عن لسان حضرة عبد البهاء:
أنا الميثاق الذي عيّنه حضرة بهاء الله. ولا يمكن لأحد أن يرفض كلمته. إنها وصيّة حضرة بهاء الله وهي مذكورة في الكتاب الأقدس. فانطلقوا وارفعوا النداء قائلين ’هذا ميثاق الله بينكم‘.30
أبدع حضرة بهاء الله الميثاق أداة ”ليديم تأثير الأمر المبارك ويحفظ له هيبته، ويصونه من الانقسام، وينشّط توسّعه العالمي“.ii إلا أن نفرا من عائلة حضرة بهاء الله نفسه نقضوا الميثاق فور صعوده مباشرة. فقد أدرك هؤلاء الناقضون أن حضرة بهاء الله قد خوّل حضرة عبد البهاء السلطة التي نُصّ عليها في كل من كتاب عهدي ولوح الغصن وألواح أخرى تتعلّق بهذا الموضوع، فخيّب ذلك آمالهم وحدّ أطماعهم وفوّت عليهم الفرصة لكي يستغلّوا أمر الله لمصلحتهم الخاصة. فكان نتيجة ذلك أن قاموا يشنّون حملة عنيدة لإضعاف مركز حضرة عبد البهاء والانتقاص من حقّه، فبدأوا نشاطهم ذلك أولا في الأراضي المقدّسة ثم في بلاد فارس حيث وُجدت أكثر الجامعات البهائية كثافة. ولمّا فشلت مخطّطاتهم تلك لجأوا إلى إذكاء مخاوف الحكومة العثمانية وإثارة جشع ممثليها في فلسطين وراحوا يتلاعبون بأهواء تلك الحكومة وممثّليها. وهنا أيضا انهارت آمالهم عندما سقط الحكم العثماني في القسطنطينية على أيدي ”حركة تركيا الفتاة“ الثورية، وهي الحركة التي علّقت على المشانق واحدا وثلاثين من كبار موظفي ذلك الحكم بمن فيهم أولئك الذين تواطأوا مع ناقضي الميثاق واشتركوا في خططهم الشرّيرة.
وأما الغرب فقد شهد إبان السنوات الأولى لولاية حضرة عبد البهاء، كيف تمكّن مَن أرسلهم نيابة عنه من النجاح في إحباط مؤامرات إبراهيم خير الله ومواجهة دسائسه. فقد كان هذا الأخير يطمع في ضمان مركز قيادي في الجامعة البهائية عبر اتصالاته بناقضي الميثاق من أفراد العائلة المباركة والانضمام إلى صفهم. ومن عجيب المفارقات أنه كان له هو فضل في تعريف العديد من المؤمنين الأمريكيين بالأمر الكريم. كانت هذه التجارب بمثابة إعداد مسبق للمؤمنين الأمريكيين ليتلقّوا ما أعلنه عليهم حضرة عبد البهاء رسميا حول مركزه ومقامه وما أمرهم به من الحزم في الابتعاد عن أي تورّط في مخططات العاملين على زرع الانقسام وذرّ بذور الانشقاق: ”إن بعض أصحاب النفوس الضعيفة متقلّبة الأهواء، خبيثة النوايا، والمتّسمة بالجهل ... يسعون إلى هدم بنيان العهد والميثاق كما يسعون إلى تعكير المياه الصافية لكي يصطادوا في الماء العَكِر.“32 غير أن النتائج المترتبة على هذا الحكم الإلهي العظيم الذي نزل لتنظيم شؤون هذا الظّهور الجديد لم تظهر إلا تدريجيا وذلك بعد أن تغلّبت الجامعات الجديدة على اختلاف الرأي وقاومت المغريات التي طالما استهوت الناس دوما للتشرذم والتحزّب والانشقاق.
وفي تلك الأثناء التي عرض فيها حضرة عبد البهاء في خطبه العامة وأحاديثه الخاصة الرؤية المستقبلية لعالم متّحد يتمتع بالسلام ويأتي به الظهور الإلهي، حذّر مؤكدا أن أخطارا تلوح في الأفق، وأنها تهدّد كلاًّ من أمر الله العظيم والعالم الإنساني بأسره. وشبّه حضرة شوقي أفندي ما رآه حضرة عبد البهاء بعينه الثاقبة بالنسبة لأخطار المستقبل على أنها بمثابة ”شتاء قارس شديد الوطأة لم يسبق له مثيل“.
بالنسبة لأمر الله المبارك، كان ذلك ”الشتاء“ يحمل في رياحه الخيانة والنقض لميثاق الله، فبعث ذلك الأسى في النفوس وأدمى القلوب. ففي أمريكا الشمالية بَقِيَ تقلّب عدد قليل من الأفراد الذين خابت آمالهم في تحقيق أطماعهم الشخصية لاحتلال مركز قيادي يشكّل مصدرا للمصاعب والمتاعب التي واجهت الجامعة البهائية. فكان من نتائج ذلك أن البعض ضعُف إيمانهم بينما انجرف البعض الآخر مبتعدا عن الاشتراك في أي نشاط أمري. ولم يختلف الحال بالنسبة لبلاد فارس، فقد تعرّض إيمان الأحبّاء هناك للتجارب والامتحانات إثر ما واجهوه من المخططات الطموحة لأفراد تنبّهوا فجأة وتوهّموا أن هناك فرصا سانحة يمكنهم استغلالها لتعظيم أنفسهم، وغذّى طموحهم ما شاهدوه من النجاح الذي حقّقه حضرة عبد البهاء في الغرب. ومهما يكن من أمر فإنه في كلا الحالين، في الغرب وفي موطن الدين، كان من نتائج مثل هذا النقض والانحراف في نهاية الأمر أن ازداد المؤمنون الثابتون رسوخا في دينهم.
أما في ما يختص بالعالم الإنساني عامة فقد كان الإنذار الذي وجّهه حضرة عبد البهاء مليئا بكلمات تحمل في طيّها شرّ الوعيد محذّرا من الكارثة وشيكة الوقوع. وفيما كان يلحّ على أنَّ هناك ضرورة قصوى لبذل الجهود في سبيل تسوية الخلافات حتى ترتاح شعوب العالم إلى حد ما من المعاناة، لم يترك مجالا للشك لدى مستمعيه بالنسبة لعِظم تلك الكارثة وهولها. وفي منتريال على الاخص، حيث حظيت زيارة حضرة عبد البهاء بتغطية شاملة، أوردت إحدى الصحف الرئيسة أقواله كما يلي:
لقد أصبحت أوروبا بأسرها معسكرا مدجّجا بالسلاح، ولسوف تتمخّض هذه الاستعدادات الحربية عن حرب كبرى. فهذا التسلّح في حدّ ذاته لا ينتج عنه إلا الحرب. ولا بدّ لهذه الترسانة الحربية من أن تندلع نيرانها. وليس هذا الرأي من باب التكهّنات أو التنبّؤ بالغيب، إنه فقط نتيجة تحليل منطقي سليم.33
في الخامس من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1912 أبحر من رحّبت به أمريكا الشمالية ”رسولا للسلام“ قاصدا مدينة ليفربول البريطانية. وبعد أن مكث مدة قصيرة في مدينة لندن وغيرها من المدن البريطانية، زار عددا من المدن الأوروبية. ومرة أخرى قضى عدة أسابيع في مدينة باريس. وهناك وضع هيبوليت درايفوس نفسه في خدمة حضرة عبد البهاء، إذ كان تمكّنه من اللغتين العربية والفارسية كتابة يتناسب واحتياجات حضرة عبد البهاء. ولما كانت باريس آنذاك العاصمة الثقافية للقارة الأوروبية فإنها استقطبت الزوّار من كل طرف من أطراف العالم، بمن فيهم الزوار الشرقيون. وإذا كانت أحاديث حضرة عبد البهاء وخطبه خلال زيارتيه غير القصيرتين قد تضمّنت الإشارة مرارا إلى قضايا اجتماعية هامة في مناطق أخرى من العالم، فإنها تميّزت أيضا بميزة خاصة روحانية حميمة كان لها أبعد الأثر في قلوب أولئك الذين حظوا بلقائه:
فلتسمُ قلوبكم فوق زمنكم الحاضر، وتطلّعوا بعيون يملؤها الإيمان نحو المستقبل، فالبذور قد زرعت اليوم، وسقى الأرضَ المطر، وسيأتي اليوم الذي تنمو فيه هذه البذور لتصبح شجرة وارفة الأغصان محمّلة بالأثمار. استبشروا وافرحوا فقد أشرق فجر ذلك اليوم، فحاولوا إدراك قوّته، لأنه يوم رائع حقا.34
وفي صباح اليوم الثالث عشر من شهر حزيران (يونيو) العام 1913 أبحر حضرة عبد البهاء من مرسيليا على ظهر الباخرة ”همالايا“ ليصل إلى مدينة بورسعيد في مصر بعد رحلة استغرقت أربعة أيام. وانتهت رحلات حضرة عبد البهاء، التي وصفها حضرة شوقي أفندي ”بالرحلات التاريخية،“ حينما وصل إلى مدينة حيفا في الخامس من شهر كانون الأول (ديسمبر) العام 1913.
*بعد مضي سنتين بالتمام على التصريح الذي أدلى به حضرة عبد البهاء لمحرّر الصحيفة اليومية ”المونتريال دايلي ستار“، انهار فجأة ذلك العالم التي أطاحت صوابه تلك الثقة العالية والاعتداد بالنفس بعد أن بدا منيعا ثابت الأساس والبنيان. وكانت الكارثة التي حلّت أخيرا بالعالم تُعزى عند أغلب الناس إلى أنها نتيجة اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمسوية-الهنغارية في مدينة ساراييفو البلقانية. ومن المؤكد أن سلسلة الأخطاء الفاحشة، والتهديدات الهوجاء والمناشدات الجوفاء باسم ”الشرف والكرامة“ كانت السبب في وقوع الحرب العالمية الأولى التي اندلعت نارها نتيجة هذا الحدث قليل الأهمية نسبيا. وفي الحقيقة إن ”الهمهمات“ التي أشار إليها حضرة عبد البهاء، كانت تُسمع طوال العقد الأول من القرن العشرين وكأنها الرعد الذي ينذر بالعاصفة، وكان ينبغي أن يتنبّه قادة أوروبا إلى أن النظام القائم هش ضعيف الأركان.
اندلعت الحرب أيضا فيما بين العامين 1904 و 1905 بين الإمبراطوريتين اليابانية والروسية، وكانت من العنف والضراوة بحيث لحق الدّمار بالأسطول البحري الروسي بأكمله تقريبا، إضافة إلى خسارة أقاليم اعتبرتها روسيا حيوية بالنسبة لمصالحها. وكانت للهزيمة المخزية والإذلال اللذين لحقا بالأمّة الروسية آثار محلية وعالمية طويلة الأمد. وفي السنوات الأولى من القرن كادت الحرب أن تندلع بين فرنسا وألمانيا بسبب أطماعهما الإمبريالية في الشمال الأفريقي. وما كان تفادي تلك الحرب إلا نتيجة وساطة دول أخرى تدخّلت خدمة لمصالحها الخاصة هي الأخرى. وفي العام 1911 هددت إيطاليا السلام العالمي باستيلائها على ليبيا التي كانت آنذاك مقاطعة تابعة للإمبراطورية العثمانية. وحدث ما أنذر به حضرة عبد البهاء من ازدياد عدم الاستقرار في الميدان الدولي عندما عكفت ألمانيا على تنفيذ برنامج ضخم لبناء أسطول حربي هدفه القضاء على التفوّق الذي كانت تتمتّع به بريطانيا في مجال القوة البحرية. وكانت هذه الخطوة من قبل ألمانيا وليدة شعورها بأنها محاطة بشبكة من التحالفات الدولية المعادية لها.
ثم تفاقمت هذه الصراعات وازدادت شدّة إثر توتّر العلاقات بين الشعوب التابعة لكل من الإمبراطوريات العثمانية والنمسوية والهنغارية والروسية. وبقي الوضع في حالة ترقّب في انتظار حدث ما للقضاء على سيطرة تلك النظم المتداعية التي تسلّطت وفرضت الظلم والقهر على البولنديين والتشيكيين والسلوفاكيين والبلقانيين والرومانيين والأكراد والعرب والأرمن واليونانيين والمقدونيين والألبان الذين كانوا كلهم يتطلعون بشوق وتلهّف إلى يوم ينالون فيه حرّياتهم. ومن ثم ظهرت مجموعات مختلفة تحوك المؤامرات وتنظّم المقاومة وتنادي بالانفصال وعملت دون كلل أو ملل مستغلّة فجوات تلك الشبكة من الضعف والتصدّع في النظام القائم. كان تحرك هذه المجموعات بوحي من معتقدات تراوحت ما بين فوضوية مشوّشة الأفكار من جهة، وتعصّب عنصري ووطني حاد وضيّق من جهة أخرى. إلا أنه ساد تفكير هذه المجموعات اعتقاد تبسيطي مشترك وهو أنه إذا كان في الإمكان إسقاط ذلك الجزء المستهدف من النظام القائم بطريقة ما، فإن النّبل المتأصّل في ذلك الجزء من العالم الإنساني الذي يدعم هذه الحركات، أو ذلك النبل الذي افترضت هذه الحركات وجوده في العالم البشري بصورة عامة، سوف يكون في حد ذاته ضمانا لقيام عهد جديد من العدل والحرية.
انفردت من بين هذه المجموعات الداعية إلى تغييرات عنيفة حركة واحدة متّسعة القاعدة هي الحركة الشيوعية. فشرعت في العمل بصورة منتظمة وبهدف واضح المعالم تنفّذه بشدة وصرامة وغايتها إشعال ثورة عالمية النطاق. نجح الحزب الشيوعي في تأسيس مجموعات التزمت تأييده ومعاضدته عبر أوروبا وبلاد أخرى. وكان هذا الحزب قد استمد دوافعه الفكرية وإيمانه الراسخ بأن الانتصار سيكون حليفه في نهاية الأمر من الآثار الكتابية لكارل ماركس (1818-1883) صاحب النظريّات العقائدية في القرن التاسع عشر. واقتنعت الحركة الشيوعية بأن عبقرية زعيمها قد برهنت دون شك على أن القوى التي بعثت كلاًّ من الوعي الإنساني والنظام الاجتماعي إنما هي أساسا قوى مادية في جوهرها. فذهبت إلى رفض حقيقة الدين وشرعيته إضافة إلى رفض القيم والمعايير الأخلاقية ”البرجوازية“ على حد تعبيرها. وكان في رأيها أن الإيمان بالله هو نتيجة هوَس عصبي استحوذ على الناس وكان مجرد ذريعة للطبقات الحاكمة لكي تستخدم الأوهام والخرافات لإخضاع الجماهير واستعبادها.
أما بالنسبة لقادة العالم فقد وجدوا في الخطوات الهائلة التي كان يخطوها العلم والتقنية وسيلة رئيسة لتحقيق تفوّق عسكري على منافسيهم، وكان أولئك أثناء ذلك قد اندفعوا اندفاعاً أعمى نحو الانفجار الذي سبيته يد الحمق والكبرياء. لم تكن الشعوب المستَعمَرة هي التي تنافس الدول الأوروبية المعنية. فقد كانت هذه الشعوب فقيرة ومتأخّرة إلى حد بعيد في تحصيل المعارف والعلوم، ما أتاح للدول الأوروبية إمكان إخضاعها لسيطرتها. وكان من آثار تكديس العتاد الحربي إحساس بالثقة الزائفة غير الواقعية لدى الدول المتنافسة، فقاد ذلك إلى سباق في التسلح لم يكن مناص منه، وإلى تزويد الجيوش البريّة والبحرية بأحدث الأسلحة على أوسع نطاق ممكن. بالتالي ظهرت المدافع الرشّاشة والمدافع الثقيلة بعيدة المدى، والدارعات البحرية، والغوّاصات، والألغام الأرضية والغازات السامة، وتزويد الطائرات بالقنابل لشن الغارات الجوّية. فكانت هذه كلها تمثّل المعالم البارزة "لتقنية الهلاك" كما وصفها أحد المراقبين.35 وحسبما أنذر به حضرة عبد البهاء آنذاك، تم استخدام وسائل الدمار والإبادة هذه كلها كما تم أيضا إتقان صنعها وإنتاجها إبان ذلك الصراع المنتظر.
بدأ النظام القائم حينذاك يحس بوطأة ضغوط خفيةّ أخرى. فالإنتاج الصناعي على نطاق واسع، يغذّيه سباق التسلح، عجّل بنزوح جماهير غفيرة من الناس إلى المدن الكبيرة. وكان لهذا النزوح آثار سلبية ضعضعت القواعد الاجتماعية والولاءات المتوارثة، كما تعرّض عدد متزايد من الناس للتأثّر بأفكار جديدة حول إحداث تغييرات اجتماعية، وازدادت شهوتهم للحصول على المكاسب المادّية التي كانت سابقا حكرا على حفنة من صفوة الناس. وحتى في النّظم الاستبدادية نسبيا بدأ عموم الناس يدركون أن فاعلية أي حكم مدني واستتبابه إنّما يعتمدان على الفوز بدعم شعبي واسع. وحملت هذه التطورات في طيّها نتائج بعيدة المدى لم تكن في الحسبان. وفيما استمرت رحى الحرب في الدوران وكأن لا نهاية لها، قامت التساؤلات حول ذلك الإيمان الأعمى الذي بسّط خطورتها، وبدأ الملايين من المجنّدين في الجيوش المتحاربة ينظرون إلى الحرب في حدّ ذاتها على أنها معاناة لا معنى لها علاوة على أنها عديمة الجدوى بالنسبة لهم ولخير عائلاتهم.
لعل الأثر الأبعد لهذه النتائج الناجمة عمَّا حدث من تغيير في المجالين الاجتماعي والتقني، كان ما شجّعه التقدّم العلمي من طرح افتراضات بدت للناس سهلة وبسيطة حول الطبيعة الإنسانية وأصبحت تشكّل حجابا يستر الحقيقة، وصفه حضرة بهاء الله بأنه ”غبار العلوم المكتسَبة“.36 وانتشرت هذه الآراء انتشارا متزايدا بين الناس دون أن تُخضع للدرس والتمحيص. واستمرّت موجة الإقلال من شأن العقائد الدينية المتعارف عليها وتقويض المستويات والمعايير الأخلاقية السائدة وذلك نتيجة لما نهجت عليه الصحف من إثارة للعواطف والشهوات، وما دار من الجدل والمناظرات الحامية بين الباحثين والعلماء من جهة وعلماء اللاهوت ورجال الدّين ذوي النفوذ من جهة أخرى، إضافة إلى انتشار التعليم العام بصورة جد سريعة.
كانت هذه العوامل والقوى بمثابة زلزال أصاب القرن الجديد. فقد تضافرت هذه العوامل والقوى فيما بينها لتجعل من الظروف التي واجهها العالم الغربي العام 1914 ظروفا متقلّبة عديمة الاستقرار للغاية. ولذلك فإنه عندما وقع الانفجار العظيم كان كابوسا فاق في هوله أسوأ المخاوف التي ساورت أصحاب العقول المفكّرة. ولا يجدينا نفعا في هذا المجال أن نستعرض تلك الطامّة الكبرى، ألا وهي الحرب العالمية الأولى، التي أُشبعت بحثا وتحليلا. فالإحصاءات المتعلقة بتلك الحرب لا يمكن أن يحوط بها عقل بشر. ففي نهاية الأمر زُجّ بما يقدّر بستين مليون رجل في أفظع أتّون جهنّمي عرفه التاريخ، فهلك منهم إبّان الحرب ثمانية ملايين رجل إضافة إلى إصابة عشرة ملايين بعاهات مستديمة أقعدتهم، بما في ذلك إصابات أتلفت رئات البعض حرقا وشوهت البعض الآخر تشويها فظيعاً.37 وقدّر مؤرّخو الحرب العالمية الأولى بأن من المحتمل أن تكاليف تلك الحرب العالمية الأولى بلغت ثلاثين بليونا من الدولارات أتت على جزء ضخم من مجمل رأس المال الأوروبي.
وليس في استطاعة هذه الخسائر الجسيمة أن توحي إلينا بأي شكل من الأشكال بالمدى الكامل للدمار الذي خلّفته تلك الحرب. ولعل من العوامل التي جعلت الرئيس الأميركي ودرو ويلسن يتردّد ويماطل في دعوة الكونغرس ليعلن حربا لم يكن في الواقع مفرّ من إعلانها، إدراكه لما تخلّفه الحرب من الأذى والضرر بالنسبة للقيم والأخلاق. وربما كان أقل ما يقال في المزايا التي تحلّى بها هذا الرجل الفذّ الذي أثنى عليه كلٍّ من حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي لصفاء رؤيته، إنه كان يعي تماما ما يترتّب على مآسي الحرب من تركة تفسد الطبيعة البشرية وتوحّشها. واعتبر ويلسن هذا الفساد المعنوي بمثابة أسوأ تركة خلّفتها الكارثة التي حلّت بأوروبا حينذاك، وهي تركة لم يكن في مقدور الإنسانية أن تبدّلها أو تحوّل مجراها.38
لو تأمّلنا في جسامة المعاناة التي مر بها الجنس البشري في السنوات الأربع للحرب العالمية الأولى وتفكّرنا في ما نتج عن ذلك من تعطيل للمسيرة الطويلة المؤلمة التي قطعتها الطبيعة الإنسانية في سبيل رقيّها وتمدّنها، ندرك مدى عِظَم المأساة التي تضمّنتها كلمات حضرة عبد البهاء قبل نشوب الحرب بعامين أو ثلاثة أعوام، حين تحدث إلى جماهير المستمعين في المدن الأوروبية مثل لندن وباريس وفيينا وبودابست وشتوتغرت وغيرها من مدن القارة الأمريكية الشمالية. ففي إحدى الأمسيات في مدينة مونتريال الكندية وفي منزل السيد صثرلاند مكسويل وعقيلته صرّح حضرة عبد البهاء بما يلي:
يسير العالم الإنساني اليوم في الظّلام لأنه ابتعد عن العالم الإلهي. ولهذا السبب فإننا لا نشاهد آيات الله في قلوب البشر. فلا أثر لنفوذ الروح القدس. ولكن عندما ينبثق نور روحاني إلهي في العالم البشري وتظهر التعاليم والهداية الإلهية يتبع ذلك تنوّر في النفوس وتبعث روح جديدة في أعماقها، وتسبغ عليها قوّة جديدة، وتمنح حياة جديدة. إن ذلك بمثابة ميلاد جديد من مملكة الحيوان إلى مملكة الإنسان … سأتوجّه بالدعاء إلى الله، وبالمثل عليكم أن تتوجهوا بالدعاء حتى تتحقق العنايات السماوية، ويمحي النزاع والعداء، ويقضى على الحرب وسفك الدماء، فتتّحد القلوب اتّحادا كاملا ويشرب الكل من سلسبيل واحد.39
كانت معاهدة السلام التي فرضها الحلفاء على أعدائهم المهزومين معاهدة شابتها رغبة انتقامية. ولم تنجح هذه المعاهدة، كما أشار إلى ذلك كل من حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي، إلا في زرع بذور صراع آخر أشدّ هولا وشناعة. فالتعويضات الباهظة المؤدية إلى الإفلاس والتي طالبت بها الدول المنتصرة، إضافة إلى الظلم الذي تعرّض له الخاسرون في الحرب إذ طلب منهم أيضا الإقرار بأنهم وحدهم يتحملون وزر حرب كانت الأطراف المشتركة فيها مسؤولة عنها بدرجات متفاوتة. ولذا فإن هذه العوامل كانت وراء استجابة شعوب أوروبا المحبطة معنويا لهدهدة وعود نُظُم الحكم السلطوي الاستئثاري والركون إلى هذه الوعود على أنها هي التي ستأتي بالفرج. وهي وعود ما كان سيلتفت إليها أحد لولا تلك الأوضاع.
لعله من سخرية القدر ومفارقاته أن الذين ظنوا أنفسهم رابحين في الحرب قد استفاقوا وراعهم أن الانتصار وما دفعهم إليه من مطلب باستسلام أعدائهم دون قيد أو شرط وما يستتبع ذلك من تعويضات هائلة، كان انتصاراً باهظ الثمن مساوياً في فداحته وآثاره المدمّرة لما تحمّله الأعداء الخاسرون.
أنهت الدّيون الهائلة التي خلفتها الحرب، وإلى الأبد، سيطرة أوروبا الاقتصادية التي حقَّقتها الدول الأوروبية عبر ثلاثة قرون من استعمار لباقي أمم الكرة الأرضية واستغلالها. وكان هلاك الملايين من الشبان في هذه الحرب خسارة لا تعوّض، إذ إن الحاجة كانت ماسّة إلى وجودهم لمجابهة تحدّيات العقود التي تلت. وفي الواقع خسرت أوروبا تفوّقها إثر ضربة واحدة وبدأت تنزلق بصورة لا يمكن مقاومتها لتحتل مكانة ثانوية بالنسبة لأمريكا الشمالية، المركز الجديد النامي للقوّة والنفوذ، علما بأن أوروبا كانت قبل ذلك بأربع سنوات قصار فقط تمثّل بوضوح قمّة الحضارة وذروة النفوذ في العالم.
ظهر في بادئ الأمر أن الرؤية المستقبلية كما رسمها الرئيس الأمريكي ودرو ويلسن سوف تتحقّق. وكان الأمر كذلك في بعض الأحيان حين فازت الشعوب التي تستعمرها أوروبا بحرّية تقرير المصير، فبرزت عدة دول مستقلّة جديدة من أنقاض الإمبراطوريات السابقة. وزيادة على ذلك فإن ”النقاط الأربع عشرة“ التي أعلنها الرئيس الأمريكي أسبغت على تصريحاته العامة طابعا أخلاقيا أثّر، ولو لمدة وجيزة، في نفوس الملايين من الأوروبيين حتى أن أشدّ المعارضين له عنادا من بين زملائه قادة الدول الحليفة لم يستطع أن يتجاهل كلّية رغبات الرئيس الأمريكي. فرغم ما دار من جدال صاخب استغرق أشهرا طوالا حول المستعمرات والحدود وبنود وثيقة السلام، فإن التسوية التي جاءت بها معاهدة فرساي تضمّنت في نهاية المطاف صيغة مخفّفة لعُصبة الأمم المقترح إنشاؤها، أملا في أن تسعى هذه الهيئة إلى تسويّة الخلافات المستقبلية بين الأمم والعمل على استتباب الوفاق في الشؤون الدولية.
يجدر بأي بهائي يحاول فهم أحداث هذا القرن المضطرب أن يتأمل في التعليق الذي كتبه حضرة شوقي أفندي حول أهمية هذه المبادرة التاريخية لتأسيس عصبة الأمم. فقد وصف تطوّرين متّصلين متعلّقين بانبثاق فجر السلام في العالم، ثم يؤكد قائلا إن هذين التطورين ”مقدّر لهما أن يبلغا نهايتهما، عند تمام الوقت، فيتّحدا اتّحادا رائعا متكاملا.“40 أما الأول فيصفه حضرة ولي أمر الله بقوله إن له علاقة برسالة الجامعة البهائية في القارة الأمريكية الشمالية. أما الثاني فيتعلق بمصير الولايات المتحدة كدولة. وعن هذه الظاهرة الأخيرة التي تعود في تاريخها إلى زمن اندلاع الحرب العالمية الأولى كتب حضرة شوقي أفندي ما يلي:
إن الدوافع الأولى لهذه الظاهرة بدت آثارها في صياغة ’النقاط الأربع عشرة‘ للرئيس ويلسن التي ربطت لأول مرة تلك الجمهورية بمقدرات العالم القديم. وكانت أولى النكسات في سبيلها تتمثّل في عدم انضمام الجمهورية الأمريكية إلى عصبة الأمم الحديثة التكوين التي بذل الرئيس الأميركي بالغ الجهد في خلقها… ولكن مهما كان الطريق مضنيا وطويلا فلا بد لهذه الظاهرة أن تقود العالم عبر سلسلة من الانتصارات والنكسات إلى الوحدة السياسية بين نصفي الكرة الشرقي والغربي، وإلى قيام حكومة عالمية وتثبيت دعائم الصلح الأصغر، كما وعد حضرة بهاء الله وألمح به أشعيا النبي، لتصل في نهايتها إلى رفع راية الاسم الأعظم في العصر الذهبي لظهور حضرة بهاء الله.41
وكم كان مدعاة للحزن والأسى إذاً مصير تلك الأفكار التي ألهمت الرئيس الأمريكي في ما بذله من جهد. فسرعان ما ظهر جليا أن عصبة الأمم قد ولدت ميتة. إذ كانت مجرّدة من أي سلطة أو نفوذ ضروري للقيام بمهامها المفروضة، رغم تمتعها بمزايا تمثلّت في فروعها المختلفة التشريعية والقضائية والتنفيذية والإدارية الداعمة لها. وهكذا باتت عصبة الأمم رهينة مفهوم القرن التاسع عشر للسيادة الوطنية المطلقة. ولم يكن في مقدورها اتّخاذ القرارات إلا بإجماع الآراء وموافقة كل أعضائها، وهو الشرط الذي جعل من غير الممكن قيامها بأي عمل فعّال.42 وتكشّفت مثالب تلك المنظومة العالمية وادّعاءاتها الجوفاء عندما فشلت في أن تضم إلى عضويتها بعضا من أهم دول العالم. فحرمت ألمانيا من العضوية لاعتبارها الدولة المهزومة والمسؤولة عن الحرب، واستبعدت روسيا من العضوية بسبب نظامها البلشفي الشيوعي، يضاف إلى ذلك رفض الولايات المتحدة نفسها الدخول في عضوية عصبة الأمم نتيجة الصراعات الحزبية الداخلية الضيقة في الكونغرس الأمريكي. ولم تنأ الولايات المتحدة عن عضوية تلك الهيئة فحسب، بل رفضت أيضا التوقيع بالمصادقة على معاهدة فرساي. ولعله من سخرية القدر أن الجهود الفاترة التي بُذلت لحماية الأقلّيات الإثنية في الدول حديثة التكوين برهنت في نهاية الأمر على أنها لم تكن سوى سلاح سيستخدم في الاقتتال المستمر بين الاخوة الأوروبيين.
خلاصة القول إنه في الوقت الذي شهد فيه التاريخ البشري اندلاع أعنف الصراعات الدموية التي لم يسبق لها مثيل والتي استباحت الأسوار الحصينة لما توارثته الأجيال من قواعد السلوك الإنساني المتحضّر، تسببت القيادات السياسية للعالم الغربي في إضعاف عصبة الأمم وسلب نفوذها. فقد كانت عصبة الأمم الخيار الوحيد للنظام الدولي الذي كان وليد كوارث الحرب العالمية الأولى. ولعلّها كانت العامل الأوحد القادر على تخفيف وطأة المعاناة الأشد عنفا التي وقعت فيما بعد. وهاهي كلمات حضرة عبد البهاء التي تنبأ بها بما ستؤول إليه الأمور: ”السلام، السلام … كلمة يعلنها الحكّام والشعوب باستمرار، والحال أن نار الحقد والبغضاء لا تزال متّقدة في قلوبهم ولم تخمد بعد …“ وأضاف إلى ذلك قوله أيضا في العام 1920: ”إن الأمراض التي يعاني منها العالم اليوم سوف تتفاقم، ويزداد الظلام الذي يحيط به حلكة … وستستمر الدول التي خسرت الحرب في التحريض وخلق الاضطراب وستلجأ إلى استخدام كل وسيلة لإشعال نار الحرب من جديد“.43
*بينما كان العالم بأسره يصطلي بجحيم الحرب، وجّه حضرة عبد البهاء اهتمامه نحو أخطر مهماته شأنا. فقد كان في ودّه أن يضمن الإعلان عن دين الله الجديد إعلانا عاما في أقصى أركان الأرض ولا سيما حيث أهملت رسالة هذا الدين أو قوبلت بالاعتراض في كلا المجتمعين الإسلامي والغربي على السواء. أما الأداة التي أبدعها لهذا الغرض فكانت ”الخطّة الإلهية“ التي فصّلها في أربعة عشر لوحا من ألواحه المباركة، أربعة منها موجهة إلى الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية، وعشرة ألواح أخرى موجهة إلى خمسة أقسام معينة من تلك الجامعة. فـ”لوح الكرمل“ لحضرة بهاء الله و”ألواح الوصايا“ و”ألواح الخطة الإلهية“ وكلاهما لحضرة عبد البهاء، تمثّل في مجموعها، كما وصفها حضرة شوقي أفندي، ثلاثا من ”شرائع“ أمر الله الكريم. ”فألواح الخطة الإلهية“ التي أفاض بها وحيه في أحلك أيام الحرب ما بين العام 1916 والعام 1917 أهابت بتلك العصبة قليلة العدد من المؤمنين الأمريكيين والكنديين ليقوموا بدور قيادي في تأسيس أمر الله في جميع أنحاء الكرة الأرضية. فكان لما عهد به إليهم بتنفيذه مغزى وأثر رائعان. وهاهي كلمات حضرة عبد البهاء توحي لأحبّائه بما ينتظرهم من مجد إن هم لبّوا النداء:
إن ما يأمله عبد البهاء لكم هو أن تُكلّل مساعيكم في باقي بقاع العالم بنفس النجاح الذي تكلّلت به مجهوداتكم في أمريكا، وأن ينتشر أمر الله بواسطتكم وأن يشتهر في جميع أنحاء الشرق والغرب، وأن يرتفع النداء في قارّات الكرة الأرضية بأن ملكوت ربّ الجنود قد جاء. ففي اللحظة التي يحمل فيها المؤمنون الأمريكيون هذه الرسالة الإلهية من شواطئ أمريكا وينشرونها في القارات الأوروبية والأسيوية والأفريقية والأسترالية حتى أقصى جزر المحيط الباسيفيكي، ستجد جامعتهم نفسها وقد ثبتت بنيانا على عرش لا زوال لسلطانه. عندئذ سيشهد أهل العالم بأن هذه الجامعة متنوّرة روحيا ومشمولة بالهداية الإلهية، وعندئذ أيضا تصدح الأرض كلها بأهازيج الثناء عليها وتتغنّى بجلال قدرها وعظم مكانتها.44
يذكّرنا حضرة شوقي أفندي بأن هذه المهمة التاريخية التي وصفها بقوله، إنها حقّ اختُصّ به أفراد المؤمنين في الجامعة البهائية الأمريكية الشمالية،45 تجد جذورها في الآثار المباركة للظهورين الإلهيّين التوأمين اللذين بعث بهما الله في عصر بلغت فيه الإنسانية مرحلة النضج. وأول إشارة إلى ذلك وردت في الآثار المباركة لحضرة الباب الذي وجّه نداءه إلى أهل الغرب قائلا: ”يا أهل المغرب اخرجوا من دياركم لنصر الله من قبل يوم يأتيكم الرّحمن في ظلل من الغمام … فاصبحوا في دين الله الواحد إخوانا على السوا … أنتم تنعكسون فيهم وهم ينعكسون فيكم“.46 أما حضرة بهاء الله فقد وجّه نداءه إلى ”ملوك أفريقيا ورؤساء الجمهور فيها“ وفوّضهم تفويضا لم يسبق له مثيل في أي من نداءاته إلى زعماء العالم إذ دعاهم قائلا: ”اجبروا الكسير بأيادي العدل وكسّروا الصحيح الظالم بسياط أوامر ربكم الآمر الحكيم“.47 وكان حضرة بهاء الله أيضا هو الذي بيّن بصراحة حقيقةً من أبلغ الحقائق حول السياق الذي تنتهجه الحضارة في النموّ والتطوّر: ”قل إنه قد أشرق من جهة الشرق وظهر في الغرب آثاره تفكّروا فيه يا قوم“.48
عقّب حضرة ولي أمر الله في وقت لاحق بقوله إن الخطة الإلهية كان قد تم ”تعليقها“ إلى حين خلق الجهاز اللازم لتنفيذها، ولكنّ حضرة عبد البهاء مضى رغما عن ذلك في اختيار رهط من المؤمنين عهد إليهم بهذه المهمة وفوّضهم بالقيام بدور قيادي في المبادرة إلى تنفيذها. كانت حياة حضرة عبد البهاء الدنيوية تقترب من نهايتها بسرعة، ولكن إذا أعدنا النظر إلى ما مضى نجد أن السنوات الثلاث التي عاشها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى زخرت ببوادر الانتصارات التي سوف يحققها الأمر الكريم في ما يتجلّى للعيان من تطورات ذلك القرن. فتغيّر الأوضاع في الأراضي المقدّسة سمح لحضرة عبد البهاء بمباشرة مهامه وأعماله بحرّيّة ومن دون أي عائق، إلى أنها خلقت الظروف لتتجلّى ألمعيّته الذهنية والروحية تاركة آثارها في الموظفين الحكوميين، وفي الوجهاء والزوّار من كل فئة، وفي المجتمعات والطوائف المختلفة التي يتألف منها سكان الأراضي المقدسة وأهلها. حتى حكومة الانتداب نفسها سعت لتعبّر عن تقديرها للمثل الذي ضربه حضرة عبد البهاء في خلق روح الوحدة والاتّحاد بين الناس وما جاء به من مآثر البرّ والإحسان، فمنحته أرفع الأوسمة بدرجة ”فارس“.49 والأهم من ذلك أن أمرين، هما سيل جديد من الزائرين و فيض آخر من الألواح والرسائل التي بعث بها إلى الجامعات البهائية في الشرق والغرب، شحذا الهمم لتوسيع النشاط التبليغي وتشجيع الأحبّاء على التعمق في تفهّم مضامين الرسالة الإلهية.
لعله من غير الممكن أن نجد مثلا أبلغ من الأحداث التي وقعت مباشرة بعد صعود حضرة عبد البهاء في الساعات الأولى من اليوم الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1921، لتعطينا صورة مؤثّرة عن الانتصار الروحي الذي حققه حضرة عبد البهاء في المركز العالمي للأمر. اجتمعت في اليوم التالي من صعوده جموع غفيرة تعدّ بالآلاف وتمثّل مختلف الأديان والأجناس والطبقات في تلك الديار، وسار هؤلاء خلف موكب الجنازة صاعدين سفح جبل الكرمل وقد غمرتهم أصدق مشاعر الحزن والأسى التي لم تشهد مدينة حيفا مثيلا لها. وتقدّم الموكب ممثلون عن الحكومة البريطانية، وأعضاء السلك الديبلوماسي، ورؤساء كل الطوائف الدينية في تلك المنطقة، واشترك معظم هؤلاء في مراسيم الدفن التي أجريت في رحاب مقام حضرة الباب. وكانت هذه الفورة العفوية العارمة المتوحدة تنّم عن إحساس مفاجئ بفداحة الخطب لفقدان علم ضرب المثل في خلق محور للوحدة والاتّحاد في أرض يمزّقها الحقد والانقسام. مثلّت جنازة حضرة عبد البهاء في حد ذاتها ولكل عين مبصرة شواهد ثابتة لا مجال لدحضها أو نكرانها على وحدة العالم الإنساني التي أعلنها بجهد دائب لم ينقطع طوال حياته.
* * *بصعود حضرة عبد البهاء إلى الملكوت الأعلى، انتهى العصر الرسولي المجيد لأمر الله العزيز. وهكذا أنجزت المشيئة الإلهية مهمتها وحققت إرادتها التي بدأت توجّه مجرى الأحداث قبل سبعة وسبعين عاماً منذ تلك الأمسية التي أعلن فيها حضرة الباب رسالته إلى الملاّ حسين و وُلِد فيها حضرة عبد البهاء. ووصف حضرة شوقي أفندي هذه الفترة من تاريخ الدين البهائي بأنها ”الفترة التي لن يضارع بهاءها أي ظفر جاء في هذا العصر أو أي نصر يجيء في عصر قادم بالغا ما بلغ النصر من تفوّق.“50 فالقدرات الكامنة في هذه القوّة الخلاّقة التي غُرست في الوعي الإنساني في هذه الفترة سوف تتجلّى للعيان تدريجيا في الألف سنة أو الآلاف من السنين الممتدّة أمامنا.
وإذا دققّنا النظر وتأمّلنا بإمعان في هذه المرحلة العظيمة الحاسمة من تاريخ الحضارة الإنسانية تبرز أمامنا بجلاء المعالم الواضحة لشخصية لها من الشيم والشمائل ومن الدور الهام الذي أدّته ما يجعلها شخصية فذّة فريدة في مسيرة الستة آلاف سنة الماضية. إنها شخصية حضرة عبد البهاء الذي أسماه حضرة بهاء الله بـ”سرّ الله.“ أما حضرة شوقي أفندي فقد وصفه بأنه ”مركز ميثاق الله ومحوره“ و ”المثل الأعلى“ لتعاليم الظهور الإلهي في عصر النضج الإنساني و”مصدر وحدة العالم الإنساني.“ ولا توجد هناك في أي من الرسالات الإلهية السابقة التي جاءت بالنّظم الدينية الكبرى التي سجّلها التاريخ ظاهرة تضارع بأي حال من الأحوال ظاهرة حضوره في هذا العصر. فهذه النظم جميعا كانت في الأساس مراحل مختلفة أعدّت الإنسانية وهيّأتها لبلوغ مرحلة النضج هذه. كان حضرة عبد البهاء نتاجا فذّا أبدعت صنعه وصقله يد حضرة بهاء الله المباركة، فهو الذي كان قادرا أيضا على أن يجعل كل أمر من أمور الدنيا ممكنا. أدرك هذه الحقيقة أحد البهائيين الأمريكيين فحفزه ذلك ليكتب قائلا:
لقد حان الوقت لإبلاغ الرسالة الإلهية، ولكنه لم يكن هناك من بشر ليسمعوا. وهكذا منح الله العالم عطيّته فكان حضرة عبد البهاء الذي استلم رسالة حضرة بهاء الله نيابة عن الجنس البشري. فقد سمع نداء الله وألهمته قوى الغيب الروحية، فكان وعيه وإدراكه لمعنى هذه الرسالة مكتملا. وأخذ للإنسانية عهدا بأن تستجيب لنداء الله … هذا هو الميثاق بالنسبة لي شخصيا، أي أنه وُجد على وجه هذه الأرض من كان في استطاعته أن ينوب عن الخلق الجديد الذي لم يولد بعد. نعم لقد كانت هناك القبائل والأسر والطوائف العقائدية والطبقات الاجتماعية، ولكنه لم يكن هناك من إنسان سوى حضرة عبد البهاء، وحضرة عبد البهاء الإنسان آلى على نفسه أن يبلّغ رسالة حضرة بهاء الله، وعاهد الله أن يجمع الناس للدخول في حظيرة وحدة العالم الإنساني وأن يسعى لإيجاد إنسانية يمكنها أن تصبح أداة لتنفيذ أحكام الله وشرائعه.51
بدأ حضرة عبد البهاء في تنفيذ رسالته سجينا لدى حكومة انطبعت على الجهل والظلم الشديد وأحاط به أشقّاء لا ذمّة لهم غدروا به وخانوه وهاجموه دون هوادة إلى أن سعوا في نهاية الأمر إلى التآمر على قتله والقضاء عليه. إلا أن حضرة عبد البهاء تمكّن بمفرده من أن يكوّن جامعة من البهائيين في بلاد فارس كانت بمثابة أسطع دليل على قوى التنمية الاجتماعية التي يمكن للأمر الكريم تحقيقها. ثم تمكّن من شحذ الهمم لنشر دين الله في عالم الشرق، إضافة إلى تأسيس الجامعات البهائية من المؤمنين المخلصين في كل أنحاء العالم الغربي، وقام على رسم مشروع لنشر أمر الله العزيز على نطاق عالمي واسع، وفاز باحترام قادة الرأي وإعجابهم في كل مكان تأثّر بوجوده. وأفاض على أتباع حضرة بهاء الله في جميع أنحاء العالم مجموعة من الآثار المباركة حوت الهداية الصادقة مبيّنا ما هدفت إليه أحكام الأمر الكريم وتعاليمه المباركة. وإضافة إلى كل هذا فقد شيّد على سفوح جبل الكرمل، باذلا جهدا هائلا ومتحمّلا العظيم من البلايا والآلام، المقام المقدّس الذي يحتضن رفات حضرة الباب الشهيد، وهو المكان الذي سوف يصبح محورا لذلك السياق في تنظيم سبل الحياة على هذا الكوكب تدريجيا. وخلال هذه الأحداث كافة، وفي أبسط شؤون حياته المليئة بالهموم والواجبات من كل نوع، هذه الحياة التي كانت في كل الأوقات محط المراقبة والتمحيص من قبل الصديق والعدو على السواء، آلى حضرة عبد البهاء على نفسه أن يضمن للأجيال القادمة كنزا تجده في متناول يدها، ألا وهو الكنز الذي طالما راود أحلام الشعراء والفلاسفة وأهل التصوّف عبر العصور والأجيال. إنه الكنز الذي رمز إليه حضرة عبد البهاء في حياته، تلك الحياة التي كانت مثالا للكمالات الإنسانية دون أن تشوبها شائبة.
وأخيرا كان الفضل لحضرة عبد البهاء في أنه كفل للنظام الإلهي الذي أبدعه حضرة بهاء الله الوسائل والغايات المطلوبة لتحقيق أهداف ذلك النظام الذي يسعى إلى توحيد العالم الإنساني وإلى إقامة العدل في الحياة الجماعية للبشر. إن قيام الوحدة والاتّحاد بين البشر، حتى ولو كان ذلك على أبسط المستويات، يستدعي توفّر شرطين أساسيين. أولاً: ينبغي لأولئك المعنيين بالوحدة والاتحاد أن يتفقوا نوعا ما على موضوع الحقيقة وطبيعتها لأن ذلك يؤثر على علاقاتهم بعضهم ببعض وبالعالم الظاهري أيضا. ثانياً: ينبغي لهم أن يوافقوا على وسائل معترف وموثوق بها لاتخاذ القرارات التي تحكم ارتباط بعضهم ببعض والتي تحدد أهدافهم المشتركة.
ليس الاتحاد مجرّد ظرف طارئ يأتي نتيجة شعور متبادل بوجود نيّات حسنة ومصالح مشتركة، مهما بلغ صدق هذه المشاعر وعمقها. كذلك الأمر بالنسبة لأي كائن عضوي. فوجوده ليس مجرد اتّحاد للعناصر المختلفة يتم مصادفة وبطريقة عفوية اعتباطية. إن الاتّحاد ظاهرة من ظواهر القوة الخلاّقة التي تثبت وجودها وتترك آثارها في ما يبذل من جهود جماعية، ونحس بغيابها عندما تفشل هذه الجهود ويصيبها العجز والشلل. ولكن مهما تعطّلت هذه الوحدة بسبب الجهل والضلال أحيانا، فإن هذه القوة الخلاّقة كانت ولا تزال الدافع الأول في تقدّم الإنسانية ورقيّها، فهي التي أنجبت القوانين والشرائع، وصاغت النظم السياسية والاجتماعية، وأبدعت المآثر الفنّية، وأحرزت الإنجازات التقنية التي لا نهاية لها، وفتحت آفاقا جديدة لرفع مستويات الأخلاق والآداب، وحققت الازدهار المادي، وأفلحت في إقامة عصور من السلام العام لحقب طويلة من الزمان بقيت آثارها متوهجة في حافظة أجيال متعاقبة من البشر، صوّرتها مخيّلاتهم على أنها ”عصور ذهبية.“
وبواسطة الظهور الإلهي في عصر النضج الإنساني انطلقت من عقالها أخيرا القدرات الكامنة كلّها في هذه القوة الخلاّقة وتأسست الوسائل الضرورية لتحقيق الأهداف والغايات الإلهيّة. ففي ألواح الوصايا، التي وصفها حضرة شوقي أفندي بأنها ”الوثيقة“ المؤسّسة للنظام الإداري، شرح حضرة عبد البهاء بالتفصيل طبيعة النظامين التوأمين ودور كل منهما، وبيّن أن هذين النظامين هما ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم وأنهما في مقام الخلافة من بعده، يكمّل الواحد منهما الآخر في ما يؤديه من وظائف ومسؤوليات، وذلك لضمان وحدة الأمر الكريم واتّحاده وتحقيق أغراض رسالته في هذا الدور، إضافة إلى ضمان وحدة نظامي ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم. وشدّد حضرة عبد البهاء في التأكيد تأكيدا خاصا على ما عنته تلك السلطة التي خوّلها لهذين النظامين من بعده، فقال في وصيّته:
كلّ ما يقرّرانِه من عند الله، من خالفه وخالفهم فقد خالف الله، ومن عصاهم فقد عصى الله، ومن عارضه فقد عارض الله، ومن نازعهم فقد نازع الله، ومن جادله فقد جادل الله، ومن جحده فقد جحد الله ….52
شرح حضرة شوقي أفندي أهمية هذا النص الفذّ الفريد في نوعه فكتب يقول:
وينبغي لنا أن نلاحظ أن النظام الإداري الذي أقامته هذه الوثيقة التاريخية هو بأصله وطبيعته فريد في تواريخ الأديان العالمية. وما يمكننا الجزم به عن ثقة وباطمئنان أنه لا مظهر من المظاهر الإلهية السابقة لحضرة بهاء الله على الإطلاق … قد وضع أي نصّ جازم يماثل النظام الإداري الذي أسسه مبيّنا تعاليم حضرة بهاء الله المختار، وهو نظام من شأنه أن يحمي الدين من التصدّع والانشقاق حماية لا شبيه لها في أي دين سابق ....53
قبل تلاوة وصيّة حضرة عبد البهاء والإعلان عنها رسميا افترضت الغالبية العظمى من أتباع الدين الإلهي أن المرحلة القادمة في نموّ هذا الدين وتطوّره ستشهد انتخاب بيت العدل الأعظم الذي نص على وجوده حضرة بهاء الله نفسه في الكتاب الأقدس ليكون الوصيّ على مقدّرات العالم البهائي وشؤونه كافة. غير أنه يجدر بالبهائيين في يومنا هذا الالتفات إلى حقيقة هامة وفهمها، وهي أنه قبل هذه المرحلة كانت فكرة ولاية الأمر غير معروفة. ولكن هذا لم يمنع الابتهاج ابتهاجا واسعا في الجامعة البهائية حين أُعلن نبأ ذلك الامتياز الفريد الذي خص به حضرة عبد البهاء حضرة شوقي أفندي وكان هذا التعيين بمثابة استمرارا للصلة القائمة بين هذا الدور الذي أنيط بحضرة شوقي أفندي والمؤسّسيْن الرئيسيْن لأمر الله. وحتى ذلك الحين لم يكن هناك أي تفهّم كامل لما أراده حضرة بهاء الله من إقامته هذا النظام أو لما أنيط به من مسؤوليات الشرح والتّبيين، وهي المسؤوليات التي بدأت تتجلّى أهميتها الحيوية بسرعة منذ ذلك الحين، والتي أدركنا بوضوح مع مرور الوقت وإعادة النظر من جديد، أنها مذكورة ضمنا في بعض آثاره المباركة.
ولعل ما كان خارج حدود التصوّر كلّية لدى أي من المؤمنين المعاصرين آنذاك، سواء أكان هؤلاء من الأوفياء الثابتين أو المناوئين المشاكسين، هو ذلك التحوّل الخيّر الذي بعثته وصيّة حضرة عبد البهاء في أوصال هذا الدين وحياته. ولقد كان يشير إلى ذلك حين أسرّ لبعض أتباعه بقوله: ”لو علمتم ما سيحدث بعد غيابي عنكم، لكنتم حقا ستلهجون بالدعاء أن يعجّل الله برحيلي إلى الدنيا الآخرة.“54
* * *ينبغي لأي محاولة هدفها تقدير مكانة ولاية الأمر وموقعها تقديرا صحيحا في التاريخ البهائي أن تبدأ بالتمعّن بصورة موضوعية في الظروف التي واجهت حضرة شوقي أفندي حين قام بتأدية مهام رسالته. فمن الأهمية الخاصة بمكان أن ندرك أن النصف الأول من عمر هذه الولاية شهد اتّضاح معالمها ونموّها إبّان الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، وهي فترة تعمّقت فيها عوامل القلق وعدم الاستقرار لتؤثّر في كل جانب من جوانب الشؤون الإنسانية. فمن جهة، شهدت فترة ما بين الحربين هذه تقدّما مرموقا في التغلّب على الحواجز الفاصلة بين الدول وبين الطبقات، ومن جهة أخرى شهدت عجزا سياسيا وشللا اقتصاديا حالا دون الاستفادة من الفرص التي أتاحها هذا التقدّم. فقد ساور الناس في كل مكان شعور بأن هناك حاجة ماسّة إلى إعادة النظر في تعريف طبيعة المجتمع والدور الذي على نُظُمه أن تؤدّيه، والحقيقة أن التعريف المطلوب كان تعريفا جديدا بالنسبة لأهداف الحياة الإنسانية ذاتها والغاية منها.
وجدت الإنسانية نفسها عند نهاية الحرب العالمية الأولى قادرة في نواح هامة على استكشاف إمكانات لم يتصوّرها أحد قبل ذلك. ففي أوروبا كلّها وفي منطقة الشرق الأدنى اندحرت النظم الاستبدادية التي كانت تشكّل أشد الموانع والعقبات في طريق الوحدة والاتّحاد. كذلك أصبحت، وإلى حد بعيد، العقائد الدينية المتحجّرة التي طالما قدّمت الدعم المعنوي لقوى الصراع والاختلاف وغذّتها، عرضة للشكّ والتساؤل في كل مكان. ووجدت الشعوب التي كانت سابقا خاضعة لحكم أجنبي الحرية للتفكير في مشاريع تتعلّق بمستقبلها وبمصيرها المشترك، إضافة إلى أنها أخذت تضطلع بنفسها بمسؤولية رعاية العلاقات القائمة فيما بينها من خلال أجهزة الدول القومية الجديدة التي جاءت بها التسوية ضمن معاهدة فرساي. فالمهارات الإبداعية ذاتها التي استُغلّت في سبيل إنتاج أسلحة الدمار والخراب تم تسخيرها من أجل القيام بالمهمات الملحّة التي تعود بالفائدة والنفع في مجالات التوسع الاقتصادي. ثم تلك القصص المؤثّرة المحرّكة للمشاعر التي دارت حوادثها في أحلك أيام الحرب، ومنها تلك القصة التي حكت كيف أحس الجنود البريطانيون والألمان المتحاربون وهم في ساحة القتال بدافع شديد يشدّهم إلى ترك خنادقهم –خنادق الموت والهلاك – ليحتفلوا معا بميلاد السيد المسيح. فكان هذا الحدث بمثابة لمحة خاطفة مثّلت لنا وحدة العالم الإنساني، وهي الوحدة التي طالما أعلنها حضرة عبد البهاء دون أن يعيا أو يني إبّان أسفاره في القارّة. والأهم من هذا كلّه ما كان ثمرة خيال مبدع خطا بالإنسانية خطوة هائلة إلى الأمام نحو الوحدة والاتّحاد: إذ أوجد قادة العالم، رغم ترددهم، نظاما دوليا للتشاور والتداول تمكّن، رغم تصارع المصالح المكتسبة التي شلّته، من أن يبشّر بأول صيغة للنظام العالمي الأمثل من حيث البنية والشكل.
كانت يقظة الناس ما بعد الحرب صحوة عالمية النطاق في معالمها وآثارها. ففي الصين أطاح الشعب الصيني تحت قيادة صن يات سن نظام الحكم الإمبراطوري المتداعي. وكانت غاية ذلك الشعب إعادة تأسيس مجد بلاده من جديد بعد أن تهاون ذلك الحكم الغاشم في المحافظة على سلامة الوطن والدفاع عنه. وفي أمريكا اللاتينية كافحت الحركات الشعبية كفاحا مشابها رغم الانتكاسات المريرة المتتابعة لاستعادة سيطرتها على مقادير بلادها والاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة لقارتها. أما في الهند فقد أقدم المهاتما غاندي، أحد أبرز الشخصيات الفذّة في هذا القرن، على مغامرة لم تُحدث انقلابا كاملا في مقدّرات بلاده فحسب، بل كانت بمثابة دليل قاطع على مدى فعالية القوى الروحية في تحقيق الإنجازات الإنسانية. وأخيرا في أفريقيا، القارّة التي كانت كغيرها من شعوب البلاد المستَعمَرة تترقب لحظتها المصيرية، لم يفت أي شاهد عيان أن موجة التحوّل والتغيير قد انطلقت وبدأت فعلها وأنها مستمرّة يستحيل وقفها لأنها جاءت تعبيرا عن طموحات الجنس البشري وآماله في العالم كلّه.
غير أنه لم يكن في إمكان هذه الطفرات طمس آثار الكارثة التاريخية التي حلّت بالعالم مهما كانت مظاهر هذا التقدّم في الشؤون الإنسانية مشجّعة ومبشّرة بالخير. ففي غضون النصف الثاني من القرن التاسع عشر أعلن حضرة بهاء الله عن مجيء يوم الله موجّها نداءه إلى حكّام زمانه والأوصياء على مصير الجنس البشري، فقوبل ذلك النداء عندهم في الشرق والغرب على السواء إما بالرفض أو بالإهمال. فإذا ما فكرنا مليّا في ما أقدم عليه هؤلاء الحكّام من تجاهل صارخ لمسؤولياتهم ونكث لعهودهم فإن ذلك سيمكّننا من النظر إلى ردود الفعل اللاحقة تجاه رسالة حضرة عبد البهاء إلى الغرب نظرة موضوعية سليمة تتّسم بالحصافة والوعي. ومهما بلغ ابتهاجنا بآيات المدح والثناء التي انهمرت على حضرة عبد البهاء من كل حدب وصوب، فإن النتائج المباشرة لمهمّته كانت بمثابة فشل معنوي آخر من قبل قطاع كبير من البشر وقياداتهم. فالرسالة الإلهية التي مُنعت وحيل دون انتشارها في الشرق تجاهلها أساسا العالم الغربي وهو ينزلق إلى مهاوي الدمار والخراب، وهو المصير الذي مهّد له اعتداد بالذات مبالغ فيه أدى في نهاية الأمر إلى خيانة ذلك المثل الأعلى الذي جسّدته ”عصبة الأمم“.
نتج عن ذلك أن فترة العقدين من الزمان اللذين تبعا مباشرة تولّي حضرة شوقي أفندي مسؤولياته وليّاً لأمر الله يدافع ويذود عنه، كانت فترةً غرق فيها العالم الغربي في موجة من الكآبة والبؤس عكست الفشل الذريع الهائل الذي منيت به المحاولات التي تهدف إلى تحقيق الوحدة والاتّحاد وتنوير العقول والضمائر، وهي الغاية التي أعلنها حضرة عبد البهاء بكل جرأة ومن دون أي تردد. وبدت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما لو اعتراها الخمول وطواها النسيان، وساورت أهل العصر شكوك عميقة حول مقدرة الديمقراطية الليبرالية التقليدية في معالجة مشاكل ذلك الزمان. وبالفعل تم استبدال تلك الحكومات الديمقراطية الليبرالية بنظم حكم استبدادية خاضعة لحكم فرد واحد. وسرعان ما تبع ذلك الانهيارُ الاقتصادي الذي أدى في العام 1929 إلى تخفيض واسع في مستوى الرفاه المادي بكل ما خلّفه ذلك من قلق نفسي وتزعزع أخلاقي.
إنْ تيسّر لنا أن نقدّر هذه الظروف حقّ قدرها، فإن ذلك سيساعدنا على إدراك جسامة التحديات التي واجهها حضرة شوقي أفندي في مستهل ولايته. أما في ما يتعلق بواقع حال الجنس البشري آنذاك وظروفه، فلم يجد حضرة ولي أمر الله وهو يواجه تلك الظروف أي بادرة تبعث في نفسه الثقة بأن الرؤية التي ورّثها إياه مؤسّسا الدين البهائي سيُكتب لها أي نجاح ملحوظ في السنوات المقدّرة له طالت مدّتها أم قصرت.
وجد حضرة شوقي أفندي أن الأداة التي في متناوله لا تملك من القوة والحنكة والمرونة ما يحتاجه أمر تنفيذ مهمته. ففي العام 1923، عندما تسلّم حضرة شوقي أفندي مقاليد الأمور لقيادة أمر الله العزيز تسلّما كاملا، كانت نواة أتباع بهاء الله في العالم هي جامعة المؤمنين الإيرانيين الذين لم يكن من الممكن في ذلك الوقت وضع تقدير موثوق لعددهم. وكانت جامعة المؤمنين الإيرانيين محرومة من استخدام أي من الوسائل اللازمة لنشر دين الله فضلاً عن افتقارها الشديد إلى الموارد المالية وضيقها ثم تعرّض أفرادها المستمر للتحرّش والمضايقة من قبل مناوئيهم. أما في أمريكا الشمالية، التي عُهد إليها في ألواح الخطة الإلهية بالجسيم من المسؤوليات، فقد واجهت مجموعات صغيرة من المؤمنين تحدّيات الحياة اليومية وشغلهم طلب الرزق والقيام بأود أنفسهم وعائلاتهم في خضمّ أزمة اقتصادية تزداد سوءا وعتوّا. إلا أن المجموعات الأصغر حجما في كل من أوروبا وأستراليشيا والشرق الأقصى حافظت على بقاء شعلة دين الله متّقدة شأنها في ذلك شأن أفراد ومجموعات وعائلات أخرى من المؤمنين رغم عزلتهم وانتشارهم في باقي أرجاء العالم المختلفة. هذا فيما لم تكن الكتب الأمريّة متوفّرة باللغة الإنجليزية بينما كانت مسألة ترجمة الآثار المباركة إلى اللغات الرئيسة الأخرى وإيجاد المخصصات المالية لنشرها عبئا ثقيلا من المستحيل تحمّله.
ورغم أن تلك الرؤية التي بسطها أمامنا حضرة عبد البهاء كانت لا تزال متألّقة ساطعة يضيء نورها الآفاق، فإن الوسائل المتاحة لأولئك الأحباء بدت لهم عاجزة بصورة يرثى لها عن مواجهة الظروف القائمة آنذاك في كل مكان. وبدا الهيكل الضخم الثقيل غير المكتمل فوق الأساسات المحفورة لمشروع مبنى مشرق الأذكار والجاثم على شاطئ البحيرة شمال مدينة شيكاغو، بدا وكأنه يقف مستخفا بذلك التصميم الفذ الذي أدهش عالم المعمار قبل سنوات قليلة. وفي بغداد استولى أعداء دين الله على ”البيت الأعظم“ الذي خصّصه حضرة بهاء الله محجّا للبهائيين. وفي الأرض المقدّسة ذاتها أصيب ”قصر البهجة“ بأضرار بالغة تهدّده بالخراب نتيجة استيلاء الناقضين عليه وإهمالهم صيانته. أما المقام المقدّس الذي يحتضن رفات كل من حضرة الباب وحضرة عبد البهاء فقد بقي على حاله بناء حجريا بسيطا لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر.
توضّح لحضرة ولي أمر الله بعد إجراء سلسلة من المشاورات الاستطلاعية مع نفر من كبار البهائيين أن أية محادثات رسمية مع الأكفاء المؤهلين من البهائيين حول تأسيس أمانة سرّ عالمية لن تكون عديمة الفائدة فحسب، بل لعلّها تأتي بعكس ما ينتظر. وبناء عليه قرر حضرة شوقي أفندي أن يأخذ على عاتقه هو وحده المسؤولية ليدفع قُدُما بمهمّته التي كُلّف بها. ويكاد يكون من المستحيل على الجيل الحاضر أن يدرك تماما إلى أي درجة كان حضرة شوقي أفندي يقف بمفرده وحيدا في الميدان. وإذا كان في الإمكان تصوّر موقفه آنذاك، ولو إلى حد، فإن مجرد التصوّر هذا سيكون مؤلما وموجعا للقلب.
كان أعضاء الأسرة المباركة الموسّعة يتمتعون باحترام بالغ لدى أفراد البهائيين في كل الديار بحكم محتدهم المرموق ونسبهم العريق. وتوقع حضرة ولي أمر الله في البداية أن يرحّب هؤلاء بالفرصة المتاحة لهم لكي يشدّوا أزره ويساعدوه في تحقيق الأهداف التي نصّت عليها وصيّة حضرة عبد البهاء بأسلوبها بالغ التأثير ولهجتها الملحّة الآمرة بالتنفيذ الحتمي. وبناء عليه وجّه حضرة ولي أمر الله الدعوة لأشقائه وأبناء خؤولته وإحدى شقيقاته ممن أهّلتهم كفاءاتهم التعليمية للقيام بالخدمات الإدارية لمساندة ما تتطلبه ولاية الأمر من الأعمال والمسؤوليات المرهقة. ولكن بمرور الوقت، ويا للأسف، نفض الواحد منهم بعد الآخر يديه من المسؤوليات المنوطة به فأهملوا واجباتهم وأبدوا عدم رضائهم عن القيام بدور المعاونة والدعم لولاية الأمر المسند إليهم. والأخطر من ذلك أنهم خلقوا لحضرة شوقي أفندي وضعا محرجا، وهم أقرباؤه، فلم يأخذوا السلطة المخوّلة له بعين الاعتبار بل اعتبروها سلطة اسمية نسبيا، وفعلوا ذلك رغم ما أكدته ألواح وصايا حضرة عبد البهاء تأكيدا قاطعا بالنسبة لمقام وليّ أمر الله وسلطته النافذة. فقد فضّل هؤلاء، حسب رأيهم، أن تكون زعامة الدين الإلهي مسألة عائلية أصلا وأن يكون لآراء كبار العائلة وزنها واعتبارها وأن يُمنح آخرون من أعضائها المؤهلين مثل هذا الحق. وازداد الوضع سوءا حين بدأ هؤلاء الأقرباء بشن مقاومة ضارية ضد حضرة ولي أمر الله. ووصلت الحال بهم إلى حد سمحوا فيه لأنفسهم، وهم أبناء حضرة عبد البهاء وأحفاده، بمعارضة مَن استخلفه حضرة عبد البهاء وبعصيان أوامر وصيته.
شهدت روحيّة خانم ما جرى من تردّي الأمور في مراحله المتأخرة فعانت هي نفسها مما لمسته من آثار سلبية أضرّت بشؤون الدين الإلهي وآلمت حضرة ولي أمر الله شخصيا. وعلّقت على ذلك فيما بعد قائلة:
على المرء أن يفهم القصّة القديمة عن قابيل وهابيل، وهي قصة تُحكى عن الحسد العائلي الذي يمثل خيطا قاتما في نسيج التاريخ يربط عصوره ودهوره، ويمكن تقفّي آثاره في كل ما جرى من أحداث … فضعف النفس الإنسانية التي غالبا ما تتعلّق بأغراض تافهة إضافة إلى ضعف العقل البشري الميّال إلى الغرور والتشبّث بالرأي الشخصي، يورّط الناس في غمرة من الانفعالات تعميهم فيخطئون في أحكامهم ليعمهوا في التّيه والضلال. ورغم أن ظاهرة النقض هذه جانب من الجوانب المتأصّلة في الأديان، فإن هذا لا يعني أنه لا ينتج عنها أضرار بالغة بالنسبة لدين الله … والأهم من ذلك كله هو أنه لا يمكن القول إن آثارها الفادحة لن تصيب مركز الميثاق نفسه. فالحملات الشخصية الشريرة المغرضة التي تعرّض لها شوقي أفندي تركت آثارا من الكآبة في نفسه دامت طوال حياته.55
تُبرز هذه الخلفية القاتمة من الأحداث بصورة أكثر تألقا وإشعاعا إنجازات الورقة المباركة العليا، شقيقة حضرة عبد البهاء البارّة وآخر المخضرمين من العصر البطولي لدين الله. فقد قامت بهيّة خانم بدور حيوي في الذّود عن مصالح أمر الله العزيز بعد صعود حضرة عبد البهاء، وأصبحت لحضرة شوقي أفندي سنده الوحيد الفعال. أما ولاؤها وإخلاصها المتفاني فقد حرّكا قلم حضرة شوقي أفندي المبدع ليخطّ في وصفها أبلغ ما كتب من العبارات والمعاني العميقة. فإثر صعودها العام 1932 نعاها إلى الأحباء في الشرق والغرب نعيا مؤثّرا. فكتب حضرة شوقي أفندي إلى أحباء الشرق معبّرا عن فداحة الخَطب وما يشعر به من خسارة شخصية لفقده مَن كانت مرشدته الحنون ورائدته الحكيمة توجّهه وتشجّعه وتسدّد خطاه. أما رسالته إلى أحباء الغرب فقد تضمنت مرثيّته الأدبية الخالدة التي خصّها بشخصها المبارك، وفي ما يلي بعض ما احتوته تلك المرثيّة من درر الكلام والمعاني:
إن أجيالا قادمة وأقلاما أبلغ من قلمي وحدها القادرة والكفيلة بأن تفيها حقها من الإشادة التي تليق بجلال وعظمة حياتها الروحية الشامخة، والثناء على دورها الفريد الذي قامت به طيلة مراحل الاضطراب التي عبرها التاريخ البهائي، أو بما أغدق عليها من عبارات المدح والثناء العارم الصادرة عن يراع كل من حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء، مركز عهده وميثاقه، وهي عبارات، وإن لم تُدوّن، لم يشكّ في صحتها إجمالا الكثرة من المعجبين بها والمتحمّسين لها في كل من الشرق والغرب. ثم لا ننسى إسهامها في توجيه مسار سلسلة من الأحداث الرئيسية التي سجّلها تاريخ هذا الأمر الكريم ولا ما عانته من الآلام وما بذلته من التضحيات. أضف إلى ذلك ما تمتعت به من العطايا النادرة تمثلت في حنان لا ينضب وعطف صادق أغدقته بعظيم الفضل والكرم، وكل هذه الخصال وغيرها من الفضائل امتزجت خيوطا متماسكة لا تنفصم عراها في نسيج هذا الدين، وهو أمر لا يمكن أن يتغاضى عنه أو يقلل من شأنه أي مؤرّخ لدين بهاء الله في المستقبل ... وإني لأتساءل أيا من بركاتها العميمة أخصّ بالذكر؟ فقد غمرتني بها وهي تحدب عليّ عناية ورعاية، وذلك في أدقّ لحظات حياتي وأكثرها قلقا واضطرابا. فبالنسبة لي، حين وقفت محتاجا أشد الحاجة لأن يمنّ الله عليّ بنعمته وفضله ويبعث فيّ الهمة والعزم تجسّدت لي الورقة العليا المباركة رمزا حيّا لعديد من الصفات والمزايا التي عرفتها ومجّدتها في شخص حضرة عبد البهاء.56
كان حضرة ولي أمر الله يشعر ولسنوات طوال بأن صيانة الأمر الإلهي وحمايته مسألة تقتضي من جانبه التزام الصّمت حيال الأوضاع المتردّية للأسرة المباركة. ولكن حضرة شوقي أفندي وجد نفسه مضطرا في نهاية المطاف أن يعلن للعالم البهائي عن طبيعة التجاوزات التي كان عليه مواجهتها ومعالجتها. وهو فعل ذلك مضطرّا عندما تحوّلت معارضة هؤلاء الأقرباء إلى عصيان سافر، فورّطوا الأسرة في نهاية الأمر في تحالف مخز مع تلك العصبة من ناقضي الميثاق الذين حذّر حضرة عبد البهاء من مكائدهم في ألواح وصاياه بأسلوب شديد اللهجة، وشطّوا أبعد من ذلك حتى أنهم تزاوجوا مع هؤلاء الناقضين ومع إحدى العائلات المحلية شديدة العداء لدين الله.57
إن هذه الحقيقة المؤسفة من التاريخ مهمة لأنها سوف تساعدنا على تفهّم الأحداث التي مرّت بالأمر الكريم في القرن العشرين، لا بالنسبة لما أسماه حضرة ولي أمر الله بالزلزال الذي ضرب العائلة المباركة فحسب، بل بالنسبة لما تلقيه هذه الأحداث من ضوء يجلو ما سوف تواجهه بصورة متزايدة الجامعة البهائية من تحدّيات المستقبل. فقد أنبأنا بذلك وبصريح العبارة كلٍّ من حضرة عبد البهاء وحضرة ولي أمر الله. وبصرف النظر عن النفاق الذي اتّسم به معظم أنسباء حضرة شوقي أفندي وأقرباؤه فإنهم أثبتوا بأعمالهم جهلا تاما بطبيعة الوظيفة التي أنيطت به حسبما جاء في وصيّة حضرة عبد البهاء. ولم يكن في استطاعتهم، أو لعلّهم لم يحاولوا، فهم الحاجة إلى خلق سلطة مركزية كان لا بد منها لإعادة بناء صرح النظام الاجتماعي، وبدا الأمر بالنسبة لهم وكأنه تحدٍ روحي. وحقيقة الأمر هي أن الظهور الإلهي في عصر النضج الإنساني جاء بهذه السلطة كأبرز المعالم الرئيسة لرسالته. وقصة تخلّي هؤلاء عن حضرة ولي أمر الله درس من دروس التاريخ سوف تعيه الأجيال القادمة عبر الدورة البهائية من القرون والعصور. أما مصير هذه الزمرة التي تمتعت بالحظوة والامتياز عن غير جدارة واستحقاق لا بد أن يؤكد لكل من يطّلع على ما آلت إليه حالتهم مدى أهمية كل من ميثاق حضرة بهاء الله بالنسبة لتأسيس وحدة العالم الإنساني، وبالنسبة للالتزامات الحتمية التي يفرضها ذلك الميثاق على أولئك الذين يلجأون إلى حماه.
*إذا ما فكّرنا مليّا في الأحداث التي جرت إبّان ولاية حضرة شوقي أفندي فإن علينا نحن البهائيين أن نستلهم الخيال لنتصوّر طبيعة المهمّة التي ألقيت على عاتقه من وجهة نظره هو نفسه. وفي هذا سنسترشد بمجموعة ما تركه لنا من الكتب والمؤلفات. فرؤيته التي كانت طوال السنوات الست والثلاثين لولاية الأمر هي القوة المنسّقة لكل ما أنجزه من الأعمال، وجدت أصولها في بيانات حضرة عبد البهاء. ففي عدد لا مجال لحصره من ألواحه وأحاديثه بيّن حضرة عبد البهاء محور تعاليم رسالة حضرة بهاء الله كما يلي: ”إن أساس دين الله وشريعته الذي تجلّى في هذا الدور البديع والقرن الجليل هو الرأفة الكبرى والرحمة العظمى والألفة بين جميع المِلل، والصدق والأمانة والمحبة القلبية الخالصة تجاه جميع الطوائف والنِّحَل، وإعلان وحدة العالم الإنساني.“58 وأكّد حضرة عبد البهاء، كما أشرنا سابقا، تأكيدا قاطعا بأن التغييرات الطارئة والتحولات الأساسية الشاملة في كل مجال من مجالات المساعي والجهود الإنسانية سوف تجعل هدف وحدة العالم الإنساني هدفا واقعيا يمكن تحقيقه. أما بالنسبة لمضامين هذه الرؤية التي استلهمها حضرة شوقي أفندي من حضرة عبد البهاء فقد شكّلت الموضوع الرئيس لبعضٍ من أهم الرسائل التي خطها حضرة ولي أمر الله. ففي رسالة وجّهها العام 1931 إلى الأحباء في الغرب بسط أمامهم آفاقا جديدة من الرؤية والتصوّر لمستقبل باهر مشرق على هذا النحو:
إن مبدأ وحدة البشر واتّحادهم هو المحور الذي تدور حوله تـعاليم حضرة بهاء الله كافة، وهو ليس ثمرة ناتجة عن مجرد فورة عاطفية عمياء، كما أنه ليس بمثابة تعبير لآمال مبهمة تدّعي التقوى والصلاح. فالدعوة التي يوجّهها ليست مجرد إيقاظ روح الأخوّة والخير بين الناس، ولا هي مجرّد محاولة لإقامة التعاون والوفاق بين الأمم والشعوب. إن مطلب مبدأ وحدة البشر واتّحادهم مطلب أدقّ وغاية أعظم وأجلّ من تلك المطالب والغايات التي قام الرسل والأنبياء السابقون بتحقيقها. ولا ينطبق هذا المبدأ على الفرد فقط، بل يتناول أيضا العلاقات الأساسية التي يجب أن تربط الحكومات والشعوب كافة كأعضاء أسرة إنسانية واحدة … ويدعو هذا المبدأ أيضا إلى تغييرات عضوية في بُنية المجتمع الراهن، وهي تغييرات لم يشهد العالم لها مثيلا … فأقل ما يدعو إليه هو إعادة بناء صرح العالم المتحضّر وتحقيق نزع سلاحه. وينادي إضافة إلى ذلك بإقامة عالم ملتحم عضويا في كل ناحية من النواحي الأساسية لحياته، متّحد في منظوماته السياسية، وفي تطلّعاته الروحية، وفي تجارته ونظمه المالية، ومتّحد في لغته وأبجديته وحروف هجائه ولكنه أيضا قادر على احتواء ما لا نهاية له من تعدد الخاصّيّات القومية المختلفة لأجزائه المتحدة.59
أما المفهوم الذي ظهر قويا في آثار حضرة ولي أمر الله فكان تلك الاستعارة اللفظية المتمثلة في كلمة ”عضوي“ التي استخدمها حضرة بهاء الله ومن بعده حضرة عبد البهاء ليحدّد معنى ذلك السياق الذي استمر لآلاف السنين وسار بالإنسانية إلى هذه المرحلة النهائية من تاريخها المشترك. وكانت هذه الصورة الذهنية نموذجا مقياسيا بين المراحل التي تم فيها تنظيم المجتمع الإنساني وتوحيد عناصره من جهة، ومن جهة أخرى ذلك السياق الذي ينمو بموجبه تدريجيا كل إنسان فيتخطى القيود التي تحدّ مرحلة الطفولة ليصل إلى مرحلة النضج وما لها من قوى وقدرات. ويبرز هذا المفهوم جليا واضحا في العديد من كتابات حضرة شوقي أفندي بالنسبة للتحوّلات الطارئة في عصرنا الراهن:
قد انتهت مرحلة الطفولة التي كان على الجنس البشري أن يجتازها، والإنسانية اليوم تسير في جوٍّ من الاضطرابات المقترِنة بأشد مرحلة مشوّشة في سِفر التطور، وهي مرحلة التهوّر حيث تبلغ حدّة الشباب والاندفاع تمامها، ثم تعود بالتدريج إلى مقام الهدوء والحكمة والنضوج الذي هو من خصائص الرجولة. عند ذلك يصل الجنس البشري إلى مقام النضوج الذي يمكّنه من الحصول على القوة والاستعدادات التي عليها يتوقّف تطوّره النهائي.60
تمعّن حضرة شوقي أفندي مليّا في هذا المفهوم الشاسع فدفعه ذلك لكي يقدّم للعالم البهائي وصفا متلاحما متين التماسك لشرح معالم المستقبل، ما سمح لثلاثة أجيال من المؤمنين بأن توضح للحكومات ووسائل الإعلام وعموم الناس في كل بقعة من بقاع العالم المنظور الذي من خلاله يزاول الأمر الكريم نشاطاته المختلفة:
إن وحدة الجنس البشري كما رسمها حضرة بهاء الله تعني تأسيس رابطة لشعوب العالم تتّحد فيها اتّحادا ثابتا وثيقا الأمم والمذاهب والأجناس والطبقات كلّها، وفيها تكون الحقوق الذاتية للحكومات المكوِّنة لأعضائها مكفولة تماما، وتصان بصورة قاطعة وكاملة الحريات الشخصية والمبادرات الخاصة للأفراد المنتمين لهذه الرابطة. وإلى الحد الذي يمكننا من رسم صورة لهذه الرابطة في أذهاننا فإنه ينبغي لها أن تشتمل على هيئة تشريعية عالمية يكون أعضاؤها وكلاء عن الجنس البشري وأن يكون لها الإشراف التام على موارد الأمم التي تتكوّن منها كافة، وأن تشرّع من القوانين ما تتطلبه الحياة العامة من تنظيم وما يسدّ حاجات الأجناس والشعوب وتسوية العلاقات فيما بينها. وينبغي لهذه الرابطة أن تشتمل أيضا على هيئة تنفيذية تؤيدها قوة عالمية وظيفتها تنفيذ القرارات وتطبيق القوانين التي تضعها الهيئة التشريعية، والمحافظة على الوحدة العضوية لتلك الرابطة، إضافة إلى اشتمالها على محكمة عالمية تتولى الفصل وإصدار الأحكام النافذة الباتّة في كل النزاعات التي قد تنشأ بين العناصر المختلفة المكوِّنة لهذا النظام العالمي … وكذلك يتعيّن تنظيم موارد العالم الاقتصادية باستثمار الخامات استثمارا تاما وتنظيم أسواقها وتنميتها وتوزيع منتجاتها توزيعا عادلا.61
حين أقدم حضرة شوقي أفندي على شرح النظام الإداري في رسالته بعنوان ”دورة بهاء الله“، أشار بصورة خاصة إلى دور ولاية الأمر الإلهي التي يضطلع بها في ”ضمان تمكين الدين من إلقاء نظرة متمعّنة مترابطة بعيدة المدى تدوم عبر سلسلة الأجيال المتوالية .…“ وتمثّلت هذه النظرة المتبصّرة، وهي الموهبة الفريدة التي اختُص بها حضرة ولي أمر الله، تمثّلت واضحة كل الوضوح حين تطرّق حضرة شوقي أفندي إلى شرح طبيعة السّياق التاريخي المزدوج الذي رآه ينبسط أمام الأنظار في القرن العشرين. فصرّح بأن ساحة العلاقات الدولية سوف ترتسم معالمها بصورة متزايدة نتيجة تصارع قوتين توأمين الأولى ”قوّة بنّاءة“ والأخرى ”قوّة مدمّرة هدّامة“، وكلتا القوتين لا تخضع للإرادة الإنسانية. وفي ضوء ما نشاهده اليوم من الأحداث تبهرنا نظرة حضرة شوقي أفندي الثاقبة التي كشفت لنا آنذاك خبايا ما يحدث الآن في إطار هذا السياق المزدوج. إذ أشار في العام 1942 إلى ضرورة قيام ”تنظيم عالمي لتبادل الاتصالات … يؤدي وظائفه بسرعة فائقة واتّساق كامل“،62 وألمح أيضا إلى تضعضع نفوذ الدول القومية في تعزيز مصير العالم الإنساني، وإلى الآثار المدمّرة التي سوف تصيب المجتمع في تماسكه وانسجامه من جراء الانحلال الأخلاقي المنتشر في كل أنحاء العالم، ناهيك بذلك الشعور المتفشّي بخيبة الأمل لدى عموم الناس إزاء استشراء الفساد السياسي. وأشار حضرة شوقي أفندي من طرف آخر إشارات لم يكن في استطاعة أحد من معاصريه أن يتصوّرها أو يتخيّلها، منها قيام الوكالات الدولية التي تكرّس خدماتها لرفع مستوى المصالح الإنسانية وتنسيق النشاطات الاقتصادية، وتحديد القواعد والمعايير الدولية، وتشجيع روح التعاضد والتضامن بين مختلف الأعراق والثقافات. وبيّن حضرة ولي أمر الله لنا آنذاك أن هذه التطورات وغيرها سوف تحوّل وتغيّر تغييرا أساسيا الظروف التي سوف يقوم فيها الأمر البهائي بتنفيذ رسالته في العقود اللاحقة.
كان أحد هذه التطورات المثيرة التي تبيّنت لحضرة شوقي أفندي في الآثار الكتابيّة المقدّسة للأمر الكريم التي كُلّف بشرحها، ما يتعلق بدور الولايات المتحدة كدولة، وإلى حد أقل، بدور شقيقاتها من دول نصف العالم الغربي. فكم كان تبصّره للأمور مدهشا وخاصة أن ما كتبه حضرة شوقي أفندي في ذلك الوقت تم في مرحلة تاريخية كانت الولايات المتحدة فيها مصممة على انتهاج سياسة انعزالية في علاقاتها الخارجية وفي قناعات الأغلبية من مواطنيها. ولكن حضرة شوقي أفندي تبصّر ما سوف تحققه تلك الدولة للقيام ”بدور حاسم فعال في تنظيم شؤون العالم الإنساني وتسويتها تسوية سلمية …“ وذكّر البهائيين بتوقعات حضرة عبد البهاء في أن تصبح الولايات المتحدة ” أول دولة تضع أسس تفاهم دولي …“ لأنها قد نمّت القدرات التي تمكّنها من تحقيق ذلك، ولأنها تتمتع بطابع منفرد يتمثّل في بُنيتها الاجتماعية وتطورها السياسي وليس بسبب أي ”امتياز خاص أو حق مكتسب“ يخصّ شعبها. وبالفعل فقد أدرك حضرة شوقي أفندي وتوقع سلفا أن الحكومات والشعوب كافة في نصف الكرة الغربي تسير في هذا الاتجاه باطراد.63
صوّر حضرة الباب مقدّما معالم الدور الذي سوف تقوم به الجامعة البهائية في تحقيق اكتمال السياق التاريخي الجاري وذلك في رسالته الوداعيّة إلى أتباعه في الأيام الأولى من مولد هذا الدين:
يا أصحابي الأعزّاء أنتم حاملون للواء الله في هذا اليوم… فأنتم المستضعفون الذين نزل في شأنهم في الكتاب ’بل نريد أن نمنّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين.‘ فقد دعاكم ربّكم إلى هذا المقام وستصلون إليه إذا وضعتم تحت أقدامكم كل رغبة وشهوة أرضيّة واجتهدتم أن تكونوا من ’الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون‘ … لا تنظروا إلى ضعفكم واستكانتكم بل اجعلوا أنظاركم متوجّهة إلى القوّة القاهرة من ربّكم … إذاً قوموا على اسم الله وضعوا ثقتكم فيه وتوكّلوا عليه وأيقنوا بالفوز والنصر في النهاية.64
وفي زمن مبكر من أيام ولايته، وكان ذلك في العام 1923، أحس حضرة شوقي أفندي برغبة دفعته إلى أن يشاطر أحبّاء أمريكا الشمالية ما يجيش في صدره من مشاعر حول هذا الموضوع، فكتب إليهم يقول:
فلنتوجّه بالدعاء إلى الله في هذه الأيام التي تجتاح فيها العالم موجة من الغمّ والاكتئاب، هذه الأيام التي انطلقت فيها قُوى غاشمة واندلعت فيها الفوضى والاضطراب والرّجعية لتهدّد سلامة المجتمع البشري واستقراره، هذه الأيام التي تتعرّض فيها أينع ثمار الحضارة الإنسانية لأقسى التجارب والامتحانات التي لا مثيل لها، ففي هذه الأيام يجدر بنا أن ندرك إدراكا عميقا يفوق ما مضى أنه وإن كنا مجرد فئة قليلة العدد في وسط أمواج هائجة من جماهير العالم الغفيرة، فإن الله قد اختارنا في هذا اليوم لنكون وسطاء فضله وعنايته، وأنّ مهمتنا ملحّة وحيوية بالنسبة لمصير الإنسانية، وأنه علينا أن نقوم بتحقيق الهدف المقدّس الذي رسمه الله لبني البشر.65
*كان حضرة وليّ أمر الله على وعي تام بأحوال المجتمع الإنساني وظروفه المتردّية، وبما واجهه من آثار الخيانة التي دبرها أعضاء الأسرة المباركة الذين كان من المفروض أن يكونوا عونا له يعتمد عليهم في تنفيذ مسؤولياته، ولم يَفُته أيضا أن موارد الجامعة البهائية المادية ضئيلة نسبيا، فدفعه ذلك إلى الاجتهاد في خلق الوسائل والأسباب اللازمة لتحقيق المهمة التي ورثها.
كان معظم البهائيين، قلّ عددهم أو كثر، يدركون دون شك أن المحافل التي دُعوا لتشكيلها كان لها من الأهمية ما يفوق المتطلبات العملية لإدارة الشؤون اليومية التي تحمّلوا مسؤوليتها. وكان حضرة عبد البهاء الذي وجّه خطط تنمية المحافل وتشكيلها قد تحدث عنها قائلا:
… هذه المحافل الروحانية سُرُج نورانيّة وحدائق ملكوتية ينتشر منها نفحات القدس على الآفاق ويشرق منها أنوار العرفان على الإمكان ويسري منها روح الحياة على كل الجهات وهي أعظم سبب لترقّي الإنسان في جميع الشؤون والأحوال ….66
وقعت على عاتق حضرة شوقي أفندي في نهاية المطاف مسؤولية إفهام الجامعة البهائية مكانة هيئات التشاور المحلية والمركزية والوظائف المتعلّقة بها وذلك في إطار النظام الإداري الذي أبدعه حضرة بهاء الله وشرحه مفصّلا حضرة عبد البهاء ونصّ عليه في ألواح وصاياه. إلاّ أن نفرا غير قليل من الأحبّاء واجه صعوبة في هذا السبيل. فقد تولّد لدى البعض وهْم بأن دين الله في الأساس هو ”مجرّد رابطة روحية“، وأن أي تنظيم لهذه الرابطة لم يكن عنصرا جوهريا من تعاليم هذا الدين، ولو أن هذا البعض أيضا لم يجد تناقضا بالضرورة بين هذا وذاك. ومن ثم أكد حضرة ولي أمر الله، إزالة لهذا الوهم، أهمية هذه الهيئات مشيرا إلى ما جاء في الكتاب الأقدس وفي كتاب ألواح وصايا حضرة عبد البهاء وبيّن أن: ”الواحد منهما لا يكمل الآخر فحسب، بل أن كلا منهما يدعم الآخر ويثبت بياناته، وأن كلاًّ منهما إضافة إلى ذلك جزء لا يتجزأ لوحدة واحدة متكاملة …. “67 ثم دعا حضرة ولي أمر الله المؤمنين أن يتمعنّوا مليّا في الحقائق الأصلية للدين الذي اعتنقوه ولفت أنظارهم إلى ما يلي:
لن يفوت معظم الناس التعرّف إلى تلك الروح التي بعثها حضرة بهاء الله في العالم، والتي تظهر بدرجات متفاوتة من القوة والنفوذ متجلّية في الجهود الواعية لأولئك الذين أعلنوا تأييدهم لحضرة بهاء الله أو تظهر بصورة غير مباشرة عن طريق منظمات إنسانية معيّنة. كما أن هؤلاء الناس يدركون أيضا أن هذه الروح لن تعمّ العالم البشري وتؤثّر فيه تأثيرا أبديا ما لم تتجسد في نظام واضح المعالم مرئي وظاهر، يحمل اسمه ويعمل طبقا لما أنزله من الشرائع والأحكام.68
واسترسل حضرة شوقي أفندي في حثّ أتباع أمر الله على أن يلمّوا بالفارق الجوهري بين دين حضرة بهاء الله وبين الأديان السابقة. فشرح أنه بينما نصّ حضرة بهاء الله في آثاره المقدسة على مستلزمات قيام مثل هذا النظام المعتمد رسميا والمصدّق عليه إلهيّا، صمتت كتب الأديان الأخرى إجمالا عن موضوع إدارة شؤونها الروحية وعن الجهة التي لها حق تفسير معاني ما صدر عن مؤسّسي تلك الأديان من بيانات ومقاصد. وفي ذلك تفضّل حضرة بهاء الله قائلا: ”لقد انتهت حقا دورة النبوّة وأشرق الحق وظهر برايات الاقتدار من مشرق الأمر … “69 فعلى عكس الظهورات السابقة خلق المظهر الإلهي لهذا العصر، حسب ما وصفه حضرة شوقي أفندي، ”كائنا حيّا“ تقوم على أحكامه ونظمه ”أسس نظام اقتصادي إلهي“ و”أنموذج مجتمع مستقبلي“ و”العامل الوحيد لاتّحاد أهل العالم والإعلان عن مجيء عهد الحق والعدل في الأرض“.70
بناء على ذلك عاد حضرة ولي أمر الله فحثّ الأحبّاء أن يسعوا جاهدين لتقدير محافلهم الروحية حق قدرها لأن هذه المحافل التي دُعوا إلى تأسيسها بالعناء والجهد في أنحاء العالم لم تكن سوى مقدمات لتطوّرها اللاحق لكي تصبح فيما بعد ”بيوت العدل“ المحلية والمركزية التي عيّنها حضرة بهاء الله. وأضاف أن هذه المحافل في حد ذاتها جزء جوهري من النظام الإداري الذي سوف ”يبرّر أحقّيته ويبرهن على كفاءته ليس كنواة فحسب بل كأنموذج للنظام العالمي الجديد المقدّر له، عند تمام الوقت، أن يعمّ العالم البشري بأسره“.71
كان مثل هذا التغيير والتحوّل في المفاهيم الدينية التقليدية بمثابة امتحان قاس وصعب بالنسبة للجامعات البهائية الفتيّة في الغرب. فعانت هذه الجامعات من وطأة الآلام التي نجمت عن ترك عدد من خيرة زملائهم صفوفَ المؤمنين بحثا عن تحقيق اهتماماتهم الروحية المطابقة لميولهم الشخصية الخاصة. أما الأغلبية الساحقة من المؤمنين فقد أنارت بصيرتهم تلك الرسائل العظيمة الصادرة عن يراع حضرة ولي أمر الله مثل رسالته بعنوان ”هدف النظام العالمي الجديد“ ورسالته الأخرى بعنوان ”دورة بهاء الله،“ فوضّحت لأولئك المؤمنين، بكل دقّ، القضية التي شغلت بالهم ومحورها ما هي العلاقة القائمة بين الحقائق الروحية وعوامل النمو الاجتماعي، ومن إلهامها انبثق العزم والثبات للقيام بدورهم في إرساء قواعد مستقبل العالم الإنساني.
رسم حضرة شوقي أفندي لنا أيضا صورة لمعالم هذا النشاط الهائل المطلوب. وصرح بأن صعود حضرة عبد البهاء سجّل اختتام ”العصر البطولي“ لدورة حضرة بهاء الله، وبأن الجامعة البهائية قد دخلت عصرا جديدا هو ”العصر التكويني“ الذي سوف يشهد تشييد النظام الإداري في كل ربع من ربوع العالم، فتقام هيئاته ومؤسساته، وتتبدّى مظاهر القوة والنفوذ الكامنة فيه لبناء المجتمع الإنساني. ومثُل أمامنا على مدى المستقبل ذلك العصر الذي وصفه حضرة شوقي أفندي ”بالعصر الذهبي“ لدورة حضرة بهاء الله، وهو العصر الذي سوف يفضي نهائيا إلى قيام رابطة الشعوب البهائية في العالم وتأسيس مملكة الله على الأرض وتشييد صرح حضارة عالمية.72 كان الحافز الذي حرك الوعي الإنساني في الأصل نابعا من الكلمة الإلهية الخلاّقة نفسها. فقد سبق أن أعلن حضرة عبد البهاء عمّا سينجم نتيجة ذلك من تغييرات انقلابية في المجتمع، وحان الوقت الآن ليقوم حضرة ولي أمر الله، المبيّن المعيّن، بترجمتها إلى اللغة السياسية والاقتصادية الخاصة بهذه التحوّلات، وهي اللغة التي هيمنت في المناقشات العامة في هذا القرن في كل الديار. فقد كان الميثاق الذي أبرمه حضرة بهاء الله بينه وبين أولئك الذين يتوجّهون إليه هو الذي دعم هذا السياق بقوة لا تقاوم، وأوضح أبعادا جديدة لما يبذله البهائيون من جهد، وصار الباعث على ما أعلنه هذا الميثاق عن وحدة العالم الإنساني واتّحاده.
شجّع حضرة عبد البهاء الجامعات البهائية المحلية في إيران على تشكيل مجالس استشارية. ورغم أنها في البداية لم تكن تسمّى ”محافل روحانية“ فقد كانت مسؤولة عن إدارة شؤون تلك الجامعات. وفي ضوء ما تبع ذلك من أحداث لا يمكن لأي مراقب ذي حس تاريخي إلا أن يتوقّف مندهشا عند حقيقة أن أول محفل روحاني في هذا الدين، وهو محفل طهران، تمّ تأسيسه العام 1897 وهو العام الذي ذاته شهد مولد حضرة شوقي أفندي نفسه. فبفضل إرشادات حضرة عبد البهاء وهدايته تحوّلت الجلسات المتقطعة التي كان يعقدها أربعة من أيادي أمر الله في إيران إلى قيام هذه الهيئة التي أصبحت ”المحفل الروحاني المركزي“ في إيران، والتي كانت في آن معا الهيئة ذاتها التي تدخل ضمن نطاق نفوذها الجامعة المحلية في عاصمة البلاد. وعند صعود حضرة عبد البهاء كان عدد المحافل الروحانية المحلية التي تم تأسيسها في إيران قد بلغ أكثر من ثلاثين محفلا. ودعا حضرة شوقي أفندي بعد ذلك إلى تأسيس المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيران العام 1922، ولكن هذا الإنجاز تأخر تحقيقه حتى العام 1934 لأسباب تتعلّق بوضع إحصائية صحيحة موثوق بها يمكن اعتمادها كقاعدة يُنتخب بموجبها الوكلاء الذين سوف يَنتخبون أعضاء المحفل الروحاني المركزي.
أمّا خارج حدود إيران فقد قام المؤمنون في عشقأباد في تركستان الروسية بانتخاب أوّل محفل روحاني محلي لهم، فكان لهذا المحفل دور فعال وهام في تنفيذ مشروع بناء أول مشرق للأذكار في عشقأباد. وأما في أمريكا الشمالية فقد نظمت المشاورات في قوالب مختلفة تمثّلت في ”مجالس التشاور“ و”المجالس الاستشارية“ و”مجالس المشاورات“ و”لجان الخدمة“. وقد قامت هذه الهيئات بنشاطات متشابهة وتطورت تدريجيا لتصبح هيئات منتخبة آذنت مقدّما بتأسيس المحافل الروحانية. وعند صعود حضرة عبد البهاء كان عدد تلك المجالس العاملة في أمريكا الشمالية قد بلغ الأربعين مجلسا تقريبا. ومهّدت هذه التطورات السبيل أخيرا لقيام أول محفل روحاني مركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا، وهو المنبثق أصلا عمّا يعرف ”بمجلس المعبد المتّحد“ الذي تكوّن العام 1909 بهدف تنسيق أعمال بناء مشرق الأذكار المنوي تشييده. وتم تشكيل المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا في العام 1923، ولم تُستكمل المستلزمات الإدارية كما نصّ عليها حضرة ولي أمر الله لاتّخاذ مثل هذه الخطوة إلا في العام 1925. ولم يكد يحل العام 1925 حتى تم تأسيس ثلاثة محافل روحانية مركزية: واحد في الجزر البريطانية، وآخر يمثّل ألمانيا والنمسا، وثالث يمثّل مصر والسودان.73
وبينما كانت المحافل الروحانية المحلية والمركزية في طور التكوين، بدأ حضرة ولي أمر الله في التركيز على أهمية حصولها على اعتراف رسمي بها كهيئات ذات ”شخصية اعتبارية“ في ظل القوانين المعمول بها. فقد كان مثل هذا الاعتراف الرسمي، مهما كان القالب الذي يتّخذه، يُكسب الهيئات الإدارية حق التملّك والتعاقد ويسمح لها تدريجا بممارسة طائفة من الحقوق القانونية ذات الأهمية الجوهرية بالنسبة لمصالح أمر الله. ويتّضح جليّا لنا مغزى الأهمية التي علّقها حضرة شوقي أفندي على هذه المرحلة الجديدة من مراحل التطوّر الإداري حين نشاهد صور وثائق التسجيل الرسمية التي أضحت أحد المعالم الرئيسية لذلك السجلّ الفوتوغرافي المتعّلق بنمو أمر الله وتوسّعه، وقد تمّ نشره في أعداد متتابعة من مجلدات الكتاب السنوي المعروف باسم ”العالم البهائي“. وبمجرّد استرداد قصر البهجة من أيدي الناقضين وإعادة تعميره كاملا على النحو الذي كان عليه في الأصل وإتمام تأثيثه بصورة لائقة، انتقى حضرة شوقي أفندي مجموعة من هذه الوثائق القيّمة لعرضها داخل القصر لتشجيع السيل المتزايد من الزائرين قاصدي المركز العالمي وتثقيفهم وزيادة اطّلاعهم.
لقد كان إقرار الائتمان ولائحة النظام الداخلي للمحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا في العام 1927 فاتحة إجراء تسجيل المحافل الروحانية، وتم توثيقه كهيئة رسمية والاعتراف به كأمانة إرادية كاملة بعد عامين من ذلك التاريخ، وكان المحفل الروحاني لمدينة شيكاغو أول محفل روحاني محلي صادَقَ في 17 شباط (فبراير) العام 1932 على سندات التأسيس التي أضحت، مع تلك السندات التي أقرها المحفل الروحاني لمدينة نيويورك بتاريخ 31 آذار (مارس) من العام نفسه نموذجا لهذه المستندات في باقي أنحاء العالم. وبحلول العام 1949 تمكّن المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في كندا الذي تكوّن قبل عام من ذلك التاريخ بعد أن استقلَّ كلّ من الجامعتين البهائيتين في الولايات المتحدة وكندا إدارياً، تمكّن ذلك المحفل من الفوز باعتراف رسمي صادر بموجب قانون برلماني خاص، فاعتبر حضرة شوقي أفندي هذا الفوز بمثابة انتصار باهر وإنجاز أمري ”لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمر الكريم في بلد من البلدان سواء أكان ذلك في الشرق أم في الغرب.“74
لم تَصرف مسؤوليات حضرة شوقي أفندي الإدارية الملحّة نظره عن الاهتمام بالواجبات الأخرى اللازمة لتنشيط الحياة الروحية وبعثها في جامعة عالمية كالجامعة البهائية. وكان من أهم تلك الواجبات شأنا ما لم يكن غيره قادرا على تنفيذه. فقد كانت الحاجة ماسّة لبذل جهد جهيد لكي يجد العديد من المؤمنين غير الإيرانيين في متناول أيديهم الآثار المباركة الصادرة عن يراع كل من حضرة الباب وحضرة بهاء الله. فعكف حضرة ولي أمر الله على ترجمة تلك الآثار من الأصل ترجمة دقيقة موثوقا بها أنعشت أرواح المؤمنين وحفزتهم لبذل الجهود التي كان الأمر الإلهي في أشدّ الحاجة إليها، فأتحفنا بمجموعة نادرة من الآثار المقدّسة تضمّنت ”الكلمات المكنونة“ و”كتاب الإيـقان“ و”لوح ابن الذئب“ وتلك الذخيرة النفيسة ممّا جمعه بمزيد من الحرص والعناية تحت عنوان ”منتخبات من آثار حضرة بهاء الله.“ ولم يقِلّ شأنا عن هذه الكتب أيضا ترجمته وتحقيقه لتاريخ النبيل الزرندي بعنوان ”مطالع الأنوار.“ ووجد الأحبّاء القادمون لزيارة المقامات المقدّسة اغتناء روحيا من نوع آخر، فشاهدوا ما حقّقه حضرة ولي أمر الله من تملّك للمواقع التاريخية والأماكن المقدسة التي عكف على ترميمها وإصلاحها وكلّفته عناء الدخول في مفاوضات شراء مضنية طويلة الأمد. وكان حضرة شوقي أفندي حريصا أيضا على الاستفادة فورا من الفرص المتاحة له لتحقيق ما كان يراه لازما وضروريا لخدمة المسار التاريخي لأمر الله العزيز. ففي العام 1925 أصدرت المحكمة الشرعية السنّية في مصر فتوى بإبطال عقد الزواج بين المرأة المسلمة والرجل البهائي وأقرت بأن ”البهائية دين جديد قائم بذاته“ وأنه لا يصح أن ”يقال للبهائي مسلما ولا العكس“ (وهكذا لا يجوز للبهائي الاقتران بالمسلمة شرعا).75 وركّز حضرة ولي أمر الله جلّ اهتمامه على النتائج بعيدة المدى لهذا القرار الحاسم الذي لم يكن سوى هزيمة ظاهرية، فلم يتوان لحظة في تعميمه ونشره على نطاق واسع ليؤكد ما أعلنه البهائيون في الأوساط العالمية من أن دينهم دين مستقل قائم بذاته وليس مذهبا أو فرقة من مذاهب الدين الإسلامي وفِرَقه.
*في الوقت الذي كانت الجامعة البهائية تبني أسسها الإدارية لتصبح قادرة على الإسهام إسهاما فعّالا في ميدان الشؤون الإنسانية، كانت تلك القوة المدمرة التي تكهّن حضرة شوقي أفندي بوجودها قائمة الآن تفعل فعلها في ضعضعة كيان النظام الاجتماعي وتمزيق نسيجه. ورغم الرفض العنيد للإقرار بوجود مثل هذه القوة من قِبَل العديد من المفكرين والباحثين الاجتماعيين والسياسيين في السابق، بدأت اليوم المؤتمرات العالمية للسلام والتنمية، وبعد مرور عدة قرون، تقرّ وتعترف بوجودها وتتقصّى أصولها وجذورها. ولم يعد مستغربا في زماننا هذا أن نسمع في تلك الأوساط العالمية نفسها تلميحات صادقة وصريحة إلى الدور الجوهري للقوى ”الروحية“ و”الأخلاقية“ في حل القضايا والمشكلات بالغة الأهمية. أما بالنسبة للقارئ البهائي فإن مثل هذا الإقرار المتأخّر يعيد إلى الذاكرة تلك الأصداء البعيدة للإنذارات التي وجهها حضرة بهاء الله إلى قادة البشر وحكّامهم إذ تفضل قائلا: ”لقد ضعفت قوّة الإيمان وتضعضع كيانه في أقطار العالم ….“76
أكد حضرة ولي أمر الله أن مسؤولية هذه المأساة التي تُعدّ أعظم المآسي شأنا يتحمّلها في المرتبة الأولى زعماء الدين وقادته في العالم. فقد صبّ حضرة بهاء الله جام سخطه واستنكاره على أولئك الذين اتّخذوا من أنفسهم أربابا من دون الله، وغرروا بالسذّج من الناس ليفرضوا عليهم مزيجا مشوّشا من العقائد والتعصّبات التي شكّلت أكبر عائق منفرد وجدت الإنسانية نفسها مجبرة على مكافحته في سبيل تقدّمها ورقيّها. ورغم أن حضرة عبد البهاء قد أشاد بالمآثر والخدمات الإنسانية التي بذلها عدد لا يحصى من الأولياء والقدّيسين بصفتهم الفردية، فإنه لم يتحاش الإشارة إلى الآثار السلبية الناجمة عن الطريقة التي تدخّل بها أولئك الذين اعتبروا أنفسهم الصفوة الدينية فصدّوا الإنسانية وأصمّوا آذانها عن سماع نداءات التقدّم والتطوّر، ولم يستثنوا من ذلك دعوات رسل الله وأنبيائه. وتفضّل حضرة بهاء الله في هذا الصدد قائلا: "فالآن أي ضيق وشدّة أشد من هذه المراتب المذكورة، فإنه إذا أراد شخص أن يطلب حقا، أو يلتمس معرفة، فلا يدري إلى من يذهب ….“77 وهكذا وفي زمن تقدّم فيه العلم وانتشـر التعليم انتشارا واسعا وتراكمت فيه آثار ما نتج من إزالة للأوهام والخرافات، بدا وكأن الإيمان بالدين أمر غير ذي شأن أو غير ضروري. وعمد معظم رجال الدين من مختلف الأديان والمذاهب الذين علموا برسالة حضرة بهاء الله أمام عجزهم عن التصدّي لتلك الأزمة الروحية إما إلى تجاهل النفوذ الروحاني الواضح لتلك الرسالة الإلهية أو إلى معارضتها معارضة فعالة.78
إن الإحاطة بهذا الظرف التاريخي لا تقلّل من الضرر الذي جاء به أولئك الذين سعوا لاستغلال الفراغ الروحي القائم آنذاك تنفيذا لمآربهم الخاصة. فالإيمان جذوة شوق في قلب الإنسان مستعرة لا سبيل لإخمادها، وهو فطرة إنسانية. فإذا مُنع هذا الإيمان أو ضُلّل تتحرّك النفس العاقلة لتبحث عن منارة جديدة تهتدي بها مهما كان نورها باهتا وغير كاف لإضاءة الطريق أمامها، فإنها تبعا لذلك تستجمع خبراتها وقواها وتسترد شجاعتها لتنظيم مجهوداتها ولتجازف من جديد في مواجهة مخاطر الحياة التي لا مفرّ منها. وكان من وجهة النظر هذه أن حذّر حضرة شوقي أفندي المؤمنين بأسلوب شديد اللهجة من أنّه ينبغي لهم أن يحاولوا تفهّم المأساة الروحية التي أحاطت بالبشر إبّان العقود الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية:
حقا لقد عزلوا الله عن عرش قلوب البشر. وهلل بالضجيج والولَه عالم وثني ليعبد آلهته المزيفة التي خلقتها بنزق وحمق أوهامه الباطلة ومجّدتها وبجّلتها أياديه الآثمة… كبار كهنة أهل ذلك العالم هم السياسيّون وأُولو الحكمة الدنيوية ممن يسمّوْن بعقلاء العصر، أما قرابينهم فدماء وأشلاء لجماهير غفيرة ذُبحت وجُزرت، وما تعاويذهم سوى رموز بالية وصِيَغ خبيثة رجسة، كما أن بخورهم ليس إلا دخان القلق والاضطراب الصاعد من الأفئدة المثخنة بالجراح لأولئك الذين فُجعوا وجُدعوا وشُرّدوا.79
انتهزت العقائد المذهبية الطاغية الظروف التي خلقها انحسار النشاطات الدينية فانتشرت انتشار الأوبئة. ورغم أن هذه العقائد المذهبية تشابهت في ما بينها ولم تختلف في ما حقّقته ومثّلته من إفساد للحياة الروحية والدينية لدى الناس، فقد برزت مدارس عقائدية ثلاث إلى الوجود في غضون القرن العشرين لتسيطر سيطرة كاملة على شؤون العالم الإنساني. وقد اختلفت هذه المدارس في ما بينها اختلافا شديدا في خصائصها الثانوية وتلك الأكثر بروزا التي لفت إليها الأنظار حضرة ولي أمر الله. فقد أدان حضرة ولي أمر الله تلك المذاهب بقوله إنها ”عقائد باطلة خدّاعة وشرّيرة …“ وإنها سوف تُنزل الدمار والخراب ”بأي إنسان أو شعب يؤمن بها،“ ثم حذر تحذيرا شديدا من ”ذلك الثالوث من الآلهة الزائفة التي أقامتها تلك العقائد المذهبية والمتمثّلة في الوطنية المتطرّفة، والتعصّبات العرقية، والشيوعية العالمية.“80
ولا داعي أن نسترسل في الحديث عن النظام الذي أتى بالفاشيّة وظهر إلى الوجود إثر ”مسيرة روما التظاهرية“ في العام 1922. فقبل أن يطوي النسيان الفاشية وزعيمها في الأشهر الختامية للحرب العالمية الثانية بمدة طويلة كانت قد باتت الفاشية موضوعا للتهكّم والسخرية في معظم الأوساط التي أيّدتها ودعمتها في الأصل. ولعلّ أهمية الحركة الفاشية تكمن في كونها قد ولَدت مجموعة من الحركات والنُظُم التي حاكتها وقلدتها وانتشرت في العقود التالية في جميع أنحاء العالم وكأنها سرطان خبيث عمّ واستشرى. وقد غذّى هذا الزيغ في قلوب البشر تلك النعرة الوطنية المتطرّفة التي نادت بطاعة الدولة وتبجيلها والإيحاء إلى الشعوب التعيسة المغلوبة على أمرها التي تحت سيطرتها بأنها وسلامتها وأمنها القومي عرضة لتهديدات وهمية، ثم قامت تعظ من يستمع إليها زاعمة أن الحرب ”تشرّف“ الروح الإنسانية وتعزّها. أما ما صاحب تلك المظاهر الوطنية المتطرّفة من مسرحية هزلية تمثّلت في البزّات الرسمية والأحذية العسكرية الثقيلة، والأعلام الخفّاقة، والأبواق الصدّاحة، فلا ينبغي لها أن تخفي عن أبصار المراقب المعاصر ما خلّفته لعصرنا الراهن هذه الحركات من تركة تتّسم بالحقد والغلّ والخبث، إضافة إلى ما خلّفته من آثار لا تمحى في قاموس اللغة السياسية من المفردات التي تنمّ عن آلام دفينة وكرب نفسي مبرّح مثل كلمة ”desaparescidos“ الإسبانية بمعنى ”مفقودي الأثر.“
وإن كانت الفاشيّة قد ألّهت الدولة، فإن شقيقتها النازية شاركتها في ذلك واتّخذت لنفسها موقفا أصبحت فيه صوتا يمثّل انحرافا إنسانيا بالغ القِدم ولكنه أكثر مكرا ودهاء. فقد استأثر بقلب النازيّة المظلم هاجس مريض سمّاه أنصارها ”نقاوة العرق الآري.“ ولم يُضعف بأي شكل من الأشكال عزمَها الأكيد في تحقيق أهدافها الإجرامية أن فلسفتها تلك كانت قائمة على افتراضات واضحة الزيف والبطلان. وانفرد النظام النازي عن غيره من النظم بالوحشية السافرة للعمل الفظيع الذي أقدم عليه وارتبط باسمه. فقام النازيون بتنفيذ برنامج منتظم خاص بالإبادة الجماعية ضد أقوام اعتبرهم النظام النازي أناسا تافهين لا قيمة لهم ولا نفع من وجودهم ويمثّلون خطرا وضررا بالنسبة للمستقبل البشري. وتضمّن ذلك البرنامج محاولة مدروسة كان القصد منها القضاء، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، قضاء نهائيا على الشعب اليهودي بأسره. وكان هدف ما عقدت النازية العزم عليه في نهاية المطاف أن يحكم العالم من أسموه ”سيّد الأعراق والشعوب“ وفق تصوّرهم. وكانت سياسة التمييز العنصري هذه هي التي عجّلت أساسا في قيام ذلك الصراع الرهيب بين الأمم. وقد أنذر به حضرة عبد البهاء العالم قبل ذلك الزمن بعشرين عاما وأشار إلى وقوع حرب أخرى تكون أشد هولا ودمارا على العالم من تلك الحرب الأولى. وكما فعلت الفاشيّة خلّفت النازية لعصرنا الراهن رواسبها المؤذية من الرموز والألفاظ التي بدأت تستخدمها عناصر في المجتمع المعاصر تشعر بأنها مستثناة وبأنها مهمشه، بالإضافة إلى انحطاط معنوياتها نتيجة الانحلال الاجتماعي والاقتصادي المحيط بها ويأسها من وجود أي حل منتظر. فهبّت هذه العناصر تنفّس عن فورتها الغاضبة إزاء عجزها وتصبّ جام غضبها على تلك الأقليات الموجودة في مجتمعاتها محمّلة تلك الأقليات عبء ما تشعر به هذه العناصر من فشل وخيبة أمل.
أما أحد آلهة هذا العصر فقد كان ذلك الإله الزائف الذي شخّصه حضرة عبد البهاء بوضوح في ألواحه، وعاد فذكره بالاسم حضرة شوقي أفندي وحكم بإدانته. إنه الشيوعية العالمية التي نصّبت نفسها إلها كاذبا وكشفت عن معدنها منذ البداية حين قضت بقسوة ووحشية على أول حكومة ديمقراطية عرفتها روسيا. وكان ذلك في الفترة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى. ونجح النظام السوفييتي الذي أسسه فلاديمير لينين في إظهار نفسه للعديد من البشر ولمدة سنوات طويلة، أنه يبغي خير البشرية وأنه نصير العدالة الاجتماعية. وفي ضوء ما جرى في التاريخ من أحداث فإن هذه المزاعم والادّعاءات لا تدعو إلا إلى السخرية والاستغراب. فالوثائق التاريخية المتوفّرة لنا الآن تثبت بالأدلّة القاطعة مدى ما ارتكبه النظام الشيوعي من جرائم بشعة وتصرّفات حمقاء بلغت في مداها ما لم يكن له مثيل على مدى الستة آلاف سنة للتاريخ المدوّن. وإلى حد لم يسبق أن تصوره أحد قام لينين بتنفيذ مؤامرة ضد الفطرة الإنسانية للقضاء بأسلوب منتظم على الإيمان بالله قضاء مبرما. وبغضّ النظر عن وجهة نظر المفكّرين السياسيين حول هذا الموضوع في الوقت الحاضر، فإنه من غير الممكن لأحد أن يستغرب ما جلبه بصورة حتمية هذا التهجّم العنيف المتعمّد ضد الفطرة الإنسانية من دمار سياسي واقتصادي أصاب المجتمعات التي أدى سوء طالعها إلى أن تقع في مدار النفوذ السوفييتي. أما الآثار الروحية لهذه المؤامرة على المدى الطويل فقد كانت بمزيد من الأسى تسخير المطامح المشروعة لنيل الحرية وتحقيق العدالة للشعوب المستعمَرة في كل أنحاء العالم لخدمة أهداف النظام السوفييتي وبرامجه اللاأخلاقية.
أن تعبد الإنسانية أصناما من صنع يديها ظاهرة لها أهمية خاصة من وجهة النظر البهائية، ليس بسبب الأحداث التاريخية المرتبطة بالقوى التي تولّدت عن ذلك مهما كانت مفزعة ورهيبة، وإنما بسبب الدروس المفيدة التي لقّنتها. فإذا عدنا بالأنظار إلى العالم آنذاك وهذه القوى الشيطانية تتجمّع في أفق فجره مهدّدة مصير البشرية، يجدر بنا أن نتساءل: أي عطب أو وهن هذا الذي أصاب الطبيعة الإنسانية حتى أضحت عاجزة عن مقاومة مثل هذه التيارات المنذرة بالشّر؟ فكيف يمكن لأحد أن يتوسّم في شخص بنيتو موسوليني ملامح ”رجل المصير،“ أو أن يشعر أحد بأن عليه واجباً أدبياً بأن يتفهّم نظريات أدولف هتلر عن الأعراق والأجناس دون أن يراها على حقيقتها بأنها ترّهات عقل مريض؟ وأخيرا كيف يمكن أن يدور بخلد أحد من الناس جدّية ما ذهب إليه جوزيف ستالين من إعادة تفسير الخبرة الإنسانية كلها عبر العقائد المذهبية التي صاغها والتي خلقت الاتحاد السوفييتي؟ إن مثل هذا التخلّي الإرادي المتعمّد عن الصواب والعقلانية من جانب طائفة لا يستهان بها من قادة الفكر في المجتمع يطالبنا بتفسير مبرَّر تقتنع به الأجيال القادمة. فإذا تم ذلك وتمكّنا من إجراء تقويم نزيه موضوعي فلا بد لنا، عاجلا أم آجلا، أن نركّز اهتمامنا على الحقيقة التي تُمثّل في الكتب المقدّسة للأديان السماوية التي عرفها البشر، خيطا واحدا يسري في نسيجها جميعا. فقد تفضّل حضرة بهاء الله في هذا الصدد قائلا:
فبعد أن خلق الله كلّ الممكنات وبعَث الموجودات وتجلّى باسمه المختار، خصّ الإنسان من بين المخلوقات جميعها لمعرفته ومحبّته، فكان أن خلق الكائنات كلّها لأجل هذه الغاية… وتجلّى في كينونة الأشياء جميعها باسمٍ من أسمائه وصفة من صفاته، ولكنه جعل الإنسان مظهر كل أسمائه وصفاته ليكون مرآة لذاته مختصّا إيّاه بعظيم فضله وقديم رحمته. ولكنّ تجلّيات أنوار صبح الهداية وإشراقات شمس العناية مستورة في حقيقة الإنسان كشعلة النور مستورة في حقيقة الشمع والسراج. وقد يختفي إشعاع الشمس المشرقة فلا تنعكس نورا في المرايا التي كساها غبار الشؤون الدنيوية ولا في المجالي التي علاها الصّدأ. فمن الواضح إذاً أنّ هناك حاجة لمن يشعل هذا السراج ومَن يصقل صفحة هذه المرايا والمجالي، فبدون النار لن يُشعَل السراج، وإن لم تُصقل المرآة صافية من الغبار فلن ينعكس فيها إشراق الشمس ونورها.81
أَدّت مغبّة افتتان الإنسانية بالعقائد المذهبية التي صنعها عقلها إلى تَسارُع مسيرة قوى الدمار والانحلال بصورة مفزعة فباتت تمزّق نسيج الحياة الاجتماعية وتُنبِتُ أحطّ بواعث الطبيعة الإنسانية. فالقسوة الوحشية التي خلقتها الحرب العالمية الأولى أضحت الآن تنتشر انتشارا عمّ كل مكان وصارت إحدى معالم الحياة الاجتماعية في كل بقعة من بقاع الأرض. هذا ما أنذر به حضرة بهاء الله قبل ذلك بقرن من الزمان إذ تفضّل قائلا: ”كذلك حشرنا المجرمين يهرعون إلى الطاغوت … يهطعون إلى النار ويحسبون أنها نور.“82
* * *بعد أن أخذت معالم صرح النظام الإداري ترتسم شكلا وبنية وجّه حضرة شوقي أفندي اهتمامه نحو تنفيذ الخطّة الإلهية التي صاغها حضرة عبد البهاء، وهي مهمّة كان قد اضطُرّ إلى تأجيلها مدة طويلة من الزمن. ففي إيران كان دين الله قد حقّق نموا ملحوظا، إذ بفضل توجيهات حضرة بهاء الله ومن بعده حضرة عبد البهاء قام رهط من ناشري أمر الله ممّن تم اختيارهم بعناية، عُرفوا باسم ”المبلّغين“، بتنشيط العمل البهائي على الصعيد المحلي في جميع أنحاء البلاد. وقد ساعد الجو النابض بالحياة في الجامعة البهائية الإيرانية على إقبال مؤمنين جدد تمكّنوا من الاندماج في حياتها اندماجا سريعا نسبيا. ووفّرت صناديق التبرّعات لحقوق الله مدعومة بنظام الوكالة لتبليغ أمر الله السّند المادي اللازم لمثل هذا النشاط التبليغي، وكان نظام الوكالة هذا قد أصبح من خصائص وعي الجامعة البهائية في إيران.
أما في الغرب فقد ألهبت حماسَ المؤمنين للترويج لدين الله الكيفية التي استجابت بها لدعوة حضرة عبد البهاء تلك السيدات الفاضلات من أمثال لوا غتسنجر وماي ماكسويل ومارثا روث. فمجرّد ذكر هذه الأسماء كفيل بأن يبرز صفة مميّزة للمثال الذي تمّ به قيام أمر الله في الغرب، وهو ما أشار إليه حضرة عبد البهاء إشارة خاصة حين قال:
إن النساء في إقليم أمريكا قد سبقن الرجال في هذا المجال، وتقدّمن عليهم في هذا الميدان. فقد قمن ببذل جهد أكبر في هداية مَن على الأرض، وتمتّعن بهمّة أعظم، فهن مشمولات بتوفيقات الحق وتأييداته.83
ففي واقع الأمر فرضت الظروف الاجتماعية القائمة في الشرق آنذاك أن يضطلع الرجال بالعبء الأكبر من المبادرات في سبيل نشر دين الله وترويجه. ولكن قلّ أن وُجدت مثل هذه القيود في أمريكا الشمالية وفي أوروبا. فظهرت هناك مجموعة متألّقة من النساء خالدات الذِّكر اللواتي أصبحن أبرز دعاة الدين البهائي وناشري رسالته على شواطئ المحيط الأطلسي بطرفيه، الأوروبي والأميركي. فنتذكّر مثلا ساره فارمر مؤسسة مدرسة ”غرين إيكر“ التي وضعت تحت تصرف الجامعة البهائية، وهي في طور طفولتها، منبرا تستخدمه لتعريف أمر الله إلى المفكرين من ذوي النفوذ، أو نتذكّر اللادي ساره بلومفيلد التي أتاح لها مركزها الاجتماعي المرموق دعما إضافيا للحماسة التي ميّزت مناصرتها لدين الله، وأيضا ماريون جاك التي خلّد ذكرَها حضرة شوقي أفندي فوصفها بأنها المثل الأعلى للمهاجرين في سبيل الله، أضف إلى ذلك لورا دريفوس بارني تلك التي أتحفتنا بأحاديث حضرة عبد البهاء المجموعة في كتابها بعنوان ”مفاوضات عبد البهاء“، ثم نتذكّر أيضا أغنيس بارسونز شريكة لويس غريغوري في نشاطات ”الوفاق العنصري“، وهي النشاطات التي كان باعثها حضرة عبد البهاء. وأخيرا نتذكّر كلاًّ من كورين ترو، وكييث رانسوم كلر، وهيلين غودال، وجولييت طومسون، وغريس أوبر، وإثيل روزينبرغ، وكلارا دَن، وآلما نوبلوخ ومجموعة مرموقة من النساء الأخريات اللواتي فتحن ميادين جديدة من ميادين الخدمة الأمريّة.
وينبغي لنا أن نضيف إلى هذه القائمة اسم الملكة ماري ملكة رومانيا التي سوف تمجّد ذكرها العصور والأجيال لأنها أول من اعترف بالظهور الإلهي لهذا العصر من الملوك والسلاطين. وقد تحلّت هذه السيدة بالشجاعة والإقدام ووقفت بمفردها لتعلن بكل جرأة عن الدين الذي اعتنقته في رسائل وجهتها إلى محرّري عدد من الصحف في أوروبا وأمريكا الشمالية، فكان لهذه الرسائل الفضل على الأرجح في نشر اسم الله العزيز بين جمهور من القرّاء يُعدّ بالملايين.
ورغم ما كان لهذه الجهود الأولية من نتائج مؤثّرة، فإن انعدام الوسائل التنظيمية لاستثمار هذه الجهود حدّد أصلا أية منافع قد تجنيها من هذه النتائج الجامعة البهائية في بلدان العالم الغربي. ولكنّ قيام النظام الإداري غيّر هذه الأوضاع تغييرا مفاجئا ومثيرا. فبوجود المحافل الروحانية المحلية بات في الإمكان تحديد الأهداف والغايات، وتوفير الموارد اللازمة لدعم المجهود التبليغي الفردي. ووجد أولئك الذين دخلوا دين الله أنفسَهم يساهمون في العديد من نشاطات الحياة التي تشغل الجامعة البهائية وتستأثر بكل اهتمامها. وأصبح حينئذ في الإمكان ترجمة الآثار الأمريّة ونشرها بصورة منتظمة. أما الأخبار ذات الأهمية العامة فقد كان بالإمكان المشاركة في الاطّلاع عليها وتبادلها بين أبناء تلك الجامعة. وهكذا توثّقت الأواصر التي كانت تربط أفراد المؤمنين بالمركز العالمي لأمر الله توثّقاً ازداد باطّراد متانةً وقوة.
اعتمد حضرة شوقي أفندي وسيلتين رئيستين استخدمهما لتعزيز روح التفاني والانقطاع لدى الأحبّاء بالنسبة لتبليغ أمر الله في كلا الشرق والغرب، وكانت الوسيلتان تماثلان ما استخدمه حضرة عبد البهاء من قبل. فأولاً: كان ذلك الفيض من الرسائل التي بعث بها حضرة شوقي أفندي إلى الجامعات البهائية وإلى الأفراد على السواء. وقد خلقت تلك الرسائل لمتسلّميها أبعادا جديدة بالنسبة لما آمنوا به من المبادئ والعقائد. وكانت أهم تلك الرسائل شأنا تلك الموجهة إلى المحافل الروحانية المحلية والمركزية. وثانيا: كان ذلك السيل من الزائرين العائدين إلى أوطانهم وهؤلاء كانوا يشاركون إخوانهم المؤمنين في الوطن ما اكتسبوه من عمق الإدراك بفضل اتّصالهم المباشر بمركز الأمر. وقد ساعد ذلك على مضاعفة آثار تلك الرسائل عند مَن يتسلّمها من الأفراد والمحافل. وعن طريق هذه الاتصالات أصبح كل فرد مؤمن يعتبر نفسه أداة للقوة النابعة من الميثاق. وتستعرض المجموعة القيّمة من رسائل حضرة ولي أمر الله التي نشرت فيما بعد تحت عنوان ”رسائل إلى أمريكا، 1932 – 1946“، الخطوات التي اتّخذها حضرة شوقي أفندي في جذب المؤمنين في أمريكا الشمالية لكي يتفهّموا بصورة أكثر عمقا مضامين الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء بغية تحقيق ”فتح الكرة الأرضية الروحي“:
بإيمان يتّسم بالسموّ والخشوع، وبرؤية صافية ثابتة، وباستقامة لا سبيل إلى إفسادها، وبانضباط حازم دقيق، وبأخلاق طاهرة فاضلة، وبالحياة المثالية النادرة للجامعة البهائية، سيتمكّن الأحبّاء، لا بل أنهم سوف يبرهنون فعلا على صدق زعمهم بأنهم الوحيدون الذين نزل عليهم ذلك الفضل الذي لا بد وأن يعتمد على نفوذه خلاص العالم الإنساني بأسره، إضافة إلى إعادة تنظيمه من الأساس وضمان سعادته المثلى، وذلك في خضمّ عالم ملوّث بمظاهر الفساد الذي لا سبيل إلى إصلاحه، عالم أضحى عاجزا مشلولا نتيجة ما ينتابه من المخاوف وقد شرذمته الأحقاد والكراهية المدمّرة، وأضنته أعباؤه الثقيلة من البؤس والتعاسة والشقاء.84
وضع حضرة ولي أمر الله أمام نصب أعين الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية رؤية جسّدت مقدّرَات تلك الجامعة ومستقبلها، فوصف أعضاءها بأنهم ”الأحفاد الروحيون لمن كانوا أبطال دين الله“ وبأن هيئاتهم الناهضة هي ”الرموز الواضحة للعيان التي تمثل دينهم وسلطانه الذي لا يرقى إليه شك“، وأضاف إلى ذلك قوله إن المبلغين والمهاجرين الذين أرسلتهم تلك الجامعات هم ”حملة مشعل حضارة لم تولد بعد.“ وأكّد أن التحدّي الجماعي الذي يواجههم هو أن يسهموا إسهاما يفوق أي إسهام آخر ”في سبيل إرساء قواعد النظام العالمي الجديد الذي بشّر به حضرة الباب، وترسّمت صورته المستقبلية في ذهن حضرة بهاء الله، وحدّد معالمه حضرة عبد البهاء مصمم ذلك النظام ومهندسه ....“85
تميّزت رسائل حضرة شوقي أفندي تلك بأسلوب من البلاغة والإبداع وكأنه السحر المبين. فعكف يصوّر لنا في ما كتب الظلام الدامس الذي خيّم على العالم نتيجة تفشّي الكفر والإلحاد واستشراء الفساد والفسق والفجور، كما أنه لم يتوان أيضا في وصف الدور الذي على البهائيين القيام به في كل مكان ليغدوا وسطاء تلك القوة الغالبة المغيّرة والمحوّلة للنفوس والنابعة من صلب هذا الظهور الجديد، فكتب بهذا الصدد يذكِّر المؤمنين بما عليهم من الواجبات قائلا:
إن واجبهم أن يرفعوا مشعل الهداية الإلهية دون أن يخبو نوره في زمن يخيّم فيه على البشر ظلام دامس يحيط بهم غامرا إياهم كلّية في نهاية المطاف. أما دورهم في خضمّ ما يجابه العالم من المآسي والمخاطر والاضطرابات فهو أن يكونوا شهداء على تلك الرؤية التي تبشّر العالم بذلك المجتمع الذي سوف يعاد خلقه، فيتعالى نداؤهم بقرب مجيء مملكة الله التي وعد بها السيد المسيح، ممثّلة في النظام العالمي الذي لا باعث له سوى روح حضرة بهاء الله. ولسوف يبسط هذا النظام نفوذه وسلطانه على الكرة الأرضية كلها، شعارُه الوحدة والاتّحاد، وقوته الباعثة على الحياة سلطان العدل، وغايته المقصودة إقامة عهد الحق والصلاح، وأسمى ما يبلغه من المجد والجلال سيكون في تحقيق السعادة الكاملة المستمرة الأبدية للجنس البشري بأسره.86
قرّ رأي حضرة ولي أمر الله في العام 1936 على أن النظام الإداري قد استحكم بنيانا واتسع أركانا في أمريكا الشمالية، ما سمح له بأن يشرع في تنفيذ الخطة الإلهية نفسها. كان العالم حينذاك قد بدأ ينزلق في هوّة سحيقة نحو انفجار كوني آخر بينما ضاقت السبل أمام مجهودات الأحبّاء الإيرانيين فأدّت هذه الظروف بالضرورة إلى تركيز النشاط الأمري في مجالات التوسّع والتدعيم بالنسبة للجامعة البهائية في نصف الكرة الغربي استعدادا لما سيأتي به المستقبل من مهام أعظم شأنا وأهمية. لذلك وجّه حضرة ولي أمر الله نداء إلى المؤمنين في أمريكا الشمالية بصفتهم المسؤولين عن تنفيذ الخطة الإلهية رسميا، فعرض عليهم خطة السنوات السبع والتي كان مقدّرا لها أن تمتد من العام 1937 إلى العام 1944. وكانت أهداف هذه الخطة العمل على تأسيس محفل روحاني واحد على الأقل في كلّ ولاية من الولايات المتحدة وفي كل إقليم من أقاليم كندا، إضافة إلى فتح أربع عشرة جمهورية من جمهوريات أمريكا اللاتينية فتحا روحيا. وأضيفت إلى ذلك أيضا مهمة إتمام تجميل البناء الخارجي ”لأم معابد الغرب“ وإكمال زخارفه. وكانت هذه المهمة الأخيرة شديدة العسر بالنسبة لجامعة كانت لا تزال محدودة العدد وتشكو مواردُها ضائقةً مالية شديدة الوطأة.
ذكرت روحيّة خانم أنه إبّان هذه الفترة من التاريخ حدث تطوران متوازيان لافتان للأنظار. فمن جهة قامت الدول القوية بدفع جيوشها الغازية بهدف الاستيلاء على الموارد الطبيعية لدول مجاورة لها، أو إرضاء لشهوة الغزو والفتح. ومن جهة أخرى وفي الوقت عينه كان حضرة شوقي أفندي يعبّئ الصفوف بمن توفر لديه من ذلك العدد الضئيل من المهاجرين، ليرسلهم في سبيل تنفيذ الأهداف التبليغية لخطة السنوات السبع التي وضعها لهم. ولم تمض سنوات قليلة إلا وقد اضمحلّت دون رجعة تلك الجحافل العارمة من جيوش الغزو والطّغيان فامحت أسماؤها وفتوحاتها من صفحات التاريخ. أما ذلك الرهط من المؤمنين قليلي العدد والعدّة الذين خرجوا من ديارهم حاملين أرواحهم على أكفهم لينفّذوا المهمة التي أوكلهم بها حضرة وليّ أمر الله فقد تمكّنوا من تحقيق إنجازات فاقت طموحات أهدافهم جميعها، فتحققت أهدافهم تلك حين أرسوا الأسس والقواعد التي بُنيت عليها جامعات بهائية جديدة مزدهرة ظاهرة النماء.87
ولكي يقدّر البهائيون هذه النشاطات حق قدرها، ليس عليهم أن يدركوا أهمية عنصر التخطيط المسبق لتنفيذ أمور دينهم فحسب، بل عليهم أن يتفهّموا أيضا ماهيّة التخطيط الفريد كوسيلة فاعلة في سبيل الإعلان عن دين الله ونشره. فتحديد الأهداف المرجو تحقيقها بصورة منتظمة ثم اتخاذ القرارات في كيفية تحقيقها لا يعني أن الجامعة البهائية قد أخذت على عاتقها وحدها مسؤولية تخطيط مستقبلها بنفسها، كما يوحي بذلك مفهوم التخطيط. فإن ما يفعله البهائيون ومؤسّساتهم في هذه الحالة هو السعي من أجل جعل نشاطاتهم الأمريّة متماشية مع ذلك التدبير الإلهي الذي يشاهدون باطّراد آثاره النافذة وهي تتكشّف في العالم. إنه ذلك التدبير الإلهي الذي سوف ينجز وعده في النهاية بصرف النظر عن ظروف التاريخ وأحداثه. إن التحدي الذي يواجهه النظام الإداري هو أن يتمكّن، حسبما تسمح به العناية الإلهية، من ضمان انسجام النشاطات الأمرية مع متطلبات تلك الخطة الإلهية الكبرى لأنه بهذه الطريقة يمكن للقوة الكامنة التي أوجدها حضرة بهاء الله في دينه أن تؤتي ثمارها. ولقد أعطت سلسلة الإنجازات المستمرّة للخطط التي وضعها حضرة شوقي أفندي البرهان القاطع على نفاذ ما وعد به حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس وكذلك حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه من تأييد لجهود الأحبّاء وإنجاح لمساعيهم.
بحلول شهر آب (أغسطس) العام 1944 استطاع حضرة شوقي أفندي أن يحتفي باختتام مشروع السنوات السبع. وخلّد حضرة ولي أمر الله تلك اللحظة التاريخية عندما أنعم على العالم البهائي في هذه المناسبة بهدية غالية تمثلت في كتابه الصادر العام 1944 بعنوان ”القرن البديع“. فكان هذا الكتاب بمثابة أعظم إنجازاته إذ قدّم فيه دراسة تاريخية اتّسمت بالعمق والتفكير وأرّخت بصورة شاملة للأعوام المائة الأولى من عمر هذا الدين العزيز. وفتح كتابُه هذا للمؤمنين نوافذ أطلّوا منها على تلك الرحاب الواسعة ليشاهدوا المسار الروحي الذي بواسطته ينفّذ حضرة بهاء الله أهدافه ومقاصده بالنسبة لمصير الجنس البشري.
إن عِلم التاريخ أداة فعّالة، فهو يوفر لنا في أفضل حال منظورا لأحداث الماضي ويلقي الضوء على مأتي المستقبل، فيمس المشاعر الإنسانية بما يحكيه من قصص الشهداء والقديسين والأبطال فتثير هذه القصص في كل إنسان تأثّرَ بالمثل الذي ضربه هؤلاء قدراتٍ كامنة فيه لم يحلم بوجودها أو امتلاكها. وبالتالي يساعدنا علم التاريخ على أن نجد فيه معنى للحياة والخبرة الإنسانية، كما أنه مصدر للإلهام، ينوّر الأذهان ويبعث العزاء في النفوس، إنه يُغْني الحياة. ففي ذلك المحصول العظيم من التراث الإنساني في مجالَي الآداب والأساطير نشاهد يد التاريخ تخطّ المسيرة الحضارية بمعظمها، فتبدو آثار التاريخ ماثلة في مجموعة الأساطير التي أوحت بأسمى المبادئ والقيم إلى كل شعب من الشعوب منذ بداية ما دُوّن من تاريخ، كما نجدها في الملحمات مثل ”الراميانا“ والمآثر البطولية في ”الأوديسّه“ و ”الإنيادة“، إضافة إلى قصص البطولة الإسكندنافية وملحمة ”الشاهنامه“ الفارسية، وفي حكايات الكتاب المقدس وقصص القرآن الكريم.
إن كتاب ”القرن البديع“ يرتفع بهذا الإنتاج الفكري العظيم إلى مستوى حاول البعض الوصول إليه في العصور الماضية دون تحقيق أي نجاح. وسيكتشف أولئك الذين يفتحون قلوبهم لتلقّي الرؤية التي يعكسها هذا الكتاب طريقا نحو تفهّم الهدف الإلهي، فتلتقي هذه الطريق بتلك الرحاب الفسيحة مترامية الأطراف المنبسطة في ما قدمه حضرة ولي أمر الله من ترجمات لا تضاهى للنصوص الإلهية المقدّسة. فظهور كتاب ”القرن البديع“ في الذكرى المئوية لدين الله والعالم البهائي يحتفل بنجاح أول مجهود جماعي مشترك أخذه على عاتقه، جسّد للأحبّاء في كل مكان عظمة البذل والتضحية الدائمين على مدى تلك السنوات وما انطوت عليه من المغازي والمعاني.
*في وقت مبكر نسبيا من الحرب العالمية الثانية حدّد حضرة ولي أمر الله وجهة النظر البهائية بالنسبة لذلك الصراع على خلاف ما كان سائدا حينذاك لدى عموم الناس. فقال إن هذه الحرب ينبغي اعتبارها ”استمرارا مباشرا“ للصراع الذي تفجّر العام 1914، وأضاف أن الأيام سوف تثبت أيضا على أنها – أي تلك الحرب – ”شرط لازم لتحقيق وحدة العالم واتّحاده“. ولمّا كان رئيس الولايات المتحدة هو البادئ بصياغة مشروع المنظومة العالمية صادق الرؤية والهادف إلى إقامة نظام عالمي، وهو مشروع رفضته المؤسسات السياسية الأمريكية نفسها، فقد توقع حضرة شوقي أفندي بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية أن تأخذ على عاتقها، نتيجة للنوائب والنكبات، نصيبها الراجح من المسؤولية في وضع أسس عالمية النطاق، بصورة نهائية، تكون منيعة الجانب، متّسعة القواعد لتقوم عليها تلك المنظومة التي بُخست حقها ولكنها صمدت خالدة بالنسبة لضرورة قيامها.88
كانت تصريحات حضرة ولي أمر الله هذه بمثابة تنبّؤات صادقة لما تلا من أحداث. فما كادت الحرب تضع أوزارها حتى اتّضح تدريجيا حدوث تحول أساسي في الوعي البشري في جميع أنحاء العالم، كما ظهر جليا تصدّع صروح ما توارثته الأجيال من الافتراضات والأنظمة والأولويات التي استمرت في الاضمحلال وآلت إلى الانهيار نتيجة قوى فعّالة نشطت في غضون النصف الأول من القرن العشرين لتقويضها. ورغم أنه لم يكن في الإمكان آنذاك وصف هذا التحوّل والتغيير على أنه يمثل قناعة ثابتة بالنسبة لمبدأ وحدة العالم الإنساني، كذلك لم يكن ممكنا أن يخطئ أي مراقب أمين وتفوته حقيقة ما كان يحدث في النهاية من تداعي الحواجز التي كانت تعيق مثل هذا الإدراك، وهي الحواجز التي قاومت كل محاولة لتخطّيها في وقت مبكر من القرن العشرين. ويذكّرنا كل هذا بقوله تعالى في القرآن الكريم ”وتَرى الجِبالَ تحسبها جامدةً وهي تمرُّ مَرَّ السّحاب.“ [سورة النمل، الآية 88] وكان من نتائج هذا التحول والتغيير في الوعي بعث شعور بالثقة لدى أصحاب الفكر المتنوّر التقدمي بأنه أصبح من الممكن بناء مجتمع جديد النوعية ليس باستطاعته فقط المحافظة على السلام الدائم في العالم، بل في مقدوره أيضا إغناء حياة سكّانه أجمعين.
كان تجدّد الآمال هذا في المرتبة الأولى حصيلة ”نار الامتحان“ الذي مر به العالم ونبّهنا إليه مسبقا حضرة شوقي أفندي، والذي تمكّن أيضا من أن ينجح في ”غرس شعور المسؤولية“ التي سعى قادة العالم إلى التنصّل منها في بداية القرن.89 وأضيفت إلى هذا الوعي المتجدّد آثار المخاوف الناجمة عن اختراع الأسلحة النووية وطرق استخدامها، فأعادت ردة الفعل هذه إلى أذهان الأحبّاء التصريحات الكاشفة عن أحداث المستقبل التي أدلى بها حضرة عبد البهاء في أمريكا الشمالية وذكر فيها أن السلام سوف تستتبّ أركانه في صيرورة الأمر لأن أمم العالم ستكون مضطرّة إلى قبوله. وكانت صحيفة ”المونتريال ديلي ستار“، إبان زيارة حضرة عبد البهاء إلى كندا والولايات المتحدة، قد نقلت عن لسانه المبارك ما يلي: ”سيحل السلام في القرن العشرين ليشمل العالم كلّه، وستضطر كل الدول إلى الدخـول فيه.“90 وهكذا شهدت السـنوات التي تلت العام 1945 تقدّما نحو صياغة نظام اجتماعي جديد تخطّى أقصى الآمال المشرقة التي تطلعت إليها العقود المبكرة من القرن العشرين.
كان الأهم من ذلك كله استعداد الحكومات القومية لخلق تنظيم دولي لإقامة نظام عالمي جديد مع منحه السلطات التنفيذية اللازمة لحفظ السلام في العالم، وهي السلطات التي حُرمت منها على نحو مفجع عصبة الأمم الموءودة. وهكذا عقد مندوبو خمسين دولة من دول العالم اجتماعا في مدينة سان فرانسيسكو في شهر نيسان (إبريل) من العام 1945 أقروا فيه ميثاق هيئة الأمم المتحدة وهو الاسم الذي اقترحه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت لهذه الهيئة. ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا الاجتماع انعقد في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا وهي الولاية نفسها التي كان حضرة عبد البهاء قد أعلن فيها عن أمله في أن ”ترتفع راية السلام العالمي في هذه الولاية بالذات.“91 وتمّت المصادقة على الميثاق المذكور في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من قِبل العدد المطلوب من الأمم الأعضاء، والتأم شمل أول جمعية عمومية للهيئة الجديدة في العاشر من كانون الثاني (يناير) العام 1946 في مدينة لندن. وفي شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1949 وُضع حجر الأساس للمقر الدائم للأمم المتحدة في مدينة نيويورك، وهي المدينة التي كرّمها حضرة عبد البهاء قبل ذلك الوقت بسبعة وثلاثين عاما فأسماها ”مدينة الميثاق“. ففي غضون زيارته لنيويورك أنبأنا معلنا: ”إن ما لا شك فيه … أن راية الاتفاق العالمي سوف ترتفع هنا وتتقدّم لترفرف بعيدا في كل دول العالم وأممه.“92
ولعله من الأهمية بمكان أن نتذكر أن مبدأ الأمن الجماعي أو الأمن المشترك الذي نادى به حضرة بهاء الله، اتّخذ منحى عمليا بفضل ما أقدم عليه أحد القادة السياسيين لدولة من دول نصف الكرة الغربي، وهي الدول التي خاطبها حضرة بهاء الله من قبل، فعكس ذلك الإقدام ولأول مرة تنفيذا لمبدأ الأمن المشترك في ما أقرته عصبة الأمم من عقوبات اسمية ظلّت شكلية لم يتم تنفيذها ضد القوى الفاشيّة المعتدية على الحبشة. لكنها شكلت سابقة لمبدأ الأمن الجماعي الذي تأكّد بعد ذلك. ففي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1956 تمكّن ليستر بولز بيرسون، وزير خارجية كندا آنذاك ورئيس وزرائها فيما بعد، من دفع الأمم المتحدة إلى إقرار تشكيل أول قوة دولية للمحافظة على السلام، فكان هذا الإنجاز سببا لفوزه بجائزة نوبل للسلام.93 أما نوعية السلطة المخوّلة لهذه القوة العاملة بالنيابة عن الأمم المتحدة فقد برزت لتصبح من أهم ملامح العلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين. فبدءاً بعمليات مراقبة تنفيذ الاتفاقيات المبرمة بين الدول المتعادية، صار تنفيذ مبدأ العمل المشترك للدفاع عن السلام يتّخذ تدريجيا شكل التدخّل العسكري كما حدث في حرب الخليج حيث تم تنفيذ قرارات مجلس الأمن بالقوة.
وقد تزامن مع تأسيس نظام جديد للأمم المتحدة والإجراءات التي اتّخذت لتنفيذ قراراتها، حدوث ما يمكن اعتباره فتحا جديدا في مجال العلاقات والروابط الإنسانية. وحتى قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها ويتوقّف القتال صعقت جماهير الناس في العالم كله عندما شاهدوا الأفلام التي حملت أخبار وصور تحرير سجناء النازية في المعسكرات الخاصة بالإبادة الجماعية. فكشفت تلك المشاهد لجميع الناس حقيقة النتائج المروعة للتعصب العرقي. واستحوذ على الناس ما يمكن أن يوصف بصدق أنه إحساس بالخزي والعار لمدى الشرور والآثام الخبيثة التي بمقدور الإنسان ارتكابها، فهزّ ذلك الضمير الإنساني في كل مكان. وفي هذه الأثناء سنحت فرصة وجيزة اغتنمها نفر من النساء والرجال المخلصين بعيدي النظر بزعامة قيادة توقد الحميّة في النفوس ضمّت شخصيات من أمثال إليانور روزفلت، فتمكن هؤلاء من إحراز موافقة الأمم المتحدة لتبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتمثل الالتزام الأخلاقي من قبل الأمم المتحدة بهذا الإعلان في ما تبع ذلك من تأسيس المفوضية الدائمة لحقوق الإنسان. وتمكنت الجامعة البهائية من تقدير أهمية المنظومة الدولية حق قدرها حين خبرت بنفسها نفوذ الدور الذي تقوم به تلك المنظومة في الدفاع عن الأقليات وحمايتها ممّا اعتادت عليه في الماضي من تنكيل واضطهاد.
برزت أهمية هذين الحدثين، أي تأسيس الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عندما قررت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية أن تحيل إلى المحاكمة زعماء النظام النازي. فمَثُل، ولأول مرة في التاريخ، قادة دولة ذات سيادة أمام محكمة عامة، فدافعوا عن أنفسهم قائلين إن ما أقدموا عليه كان بحكم وظائفهم كرجال دولة وإن الدستور قد منحهم الحماية والحصانة. فلم يشفع لهم دفاعهم وعرضت اتهاماتهم ونوقشت جرائمهم علنا وبكل إسهاب وتفصيل، وقُدّمت للمحكمة الوثائق الدامغة ضدّهم فصدرت الأحكام بإدانتهم، وأعدم شنقا أو حكم بالسجن لمدد طويلة مَن لم يفلت منهم عن طريق الانتحار. ولم يكن هناك من معارضة جادة ضد هذه الإجراءات التي كانت من الناحية النظرية تحوّلا أساسيا عن القواعد المتعارف عليها في القانون الدولي. سجّلت هذه المحاكمة سابقة تاريخية وذلك رغم ما شاب نزاهة الإجراءات القضائية من شك وارتياب بسبب القضاة الذين عيّنهم ضمن الهيئة القضائية الحكم السوفييتي الاستبدادي الذي وازت جرائمه أو فاقت ما ارتكبه الماثلون للمحاكمة من النازيين. ولكن، ورغم كل شيء، فقد أثبتت هذه المحاكمة أن ذلك الزيف المعروف ”بمبدأ سيادة الدولة“ له حدود أخلاقية ثابتة يمكن تعريفها وتفصيلها واتّخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تخطّي تلك الحدود وبفرض احترامها ومقاضاة من ينتهك حرمتها.
وفي غضون هذه السنوات التي نحن بصددها بدأ يتحقق أمل طال أمد انتظاره وتجسّد في اضمحلال الإمبراطوريات الكبرى التي لم يكتب لها مجرد البقاء بعد العام 1918 وحسب، بل تمكَّنت أيضا من توسيع سطوتها بوضع يدها على مناطق أخضعتها ”للانتداب“ أو ”الحماية“ إضافة إلى المستعمرات التي ورثتها عن الدول التي منيت بالهزيمة في الحرب. ففي هذا الوقت بدأت هذه النظم الإمبراطورية البالية تواجه مدّا عارما من حركات التحرير الوطنية التي كانت أقوى من أن تقاومها تلك النظم بما تبقّى لها من إمكانات وهَنت وازدادت ضعفا. ومن ثم تنازلت كل تلك النظم البالية عن سيطرتها أو أنها أُجبرت بعد الثورات التي انفجرت في مستعمراتها على الرضوخ للمصير ذاته الذي واجهته من قبلها أسرة هابسبورغ الملكية وآل عثمان في وقت مبكر من القرن العشرين.
وفجأة، وجدت شعوب العالم أمامها منبرا تتبوأُه وهي موفورة الكرامة لتعلن من عليه ما يشغل بالها من الهموم ويقلقها أشد القلق، ولاحت لها تباشير خافتة بأنه سيكون لها دور تؤدّيه في تقرير مصيرها وفي تشكيل مستقبل العالم الإنساني بصورة عامة. فإذ بالعالم يجتاز منعطفا جديدا تاركا وراءه تاريخا دام لمدة ستة آلاف سنة أو أكثر. فعلى رغم استمرار عدم توفّر المساواة في مستويات التعليم بين الأمم، ووجود الإجحاف الاقتصادي، وقيام العوائق والحواجز وليدة المناورات السياسية والدبلوماسية، على رغم كل هذه القيود الفعلية العابرة من الوجهة التاريخية، نشطت سلطة جديدة لتسيّر شؤون البشرية، فصار في مقدرة الجميع أن يأملوا بصورة معقولة في اللجوء إلى تلك السلطة طلبا للاحتكام لأي سبب من الأسباب. وهكذا بدأ ممثلو الشعوب المحكومة سابقا يظهرون في الأوساط العالمية كمندوبين في مجلس الأمن ويحتلّون أعلى المناصب في الأمم المتحدة وفي المنظمات غير الحكومية من كل نوع، ولم تكن قد مضت خمسة عقود على الاحتفال ”باليوبيل الفضي“ في لندن الذي سار في مؤخرة مواكبه مجنّدون من تلك الشعوب المغلوبة متسربيلن بأزيائهم الوطنية الغريبة زاهية الألوان. ولعل أفضل مثل على ما طرأ من تغييرات هائلة كان في اختيار رجل من غانا لاحتلال منصب أمين عام الأمم المتحدة الذي سبقه إليه على التوالي اثنان أحدهما من دولة بيرو والآخر من مصر.94
لم تكن هذه التغييرات في طبيعتها مجرّد تغييرات شكلية أو إدارية، فمع مرور الوقت تمكّن عدد متزايد من الشخصيات الفذّة من اجتياز تلك الحواجز المألوفة في كل ميدان من ميادين الحياة، وهي الحواجز المتعلقة بالهوية العرقية أو الثقافية أو الدينية. ففي كل قارة من قارات الكرة الأرضية ظهرت في الأفق أسماء مثل آن فرنك، ومارتن لوثر كينغ، وباولو فراير، ورافي شنكار، وغبريال غارسيا ماركيز وكيري ته كاناوا، وأندريا ساخاروف، والأم تيريزا ويانغ يا مو، وهي أسماء بعثت الإلهام في نفوس إخوانهم من المواطنين وشحذت هممهم.95 ففي كل ميدان من ميادين الحياة كانت أمثلة البطولة أو الإبداعات المهنية الممتازة أو السمو الأخلاقي التي شاهدها الناس في مثل هؤلاء الأشخاص، كفيلة بأن تغْني بصورة متزايدة عن أي بيان لتجتذب عموم الناس للسير على مناهجهم. أما مشاعر العطف والابتهاج العارمة التي عبّر عنها العالم بإطلاق سراح نلسون مانديلا من السجن، وبعد ذلك بمناسبة انتخابه رئيسا لبلاده جنوب أفريقيا، فقد عكست إحساس الناس من كل عرق وأمّة بأن هذه الأحداث التاريخية كلها لم تكن إلا انتصارا مبينا للأسرة الإنسانية ذاتها.
وبات واضحا أيضا أنه ينبغي إعادة النظر في ما ساد قبل الحرب من مفاهيم حول توزيع الثروة وطرق استخدامها. وبغضّ النظر عن مبادئ العدالة الاجتماعية التي حفزت، من دون شك، عددا لا يستهان به من أولئك الذين تعهدوا تجديد تلك المفاهيم، فإن تفكّك الصرح الاقتصادي إثر الأحداث التي وقعت قبل ذلك في العهود الثلاثة التي مضت بيّن بكل وضوح أن الترتيبات القائمة آنذاك كان قد عفى عليها الزمن وفقدت فاعليتها. فقد تمّ إجراء التجارب سابقا لمعالجة مثل هذه القضايا على المستوى الوطني فقط في مجابهة فترة الكساد الاقتصادي والتجاري في الثلاثينيات. ومن ثمّ تمّت صياغة وتنفيذ مشروع لخلق تنظيم تتشابك فيه وتتكافل الهيئات والمؤسسات الهادفة نحو تحقيق مبدأ أن الاقتصاد الوطني لكل دولة هو عنصر من عناصر وحدة اقتصادية واحدة تشمل الكرة الأرضية بأسرها. فإذ بصندوق النقد الدولي، والاتفاقية العامة للتعرفات والتجارة، والبنك الدولي، والوكالات التابعة الأخرى تظهر متأخّرة إلى الوجود، لتجاهد محاولة حلّ معضلات عالم يتوحّد ويلتئم شملا ومعالجة القضايا الخاصة بمسألة توزيع الثروة المتأصّلة في سياق التغييرات والتطوّرات الجارية.
ولم يتوان المفكرون في البلدان النامية عن الإشارة إلى أن مبادرات مثل هذه الهيئات والمؤسسات إنما تخدم في المرتبة الأولى احتياجات العالم الغربي ومصالحه. ومهما يكن من أمر، فإن بروز كل هذه الهيئات والمنظمات سجَل تغييرا أساسيا وتحوّلا جوهريا في المقاصد والاتجاهات وفتح المجال بصورة متزايدة أمام مجموعة مختلفة من الدول والهيئات للاشتراك والتعاون في ما بينها.
ثمة مبادرة أخرى لم تخطر على بال أحد من قبل أعطت بُعدا إضافيا للمحاولات الجارية على قدم وساق لتوحيد الكرة الأرضية. فابتداءً من ”مشروع مارشال“ الذي خططت له الولايات المتحدة لإعادة تعمير الدول الأوروبية التي دمّرتها الحرب، فكّرت هذه الدول التي أعيد تعميرها كليا في إقامة برامج هدفها تشجيع التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد الناهضة. وولّدت الدعاية الواسعة لمشاريع التنمية هذه إحساسا بالتضامن مع سائر أجزاء العالم من قبل شعوب البلاد المتمتّعة بمستوى مقبول في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخدمات التقنية. ولكن هذه المبادرة الطموح تعرّضت بمرور الوقت لنقد مرير وهوجمت لما نُسب إليها من تباين في الأهداف والمقاصد، إضافة إلى أنه ما من أحد بإمكانه أن ينكر النتائج بعيدة المدى لمشاريع التنمية وكيف أنها خيّبت الآمال بصورة مشجية موجعة للقلب عندما فشلت في تضييق الهوّة الساحقة بين الفقراء والأغنياء في الدول والمناطق المعنية. وبالرغم من هذا الفشل وذلك النقد ظهر واضحا في أهداف تلك المبادرة الحس العام بوجود إنسانية مشتركة الغايات عبّرت عنها بمنتهى البلاغة الكيفية التي لبّى بها داعي الخدمة في هذه المشاريع جيش من الشباب المتمسّك بالقيم والمثل العليا جاء من بلدان متعددة.
ومن مظاهر التناقض أن الحرب أيضا، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، كانت لها آثار معينة فتحرر الوعي والوجدان من الأوهام. ففي وقت مبكر من هذا القرن نظر الناس في أجزاء مختلفة من الشرق إلى الصراع القائم في العام 1904 بين الروسيا واليابان على أنه شاهد مشجّع بأن الشعوب غير الغربية قادرة على مقاومة سطوة الغرب التي بدت كأن لا رادع لها. وتأكّد هذا الشعور إثر أحداث الحرب العالمية الأولى و تضاعفت آثاره حين نجحت القوى العسكرية اليابانية في الصمود لمدة طويلة أمام الجهود الغربية الهائلة التي بذلت لإنزال الهزيمة بتلك القوى في الفترة ما بين العام 1941 والعام 1945. أما النصف الثاني من القرن العشرين فقد شهد ما ولّدته هذه الخبرة التقنية الجديدة من نُظُم اقتصادية حديثة عند ما لا يقل عن ست دول من دول منطقة الشرق الأقصى، فحققت هذه الدول بما أبدعته في الإنتاج وما أظهرته من طاقة صناعية، إنجازات مكّنتها من مجاراة أعلى المستويات التي بلغها غيرها من دول العالم، وخاصة في مجالي المواصلات وتكنولوجيا المعلومات.
*بحلول العام 1946 وانتهاء مرحلة الصراع والاقتتال وجد حضرة شوقي أفندي المجال مفتوحا للشروع في تنفيذ مشروع السنوات السبع الثاني، وهو المشروع الذي أفاده ما لقيته رسالة الأمر المبارك من القبول لدى الناس وذلك نتيجة التحوّل الذي طرأ على الوعي والوجدان وكان قد ظهر واضحا للعيان. وهكذا وُجهت الدعوة مرّة أخرى إلى الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية لتأخذ على عاتقها مسؤولية شاقة، وهي مسؤولية قامت أساسا على المشروع السابق هدفها السعي لتنمية إنجازاته. وكان الفارق العظيم بين الماضي وحاضر الحال وجود العديد من الجامعات البهائية في موقع يمكّنها من الإسهام في تنفيذ ذلك المشروع آنذاك. وكان قد سبق أن وضع البهائيون في الهند وباكستان وبورما بأنفسهم مشروعا لهم قاموا بتنفيذه في العام 1938. وعندما وضعت الحرب العالمية أوزارها تدريجيا وتحررت من القيود التي فرضتها عليها الحرب، شرعت المحافل الروحانية المركزية في كل من إيران والجزر البريطانية والعراق، كذلك المحافل الموحّدة في أستراليا ونيوزيلنده وفي ألمانيا والنمسا، وأخيرا في مصر والسودان، شرعت هذه المحافل في تنفيذ مشاريع متفاوتة في مدد تنفيذها. وكان القصد منها توسيع قاعدة النظام الإداري، وتحقيق استقرار المهاجرين في الأهداف المعينة محليا وخارجيا، إضافة إلى مضاعفة المطبوعات البهائية وزيادة انتشارها.
ما إن حل العام 1953 حتى كانت كل هذه المشاريع قد تم تنفيذها تنفيذا كاملا. فتم تأسيس ثلاثة محافل روحانية مركزية جديدة أخذت على عاتقها أيضا تنفيذ مشاريع إضافية للتبليغ وتشكّلت مجموعة من المحافل الروحانية المحلية في أوروبا، كما قامت خمس جامعات مركزية ينظّم نشاطاتها المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية بمبادرات أفضت إلى استقرار المهاجرين في كل من شرق القارة الأفريقية وغربها، وتمّ في نهاية الأمر تنفيذ مشروع بناء مشرق الأذكار الذي دشّنه حضرة عبد البهاء بيده المباركة حين وضع الحجر الأساس لأم المعابد في الغرب. 96
وقبل أن يتمكّن الأحباء من الاحتفال بهذه المنجزات أنعم حضرة شوقي أفندي عليهم بإعلانه عن مشروع جديد مليء بالتحديات ومذهل في أبعاده، وكان حضرة ولي أمر الله في هذا الشأن مدفوعا بقوى تاريخية هو الوحيد بحكم مركزه القادر على تقديرها حق قدرها. فأعلن أن مشروعا عالمي النطاق مدته عشر سنوات سوف يُباشَر بتنفيذه في عيد الرّضوان التالي، واختار أن يطلق عليه اسم ”الجهاد الروحي“. واعتمد المشروع على ما توفّر لديه من طاقات المحافل الروحانية المركزية الاثني عشر كلها الموجودة آنذاك، وكان آخر تلك المحافل تأسيسا هو المحفل النمسوي السويسري. ودعا المشروع إلى تأسيس أمر الله في مائة وواحد وثلاثين بلدا وإقليما إضافيا، كما حثّ على تأسيس أربعة وأربعين محفلا روحانيا مركزيا وتسجيل ثلاثة وثلاثين منها تسجيلا رسميا، ودعا أيضا إلى زيادة المطبوعات والمنشورات البهائية زيادة كبيرة وإلى تشييد مشرق للأذكار في كل من إيران وألمانيا، وعندما منعت السلطات بناء مشرق الأذكار في طهران استُبدل هذا المشروع بمشروع آخر لبناء مشرق للأذكار في كل من أفريقيا وأستراليا. وأخيرا دعا المشروع إلى زيادة عدد المحافل الروحانية المحلية في أنحاء العالم كلّه إلى نحو خمسة آلاف محفل ويتم تسجيل ثلاثة آلاف منها تسجيلا رسميا. ولم يكن لدى البهائيين من خبرة جماعية يستعينون بها لمواجهة مهمة على هذا القدر من الأهمية والخطورة، فعبّر حضرة شوقي أفندي عن جسامة التحديات التي فرضتها هذه المهمة على من أوكل إليهم أمر تنفيذها في برقيته بتاريخ 8 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1952 فقال:
إن السّاعة لمواتية الآن لكي أعلن على العالم البهائي بأسره نبأ هذا المشروع المنوي تنفيذه … إنه الجهاد الروحي وهو المشروع العالمي النطاق، المليء بالأحداث المصيرية، والمحرّك للنفوس والأرواح والذي سوف يستغرق تنفيذه عشر سنوات … ويتضمن الجهود المتضافرة لكل المحافل الروحانية المركزية في العالم البهائي للقيام مباشرة ببسط السلطنة الروحية لحضرة بهاء الله … في كافة الأمم والدول ذات السيادة التي بقيت غير مفتوحة للأمر الكريم إضافة إلى غيرها من المناطق التي يحكمها الأمراء والشيوخ والسلاطين أو تقع تحت الحماية أو تحت الوصاية بما فيها المستعمرات المنتشرة على وجه البسيطة بأكملها. إن جملة المؤمنين بحضرة بهاء الله والمناصرين المخلصين لدينه الفاتح الغلاّب مدعوّون الآن ليحقّقوا في غضون عقد واحد من الزمان من المآثر والإنجازات ما يفوق مجموعة الإنجازات كلها التي أنارت بضيائها تاريخ الهجرة البهائية مدى العقود الأحد عشر الماضية.97
كان الانتصار في مهمّة بلغت هذه الدرجة من الطموح يعني انتشار الأمر الكريم انتشارا واسعا ليحتضن الكرة الأرضية بأسرها واتّساع أسس هيئات نظمه الإدارية اتّساعا يوازي على الأقل خمسة أضعاف ما كانت عليه، علاوة على إغناء الحياة الاجتماعية لأتباعه وازدهارها بفضل ما سوف يسهم به المؤمنون المنتمون إلى العديد من الثقافات والأمم والقبائل التي لم يدخلها الأمر المبارك بعد.
وفي الواقع كان هدف المشروع أن يطفر أمر الله العزيز في تقدمه طفرة واسعة توفّر عليه ما كان يفترض أن يمرّ به لولا ذلك في مراحل متعدّدة إضافية من النموّ والتّطور. لقد رأى حضرة شوقي أفندي بكل وضوح أن ظروفا تاريخية خاصة تزامنت مع هذه المرحلة بالذات واقترنت بها لتمنح الجامعة البهائية فرصة سانحة لا تعوّض، وأدرك أن على مثل هذه الفرصة إذا تم اغتنامها يتوقف كليّة نجاح المراحل المستقبلية في تنفيذ الخطة الإلهية ذاتها، فبعث حضرة شوقي أفندي برسالة إلى البهائيين في كل بقعة من بقاع الأرض ملكت خيالهم ضمّنها نداء لم يتوان في أن يطلق عليه عنوان ”دعوة رب الجنود“:
مهما كانت الفترة التي تفصل بين المؤمنين وبين ساعة الانتصار النهائي، ومهما كانت المهمة المنوطة بهم شاقة وعسيرة، ومهما كانت الجهود المطلوب منهم بذلها مضنية، ومهما كانت الأيام التي سوف تشهدها الإنسانية في ساعة مخاضها حالكة الظلام تحيّر الألباب وتمتلئ بالمحن والآلام، ومهما كانت الامتحانات التي سوف يواجهها أولئك الذين سوف ينقذون مصير العالم الإنساني امتحانات قاسية ومريرة … أستحلف هؤلاء المؤمنين بالدماء الغالية التي أريقت بغزارة، وأستحلفهم بحياة ذلك العدد الذي لا يحصى من الأبطال والقدّيسين الذين ذُبحوا في سبيل الله، وأستحلفهم بذلك الاستشهاد المجيد الأسمى لمبشّر ديننا الكريم، وأستحلفهم بالآلام والمحن التي تحمّلها عن طيب خاطر مؤسس هذا الدين لكي يدوم أمره ولكي يتمّ خلاص عالم مهدّم منهار على يدي نظامه البديع ولكي يملأ بهاؤه وجلاله الكرة الأرضية بأسرها، إني لأستحلفهم والساعة العصيبة تقترب ألاّ يحجموا ويتقاعسوا أو تفتر عزائمهم أبدا حتى يتمّ التنفيذ تنفيذا تاما لكل هدف من أهداف المشروع الذي سوف يعلن عنه.98
كان لهذه الدعوة صدى مباشر في صفوف المؤمنين، فلم تكد تمضي أشهر قلائل على إعلانها حتى بدأت الرسائل الواردة من مركز الأمر تزفّ بشرى انتصارات متوالية في البلد الواحد بعد الآخر. ومنح المهاجرون الفاتحون للبلاد والمناطق التي لم يدخلها الأمر قبل وصولهم إلى تلك الديار، لقب ”فرسان بهاء الله“ وشرُفوا بالوعد الذي أعطاه حضرة ولي أمر الله بأن أسماءهم سوف تسجّل على ”لوحة شرف“ ليتمّ إيداعها مستقبلا داخل عتبة المدخل الرئيسي لضريح حضرة بهاء الله. ولعل أبلغ دليل على بُعد نظر حضرة شوقي أفندي وبصيرته الثاقبة في تخطيطه لهذه المشاريع المتعاقبة أنه ما من دولة جديدة ولدت بعد الحرب العالمية الثانية إلا وكانت الجامعة البهائية والمحافل الروحانية جزءا لا يتجزّأ من بنيتها حديثة التكوين.
وتلا هذه الإنجازات الأولية سلسلة من الإنجازات الرائعة، وبحلول شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1957 كان دين الله قد تأسّس في أكثر من مائتين وخمسين بلدا وإقليما. وتمكّن حضرة شوقي أفندي من أن يعلن بعد ذلك أنه تم ابتياع عشرة مواقع جديدة وتخصيصها لبناء مشارق للأذكار، كما أعلن عن بدء عمليات البناء لإقامة مشارق للأذكار في كل من كمبالا وسيدني وفرانكفورت، إضافة إلى تملّك عقارات جديدة لست وأربعين حظيرة قدس مركزية، وازدياد ضخم في نشر المطبوعات البهائية والآثار الأمريّة، وارتفاع في عدد المحافل المسجلة بتسجيل مائة وخمسة وتسعين محفلا جديدا تسجيلا رسميا. كذلك كشف حضرة شوقي أفندي عن اعتراف متزايد بالنسبة لعقود الزواج البهائي وأيام العطل البهائية التي يحرّم فيها العمل، والتقدّم المستمر في عملية بناء دار الآثار العالمية، أولى الأبنية المقامة على ذلك القوس العريض الذي رسمه حضرة ولي أمر الله على سفح جبل الكرمل. ولا بد لكل من يستعرض أحداث تلك الأيام من أن يتأثر بالغ التأثّر لما أبداه حضرة شوقي أفندي من الرعاية الأبوية التي ضمنت تحقيق تلك النتائج الباهرة، وتمثّلت هذه الرعاية في رسالته العامة الأخيرة حول مشروع السنوات العشر أي ”مشروع الجهاد الروحي“ وقد بعث بها في شهر نيسان (أبريل) من العام 1957، وضمّنها قائمة بذل في وضعها بالغ الجهد، فذكر بالاسم كل واحد من المؤتمرات والمعاهد التبليغية الإقليمية الثلاثة والستين التي تم تنظيمها حول العالم على مدار ذلك العام.
إن استعراضا كهذا لمجمل ما جرى من أحداث نحن بصدد ذكرها، يبقى ناقصا ما لم نُحط علما بما حققه النظام الإداري من التوازي في خلق كيانه على المستوى العالمي، وهو الأمر الذي قام بتنفيذه حضرة وليّ أمر الله في تلك السنوات. ولقد برهنت تلك الخطوات التي اتّخذت في هذا السبيل على أنها لم تكن حاسمة في إنجاح مشروع الجهاد الروحي فحسب، بل سعت أيضا لضمان مستقبل أمر الله العزيز والذود عن حياضه. فسلطة اتّخاذ القرار الموضوعة في يد الهيئات الإدارية المنتخبة مسؤولية تسير جنبا إلى جنب مع تلك المسؤولية الموازية لها وهي مسؤولية النظام الإداري في توجيه الحياة الروحية والأخلاقية والفكرية بالنسبة لكل هذه الهيئات وكل الأفراد المنتمين إلى الجامعة البهائية. فمسؤولية ”نشر نفحات الله وتربية النفوس بتعليم العلوم وتحسين أخلاق العموم والتقديس والتنزيه في كل الشؤون“ مسؤولية أبدعها حضرة بهاء الله وأنيطت بصورة خاصة بأيادي أمر الله طبقا لما جاء في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.99
ففي عهد كل من حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء قام أولئك المؤمنون الذين أُسبغ عليهم هذا المقام السامي بدور حاسم فعّال في خدمة النشاط التبليغي في ديار المشرق. وبينما كانت فكرة مشروع جهاد السنوات العشر تتبلور في ذهن حضرة شوقي أفندي، بادر إلى تعبئة الطاقات الروحية لنظام أيادي أمر الله دعما لتنفيذ أهداف المشروع. فأعلن في برقيته بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 1951 عن تعيين دفعة أولى من اثني عشر من أيادي أمر الله خصّص لهم مهماتهم ووزّعهم بالتساوي ليخدموا في الأراضي المقدسة، وفي آسيا، وفي أمريكا الشمالية والجنوبية، وفي أوروبا. وكانت هذه النخبة المختارة من خَدَمة أمر الله مطالبة بأن تصبّ كل اهتمامها في ما يتطلبه حشد قوى الأحبّاء، وتشجيع الهيئات المنتخبة وإسداؤها النصح والمشورة. وما مضت فترة قصيرة على ذلك حتى ارتفع عدد أيادي أمر الله من اثني عشر نفرا إلى تسعة عشر.
وتوفّرت لأيادي أمر الله بصورة متزايدة الوسائل والإمكانات التي ساعدتهم على تأدية وظائفهم الخطيرة، وذلك حين قرر حضرة وليّ أمر الله في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1952 أن يدعو أيادي أمر الله إلى تشكيل خمس هيئات من المعاونين، فيكون لكل قارة هيئة خاصة بها، وحدّد عضوية كل واحدة من هذه الهيئات. ففي أمريكا الشمالية والجنوبية تمّ تعيّن هيئة من تسعة أعضاء، وكذلك عُيّن مثل هذا العدد بالنسبة للهيئتين الخاصتين بأوروبا وأفريقيا، بينما اقتصرت عضوية الهيئة الخاصة بآسيا على سبعة أعضاء، وتلك الخاصة بأستراليشيا على عضوين اثنين فقط. وأعقب ذلك كله تشكيل هيئات من المعاونين مستقلة غرضها حماية أمر الله وصيانته، وهي إحدى الوظيفتين الرئيستين لأيادي أمر الله.
وأشاد حضرة وليّ الله في رسالة بتاريخ الثالث من شهر حزيران (يونيه) من العام 1957 بقرار الحكومة الإسرائيلية تنفيذ الحكم النهائي لمحكمة الاستئناف العليا في تلك البلاد الذي قضى بإخـراج آخر زمرة من الناقضين من الأماكن المحيطة بالحرم الأقدس، قبلة العـالم البهائي في البهجة.100 ولم يكد يمضي يوم واحد فقط على ذلك حتى أرسل ولي أمر الله برقية ثانية ضمّنها تحذيرا من مخاطر مستقبلية وأكّد الضرورة الملحّة لكي تعمل الهيئات البهائية المخضرمة يدا واحدة فتتصدّى لتلك الأخطار الجديدة التي رآها حضرة وليّ أمر الله تلوح في الأفق. ثم تلا ذلك رسالة بعث بها حضرة وليّ أمر الله في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه أعلن فيها عن زيادة عدد أيادي أمر الله من تسعة عشر إلى سبعة وعشرين، ووصف هؤلاء الأيادي بأنهم ”الأمناء الرئيسيّون لجامعة بهاء الله العالمية التي لا تزال في طور الجنين،“ وكلّفهم بمسؤولية التشاور مع المحافل الروحانية المركزية حول اتخاذ الإجراءات العاجلة لحماية الأمر الكريم والدفاع عنه. وقبل انقضاء شهر واحد فُجع العالم البهائي بوفاة حضرة شوقي أفندي في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1957، إثر إصابته بالإنفلونزا الآسيوية إبّان زيارته لمدينة لندن. وهكذا غاب فجأة ذلك الذي كان مركزا للأمر مدة ستة وثلاثين عاما يشرف على نموّه ويقود تطوّره، وهو الذي أحاطت رؤيته بكل ما كان يقع من أحداث وما كان يترتّب على الجامعة البهائية من نشاطات ينبغي القيام بها. فلقد غاب ذلك الذي كانت رسائله المشجّعة بمثابة طوق النجاة بالنسبة لأعداد غفيرة من المؤمنين في كل أنحاء العالم. وبوفاته ترك حضرة ولي أمر الله وراءه المشروع العظيم لجهاد السنوات العشر وقد تحقق منه النصف، كما ترك أيضا نظاما إداريا يواجه أزمة مستقبلية.
*كان لنجاح مشروع السنوات العشر مغزى عميق تعاظم شأنه لكونه تحقّق في غمرة الحزن والأسى وفي خضّمٍ من مشاعر عارمة بفداحة الخطب لوفاة حضرة ولي أمر الله مبدع ذلك المشروع والملهم له. وهكذا تحقّق النجاح الكامل لمشروع جهاد السنوات العشر في اليوم الحادي والعشرين من شهر نيسان (أبريل) من العام 1936 عندما جمعت بطاقات الاقتراع التي أدلى بها الوكلاء من ستة وخمسين محفلا روحانيا مركزيا، إضافة إلى أربعة وأربعين من المحافل الروحانية الأخرى التي تشكلت إبّان فترة السنوات العشر، فتمّ بذلك انتخاب بيت العدل الأعظم وهو المرجع الأعلى الذي أبدعه حضرة بهاء الله لحفظ دينه، مؤكّدا بصورة قاطعة أن الهداية الإلهية سوف تبارك كل ما يقوم به ذلك المرجع من الوظائف المنوطة به:
وما لم يكن منصوصا من الحدود في الكتاب صراحة يجب على أمناء بيت العدل التشاور فيه وإجراء ما يستحسنونه. إنه يلهمهم ما يشاء وهو المدبّر العليم.101
تم انتخاب بيت العدل الأعظم من قبل الوكلاء الحاضرين وأولئك الذين أرسلوا بأصواتهم عبر البريد. وكان المكان الأنسب لإجراء مثل هذا الانتخاب هو رحاب البيت المبارك، منزل حضرة عبد البهاء صاحب ألواح الوصايا التي بيّنت نصوصها قبل ستين عاما تقريبا أهداف ومقاصد السلطة التي أسبغها حضرة بهاء الله على بيت العدل الأعظم:
ومرجع الكل – كتاب الأقدس – وكل مسألة غير منصوصة ترجع إلى بيت العدل العمومي، وكل ما يقرره بيت العدل بالاتّفاق أو بأكثرية الآراء هو حق وهو مراد الله. ومَن تجاوز عنه فهو ممن أحبّ الشقاق، وأظهر النفاق، وأعرض عن رب الميثاق.102
كان حضرة ولي أمر الله قد اتّخذ خطوة أولية هامة في العام 1951 تمهيدا لإجراء انتخاب بيت العدل الأعظم مستقبلا، فعيّن آنذاك أعضاء المجلس العالمي ليعاونوه في مهامه. أما الخطوة الثانية فقد جاءت طبقا لما كان قد بيّنه من قبل، عندما وسّع هيئة المجلس العالمي لتضمّ تسعة أشخاص تم انتخابهم من قِبل المحافل الروحانية المركزية. ونتيجة لذلك كان العالم البهائي عندما بلغ مشروع جهاد السنوات العشر نهايته الظافرة في العام 1963 قد اكتسب خبرة هامة حين آن الأوان لحمل مسؤوليته وتنفيذ مهمته المليئة بالتحدي، ألا وهي عملية انتخاب بيت العدل الأعظم.
لن يتردّد المؤرخون في القول إن الفضل في تعبئة الجهود للوصول إلى تلك اللحظة إنما يعود إلى أيادي أمر الله الذين قاموا بتنسيق أمور هذا الدين بعدما فقد العالم البهائي ما كان يوفّره حضرة ولي أمر الله من قيادة حكيمة. فجاب هؤلاء الأيادي الأرض دون كلل يروّجون للمشروع الذي وضعه حضرة شوقي أفندي. فعقدوا الاجتماعات السنوية فيما بينهم بقصد تشجيع المؤمنين وتزويدهم بما يتوفّر لديهم من المعلومات والأخبار، وقاموا كذلك ببعث الهمم في نفوس معاونيهم الجدد، ثم انبروا ليحبطوا مساعي عصبة جديدة من الناقضين لضعضعة روح الوحدة والاتّحاد التي يتمتع بها دين الله العزيز. فنجح هؤلاء الأيادي، وهم ذلك النفر قليل العدد من النساء والرجال المحزونين، في ضمان تحقيق الأهداف الطموحة لمشروع جهاد السنوات العشر في الوقت المحدّد لتنفيذه، كما ضمنوا إرساء الأسس الضرورية التي تقام عليها الهيئة العليا للنظام الإداري التي تُتوّجه وتُتمّ اكتمال عناصره. وترك أيادي أمر الله للعالم البهائي ميراثا غنيا آخر من الامتياز الروحاني لا مثيل له في تاريخ الجنس البشري، وذلك حين اتّخذوا القرار بأن لا يكونوا ضمن مَن يُنتخبون لعضوية بيت العدل الأعظم حتى يتمكّنوا من تأدية واجباتهم الروحانية التي كلّفهم بها حضرة ولي أمر الله. فلم يحدث قبل ذلك في أي دين من الأديان العظمى أن تُقدم مجموعة من الأشخاص تتمتع بالسلطة المطلقة وباحترام لا يضاهى في جامعة المؤمنين على حرمان نفسها وبمحض اختيارها من مزاولة تلك السلطة. وهذا هو حقا ما فعله أيادي أمر الله حين قرّروا أنه لا يجوز انتخابهم كأعضاء في بيت العدل الأعظم، لا بل وضعوا أنفسهم كلّية في خدمة الهيئة التي ينتخبها أقرانهم المؤمنون لمزاولة تلك السلطة العليا.103
- 7 -مهما كان البون الشاسع الذي يفصل ولاية الأمر عن ذلك المقام الفريد لمركز الميثاق، فلا غرو في أن الدور الذي قام به حضرة شوقي أفندي إثر صعود حضرة عبد البهاء كان دورا فريدا في نوعه في تاريخ الأمر الكريم. ولسوف يستمر هذا الدور في احتلال مكانته المرموقة في حياة هذا الدين وشؤونه في مُقْبِلِ الأزمان والعصور. فلو نظرنا بتمعّن إلى هذا الإنجاز من أوجهه الهامة لجاز لنا القول إن حضرة ولي أمر الله استطاع أن يمدّد لفترة ست وثلاثين سنة إضافية ذلك الأثر الخيّر لحضرة عبد البهاء من الهداية والإرشاد في سبيل بناء النُظُم الإدارية ودعم دين حضرة بهاء الله وتوسيع رقعته وزيادة انتشاره. فإن مجرد تصوّر ما كان يمكن أن تؤول إليه شؤون هذا الدين ومصيره وهو في مستهل نشأته وأول عهده عرضة لما يحفّ به ويحيطه من مخاطر أمر يدعو إلى الرهبة والفزع، لولا أن قُدّر أن يكون هناك ذلك القائد الذي أمسك بزمام الأمور وقبض عليه بإحكام. فهو الذي درّبه وأعدّه لهذا الغرض حضرة عبد البهاء نفسه وقبل راضيا أن يؤدّي وظيفته ”كولي للأمر“ بكل ما توحي به هذه التسمية من معنى.
لقد أكّد حضرة شوقي أفندي لإخوانه المؤمنين أَن النظامين التوأم اللذين سيخلفان حضرة عبد البهاء، وهما نظام ولاية الأمر ونظام بيت العدل الأعظم، متمّمان لبعضهما في ما يتعلق بالوظائف الخاصة المنوطة بكل منهما. ولكن من الواضح أن حضرة شوقي أفندي قَبِل في وقت مبكر ما يمليه واقع الأمر من أن تأسيس بيت العدل الأعظم لن يتم إلا بعد مرور مدة طويلة يتحقق فيها النمو الإداري المطلوب لقيام المحافل الروحانية المركزية والمحلية التي تكوّن البنية التي يرتكز إليها بيت العدل الأعظم. ولقد كان صريحا مع الجامعة البهائية حين أحاطها علما بما يفرضه هذا الأمر الواقع الذي أملى عليه في غياب بيت العدل الأعظم، الاضطلاع وحده بواجب أداء مسؤولياته العليا:
إذا فُصِل [نظام ولاية الأمر] المنصوص عليه في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء عن نظام بيت العدل الأعظم الذي لا يقلّ في الأساس أهمية عنه، فلسوف يصيب نظام ولاية الأمر الشلل ويعجز عن سد الثغرات التي تركها صاحب الكتاب الأقدس عن قصد في ما شرّعه من الأحكام والنظم الإدارية.104
وقام حضرة شوقي أفندي، وهو يدرك الحقيقة التي يواجهها، بتنفيذ مهامه متوخّيا كامل الحذر والدقّة لكي لا يتخطّى القيود والحدود التي فرضتها عليه الظروف القائمة بسبب غياب بيت العدل الأعظم، فأدّى المسؤولية بأمانة مثلى تبعث في نفوس المؤمنين بحضرة بهاء الله وتعزّز فيهم مشاعر الفخر والاعتزاز عبر كل عصر من عصور المستقبل. فإن سجلّ خدماته في سبيل أمر الله طوال ستة وثلاثين عاما، كسجلّ جدّه العظيم، مفتوح أمام الأجيال القادمة لكي تستعرضه وتقوّمه. وهو سجل ناصع خلو تماما من أي تجاوز، وهو أمر منسجم مع ما شدّد عليه وأكَّده للجامعة البهائية من قبل، فما مسّ قط حرمة بيت العدل الأعظم بالنسبة للحقوق والواجبات المنوطة به والمنصوص عليها في الكتاب. ولم يمتنع حضرة شوقي أفندي عن الإتيان بأي تشريع فحسب، بل نفّذ ما عهد إليه تنفيذه بإصدار أحكام مؤقتة ليس إلا، تاركا كلّيا أمر اتخاذ القرارات النهائية بالنسبة لهذه الأحكام لبيت العدل الأعظم.
ولعلّ أبلغ دليل على هذا الانضباط الذاتي عند حضرة شوقي أفندي هو الموقف الذي اتّخذه بالنسبة للقضية المركزية ألا وهي قضية الخلافة لأمر الله. فلم تكن له ذرية ولا وريث بينما نقض الميثاق أفراد من الفروع الأخرى للعائلة المباركة. فالنصوص المباركة البهائية خالية من أية إرشادات للاهتداء بها في حال انعدام وجود المؤهَّلين للقيام بمسؤولية ولاية الأمر. ولكن ألواح وصايا حضرة عبد البهاء تبيّن بكل وضوح كيف يمكن حل المسائل المبهمة الباعثة على الالتباس:
يجتمع هؤلاء الأعضاء (بيت العدل الأعظم) في مكان ما ويتذاكرون في كل ما وقع فيه الاختلاف أو في المسائل المبهمة أو المسائل غير المنصوصة وكل ما يقرّرونه هو كالنصّ.105
وطبقا لهذه الهداية التي خطّها مركز الميثاق، لزم حضرة شوقي أفندي الصمت حيال قضية خلافته وترك المسألة لتبتّ فيها تلك الهيئة التي خُوّلت وحدها سلطة البت في هذا الأمر، وهكذا كان. فلم تكد تمضي خمسة أشهر على تأسيس بيت العدل الأعظم حتى قام بتوجيه رسالة في السادس والعشرين من تشرين الثاني (أكتوبر) إلى المحافل الروحانية المركزية كلّها وضّح فيها هذه القضية على النحو التالي:
بعد دراسة النصوص المباركة بكل عناية وتمعّن وابتهال … فقد وجد بيت العدل الأعظم أنه لا سبيل هناك إلى تعيين ولي أمر ثان ليخلف حضرة شوقي وليس في الإمكان إصدار أي تشريع بهذا الخصوص.106
عندما باشر حضرة شوقي أفندي في تنفيذ مهام رسالته لم يجد في التاريخ البهائي سابقة تعينه على ترسّم معالم الطريق، ولم يكن أمامه سوى التوجه نحو الآثار المباركة لحضرة بهاء الله وحضرة الباب ونحو المثل الذي تركه لنا حضرة عبد البهاء، يستشفّ ما هو بحاجة إليه من هداية وإرشاد لتنفيذ مهامه. فما كان في مقدور أي مجموعة من المشيرين أن يعينوه على تحديد معاني النصوص المباركة التي ألقيت على عاتقه مسؤولية تبيانها للجامعة البهائية التي وضعت فيه ثقتها الكاملة. ورغم أنه كان واسع الاطلاع على ما ينشره المؤرّخون والمفكّرون من أهل الاقتصاد والسياسة، فإن بحثه في هذه الأمور كلها ما كان إلا وسيلة لتوفير مواد أولية يعيد صنعها وصياغتها لتنتظم معنى ومبنى حسب ما توحيه رؤيته الأمرية الثاقبة. ووجد في ينابيع قلبه الروحية الشجاعة والثقة المطلوبتين لتعبئة صفوف مجموعة متنوعة من المؤمنين لتنفيذ مهام تُعدّ حسب أي مقياس موضوعي فوق ما يتمتّعون به من المواهب والقدرات. ولا يمكن لأي مراقب نزيه يرصد أحداث القرن العشرين مهما غالى في شكّه بدعاوى أي دين أن ينكر الشواهد التي تدل على وجود قوة روحانية هائلة في هذا الدّين الذي قام على نصرته شاب في أوائل العشرين من عمره ليأخذ على عاتقه بمنتهى الأمانة والاستقامة مثل هذه المسؤولية الجسيمة أو أن يتجاهل ما حقّقه هذا الشاب من الإنجازات عظيمة الشأن.
إذا سلّمنا بكل ما سبق ذكره فلا بد لنا أن ندرك أنّ القدرات التي أسبغها الميثاق على نظام ولاية الأمر لم تكن بمثابة سحر ساحر، بل كانت، كما وصفتها روحية خانم وصفا مؤثّرا، بمثابة سلسلة لا متناهية من التجارب والاختبارات تزن كل شأن بميزان صحيح، وتتوخّي الدقة والإرهاف في تصريف الأمور. ويتملّكنا إحساس عميق بروعة ما توصّل إليه حضرة شوقي أفندي من دقة في تحليله لسير الأحداث الاجتماعية والسياسية في بداياتها إضافة إلى سيطرته الفكرية وإحاطته الكاملة بالأحداث المتقلّبة باستمرار، المعاصر منها والسالف، وربط نتائجها وآثارها بما يتكشّف من مظاهر المشيئة الإلهية. وإن كون هذا الإنجاز الفكري قد تحقّق على مستوى فاق بكثير الكيفية التي يؤدّي بها العقل الإنساني وظائفه لا يعني بحال من الأحوال أن ما تم له من إنجاز فكري كان أسهل منالا وأقل جهدا أو أنه كان أوهى حقيقة. فالعكس هو الصحيح. إذ إن التفرّس في الطبيعة الإنسانية والكشف عن الدوافع الكامنة في البشر هما من المواهب والمزايا الخاصة الملازمة لنظام ولاية الأمر مُمثَّلَةً في شخص حضرة شوقي أفندي.107
ها قد مضى الآن أربعون عاما أو أكثر على وفاة حضرة شوقي أفندي، ويمكننا أن نرى من منظور هذه السنين كيف بدأت تظهر لنا أهمّية نشاطاته وآثارها على المدى البعيد بالنسبة لنمو النظام الإداري وتطوّره. فلو افترضنا أن الظروف والأوضاع الأمرية عند وفاة حضرة شوقي أفندي كانت تختلف عمّا هي عليه، لكان في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء ما يوحي بإمكان تعيين شخص أو أشخاص ليخلفوا حضرة شوقي أفندي في ولاية الأمر. لكنه من البديهي أننا عاجزون عن إدراك كنه المشيئة الإلهية وسبر غور إرادتها. فإن ما هو واضح كل الوضوح ولا مجال لإنكاره هو أن حضرة شوقي أفندي استطاع بما خُوّل من سلطة لتبيان الكلمة الإلهية أن يوطّد الدعائم الثابتة للنظام الإداري ويوجّه مسيرة تطوّره المستقبلي، وحقّق ذلك بتنفيذه تنفيذا كاملا، حتى في كل صغيرة وإلى أبعد حدود التصوّر، المهمّة التي انتدبه حضرة عبد البهاء لها. ومما لا مجال لإنكاره أيضا، ويبدو لنا واضحا كل الوضوح، هو أن كلاًّ من البنيان الإداري ومسيرته يمثل المشيئة الإلهية وإرادتها.
* * *طبقا لما حذّر منه حضرة شوقي أفندي وهو يرى بثاقب بصيرته المستقبل، استمرت القوى التي استهدفت تقويض دعائم كل نوع من أنواع النظم والعقائد المتوارثة تتقدّم مترادفة في مسيرتها مع العوامل الساعية إلى توحيد العالم واتّحاده. فليس من العجب إذاً أن لا يطول أمد المشاعر العارمة من الغبطة والتفاؤل التي بعثها إحياء السلام في أوروبا والشرق وألا تدوم إلا قليلا. إذ لم تكد الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها حتى انفجر الصراع العقائدي بين الماركسية ومناصري الديمقراطية الليبرالية، وسعى كل طرف لبسط هيمنته على الأمم المنقسمة بالتوالي كتلتين : إحداهما تعتنق الماركسية، والثانية تؤمن بالديمقراطية الليبرالية. وبرزت إلى حيّز الوجود نتيجة لذلك ظاهرة عرفت ”بالحرب الباردة“ وأثارت صراعا مريرا لتحقيق التفوّق وزيادة المكاسب والمصالح كاد يتحول إلى صراع عسكري مسلّح. وهكذا باتت ”الحرب الباردة“ النمط أو النهج الذي جرت عليه السياسية الدولية لعدة عقود متتالية من الزمان.
وازدادت حدّة التهديدات التي أثارتها الأزمة الجديدة في النظام العالمي نتيجة الطفرات الجديدة في مجال التقنيات النووية ونجاح كل دولة من دول الكتلتين المتصارعتين في التسلّح بأسلحة الدمار الشامل على نطاق واسع بصورة متزايدة. ونبّهت مشاهد الدمار المريعة في هيروشيما وناغازاكي الانسانية الى احتمال تكرار حدوث دمار مشابه يأتي نتيجة ارتكاب سلسلة من الهفوات البسيطة نسبياً كما حدث في سراييفو في العام 1914. وهي الحادثة التي لم يحسب لها حساب وكانت سبباً في اندلاع الحرب العالمية الاولى. وساد الاعتقاد بأنه لو تكرّر ذلك هذه المرة فلسوف يُقضى بالفناء على جزء لا يستهان به من سكان العالم وستتحوّل مساحات شاسعة من هذا الكوكب أرضا يبابا يستحيل على الإنسان العيش فيها. أما بالنسبة للبهائيين فقد أحيت هذه التكهّنات في الأذهان الإنذارات الشديدة التي صرح بها حضرة بهاء الله قبل عقود خلت، إذ تفضّل قائلا:
إن في الأرض أسبابا عجيبة غريبة ولكنها مستورة عن الأفئدة والعقول وتلك الأسباب قادرة على تبديل هواء الأرض كلها وسمِّيَّتها سبب الهلاك.108
ولعل أعظم الكوارث الناجمة عن هذا الصراع الأخير بين الكتلتين المتنافستين لبسط سيطرتهما ونفوذهما على العالم كانت النكبة التي أصابت الشعوب المستعمَرة سابقا مخيبة آمال تلك الشعوب التي كانت قد رحّبت بما ظنته فرصة العمر لكي تبني لنفسها حياة جديدة باختيارها ومن صُنعها. إلا أن الدول الاستعمارية التي ظلت قائمة واصلت تصميمها العنيد على خنق آمال تلك الشعوب وتطلّعاتها. وفي الوقت الذي بدت فيه هذه المحاولة لأي مراقب محايد أنها سوف تبوء بالفشل، بعثت في العديد من تلك الشعوب رغبة ملحّة في التحرير اتّخذت طابع الكفاح الثوري لانعدام أي وسيلة أخرى لنيل الحرية. وبحلول العام 1960 بدأت حركات التحرير التي كانت من معالم الساحة السياسية في العقود المبكرة للقرن العشرين تمثّل عمدة النشاط السياسي الوطني لأهل البلاد في البلدان المستعمَرة.
وبما أن الدافع القوي للاستعمار كان الاستغلال الاقتصادي، كان لا بد لمعظم حركات التحرير هذه من أن تتّخذ طابع العقائد الاشتراكية. وفي غضون سنوات قليلة خلقت هذه الظروف أرضا خصبة ترتع فيها القوى العظمى لاستغلال تلك الشعوب. وسنحت للاتحاد السوفييتي في هذه الظروف الفرصة لإحداث تحولات في مواقف الدول وانحيازها فبسط نفوذه الغالب على البلاد التي بدأت تُعرف حينئذ ”بالعالم الثالث.“ وكان رد فعل العالم الغربي اللجوء إلى تشجيع مجموعة واسعة ومتعددة من الأنظمة الاستبدادية ومدّها بالسلاح، وذلك كلما فشلت المعونات التنموية في الإبقاء على ولاء شعوب البلدان المستفيدة من هذه المعونات.
وعندما تدخّلت قوى خارجية للسيطرة على الحكومات حديثة التأسيس والتلاعب بمقدّراتها، انصرف الاهتمام بصورة متزايدة عن التفكير الموضوعي في احتياجات التنمية وتركّز على الكفاح السياسي والعقائدي الذي لا يمتّ بصلة إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي. وكانت النتائج تبعا لذلك جالبة للدمار على نسق واحد عموما. فحدث إفلاس اقتصادي، وانتُهكت حقوق الإنسان انتهاكا فاضحا، وانهارت الإدارة المدنية، وقامت طبقة خاصة من الانتهازيين الذين لم يجدوا في محنة بلادهم سوى فرصة سانحة يستغلونها لإثرائهم الشخصي. وأدّى ذلك كله إلى مصير مؤلم واجهته الدول الجديدة الواحدة بعد الأخرى، بعد أن كانت هذه الدول قبل سنوات قليلة قد بدأت الحياة وهي مفعمة بآمال عظام واعدة.
أما الباعث على هذه الأزمات السياسية والاجتماعية فقد كان الانتشار الجامح لذلك الداء الذي ألمّ بالروح الإنسانية وتأصّل فيها. فكان هذا الداء في ما أوقعه من الخراب والدمار أشد عتّوا وأعمق أثرا وبُعدا من الأعراض الخاصة الظاهرة لذلك الداء. وسجّل هذا الداء بتفاقمه وانتشاره انتصارا كان بمثابة مرحلة جديدة في الشؤون الإنسانية تنذر بعظيم الشرور والمخاطر في سياق الانحطاط الاجتماعي والروحي الذي كان قد وصفه حضرة شوقي أفندي. ومن هنا ظهرت المادّية وهي كاملة تامّة النّمو في النصف الثاني من القرن العشرين وكأنها دين عالمي لتبسط سلطانها المطلق على حياة البشر الشخصية والاجتماعية. فقد وُلدت المادية من الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر واكتسبت نفوذا عظيما نتيجة الثقافة الأمريكية الرأسمالية، ومن ثم أضفت عليها الماركسية صدقية زائفة هي من خصائص المذهب الماركسي. أما العقيدة المادية فقد اعتمدت مبدأ تبسيطيا. إذ أكدت أن الحقيقة الإنسانية ونسق تطورها في طبيعتها مادية الأساس، وأنَّ هدف الإنسانية يجب أن يكون بالأحرى هو سد الحاجات والمتطلبات المادية وأن المجتمع موجود وقائم لتحقيق هذه المطالب، إضافة إلى أن الاهتمام الجماعي للجنس البشري يجب أن يعمل باستمرار على تحسين النظام، وأن يكون هذا النظام متمتّعا دوما بالكفاءة والقدرة على تأدية وظائفه المحدّدة.
بانهيار الاتحاد السوفييتي انعدمت الدوافع والرغبات في بعث أنظمة جديدة قائمة على أسس العقائدية المادية أو الترويج لمثل هذه الأنظمة. وبات من غير المجدي أيضا السعي في هذا السبيل نظرا لتفشّي المادية بشكل لم تكن تواجه فيه أية تحدّيات في معظم أنحاء العالم. وأما الدّين فقد قلّ شأنه وانقلب بالتدريج ليصبح مذهبا خاصا هدفه أن يتوافق مع الميول الشخصية والفكرية للفرد أو طريقة يتبعها لسد حاجاته الروحية والعاطفية، كما أنه اندفع نحو التعصّب والتّزمّت ورفض التقدم دون وعي أو تفكير. فالأديان العالمية الكبرى التي عبّرت عن أهدافها رسالاتها التاريخية العظيمة اكتفت في نهاية المطاف بأن تبسط غطاء شرعيتها على حملات التغيير الاجتماعي التي تشنّها حركات علمانية. أما الوسط الأكاديمي الذي كان في زمن من الأزمان مسرحا للإنجازات الفكرية والروحية العظيمة، فقد اكتفى بأن يكون دوره عبارة عن مصنع دراسي همّه الوحيد هو صيانة آلاته والمحافظة على معداته من أبحاث تُقدّم، وندوات تُعقد، ومنشورات تصدر، ومنح مالية تُعتمد.
ومهما كان تعريفنا للفلسفة المادية بأنها وليدة فلسفة دنيوية أو شهوة غريزية، فإن من آثارها تجريد الحافز الإنساني - وحتى الرغبة الإنسانية ذاتها- من الدوافع الروحانية التي تميّز النفس الناطقة. فقد تفضّل حضرة عبد البهاء قائلا بهذا الخصوص: ”إن طينة الإنسان مخمّرة بحُبّ الذات، ولا يتمكّن أحد أن يتخلّى عن مصالحه المادية المؤقتة، إلا أملا في الأجر الجزيل والثواب الجميل.“109 فإذا فُقد الإيمان بأن الحقيقة في جوهرها روحية الأصل وانعدم الاطمئنان النفسي الذي يبعثه هذا الإيمان، فليس من الغرابة أن نجد في قرار الأزمة الروحية التي تمر بها الإنسانية اليوم مبدأ عبادة الفرد، وهو مبدأ يزداد تحرّرا وانطلاقا من كل الضوابط يمجّد حب التملّك ويزيّن توخّي المنفعة الذاتية رافعا هذا الطموح إلى مرتبة القيم الأخلاقية السامية. وكان من نتائج تفتيت المجتمع وتشذّبه على هذه الصورة حلول مرحلة جديدة في سياق هذا التفكّك الاجتماعي، وهو الموضوع الذي تحدّث عنه بكل إلحاح حضرة شوقي أفندي في آثاره الكتابية.
إن الإذعان والقبول بكامل الرضا لما يحدث من تمزيق خيوط النسيج الأخلاقي خيطا خيطا هو من قبيل خذلان للنفس في مواجهتها واقع الحال وحقيقة الأمر. فالنسيج الأخلاقي هو الذي يوجّه الحياة الفردية ويضبطها في أي نظام اجتماعي. وإذا ما توخّى قادة الفكر، في تقويمهم للأدلة والبراهين، الصراحة والصدق وجدوا في تمزّق النسيج الأخلاقي هذا الأسباب الجذرية للمشكلات والقضايا التي تبدو كأن لا رابط بينها مثل قضايا تلوّث البيئة، والتحوّلات الاقتصادية والعنف الموجّه ضد الفئات الإثنية إضافة إلى انتشار اللامبالاة انتشارا عاما، وتفاقم الجريمة تفاقما هائلا، وأخيرا تفشّي الأوبئة التي تهلك مجتمعات بأسرها. ومهما كان عدم الشكّ في أهمية الاستعانة بالخبرات القانونية والاجتماعية والتقنية لمعالجة هذه القضايا، فمن غير المعقول أن نتصوّر أن أي مجهود في هذا السبيل قادر على أن يجدي نفعا في شفاء العلل المستشرية شفاء تاما ما لم يحدث هناك تحوّل جذري وتغيير فعلي في مجالي الوعي الأخلاقي والسلوك الإنساني.
*إن الإنجاز الذي حقّقه العالم البهائي في تلك السنوات بالذات يزداد بروزا وتألّقا أمام خلفية مثّلت أفقا داكنا ملبّدا بالغيوم. ولعّله من المستحيل أن نغالي في أهمية هذا الإنجاز الذي مهّد السبيل لتأسيس بيت العدل الأعظم مهما بالغنا في وصفه. فعلى مدى ما يقرب من ستة آلاف سنة جرّبت الإنسانية واختبرت عددا لا يحصى من النظم والأساليب بحثا عن نظام يضمن اتخاذ القرار الجماعي. ويوفّر لنا القرن العشرون وضعا يتيح لنا رؤية واضحة لتاريخ العالم في ذلك القرن، وهو تاريخ ذو مشاهد دائمة التحوّل والتغيير لم يترك فيه النبوغ الإنساني فرصة إلا وحاول إيجاد مثل هذا النظام. وتكاثرت المحاولات وتعدّدت في هذا السبيل وانتشرت انتشارا واسعا دون أن يعيقها عائق وشملت أنظمة اختلفت مناهجها والقواعد التي قامت عليها لتأتي بأنظمة للحكم من دينية وملكية وأرستقراطية وفئوية [أوليغاركية] وجمهورية، وحتى ما يشبه الفوضوية. وصاحب هذه المحاولات استحداث أشكال أخرى لا نهاية لها سعت إلى دمج أو مزج الميزات المختلفة المطلوبة لهذه النظم والمحاولات. ورغم أن كل واحدة من هذه الخيارات قد أسيء استخدامها أو استغلّت بشكل ما أو بآخر، فقد أسهمت في معظمها ولا شك، وبدرجات متفاوتة، في تحقيق آمال أولئك الذين كان من المفروض أن تُعنى هذه الأنظمة بخدمتهم وصيانة مصالحهم. ففي أثناء هذه المرحلة الطويلة من تطوّر الحكم السياسي وأنظمته بسط واحد من هذه الأنظمة أو غيره سيطرته على عدد من الشعوب متعددة الأجناس فتزايدت وتوالت الأطماع التي طالما راودت خيال زعماء تلك الأنظمة التوسعية من أمثال نابليون والقياصرة لبناء إمبراطوريات واسعة عالمية النطاق. ونتج عن تلك الأطماع والمطامح سلسلة من المحاولات الفاشلة في هذا السبيل جلبت معها الفواجع والمصائب لتؤثر في قارئ التاريخ وتبعث في نفسه إما إعجابا يبلغ حد السحر أو رهبة تبلغ حد الفزع في آن معا ثم لتبرهن برهانا قاطعا على أنه يستحيل على أي قوى بشرية تحقيق تلك الأطماع والطموحات مهما بلغت مصادرها من الوفرة والسعة أو مهما كان اعتدادها بعبقرية حضارتها الخاصة بها.
غير أنه من الواضح الجليّ أن المرحلة القادمة في التطوّر الحضاري ستتمثل في وحدة الجنس البشري واتّحاده في ظل حكم نظام يساعد على إطلاق جميع القدرات الدفينة في الطبيعة الإنسانية والسماح لها بحرية التعبير في شكل برامج مفيدة تخدم الجميع. إن اتحاد هذا الكوكب من الناحية الطبيعية المادية إضافة إلى انبعاث الآمال والتطلّعات لدى الجماهير من سكّانه قد أفضى أخيرا إلى توفّر الشروط التي تسمح بتحقيق تلك الغاية المثلى بالوحدة والاتّحاد، ولكن على صورة تختلف تماما عمّا دغدغ خيال أباطرة الماضي في أحلامهم الإمبراطورية. وتمّ في مسيرة هذه الجهود وسياقها اشتراك حكومات العالم في تأسيس هيئة الأمم المتحدة مع كل ما تغدقه تلك الهيئة من عظيم البركات وكل ما يعيبها من نقائص تدعو إلى الأسف.
فهناك تقبع في طي المستقبل تغييرات عظيمة الشأن سوف تجبر العالم في نهاية المطاف على قبول مبدأ الحكومة العالمية، وإن كانت الأمم المتحدة الآن غير مكلفة ولا تملك القدرة على تحقيق هذا المبدأ في حين لا تنمّ المحادثات والمشاورات الدائرة بين القادة السياسيين عن أي دليل يدعو إلى القول إن هناك تصوّرا جدّيا لإحداث مثل هذه التغييرات الجذرية وبناء النظام الذي يقوم على إدارة شؤون هذا الكوكب الذي نعيش عليه. فقد وضّح حضرة بهاء الله بشكل لا لبس فيه ولا غموض أن الحكومة العالمية لا بد أن تتحقّق وتقوم في الوقت المناسب. ومما هو واضح أيضا، ويا للأسف، أنه لا بد للإنسانية من أن تمّر بتجربة مرحلة من المعاناة أعظم، ومن خيبة الآمال أكبر، قبل أن تجد نفسها مجبرة على تبنّي هذه الطفرة الكبرى إلى الأمام. وسيستدعي تأسيس الحكومة العالمية تنازل الحكومات القومية ومراكز القوى العالمية تنازلا قطعيا لا رجعة فيه ومن دون قيد أو شرط عن جميع السلطات المطلقة التي توحي بها كلمة ”حكومة“ وأن تخضع لمقتضيات المشيئة الدولية.
ينبغي للبهائيين في هذه الحال أن يبذلوا في إطار هذا السياق قصارى الجهد لكي يدركوا طعم وفضل الانتصار الفريد الذي حققه الأمر الكريم العام 1963 وما تبعه من دعم وتوطيد هذا الانتصار لنفسه بنفسه في السنوات اللاحقة من التاريخ. ولعله سيستحيل على جيلنا الحاضر، وربما على عدة أجيال من المؤمنين في المستقبل، أن تدرك المعنى الحقيقي لما حدث بالفعل العام 1963. ومهما كان مبلغ إدراك البهائيين وفهمهم لذلك فإنه ينبغي لكلّ مؤمن بهائي رجلاً كان أم إمرأة ألا يبخل ببذل كلّ ما لديه من عزم وهمّة في خدمة ذلك الهدف العظيم الذي ما فتئت تتكشّف لنا معالمه باستمرار.
إن الإجراءات التي اتُّخذت لانتخاب بيت العدل الأعظم تمثّل على الأغلب أول عملية انتخاب ديمقراطي على نطاق عالمي عرفه التاريخ. وقد تحقق هذا الانتخاب بموجب ثلاث مراحل أولية من المراحل التي سمّاها حضرة عبد البهاء في ألواح الخطة الإلهية والتي تم تنفيذها بنجاح تحت إمرة حضرة شوقي أفندي. أما الانتخابات التي تلت الانتخاب الأول فقد جرت كل خمس سنوات واشترك فيها مجموعة أكثر عددا وأوسع تمثيلا وتعدّدية من الوكلاء المنتخبين عن الجامعة البهائية العالمية، وهو نمو يمكن معه القول إن هيئة الوكلاء هذه أصبحت بدون منازع الأنموذج والمثل على كيفية التعبير عن إرادة الجنس البشري بأسره. ليس هناك في الوجود ما يشبه هذا الإنجاز وهو إنجاز استحال تصوّره على أي فئة أخرى من الناس.
وإذا كان للمـرء أن يمعن النظر في الجـو الروحاني الذي يسـود عملية الانتخاب البهائية والسلوك المبني على المبادئ والأخلاق، وهو السلوك الذي يجب توفّره لدى كل فرد يشترك في مثل هذا الانتخاب، فلا بد للمرء عندئذ أن يمتلئ بمشاعر تسمو بالروح إلى أعلى الدرجات وتولّد إحساسا بالخشوع والتواضع. وهانحن نقف اليوم شهودا على ما يُبذل من أقصى جهد إنساني وسعي جدّي في سبيل إقامة صرح المرجع الأعلى لديننا الكريم وتوطيد أركانه لكي يرتقي الكلّ إلى أسمى الدرجات بغية الفوز بمرضاة الله، ثم على تصميم موحّد أكيد على ألا يُسمح بتاتا لأية أهواء ونوازع شخصية أو توجّهات مصدرها التطبّع بتربية ثقافية خاصة بأن تشوب نقاوة هذا الفعل، ذروة هدف النشاط الجماعي وقدوته، أية شائبة. وهذا أقصى ما يمكن أن تحققه قدرة البشر. فبانتخاب تلك الهيئة السامية أقدمت الإنسانية على تنفيذ كل ما في استطاعتها تحقيقه. ومن جهة أخرى فإن الله سبحانه وتعالى قد تفضّل بقبول الخدمات الصادقة للمؤمنين من أحبّائه فأسبغ على تلك الهيئة التي بُعثت إلى الوجود بهذه الطريقة ذلك النفوذ الذي وعد به الكتاب الأقدس وألواح وصايا حضرة عبد البهاء. وليس هناك ما يدعو إلى العجب إذن في أن يستبق حضرة عبد البهاء الأحداث ليرى بثاقب بصيرته السياق الذي أدى إلى مجيء هذه اللحظة التاريخية النهائية العام 1963 التي صادفت ذكرى مرور مائة عام على إعلان حضرة بهاء الله عن رسالته، فاعتبر هذه اللحظة التاريخية بأنها تحقيق لرؤية دانيال النبيّ في التوراة إذ يقول: ”طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الألف الثلاثمائة والخمسة والثلاثين يوما“. وتفضّل حضرة عبد البهاء قائلا بهذا الخصوص:
هذه سنة شمسية ليست بقمريّة لأن بذلك التاريخ ينقضي قرن من طلوع شمس الحقيقة وتعاليم الله تتمكن من الأرض حق التمكّن وتملأ الأنوار مشارق الأرض ومغاربها، يومئذ يفرح المؤمنون.110
ظهر إلى الوجود بتأسيس بيت العدل الأعظم ثاني النظامين اللذين قُدّر لهما أن يخلفا حضرة عبد البهاء الذي وصفهما بأنهما الضامنان لسلامة أمر الله واستقامة شؤونه، ولاسيّما أن المجموعة الضخمة من آثار حضرة وليّ أمر الله الكتابية، بالاضافة إلى نمط الحياة الإدارية التي أبدعها والتي نُقِشَت إلى الأبد في وعي البهائيين وضميرهم، منحت العالم البهائي قدرة على إيجاد وسائل تضمن تحقيق إجماع عام في الرأي حول هدف الظهور الإلهي. ثم وجد العالم البهائي في بيت العدل الأعظم المركز للسلطة العليا التي أبدعها حضرة بهاء الله لتنفيذ مسؤولية اتّخاذ القرار في إطار النظام الإداري:
والفرع المقدّس – أي ولي أمر الله – وبيت العدل [الأعظم] الذي يؤسس ويشكّل بانتخاب العموم، كلاهما تحت حفظ وصيانة الجمال الأبهى وحراسة العصمة الفائضة من حضرة الأعلى، روحي لهما الفداء، كل ما يقررانه من عند الله.111
ثم تفضّل حضرة شوقي أفندي بشرح العلاقة القائمة بين هذين المركزين من مراكز السلطة، فبيّن أنهما مكملان لبعضهما، يشتركان معا في مزاولة بعض الوظائف، وينفّذان منفردين وظائف أخرى خصصت لكل منهما على حدة. ومع هذا لم يألُ حضرة شوقي أفندي جهدا ليؤكد ما يلي:
ينبغي لكلّ فرد بهائي أن يدرك أن نظام ولاية الأمر لا ينقض بأي حال من الأحوال أو يحطّ ولو بأدنى قدر من شأن، تلك السلطة التي أسبغها حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس على بيت العدل الأعظم، وأعاد تأكيدها مرارا بكل حزم حضرة عبد البهاء في وصيّته. ولن يخالف هذا النظام بأي شكل من الأشكال وصية حضرة بهاء الله أو ما خطّ يراعه المبارك من آثار، كما أنه لن يبطل كذلك ما أنزله من التعاليم والوصايا.112
إن إدراك ما أبدعه حضرة بهاء الله هذا الإبداع الذي لا مثيل له يفتح أمام الخيال آفاقا واسعة لتصوّر ما يمكن للأمر الكريم الإسهام به في سبيل وحدة العالم الإنساني وبناء المجتمع العالمي الواحد. إلا أن المسؤولية المباشرة لتأسيس الحكومة العالمية تقع على عاتق دول العالم. والجامعة البهائية مدعوّة في هذه المرحلة من مراحل التطوّر السياسي والاجتماعي في العالم لكي تسهم بكل وسيلة في مقدورها لخلق الظروف الملائمة للتشجيع على تنفيذ هذه المهمة بالغة الصعوبة وتسهيل أمر تحقيقها. والجامعة البهائية إذ تسير على هدي ما أعلنه حضرة بهاء الله لملوك زمانه مؤكّدا لهم ”تالله لا نريد أن نتصرف في ممالككم“،113 نجدها منزّهة عن انتهاج أي برنامج ذي أهداف سياسية، كما أنها ترفض الاشتراك أو التدخل في أي نشاط حزبي، وتحترم دون شرط أو تحفّظ سلطة الحكومات المدنية بالنسبة لكل الشؤون والمصالح العامة. ويعبّر البهائيون عن كل ما يهمهم بالنسبة لظروف راهنة أو لمتطلّبات إخوانهم المؤمنين بالوسائل المشروعة التي يقرها الدستور ويخوّلها القانون.
إن تأثير الأمر الكريم على مجرى التاريخ ونفوذه فيه مصدره ليس فقط القوة الروحانية النابعة من الرسالة الإلهية الخاصة به بل لكونه أيضا مثلا يُحتذى. وحيث أن حضرة بهاء الله يؤكّد ”بأن نور الاتفاق يضيء الآفاق“،114 لا بد لنا أن نعلم – كما تفضل حضرة شوقي أفندي – بأن وحدة العالم الإنساني المتجسّدة في صلب الأمر الكريم ليست ”مجرد فورة عاطفية نابعة من الجهل ولا هي بمثابة تعبير لآمال وطموحات روحية مبهمة جوفاء.“ فالاتّحاد العضوي الذي يجمع أفراد المؤمنين والنظام الإداري الذي يتمثّل فيه هذا الاتحاد شاهدان على صدق ما أسماه حضرة شوقي أفندي ”بأنه قوة هذا الدين النافذة في بناء المجتمع وتشييد أركانه“.115 فكلّما اتّسعت رقعة الأمر الكريم وازداد انتشاره سوف تتكشّف دوما قدراته الكامنة لتجتذب بصورة متزايدة اهتمام قادة الفكر، وتبعث الإلهام في أصحاب العقول النيّرة التقدمية ليمتلئوا ثقة بأن غاياتهم المثلى يمكن تحقيقها في صيرورة الأمر. وكما تفضّل حضرة شوقي أفندي قائلا:
إن قادة الأديان، وأصحاب النظريات السياسية، وولاة المؤسسات الإنسانية، وهم يشاهدون اليوم وقد أخذتهم الدهشة والحيرة كيف أفلست نظرياتهم، وانهارت صروح أفكارهم، يفعلون خيرا إن هم التفتوا إلى الرسالة التي جاء بها حضرة بهاء الله وأمعنوا النظر في النظام العالمي الذي احتوته تعاليمها، وهو النظام الذي يسير رويدا ليرتفع قائما وسط مظاهر الفوضى والاضطراب الضاربة أطنابها في الحضارة الإنسانية الراهنة.116
ولا بد لمثل هذه النظرة المتمعّنة من أن تركّز الاهتمام على تلك القوّة الروحانية التي ساعدت البهائيين على تحقيق وحدتهم واتحادهم، ومن ثمة دعّمت تلك الوحدة وضمنت لها الاستمرار والبقاء. ألم يتفضّل حضرة بهاء الله بأن ”العدل سراج العباد“ ثم بيّن أن المقصود من ذلك ”ظهور الاتحاد بين العباد، وفي هذه الكلمة العليا تموّج بحر الحكمة الإلهية.“117 ”فبيوت العدل“ تسمية أُطلقت على تلك الهيئات المحلية والمركزية والعالمية التي سوف تشرف على تصريف شؤون النظام العالمي الذي ابتدعه حضرة بهاء الله لتعكس هذه التسمية أن مبدأ العدل هو محور التعاليم التي جاء بها هذا الظهور الإلهي وأنه أساس الحياة الأمرية. وكلما عظُم شأن الجامعة البهائية وازداد التعرّف على إسهامها في الحياة الاجتماعية العامة، فإن خبرتها وتجاربها سوف تقدّم الدلائل المشجعة دوما على فاعلية تلك القاعدة الحاسمة في شفاء العلل العديدة التي أصابت الأسرة الإنسانية، والتي هي في نهاية المطاف حصيلة انعدام الوحدة والاتّحاد وتفشّي الفرقة والانقسام بين الناس. ويبيّن هذا حضرة بهاء الله إذ يتفضّل قائلا: ”أن اعلم يقينا بأن هذه المظالم أصابت العالم لتهيّئه لمجيء العدل الإلهي الأعظم.“118 من الواضح إذاً أن المرحلة النهائية في تطور المجتمع الإنساني ونموّه سوف تهلّ على عالم يختلف كثيرا عن العالم الذي نعرفه اليوم.
* * *إن الآثار المباشرة لنجاح مشروع جهاد السنوات العشر وتأسيس بيت العدل الأعظم كانت بمثابة حافز قوي لدفع أمر الله العزيز قُدُما إلى الأمام. ففي هذه المرة كان التقدّم الذي حقّقه الأمر الكريم قد شمل كل ناحية من نواحي الحياة البهائية تقريبا، وتمثّل في مظاهر من النمو على المدى الطويل لا يمكن تقديرها حقّ التقدير إلا إذا استعرضنا استعراضا مستفيضا كامل الفترة الممتدة من العام 1963 حتى وقتنا الحاضر. ففي السنوات السبع والثلاثين الماضية سار النشاط الأمري بخطى حثيثة واطّراد سريع ليتقدّم على خطَّين متوازيين: الأول كان تدعيم الجامعة البهائية نفسها والثاني ما رافق ذلك من ازدياد مفاجئ في ما يتمتع به الأمر الكريم من نفوذ وأثر في حياة المجتمع الإنساني. ورغم أن النشاطات الأمرية اختلفت اختلافا عظيما في نوعيّتها، فإن معظم ما بُذل من جهد في هذا السبيل أسهم مباشرة في دعم هذا المسار أو ذاك لهذين الخطّين.
اتّخذ بيت العدل الأعظم في وقت مبكر من هذه الفترة التي نحن بصدد استعراضها قرارا ذا نتائج حاسمة بالنسبة لكل أوجه نموّ النشاط التبليغي والإداري. وفي ضوء القرار المعلن سابقا من أنه ليس هناك من يخلف حضرة شوقي أفندي في ولاية الأمر وليس له من ذريّة أو وريث استنتج الجميع أنه من غير الممكن بعد الآن تعيين أيادٍ لأمر الله في المستقبل. أما بالنسبة لمدى أهمية الوظائف التي كان ينفّذها أيادي أمر الله في سبيل تقدّم أمر الله فقد جاء البرهان على ذلك وبصورة لا تنسى من خلال ما حدث إبّان تلك السنوات الحرجة ما بين العام 1957 والعام 1963. وعليه، فإن بيت العدل الأعظم عمل طبقا للصلاحيّات التي تخوّله الحق في إقامة هيئات بهائية حسبما تقتضيه احتياجات دين الله،119 وقد أسست في حزيران (يونيو) من العام 1968 الهيئات القارية للمشاورين، وتم تفويض هذه الهيئات القيام مستقبلا بتأدية وظائف أيادي أمر الله من صيانة للأمر الكريم ونشره. فقامت هذه الهيئات الجديدة بتحمّل مسؤولياتها في توجيه هيئات المعاونين التي كانت قائمة آنذاك، وشاركت المحافل الروحانية المركزية في الواجبات المتعلّقة بتقدّم دين الله وازدهاره. فالاحتفال بالانتصارات التي حقّقها مشروع السنوات التسع في نهاية العام 1973 كان احتفالا رائعا في حد ذاته، ولكنه أظهر أيضا كيف تمكّنت الهيئات الإدارية الجديدة من تنفيذ مسؤولياتها بسهولة خارقة للعادة وكيف حرص الأحبّاء والمحافل الروحانية على السواء على الترحيب والاحتفاء بهذه الهيئات. وسجّلت تلك اللحظة تطوّرا هاما آخر في النظام الإداري، إذ تم تأسيس ”دار التبليغ“، وهي الهيئة التي عُهد إليها القيام مستقبلا ببعض الوظائف التي كانت من اختصاص ”أيادي أمر الله المقيمين في الأرض المقدسة“، وأن تقوم ابتداءً من تلك اللحظة فصاعدا بتنسيق هيئات المشاورين في أنحاء العالم كافة.
ولقد رأى حضرة شوقي أفندي بثاقب بصيرته ما سيكون عليه نموّ الأمر الكريم في مستقبل الأيام فكتب عن ذلك قائلا:
إن إقدام بيت العدل الأعظم على تبنّي مشاريع عالمية النطاق وتنفيذها على مراحل مستقبلية في عصر التكوين هذا، سوف يبرهن على وحدة المحافل الروحانية المركزية ويساعد على تنسيق نشاطاتها وتوحيد هذه النشاطات.120
ابتدأ تنفيذ هذه المشاريع العالمية في العام 1964 بتبنّي مشروع السنوات التسع ثم تبع ذلك مشروع السنوات الخمس العام 1974 ومشروع السنوات السبع العام 1979، ثم مشروع السنوات الست العام 1986 ومشروع السنوات الثلاث العام 1993 ومشروع السنوات الأربع العام 1996، ولحق بعد ذلك مشروع استغرق تنفيذه اثني عشر شهرا خُتم به القرن العشرون. وتميّزت هذه المشاريع المتتالية بالتفاوت القائم بينها من حيث تركيزها على الهدف والمقصد، فأعطانا هذا التفاوت مؤشّرا مفيدا لمراحل النمو التي كان يمر بها الأمر الكريم في تلك العقود ولِما كان يواجهه من التحدّيات والفرص الناجمة عن هذا النمو. ولعلّ الأهم من ذلك التفاوت بين مشروع وآخر هو أن النشاطات التي دعا إليها وتطلّبها كل مشروع ما كانت إلا امتدادا لمبادراتٍ أمر بها حضرة شوقي أفندي، الذي كان قد أمسك بدوره بأطراف الخيوط التي نسجها في الأصل مؤسّسا الأمر الإلهي فأحكم ولي أمر الله وثاقها وفصّلها فكان منها ما يلي: تدريب المحافل الروحانية، العمل على ترجمة الآثار المباركة، نشر الكتب البهائية وتوزيعها، تشجيع الأحبّاء على الاشتراك اشتراكا عاما في جميع النشاطات والخدمات الأمرية، الاهتمام بإغناء الحياة البهائية إغناء روحيا، بذل الجهود لكي تشترك الجامعة البهائية في الحياة الاجتماعية العامة، دعم الحياة العائلية البهائية وتقوية الرابطة الأسرية، وتربية الأطفال وإرشاد الشباب. وفيما تستمر هذه الجهود المختلفة في سبيل تحقيق الأهداف والغايات التي تقدّم ذكرها لتخلق إمكانات وفرصا جديدة، فإن حقيقة الأمر أن كل واحد من هذه الأهداف قد حدّدته وأنشأته الدوافع الخلاّقة لهذا الظهور الإلهي نفسه لتسبغ على كل نشاط أو مجهود تقوم به الجامعة البهائية قوة توحّد الصفوف وتخلق التآلف والاتّحاد، فهاهنا يكمن السِرّ والضامن الأكيد لنجاحها في النهاية.
كانت السنوات العشرون الأولى من عمر سياق الأحداث هذا الذي سردناه من أكثر الفترات إثراء للنشاطات التي شهدتها الجامعة البهائية. ففي فترة من الزمان قصيرة قصرا لافتاً للنظر تضاعف عدد المحافل الروحانية وأصبح تعدد الثقافات والأعراق بالنسبة للمنتمين إلى الجامعة البهائية يميّز الحياة البهائية أكثر فأكثر. ورغم أن انهيار نظام المجتمع وتفسّخه قد خلقا المشكلات أمام الهيئات الإدارية البهائية، فإن إحدى النتائج المترتبة على ذلك كانت تزايدا عظيما في اهتمام الغير للتعرّف على رسالة الأمر المبارك. ففي البداية واجهت الجامعة البهائية تحدّيا في مجال ”تبليغ الجماهير“ وبحلول العام 1967 دعيت الجامعة البهائية لكي ”تشرع في الإعلان إعلانا عاما مُركّزا ومستمرا عن الرسالة الإلهية الباعثة على الحياة وعن أن الموعود المنتظر قد جاء، وأن يتم الإعلان على نطاق واسع ليصل إلى كل طبقة من طبقات المجتمع الإنساني ....“121
وفيما انطلق الأحباء من أهل المدن من ديارهم ومدنهم لينفّذوا حملات تبليغية متواصلة قاصدين إبلاغ الكلمة الإلهية للجماهير الغفيرة من أهل القرى وسكان المناطق الريفية في العالم، وجدوا تقبّلا لرسالة حضرة بهاء الله فاق حدود كل ما كان يمكن أن يخطر في بالهم من تصوّر. ورغم أن الإقبال على الرسالة الإلهية اتّخذ أشكالا اختلفت اختلافا كبيرا عما ألفه المبلّغون، فقد استُقبل المؤمنون الجدد بترحيب حار. وتدفّق عشرات الألوف من المؤمنين الجدد ليدخلوا أمر الله عبر كل من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وغالبا ما كانوا يمثلون الغالبية الساحقة لأجزاء كاملة من القرى الريفية. وبالفعل كانت الستينيات والسبعينيات سنوات مليئة بنشوة الانتصار بالنسبة للجامعة البهائية التي كان نموّها خارج إيران نموّا بطيئا ومحدودا في معظمه. أما الأحباء في منطقة المحيط الباسيفيكي فقد تحقق لهم الامتياز العظيم في أن يجتذبوا أول رئيس دولة ليدخل دين الله، ألا وهو صاحب السمو ماليتوا تونامافيلي الثاني ملك ساموا. سوف تحدّد أحداث المستقبل معنى هذا الإنجاز وتضعه في الإطار اللائق به.
وكما هو الحال دائما بالنسبة للحياة الأمرية منذ البداية، كان سر هذا النمو في الأساس هو التزام الفرد المؤمن بتنفيذ كل ما يُعهد إليه من المسؤوليات. وقد سبق أن بادر عدد من الأشخاص بعيدي النظر إبان ولاية حضرة شوقي أفندي إلى الاتّصال بأهل البلاد الأصليين في دول مثل يوغندا وبوليفيا وإندونيسيا. واجتذب الميدان والعمل التبليغي أعدادا متزايدة من الناس وخاصة في الهند وفي بلدان مختلفة من أفريقيا وفي معظم مناطق أمريكا اللاتينية إضافة إلى جزر المحيط الهادئ الباسيفيكي ومنطقة ألاسكا وتلك التي يقطنها السكان الأصليون في كندا، ولا سيما المناطق التي سكنها السود في جنوب الولايات المتحدة. ودعمت هجرة المؤمنين إلى تلك الديار وعملهم الريادي فيها هذا النشاط دعما حيويا شجّع على قيام مجموعات من المبلّغين من بين صفوف المؤمنين الجدد من أهل تلك البلاد الأصليين أنفسهم لإبلاغ الكلمة الإلهية ونشرها.
لكنه بات واضحا رغم كل ذلك أن المبادرات الفردية وحدها، مهما اتّسمت بالحيوية وكان دافعها الروحانية والإلهام، فإنها لم تتمكن من تلبية مطالب الفرص المتاحة تلبية وافية. وقد قامت الجامعات البهائية بتنفيذ سلسلة طويلة من المشاريع الجماعية للإعلان عن الأمر الكريم إعلانا عاما ومشاريع أخرى لتبليغ الكلمة الإلهية، مما يعيد إلى الأذهان ذكرى تلك الأيام البطولية من أيام مطالع الأنوار. وهكذا وجدت فِرَق من المبلّغين المتحمّسين أنه أصبح في الإمكان حينئذ إبلاغ الرسالة الإلهية ليس فقط لمجرّد أعداد متوالية من المستفسرين وحسب، بل وإلى طوائف كاملة من الناس علاوة على إبلاغها إلى جامعات بأسرها من البشر. وتضاعفت من ثمّ الأعداد من عشرات الآلاف لتصير مئات الألوف. وفرض هذا النموّ في أعداد أتباع دين الله على أعضاء المحافل الروحانية الذين اقتصرت تجاربهم على ترسيخ مفهوم الأمر الإلهي في أفراد المستفسرين ممن نشأوا إما في أجواء فكرية مشحونة بالشكوك في الدين أو بالتعصّب والتزمّت فيه، فرض عليهم انتهاج أسلوب يأخذ في الحسبان ما وجده أعضاء تلك المحافل من مظاهر الإيمان لدى مجموعات كاملة من الناس لا يتعدّى حسّهم الديني كونه أمراً عادياً من أمور الحياة اليومية.
ولم تسهم أي فئة من الفئات في الجامعات البهائية إسهاما تاما ونَشِطا في سير هذا النموّ المثير للإعجاب أكثر مما أسهم به الشباب البهائي. وتذكّرنا الأعمال البطولية لهؤلاء الشباب في هذه العقود الحاسمة مرة بعد أخرى بأن معظم أفراد ذلك الرعيل من الأبطال كان من الشباب، وهو ما كان عليه الحال فعلا عبر السنوات المائة والخمسين الماضية من تاريخنا. فهؤلاء الأبطال هم الروّاد الأوائل ممن رفعوا لواء دين الله ورسموا خط مساره في القرن التاسع عشر. فحضرة الباب نفسه كان في سن الخامسة والعشرين عندما أعلن عن رسالته. وأما أنيس فقد كان في باكورة شبابه عندما فاز بالعزة والمجد الأبدي فرافق مولاه الحبيب في رحلة الاستشهاد، وآمن القدّوس بالظهور الإلهي وهو في سن الثانية والعشرين، وزينب التي لم يسجّل لها التاريخ سنّا محدّدة كانت في ريعان الصبا. ناهيك بالشيخ علي الذي عظّم قدره كل من القدوس والملاّّ حسين، فقد ذاق حلاوة الاستشهاد وهو في سن العشرين بينما وهب محمد باقِرنَقْش حياته لفداء هذا الأمر الكريم وهو لا يزال ابن أربعة عشر ربيعا فقط. وأخيرا هناك الطاهرة التي اعتنقت أمر الباب وهي في سنواتها العشرين.
وسار على درب تلك الشخصيات الفذّة الآلاف من الشباب البهائي الذي قام في السنوات اللاحقة بإعلان رسالة الأمر الكريم في كل جزء من أجزاء القارات الخمس وفي الجزر المنتشرة حول الكرة الأرضية. وفيما بدأت ”حركة الشباب“ والثقافة الخاصة بها تظهر في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات أقدم المؤمنون الشباب من ذوي المواهب في مجالات الموسيقى والمسرح والفن ومختلف أشكال الفنون والآداب على الإسهام في النشاط الذي كان سبق أن أشار إليه حضرة ولي أمر الله حين قال: ”في ذلك اليوم سوف ينتشر أمر الله انتشار النار في الهشيم، وسوف يعلن عن روح هذا الدين وتعاليمه من على خشبة المسرح أو في ميداني الأدب والفن ....“122 وساعد ما يتميّز به الشباب من حميّة وحماسة الجامعة البهائية على مواجهة تحدّيات مستمرّة والتحلّي بالجرأة أكثر فأكثر لسبر أغوار تعاليم حضرة بهاء الله والتمعّن في ما تحمله تلك التعاليم من نتائج اجتماعية ثورية.
إلا أنّ الازدياد الهائل في أعداد أولئك الذين دخلوا حظيرة دين الله جلب معه مشكلات خطيرة. فعلى الصعيد المباشر استنفدت الجامعة البهائية كل مصادرها المخصصة لتنفيذ نشاطاتها حين سعت لتأدية واجباتها في توفير ما يتطلّبه الاستمرار في تلبية احتياجات المؤمنين الجدد من التعمّق في التعاليم الأمرية، وما يقتضيه تدعيم الجامعات والمحافل الروحانية التي تكوّنت حديثا بفضل هؤلاء المؤمنين. وتكرّرت في أنحاء العالم آنذاك التحدّيات المتمثّلة في اختلاف الثقافات كالتي جابهت الأحبّاء الإيرانيين الذين كانوا أول من حاول حمل الرسالة الإلهية ونشرها في أقطار الغرب. ونادرا ما كانت المسائل الدينية أو المبادئ الإدارية التي كانت الشغل الشاغل في أذهان المهاجرين والمبلّغين من الأمور التي استقطبت اهتمام المؤمنين الجدد المنتمين إلى خلفيات اجتماعية وثقافية اختلفت كل الاختلاف عمّا سبق. وغالبا ما كان اختلاف الرأي، حتى في المسائل الابتدائية مثل تحديد المواعيد والإفادة من الوقت أو القواعد الاجتماعية البسيطة التي يجب اتّباعها سببا في خلق هوة يستعصي معها إيجاد أي تفاهم وأصبح لذلك أي نوع من تبادل الرأي مسألة في منتهى الصعوبة.
أسهمت هذه المشكلات في بادئ الأمر في شحذ الهمم لأنها حفزت الهيئات الإدارية وأفراد المؤمنين على السواء لبذل أقصى الجهد في إيجاد طرق جديدة لمعالجة الأوضاع التي تواجهها الجامعة وحثّتهم بالفعل على التوسل بأساليب جديدة في كيفية تفهّم الآثار المقدسة البهائية. وبُذلت جهود ثابتة للأخذ بالهداية الصادرة عن مركز الأمر والقائلة إن التوسع والتدعيم متلازمان وأنه ينبغي لهما أن يجريا متضافرين. إلا أنه حيثما لم تتحقق فورا النتائج المرجوة خيّمت إلى حد ما على النفوس الكآبة وهبوط الهمة والعزيمة. وبدأ من ثم هذا الازدياد الأولي في عدد الذين دخلوا حظيرة الأمر المبارك يتباطأ بصورة ملحوظة في بلاد متعدّدة، فدفع ذلك الجامعات البهائية والهيئات الإدارية فيها على العودة إلى مزاولة ما كان مألوفا قبل ذلك من الأساليب والنشاطات والتوجّه إلى الجماعات التي كان الوصول إليها أسهل من غيرها.
كان الأثر الرئيسي لهذه النكسات أن الجامعة البهائية توصّلت إلى قناعة بأن توقعاتها المستقبلية في السنوات الأولى من هذه الفترة كانت من بعض الوجوه أبعد ما تكون عن الواقع. فرغم أن الإنجازات التي تحقّقت بسهولة في بداية النشاطات التبليغية كانت مشجّعة إلا أنها لم تكن قادرة وحدها على بناء حياة بهائية باستطاعتها أن تحقّق احتياجات المؤمنين الجدد فيها أو تساعد على التجدد والانبعاث. ولعلّ ما واجه المهاجرين والمؤمنين الجدد على السواء كان بالأحرى قضايا ومسائل لم تكن الخبرة البهائية المتوفّرة في أقطار الغرب – ولا حتى في إيران –قادرة على إيجاد الحلول لها. وكانت المسائل المطروحة كما يلي: كيف يتم تشكيل المحافل الروحانية المحلية في مناطق اعتنقت الأغلبية الساحقة فيها من المؤمنين الجدد الأمر ما بين عشية وضحاها مدفوعة بكل بساطة بقوة حسها الروحاني بصدق هذا الدين لا غير؟ وكيف تؤدي هذه المحافل وظائفها متى شُكلت؟ وكيف يمكن أن يكون للمرأة صوت يوازي صوت الرجل في مجتمعات كان الرجال فيها قوّامين على النساء منذ فجر التاريخ؟ وكيف يمكن تعليم أعداد غفيرة من الأطفال بصورة منتظمة في مناطق ساد أجواءها الثقافية الفقر وانتشرت فيها الأمّية؟ ثم ما هي الأولويات التي يجب أن يهتدي بها البهائيون في تربيتهم الأخلاقية؟ وكيف يمكن للأهداف التي يضعونها لتلك المناطق وفي تلك الظروف أن تكون ذات صلة بالعادات والتقاليد المرعية محليا؟ وكيف يمكن إيجاد حياة لجامعة المؤمنين مليئة بالحيوية والنشاط قادرة على بعث التنمية الروحانية بالنسبة لأفراد تلك الجامعة؟ وأيضا ما هي الأولويات التي ينبغي اعتمادها من حيث تأليف الكتب البهائية وخاصة إذا أُخذ في الحسبان التزايد المفاجئ في عدد اللغات التي تمثلها الجامعة البهائية؟ وكيف يمكن المحافظة على سلامة نظام الضيافة التسع عشرية وفتح المجال في آن معا لهذا النشاط الأمري الحيوي ليغتني من المؤثّرات الخيرة لتعدّد الثقافات واختلافها؟ وتردّد في كل القضايا التي شغلت الاهتمام السؤال كيف يمكن إيجاد المصادر البشرية والمادية إضافة إلى كيفية تمويلها وتنسيق طرق استخدامها؟
قادت ضغوط هذه التحديات الملحّة متشابكة الأطراف الجامعة البهائية نحو درب سارت فيه لتوسّع عن طريق البحث والدرس معلوماتها وتزيد من معرفتها الأمرية، فكان هذا المسار مهمّا بمقدار الأهمية نفسها التي اتسمت بها نشاطات التوسع والتدعيم. ولعلّه من سلامة القول إنه في هذه السنوات بالذات لم يكن هناك بالفعل أي نشاط تبليغي أو أية فعاليات متضافرة في مجالات التوسّع والتدعيم والإعلان عن الأمر أو أية خيارات إدارية أو أية جهود إضافية نحو التواؤم الثقافي، إلا كان قد تم إجراؤها أو تجربتها بصورة أو بأخرى في بقعة ما من بقاع العالم البهائي. وكان المحصّل النهائي أن خرجت الجامعة البهائية في معظمها من هذه التجربة وقد تلقّت درسا مكثّفا وتعمّق فهمها للنتائج المترتبة على تبليغ الكلمة الإلهية لجماهير الناس، وهو درس وعمق فهم لم يكونا ليتأتيا عن أي طريق آخر. وكان هذا الطريق الذي سلكته الجامعة البهائية بحكم طبيعته ذا طابع محلي وإقليمي من حيث تركيزه على الأمور. وكانت المكاسب التي تحقّقت في النوع وليس في الكم. أما التقدّم الذي تم فقد كان تقدّما متناميا تدريجيا وليس تقدّما على مقدار هائل دفعة واحدة. ولولا جهود التدعيم المضنية الصعبة دوما والمحبطة للهمم في أغلب الأحيان لكانت الإمكانات ضئيلة وغير كافية لتنفيذ ما وضع من الخطط اللاحقة لتنظيم مرحلة الدخول في الأمر أفواجا والترويج لها ترويجا ناجحا.
وحيث إِنَّ الرسالة الإلهية كانت قد نفذت آثارها حينئذ لا إلى حياة أفراد مجموعات قليلة العدد وحسب، بل إلى حياة جامعات بشرية بأسرها، فقد نتج عن ذلك انبعاث ظاهرة حيوية ميّزت الأمر الكريم منذ أولى مراحل تقدمه وعلوّ شأنه. فلأول مرة منذ عشرات السنين وجد أمر الله العزيز نفسه مرة أخرى وقد أصبحت نشاطات التبليغ والتدعيم فيه مرتبطة بالنشاطات التنموية الاقتصادية والاجتماعية. ففي السنوات الأولى من القرن العشرين وبفضل الهداية الحكيمة لكل من حضرة عبد البهاء وحضرة ولي أمر الله نهض الأحباء الإيرانيون المحرومون من المساواة والإفادة من الفرص التي وفّرها مجتمعهم آنذاك على ضآلتها - باذلين الجهد وعرق الجبين في سبيل بناء مقومات مجتمع متكامل فاق كل ما كانت تتطلّع إليه أو يمكن أن تحقّقه المجموعات البهائية المنعزلة نسبيا في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. أما في إيران ذاتها فقد كان رقيّ الجامعة الروحي والأخلاقي والنشاطات التبليغية وبناء المدارس والعيادات الطبية وتأسيس النظم الإدارية وتشجيع المبادرات التي تهدف إلى إيجاد الاكتفاء الذاتي اقتصاديا وإلى تحقيق الرفاه والرخاء، كان كل ذلك منذ البداية بمثابة المميزات الخاصة المتلازمة في سياق موحّد من التنمية المتكاملة عضويا. وعادت هذه الفرص ذاتها وما خلقته من تحديات إلى الظهور من جديد لتواجه الجامعات البهائية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأطراف من آسيا.
ورغم أن نشاطات التنمية الاجتماعية والاقتصادية كانت تجري على قدم وساق منذ وقت طويل وخاصّة في أمريكا اللاتينية وآسيا، فإنها كانت بمثابة برامج للعمل منفردة تقوم بها مجموعات من المؤمنين تحت إشراف المحافل الروحانية المركزية وهدايتها، ولم تكن لهذه البرامج علاقة بأي من المشاريع العامة. إلا أن الجامعات البهائية في كل أنحاء العالم دعيت في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1983 إلى دمج مثل تلك الجهود في منهج النشاطات المعتادة، وتم تأسيس مكتب للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المركز العالمي للأمر مهمّته تنسيق النشاطات التثقيفية والتعليمية والمساعدة في استقطاب المعونة المالية.
وشهدت السنوات العشر التي تلت اختبارات وتجارب واسعة في مجال نشاط لم تكن معظم الهيئات البهائية على استعداد كاف للقيام به. وفي أثناء سعي الجامعات البهائية للاستفادة من درس النماذج والبرامج التي تمّت تجربتها من قبل وكالات التنمية المنتشرة حول العالم، واجهت هذه الجامعات تحدّيات تمثّلت في كيفية إيجاد صلة تآلف بين مفهومها للمبادئ والتعاليم البهائية وما وجدته في مجالات شتى شغلت اهتمامها، مثل التربية والتعليم والصحة ومكافحة الأميّة والزراعة وتكنولوجيا الاتّصال والإعلام. ونسبة لعظم الموارد التي كانت تستثمرها الحكومات والمؤسسات التنموية إضافة إلى الثقة والقناعة اللتين نفذت بهما جهود التنمية، كان من المغري جدا أن يكون سعي الجامعة البهائية مجرّد تبنّي أساليب التنمية الجاري استخدامها وتكييف الجهود البهائية لتتوافق مع النظريات السائدة آنذاك. ولكن عندما تطوّر النشاط التنموي وجّهت الهيئات البهائية اهتمامها نحو خلق نماذج مثالية استوعبت خير ما كانت تشاهده من مظاهر التنمية السائدة حولها في المجتمع الخارجي الأكبر لطبعها بطابع المفهوم البهائي الفريد في نوعه المؤمن بما في الإنسان من استعداد وطاقات.
لم تنجح مخطّطات المشاريع المتتالية في أي مكان كما نجحت في الهند في إثبات جدارتها وتبرير فاعليتها على هذه الصورة الرائعة. فالجامعة البهائية في الهند أصبحت اليوم جامعة عملاقة في عالم الأمر الكريم يزيد عدد أعضائها على المليون نسمة، وتتّسع رقعة نشاطها لتشمل مساحات شاسعة من شبه القارّة الهندية واسعة الأطراف التي تحتضن العديد من مختلف الثقافات واللغات والأديان ومجموعات بشرية متعددة الأصول. ومن أوجه مختلفة لخّصت التجربة التي مرت بها في الهند تلك المجموعة من المؤمنين المنعم عليهم بعميم البركات كفاح العالم البهائي وما مر به من اختبارات وما واجه من نكسات وما حقّق من انتصارات خلال الفترة الحرجة للسنوات الثلاثين الماضية. فقد تضاعف عدد الذين سجّلوا أنفسهم كبهائيين تضاعفا مثيرا جلب معه كل المشكلات التي كانت تواجهها الجامعات البهائية الأخرى في العالم ولكن ليس بالضخامة نفسها التي واجهتها الجامعة البهائية في الهند. فالطريق الطويل الذي سلكته تلك الجامعة لتصل إلى ما وصلت إليه من العزة والكرامة كان طريقا محفوفا بأشد المصاعب وأقساها، وهي المصاعب التي هدّد بعضها أحيانا الموارد الإدارية المتوفّرة آنذاك. ولم تكن الانتصارات التي أُحرزت إلا دلالة على ما كان متوقّعا من تأييد سوف يبارك الجهد الذي تبذله الجامعات البهائية في قارات أخرى في مجابهة تحديات مشابهة لما واجهته الهند. وبحلول العام 1985 بلغ نمو الأمر الكريم حدا دعا إلى الاهتمام بصورة أكثر تركيزا مما كان في استطاعة المحفل الروحاني المركزي أن يوفّره بمفرده وذلك لسد احتياجات العديد من مختلف المناطق والاستفادة من الفرص المتاحة هناك. وهكذا تأسست الهيئة الجديدة باسم المجلس الإقليمي البهائي، فكان ذلك بداية مسيرة خلق اللامركزية الإدارية التي برهنت على فاعليتها في العديد من الأقطار الأخرى.
وحين احتُفل في العام 1986 بافتتاح مشرق أذكار الهند و”معبد اللوتس“ الجميل، كان ذلك الحدث بمثابة تتويج لائق لكل النشاطات الجارية آنذاك وما حقّقته من توسيع رقعة الأمر الكريم وتدعيم أركانه. ورغم أن مشروع بناء مشرق أذكار الهند قد ولّد توقّعات مفعمة بالآمال المتفائلة بالنسبة للأثر الذي سيكون للبناء عند إتمامه على مدى الاعتراف بدين الله وإقبال الجماهير عليه، فإن الواقع فاق بصورة لا حد لها أكبر هذه الآمال وأكثرها إشراقا وتفاؤلا. ففي يومنا هذا أصبح مشرق أذكار الهند المحج الأول للزوّار يجتذبهم من كل أنحاء شبه القارة ويرحّب كل يوم بمعدّل يزيد على عشرة آلاف زائر، وتظهر صوره بشكل بارز في ما ينشر من صحف وكتب ومجلات وما ينتج من أفلام سينمائية وما يعدّ من برامج تلفازية. ولقد أعطى الاهتمام الذي أثاره في الناس دين بعث نفسه وتجسّد في قالب على هذه الدرجة من الروعة والإبداع، معنى جديدا لذلك الوصف الذي ساقه حضرة عبد البهاء بالنسبة لمشارق الأذكار حين قال إن مشرق الأذكار هو ”المبلّغ الصامت“ لدين الله.
إن التقدم الذي حقّقته الجامعة البهائية في الهند، أكان ذلك بالنسبة لنموها الداخلي أو بالنسبة لما وطّدته من علاقات مع المجتمع الخارجي الأوسع، إنما يدل بوضوح على ما أقدمت عليه تلك الجامعة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2000 عندما اتّخذت خطوة رائدة في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية. فقد نظّم المحفل الروحاني المركزي في الهند، معتمدا على رصيده من الشهرة والسمعة الطيبة التي فاز بها لدى الأوساط التقدّمية في البلاد عن حق وجدارة، نظّم بالتعاون مع ”معهد الدراسات الخاصة بالرفاه والازدهار العالمي“ حديث التأسيس التابع للجامعة البهائية ندوة علمية حول موضوع ”الدين والعلم والتنمية،“123 اشترك فيها مائة ونيّف من أكثر هيئات التنمية نفوذا في البلاد ونشرت أخبار الندوة وسائل الإعلام الوطنية. وقد سجّل هذا الحدث إسهاما بهائيا متميّزا في تعزيز مسيرة التقدّم الاجتماعي وساعد في تهيئة الأجواء لعقد ندوات مشابهة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى من العالم، حيث تستطيع الجامعات البهائية بما تملك من قدرات خلاّقة أن تساعد في خلق وقولبة نشاط يصبح بحق قصّة من أهم القصص التي تحكى عمّا حققه الأمر الكريم من إنجازات ناجحة.
وخلال هذه السنوات ذاتها شهدت القارة الآسيوية ظهور الجامعة البهائية في ماليزيا التي كانت محركا للنشاطات التوسّعية التي حقّقت أهدافها بسرعة مدهشة وبعثت بمهاجريها ومبلّغيها الجوّالين إلى ما جاورها من أقطار. وقد انعكست آثار هذا التطوّر الذي تحقّق بفضله هذا التقدّم المثير في علاقة الشراكة الروحية التي توثقت بين المؤمنين المتحدّرين من أصل صيني وأولئك المتحدرين من أصل هندي. وقد دأب الزوّار العائدون من ماليزيا على التعبير في أحاديثهم عن اعجاب يبلغ حدّ الدهشة لروعة ما حقّقته الجامعة البهائية الماليزية بنشاطها رغم ما كانت ترزح تحته من عبء ثقيل من العوائق وما يعترضها من حواجز. فكان عملها بمثابة تجسيد للاستعارة المجازية العسكرية التي تعبر عن روح "البطولة والتضحية،“ وهي المجاز الذي استخدمه حضرة شوقي أفندي في آثاره الكتابية في وصف الروح الحقيقية للجهود البهائية المبذولة في المجال التبليغي.
لم يكن النموّ عالمي النطاق للجامعة البهائية العالمية والدروب التي انتهجتها لتقصّي المعرفة كفيلة بأن تحكي لنا بكامل حذافيرها وتفاصيلها قصة تلك العقود المتّسمة بالخلق والإبداع والمبتلاة بالاضطراب في آن معا. وعندما يحين الوقت لكتابة تاريخ هذه الحقبة ويأتي أوانه، لا بد أن يكون اكثر الفصول روعة وتألّقا ذلك الفصل الذي سيروي تلك الانتصارات الروحية والمعنوية التي حقّقتها الجامعات البهائية، وعلى الخصوص في أفريقيا التي عاشت جامعاتها البهائية صامدة رغم ما قاسته من الحروب والإرهاب والاضطهاد السياسي ومن أشد أنواع الفاقة والحرمان، وخرجت هذه الجامعات من هذه التجارب وهي ثابتة الإيمان عاقدة العزم على الاستمرار في نشاطها الذي توقّف لكي تُتمّ بناء حياة جماعية بهائية قابلة للنموّ والازدهار. ففي الحبشة مثلاً، وهي موطن إحدى أقدم الحضارات الإنسانية وأغناها ثقافة وتراثا، تمكّنت الجامعة البهائية هناك من المحافظة على الروح المعنوية للمؤمنين من أعضائها وعلى تماسك بنيتها الإدارية رغم رزوحها تحت نير ضغوط لا هوادة فيها فرضها نظام استبدادي صارم وغاشم. أما بالنسبة للمؤمنين من الأحبّاء في بلاد أخرى من القارة الأفريقية فيصحّ القول إن هؤلاء سلكوا سبل الاستقامة والثبات في أمر الله فقادهم ذلك عبر جحيم من الآلام والمعاناة لا مثيل له في التاريخ الحديث. ولن نجد في ما سجّله التاريخ من أحداث شواهد مثيرة أكثر دلالة على القوة الروحية المحضة من قصص الشجاعة والبسالة وطهارة القلب وصفائه، من تلك القصص التي انبعثت من ذلك الجحيم الذي كوى الأحباء المؤمنين في ما كان يعرف بزائير، وهي القصص التي سوف تهمّ الأجيال القادمة وتسهم إسهاما لا يقدّر بثمن في خلق ثقافة بهائية عالمية. وإلى هذا السجلّ البطولي في الكفاح الروحي أضافت بلاد مثل يوغندا ورواندا ما حقّقته من إنجازات خالدة تخصّها.
وكم كان باعثا على الإلهام أيضا وجود تلك القدرة على الانبعاث والتجديد المكنونة في قلب الأمر الكريم وجوهره، وهي القدرة التي برزت واضحة المعالم في مخيمات اللاجئين في كمبوديا على طول الحدود التايلاندية. وبفضل المجهودات البطولية لنفر معدود من المبلّغين تمّ تشكيل المحافل الروحانية المحلية في أوساط أولئك الذين تعرضوا لحملة من الإبادة الجماعية يستحيل على عقل الإنسان تصّورها، ونجوا بعد أن فقدوا عددا لا يحصى من أعزّائهم علاوة على ما خسروا من متاع الدنيا وما كان يوفّر لهم من حياة مادية آمنة، لكن الشعلة التوّاقة إلى الحقيقة الروحية بقيت متّقدة في نفوس هؤلاء المؤمنين وأرواحهم. وثمة إنجاز آخر رائع شبيه بما سبق ذكره حقّقته الجامعة البهائية في ليبيريا التي طرد أعضاؤها وشرّدوا منفيين في ما جاورهم من الأقطار، فحمل هؤلاء المؤمنون الشجعان معهم إلى منفاهم كل ما يتعلّق بحياة جامعتهم البهائية فشكّلوا المحافل الروحانية وقاموا بتبليغ الكلمة الإلهية واستمرّوا ينظّمون الدروس لأطفالهم وصرفوا أوقات فراغهم في اكتساب مهارات جديدة ووجدوا في فنون الموسيقى والرقص والمسرح قوى للروح أبقت جذوة الأمل متّقدة في قلوبهم في انتظار عودتهم إلى ديارهم.
وفيما كانت دورات التدريب على أساليب تبليغ الكلمة الإلهية إلى الجماهير قائمة، كانت صورة الجامعة البهائية قد بدأت في التحوّل والتغيير. ففي العام 1992 احتفل العالم البهائي بثاني ”سنة مقدّسة“ في تاريخه. وصادفت هذه ”السنة المقدسة“ إحياء الذكرى المئوية لصعود حضرة بهاء الله والإعلان عن عهده وميثاقه. فكان الاحتفال بهذه الذكرى أبلغ من أي تعبير أو كلام، وبرهانا قاطعا على نجاح النشاط التبليغي في أنحاء العالم، إذ أمّ الاحتفال في ”قاعة جافيتس للمؤتمرات“ بمدينة نيويورك سبعة وعشرون ألفا من المؤمنين بينما احتفل آلاف آخرون في تسعة مؤتمرات أخرى فرعية في بوخارست وبونس آيرس وموسكو ونيروبي ونيو دلهي وبنما وسنغافوره وسيدني وساموا الغربية. وشهد مؤتمر نيويورك لحظة أخذت بمجامع قلوب الحاضرين، وذلك عندما تم الاتّصال عن طريق الشبكات الفضائية بالاحتفال الذي كان يقيمه البهائيون في موسكو، فاهتزت النفوس فرحا وارتعشت سرورا لسماع التحيات البهائية باللغة الروسية التي يتحدث بها مائتان وثمانون مليونا من الناس يقطنون في ما لا يقل عن خمسة عشر قطرا من الأقطار. كان هذا الحدث بمثابة الإعلان عن مرحلة جديدة من مراحل استجابة الإنسانية لدعوة حضرة بهاء الله.
شهد كلُّ من مؤتمري موسكو وبوخارست عودة جامعات بهائية كادت أن تزول من الوجود تقريبا نتيجة للاضطهاد الذي مارسه الاتّحاد السوفييتي والمتعاونون معه من الأنظمة التي كانت تدور في فلكه، وعاد علي أكبر فروتن، وهو أحد آخر أيادي أمر الله الثلاثة الذين بقوا على قيد الحياة، إلى روسيا وقد بلغ سن السادسة والثمانين وهو يمتلئ غبطة وسرورا ليحضر المؤتمر الافتتاحي للوكلاء المجتمعين لانتخاب المحفل الروحاني المركزي لتلك البلاد بصفته ممثّلا لبيت العدل الأعظم. وسرعان ما نشأت المحافل الروحانية المحلية في كل الأقطار التي تم فتحها إضافة إلى انتخاب ستة محافل روحانية مركزية. وخلال فترة وجيزة من الزمن تشكّل في البلاد الواقعة على طول حدود الإمبراطورية السوفييتية السابقة، حيث كان الأمر الكريم ممنوعا ومحرّما، عدد إضافي من المحافل الروحانية المحلية إضافة إلى ثمانية محافل روحانية مركزية نتيجة نشاطات الهجرة والتبليغ في تلك الديار. وفيما تمت ترجمة الآثار البهائية إلى مجموعة جديدة من اللغات اتُّخذت إجراءات نشطة للحصول على اعتراف رسمي بالأمر الكريم من قبل السلطات المدنية، كما شرع ممثّلون عن الدين البهائي من دول أوروبا الشرقية والبلدان التي كانت جزءا من الكتلة السوفييتية سابقا، في مشاركة إخوانهم في الدين العمل في مجال الشؤون الخارجية للأمر الكريم على نطاق دولي وعالمي واسع.
وهكذا تدريجيا بدأت الرسالة الإلهية تجد ترحيبا بها في أجزاء متعددة من الصين ولدى الجماعات الصينية المغتربة خارج وطنها. وتمّت ترجمة الآثار البهائية إلى لغة ”ماندارين“ الصينية كما دعت الجامعات العلمية في العديد من مدن تلك البلاد الأساتذة والباحثين البهائيين لإلقاء المحاضرات فيها، وتأسّس مركز للدراسات البهائية في معهد بكين المرموق والخاص بدراسة الأديان العالمية،124 وهو المعهد التابع لأكاديمية العلوم الاجتماعية. هذا وقد عبّرت شخصيات صينية عن بالغ إعجابها بالمبادئ التي اطلعت عليها في الكتب البهائية. ولا يسع المرء في ضوء ما أغدقه حضرة عبد البهاء من مديح على الحضارة الصينية ودورها المستقبلي في مقدّرات العالم الإنساني، إلا وأن يتوقع في الآتي من السنين إسهاما خيّرا وخلاّقا في الحياة الفكرية والأخلاقية والمعنوية لديننا العزيز من قِبل المؤمنين المنتمين إلى الخلفية الصينية.125
وعندما حانت اللحظة لصياغة مشروع عالمي مدعوم بما توفّر للجامعة البهائية من فهم ثاقب ومن الموارد التي تمت تنميتها اتّضحت جليّة أهمية هذه العقود الثلاثة من الجهد والكفاح واكتساب المعرفة والخبرات وما تم من البذل والتضحيات. ولا يغرب عن البال أن الجامعة البهائية التي باشرت بتنفيذ مشروع السنوات الأربع العام 1996 كانت تختلف كل الاختلاف عن تلك الجامعة التي كانت تضمّ مجموعة من المؤمنين المتحمّسين الجدد تعوزهم الخبرة والدراية فغامروا في العام 1968 وقاموا بتنفيذ أول مشروع من تلك المشاريع العالمية التي لم يعد في الإمكان تنفيذها تحت رعاية حضرة ولي الأمر وهدايته الرشيدة. وبحلول العام 1996 صار بالإمكان رؤية كل الجهود المبذولة في ما سبق من المشاريع بعناصرها المتميزة بأنها أجزاء لا تتجزأ من مشروع عالمي واحد متكامل.
أملى هذا الإدراك الذي تحقّق نتيجة لما تعلّمته الجامعة البهائية من العظات والدروس ضرورة إلقاء نظرة فاحصة كانت الحاجة إليها ماسة لتحديد ما تحقّق من إنجازات. فكان انتشار الأمر الكريم في العقود الثلاثة الماضية بمثابة مقياس لمدى استجابة عدة ملايين من البشر لرسالة حضرة بهاء الله ممن بلغتهم الرسالة وتأثّروا بها أعمق الأثر إلى حد أعلنوا فيه تعاطفهم ودعمهم للأمر الكريم. فقد أدرك هؤلاء أن صاحب رسالة إلهية جديدة قد ظهر ودخل قلوبهم شيء من روح الإيمان وتأثّروا أبلغ التأثر بما وجدوه في التعاليم البهائية من دعوة إلى وحدة العالم الإنساني. ولم يستطع إلا نفر قليل من هؤلاء تجاوز هذه المرحلة وإقران السعي والعمل بالإيمان، أن يذهبوا في مساعيهم أبعد من ذلك. فقد كان هؤلاء المؤمنون في معظم الأحيان أشخاصا بلغتهم الكلمة الإلهية أصلا عن طريق برامج تبليغية نفّذها المهاجرون والمبلغون القادمون من خارج بلادهم. ولعلّ أهم مصادر القوة لدى جماهير البشر الذين جاء منهم من تسجّل من المؤمنين الجدد يكمن في انفتاح القلوب وصفائها لدى تلك الجماهير فيغير النفوس وينبّه طاقاتها لتحدث تحوّلات اجتماعية مستديمة. أما أعظم المعوّقات عند تلك الجماهير بالذات فقد كانت حالة الاستسلام والاستخذاء التي ثبتها في النفس جيلا بعد جيل النفوذ الخارجي الغريب بغض النظر عمّا حقّقه هؤلاء من فوائد ومكاسب مادية. وتبعا لذلك كانت برامج نشاطاتهم في أغلب الأحيان واهية الصلة، إن لم تكن بعيدة كل البعد، عن واقع الحال بالنسبة لاحتياجات أهل البلاد ومتطلبات حياتهم اليومية.
تمّت صياغة مشروع السنوات الأربع إذاً بقصد الاستفادة ممّا توفّر آنذاك من فرص متاحة ونظرة ثاقبة للأمور فسجّل على هذا النحو تقدما كبيرا على المشاريع التي سبقته مباشرة. وهكذا أصبح هدف دخول الناس أفواجا في أمر الله الهدف الوحيد الذي سيطر على الأفكار كافة في هذا المشروع. وأكدت الدروس المستقاة من المشاريع السابقة أهمية تنمية قدرة الأحبّاء أينما كانوا، حتى يهبّ الجميع بثقة واعتداد لنصرة أمر الله ورفع لواء رسالته. أما الأداة لتحقيق هذا الهدف فقد تم صقلها وإعدادها بدأب خلال المشاريع السابقة وأخيرا قدّمت البرهان على مدى فاعليتها ونجاحها.
ابتدع حضرة عبد البهاء هذه الأداة قبل عشرات السنين كما ابتدع غيرها من الطرق والأساليب والنشاطات الأخرى التي كانت دائما تساعد الأمر الكريم على التقدّم والازدهار. فقد حثّ حضرة عبد البهاء في ألواح الخطة الإلهية الأحبّاء المتعمّقين ”على جمع الشبان اليافعين الناشئين بمحبة الله في مدارس التبليغ، فيعلمونهم البراهين الإلهية والحجج والأدلة ويشرحون لهم تاريخ الأمر المبارك ويفسّرون لهم جميع الأدلة الواردة في الكتب والصحف الإلهية السالفة حول ظهور الموعود“126 فلقد سبق أن شهدت إيران في أوائل هذا القرن نشاطا من هذا القبيل في مجالي الهجرة والبرامج التدريبية المنظّمة قام بها المعلم والمربّي المحبوب المعروف باسم صدر الصدور.127 وازداد عدد المدارس الصيفية والشتوية على مر السنين وشجّعت المشاريع المتعاقبة على إجراء التجارب والاختبارات بحثا عن أنجع الطرق لتنمية المعاهد الدراسية البهائية وتطويرها.
ولعلّ أهم تقدّم في هذا المضمار تحقّق في فترة تزيد على عقدين من الزمان. وكانت البداية في العام 1970 في كولومبيا حيث وضع برنامج منتظم ودائم لدراسة الآثار المقدّسة والتعمّق فيها. وسرعان ما تم اعتماد هذا البرنامج وعُمل به في أقطار مجاورة. كان هذا البرنامج من نتائج تلك الجهود الموازية التي بذلتها الجامعة البهائية في كولومبيا في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ولعلّ ما يزيد من روعة هذا الإنجاز المدهش أيضاً كونه تحقّق في جو سادت فيه مظاهر العنف والتمرّد والفوضى التي شغلت بال المجتمع الخارجي العام المحيط بالجامعة البهائية في تلك البلاد وأفدت حياته.
كان هذا الإنجاز الكولومبي مصدر إلهام بالنسبة للجامعة البهائية في أماكن أخرى من العالم. ولم يكد مشروع السنوات الأربع يأتي إلى نهايته حتى كان عدد المشتركين في برامج المعاهد التدريبية على نطاق عالمي يزيد على مائة ألف من المؤمنين، بينما كان عدد تلك المعاهد يربو على ثلاثمائة معهد دائم. وخطت معظم معاهد التدريب الإقليمية خطوات أبعد في هذا السبيل حين قامت بتنفيذ هذا الهدف فخلقت شبكة من ”الحلقات الدراسية“ تستثمر المواهب المتوفّرة لدى الأحباء في تطبيق نشاطات تلك المعاهد على نطاق محلي. ويبدو واضحا الآن أن نجاح المعاهد التدريبية في عملها قد دعم دعما عظيما، وعلى المدى البعيد، تلك المسيرة نحو صياغة نظام عالمي خاص بقضايا التربية البهائية.128
ورغم أن الجهود المبذولة في هذه العقود كانت نسبيا متواضعة إذا ما قورنت بذلك المستوى الذي سجّله العصر البطولي، فإنها رغم ذلك تفتح للجيل الراهن من البهائيين نافذة يطل منها على ما وصفه حضرة شوقي أفندي بقـوله: إن تاريخ الأمر الكريم في طبيعته يتكوّن من دورات هي ”سلسلة من الأزمات الداخلية والخارجية التي تختلف في شدّتها ومدّتها، وتتفق في آثارها المدمّرة المباشرة، إلا أن كل أزمة منها كانت تطلق بصورة غيبية مقدارا ملائما من القوة الإلهية التي تدفعه من جديد إلى التقدّم والتفتّح.“129 وترسم لنا هذه الكلمات عند وضعها في إطار منظورها الصحيح سلسلة الجهود التي بذلت والتجارب التي أجريت والمآسي التي وقعت والانتصارات التي تحقّقت والتي ميّزت كلُّها الإقدامات الأولية في مجال إبلاغ الكلمة الإلهية على نطاق واسع إضافة إلى أنها هيّأت الجامعة البهائية لتحديات أعظم في المستقبل.
كانت الأغلبية الساحقة من جماهير البشر عبر التاريخ مجرّد جماهير متفرّجة في أفضل الحالات، وكان دورها في مسيرة التقدّم الحضاري تلك لا يتعدى خدمة أهداف صفوة أو نخبة من المتنفّذين استطاعت أن تسيطر على مقدرات تلك المسيرة. وحتى الأديان الإلهية المتتابعة التي تستهدف تحرير الروح الإنسانية وجدت نفسها في نهاية الأمر أسيرة ”النفس الأمّارة“ فتقلّصت وتجمّدت في ما صنعه البشر من العقائد والطقوس وما ابتدعوه من امتيازات منحت لرجال الدين ناهيك بما زرعوه من الصراعات المذهبية. وهكذا وصلت هذه الأديان إلى ختام دوراتها وقد أحبطت غاياتها الأصليّة وخُيّبت آمالها.
جاء حضرة بهاء الله ليحرّر الجنس البشري من ربقة هذه العبودية التي طال أمدها. وكرّست جامعة أتباعه المؤمنين كل جهودها في العقود الختامية للقرن العشرين لإجراء التجارب الخلاّقة وامتحان أنجع الوسائل والأدوات لتحقيق ما قصد إليه حضرة بهاء الله من الأهداف والغايات. فإن تنفيذ الخطة الإلهية يستدعي على الأقل مشاركة كاملة للإنسانية بأسرها في الجهود المبذولة لتحقيق نموّها الروحي والاجتماعي والفكري. فالتجارب والامتحانات التي تعرّضت لها الجامعة البهائية في العشرات من السنين منذ العام 1963 كانت ضرورية لشحذ الهمم وتطهير النيّات ليصبح أولئك الذين سوف يسهمون في هذه المسيرة لائقين ومؤهّلين لتنفيذ ما أؤتمنوا عليه من أمانة على هذه الدرجة من العظمة والسمو. فمثل هذه الامتحانات تقوم بمثابة أقوى دليل على أن العالم الإنساني قد بلغ في مسيرته مرحلة النضج والرشاد التي أشار إليها حضرة عبد البهاء بكل ثقة واعتداد كما يلي:
تظهر بعض الحركات الاجتماعية وتنشط فاعلة لمدة وجيزة ثم تتوقّف. وهناك غيرها من الحركات تبدي لنا قسطا أعظم من النمو والقوة ولكن قبل بلوغها مرحلة النضج يصيبها الضعف فتنهار ليطويها النسيان … وهناك نوع آخر، حركة كان أم أمرا، تكون بدايته بسيطة جدا وغير ملحوظة لا يكاد أن يلتفت إليها أحد، ولكنها تسير قُدُما بعزم وثقة وتتقدّم تقدّما وطيدا وتتوسّع تدريجيا وتنتشر حتى تحوز أبعادا عالمية. إن الجامعة البهائية هي من هذا النوع الأخير.130
- 10 –إن الرّسالة الإلهية التي جاء بها حضرة بهاء الله لا تقتصر أهدافها على تشييد الجامعة البهائية فحسب، بل هي رسالة موجهة إلى العالم الإنساني بأسره. وسوف تحظى هذه الرسالة بتأييد نُظُم المجتمع ومؤسساته بالقدر الذي تصبح فيه الجامعة البهائية مثلا يُحتذى يبعث الإلهام في تلك النظم ويحفزها للسعي نحو إرساء أسس مجتمع يسوده العدل والإنصاف. ولو أردنا أن ندرك أهمية ما عَنِيَت الرسالة الإلهية بتحقيقه في هذين المجالين المتوازيين ينبغي لنا أن نعيد إلى الذاكرة ما صرفه حضرة بهاء الله من وقت وبذله من جهد في سبيل تنمية علاقات طيبة مع كل من المسؤولين الرسميين وقادة الفكر ووجهاء مختلف الطوائف الممثلة للأقليات، إضافة إلى ممثلي الحكومات الأجنبية المعتَمدين لدى البلاط الإمبراطوري العثماني. وتجلّى التأثير المعنوي لهذا الجهد المبذول واضحا في الإطراء الذي أبداه حتى ألد الأعداء الذين نوّهوا بما تحلّى به حضرة بهاء الله من خلق عظيم وما أظهره من تعاليم. وكان من هؤلاء، مثلا، الوزير العثماني علي باشا والسفير الفارسي ميرزا حسن خان. أما الأول، فرغم إصداره حكما بنفي سجينه الجليل إلى قلعة السجن عكا، لم يستطع إخفاء مشاعر الإعجاب بحضرة بهاء الله وهي التي دفعته إلى وصفه قائلا: ”إنه رجل متميّز كامل الصفات، على خلق مثالي وسيرة عطرة، معتدل كل الاعتدال، وذو شخصية ذات وقار بالغ.“ و في ما يتعلق بالتعاليم التي جاء بها فقد كانت في نظر الوزير العثماني ”تعاليم تستحق التقدير والتبجيل.“131 وأما بالنسبة للسفير الفارسي الذي دسّ الدسائس وكان المسؤول عن إثارة الضغائن ضد حضرة بهاء الله في أذهان كل من علي باشا وزملائه من الوزراء العثمانيين، فقد اعترف ذلك السفير لاحقاً بوجود تباين شـاسع بين ما كان يتمتع به حضرة بهاء الله من علو المقام بفضل أفكاره وأخلاقه وبين السّمعة التي وصمت معظم مواطنيه الفرس الآخرين من قاطني القسطنطينية الذين عُرفوا بالجشع وانعدام الأمانة فألحقوا بالغ الضرر بالعلاقات العثمانية الفارسية.
تابع حضرة عبد البهاء منذ البداية بعناية بالغة الجهود المبذولة في سبيل خلق نظام عالمي جديد. فمن الأهمية بمكان أن نلاحظ مثلا أن حضرة عبد البهاء أكّد في أحاديثه العامة الأولى أن غرض زيارته للقارة الأمريكية الشمالية كان بصورة خاصة استجابة للدعوة التي وُجّهت إليه من قبل اللجنة التحضيرية التابعة لمؤتمر بحيرة موهونك للسلام لإلقاء محاضرة في أعضاء ذلك المؤتمر العالمي. كما أنه حثّ على الدعم الواسع لنشاطات الهيئة المركزية في لاهاي ولم يبخل بتشجيعه لتلك الهيئة الداعية لقيام سلام عالمي دائم. ولكن حضرة عبد البهاء كان صريحا كامل الصراحة في ما قدّمه من نصائح حول هذا الموضوع. أما الرسائل التي بعثت بها اللجنة التنفيذية أثناء الحرب العالمية الأولى إلى حضرة عبد البهاء فقد أتاحت له الفرصة للرد عليها ولفت نظر أعضاء تلك الهيئة إلى ما أعلنه حضرة بهاء الله سابقاً بأن الحقائق الروحية وحدها هي الكفيلة بوضع الأسس التي سوف تساعدهم على تحقيق أهدافهم:
أيها الرّوّاد الأجلاّء المتقدّمون صفوف أولئك الذين يبغون الخير والصلاح للعالم الإنساني … فالسلام العالمي أمر على جانب عظيم من الأهمية في الوقت الراهن ولكن ’وحدة الضمير‘ مسألة ضرورية أيضا حتى يقوم السلام العالمي ثابت الأساس، متين البنيان، قوي الصرح … فاليوم ليس هناك سوى نفوذ الكلمة الإلهية الجامعة لحقائق الأشياء تستطيع أن توحّد الأفكار والعقول والقلوب والأرواح، وتؤلّف بينها تحت ظل شجرة واحدة. إنه القادر على كل شيء، المحيي للنفوس والأرواح، وإنه الحافظ الضابط للعالم الإنساني.132
وعلاوة على ذلك فإن قائمة الأشخاص من أصحاب النفوذ الذين اجتمع بهم حضرة عبد البهاء أثناء زيارته لأمريكا الشمالية وأوروبا، وخاصة أولئك الساعين لرفع شأن موضوع السلام العالمي والداعين لخير العالم الإنساني، تكشف لنا عن وعي حضرة عبد البهاء بالنسبة لمسؤوليات الأمر الكريم تجاه العالم الإنساني الواسع كله. واستمر حضرة عبد البهاء في خدمة قضية السلام إلى آخر أيام حياته، كما يشهد بذلك ما كان لرحيله عن هذا العالم من صدىً خارق للعادة.
وحين تولّى حضرة شوقي أفندي مهام ولايته بادر على الفور إلى تبنّي هذه التّركة التي ورّثها إياه حضرة عبد البهاء. وفي وقت مبكر منذ العام 1925 شجّع إحدى المؤمنات الأمريكيات هي السيدة جين ستانارد على تأسيس ”المكتب البهائي العالمي“ وأشار عليها بالتوجّه إلى جنيف حيث المقر الدائم لعصبة الأمم. ورغم أن ”المكتب البهائي العالمي“ لم تكن له صلاحيات إدارية فإن نشاطاته – كما وصفها حضرة وليّ أمر الله – كانت تتمثّل في كونه ”وسيطاً بين المركز العالمي للأمر في حيفا وغيره من المراكز البهائية“ فضلاً عن كونه أيضا بمثابة ”مركز للإعلام والنشر“ في وسط القارة الأوروبية. وتم الاعتراف الرسمي بدور هذا المكتب عندما طلبت منه دائرة المنشورات في عصبة الأمم تقريرا عن نشاطاته وقامت تلك الدائرة نفسها بطبعه وتوزيعه.133
وكما هي الحال في تاريخ الأمر الكريم غالبا ما تسهم أزمة مفاجئة إسهاما عظيما في تعجيل ارتباط الجامعة البهائية بالمجتمع الأوسع وتعاملها معه على المستوى العالمي. ففي العام 1928 حثّ حضرة شوقي أفندي المحفل الروحاني في بغداد على التقدّم بالتماس إلى المفوضيّة الدائمة للانتداب والتابعة لعصبة الأمم ضد المناوئين من أهل الشيعة لرفع الحجز عن بيت حضرة بهاء الله في مدينة بغداد ومنعهم من الاستيلاء عليه. وتحقّق لدى مجلس عصبة الأمم بأن ظلما قد لحق بالبهائيين فقرّر بالإجماع مناشدة سلطات الانتداب البريطانية في آذار (مارس) من العام 1929 ”أن تتّصل بحكومة العراق حتى تجري العدل مجراه وترفع الظلم الذي لحق بالملتمسين“. ولكن الحكومة العراقية استمرت في المماطلة والمراوغة ولاسيّما أنها نقضت أيضا العهد الأكيد الذي قطعه ملك البلاد واعدا بإعادة البيت المبارك إلى البهائيين. وهكذا استمرت القضيّة تراوح مكانها لسنوات عديدة متعاقبة بينما عمدت مفوضية الانتداب إلى النظر في القضية في جلساتها المتعاقبة ولكن دون التوصل إلى حل. ولذا فقد ظل البيت المبارك إلى يومنا هذا تحت سيطرة أولئك الذين استولوا عليه دون رفع الإجحاف وردّ الأمور إلى نصابها الصحيح.134 إلا أن فشل السلطات العراقية في الفصل في القضية لم يثن حضرة شوقي أفندي أو يوهن عزمه فحفز الجامعة البهائية لأن تمعن النظر وتعتبر المكاسب التي حقّقتها جهود متابعة القضية وما شكّلته من سابقة تاريخية في تاريخ الأمر الكريم شأنها في ذلك شأن القضية السابقة التي رفعتها الجامعة البهائية المصرية. وكما علق حضرة ولي أمر الله سابقا على القضية التي رفعتها الجامعة البهائية المصرية بخصوص عقود الزواج البهائية أمام المحكمة الشرعية الإسلامية السنيّة عاد فعلّق على القضية العراقية قائلا:
ولكن يكفينا أن نقول إنه برغم هذه المماطلات والتسويفات والاحتجاجات والمرافعات وعجز السلطات المختصة الظاهر في ما يختص بتنفيذ التوصيات التي أوصى بها مجلس عصبة الأمم و[المفوضية الدائمة للانتداب التابعة للمجلس المذكور] فإن الشهرة الواسعة النطاق التي أكسبتها للدين هذه الخصومة الباقية الذكر والدفاع الذي دافعت به أعلى محكمة عالمية عن قضيته، قضية الحق والعدل، كان مما أثار دهشة أصدقائه وجزع أعدائه.135
وفتحت الأمم المتحدة لأمر الله عند تأسيسها مجالا أوسع نطاقا وأبعد أثرا أمام مساعيه الحثيثة لبعث الروحانية في حياة المجتمع الإنساني. ففي وقت مبكر منذ العام 1947 توجّهت ”اللجنة الخاصة بفلسطين“ والتابعة لهيئة الأمم المتحدة إلى حضرة وليّ أمر الله لتستفتي رأيه حول مستقبل الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت حكم الانتداب البريطاني، وأتاح الرد على هذا الاستفتاء فرصة مناسبة لحضرة ولي أمر الله كي يقدّم عرضا موثّقاً لتاريخ الأمر الكريم والتعاليم التي ينادي بها. وفي العام نفسه، وبتشجيع من حضرة شوقي أفندي، قام المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا بإصدار وثيقة بعنوان ”إعلان بهائي للتعهدات والحقوق الإنسانية“ موجّهة إلى الأمم المتحدة، أصبحت في العقود اللاحقة مصدر الإلهام 136 بالنسبة للبهائيين من أصحاب القلم أو من المتحدثين رسميّاً باسم أبناء الجامعة البهائية. ولم يكد يمضي عام واحد حتى تمكّنت المحافل الروحانية المركزية الثمانية القائمة حينئذ من الحصول على اعتراف رسمي من السلطة المختصة في هيئة الأمم المتحدة كمنظمة غير حكومية تحمل اسم ”الجامعة البهائية العالمية“.
لم تكن العلاقة النامية ببطء بين الأمر الإلهي والنظام العالمي الجديد هي العلاقة الوحيدة التي فازت بمثل هذا الدعم من قبل حضرة ولي أمر الله. فصفحات ”كتاب القرن البديع“ لحضرة شوقي أفندي والذكريات التي دوّنتها عن حضرته أمة البهاء روحية خانم مليئة بأخبار الهيئات والشخصيات النافذة ممن استجاب للمبادرات التي أقدم عليها حضرة ولي أمر الله، إضافة إلى أخبار النشاطات الأخرى في مختلف أنحاء العالم التي دُعي إلى الإسهام فيها ممثلون عن البهائيين. وما من شك في أن تراود الحيرة وتعتري الدهشة أيَّ ممعن للفكر في المنظور التاريخي لهذه الأحداث حين يجد الفارق الشاسع بين مناسبات كثيرة تكاد تكون عديمة الشأن نسبيا وبين الأهمية التي أولتها لها شخصية فذّة ذات شأن خطير كوليّ أمر الله ليس فقط بالنسبة لإسهاماته المتعلّقة بمستقبل الإنسانية، ولكن أيضا بالنسبة لما تمتّع به من إدراك عميق لأهمية الأحداث الجارية من حوله. ولعلّ الجامعة البهائية تجد في هذا السجل الذي خلّفه لها حضرة شوقي أفندي أسوة حسنة ترشدها إلى كيفية الاستفادة من الفرص النابعة من بدايات متواضعة.
منذ اللحظة الأولى لاعتمادها رسميا منظمةً غير حكومية قامت الجامعة البهائية العالمية بدور نَشِطٍ فعّال في شؤون الأمم المتحدة وأعمالها. ومن جملة النشاطات التي جلبت لهذه الجامعة عظيم التقدير تلك البرامج التي اشتركت في تنفيذها شبكة متنامية من المحافل الروحانية، والتي كان هدفها التعريف بالأمم المتحدة تعريفا عاما ودعم الجمعيات المؤيّدة لها، والمكابدة من أجل البقاء دعما وفيرا في كل أنحاء العالم. ولم يكد يحلّ العام 1970 حتى تمكّنت الجامعة البهائية العالمية من الفوز بعضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (ECOSOC) كهيئة استشارية. وفازت الجامعة البهائية في العام 1974 بحق الانضمام إلى برنامج الأمم المتحدة الخاص بالبيئة(UNEP) ، إضافة إلى منحها حق العضوية في العام 1976 كهيئة في الصندوق الدولي لـرعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة (UNICEF). وتجلّى النفوذ الذي حقّقته الجامعة البهائية العالمية إضافة إلى الخبرة التي اكتسبتها في تلك السنوات في قدرتها في العام 1955 والعام 1962 على حمل الأمم المتحدة للتدخّل في كل من إيران والمغرب على التوالي لحماية البهائيين مما كانوا يعانونه من ظلم واضطهاد.
*شهد العام 1980 فجأة مرحلة جديدة من النمو والتطوّر في نشاطات الجامعة البهائية العالمية في مجال العلاقات الخارجية التي تمّ تحقيقها بالمثابرة الدؤوب. وكان الباعث على ذلك محاولة رجال الدين الشيعة في إيران القضاء نهائيا على أمر الله الكريم في موطنه الأصيل. وما كان لأحد من المؤيّدين أو المناهضين على السواء التنبّؤ أو التكهّن سلفا بما نجم عن هذه المحاولة من آثار ونتائج.
فطوال عقود الزمن المديدة التي كان المؤمنون في مهد الأمر الكريم يتعرضون فيها لحملات متقطّعة من الاضطهاد بتحريض وتوجيه من علماء الدين الشيعة، تواطأ الملالي متحالفين في هجمتهم على البهائيين بسبب معتقداتهم، وكان علماء الدين الشيعة هم المحرّضون أيضا على هذا الاضطهاد والقائمون بدور قيادي في الهجمة التي تعرض لها البهائيون، كما أنهم تواطأوا على ذلك متحالفين مع من تعاقب من الملوك والسلاطين. وكان هؤلاء الملوك في الظاهر يتمتّعون بسلطة مطلقة لا ينازعهم فيها أحد، ولكنهم في الحقيقة كانوا يخضعون لحساباتهم واعتباراتهم السياسية التي جعلتهم عاجزين عن مقاومة أي ضغط أجنبي، خاصة من قبل الحكومات الغربية. وهذا ما حدث بالنسبة لناصر الدين شاه الذي وجد نفسه أمام سورة الغضب التي عبّرت عنها احتجاجات البعثات الدبلوماسية الروسية والبريطانية وغيرها، فاضطرته مرغما إلى إنهاء موجة العنف والتنكيل التي اجتاحت البلاد وأودت بحياة كثير من المؤمنين في بداية العقد الخامس من القرن التاسع عشر وهدّدت بالخطر حياة حضرة بهاء الله نفسه. وفي غضون القرن العشرين حرص خلفاء ناصر الدين شاه من الأسرة القاجارية على استرضاء الدول الأجنبية وتهدئة خواطرها، وعادت الأمور مرة أخرى في العام 1955 فتكرّر نمط الأحداث السابقة ونجح رجال الدين الشيعة في إغراء ثاني ملوك آل بهلوي واستعدائه على البهائيين فأذن بشنّ موجة جديدة من العنف والتنكيل ضدّهم. ولكن الشاه سرعان ما وجد نفسه مرغما على إجهاض تلك الحملة فجأة نتيجة لاحتجاج هيئة الأمم المتحدة واعتراضات الحكومة الأمريكية. وقد حملت هذه التدخلات في طيّها تباشير ما سوف يحدث في المستقبل دفاعا عن البهائيين في إيران وحفظا لكيان جامعتهم.
غير أن مثل هذه الضوابط التي كانت تحكم سلوك رجال الدين الشيعة قد أزالتها الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979. وعلى حين غرّة استولى رجال الدين الشيعة على السلطة وعيّنوا مرشحيهم في أعلى المناصب في الجمهورية الجديدة، ثم استولوا هم بالتدريج على هذه المناصب ليحتلوها مباشرة بأنفسهم. ومن ثمّ شكِّلت ”المحاكم الثوريّة“ التي لم تكن مسؤولة أمام أحد إلا كبار رجال الدين. وسيطر على كل جانب من جوانب الحياة العامة جيش سمي ”حرّاس الثورة“. فكان هؤلاء أبعد نفوذا وسطوة من الشرطة السّرية (قلم المخابرات) التي شكلها الشاه وكانوا أيضا كتلك الشرطة عنفا وشراسة.
وفيما كانت الطبقة الجديدة الحاكمة تركّز جلّ اهتمامها في مجابهة ما اعتقدت أنه تهديد موجّه إليها من قبل دول أجنبية، ظنّت عناصر متنفّذة داخل تلك الطبقة الحاكمة أن الفرصة قد حانت أخيرا للقضاء على الجامعة البهائية في إيران.137 أما التفاصيل المروّعة للحملة التي شُنّت على الجامعة البهائية بعد ذلك فلا حاجة لسردها هنا في هذا السياق. فأهمية ما حدث تكمن بالأحرى في الكيفية التي واجه بها هذه الأحداث في كل أنحاء البلاد الآلاف من البهائيين رجالا ونساء وأطفالا فرفضوا المساومة على دينهم حتى ولو كبّدهم ذلك حياتهم. فبعث هذا الصمود في نفوس إخوانهم من المؤمنين في كل أنحاء العالم روحا عالية من التفاني فكرّسوا أنفسهم بعزم جديد لخدمة هذا الأمر الذي بُذلت في سبيله كل هذه التضحيات. غير أن الأثر العميق الذي تركته هذه الأحداث لم يكن بالنسبة للبهائيين فقط. فعلى سبيل المثال، وقبل عدة عقود من الزمان كتب أحد المعلّقين الغربيين البارزين في العام 1889 يصف آيات البطولة التي ميّزت مطالع أنوار هذا الدين، فكان تعليقه على المعاناة التي تحمّلها المؤمنون الأوائل معبّراً عن نظرة مستقبلية للأحداث الجارية آنذاك:
إن الصفات التي انفردت بها هذه الدعوة الرائعة وطبعتها بطابع خاص بها نجدها متمثّلة في حياة هؤلاء الأبطال وفي مماتهم، كما نجدها كذلك في الآمال التي أفعمتهم دون أن يتطرق إليها اليأس، أو في العشق الذي اشتعل في نفوسهم دون أن تخبو له جذوة، أو في الصمود الذي أبدوه دون أن يزعزعه شيء … فليس من السهل تحمّل ما تحمّله هؤلاء من عذاب ومعاناة لم تكن يسيرة، ولعلّ الأمر الذي اعتبره هؤلاء مساويا في عزّته للحياة ذاتها أمر جدير بأن نحاول تفهّمه. ولن أتحدّث هنا عن الأثر الهائل الذي سوف يكون للدين البابي في المستقبل كما أعتقد، ولا عمّا سوف ينفخه من روح للحياة جديدة في جسد شعب ميت. وسواء كان نصيب هذا الدين النجاح أو الفشل فإن البطولة الرائعة التي تحلّى بها الشهداء البابيون بطولة خالدة لا سبيل إلى طمسها أو محوها … غير أنني مهما كان أملي فأنا عاجز عن أن أنقل إليكم عِظَم النية الصادقة والعزيمة الثابتة التي تجلّت عند هؤلاء الأبطال، كما أنني عاجز أيضا عن أن أنقل إليكم ذلك الأثر الذي لا يوصف والذي تتركه تلك النية الصادقة والعزيمة الثابتة في نفس كل من يلتقي أو يتصل بهم.138
عبّرت هذه الكلمات وبصورة مسبقة عن شعور مماثل عمّ المراقبين من غير البهائيين في السنوات التي شهدت قيام الثورة الإسلامية في إيران، وصار هذا الشعور أحد أقوى العوامل التي دفعت بأمر الله العزيز للخروج من غياهب المجهولية، كما عبّرت هذه الكلمات المبكرة تعبيرا دقيقا عن ذلك الجوهر الروحي الذي كان دائما عرضة للمخاطر في مهد الأمر الكريم. وتخطّت الأمور مشاعر الاشمئزاز تجاه ذلك الاضطهاد الوحشي الأرعن، فظهرت مجموعة متزايدة من أصحاب الرأي خارج إيران وقد اهتزّت مشاعرها متأثرة بالغ الأثر إزاء موقف المسالمة واللاعنف الذي اتخذه البهائيون الإيرانيون ردا على هذا الاضطهاد الغاشم.
غرق القرن العشرون للأسف في دوّامة من الآلام والمصائب لحقت بعدد لا يحصى من ضحايا الجور والاضطهاد. ولعلّ الموقف الذي تبنّاه البهائيون تجاه ما احتملوه من المعاناة هو الذي ميّز وضعهم ليصبح وضعا فريدا لا مثيل له. فلقد رفض المؤمنون الإيرانيون أن يكون دورهم هو الدور المعتاد للضحيّة التي لا حول لها ولا قوّة. إذ نهض هؤلاء، كما فعل من قبلهم مؤسسا الأمر، ليتولّوا زمام الأمور و ليصبحوا أسياد الموقف في تعاملهم مع القضية العظمى القائمة بينهم وبين مناوئيهم. فبادروا هم، وليس المحاكم الثورية أو الحرس الثوري إلى وضع شروط المواجهة وحدودها. وقد حرّك هذا الإنجاز البارع النفوس وشحذ الأفكار وفتح العقول لدى من راقب الأحداث من غير البهائيين، فلم تشهر الجامعة المضطهَدة السلاح في وجه المعتدين عليها ورفضت أن تستغل الأزمة القائمة لتحقيق مكاسب سياسية كما لم يطالب بهائيو البلاد الأخرى الذين هبّوا للدفاع عن إخوانهم الإيرانيين بإلغاء الدستور الإيراني، وكانوا أبعد ما يكون عن المناداة بالثأر والانتقام، بل طالب الكلّ بإحقاق العدل والإنصاف والاعتراف بالحقوق التي ضمنتها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، تلك الشرعة التي أقرّتها الأسرة الدولية وصادقت عليها الحكومة الإيرانية، إضافة إلى أن معظم تلك الحقوق المطالَب بها قد أُدرجت في بنود دستور الدولة الإسلامية.
استنهضت هذه الأزمة همم العالم البهائي فحقّق أعظم الإنجازات وأروعها، فوجدت المحافل الروحانية المركزية نفسها مطالبة بالسعي لدى حكومات بلادها للحصول على دعم رسمي لمشاريع القرارات المقدمة لدى مختلف مستويات المنظومة العالمية لحقوق الإنسان، ونجحت هذه المحافل نجاحاً باهرا في هذا المجال رغم خبرتها الضئيلة التي كادت أن تكون معدومة بالنسبة للتعامل مع الموظفين الرسميين في حكومات بلادها. وهكذا استمرّ عرض قضية البهائيين في إيران عاما بعد عام من دون انقطاع لمدة عشرين سنة لتنظر فيها الهيئات التابعة للمنظومة العالمية لحقوق الإنسان. وحظيت القضية بدعم متزايد تمثّل في ما صدر من قرارات متتالية أكّدت اهتمام المراقبين المعينين من قبل مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ولفت أنظارهم إلى مظالم البهائيين وشكاواهم، كما أكّدت كل ما تحقق من نجاح في القرارات التي أصدرتها اللجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. وباءت بالفشل كل محاولة من طرف الحكومة الإيرانية للتملّص من إدانة العالم لتصرّفاتها تجاه مواطنيها من البهائيين وفشلت أيضا في زعزعة التأييد الذي نالته القضية البهائية من أغلبية الدول الأعضاء في لجنة حقوق الإنسان التي عبّرت بإصرار عن تعاطفها مع البهائيين. وبدا الإنجاز الذي حققته الجامعة البهائية إنجازا أكثر روعة وتألّقا وذلك في إطار المتغيّرات المتتابعة في عضوية لجنة حقوق الإنسان وبالنسبة لجدول أعمال مزدحم تضمّن انتهاكات لحقوق الإنسان في بلاد أخرى شملت الملايين من الضحايا.
وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة الإيرانية تتعرّض لضغوط مباشرة لكي تغيّر سياستها تجاه مواطنيها البهائيين حظيت قضية البهائيين في كل أنحاء العالم بدعاية لم يسبق لها مثيل، فانتشرت أخبارها في الصحف والجرائد والمجلات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وحملت الصحف العالمية الكبرى من أمثال ”نيويورك تايمز“ الأمريكية و”لوموند“ الفرنسية و”فرانكفورتر ألماين زايتونغ“ الألمانية أخبار الاضطهاد الموجّه ضد البهائيين وغطّت تلك الأخبار تغطية كاملة بينما قامت شبكات التلفاز في استراليا وكندا والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية بإنتاج وبث برامج وثائقية خاصة عالجت وحلّلت فيها بعمق ذلك الاضطهاد. وغالبا ما ندّدت افتتاحيات الصحف تنديدا شديد اللهجة بالمعاملة السيّئة التي لقيها البهائيون في إيران. وبغضّ النظر عما وفّره هذا الدعم الإعلامي من تأييد لتدخّل فاعل من قبل لجنة حقوق الإنسان، فقد كان من آثار هذه الدعاية الإعلامية الواسعة أن اطّلع، ولأول مرة في أغلب الأحيان، جمهور غفير من الناس يعدّ بالملايين على معلومات دقيقة عن الدين البهائي وتعاليمه حازت بالتقدير والإعجاب. وقد أتاحت حملة الدفاع الإعلامية عن أمر الله وما صاحبها من دعاية عبر اهتمام أجهزة المنظومة الدولية بالقضية، أتاحت الفرصة للمسؤولين الرسميين أصحاب النفوذ في جميع أنحاء العالم كي يكوّنوا رأيهم بأنفسهم ويتمكّنوا من إصدار أحكام صائبة بصدد هذا الدين وتعاليمه وسمات جامعة المؤمنين به.
نتج عن موجة الاضطهادات مشكلة واجهت عدة آلاف من البهائيين الإيرانيين إذ وجدوا أنفسهم من دون جوازات سفر وقد انقطعت بهم السبل في بلاد الغربة التي كانوا قد دخلوها كمهاجرين أو أنهم وجدوا أنفسهم مضطرين للفرار من إيران لأن السلطات قد استفردت بهم أو بعائلاتهم واستهدفتهم كضحايا مذبحة من المذابح. فكان نتيجة ذلك أن تأسّس في العـام 1983 المكتب البهائي العـالمي للاجئين في كندا 139 حيث تجاوبت الحكومة الكندية بصورة خاصة مع مطالب المحفل الروحاني المركزي في تلك البلاد لاستقبال ضحايا الاضطهاد الديني في إيران.
*لم تكن الجامعة البهائية العالمية هي المستفيد الوحيد من هذا الكفاح الطويل. بل أفادت من ذلك أيضا منظومة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. فبعد الثورة الإسلامية مباشرة وجدت جامعة المؤمنين في إيران نفسها منذ البداية في وضع يهدّد وجودها بالزوال. ولكن مع مرور الوقت نجحت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في إرغام النظام الإيراني على إنهاء أكثر أنواع الاضطهاد سوءا، وذلك خلافا لما قد يظنّه بعض المراقبين من الخارج أن المفوضية بطيئة نسبيا وثقيلة الحركة في تنفيذ مهامها. وهكذا سجّلت قضية البهائيين في إيران انتصارا هاما للجنة حقوق الإنسان وللدين البهائي على السواء. وكان هذا الانتصار بمثابة دليل باهر على ما للأسرة الدولية من نفوذ وسلطان حينما تستخدم الأجهزة التي خلقتها بقصد الحد من أنماط الظلم والاضطهاد التي سوّدت في السابق صفحات التاريخ عبر العصور.
توضح هذه الوقائع ما لنشاطات الأمر الكريم من صلات وثيقة بحياة المجتمع الأوسع مسرح هذه النشاطات وميدان تنفيذها . ففي هذه اللحظة من لحظات التاريخ يواجه العالم الإنساني تحدّيات ملحّة، إذ ينبغي للمجتمع الدولي أن يتّخذ خطوات فعّالة لتحقيق المُثُل التي ينادي بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق التابعة له بالإضافة إلى إقامة السـلام في كل أنحاء العالم. ولا يزال هناك عدد غير قليل نسبيا من الأماكن في العالم حيث توجد أقليات لا تزال عاجزة عن سدّ حاجاتها الإنسانية الأساسية نتيجة التعصّب الديني أوالإثني أو القومي. وليس هناك على وجه البسيطة جمع من الناس أكثر فهما وإدراكا لهذا الوضع من الجامعة البهائية ذاتها. فكم تحمّلت هذه الجامعة ولا تزال تتحمّل في بعض الأقطار المظالم التي لا يمكن تبريرها إطلاقا لا من الناحية القانونية ولا من الناحية الأخلاقية. فقد قدّمت ما قدمته من شهدائها وذرفت ما ذرفته من دموعها لكنها صمدت ثابتة في إيمانها بأن الحقد والانتقام يؤذيان الروح ويضرّان بها، وعرفت كيف تستفيد أكثر من غيرها من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالأسلوب ذاته الذي ابتدعه مؤسسو هذه المنظومة لتحقيق أهدافها دون اللجوء إلى أيّ شكل من أشكال العمل السياسي الحزبي ناهيك برفضها استخدام أي نوع من أنواع العنف. وبفضل ما اكتسبته هذه الجامعة من الخبرات في هذا المضمار نجدها اليوم قائمة على تنفيذ برنامج يسعى إلى حثّ الحكومات في عدد من البلدان لتبنّي مناهج عامة للتربية والتعليم في مجال حقوق الإنسان إضافة إلى استعدادها لتقديم ما في وسعها من دعم عمليّ لتنفيذ هذه المناهج.140 ونجد هذه الجامعة تقوم بنشاط فعّال في جميع أنحاء العالم للترويج لحقوق المرأة وحقوق الطفل على وجه الخصوص. وربما الأهم من كل ذلك أنها تقدّم لنا أنموذجا حيا لمعاني الأخوّة والمحبّة تستمدّ منه الجماعات الغفيرة من الناس، رغم عدم انتمائها لهذه الجامعة، الأمل والشجاعة.
*بينما كانت الأزمة الإيرانية تتفاقم بادر بيت العدل الأعظم إلى اتخاذ قرار رفَع فجأة مستوى النشاطات الخاصة بالشؤون الخارجية للجامعة البهائية إلى مستوى جديد كليّة. ففي العام 1985 أصدر بيت العدل الأعظم بيانا عاما بعنوان ”السلام العالمي وعد حقّ “ وجّهه إلى جماهير البشر في العالم وطلب من المحافل الروحانية المركزية نشر البيان وتوزيعه. وقد أكّد بيت العدل الأعظم في بيانه هذا بأسلوب بعيد عن التحدّي أو المساومة أن البهائيين يؤمنون بالسلام العالمي على أنه المرحلة القادمة في تطوّر المجتمع الإنساني. وعدّد البيان أيضا تلك العناصر التي سوف ترسم شكل هذا التطوّر الذي طال انتظاره. وقد تجاوز كثير من عناصر هذا البيان المعاني السياسية لما يدور من حديث حول موضوع السلام. وختم بيت العدل الأعظم بيانه ذلك قائلا:
إن التجربة التي تمثّلها الجامعة البهائية يمكن اعتبارها أنموذجا لمثل هذا الاتّحاد المتوسّع … فإذا كان للتجربة البهائية أي حظ في الإسهام بشحذ الآمال المتعلّقة بوحدة الجنس البشري، فإننا نكون سعداء بأن نعرضها نموذجا للدرس والبحث.
كان الغرض المباشر لإصدار البيان تزويد الهيئات البهائية وأفراد المؤمنين بخط فكري مترابط للبحث والنقاش يمكن الاستفادة منه في الاتّصالات التي تتمّ بين الهيئات البهائية وكل من السلطات الحكومية والمنظمات المدنية ووسائل الإعلام والشخصيات ذات النفوذ. وكان من نتيجة ذلك أيضا خلق نشاط مكثّف ومستمر لتثقيف الجامعة البهائية ذاتها وزيادة معلوماتها بالنسبة لعدد من التعاليم الأمريّة والمبادئ الإلهية. وسرعان ما ظهرت على نطاق واسع آثار ما نشره البيان من أفكار ووجهات نظر في مؤتمرات الوكلاء وفي المنشورات والمدارس الصيفية والشتوية ولاسيّما في ما كان يدور من مناقشات عامة بين الأحبّاء في كل مكان.
يمكن القول إذاً إن بيان بيت العدل الأعظم بعنوان ”السلام العالمي وعد حقّ “ قد حدّد من وجوه عدّة منذ العام 1985 جدول أعمال اللقاءات بين البهائيين من جهة والأمم المتحدة والهيئات التابعة لها من جهة أخرى. ففي غضون سنوات قليلة فقط أصبحت الجامعة البهائية العالمية واحدة من أكثر المنظمات غير الحكومية نفوذا وأهمية وذلك بفضل ما اكتسبته من سمعة حسنة كانت أساسا للنجاح الذي حقّقته. وصارت هذه الجامعة محطّ ثقة متزايدة فكانت وسيطا أمينا في المداولات الدولية المعقّدة والحادّة أحيانا المتعلّقة بالمحادثات الخاصة بقضايا التقدّم الاجتماعي، ولعبت هذا الدور من حيث كونها محايدة كل الحياد ظاهرا وباطنا. وقد ازدادت هذه السمعة الحسنة رسوخا نتيجة إدراك الناس بأن الجامعة البهائية تمتنع من حيث المبدأ عن استغلال الثقة الموضوعة فيها وتأبى انتهاز أي فرصة لتنفيذ مآرب خاصة بها. فمنذ العام 1968 انتُخب ممثّل عن الجامعة البهائية عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمات غير الحكومية ثم تولّى ممثلو البهائيين فيما بعد مناصب الرئاسة ونيابة الرئاسة في اللجنة. ومن ذلك المنطلَق وجد ممثلو الجامعة البهائية العالمية أنفسهم يقومون بصورة متزايدة بمهام إدارة أو رئاسة جلسات مجموعة كبيرة من الهيئات المختلفة كاللجان العامة أو اللجان الخاصة المنتدبة لمهام معينة أو لجان العمل أو المجالس الاستشارية. وقد شغل كبير ممثلي الجامعة البهائية خلال السنوات الأربع الماضية منصب أمين السر التنفيذي للمؤتمر العالمي الخاص بالمنظمات غير الحكومية، وهو المؤتمر الذي يمثل الهيئة المركزية المنسِّقة لنشاطات مجموعة المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة.
يعكس النسق الذي نُظِّمت بموجبه بنية الجامعة البهائية العالمية المبادئ والمُثُل التي توجّه أعمالها ونشاطاتها. وبفضل تمسّكها بهذه المبادئ والمثُل لم تصنَّف الجامعة البهائية العالمية كغيرها من المنظمات غير الحكومية على أنها مجرد تجمّع همّه استمالة أصحاب النفوذ والترويج لتحقيق مصالح خاصة، بل أصبحت تُعرف من قِبَل أمثالها من المنظمات غير الحكومية بأنها تمثّل أساسا ”رابطة“ تتألف من مجموعة من ”المجالس“ المنتخبة ديمقراطيا عدا عن أنها تمثّل جميع طبقات المجتمع الإنساني في العالم، مع العلم بأن الجامعة البهائية تستفيد كل الفائدة من الخبرة التي يوفّرها لها مكتبها الدائم في الأمم المتحدة والمكتب الإعلامي التابع لها إضافة إلى استفادتها من الأجهزة التنفيذية التابعة لهذين المكتبين. وتضمّ الوفود البهائية المشترِكة في الاجتماعات الدولية على العموم أعضاء من أصحاب الاختصاص تنتخبهم مختلف المحافل الروحانية المركزية ويتمتّعون بالخبرة في الأمور المتداول فيها إضافة إلى كونهم قادرين على النظر إلى الأمور من منظور إقليمي أيضا.
من المعالم البارزة للأمر الكريم مشاركته الفعلية في حياة المجتمع الأوسع. وتتمّ هذه المشاركة في إطار موحّد يجمع بين القيم والمُثُل الباعثة على العمل وبين الأساليب والطرق التي تعالَج بها مختلف القضايا القائمة. ولقد برهنت هذه المشاركة على ما لهذا الأمر الكريم من نفوذ تجلّى في سلسلة من مؤتمرات القمة العالمية والمؤتمرات المتفرعة عنها، وهي المؤتمرات التي نظّمتها هيئة الأمم المتحدة في ما بين العام 1990 والعام 1996. ففي غضون هذه السنوات الست تقريبا تكرّرت اجتماعات القادة السياسيين في العالم بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة ورعايته وذلك للبحث في القضايا الملحّة التي كانت تواجه الإنسانية في السنوات الختامية من القرن العشرين. وما من شك في أن الدهشة والإعجاب سيعتريان أي بهائي يتاح له أن يستعرض المواضيع التي جرى بحثها في هذه المؤتمرات التاريخية ويكتشف مدى التقارب الشديد بين تلك المواضيع المدرجة في جداول أعمالها وبين التعاليم الرئيسة التي جاء بها حضرة بهاء الله. وكان من الجدير والمواتي حقا أن يتزامن حلول الذكرى المئوية لصعود حضرة بهاء الله في وسط هذا السياق من مؤتمرات القمة العالمية، ما أضفى على الاحتفالات الخاصة بالبهائيين تيمّنا بذكرى ذلك الصعود المبارك معاني روحية تخطّت الأهداف التي أقيمت من أجلها مثل هذه الاحتفالات.
ومن قبيل المثال لا الحصر على هذه اللقاءات والمؤتمرات الدولية التي ميّزت هذا السياق من اجتماعات القمة والحوار العالمي الذي بحث في المشكلات التي تعاني منها شعوب العالم وأممه المؤتمر العالمي للتربية والتعليم للجميع الذي انعقد في تايلاند العام 1990، ومؤتمر القمة العالمي للأطفال في نيويورك في العام 1990، ومؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الذي انعقد في ريو دي جانيرو العام 1992، والمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا العام 1993 والذي سادته الفوضى والاضطراب، والمؤتمر العالمي للسكان المنعقد في القاهرة العام 1994، ثم القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن العام 1995، وأخيرا المؤتمر الرابع لحقوق المرأة الذي انعقد في بيكين العام 1995 والذي تميّز بالحيوية والنشاط.141 وقد سنحت الفرصة أمام الوفود البهائية التي ضمّت ممثلين من عدد كبير من البلدان في مؤتمرات المنظمات غير الحكومية التي انعقدت في الوقت الذي أقيمت فيه تلك المؤتمرات العالمية، سنحت الفرصة أمام الوفود البهائية لطرح القضايا المدرجة للبحث من زواياها الروحانية والاجتماعية على السواء. وكان الدليل على الثقة التي تتمتّع بها الجامعة البهائية العالمية بين المئات من أخواتها المنظمات غير الحكومية يتمثل في الدّعوات المتكررة التي كانت تتلقّاها من نظيراتها للتحدث من على منابر تلك اللقاءات ضمن ممثلي قلة مختارة من تلك المجموعات التي تمنح مثل هذا الامتياز المنشود الذي يعتبر فرصة ثمينة لإلقاء خطاب بدلا من توزيع بيانات مطبوعة على الحاضرين حول الموضوع المراد عرضه.
*حقّق كثير من المحافل الروحانية المركزية خلال السنوات الختامية للقرن العشرين انتصارات باهرة تخصّها وحدها وذلك في ميدان علاقاتها الخارجية. ونسوق هنا مثلين بارزين على ذلك يوحي كل منهما بماهية هذه الانتصارات وأهمّيتها. أما المثل الأول فهو الإنجاز الذي حقّقه المحفل الروحاني المركزي في ألمانيا حيث قدّمت السلطات المحلية المدنية طعنا ادّعت فيه أن طبيعة الهيئات المنتخَبة تخالف من الوجهة القانونية القانون المدني في ألمانيا. إلا أن الاستئناف الذي رفعه المحفل الروحاني المحلي بمدينة توبنجين ضد قرار السلطات المحليّة أمام المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا نجح في استصدار قرار من تلك المحكمة بأن النظام الإداري البهائي جزء لا يتجزأ من الدين البهائي، وعليه لا يمكن فصله عن العقيدة البهائية. وقد برّرت المحكمة العليا قبولها النظر في القضية على أساس الأدلّة التي ساقتها والتي تؤكّد وتثبت أن الأمر البهائي دين من الأديان. فكان لهذا الحكم نتائج بعيدة المدى في مجتمع طالما حاولت فيه المعارضة الكنسيّة تصوير الدين البهائي خلافا للحقيقة على أنه ”فرقة من الفرق“ أو ”مذهب من المذاهب“. وكانت لهجة الحكم الصادر لهجة حاسمة جديرة بأن نذكّر بها في هذا المجال:
إن الصفات التي يتميّز بها الأمر البهائي كدين، والخصائص التي تتّصف بها الجامعة البهائية كجامعة دينية، واضحة كل الوضوح في واقع الحياة اليومية وفي السنن والتقاليد الثقافية المتوارثة وفي نظر الرأي العام وفي علم مقارنة الأديان.142
وأما المثل الثاني فمن البرازيل حيث تمكّنت الجامعة البهائية هناك من تحقيق إنجاز في مجال العلاقات الخارجية يُعَدّ إلى اليوم عديم المثال في تاريخ الدين البهائي. ففي اليوم الثامن والعشرين من أيار (مايو) 1992 عقدت أعلى هيئة تشريعية في البلاد، أي مجلس النوّاب، جلسة خاصة احتفاء بذكرى مرور مائة عام على صعود حضرة بهاء الله. وقرأ رئيس المجلس رسالة موجّهة من بيت العدل الأعظم ، وتلاه ممثلو جميع الأحزاب الواحد بعد الآخر معبّرين عن تقديرهم لما أسهم به هذا الدين ومؤسّسه الجليل في سبيل تحسين أوضاع البشر وتقدّمهم. ثم وصف أحد النواب البارزين في خطاب مؤثّر التعاليم البهائية على أنها ”أضخم إنجاز كتابي مقدّس صدر عن قلم إنسان واحد بمفرده“.143
جاء هذا الإطراء والتقدير لماهيّة هذا الدين وما يسهم به من أعمال خيّرة بمثابة انتصار روحي لا يقل أهميّة عن تلك الإنجازات التي تحققت في الميدان التبليغي. فلقد صدر هذا التقويم والمديح عن أعلى المستويات القانونية والتشريعية بالتوالي لدولتين من الدول الكبرى في العالم هما ألمانيا والبرازيل. ولا بد أن يساعد ذلك في فتح تلك الأبواب التي تهبّ عبرها النسائم الشافية التي جاء بها حضرة بهاء الله فتحدث أثرها في حياة المجتمع الإنساني ذاته.
* * *اختار حضرة عبد البهاء كلمة ”النور“ لفظا مجازيا أراد به أن يصوّر لمستمعيه تصويرا دقيقا ما سوف يطرأ على المجتمع الإنساني من تحوّل وتغيير. فصرّح قائلا إن الاتحاد قوّة تنير الآفاق وتدفع بكل جهد إنساني قُدما إلى الأمام. وأعلن أن العصر الذي بدأت الإنسانية الدخول فيه سوف يُعرف ”بقرن الأنوار“ في المستقبل لأن العالم كلّه سوف يعترف بمبدأ وحدة العالم الإنساني اعترافا شاملا. وعلى هذا الأساس سوف تبدأ مرحلة بناء المجتمع العالمي القائم على مبادئ العدل والإنصاف.
أعلن حضرة عبد البهاء عن رؤيته هذه في عدد من الألواح التي جاء بها والأحاديث التي ألقاها. ولعل أبلغ مثل على ذلك ما جاء في لوح وجّهه إلى السيدة جين إليزابيث وايت قرينة الرئيس السابق للكنيسة الإسكتلندية الحرة المعروفة بـ ”فري تشرتش“. وكانت السيدة وايت من المتعاطفين مع التعاليم البهائية وتشرّفت بزيارة حضرة عبد البهاء في مدينة عكا وهي التي قامت فيما بعد بتنظيم زيارته المباركة إلى مدينة ”أدنبره“ الإسكتلندية حيث استُقبل هناك استقبالا حارا. ففي اللوح الذي وجّهه حضرة عبد البهاء إلى السيدة وايت كتب عن الوحدة والاتّحاد وعبّر عن ذلك باستخدامه استعارة رمزية شائعة هي كلمة ”الشموع“:
أيتها السيدة الجليلة … انظري كيف أننا نشاهد في كل يوم حدوث معجزة جديدة، وتأملي كيف أن فجر الوحدة بدأ يشرق نوره ليضيء عتمة الأفق ويتألق ضياء شموعها ساطعا لينير العالم. وفي النهاية ستوقد شموع الاتّحاد المختلفة لتنير أرجاء الأرض، وتصبح بارقة الصبح لينتشر هذا النور العظيم الساطع ليعمّ العالم …
فالشمعة الأولى هي الوحدة السياسية التي تبدو تباشير بريقها واضحة الآن. والشمعة الثانية هي وحدة الرأي بالنسبة لتدبير شأن ما عظُم من أمور الدنيا، وهي وحدة سرعان ما سوف تتحقق عن قريب. أما الشمعة الثالثة فهي الوحدة في الحرية وهي أمر لا بد أن يحدث. والشمعة الرابعة هي الوحدة الدينية التي هي حجر زاوية الأساس والتي سوف تتجلى بإذن الله بكل روعة وجلال. وهناك أيضا الشمعة الخامسة وهي وحدة الأمم والأوطان، وهي الوحدة التي لا بد لها أن تتأسس بكل قوة وثبات حتى تشعر شعوب العالم وملله جميعها بأنها تنتمي إلى وطن واحد وبأن مصيرها مصير واحد. وما الشمعة السادسة سوى وحدة الأعراق والأجناس ليصبح أهل الأرض جميعهم على اختلاف شعوبهم وقبائلهم أبناء جنس واحد. وأخيرا هناك الشمعة السابعة التي هي وحدة اللسان، وتعني أن يتم اختيار لغة من اللغات لتكون لغة عالمية يتعلمها الجميع ويتحدثون بها. ولسوف يتحقق كل هذا الاتّحاد دون محالة حسبما تشاء القدرة الإلهية له من دعم وتأييد.144
قد تمرّ عقود طويلة من الزمن أو يزيد قبل أن يكتمل تحقّق تلك الرؤية الرائعة التي رسمها ذلك اللوح المبارك الموجّه إلى السيدة وايت. فالمعالم الأساسية لما وعدت به أصبحت اليوم حقائق ثابتة في جميع أنحاء العالم. ولعلّنا نجد أن ما قصده حضرة عبد البهاء بكلماته حين تحدّث عن وحدة الأديان والأجناس بات واضحا الآن وأن وسائل تحقيقها تسير قدما مهما اشتدّت مقاومة بعض الجهات لهذه الأفكار. والقول ذاته يصدق إلى حد كبير على وحدة اللسان. فجميع الأطراف باتت تدرك الآن الحاجة الماسة إلى لغة عالمية. وقد تمثلت هذه الضرورة في الظروف التي فرضت على الأمم المتحدة وكثير من المنظمات غير الحكومية إلى تبنّي عدد من اللغات واعتمادها ”لغات رسمية“ للتداول فيما بينها. وإلى أن يتم اتخاذ قرار صادر عن اتفاق عالمي فإن اللغة الإنجليزية قد سدّت في الوقت الحاضر هذا الفراغ وذلك نتيجة عدد من التطورات كانتشار الإنترنت وتوحيد نظم إدارة المواصلات الجوية والمفردات اللغوية التي تفرزها التكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى قيام نظام تعليمي عالمي النطاق.
لم يكن لمفهوم مبدأ ”وحدة الرأي“ في تنفيذ أمور الدنيا وشؤونها أي معنى ملموس أو مرجعية عند بداية القرن العشرين حتى عند المثاليين في آمالهم وتطلعاتهم. ولكن هذا المفهوم أصبح ظاهرا إلى حد كبير ومنعكسا في كل مكان في البرامج والمشاريع الضخمة التي تتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالمعونات الإنسانية علاوة على البرامج الخاصة بالمحافظة على بيئة الكرة الأرضية ببحارها ومحيطاتها. أما الوحدة السياسية فقد شرحها حضرة شوقي أفندي بأنها إشارة إلى اتّحاد للدول ذات السيادة. وهذا الاتحاد هو عبارة عن عملية مستمرة النمو والتطوّر تتمثّل مرحلته الحالية في ما تم من تأسيس الأمم المتحدة. ومن جهة أخرى فإن ما وعد به حضرة عبد البهاء من تحقّق ”وحدة الأمم والأوطان“ كان يمثّل نظرة مستقبلية تستطلع ما هو قائم اليوم من وجود قناعة عامة واسعة الانتشار لدى شعوب العالم بأننا جميعا سكان وطن عالمي واحد رغم كل ما يقوم بيننا من تباين واختلاف عظيمين.
أما ”الوحدة في الحرية“ فقد أصبحت اليوم تمثّل طموحات هامة لدى سكان الكرة الأرضية كلهم. ومن أهم التطورات التي بلورت هذا الاتجاه الانهيار المفاجئ للنظام الاستعماري وزواله وما تبع ذلك عند نهاية القرن من بروز مبدأ حق تقرير المصير كأهم عامل في تحديد الهوية الوطنية، وهذا بالذات ما كان يدور في خاطر حضرة عبد البهاء.
خلاصة القول إنه مهما كانت الأخطار التي لا تزال إلى الآن قائمة تهدّد مستقبل البشرية، فإن العالم الذي نعيش فيه قد غيّرته أحداث القرن العشرين وصاغته من جديد. ولعلّ ما يجدر بأصحاب العقول النيّرة في كل مكان الرجوع إليه والتفكّر فيه مليّا هو ذلك النداء الصادر عن حضرة عبد البهاء الذي وصف فيه معالم المسار الذي سوف تنتهجه تلك الأحداث وشرح في ذلك النداء بكل ثقة واعتداد ماهيّة تلك الأحداث وطبيعتها.
*نالت التحولات والتغييرات التي طرأت على حياة العالم الإنساني الاجتماعية والأخلاقية تأييدا قويا في سلسلة من المؤتمرات الدولية التي عقدت تحت رعاية الأمم المتحدة والتي كان الهدف منها الاحتفال بالذكرى الوشيكة لمرور ألف عام وبداية ألفية جديدة. فما بين الثاني والعشرين والسادس والعشرين من شهر أيار (مايو) من العام 2000 اجتمع في نيويورك ممثلون عن أكثر من ألف هيئة من الهيئات غير الحكومية بدعوة من السيد كوفي عنان الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، وأعلن المتحدثون الرسميون باسم منظماتهم في البيان الصادر عن ذلك الاجتماع الالتزام بما يلي: ”… إننا أعضاء أسرة إنسانية واحدة بكل ما تتميّز به هذه الأسرة من تنوّع وتعدّد، ونعيش في وطن واحد يضمّنا جميعا. فنحن شركاء في عالم تسوده العدالة والديمومة والسلام وتقودنا المبادئ الديمقراطية المعترف بها عالميا .…“ 145
انعقد بعد ذلك بفترة قصيرة وفي مقر الأمم المتحدة أيضا مؤتمر ثان ما بين الثامن والعشرين والواحد والثلاثين من شهرآب (أغسطس) من العام 2000 حضره معظم قادة الأديان في العالم. وقد مثّل الجامعة البهائية في ذلك الاجتماع أمينها العام الذي ألقى كلمة في إحدى جلسات المؤتمر الرئيسية آنذاك. ولم يكن في وسع أحد إلا أن يتأثّر بالغ التأثّر بالنداء الرسميّ الذي وجّهه قادة الأديان في العالم إلى طوائفهم وجامعاتهم الدينية بدعوتهم إلى ”احترام حقوق الحرية الدينية والسعي من أجل خلق أواصر الألفة والمصالحة والوفاق والعمل على تبادل ما يبعث على التسامح ولأم الجراح ....“146
مهّد هذان اللقاءان الأوليان السبيل أمام ما سمّي باجتماع القمة الألفية وهو المؤتمر العالمي الذي انعقد بمقر الأمم المتحدة بين السادس والثامن من شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2000. استقطب هذا الاجتماع مائة وتسعة وأربعين رئيسا من رؤساء الدول والحكومات، وكان القصد من انعقاده إجراء المشاورات لبعث الأمل والطمأنينة في نفوس الدول الممثلة في المؤتمر. واتّخذ المؤتمر خطوة نالت الترحيب حين وجه الدعوة إلى ندوة الهيئات والمنظّمات غير الحكومية لكي تنتدب متحدّثا باسمها يشاطر المؤتمر هموم تلك الهيئات واهتماماتها التي تقدّم وسبق عرضها في اللقاء التمهيدي للقمة المذكورة. ففاز بهذا الشرف العظيم الممثل الرئيسي للجامعة البهائية العالمية لدى الأمم المتحدة بصفته رئيسا مشاركا لندوة الهيئات غير الحكومية. فبعث ذلك مشاعر الرضا والابتهاج في نفوس البهائيين الذين اعتبروا هذا الشرف الذي ناله ممثّلهم أمرا له أهميته بالنسبة لهم. وليس هناك ما هو أكثر تعبيرا عن إظهار الفرق الشاسع بين أحوال العالم في العام 1900 وأحواله في العام 2000 مثل نص القرار الذي اتخذه مؤتمر القمة ووقع عليه كل الحاضرين الذين أقروا أيضا إحالة ذلك القرار على الجمعية العامة للأمم المتحدة:
نعود في هذه المناسبة التاريخية لنؤكّد من جديد تأكيدا جديا أن الأمم المتحدة هي بيتنا المشترك الذي لا غنى عنه بالنسبة للأسرة الإنسانية ككل. فمن خلال الأمم المتحدة سنسعى إلى تحقيق طموحاتنا العالمية لإحلال السلام وتحقيق التعاون والازدهار. وبناء عليه فإننا نأخذ العهد على أنفسنا لدعم هذه الأهداف المشتركة دعما سخيا وتصميمنا على بذل العزم في سبيل تحقيقها .…“ 147
وفي كلمته التي اختتم بها هذه السلسلة من اللقاءات التاريخية تحدث السيد كوفي عنان إلى المجتمعين من قادة العالم حديثا اتّسم بالصدق والصراحة. وتضمّن حديثه كلاما بدا للبهائيين وكأنه يحمل أصداء تلك الإنذارات شديدة اللهجة التي وجهها حضرة بهاء الله إلى الأباطرة والملوك الذين اندثرت آثارهم ليخلفهم القادة والزعماء الحاضرون اليوم والذين استمعوا إلى السيد كوفي عنان يقول: ”… إنه في مقدوركم الوصول إلى الأهداف التي قد حدّدتموها. وبناء عليه فهـذه مسؤوليتكم. وأنتم وحدكم القادرون على تقرير ما إذا كانت الأمم المتحدة قادرة على مواجهة هذا التحدّي.“ 148
*رغم الأهمّية التاريخية التي ميّزت هذه اللقاءات ورغم اشتراك الغالبية العظمى من القيادات السياسية والمدنية والروحية فيها، فإن القمة الألفية لم تترك إلا أثرا ضئيلا في أذهان الناس في أغلب بلدان العالم. ورغم ما أولته وسائل الإعلام من اهتمام إخباري واسع بنشاطات معينة من نشاطات القمة، لم يفت معظم القراء والمستمعين ما أظهرته افتتاحيات الصحف في معالجتها للموضوع من شكوك في صدق النيّات وما أوحت به من الاستخفاف والتهكم اللذين بدا أنهما تسربا أيضا إلى لهجة تقارير التغطية الإخبارية ذاتها. وأبرز ما يلاحظ بالنسبة لمظاهر هذه المناسبة الألفية هو ذلك التفاوت الكبير القائم بين حدث يمثّل بحق منعطفا هاما في تاريخ البشر، من جهة، وبين عجز مثل هذا الحدث عن بعث الحماسة والاهتمام في نفوس تلك الجماهير المفروض أنها المستفيدة من هذه الفرصة من جهة أخرى. فكشف هذا الواقع بالتالي عن عمق المأزق الذي يواجه العالم في نهاية القرن، حيث يتحاور مساران للأحداث – مسار الإعمار والبناء ومسار الهدم والدمار – وهما المساران اللذان بدأا باستجماع قواهما خلال السنوات المائة الماضية ويستمران متسارعين في خطاهما ليزداد كل منهما زخما وقوة يوما بعد يوم.
إن الذين يتمنون أن يكون بإمكانهم تصديق ما يطلقه زعماء العالم وقادته من تصريحات واعدة بالخير ورؤى تبشر بمستقبل زاهر يجدون أنفسهم في الوقت ذاته أسرى ظاهرتين تزعزعان الثقة وتبعثان الشك وعدم الاطمئنان. لقد سبق أن عالجنا أولى هاتين الظاهرتين في صفحات هذا الكتاب معالجة مستفيضة. فانهيار الأسس الأخلاقية للمجتمع ترك معظم الناس يتخبطون في ظلام الضياع دون أن يجدوا وازعاً أو هاديا يرشدهم سواء السبيل في عالم يزداد فيه عجزهم عن التكهّن بما تحمله الأيام ويتضاعف ما يهدّدهم من المحن والأخطار. وأي افتراض يوحي بأن مسار الأحداث قد بلغ نهايته إنما هو مجرّد إثارة آمال زائفة في النفوس. فرغم ما نلاحظه ونقدّره من جهود سياسية مكثّفة تبذل في سبيل الخير، ومن تقدم علمي باهر مستمر العطاء، وتحسّن في الأوضاع الاقتصادية لجزء محدود من بني البشر، فإن كل هذه المحاولات لا يمكن أن تبعث في النفوس ما يشبه الأمل في أن يعيش الواحد منا حياة آمنة، وأهم من ذلك، أن يضمن لأولاده حياة آمنة أيضا. ولقد انتشر واسعا وعمّ العالم بأسره اليوم ما أنذرنا به حضرة شوقي أفندي من مشاعر خيبة الأمل وما سيخلقه في أذهان البشر استشراء الفساد السياسي. ففي كثير من بلدان العالم طغت على الحياة في المدن والقرى موجة عارمة استبيح فيها القانون وانتهكت حرماته. أما انهيار الضوابط الاجتماعية ومحاولة تبرير مظاهر السلوك الشاذ والانحراف على أنها في الأساس قضية تتعلق باحترام حقوق الإنسان المدنية، ناهيك بما تقوم به وسائل الإعلام وأنواع الفنون المختلفة من تهليل عام وشامل لمعالم العنف والانحطاط، فإن هذه المظاهر وما يشابهها توحي بوجود حالة تكاد تكون فوضى أخلاقية تشير إلى مستقبل يصيب فيه الشلل قوى الإبداع والتخيّل والخلق. وإزاء هذه الخلفية البائسة من الفراغ الكئيب روّج المفكرون والمثقفون من أبناء العصر لمذهب فكري أسموه ”التفكيك البنيوي“ (Deconstructionism)* واتّخذوه وهم مكرهون على ذلك عنوانا ورسالة.
* التعبير Deconstructionism)التفكيك البُنيوي) تسمية مشتقة لمنهج فلسفي يقوم على أساس التفكيك والبناء في آن واحد نادى به الفيلسوف الفرنسي Jaques Derrida في أعقاب الحرب العالمية الثانية استنادا إلى نظريات سابقة طرحها اللغوي السويسري Ferdinand de Saussure وغيره من الفلاسفة عُرفت بمبدأ "ما بعد العصرنة " راجت في أواخر القرن الثامن عشر. وقد بدأت فلسفة "التفكيك البُنيوي" كحركة نقد أدبي واقتصرت في البداية على إعادة النظر في النصوص الفلسفية الأساسية وتفكيكها وتفسيرها من منطلق أن الكون حقيقة معلقة وأن الحقيقة نسبية وغير موضوعية وتحددها التعابير اللغوية طبقا لمفهوم الفرد وما يَستدل عليه من الكلمة أو التسمية. ثم شاع تطبيق مبدأ "التفكيك البُنيوي" بحيث بات اليوم يشمل كثيرا من الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها من شؤون المجتمع البشري.
كان ثاني هذين التطورين اللذين عملا على تقويض أسس الإيمان فيما بعد هو ما استقطب الاهتمام في بعض أشد المناقشات حدة في القمة الألفية. فالثورة الإعلامية التي نتجت عن اختراع الشبكة العالمية لمواقع الإنترنت (World Wide Web) في العقد الختامي للقرن غيّرت إلى الأبد معالم العديد من النشاطات الإنسانية. أما مسيرة ما بات يسمى اليوم ”العولمة“ والتي كانت تتّخذ في سيرها خطا تصاعديا بطيئا على مدى عدة قرون، فقد تقوّت بفعل انطلاق قوى جديدة فاقت حدود التصوّر. إذ انطلقت القوى الاقتصادية متحرّرة من قيودها ومعوّقاتها التقليدية باعثة إلى الوجود في العقد الأخير من القرن العشرين نظاما عالميا جديدا لتخطيط الثروات وتوليدها وتوزيعها. وصارت المعرفة ذاتها سلعة زادت قيمتها لتفوق ما يمثله رأس المال النقـدي والموارد المادية من ربح. ولعل ما يدعو إلى الدهشـة الشديدية والعجب وهو كيف تم اختراق الحدود الدولية في فترة زمنية قصيرة، وهي الحدود التي كانت مهدّدة بالزوال، وكيف صار في مقدور مبالغ مالية ضخمة من المرور عبر تلك الحدود فورا بناء على إشارة يرسلها الحاسوب. ثم هناك عمليات الإنتاج المعقدة التي تخضع إلى إعادة تخطيط وسائل الإنتاج وطرقه بحيث يمكن الاستفادة من تفعيل وتكامل مصادر اقتصادية مختلفة تتوفّر نتيجة إسهام وحدات مختلفة الاختصاص تندمج وتتكامل في وحدة واحدة بغضّ النظر عن مكان وجودها في بلدانها. وإذا جاز لنا أن نضيّق أفق نظرتنا ونخفضه إلى مستوى الاعتبارات المادية المحضة لوجدنا بأن الأرض أصبحت بفضل سوقها العالمية تأخذ شكل ”الوطن الواحد“ وأن سكانها من المستهلكين لهذه السوق أينما كانوا أصبحوا أبناء ”وطن واحد.“
ليست هذه التحولات والتغييرات الجارية مجرّد تحوّلات اقتصادية. ”فالعولمة“ في مسيرتها تكتسب باطّراد أبعادا سياسية واجتماعية وثقافية. إذ أصبح من الواضح أن سلطات المؤسسة الحكومية للدولة القومية قد تقلّصت كثيرا وتضاءلت بعد أن كانت الحكومة صاحبة القرار والتحكّم في حماية ثروات الإنسانية ومقدراتها والتصرف فيها. ومع أن الحكومات الوطنية ما زالت تقوم بدور حاسم في إدارة الشؤون البشرية، فقد بات عليها الآن أن تفسح المجال أمام مراكز القوة والنفوذ التي بدأت بالظهور على مسرح الأحداث كالشركات الكبرى متعددة الجنسيات ووكالات الأمم المتحدة والهيئات غير الحكومية على اختلافها إضافة إلى المجمّعات الإعلامية الضخمة، لأن التعاون بين كل هذه الهيئات والمنظّمات والحكومة وتضافر جهودها مسألة حيوية لإنجاح معظم البرامج التي تهدف إلى تحقيق غايات اجتماعية واقتصادية ذات أهمية. وكما هو الحال بالنسبة لهجرة الأموال والشركات التجارية عبر الحدود دون أن يعترضها حاجز أو عائق، فإن الحدود ذاتها أصبحت عاجزة عن السيطرة بصورة فاعلة على انتقال المعلومات أو الحد من انتشارها. فقد اغتنت الحياة الفكرية وازدادت ثراء لدى كل من يتيسّر له استخدام وسائل الاتّصال عن طريق شبكة الإنترنت والاستفادة منها. إذ بالإمكان عبر هذا الطريق، وفي ثوان معدودة، نقل المخزون العلمي كلّه لمكتبات استغرق جمعها قرونا طويلة من الدرس والبحث، علاوة على أنه في الإمكان أيضا الإفادة من الفرص التي توفرها سبل الاتّصال هذه لتلقّي التدريب المهني والحرفي المتطور في مجالات واسعة. وكم كان حضرة شوقي أفندي صائبا حين رأى بثاقب بصيرته قبل ستين عاما من الزمان مستقبل نظام الاتّصالات هذا وكيف أنه يخلق في كل من يستخدمه شعورا بالمشاركة والانتماء إلى جامعة واحدة ترفض كل أنواع التباعد، جغرافية كانت أم ثقافية.
من البديهي إذاً أن ملايين من الناس قد جنوا فوائد جمة نتيجة لهذه التطورات والتحوّلات. ثم إن جدوى فاعلية التكاليف الناتجة عن تنسيق العمليات والصفقات التجارية التي كانت تنافسية في الماضي أصبحت توفّر السلع والخدمات وتضعها في متناول الناس الذين لم يكونوا ليحلموا بالتمتع بها. وساعد التوسع الهائل في الموارد المالية المتوفرة لتمويل الأبحاث العلمية والبرامج التنموية على توسيع رقعة هذه الفوائد وتحسين نوعيتها. وأصبحنا نشاهد نوعا من التكافؤ في توفّر فرص العمل والتوظيف بفضل السهولة التي يمكن بها للمشاريع التجارية نقل قواعدها من أي مكان في العالم إلى أي مكان آخر. وسقطت الحواجز كافة أمام التجارة الدولية عبر الحدود الإقليمية فأدّى ذلك إلى انخفاض أكبر في أثمان البضائع والسلع بالنسبة لمستهلكيها. فإذا نظرنا إلى هذه التحوّلات والتغييرات من وجهة النظر البهائية فليس من الصعب علينا أن ندرك الإمكانات الكامنة فيها لإرساء أسس المجتمع العالمي الذي صوّره لنا حضرة بهاء الله بثاقب بصيرته فيما أنزله من الكتب والألواح.
ولكن عدداً كبيراً متزايداً من الناس يرى في كل أنحاء العالم أن ”العولمة“ أبعد ما تكون عن بعث التفاؤل في النفوس حول المستقبل بل إنها تشكل الخطر الرئيسي الذي يهدد ذلك المستقبل. فما العنف الذي صاحب الاضطرابات وأعمال الشغب التي فجّرتها اجتماعات كل من منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في السنتين الماضيتين إلا دليل على عمق المخاوف وعِظم الاستياء الذي ولّده بروز ”العولمة“ إلى الوجود وعلوّ شأنها. ولقد كان من نتائج التغطية الإعلامية لمثل هذه الفورات الاضطرابية التي فاجأت الجميع أن ركّز الناس اهتمامهم على الاحتجاج والتظاهر ضد الفوارق الهائلة بين سكان العالم من حيث توزيع المنافع والامتيازات وتوفّر الفرص، وهي الفوارق التي رآها عامة الناس تزداد اتّساعا بسبب ”العولمة“. كما انصبّ الاهتمام على التحذير من أنه ما لم يتم الإسراع في وضع ضوابط فعّالة فإن العواقب ستكون وخيمة من النواحي السياسية والاجتماعية إضافة إلى النواحي الاقتصادية والبيئية.
ويبدو أن لكلّ هذه الهموم ومشاعر القلق الناجمة عنها أساساً من الصحة لا سبيل إلى إنكاره. فالإحصاءات الاقتصادية وحدها تكشف لنا عن صورة قاتمة ”للعولمة“ في وضعها الراهن تبعث على القلق العميق. فإن الهوّة الشاسعة القائمة بين خُمس سكان العالم الذين يعيشون في بلاد يتمتع الفرد فيها بأعلى دخل وبين خمس مقابل من سكان العالم الذين يعيشون في بلاد ذات أدنى دخل للفرد تحكي قصة مروّعة. فطبقا للتقرير الذي نشره برنامج الأمم المتحدة للإنماء الدولي في العام 1999 عن التنمية البشرية كانت الهوّة الفاصلة بين الفقراء والأغنياء في العالم تمثل نسبة ستين لواحد، أي أن قسما من البشر كان يتمتع بستين في المائة من ثروة العالم، بينما يكافح قسم آخر من البشر لا يقل تعدادا لمجرد العيش والبقاء ولا تكاد حصتهم تتعدى واحدا في المائة من هذه الثروة. وبحلول العام 1997 وذلك في أعقاب ما حقّقته ”العولمة“ من تقدّم سريع زادت الهوّة اتّساعا إلى نسبة أربعة وسبعين إلى واحد، وذلك في غضون سبع سنوات فقط. وحتى مع الإقرار بوجود هذا الوضع المخزي فهناك تجاهل للفقر المستمر في تفاقمه وتأثيره على الأغلبية الساحقة من بلايين البشر الآخرين. فكأنما سقط هؤلاء رهائن برزخ تتضاءل رقعته بلا هوادة بين نقيضين هما أدنى درجات العوز والفقر وأعلى درجات الغنى والثراء. وتبقى الأزمة الراهنة هذه أبعد ما تكون عن أي حل يلجمها ويسيطر عليها ويمنعها من الاستمرار في تسارعها نحو التفاقم. ولذا سيطرت مشاعر اللامبالاة وعدم الاكتراث لدى الناس بالنسبة لاحتفالات القمة الألفية تكريما للإنجازات التي تحقّقت والتي كانت طبقا لكل المعاييرالمقبولة مناسبة ذات أهمية تاريخية. وقد برّر تفشّي هذه المشاعر إدراك الناس النتائج الوخيمة لهذه الأزمة وما يترتب عليها بالنسبة لمستقبل الجنس البشري فيغرق ثلثا سكان الأرض في لجج اليأس والفاقة والحرمان.
إن ”العولمة“ في حد ذاتها معلم جوهري من معالم التطوّر التي يخضع لها المجتمع الإنساني. فقد كان لها الفضل في خلق الثقافة أو الفلسفة الخاصة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهي الثقافة التي تمثّل على المستوى العملي العالم الذي يتاح فيه السعي من أجل تحقيق أماني الجنس البشري وتطلّعاته. ولا يسع أي مراقب ينظر إلى الأحداث نظرة موضوعية ويتحلّى بمزايا الحصافة والإنصاف إلا أن يعترف بأن التيارين المتناقضين اللذين ولّدتهما ”العولمة“ لهما ما يبرر وجودهما حق التبرير. فاتّحاد المجتمع الإنساني ووحدته اللذان ألهبهما خيال القرن العشرين وحماسته هما مسعى بدأت صياغته في أتون نيران القرن العشرين. وهذه الوحدة حقيقة واقعة تنفتح أمامها يوما بعد يوم إمكانات جديدة تبعث على الدهشة والانبهار. وهناك حقيقة أخرى بدأت تفرض نفسها على الألبّاء في كل مكان، وهي كون العدل الوسيلة القادرة على تسخير هذه الإمكانات العظيمة كافة في سبيل تقدّم الإنسانية وازدهارها. فلا حاجة بعد اليوم لكي نستعين بموهبة التنبّؤ وقراءة الغيب لكي ندرك أن مصير الإنسانية في القرن العشرين الذي بدأ يتفتّح أمامنا سوف تقرره العلاقة التي ستقوم بين هذين التيارين الأساسيين للمسيرة التاريخية ”للعولمة“. وهي العلاقة بين مبدأي الوحدة والعدالة وهما مبدآن لا سبيل إلى الفصل بينهما.
*يتّضح من منظور التعاليم التي جاء بها حضرة بهاء الله أن أعظم المخاطر شأنا نتيجة هذه الأزمة الأخلاقية والمظالم الناجمة عن مسيرة ”العولمة“ في شكلها الراهن هو الموقف الفلسفي المستحكم في الأذهان والدائب السعي إلى تبرير الفشل الناجم عن الأزمة وتلك المظالم وإيجاد الأعذار له. وينبغي أن لا نعلّل النفس بأن اندحار أنظمة الحكم الاستبدادية التي قامت في غضون القرن العشرين قد أنهت قيام المذاهب الإيديولوجية. بل العكس هو الصحيح. فلم يقم هناك مجتمع ما في تاريخ هذا العالم، مهما كان ذلك المجتمع واقعيا وعمليا في نظرته، وتجريبيا في إدارة شؤونه ومتعدّدا في عناصره، إلا واستمد قوة دافعة من تفسيره الخاص لأسس حقيقته. والواقع أن هذه المنظومة الفكرية، أو الإيديولوجية، مازالت قائمة اليوم تسود الكرة الأرضية بأسرها دون اعتراض. إنها المنظومة الفكرية المعروفة اسما ”بالحضارة الغربية.“ وتعرّف هذه الحضارة نفسها بأنها، من الناحية الفلسفية والسياسية شكل من أشكال الليبرالية النسبية، ومن الناحية الاقتصادية والاجتماعية بأنها رأسمالية. وائتلفت قيم النظامين الليبرالي والرأسمالي لتتوافق في المجتمع الغربي بحيث يدعم الواحد منهما الآخر ويكوّنان في واقع الأمر منظارا واحدا شاملا نرى العالم من خلاله.
ومهما كان تقديرنا للفوائد التي جلبها نظام الحضارة الغربية المتمثّلة في توفّر الحريات الفردية واستتباب الرفاه الاجتماعي وتحقق التقدّم العلمي فإن هذه الفوائد والميزات التي تتمتع بها أقلية محظيّة ذات شأن لن تمنع أي إنسان يفكر في الأمور تفكيرا سليما من أن يكتشف إفلاس هذا النظام إفلاسا معنويا وفكريا. صحيح أن الحضارة الغربية هذه أسهمت بأفضل ما عندها من أجل تقدّم العالم وازدهار حضارته، ِشأنها في ذلك شأن كل الحضارات السابقة. ولكنها تقف اليوم كما وقفت الحضارات السابقة عاجزة عن معالجة قضايا احتياجات عالم لم يكن في مقدور المتنبّئين في القرن الثامن عشر تصوّره رغم أنهم هم الذين فكّروا واستنبطوا للبشرية العناصر المكوّنة لهذه ”الحضارة الغربية“. وحين تحدّث حضرة شوقي أفندي عن سنّة التحوّل والتغيير لم يقصُر اهتمامه فقط على الملوك والسلاطين ممن يعتبرون أنفسهم ظل الله على الأرض أو على الكنائس الرسمية أو المذاهب الإيديولوجية الاستبدادية، بل شمل تساؤله الفاحص المنقّب كلّ نظام عرفه البشر:
ولماذا يُكتب البقاء لهؤلاء في عالم يخضع لسنن التحوّل والفناء، وهي السنن التي لا تتبدّل ولا تتغيّر، ولماذا يُستثنى هؤلاء من تردّي الأحوال الذي لا بد أن يصيب كل نظام عرفه البشر؟149
يحثّ حضرة بهاء الله المؤمنين برسالته المباركة على أن يشاهدوا الأشياء بعينهم لا بعين العباد ويعرفوها بمعرفتهم لا بمعرفة أحد غيرهم في البلاد. فإنه من دواعي الأسى أن ما يشاهده البهائيون في مجتمع اليوم هو استغلال فاحش لا كابح له لجماهير البشر نتيجة جشع شره ينتحل الأعذار لوجوده ادعاءً بأن المسألة ليست قضية شخصية وأن الأمر لا يعدو أن يكون سياقا طبيعيا في معاملات تجارية خاضعة لما تمليه التيّارات والاتّجاهات المسيطرة على السوق. إن ما يشاهده البهائيون في كل مكان ليس إلا هدم الأسس الأخلاقية الحيوية بالنسبة لمستقبل البشر. ويتم ذلك إرضاء لشهوات النفس بصورة فاحشة والتستّر خلف شعار زائف هو ”حرية التعبير“. ففي كل يوم يجد البهائيون أنفسهم يكافحون ضد تعصب العقائد المادية التي تدّعي أنها صوت ”العلم والتعقل“. وتسعى هذه المادية العقائدية جاهدة وبصورة مبيتة إلى حرمان الحياة الفكرية من كل نبضة من نبضات الروح النابعة من ضمير الإنسان ووجدانه.
المسألة برمّتها في نهاية الأمر قضية روحية بحتة بالنسبة لكل فرد بهائي. فالدين البهائي ليس حزبا سياسيا ولا مذهبا عقائديا خلقه البشر، هذا فضلا عن كونه بعيدا كل البعد من أن يكون أداة لإثارة المشاعر والتحريض السياسي ضد التعسّف والجور هنا أوهناك. فمسار التحوّل والتغيير الذي خطّه هذا الدين يصل غايته حين يغيّر النفوس تغييرا أساسيا من حيث الوعي والوجدان. وأما ذلك التحدي الذي يجابه كل من يقوم على خدمة هذا الدين ونصرة أمره فهو العمل على أن يحرّر الفرد نفسه من ربقة التقاليد والمطاليب المتوارثة التي لا تتفق مع ما تشاؤه القدرة الإلهية في بلوغ الإنسانية مرحلة النضج والرشاد. ولعلّه من باب التناقض والمفارقة أن الشدائد والضغوط التي نتعرّض لها وتتحدّى فينا الضمير والوجدان إنما تساعدنا على السعي نحو انعتاق القوى الروحية وانطلاقها. وخلاصة القول إنه لا مندوحة للفرد البهائي المؤمن في مثل هذه الظروف المخيّبة للآمال عن الوقوف وجهاً لوجه أمام تلك الحقيقة التي أكّدتها مرارا الآثار البهائية المقدّسة، إذ تفضّل حضرة بهاء الله بهذا الخصوص قائلا:
ما أراد الله من الأرض ومن عليها إلا قلوب عباده وجعلها عرشـا لظهور تجلّياته. إذاً قدّسـوها عن دونها ليرتسم عليها ما خلقت لها وإن هذا لفضل عظيم.150
* * *”في البدء كان الكلمة …“ بهذه الكلمات يفتتح يوحنا أحد تلامذة السيد المسيح الإنجيل المنسوب إليه. ومنذ ألفي عام يتوقّف قرّاء هذه الكلمات مبهورين مندهشين. ويسترسل صاحب الإنجيل هذا في بيانه فيؤكّد لنا ببساطة مدهشة حقيقة روحية كانت أبدا محور كل ظهور إلهي جاء ليهدي البشر. إنها الحقيقة التي أثبتت وجودها ونفوذها مرّة بعد أخرى في كل حضارة من الحضارات المتتابعة على مر العصور. ”به تكوّن كلّ شيء، وبغيره لم يتكوّن أيّ شيء مما تكوّن“. والذي يحدث هو أن يأتي الظهور الإلهي الموعود فتلتفّ حوله جامعة من المؤمنين ويصبح هذا الظهور مركزا محوريا لحياتهم الروحية ومصدرا للسلطة التي يخضعون لها وتتأسّس منظومة جديدة من المُثُل والقيم تعيد صياغة الوعي ومبادئ السلوك، وتتجاوب مع ذلك الفنون والعلوم ويعاد تصنيف وصياغة القوانين والنظم الخاصة بإدارة شؤون المجتمع. وتبعا لذلك تبرز إلى الوجود ببطء دون أن يعترضها ودون أن يعيقها عائق حضارةٌ جديدة، وهذه الحضارة تتحقّق للملايين من بني البشر ما يصبون إليه من مُثل وتعمل على تفعيل ما يتمتّعون به من قدرات وذلك على نحو تكوّن به عالما جديدا يراه الذين يعيشون فيه أنه عالمهم الحقيقي وأنه أكثر حقيقة بكثير من ذلك العالم الدنيوي الذي تأسس عليه وتكوّن فيه عالمهم. فالكلمة الإلهية بالنسبة لهم هي الأسـاس إذ إن ”الكل قائم بوجودها، وظاهر بفيضها، وراجـع إليها.151 وتستمر الحال على هذا المنوال عبر القرون اللاحقة ليستمرّ المجتمع الإنساني معتمداً أساسا على الدوافع الروحية التي تبعثه إلى الحياة فيضمن بذلك تماسكه والمحافظة على شعوره بالثقة والاطمئنان.
وبظهور حضرة بهاء الله تكرّرت هذه الظاهرة من جديد، ولكن هذا الظهور جاء هذه المرّة على نسق ضمّ أهل الأرض جميعا. وبإمكاننا أن نشاهد فيما مر من أحداث القرن العشرين أولى مراحل مسار التحوّل والتغيير الذي بعثته رسالة حضرة بهاء الله في العالم. وقد تفضل حضرة بهاء الله مشيرا إلى ذلك قائلا:
وأشهد بأن من أول كلمة خرجت من فمه … انقلبت الأشياء كلها والسماء وما فيها والأرض ومن عليها وبها انقلبت حقائق الوجود واختلفت وتفرقت وانفصلت وائتلفت واجتمعت وظهرت الكلمات التكوينية في عالم الملك والملكوت والظهـورات الواحدية في عالم الجبروت والآيات الأحديّة في عالم اللاهوت.152
يصف حضرة شوقي أفندي هذا المسار الخاص بتوحيد العالم بأنه ”الخطة الإلهية الكبرى“ التي سوف تستمرّ في تنفيذ أهدافها مستجمعة قواها ومستزيدة زخما في قوة اندفاعها حتى تجد أبناء الجنس البشري وقد ائتلفوا في مجتمع عالمي موحّد يرفض الحروب ويأخذ بزمام الأمور ليصبح صاحب القرار في صياغة مستقبله ومصيره الجماعي. وجاءت صراعات القرن العشرين لتحدث تغييراً أساسياً في الاتجاه الذي كان من الضروري للخطّة الإلهية أن تتّخذه. ولا سبيل بعد الآن إلى النكوص عن هذا الاتجاه ولا عودة بعد الآن إلى ما كانت عليه الأحوال في العهود السابقة مهما بلغ عظم المحاولات التي يبذلها بين آونة وأخرى بعض عناصر المجتمع للعودة إلى ذلك الماضي.
لن يقلّل بأي صورة من الصور من أهمية هذا الحدث التاريخي الذي يمكن اعتباره فتحا فريدا علمُنا بأن المسار الذي نحن بصدده ما هو إلا في أول بدايته. وطبقا لما أوضحه حضرة شوقي أفندي فإن هذا المسار سوف يقود العالم في مآل الأمر إلى بعث الروحانية في الوعي الإنساني ويؤدي إلى مولد حضارة عالمية تتجسّد فيها المشيئة الإلهية. فمجرّد الإعلان عن الهدف المقصود من الخطة الإلهية يجعلنا ندرك أن أمام الإنسانية طريقا طويلا عليها اجتيازه. فالتغييرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي أنجزت في الأعوام المائة الماضية حدثت في جو من المعارضة والمقاومة الشديدتين من قبل كل قطاعات المجتمع حكاماً ورعيّةً على السواء. ولم يتحقّق ما تحقّق في النهاية إلا بعد أن دفعت الإنسانية ثمنا باهظا شديد الآلام والمعاناة. ومن غير المعقول أن نتصوّر أن التحديات التي سوف نواجهها في المستقبل لن تكون أبهظ ثمنا بالنسبة للجنس البشري الذي ما زال يسعى بكل وسيلة متاحة وممكنة إلى تفادي النتائج الوخيمة للإفلاس الروحي الذي يعانيه حاليا. ويعلّق حضرة شوقي أفندي على هذه النتائج المترتّبة على أزمة الضمير والعقل الموجعة هذه تعليقا يثير الانتباه والتأمل:
إن نوائب لا يمكن تصور فظاعتها، ناهيك عَمَّا لم يحلم به أحد من أزمات وانقلابات وحروب ومجاعات وأوبئة فتّاكة سوف تتألّب مجتمعة لتحفر في قلوب وأرواح جيل غافل الحقائق والمبادئ التي يأبى هذا الجيل الاعتراف بها واتّباعها.153
*لم يكن قد انقضى من القرن العشرين إلا ثلثه حين وجّه حضرة ولي أمر الله الدعوة إلى أتباع حضرة بهاء الله أن يزيدوا من تعمقهم في أمر الله العزيز ومن التبحّر في إدراك معانيه على نحو لم يسبق لهم أن فعلوه في الماضي. وأضاف حضرته أن أمر الله العزيز قد وصل إلى نقطة بات فيها جديرا بإعلان نفسه بأنه ”ليس حركة من الحركات أو فرقة من الفرق أو ما شابه ذلك“. فتسمية كهذه وإن كانت وصفا مناسبا للأمر الكريم في بداية تعرّف عالم الغرب عليه، فإنها اليوم تسمية ”مجحفة بحق النظام دائم الازدهار والتطوّر الذي شيّده هذا الأمر“. ثم استرسل حضرة شوقي أفندي في القول إن تسمية هذا الأمر الكريم بأنه ”دين“ بالمعنى الدارج البسيط تسمية غير دقيقة وليست وافية بحقّه. ثم بيّن أن الأمر الكريم قد:
برهن برهانا قاطعا سـاطعا أمام الملأ جميعا على صحة دعوته، وأثبت حقّه في أن يُعترف به دينا عالميا قُدّر له أن يحتلّ في تمام الوقت مكانته اللائقة به، ليكون جامعا للأمم والشعوب في رابطة واحدة تشيد صرح الصلح الأعظم، وتتصدّى للدفاع وحماية هذا الصلح الذي أعلنه ودعا إليه مؤسّس هذا الدين.154
وفيما كانت سنوات القرن تسير قُدُما انطلقت تلك القوة الخلاّقة ذاتها التي بدأت تنبّه معظم البشر إلى ضرورة قيام الوحدة فيما بينهم، محرّرة باطّراد القوى والطاقات الدفينة الكامنة في أمر الله العزيز لتفسح أمامه المجال للقيام بدور جديد في ميدان الشؤون الإنسانية. ففي العقدين الأولين للقرن العشرين بُنيت الأسس الإدارية والروحية لتنفيذ الأهداف التي وضعها حضرة بهاء الله. وعلى القاعدة المكينة لهذه الأسس كرّس حضرة شوقي أفندي جهده لرعاية الوسائل وصقل الأدوات الإدارية الضرورية لتقدّم الخطة الإلهية وازدهارها. وقد استغرق هذا الإنجاز مدة الأعوام الستة والثلاثين لولايته إضافة إلى فترة السنوات الست اللاحقة لصعوده والتي شهدت إكمال مشروع السنوات العشر الذي وجّه جهود الجامعة البهائية في تلك الفترة. وتمّ بنجاح في العام 1963 تأسيس بيت العدل الأعظم فحفز تأسيسه البهائيين في العالم لتنفيذ أول مرحلة من مراحل مهمة طويلة الأمد هدفها تمكين الجنس البشري بأجمعه من تولي سلطته الروحية وممارستها ليصبح صاحب القرار بالنسبة لتقدّمه ورقيّه. وبحلول نهاية القرن، وبفضل هذا المجهود الجبار، وجد البهائيون أنفسهم قد أصبحوا جامعة عريضة متنوّعة ممثّلة لجميع البشر على اختلاف صنوفهم وتباين أجناسهم وقد توحّدوا في العقيدة والولاء وتعهّدوا تشييد صرح مجتمع عالمي تتجلّى فيه المبادئ الروحية والأخلاقية التي أرادها له حضرة بهاء الله باعث هذا المجتمع ومؤسّسه.
اكتسب هذا المسار قوة لا متناهية في العام 1992 عندما نشر الكتاب الأقدس عربي الأصل مترجما إلى اللغة الإنجليزية ومزيّنا بالحواشي والشروح المفيدة. وحمل هذا الكتاب الذي طال انتظاره مخزون الهداية الإلهية لعصر بلغت فيه الإنسانية مرحلة نضجها الجماعي. وسرعان ما اتّسعت دائرة ترجمات الكتاب الأقدس إلى اللغات المختلفة لتضم لغات المؤمنين بهذا الدين في كل أنحاء العالم وتضع في متناول أيديهم هذا السِّفر الجليل الذي وصفه من أنزله بقوله الأحلى: ”هذا كتاب أصبح مصباح القدم للعالم وصراطه الأقوم بين العالمين، قل إنه لمطلع علم الله لو أنتم تعلمون ومشرق أوامر الله لو أنتم تعرفون.“155 فبدون عرفان المظهر الإلهي لا يمكن لروح الإنسان الاستقامة والاستيقاظ، وبالمثل فإنه بدون الإيمان والإيقان لا يمكن أن يدخل الوعيَ الإنسانيَ الفردي والجماعي شعورٌ أكيدٌ بالثقة والاطمئنان. وهاهو الكتاب الأقدس يتناول القوانين والأحكام الأساسية المتعلّقة بحياة الفرد والجماعة فيعيد صياغتها لتلائم إلى حد بعيد مجتمعا شموليا متنوّعا يضم كل أبناء الإنسانية على تعددهم واختلاف أجناسهم. فجاءت الأحكام والمفاهيم الجديدة لتعالج وتلبّي الاحتياجات الإضافية لبشرية بدأت تدخل مرحلة نضجها الجماعي فيدعوها حضرة بهاء الله متفضّلا: ”يا ملأ الأرض دعوا ما عندكم ثم طيروا بقوادم الانقطاع فوق الإبداع كذلك يأمركم مالك الاختراع الذي بحركة من قلمه قلب العالمين.“156
وإن أحد المعالم الجديرة باهتمام أي مراقب للأحداث التي صاحبت نمو الجامعة البهائية في السنوات المائة الماضية هو نجاح هذا الدين في التغلّب على كل هجوم شُنّ عليه ودحره تماما، كما كان الحال إبان دورتي حضرة الباب وحضرة بهاء الله حين انبرت عناصر في المجتمع الفارسي وسعت بكل وسيلة لديها لخنق هذا الدين والقضاء عليه، إما اعتراضا لقيامه دينا جديدا أو فزعا من المبادئ التي نادى بها. وقلّما مرّ عقد من الزمان في القرن لم يشهد محاولات كهذه تراوحت ما بين اضطهادات دموية يحرّض عليها رجال الدين الشيعة أو أكاذيب سافرة يلفّقها نظراؤهم من رجال الدين المسيحي أو هجمات قمعية تدبّرها أنظمة الحكم الاستبدادية، وأخيرا اعتداءات المنافقين والطامعين والحقودين من أصحاب النيّات السيئة الذين نكثوا عهد حضرة بهاء الله وخانوه. وكان من المفروض حسب أي معيار إنساني أن ينهار هذا الدين تحت ضغوط الرفض والمعارضة العنيفة التي انهالت عليه من كل جانب والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث. ولكنه بدل أن ينهار نما واشتدّ عوده، وانتشر وعطرت سمعته، وتضاعف عدد اتباعه تضاعفا عظيما، وامتدّ نفوذه إلى أبعاد تخطت أحلام الأجيال السابقة ممن آمنوا به. وكان كل هذا الاضطهاد والعسف والجور شاحذاً لهمم أتباعه، وشجّعهم ما تعرضوا له من افتراء عليهم وتشويه لسمعتهم على الدرس والبحث ليعمقوا فهمهم لتاريخ دينهم وللتعاليم التي جاء بها. وتحقّق ما وعد به كل من حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي بأن نقض الميثاق يطهّر صفوف المؤمنين من أناس يُضعف سلوكهم الإيمان في قلوب الآخرين ويتعطّل بسببهم تقدّم أمر الله وانتشاره. وإن لم يكن لهذا الدين أي دليل يسوقه على إثبات وجود قوى غيبيّة تؤيّده وتدعمه، يكفيه أن يشير بالبرهان إلى هذه السلسلة من الانتصارات دون غيرها.
*قبل وفاته بثلاث سنوات، وإثر ابتياعه آخر قطعة أرض لسد حاجة بناء دار الآثار، اغتنم حضرة شوقي أفندي هذه الفرصة ليشرح للعالم البهائي أهمية مشروع البناء الخاص بجبل الكرمل وطبيعة هذا المشروع. وكان حضرة عبد البهاء قد باشر بتنفيذ هذا المشروع ثم أخذ إتمامه على عاتقه حضرة شوقي أفندي الذي كتب بهذا الصدد:
إن هذه الأبنية المتناسقة المنسجمة في نمطها المعماري سوف تشيّد منتثرة على شكل قوس مترامي الأطراف ليحيط بالأضرحة المقدسة لكل من الورقة العليا المباركة… وشقيقها الكريم … ووالدتهما الجليلة … وسيكون إتمام هذه المهمة خطيرة الشأن إتماما كاملا بمثابة إيذان بأن النظام الإداري عالمي النطاق، إلهي التعيين، قد بلغ ذروة نموّه. ولعلّ في الإمكان تقصّي نشأة هذا النظام لنجد بدايته في السنوات الختامية من الماضي البعيد للعصر البطولي من تاريخ ديننا العزيز.157
تم إنجاز المرحلة الأخيرة لهذه المهمة الطموح في السنة الختامية للقرن. وكانت قد انهالت التبرعات من قبل المؤمنين في كل أنحاء العالم استجابة لمتطلّبات تلك البقعة المباركة وما ارتآه لها حضرة بهاء الله من عزة وهيبة. إذ تفضل في ”لوح الكرمل“ قائلا: ”طوبى لك بما جعلك الله في هذا اليوم مقرّ عرشه ومطلع آياته ومشرق بيّناته“ وما مجموعة الأبنية المهيبة المنبسطة على شكل قوس والحدائق المدرّجة الممتدّة من أسفل جبل الكرمل إلى قمّته سوى رمز حي لهذا الدين. فهذا الصرح دليل على امتداد نفوذ هذا الدين واتّساعه ليعمّ سلطانه باطّراد كل أنحاء العالم في غضون قرن الأنوار، ثم يبرز نهائيا للعيان ليثبت حضوره الملموس الباعث على الإجلال والاحترام. فبين جموع الزوار الوافدين يوميا من كل حدب وصوب والذين يحتشدون على المدرّجات وتغص بهم الممرات، ثم بين ذلك السيل غير المنقطع من الضيوف المرموقين الذين يلقون الترحيب في قاعات استقبال المركز العالمي للأمر، وبينهم أناس ممن اختُصّوا بنعمة التبصّر والإدراك يخالجهم الشعور بأن الرؤية التي كشف لنا عنها إشعيا النبي قد بدأت تتحقّق: ”ويَحدث في آخر الأيام أنّ جَبل الرّب يصبح أسمى من كلّ الجبال ويعلو فوق كل التّلال فتتوافد إليه جميع الأمم وتُقبل شعوب كثيرة وتقول لنذهب إلى جبل الرّب.“158
إن الدين البهائي يتميز بحكم طبيعته بأنه قبل كل شيء يمثّل وحدة واحدة متماسكة عضويا يستحيل تفريقها. ففي صلب الظهور البهائي يتجسّد مبدأ الوحدة والاتّحاد، وهذه هي طبيعته الدالّة على تلك الروح التي تكمن في هيكل هذا الدين وتبعث الحياة فيه. ولعلّ الدين البهائي بين ما سبقه من الأديان هو الدين الوحيد الذي تمكّن من المحافظة على وحدته واتّحاده رغم الجهود المتكرّرة لتقويض أركان هذه الوحدة. فقد قاوم هذا الدين وناضل يحالفه النجاح ضد تلك الآفة المستديمة التي كانت دائما تستهدف الأديان لزرع الشقاق والانقسام فيها. أما السّر الضامن لنجاح نشاط الجامعة البهائية التبليغي فيكمن في الوسـائل والهيئات التي خلقها الظهور الإلهي نفسه لتنفيذ هذا النشاط، إضافة إلى أن مؤسِّسَيْ الأمر الكريم هما اللذان ابتدعا الأدوات والأساليب اللازمة لتنفيذ الخطة الإلهية، وأنهما هما اللذان شرعا في المهمة الجليلة وقيادة مسيرتها بكل تفاصيلها الهامة. ففي خلال القرن العشرين وبفضل جهود كل من حضرة عبد البهاء وحضرة وليّ أمر الله صار جبل الكرمل شاهدا على الوحدة المتأصّلة في كيان الأمر الإلهي وهيكله. وخلافا لما هي عليه الحال بالنسبة للأديان الأخرى، فإن الدين البهائي له مركز إداري وروحي واحد لا يتجزّأ في هذه البقعة المباركة بالذات من بقاع العالم. أما هيئات هذا الدين المسؤولة عن إدارة شؤونه وقيادة أتباعه فتجد محورها الروحي والمعنوي في رحاب الضريح المقدّس لحضرة الباب المبشّر الشهيد بهذا الدين. ويلاحظ الكثيرون ممن يزورون الحدائق المحيطة بضريح حضرة الباب تناسقا وانسجاما في الأزهار والأشجار المتنوّعة كأن هذه الحدائق ذاتها ترمزإلى ”مبدأ الوحدة في التنوّع والتعدّد“ وهو مبدأ مثالي من مبادئ الأمر الكريم طالما اجتذب اهتمام الزائرين وحظي بإعجابهم.
لم يسجّل حدث من الأحداث ختام مائة عام من الإنجازات والانتصارات مثلما سجّل ذلك الحدث الذي فاجأ العالم البهائي وهزّ مشاعره وأغرق المؤمنين في كل مكان في لجّة من الحزن العميق والأسى البالغ. ففي التاسع عشر من شهر كانون الثاني (يناير) في العام 2000 أعلن بيت العدل الأعظم في رسالة وجّهها إلى العالم البهائي ما يلي:
في الساعات الباكرة من صباح هذا اليوم تحرّرت من قيود هذا العالم الدنيوي روح أمة البهاء روحية خانم، قرينة حضرة شوقي أفندي المحبوبة وآخر حلقة تربطنا بعائلة حضرة عبد البهاء المباركة … كان للسنوات العشرين من ارتباطها الوثيق والحميم بحضرة شوقي أفندي ما دفع قلمه المبارك لأن يغدق عليها آيات المديح والثناء فلقّبها بقوله إنها ’سنَدي ودرعي وشريكتي التي لا تعرف الكلل في تنفيذ المهمّات الثقيلة التي أخذتها على عاتقي‘.
وفيما أخذت غمامة الحزن والتأسي التي جلبتها صدمة الخسارة الفادحة تنقشع من سماء العالم البهائي أشرق تحتها بالتدريج شعور نمّ عن عرفان وتقدير لما لا نهاية له من فيض النعم والأفضال التي أسبغها حضرة بهاء الله. فقد كُتب لهذه الشخصية المرموقة، أمة البهاء، أن تعيش وتعمّر لتحظى بنصيب مشاهدة الانتصارات العظيمة التي أسهمت هي في تحقيقها إسهاما رائعا وتسعد بالاحتفال بها احتفالا لائقا بعدما صمدت روحها التي لا تُغلب في المجاهدة والتضحية البهائية طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
*يحثّ حضرة بهاء الله أتباعه من المؤمنين في ندائه لهم على أن يسعوا إلى مشاطرة الآخرين الرسالة الكريمة الداعية إلى أن اليوم هو يوم الله، ثم يستذكر من جديد حديث الفطرة التي خُلق عليها الإنسان فيتفضّل قائلا: ”اليوم يوم البيان، وعلى أهل البهاء أن يقوموا على هداية أهل العالم إلى الأفق الأعلى بكامل الوفاق والمداراة، فالأجساد تطلب الأرواح، وعلى النفوس الملكوتية أن تبعث الحياة في الأجساد بنفحات الكلمة الإلهية“.159 وما أصدق انطباق هذا المبدأ على الحاجة التي تبعثها الكلمة الإلهية في نفوس الأفراد مثل انطباقه أيضا على الحياة الجماعية للبشر، إذ يتفضّل حضرة عبد البهاء فيقول: ”إن المدنيّة المادية مثلها مثل جسد الإنسان. فمهما تحلّى هذا الجسد بآيات الرشاقة والأناقة والجمال فهو ميت بدون الروح. أما المدنيّة الإلهية فهي حياة الروح الذي يحيا به الجسد ….“160
تلخّص لنا هذه المقارنة التي لا جدال فيها العلاقة القائمة بين المسارين التاريخيين اللذين دفعت بهما المشيئة الإلهية قُدُما ليلتقيا في غضون قرن الأنوار. ولا يمكن لأحد من الناس إلا وأن يشعر بالرضا والارتياح لما حققه المجتمع الإنساني من تقدّم وتطوّر في السنوات المائة الأخيرة، وعلى الأخص ذلك التقدّم الناجم عمّا تم من جمع شمل أمم الأرض وتلاحم شعوبها، اللهم إلا من عَميت أبصارهم عن رؤية القدرات الفكرية والاجتماعية الكامنة في الجنس البشري أو من فقدوا القدرة على الشعور والإحساس يأمّن حاجات العالم الإنساني. وما من شك في أن البهائيين هم أكثر الناس تمجيدا وإجلالا لهذه الإنجازات لأنهم يرونها تحقيقا لإرادة الله وتنفيذا للهدف الذي شاءته العناية الإلهية للبشر. لكن هذه الحضارة البشرية المادية يتعالى صراخها بنداء يزداد توقا ويأسا مع مرور كل يوم راجية أن يحلّ في جسدها ذلك الروح الذي يبعث فيها الحياة. وكما هو حال كل حضارة عرفها التاريخ فإن الحضارة الراهنة، ما لم تدب فيها حياة الروح وتستيقظ فيها قدراتها المعنوية، لن تجد الأمن والسلام والعدالة والوحدة التي تسمو فوق كل ما تحققه المفاوضات أو المساومات. وفي هذا الصدد وجّه حضرة بهاء الله نداء إلى ”نوّاب الشعب المنتخبين في كل بلد من بلدان العالم“ تفضّل فيه قائلا:
يا أصحاب المجلس ... انظروا العالم كهيكل إنسان … والذي جعله الدِّرياق الأعظم والسبب الأتمّ لصحّته هو اتّحاد من على الأرض على أمر واحد وشريعة واحدة.161
وبناء عليه فإن وظيفة دين الله في المرتبة الأولى ليست في قيامه بدور الداعم أو المشجّع أو القدوة. فمهما بلغ شأن الجامعة البهائية مع استمرارها في الإسهام بكل طريقة ووسيلة ممكنة في العمل على توحيد العالم واتّحاده وتحسين أوضاعه الاجتماعية، فإن مثل هذا الإسهام يظل ثانويا بالنسبة لغاية هذا الدين وهدفه الحقيقي. وما هذا الهدف سوى تقديم العون لأهل العالم ومساعدتهم على الانفتاح لتتقبّل أفئدتهم وعقولهم تلك القوة الواحدة الوحيدة القديرة على تحقيق أقصى آمالهم وأمانيهم وطموحاتهم. وليس هناك من أحد يمكنه إسداء هذا العون سوى أولئك الذين أيقظت الكلمة الإلهية أرواحهم. وما من أحد هناك يمكنه أن يكون شاهد صدق على أن الوعد بعالم يسوده العدل والسلام وعد حقّ إلا أولئك الذين أدركوا، ولو إدراكا مبهما، جوهر تلك الكلمات التي تضمنها النداء الإلهي داعيا حضرة بهاء الله إلى القيام بتأدية رسالته المباركة:
يا قلم هل ترى اليوم غيري؟ أين الأشياء وظهوراتها وأين الأسماء وملكوتها والبواطن وأسرارها والظواهر وآثارها؟ قد أخذ الفناء من في الإنشاء وهذا وجهي الباقي المشرق المنير. هذا يوم لا يرى فيه إلا الأنوار التي أشرقت ولاحت من أفق وجه ربّك العزيز الكريم. قد قبضنا الأرواح بسلطان القدرة والاقتدار وشرعنا في خلق بديع فضلا من عندنا وأنا الفضّال القديم.162
* * *1 : حضرة بهاء الله، "مجموعة ألواح"، (القاهرة : سعادت 1920) ص ص 321 – 322 .
2 : مقتطف من Shoghi Effendi, The Promised Day is Come. (Wilmette: Bahá’í Publishing Trust, 1996), p. 1
3 : Eric Hobsbawm, Age of Extremes: The Short Twentieth Century 1914-1991 (London; Abacus, 1995) p.584
4 : كانت مستعمرة الكونغو لمدة ثلاثة عقود من الزمان (1877 – 1908) تحت الإدارة
الشخصية للملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا. وكان الملك يعتبر المستعمرة حكرا خاصا يتبع له
شخصيا. ولكنّ الفظائع التي ارتكبت إبان الإدارة السيئة للمستعمرة أثارت موجة من الاحتجاجات الدولية فاضطر ليوبولد الثاني أن يسلم المستعمرة العام 1908 إلى الحكومة البلجيكية لتقوم هي بإدارتها.
5 : يستعرض بشئ من الاسهابA.N. Wilson والمؤلفون المشتركون معه في إصدار كتابه بعنوان: God’s Funeral (London: John Murray, 1999) العوامل التي أحدثت هذه التغييرات. وكان قد نشر في العام 1872 كتاب بعنوان: The Martyrdom of Man (London: Pemberton Publishing, 1968) لمؤلفه Winwood Reade أعيد نشره في عام 1948 وهو الكتاب الذي أصبح بمثابة "إنجيل العلمانية" في العقود الأولى من القرن العشرين، عبّر عن الاعتقاد الذي ساد الناس بأن "بني الإنسان سوف يسيطرون في النهاية على قوى الطبيعة، وبانهم سوف يصبحون مخططي النظم ومخترعي العوالم بأنفسهم. وعندئذ يبلغ الانسان [حسب ذلك الاعتقاد]، الكمال، اذ يصير عندئذٍ الخالق ويصبح ذلك الاله الذي يقوم على عبادته العامة من الناس". هذا المقتطف أوردته Anne Glyn-Jones, في كتابها بعنوان Holding up a Mirror: How Civilizations Decline (London: Century, 1996), pp. 371 – 372
6 : حضرة عبد البهاء، "مكاتيب عبد البهاء"، (من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل،
1982) ص 232.7 : حضرة عبد البهاء، "الرسالة المدنية"، ترجمة بهية فرج الله كيوليك، (من منشورات دار النشر
البهائية في البرازيل، 1986)، ص 88 : حضرة عبد البهاء، "مكاتيب عبد البهاء"، ج 4 (طهران: هيئة نشر امري، 1965) ص 133.
9 : المصدر السابق نفسه.11: أغلقت هذه المدرسة العام 1934 بأمر من رضا شاه وذلك لأن المدرسة كانت تحتفل بالعطل
البهائية معتبرة إيّاها عطلا دينية. وبعد ذلك تم إغلاق المدارس البهائية كافة في إيران.
12: للاطلاع على نبذة تاريخية عن مشرق الأذكار انظر: The Bahá’í World, Vol. XIV (Haifa: Bahá'í World Centre, 1975) pp. 479-48
13: Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh (Wilmette: Bahá’í Publishing Trust 1991) p.156
14: "أقصى دائرة من هذه الدوائر التسع المحيطة بهذا النظام متسع الأرجاء هي الكرة الأرضية بأسرها التي أصبحت مثالا مرادفا في هذا العالم الدنيوي لذلك المركز المرموق الذي أسبغ على المبشّر بديننا في العوالم الغيبية. وفي قلب هذه الكرة الأرضية تقع "أقدس بقعة" أجلّها حضرة عبد البهاء فوصفها بأنها "مهبط الرسل والأنبياء" والتي ينبغي اعتبارها مركز العالم وقبلة الأمم. وفي أقدس بقاع الأرض هذه يرتفع جبل الرّب، جبل القدسية الأبدية وكرم الله وكهف إيليا النبي الذي مثل حضرة الباب عودته ورجوعه. وفي جبل الرب المقدس تمتد الممتلكات الشاسعة التابعة للمقام الأعلى والتي تشمل رحابه المجاورة. وفي وسط هذه الممتلكات الشاسعة المعترف بها دوليا كوقف للدين البهائي ينبسط الحرم المقدس الذي يتألف من ساحة تضم جنائن وحدائق مدرّجة تغدق على كل ما يجاورها زينة ورونقا وتكسبها جاذبية فريدة. وفي حضن هذا المحيط الأخضر البهيج يقوم المقام الأعلى بكل جماله وروعته، والذي روعي في تصميم بنائه الخارجي تجميل البناء الأصلي والمحافظة عليه. وهو البناء الذي رفعه حضرة عبد البهاء ليكون مثوى المبشّر الشهيد بديننا الكريم. وينتصب هذا المقام الجليل وكأنه محارة أودعت فيها لؤلؤة غالية الثمن هي قدس الأقداس حيث الحجرات السفلى التي شيّدها حضرة عبد البهاء وتحتوي على الرمس الطاهر لحضرة الباب. وفي قلب قدس الأقداس هذا الضريح والمدفن الذي وضع فيه أقدس تابوت. ففي المدفن المقدس يرقد التابوت الرخامي الأبيض الذي أودعت فيه جوهرة غالية لا تثمّن ألا وهي رفات حضرة الباب المقدس."
Shoghi Effendi, Citadel of Faith (Wilmette Bahá’í Publishing Trust, 1995), pp. 95 – 96
15: المصدر السّابق نفسه، ص 9516: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع: من آثار حضرة ولي أمر الله شوقي ربّاني"، ترجمة
السيد محمد العزاوي (من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، 1986) ص 335
17: M. Balyuzi, 'Abdu'l-Bahá: The Centre of the Covenant of Bahá’u’lláh, 2nd ed. (Oxford: George Ronald, 1992), p. 136.
18: حضرة عبد البهاء، "مكاتيب حضرة عبد البهاء"، ج1، ص 235
19: حضرة شوقي أفندي، "كتاب القرن البديع"، ص 31221: The Bahá’í Centenary, 1844-1944, compiled by the National Assembly of the Bahá’ís of the United States and Canada (Wilmette: Bahá’í Committee, 1944) pp. 140-141
22: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع"، ص 34023: 'Abdu'l-Bahá, 'Abdu'l-Bahá in London: Address and Notes of
Conversations, (London: Bahá’í Publishing Trust,: 1982) pp. 19-20.
24: حضرة عبد البهاء، "منتخباتي از مكاتيب حضرة عبد البهاء"، ج1 (ويلمت: مؤسسة
مطبوعات بهائي، 1979م) ص ص 29-3026: حضرة عبد البهاء، "مجموعة خطابات حضرة عبد البهاء" (لانكنهاين: لجنة ملى نشر آثار
أمري، 1986م) ص 2627: 'Abdu'l-Bahá, Selections from the writings of 'Abdu'l-Bahá, op. cit,
p. 106 (Section 64.1)28: حضرة عبد البهاء، "مكاتيب عبد البهاء"، ج 1، ص 162
29: 'Abdu'l-Bahá, Promulgation of Universal Peace, op. cit pp. 455-456
30: Juliet Thompson, The Diary of Juliet Thompson (Los Angeles: Kalimát Press, 1983) p. 313
31: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع"، ص 29632: Bahá’í World Faith (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1976),
p.42933: 'Abdu'l-Bahá, 'Abdu'l-Bahá in Canada, (Forest: National Spiritual Assembly of Canada, 1962), p.52
34: 'Abdu'l-Bahá, Paris Talks, 12th ed. (London: Bahá’í Publishing Trust, 1995) p.64
35: Eric Hobsbawn, Age of Extremes: The Short Twentieth Century, 1914 – 1991, op. Cit., p 23.
36: حضرة بهاء الله "منتخبات از آثار حضرة بهاء الله"، (لانكنهاين – المان: لجنة نشر امري بلسان
فارسي وعربي، 141ب - 1985م )، ص 17037: Edward R. Kntowicz, The Rage of Nations (Cambridge: William B. Eardmans Publishing Company, 1999) p. 138 ويضيف كانتوفيتش إلى ما يورده في كتابه من معلومات أن مجموع من هلك في الحرب العالمية الأولى بلغ 48 مليون نسمة، 15 مليونا منهم "اندثروا" بسبب تضعضع صحتهم التي جعلتهم فريسة لوباء إنفلونزا ما بعد الحرب وبسبب تدنّي مستوى الإنجاب نتيجة هذه الأمراض والأوبئة. أما المؤرخ هوبز باوم فيقدّر أن فرنسا خسرت عشرين في المائة من رجالها المؤهلين للخدمة العسكرية، بينما فقدت بريطانيا ربع خرّيجي جامعتي أكسفورد وكمبريدج من الذين خدموا أيام الحرب. أما خسائر ألمانيا فقد بلغت 1,8 مليون أو ثلاثة عشر بالمائة من مجموع الرجال الذين هم في سن الخدمة العسكرية.
38: ظهر منذ وفاة الرئيس ويلسن وخلال السنوات الماضية عدد من كتب السيرة تناولت حياته بالدرس والبحث ومن أحدثها ما يلي: Louis Auchincloss, Woodrow Wilson (New York: Viking Penguin, 2000) ; A. Clement Kendrick, Woodrow Wilson: World Statesman (Laurence: University Press of Kansas, 1987); Thomas J. Knock, To End All Wars: Woodrow Wilson and the West for a New World Order (Oxford: Oxford University Press, 1922).
39:'Abdu'l-Bahá, The Promulgation of Universal Peace, op. cit., p. 305
40: Shoghi Effendi, Citadel of Faith, op. cit., p.32
41: المصدر السابق نفسه، ص ص 32-3342: وحسبما تم الاتفاق عليه في نهاية الأمر لم تنص المادة العاشرة من ميثاق عصبة الأمم على أية إشارة للتدخل العسكري في حالة العدوان، بل اكتفت بالقول: "… يوصي المجلس بنوعية الوسائل التي يتمكن بها من تنفيذ هذا الالتزام."
43: Shoghi Effendi. The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., pp. 29-30
44: Shoghi Effendi, Citadel of Faith, op. cit. pp. 28-29
45: المصدر السابق نفسه، ص 746: حضرت الباب، "منتخبات آيات از آثار حضرة نقطة أولى عز اسمه الأعلى"،
(طهران: مؤسسة مطبوعات امري، 136ب)، ص3747: حضرة بهاء الله، "الكتاب الأقدس"، (المركز العالمي للأمر [1999])، الفقرة 88
48: حضرة بهاء الله، "مجموعة از ألواح جمال أقدس أبهى كه بعد از كتاب أقدس نازل شده،"
الطبعة الثانية (هوفهايم: لجنة ملّي نشر آثار أمري، 165ب – 2000م)، ص 6
49: جاء في براءة الوسام إشادة بما قدّمه حضرة عبد البهاء من نصائح لسلطة الانتداب أثناء
محاولتها إعادة الحياة المدنية إثر سقوط النظام العثماني في المنطقة، كما جاء فيها هذا القول:
"إن نفوذه كله انحصر في فعل الخير." Moojan Momen (ed). The Bábi and Bahá’í Religions: 1844-1944. Some Contemporary Western Accounts (Oxford: George Ronald 1981) p.344
50: The Bahá’í World, vol. XV (Haifa: Bahá'í World Centre, 1976) p 132
51: Horace Holley, Religion for Mankind (London: George Ronald, 1956), pp. 243-244
52: حضرة عبد البهاء، " ألواح وصايا حضرة عبد البهاء المباركة "، (ترجمت وطبعت بمعرفة لجنة
النشر للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين بمصر والسودان، 1948)، ص 12.
53: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع"، ص ص 400-401
54: Shoghi Effendi, Bahá’í Administration (Wilmette: Bahá’í Publishing Trust, 1998) , p. 15.
55:Rúḥiyyih Rabbáni, The Priceless Pearl (London: Bahá’í Publishing Trust, 1969), pp. 121, 123.
56: Shoghi Effendi, Bahá’í Administration , op. cit., pp 187, 194
57: لقد توالت الحالات الواحدة بعد الأخرى تحكي عن سوء تصرفات أشقاء حضرة شوقي
أفندي وشقيقاته وأبناء خؤولته، فلم يترك له هؤلاء خيارا سوى أن يخبر العالم البهائي بأنهم قد
خانوا العهد ونقضوا الميثاق.Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., p. 36
59: المصدر السابق نفسه، ص ص 42-4361: حضرة عبد البهاء "الكشف عن المدنية الإلهية"، (الإسكندرية، لجنة الترجمة والطبع للمحفل
الروحاني المركزي للبهائيين بمصر والسودان، 1947)، ص ص 65-66
62: المصدر السابق نفسه، ص 20363: Shoghi Effendi, The Advent of Divine Justice, op. cit., pp. 90, 19, 85 64: حضرة شوقي أفندي، "مطالع الأنوار: تاريخ النبيل عن وقائع الأيام الأولى للأمر البهائي"، (القاهرة، المحفل الروحاني المركزي للبهائيين بالقطر المصري والسودان، 1940)، [ترجمة حضرة شوقي أفندي أصلا عن الفارسية إلى الإنجليزية وترجم النص الإنجليزي إلى العربية عبد الجليل سعد] ص ص 73-74
65: Shoghi Effendi, Bahá’í Administration, op. cit. p. 52
66: حضرة عبد البهاء، "منتخباتي مكاتيب از مكاتيب حضرة عبد البهاء"، ج 1 ص 77
67: Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., p 4.
68: المصدر السابق نفسه، ص 1969: حضرة بهاء الله، "منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله"، ص 60
70: المصدر السابق نفسه، ص 1972: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع"، ص ص 41-42
:73 The Bahá’í World, Vol. X (Wilmette: Bahá’í Publishing Trust, 1949), pp. 142-149 يحتوي هذا المجلد العاشر على عرض عام لماحققه أمر الله العزيز من التوسّع والإنتشار حتى نهاية مشروع السنوات السبع الأوّل.
74: Shoghi Effendi, Messages to Canada, 2nd ed. (Thornhill: Bahá’í Canada Publishing, 1919), p. 144
75: حضرة شوقي أفندي، "كتاب القرن البديع"، ص 45376: حضرة بهاء الله، "منتخبات از آثار حضرة بهاء الله"، ص 131
77: حضرة بهاء الله، "كتاب الإيقان"، (من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل [1980])،
ص 26.78: "في بداية القرن العشرين اعترف معظم الناس في أوروبا بما للأخلاق والآداب من نفوذ خيّر
... وتوصّل [بعد ذلك] المفكرون من الاوروبيين الى الاقتناع بوجود تقدم اخلاقي وباندحار
مظاهر الفساد والهمجية. ولكن في نهاية هذا القرن يبدو من الصعب علينا أن نثق بوجود قانون
أخلاقي أو بأن هناك تقدم في مستوى الأخلاق والآداب." Jonathan Glover, Humanity: A Moral History of the Twentieth Century (London: Jonathan Cape, 1999) p. 1. يركّز غلوفر دراسته بصورة خاصة على أسباب ظهور العقائد الفكرية
الايديولوجية وآثارها في القرن العشرين.79: Shoghi Effendi, The Promised Day is Come, op. cit., pp. 185-186
80: المصدر السابق نفسه.81: حضرة بهاء الله، "منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله"، ص ص 50-51
82: المصدر السابق نفسه، ص 3483: حضرة عبد البهاء، "مكاتيب عبد البهاء"، ج 7 (طهران: مؤسسة ملي مطبوعات امري،
136 بديع)، ص 11784: Shoghi Effendi, Messages to America (Wilmette: Bahá’í Publishing Committee, 1947) , p. 28.
85: المصدر السابق نفسه، ص ص 9، 10، 14، 2287: Ruḥiyyih Rabbáni, The Priceless Pearl, op. cit., p. 382
88: Shoghi Effendi, Messages to America, op. cit., p. 53
89: Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., p. 46.
90: `Abdu'l-Bahá’ in Canada, op. cit., p. 5191: `Abdu'l-Bahá'í Promulgation of Universal Peace, op. cit., p. 377
92: 'Abdu'l-Bahá, Founding of World Unity (Wilmette: Bahá’í Publishing Trust, 1979) p. 21.
93: منح ليستر بولز بيرسون (1897-1972) جائزة نوبل للسلام العام 1957 تقديرا لما أسهم
به في مجال السياسة الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة فيما يتعلق بمشروعه
الذي أدى إلى تشكيل أول قوة طوارئ تابعة للأمم المتحدة في قناة السويس العام 1956.
وكان ذلك لمعالجة الأزمة الناجمة عن غزو مصر من قبل القوات العسكرية البريطانية والفرنسية بالاتفاق مع القوات الإسرائيلية وذلك إثر تأميم مصر لقناة السويس. أما القرار الذي اتخذته عصبة الأمم في العام 1936 ضد الغزو الإيطالي للحبشة فقد كان الأول من نوعه إذ فرضت العقوبات الدولية لأول مرة على المعتدي. وكتب حضرة شوقي أفندي يمجّد هذا القرار قائلا: "لقد كان حدثا عديم المثال في التاريخ البشري"، أنظر:
Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., p. 191
94: احتل منصب الأمين العام للأمم المتحدة ثلاثة أشخاص هم حسب الترتيب الزمني: خافيير بيريز دي كويار (1982-1991) من بيرو، وبطرس بطرس غالي (1992-1996) من مصر، وكوفي عنان من غانا الذي احتل منصب الأمين العام بعد انتخابه من قبل المنظمة الدولية عام 1997 وأعيد انتخابه في العام 2001
95: آن فرنك (1929-1945) فتاة يهودية كانت ضحية السياسة النازية للإبادة الجماعية، ألقي القبض عليها وهي مختبئة في منزل في هولندا في آب (أغسطس ) العام 1944 وأرسل بها إلى معسكر بلسن حيث توفيت بعد عام واحد. نشرت مذكراتها العام 1952 تحت عنوان "مذكرات فتاة شابة" ثم أُخرجت هذه المذكرات كتمثيلية مسرحية وكفيلم سينمائي. مارتن لوثر كينغ (1929-1968) قس أميركي حائز جائزة نوبل للسلام وأحد الأقطاب الرئيسيين لحركة المطالبة بالحقوق المدنية للأقليات في أمريكا وخاصة أولئك المنحدرين من أصل أفريقي. اغتيل في 4 نيسان (إبريل) العام 1968 في ممفيس من ولاية تينيسي. خُلّدت ذكراه في يوم عطلة وطني في الولايات المتحدة يوافق كل ثالث يوم اثنين من شهر كانون الثاني (يناير). باولو فراير (1921-1997) من رجال التعليم المبدعين في البرازيل، يتمتع بشهرة عالمية نسبة لنشـاطه الرائد في ميدان تعليم الكبار، ولكنه سجن مرتين في موطنه الأصلي. تيري ته كاناوا (1944- ) من مواليد نيوزيلندا تنحدر من الأصل الماوري وهم سكان البلاد الأصليون، وهي إحدى كبرى مغنيات الأوبرا في العالم. وفي العام 1982 أنعمت عليها الملكة أليزابيث الثانية بوسام الإمبراطورية البريطانية من درجة قائد (Commander). غبريال غارسيا ماركيز (1928- ) كاتب وروائي من كولومبيا حائز جائزة نوبل للآداب، اضطر أن يعيش طوال الستينيات والسبعينيات منفيا بمحض اختياره في المكسيك وإسبانيا حتى لا يتعرض للاضطهاد في موطنه. رافي شنكار (1920- ) من الهند وهو مؤلف موسيقي وعازف على آلة السيتار، قام برحلات واسعة في أوروبا وأمريكا الشمالية فأسهمت مواهبه الفذة في بعث اهتمام خاص بالموسيقى الهندية في كل أنحاء العالم الغربي. أندريا ديمتريفتش ساخاروف (1921-1989) وعالم نووي روسي، تخلّى عن البحث العلمي ليصبح المدافع الرئيسي عن الحريات والحقوق المدنية في الاتحاد السوفييتي، فنال تقديرا لنشاطاته تلك جائزة نوبل للسلام العام 1975 بينما كان رهن الاعتقال منفيا في داخـل وطنه. الأم تيريزا واسمها الأصلي أغنيس غنويا بورجـايو (1910-1997) راهبة كاثوليكية ألبانية الأصل مؤسسة "مبشّري الرحمة" وقد كان لنشاطاتها المتّسمة بالبذل والتضحية في خدمة الفقراء والمشردين والمشرفين على الموت في مدينة كلكتا الفضل في فوزها بجائزة نوبل للسلام في العام 1979. يانغ يا مو (1951- ) رائد من رواد الإخراج السينمائي في الصين، ينتمي إلى ما يعرف بالجيل الخامس للسينما الصينية حاز عدداً من الجوائز الفنية تقديرا لأعماله السينمائية المتّسمة برهافة الحس والتصوير المدهش.
96: كانت المحافل الروحانية المركزية الجديدة ثلاثة، فقد تأسس بكندا محفلها الخاص بها العام 1948، أما المحفل الإقليمي لأمريكا الوسطى وجزر الأنتيل فتأسس العام 1951 وفي العام نفسه تأسس المحفل الإقليمي لأمريكا الجنوبية.
97: Shoghi Effendi, Message to the Bahá’í World, 1950-1957 (Wilmette:
Bahá’í Publishing Trust, 1995), p. 41.99: حضرة عبد البهاء، " ألواح وصايا حضرة عبد البهاء المباركة"، ص 13
100: قاد عصبة الناقضين التي كانت تحتل قصر البهجة أخوا حضرة عبد البهاء لأبيه يؤازرهما في
ذلك أحد أبناء العم المسمى بمجد الدين، فقام هؤلاء بعد صعود حضرة بهاء الله بشن حملة لا هوادة فيها من التهجم وحبك الدسائس ضد كلٍّ من حضرة المولى عبد البهاء وحضرة ولي أمر الله شوقي أفندي. إلا أنهم أُجبروا أثناء الانتداب البريطاني على الخروج من قصر البهجة وذلك بسبب إهمالهم صيانة المكان والمحافظة على سلامة الأبنية، فأتاح ذلك الفرصة لحضرة ولي أمر الله لترميم البناء والمحافظة على قداسة المكان في نظر السلطات المحلية واعتباره من الأماكن المقدسة. وتمكن حضرة شوقي أفندي تبعا لذلك من أن يستصدر من الحكومة الإسرائيلية التي تشكلت حديثا قرارا يمنح كل الممتلكات المتعلقة بقصر البهجة صفة مميزة، وتبع ذلك مرسوم إداري يأمر كل من بقي من الناقضين بإخلاء البناء البشع المجاور للقصر الذي كان لا يزال في حوزتهم. وعندما فشل الناقضون في التماسهم لدى المحكمة العليا لنقض الحكم الصادر ضدهم، نُفّذ أمر الإخلاء بالنسبة إليهم، وهُدم البناء المذكور بأمر حضرة ولي أمر الله فتم بكل نجاح إزالة آخر عقبة في سبيل إجراء التحسينات المتعلقة بأبنية القصر وتجميل ما يحيط بها من الحدائق والبساتين.
101: حضرة بهاء الله، "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، (نزلت بعد الكتاب الأقدس)، ص 87
102: حضرة عبد البهاء، "ألواح وصايا حضرة عبد البهاء المباركة"، ص ص 19-20
103: للاطلاع على سرد كامل للدور الذي قام به أيادي أمر الله في تلك السنوات الحرجة أنظر كتاب أمة البهاء روحية خانم
Ministry of the Custodians (Haifa; Bahá’í World Center, 1997)
104: , op. cit., p. 148 Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh
105: حضرة عبد البهاء، " ألواح وصايا حضرة عبد البهاء"، ص 20
106: Message from the Universal House of Justice, 1963 – 1986 : The Third Epoch of the Formative Age (Wilmette: Bahá’í Publishing Trust, 1996), p. 14
107: تحدثت روحية خانم عن هذا الموضوع في أماكن مختلفة من كتابها بعنوان
The Priceless Pearl وخاصة في الصفحات 79 و 85 و 90 و 128 و 129
108: حضرة بهاء الله، "مجوعة من ألواح حضرة بهاء الله"، (نزلت بعد الكتاب الأقدس)، ص 88
109: حضرة عبد البهاء، " الرسالة المدنية من آثار حضرة عبد البهاء"، ص 59
110: جورج اسلمنت، "بهاء الله والعصر الجديد"، (ريودي جانيرو، دار النشر البهائية، 1988)، ص 278
111: حضرة عبد البهاء، "ألواح وصايا حضرة عبد البهاء"، ص ص 11 - 12
112: Shoghi Effendi. The World Order of Bahá’u’lláh, p. 8
113: حضرة بهاء الله، "الكتاب الأقدس"، الفقرة 83114: حضرة بهاء الله، "لوح مبارك خطاب به شيخ محمد تقي محمد أصفهاني معروف به بخفي"، (لانكنهاين – ألمانيا، لجنة نشر آثار أمري بلسان عربي وفارسي، 1982)، ص 16
115: Shoghi Effendi. The World Order of Bahá’u’lláh, p. 43
116: المصدر السابق نفسه، ص 24117: حضرة بهاء الله، "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، (نزلت بعد الكتاب الأقدس)، ص 85
118: Shoghi Effendi. The Advent of Divine Justice, p. 27
119: The Establishment of the Universal House of Justice, compiled by the Research Department of the Universal House of Justice (Oakham: Bahá’í Publishing Trust, 1984, p.17)
120: Universal House of Justice, Messages from the Universal House of Justice, 1963 – 1986: The Third Epoch of the Frontier Age, Op. cit. p.52
121 : المصدر السابق نفسه، ص 104122 : Bahá’í News, No. 73, May 1933 (Wilmette: National Spiritual Assembly of Bahá’ís of the United States), p.7.
123: أسس بيت العدل الأعظم هذا المعهد عام 1998 وكالة تابعة للجامعة البهائية العالمية وظيفته إعداد التقارير لترفع إلى بيت العدل الأعظم بواسطة مكتب الإعلام. وتصف وثيقة التفويض المعهد بأنه وكالة "تختص بإجراء البحوث والدراسات في مجال المعرفة الإنسانية ودعائمها الروحية والمادية بالإضافة إلى تحديد دروب مسيرة التقدم والرقي."
124: حدد هدف تأسيسي مركز الدراسات البهائية في بيكين كما يلي: "إجراء البحوث ووضع الدراسات عن الدين البهائي بصورة منتظمة لتشمل أيضا الثقافة الدينية النابعة عن هذا الدين إضافة إلى روح تعاليمه الإنسانية وفضائله الأخلاقية…"
125: Star of the West, Vol. 13, No. 7 (October 1922), pp. 184 – 186
126: حضرة عبد البهاء، " ألواح الخطة الإلهية "، ص 24
127: في بداية العام 1904 أسس أحد الأحباء الإيرانيين من أهل العلم والمعرفة المعروف باسم صدر الصدور أول برنامج دراسي لتدريب المبلغين من الشباب البهائي في طهران وذلك بتشجيع من حضرة عبد البهاء. وكانت الدروس تعقد يوميا وكان المتخرجون من هؤلاء الطلاب قد درسوا عقائد الأديان الأخرى وتعاليمها كما درسوا الدين البهائي من مختلف النواحي. وقد أسهم هؤلاء إسهاما عظيما في نشر الأمر الإلهي وتدعيمه في موطنهم.
128: إن النموذج موضوع البحث هو "معهد روحي" الذي تبنّى العديد من الجامعات البهائية في العالم برامجه ومنهجية التدريس فيه. والفلسفة التي توجه نشاطات "معهد روحي" هي في دمج النشاطات التي تسعى إلى تقديم خدمات عامة مع دراسة ينصب فيها الاهتمام على الآثار المقدسة نفسها. وبرنامج "روحي" ينقسم إلى سلسلة متدرجة من مستويات الدراسة تشكل الأصل الذي يتفرع عنه المفهوم عن الحقائق الروحانية الأساسية التي علّمها حضرة بهاء الله. وبرنامج "معهد روحي" في استطاعته أن يتطور تطورا غير متناه حسب ما تشاء الجامعات التي تستخدمه وأن يتفرع عنه برامج ثانوية لتلبي احتياجات خاصة.
129: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع"، ص 4130: 'Abdu'l-Bahá, The Promulgation of Universal Peace, pp. 43 - 44
131: Moojan Momen, The Bábi and Bahá’í Religion, 1844 – 1944 : Some Contemporary Western Accounts, op. cit, pp. 186-187
132: The Bahá’í World, Vol. xv, op, cir., pp 29, 36
"مكاتيب عبد البهاء"، ج3، ص ص 117، 151 – 152133: The Bahá’í World, Vol. IV (New York City; Bahá’í Publishing Committee, 1933), pp. 257-261. Provides a short history of the bureau's founding and operations.
134: The Bahá’í World, Vol. III (New York City: Bahá’í Publishing Committee, 1930), pp. 198-206. يحتوي هذا المجلّد على نص الالتماس الرسمي الذي قدّمه البهائيون في العراق الى مفوضية الانتداب التابعة لعصبة الامم وفيه ملخص لتاريخ القضية.
135: حضرة شوقي أفندي، " كتاب القرن البديع "، ص ص444-445.
136: نشر النص الكامل للوثيقة المذكوره أعلاه في مجلة World Order Magazine,
April 1947, Vol. XIII, No. 1.137: The Bahá’í Question, Iran's Secret Blue Print for the Destruction of a Religious Community, An Examination of the Persecution of the Bahá’ís of Iran (New York: Bahá’í International Community, 1999)
أعد هذا التقرير حول "المسألة البهائية" في إيران مكتب الأمم المتحدة للجامعة البهائية العالمية لتوزيعه على أعضاء المفوّضية العامة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
138: مقتطف من خطاب ألقاه Edward Granville Browne تم نشره في كتاب بعنوان
Religious Systems of the World: A Contribution to the Study of Comparative Religion, 3rd ed. (New York: Macmillan, 1892) pp 352-353
139: تمكّن هذا المكتب أثناء السنوات التسع الأولى من تأسيسه من توفير سبل الإقامة لعشرة آلاف لاجئ من البهائيين الإيرانيين في سبعة وعشرين بلدا من بلدان العالم.
140: حتى هذا التاريخ بلغ عدد المحافل الروحانية المركزية التي استفادت من دورات تدريبية في هذه المناهج تسعة وتسعين محفلا.
141: كان مقررا لمؤتمر بيكين لحقوق المرأة أن يُسمح لخمسين منظمة غير حكومية من جملة ألفي منظمة بإلقاء بياناتها شفهيا أمام المؤتمر. لكن ممثلي الجامعة البهائية العالمية تنازلوا عن دورهم في الحديث أمام المؤتمر لصالح مركز موسكو لأبحاث المساواة بين النساء والرجال وذلك لأنها تمتعت بمثل هذا الحق في مؤتمرات هامة سابقة أبرزها مؤتمر ريو دي جانيرو حول البيئة ومؤتمر كوبنهاغن للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
142: للاطلاع على تقرير كامل للقضية بما في ذلك نص الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية الفدرالية في ألمانيا أنظر: The Bahá’í World, Vol. XX (Haifa: Bahá’í World Centre, 1998), pp 571-606
143:) Sessao Solene da Camara Federal, Brasilia 28 de Maio 1992 الترجمة الإنجليزية لوقائع الجلسة المذكورة نشرها المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في البرازيل باللغتين البرتغالية والإنجليزية)
144: حضرة عبد البهاء "مكاتيب عبد البهاء"، ص ص 232 – 233
145: جدول أعمال الجلسة الرابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدةAgenda Item 49 (b) United Nations Reform Measures and Proposals: the Millennium Assembly of the United Nations, 8 August 2000, (Document no A/54/959) p.2.
146: أنظر: Commitment to Global Peace, declaration of the millennium World Peace Summit of Religious and Spiritual Leaders, وهو الإعلان الذي رفعه القادة الدينيون والروحيون إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في 29 آب (أغسطس) عام 2000خلال جلسة على مستوى القمة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
147: جدول أعمال الجلسة الرابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة Agenda Item 61 (b), The Millennium: Assembly of the United Nations, 8 September 2000 (Document no. A/55/L.2), section 32.
148: لخّص بيت العدل الأعظم في رسالته إلى المحافل الروحانية المركزية بتاريخ 24 أيلول (سبتمبر) 2000 أهداف المؤتمرات الألفية الثلاثة على التوالي إضافة إلى شرح اشتراك الجامعة البهائية في هذه المؤتمرات.
149: Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., p 42
150: حضرة بهاء الله، "منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله"، ص 190
151: حضرة بهاء الله، " كتاب الإيقان"، ص 29.152: حضرة بهاء الله، "مناجاة: مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله"، (من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، 1981) ص 197.
153: Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, op. cit., p. 193
154: نفس المصدر السابق، ص 196157: Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World: 1950 – 1957. Op. cit., p. 74
158: أشعيا، الإصحاح 2 الآية 2، " الكتاب المقدس"، (دار المقدس الدولية)
159: Shoghi Effendi, The Advent of the Divine Justice, op. cit. pp. 82 – 83.
160: حضرة عبد البهاء، "منتخباتي از مكاتيب حضرة عبد البهاء"، ج 1، ص 293
161: حضرة بهاء الله، " ألواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرؤساء"، (من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، 1983) ص 60
162: حضرة بهاء الله، "منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله"، ص 28
---------------------------------------------------------------------------
---------------------------------------------------------------------------